العبد الصالح

من كلام الإمام الخامنئيّ (دام ظله)


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2021-12

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

المقدّمة

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

هي كلمات قائدٍ فذّ، في رجلٍ جمع بين جنبَي نفسه وعلى محيّاه، من الصفات والسمات، ما جعله في مقام العبوديّة المطلقة، وقائداً لثورة عظمى، غيّرت بوصلة المنطقة، من محطّة أملٍ كبيرة للاستكبار، إلى محطّة قلقٍ وخوفٍ وخشية، تقضّ مضاجعَ المستكبرين في الغرف السوداء، بين أميركا والكيان الصهيونيّ ومن لفّ لفّهما.

كلماتُ قائدٍ عايش أستاذَه، مذ كان في ربيع شبابه، لينهل من علمه نصيباً وافراً، ومن أدبه ما يغبطه عليه الكثيرون، ومن روح جهاده ما يجعله الآن قائداً لأكبر محور جهاديّ مقاوم، في وجه المحتلّين وأعداء الإسلام، وهو لا ينفكّ يُظهِر حبّه وولاءه له عند كلّ مناسبة، ويُقدِّم جميل الشكر على ما أولاه للشعب المسلم، مبيِّناً كمالات روحه وجميل صفاته.

 

17


1

المقدّمة

هذا الكتاب «العبد الصالح»، يجمع بين طيّات صفحاته الكثيرَ ممّا كان عليه الإمام الخمينيّ (قدس سره)، ممّا جاء على لسان الإمام الخامنئيّ (دام ظله) في مناسبات عدّة، ذاكراً عدداً من المواقف المهمّة في حركة الإمام (قدس سره)، ضمن عناوين جاذبة، وبأسلوب سلس وشيّق، ﴿وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾[1].

انطلاقاً من عظمة الإمام الخمينيّ (قدس سره)، ووفاءً لنهجه الشريف المقاوم، وسعياً في تعرّف الأجيال الحاضرة والقادمة على هذا النموذج القدوة، يسرّ مركز المعارف للتأليف والتحقيق إعادة نشر هذا الكتاب القيّم، شاكرين لمؤسّسة صهبا الثقافيّة حسنَ تعاونهم في ذلك، راجين من الله -تعالى- أن يصون الأمّة الإسلاميّة ويدفع عنها كلّ سوء ومكروه، وأن يحفظ قائدها الإمام الخامنئيّ (دام ظله)، إنّه سميع مجيب.

 


[1] سورة فاطر، الآية 14.

 

8


2

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

كان الله معه

هدفي أن أنقل إليكم، وإلى الشباب على وجه الخصوص، تصوُّري وفق ما شعرتُ به ورأيته ولمسته طوال المدّة التي كنتُ فيها تلميذاً ومتّبعاً هذا الرجل العظيم[1].

لقد كان الإمام [الخمينيّ] شخصاً جذّاباً فعلاً، وكان يملك عِلماً وافراً في اختصاصات عديدة، ولم يكن ذا بُعدٍ أو عِلمٍ واحد؛ كان فيلسوفاً كبيراً، وعارفاً وفقيهاً كبيراً، وأصوليّاً[2] مميّزاً ومبدعاً، وصاحب مدرسة. كان معلّماً للأخلاق.

كان في العرفان النظريّ، وفي السلوك العمليّ، وفي فقاهته -على وجه الخصوص- شخصاً مميّزاً في زماننا. مُضافاً إلى أنّه كان أديباً، رفيع الذوق، وصاحب حضورٍ جميل، وإنساناً رؤوفاً رقيقَ القلب.

كان -للإنصاف- استثنائيّاً من حيث النضج السياسيّ والرؤية السياسيّة العميقة. لقد رأينا في الإمام حقيقةَ ما يُقال: «ما يراه الشابّ في المرآة، قد رآه الكهل في الحَجَر»[3][4].

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

[2] عالماً بأصول الفقه.

[3] كناية عن أنّ الكهل ناضج أكثر، ويرى تبعات الأمور مسبقاً – المترجم.

[4] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 18/09/1999م.

 

11


3

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

طبعاً، لا يجب أن نتصوّر أنّ الإمام كان إنساناً خارقاً للعادة، فنقول: «لقد كان إنساناً خارقاً للعادة، ولكن ما حالنا نحن؟!» كلّا، لم يكن الإمام إنساناً خارقاً للعادة وغير طبيعيّ، كان إنساناً مثلنا، لكنّه عَمِل على بناء نفسه وجاهدها: ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلمُحسِنِينَ﴾[1]. وهل عناية الله مزحة؟! قد يأتي، في أحد الأوقات، شخصٌ مهيب وقويّ ويقول لشخص آخر: ما دمتُ في هذا الحيّ فلا تَخَف، لأنّني معك. سيهدأ قلب ذلك الشخص، وسيقول: الحمد لله، لن يتهجّم عليّ أحد بعد الآن. مَن هو المدافع والمرافق لهذا الشخص؟ بشريٌّ بطول 180 أو 190 سنتمتر مثلاً، ضخم قليلاً وقويّ إلى حدّ ما! لكن، وفي أحد الأوقات، يقول الله الذي هو منشأ جميع القدرات في عالم الوجود: إذا كنت إنساناً جيّداً وتقيّاً، فأنا معك؛ حين يكون الله مع أحد، فسيُلقي أميركا على الأرض، وسيُلقي الشاه على الأرض، وسيُزيل تأثير السافاك وقدرة جيش الشاه وقدرة أميركا السياسيّة[2].

إيّاكم أن تظنّوا أنّ في هذا مبالغة! كلّا. إنّ ما أتحدّث عنه في هذا المجال هو عين الحقيقة؛ إنّ أيّاً من هذه الأمور لا يعني أنّ الإمام كان معصوماً، أو أنّه كان فوق البشر، كلّا[3]. أنا الآن أتحدّث

 

 


[1] سورة العنكبوت، الآية 69.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 25/05/1994م.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 29/05/1999م.

 

12


4

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

عمّا وصلتُ إليه، عمّا شاهدناه من الإمام على مرّ 31 عاماً، إذ إنّنا عرفنا الإمام عن قرب[1].

الأستاذ الجذّاب والمحبوب

لا بدّ لي من أن أذكر في حديثي حول معرفتي بالإمام أنّني سافرت عام 1957م إلى العتبات المقدّسة. حين وصلتُ إلى قمّ، بقيتُ فيها أيّاماً قليلة من أجل أن أَحضر بعض الدروس. وفي سفري ذاك، حضرت درس الإمام الخمينيّ وأُعجبت كثيراً من تجمّع الطلبة في مسجد سلماسيّ[2] ودرسه؛ إذ كان يجلس على الأرض ويُلقيه.

كنت قد حضرتُ درس السيّد الميلانيّ[3] أيضاً، إذ كان يلقي درسه من على المنبر على عدد أقلّ من الطلّاب. طبعاً، لم يكن من السيّء أن يجلس الشخص على المنبر، ولكنّ حالة الحماس والحيويّة في الدرس حين كان الأستاذ يتحدّث بصوت عالٍ والطلّاب يُشكِلون من هذه الجهة ومِن تلك، كان أمراً جديداً جدّاً عليّ، ولم أكن قد رأيت مثل هذا في درس السيّد الميلانيّ، الذي كان عدد الطلبة الذين يحضرون درسه 50 أو 60 شخصاً تقريباً.

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

[2] يُعدّ مسجد سلماسيّ من المساجد المشهورة في مدينة قمّ، ويقع قرب بيت الإمام الخمينيّ.

[3] آية الله محمّد هادي الميلانيّ (1895-1975م) من العلماء الكبار ومراجع التقليد عند الشيعة. أمضى آخر 20 سنة من حياته في مشهد المقدّسة، وكان الإمام الخامنئيّ أحد طلّابه.

 

13


5

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

إنّ اختيار الأستاذ في الحوزات العلميّة غير إجباريّ، فكُلّ شخص يختار أستاذاً على سليقته[1]. عام 1958م، حين جئت إلى قمّ ناوياً الاستقرار فيها[2]، كان هناك أستاذٌ يشدّ الطلّاب الشباب والأفاضل والمجدّين والمتلهّفين إليه من اللحظة الأولى، وكان هذا الرجل معروفاً آنذاك بين طلّابه باسم «السيّد روح الله»[3].

كان الطلّاب يحبّونه إلى حدّ كبير، قلّما وجدتُ له نظيراً في قمّ في العلاقة بين التلاميذ والأستاذ، وفي مشهد كذلك الأمر، صدقاً لم أرَ؛ قَلّما رأيت أستاذاً يحبّه تلامذته بهذا الشكل[4]. كانوا يعشقون الإمام من أعماق قلوبهم، يعشقون «السيّد»؛ كان طلّابه يطلقون عليه اسم «السيّد»، وكان التعبير بـ «السيّد» -على إطلاق الكلمة[5]- في قمّ يشير إليه[6].

وكان في ذلك الوقت درسه أكثر الدروس اكتظاظاً في قمّ؛ لم يكن هناك درس -بعد درس السيّد البروجرديّ[7]- مكتظّاً بدرجة اكتظاظ درسه. كان يشارك في درسه 500 شخص تقريباً، بينما كان عدد

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/1982م.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

[4] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/1982م.

[5] أي حين يقول أحدهم كلمة «السيّد» فقط، كان الجميع يعرف أنّ المقصود هو الإمام الخمينيّ.

[6]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 15/12/1983م.

[7] آية الله السيّد حسين الطباطبائيّ البروجرديّ (1875-1961م) من العلماء الكبار ومراجع الشيعة، وكان زعيم الحوزة العلميّة في قمّ مدّة 17 عاماً.

 

14


6

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

المشاركين في الدروس الأخرى 40 أو 50 كحدّ أقصى[1].

كان السيّد مصطفى[2] معروفاً بأنّه أحد فضلاء قمّ المميّزين، وكان الجميع يعرف عنه أنّه شخصٌ فاضل. كان -في حين من ذلك الزمان- يشارك في درس الإمام الفقهيّ، وكان ممّن يُشكِل في ذلك الدرس. وكم كان لافتاً ورائعاً مشاهدة الأب والابن؛ الأب يجلس على مسند التدريس يعطي دروساً لما يقارب 700 أو 800 أو 1000 طالب ربّما، والابن يُعَدّ واحداً من أكثر الطلّاب تميّزاً في هذه الحوزة! وكما هي عادة حوزاتنا ودروسنا، يُشكِل الطلّاب على أستاذهم أثناء الدرس، ويذكر ما يخطر في عقله من مسائل، إمّا إشكالاً على كلام الأستاذ، أو تأييداً لكلامه -ولكنّ الأغلب كان إشكالاً- ويطول الأخذ والردّ أحياناً بين الأستاذ وتلميذه، وأحياناً يشتدّ النقاش. وكان هذا الأخذ والردّ الطويل يحصل -غالباً- بين الإمام والسيّد مصطفى.

كنت أجلس قريباً من السيّد مصطفى في بعض الأحيان، وكنت أعلم متى يريد السيّد مصطفى أن يُشكِل؛ فإنّه حين يريد أن يُشكِل، يجلس جلسة خاصّة على قدميه في الخلف، ويبدأ الإشكال بصوت عالٍ. كان هذا مشهداً رائعاً وباعثاً الإثارة[3].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/1982م.

[2] الحاج السيّد مصطفى الخمينيّ (1930-1977م) الابن الأكبر للإمام الخمينيّ، وكان مجتهداً وفقيهاً من فقهاء الشيعة، ومن المناضلين أثناء الثورة الإسلاميّة.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 12/10/1983م.

 

15


7

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

كالجبل

في أحد الأيّام، جاء العلّامة السمنانيّ[1] إلى قمّ، فذهب جميع العلماء للقائه، وكان منهم الإمام الخمينيّ والسيّد الطباطبائيّ.

ومن شدّة تلألؤ وجه الإمام الخمينيّ وصلابته المعهودة التي تركت أثرها في ذهن العلّامة السمنانيّ -وكان عالماً كهلاً-، ظنّ أنّه العلّامة الطباطبائيّ[2]؛ لأنّه كان قد قرأ «تفسير الميزان» و«أصول الفلسفة»، وكان مطّلعاً على مقامه العلميّ والفلسفيّ، فظنّ أنّ تلك الصورة الذهنيّة التي صنعها عن كاتبِ تلك الكتب تتوافق وطبيعة هذا الوجه وهذه الملامح.

وبدأ يخاطب الإمام الخمينيّ بحرارة قائلاً: «أجل، قرأت كتابك، قرأت الميزان». لم يكن الإمام الخمينيّ شخصاً منفعلاً ليردّ فوراً، على نحو المثال: «غير صحيح! لست أنا»، أو أن يخجل من أنّه الآن يُخطئ، لم يكن إنساناً كهذا أبداً؛ كان جالساً كالجبل يستمع إليه.

كان السيّد الطباطبائيّ جالساً أمامه كذلك، ورأى أنّ العلّامة

 


[1] آية الله محمّد صالح الحائريّ المازندرانيّ (1881-1971م) المعروف بالعلّامة السمنانيّ، من علماء الشيعة الكبار الذين كانوا فاعلين في النضال ضدّ الحكومة البهلويّة أيضاً. كانت خطبه ضدّ رضاخان أثناء فترة سلطة الغرباء سبباً لإلقاء القبض عليه، ثمّ نفيه إلى سمنان. وكانت فترة إقامته الطويلة في سمنان سبباً لشهرته باسم العلّامة السمنانيّ.

[2] آية الله السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ (1904-1981م)، المشهور بالعلّامة الطباطبائيّ، من علماء الشيعة الكبار، وكان عَلَماً فريداً في تفسير القرآن والفلسفة الإسلاميّة.

 

16


8

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

السمنانيّ يُخطئ، ومن أجل ألّا يستمرّ خطؤه، نظر إلى العلّامة السمنانيّ، وقال: «أنا الطباطبائيّ، وهو أستاذي، السيّد الخمينيّ»[1].

معلّم الأخلاق

سمعنا أنّ هذا الرجل هو معلّم للأخلاق أيضاً[2]. حين دخلتُ قمّ، كان درسه في الأخلاق متوقّفاً منذ سنوات، فلم يكن يدرّس الأخلاق، كما أنّه لم يكن يدرّس الفلسفة، إذ كان قد أوقف تدريسها. وكان لديه درسٌ في الفقه ودرسٌ في الأصول فقط، لكنّه كان أحياناً أثناء الدرس، ولمناسبة معيّنة، يتطرّق إلى بحث أخلاقيّ، فيضجّ المجلس؛ كان الطلّاب يبكون، ويتحوّل كلّ شيء في قلب الإنسان.

لقد نلتُ التوفيق مرّات عدّة، أثناء الأعوام القليلة التي شاركتُ فيها في درسه، في أن يبدأ الدرس في بداية العام الدراسيّ، أو نهايته، أو وسطه، بكلامٍ أخلاقيّ. ففي العادة، يقوم الأساتذة في بداية العام الدراسيّ وفي نهايته بتوجيه النصائح والتوصيات إلى الطلّاب؛ كان هذا الأمر، من خلال توضيحه اللطيف والرقيق والمسهب، يتحوّل إلى درس أخلاق جذّاب يقلب حال قلوب الطلبة؛ كان حقّاً يعصف بقلوب الطلّاب.

حسناً، كانت طريقته طريقةً تحكي عن روح الأخلاق الإسلاميّة؛ عدم المبالاة بالدنيا، عدم الاعتناء بزخارفها، عدم الاعتناء بمظاهر الحياة وكماليّاتها، وبالألقاب والأسماء.

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/1982م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

 

17


9

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

كان الطلّاب -على سبيل المثال- يصرّون على أن يجلس على المنبر؛ لم يكن يجلس على المنبر، بل على الأرض. واستمرّت الحال إلى ما بعد وفاة السيّد البروجرديّ، إذ ألحّ عليه الطلبة، فجلس على المنبر.

في أوّل يوم جلس فيه على المنبر، كان الأمر مشوّقاً للطلبة، ورحّبوا بهذه الحال بالابتسامات والضحك؛ حين جلس على المنبر، كان هذا جديداً عليهم، لذلك أخذوا يضحكون.

بدأ درسه بهذا الشكل، قائلاً:

بسم الله الرحمن الرحيم، في اليوم الأوّل الذي جلس فيه المرحوم آية الله الشيخ محمّد حسين النائينيّ[1] على المنبر، بكى وقال: أهذا هو المنبر نفسه الذي كان يجلس عليه الشيخ مرتضى الأنصاريّ[2]، الذي كان يجلس عليه أفاضل القوم؟ وقد وصل الأمر بأن أجلس أنا عليه أيضاً! علينا اليوم أن نبكي لأنّ الأمر وصل بنا إلى هنا.

وقد جعل هذا مقدّمةً لبحث أخلاقيّ، انقلبت به القلوب، ولا أنساه أبداً؛ كانت لديه تعابير لطيفة ورقيقة في المسائل العرفانيّة والأخلاقيّة ينقلب بها حال الطلبة[3].

 


[1] آية الله محمّد حسين النائينيّ (1860-1936م) من علماء الشيعة الكبار ومراجع التقليد.

[2] آية الله مرتضى الأنصاريّ (1781-1864م) من علماء الشيعة الكبار ومراجع التقليد.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/1982م.

 

18


10

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

الأعلم

كان حقّاً رجلاً مهذِّباً لنفسه، عفيفاً ومحتاطاً. لم نكن في ذلك الوقت مطّلعين على حياته الشخصيّة، ولا ناظرين وواقفين عليها عن قرب، لكنّ المقدار الذي كان يكشفه عن شخصيّته كان يُظهِر لنا هذا؛ العفّة والصفاء وعدم الاعتناء بالمظاهر التي تشدّ الجميع نحوها. لم يكن أبداً ممّن يعمل على جمع المريدين والناس حوله[1].

لقد قال لي المرحوم آية الله الميرزا جواد آغا الطهرانيّ[2] الذي كان -منذ ما يقارب الثلاثين عاماً- من العلماء المتديّنين جدّاً، الزاهدين والمخلصين، والمعروفين جدّاً في مشهد: «ذهبت في شبابي إلى قمّ من أجل الدراسة، ورأيت حينها الإمام في الحرم المطهّر. لم أكن أعرف من يكون؛ رأيت سيّداً شابّاً ونورانيّاً يقف في الحرم، قد حَنَّكَ عمامته[3]، يصلّي ويبكي ويتضرّع».

كان الحاجّ ميرزا جواد آغا الطهرانيّ يقول: «مع أنّني لم أكن أعرف من يكون، انجذبت إليه. فسألت بعضهم: من يكون هذا السيّد النورانيّ؟ فأجابوا: هذا السيّد روح الله الخمينيّ»[4].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/1982م.

[2]  آية الله الميرزا جواد آغا الطهرانيّ (1904-1989م) من علماء الشيعة. وكان من أساتذة الأخلاق المعروفين في الحوزة العلميّة في مشهد.

[3] أرخى طرفها وجعله حول رقبته – المترجم.

[4]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 07/12/1995م.

 

19


11

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

توفّي مرجع التقليد آية الله السيّد البروجرديّ عام 1941م، طُرح اسم الكثير من المراجع الكبار آنذاك، وكان أصحابهم يروّجون لهم. وهنا كان المشهد الذي يثبت فيه هذا الإمام العظيم أنّ درس الأخلاق الذي كان يُلقيه لم يكن فقط كلاماً، وبقصد تعليم الآخرين، بل كان هو أوّل عامل بدروس تهذيب النفس. رأى الجميعُ وعرفوا وآمنوا أنّ هذا الرجل غير ملتفت إلى هذا المقام، وإلى طرح اسمه للزعامة -حتّى وإن كانت هذه المرجعيّة زعامة روحيّة ومعنويّة-، وأنّه لا يقوم بأدنى جهد من أجل الوصول إلى مركز أو منصب أو مقام أو صيت، بل حتّى لو أراد الآخرون السعي في طرح اسمه، فقد كان يمنعهم إلى الحدّ الذي كان يقدر عليه[1]؛ لقد كنت أنا أحد الذين طرحوا عليه موضوع المرجعيّة، لكنّه لم يجب آنذاك، وقال فقط: السادة موجودون[2].

على أيّةِ حال، إنّ اعتقادي هو أنّ الإمام كان أعلمَ من الفقهاء أصحاب المراتب الرفيعة في عصره كافّة[3]، وما أقوله يستند إلى أنّني عاصرت جميع فقهاء زماننا ودرست عندهم؛ لقد حضرت دروس الفقهاء الذين تعرفونهم كلّهم -إلّا ما شذّ منهم وما ندر- واعتقادي أنّ الإمام هو الأعلم، أي إنّه أفقه منهم[4].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 14/12/1994م.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 25/05/1994م.

[4] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 20/12/1981م.

 

20


12

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

إنّ هذا الذي سمعته عنه كلّه، مُضافاً إلى ما كنت قد رأيته وعرفته، زرع في داخلي تعلّقاً قويّاً به، فكانت محبّته في قلوبنا تزداد يوماً بعد يوم، إلى أن بدأت المواجهات[1].

واعٍ وجريء

بعد مرور سنة ونصف تقريباً على وفاة آية الله البروجرديّ، انطلقت النهضة الإسلاميّة. ومع انتهاء عام 1962م وبداية عام 1963م، بدأ يظهر لنا بُعدٌ جديدٌ من شخصيّته، وهو توقُّد الذهن والذكاء الثاقب والالتفات إلى مسائل قلّما كان يُلتَفتُ إليها من جهة، ومن جهة أخرى حميّته الدينيّة.

سمع كثيرون عن مرسوم قرار الحكومة في ذلك الزمان بشأن حذف شرط الإسلام والقَسَم بالقرآن للفائزين في الانتخابات، لكنّهم لم يلتفتوا إلى أهمّيّة هذا الأمر[2].

لم يدرك أحد هذا الأمر، لكنّ الإمام أدركه ووقف ضدّه. لقد فرضت عليه حميّته الدينيّة أن يتصدّى لهذه المسألة، ويبدأ نضاله من هذه الزاوية التي كانت تبدو صغيرة في مواجهتها للإسلام. وقد فعل هذا[3].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/1982م.

[2] في تشرين الأوّل من عام 1962م قُدّمت لائحة تمّ إقرارها في مجلس الوزراء تحت اسم لائحة مجالس الأقاليم والولايات. وقد جاء في نصّ هذه اللائحة حذف شرط الإسلام من شروط المُنتَخِبين والمرشّحين، واستبدال القرآن في مراسم التحليف بلفظة «الكتاب السماويّ». كان النظام البهلويّ يسعى عبر هذه اللائحة إلى سلب الأهمّيّة من المذهب الرسميّ للبلاد، وإلى التخلّي عنه في نهاية المطاف.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

 

21


13

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

لقد اكتشفنا الوجه السياسيّ للإمام الخمينيّ لأوّل مرّة. إنّ ما كان مهمّاً إلى حدّ كبير في عمله، وواضحاً، أنّه يمتلك وعياً سياسيّاً وجرأة سياسيّة -ولم يجتمع هذان الأمران في أحد من العلماء ورجال الدين-؛ كان هناك من يمتلك الجرأة السياسيّة، كان لدينا علماء يطلقون تصريحات جريئة ضدّ النظام في زمن الخناق، ولكنّهم كانوا يتكلّمون بكلام خالٍ من الوعي السياسيّ، وبشكل غير منضبط، بحيث لم يكن كلامهم يجذب أيّ شخص عاقل. وكان هناك أشخاص يملكون الوعي السياسيّ، ولكنّهم كانوا يفقدون الجرأة السياسيّة.

كانت هاتان الخصلتان مجتمعتين في تلك الأيّام فقط في الإمام الخمينيّ؛ لم يكن أيّ عالم غيره يمتلكها. كان من الممكن أن يمتلك طالبٌ هاتين الخصلتين، أو عالم ذو شأنيّة بين مجموعة ما. ولكنّه كان مرجع تقليد، أي كان يصل إلى حدّ المرجعيّة، وكان لديه الكثير من التلاميذ في جميع أنحاء إيران ممّن يُعَدّون من العلماء والفضلاء والمعروفين والمؤثّرين في أذهان الناس، وكان درسه في حوزة قم يُعدّ من أكبر الدروس، وكان هناك من الناس من يقلّده. لقد كانت مثل هذه الشخصيّة العلميّة المقبولة التي لا غبار عليها تمتلك هاتين الخصلتين: الوعي السياسيّ والجرأة السياسيّة[1].

ثمّة نقطة مهمّة في ما يخصّ هذا الأمر: لم يكن الإمام عظيم الشأن يريد حتّى أن يكون في واجهة ساحة النضال. لقد ذكر لنا بنفسه أنّه في بدايات أيّام النهضة كان يتحدّث مع أحد المراجع المعروفين

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/1982م.

 

22


14

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

آنذاك ممّن كانوا معه في مرحلته الدراسيّة، في منزل المرحوم آية الله الحائريّ[1]، وقال له: أنت تَقدّم، ونحن نمشي خلفك. كان ما يريده الإمام هو أن يتمّ أداء التكليف، وأن يقوم بتلك الفريضة التي كان يشعر بثقلها على كتفيه، أمّا التصدّي فلم يكن مطروحاً لديه. لكن بالطبع، لم يكن آخرون يمتلكون تلك القوّة والجرأة للدخول في هذا الميدان، ولم يصلوا إلى مستوى الإمام. لذلك، جرى الأمر بشكل طبيعيّ على أن يستلم الإمام قيادة هذه الحركة. وبدأ النضال[2].

كالأب، شجاع ومقاتل

أوّل إعلانٍ نُشِر له كان تلغرافاً يُخاطب فيه «عَلَم»[3] حول مجالس الأقاليم والولايات وتلك اللوائح. دخلتُ إلى مدرسة الحجّتيّة، فرأيتُ إعلانه ملصقاً على الجدار. قرأت الإعلان، إمّا أنّني قد سجدتُ أو شعرتُ أنّني أسجد، لأنّني رأيت أنّ شخصيّةً علمائيّةً عظيمة، ذات عود صلب، قويّة ومقتدرة، قد وُجِدت[4].

فجأةً، رأيت شخصاً يقول لرئيس وزراء البلاد: إذا كان عندك استفسار، فلتأتِ إلى قُمّ وتَجْثُ على ركبتيك، حتّى يخبرك العلماء ويُفهموك أين هو الإشكال الشرعيّ في هذا المرسوم، إذ إنّك تقول: «لا إشكالَ شرعيّاً فيه»[5].

 

 


[1] آية الله مرتضى الحائريّ اليزديّ (1916-1986م) من العلماء الشيعة، والده آية الله عبد الكريم الحائريّ اليزديّ مؤسّس الحوزة العلميّة في قمّ.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

[3] كان «عَلَم» في ذلك اليوم رئيساً للوزراء.

[4]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/1982م.

[5]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/1982م.

 

23


15

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

في الحقيقة، لقد شعرنا أنّ ذلك الشخص قادر على إشباعنا من الناحية الفكريّة والروحيّة، هو فقط ولا أحد غيره. لذا، ومنذ الساعات الأولى للنضال، اجتمعنا حوله، واتّفقنا على أن نعمل ونتحرّك بما يخدم خطّه؛ فطبعنا الإعلانات، وقمنا بتأمين جهاز للطباعة والنسخ في قمّ، وشكّلنا مجموعة، وبدأنا نسخ الإعلانات وأخذها إلى طهران، وإعادة ما تبقّى منها إلى قمّ. وكان الجلوس مع بعض الأشخاص والنقاش من أعمالنا المعتادة في هذا السبيل[1].

كنّا من مُريدي الإمام وتلامذته. إذا أرادوا تقسيم الطلّاب في قمّ حسب العلماء والمراجع العظام، لجعلونا في قسم الإمام الخمينيّ؛ كان الأمر واضحاً جدّاً، وكان الجميع يعرفه. كنّا هكذا، ولكنّنا قبل هذا، كنّا نعرف أنّ الإمام الخمينيّ عالم عظيم، يليق بالمرجعيّة، متديّن، تقيّ، عارف. كنّا نعرفه هكذا. فجأةً، رأينا أوّلاً، في هذه القضايا، كم أنّ كتاباته محكمة وجميلة، بسيطة يفهمها الجميع، وقويّة في الوقت نفسه. ثانياً، أنّه شخص سياسيّ يُدرك أبعاد المسائل السياسيّة. ثالثاً، أنّه قويّ جدّا إذ إنّنا لم نكن قد رأينا هذه الشجاعة فيه من قبل، ولم نكن نعلم أنّه شجاع إلى هذا الحدّ، ويمتلك قدرة المواجهة هذه. كانت شجاعته إرثاً ورثه عن أبيه -فقد كان أبوه[2]

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/1982م.

[2] الشهيد السيّد مصطفى الموسويّ (1862-1903م) والد الإمام الخمينيّ، كان ضدّ الظلم والاضطهاد الذي يمارسه نظام الإقطاعيّة، وقد استشهد أثناء مواجهته اثنين من زعماء خمين.

 

24


16

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

شخصاً شجاعاً ومقاتلاً- وكانت الشجاعة تتجلّى في حركاته أيضاً[1].

كان يتمّ فضح كثير من الأمور في إعلاناته، وتتّضح كثير من الحقائق. حين كان أحد ما يقرأ تلك الإعلانات، كان حقّاً يشعر بالخطر إزاء ما يحدث.

في الشهرين اللذين استمرّت فيهما حركة مجالس الأقاليم والولايات، جئنا إلى طهران مرّة أو مرّتين أو مرّات عدّة، إلى مكان وعظ الشيخ فلسفيّ[2][3]، سلّمْنا الشيخ فلسفيّاً رسالة من الإمام حول مجالس الأقاليم والولايات، وقد قرأ الشيخ فلسفيّ تلك الرسالة في مسجد آرك. كنت في مسجد آرك، حيث كان العلماء قد كتبوا بعض الرسائل: آية الله الكلبايكانيّ، شريعتمدار، النجفيّ، والإمام الخمينيّ. كان الأربعة قد كتبوا رسائل.

قرأ الشيخ فلسفيّ رسائل العلماء الثلاث أوّلاً، وحينما وصل الدور إلى رسالة الإمام الخمينيّ، قال: «وأمّا رسالة آية الله الخمينيّ»، فأعدّ الناس أنفسهم للإنصات بكامل وجودهم، وكانوا متحمّسين؛ هكذا كان اسم الإمام الخمينيّ يحفّز الناس حين ذِكره. قرأ الرسالة، وفي آخرها كان قد كتب ﴿أَلَم تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصحَٰبِ ٱلفِيلِ﴾[4] -كان قد كتب السورة كاملة-. وقد كان الناس متحمّسين جدّاً إلى

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/1982م.

[2] حجّة الإسلام محمّد تقيّ فلسفيّ (1908-1998م) كان من علماء الشيعة، متبحّراً وأستاذاً في الخطابة والمواعظ، وأكثر الخطباء شهرة في ذلك الزمن.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/1982م.

[4] سورة الفيل، الآية 1.

 

25


17

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

درجة أنّهم، أثناء قراءة الشيخ فلسفيّ: «بأصحاب الفيل»، كانوا جميعاً يقولون معه: «الفيل». ﴿أَلَم يَجعَل كَيدَهُم فِي تَضلِيلٖ﴾[1] فيقول الناس جميعاً -بعضهم مع بعضهم الآخر- «تضليل»؛ أي إنّ هذه الرسالة قد جعلت الناس في مسجد آرك في حالة من الإنشاد الجماعيّ، وكان الأمر حماسيّاً[2].

سأجمع الناس في صحراء قمّ!

كان الأمر الحَسَن العظيم في الإمام، وإحدى أعظم إنجازاته، كشفَه قدرةَ العلماء والمرجعيّة. كان يعلم ما يمكن أن تفعله إشارة من العالم، ولقد استفاد من هذه القدرة بأكبر صورة ممكنة. لم يكن الآخرون يستفيدون منها. كان دائماً يحاول إقناعهم بأن: قولوا، تقدّموا، تحرّكوا، وسيأتي الناس خلفكم. لقد سمعنا الإمام مراراً أثناء لقاءات وحوارات خاصّة يقول هذا، وكنّا نسمع كيف كان الإمام يخاطبهم ويصرّ عليهم بأن: تقدّموا، وانظروا هل سيأتي الناس أم لا![3].

كان هناك وعد من النظام، في الرسائل والحوارات والأقوال، أنّ مرسوم القرار سيتمّ إلغاؤه، فهدأت شعلة الحركة قليلاً في قمّ. وبعد مرور أيّام عدّة، جاء عدد من التجّار إلى درس الإمام في المسجد الأعظم في قمّ[4]، وقد كنت في الدرس حينما جاؤوا. جاء

 

 


[1] سورة الفيل، الآية 2.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 08/1982م.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 08/1982م.

[4] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/06/1989م.

 

26


18

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

السيّد محمود الطباطبائيّ -ابن أخ المرحوم السيّد حسين الطباطبائيّ القمّيّ- إلى درس الإمام الخمينيّ مع عدد من تجّار قمّ، وجلسوا في زاوية. بعد أن انتهى الدرس، وقفوا وقالوا: إلى متى تريد البقاء ساكتاً؟ فلقد كان إلغاء مرسوم القرار قد تأخّر، وهذا كان يقلق الناس والعلماء. وقالوا: نحن حاضرون، نحن التجّار حاضرون لأن نفعل أيّ شيء تقوله، أن نضحّي بأيّ شيء تطلبه[1] -وكأنّ الإمام كان ينتظر أن يأتوا ويطلبوا هذا الأمر-؛ لربّما كانوا قد أخذوا سابقاً إذناً من الإمام لقيامهم بهذا الفعل. فخطب خطبة مفصّلة في ذلك اليوم، وممّا خاطب به الدولة الغاصبة، كانت هذه الجملة: «إذا كنتم لا تصدّقون، أو لا تقبلون، أو لستم جاهزين أن تطيعوا، فسنقول للناس أن يأتوا، وسنملأ صحراء قمّ هذه بالجموع، لتشاهدوا من يناصر الناس».

أشار مجدّداً بهذا الشكل إلى صحاري قمّ، وقال: هذه صحراء قمّ، صحراء قمّ التي لا نهاية لها. سنجمع الناس ليأتوا إليها.

كان الإمام يتكلّم باقتدار وثقة بنفسه إلى الحدّ الذي جعل بعض الناس تتعجّب؛ أيّ ناس؟ من سيأتي ليشارك في مواجهة صعبة وخطيرة بهذا الحجم العظيم الذي تتحدّث عنه؟![2].

حتّى نحن، الذين كنّا في خدمة الإمام، والذين كنّا قد شعرنا بذلك النفس المتّقد في داخلنا ولمسناه، لم نكن نستوعب أيّ أناس

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 09/1982م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/06/1989م.

 

27


19

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

يقوم الإمام بدعوتهم؟ وبأيّة حركة شعبيّة عظيمة يتفاءل؟ كان هناك كثيرون ممّن لم يكونوا يستوعبون ذلك أيضاً. ربّما يمكنني أن أقول إنّ الأعمّ الأغلب لم يكونوا يشعرون بحدوث ذلك اليوم. لم نكن، حتّى ذلك اليوم، قد رأينا حضوراً ومشاركة للناس في ميادين الجهاد والنضال[1].

أنا لا أنسى في فترة المراهقة، بل حتّى الطفولة -إذ كنت قد تعمّمت منذ طفولتي منذ أن خرجت من المدرسة- وفي فترة الشباب، ومدّة مكوثي في قمّ وبعد قمّ، وحتّى بدء المواجهات، كم كنت أرى دائماً في الشوارع والمعابر والمجمّعات ومحطّات القطار أو المطارات، أو أيّ مكان يجتمعون فيه، كيف أنّ الناس وبعض الشباب، وبمجرّد أن يدخل المعمّم أو العالم، يسخرون منه عبثاً ومن دون أيّ سبب[2]. ولكنّ الإمام كان متفائلاً، كان متفائلاً بالناس إلى الحدّ الذي كان يشعر فيه أنّه إذا دعاهم في صلاة عامّة إلى ميدان المواجهة مع الجهاز الحاكم فسيأتون، وستكون التجمّعات كبيرة بحيث لا تكفيها مدينة قمّ وشوارعها وأزقّتها وساحاتها، بل سيكون عليه دعوتها إلى صحاري قمّ التي لا نهاية لها، حتّى يكون مركزاً لاجتماعهم. ولقد أثبتت التجربة أنّ الحقّ كان مع هذا الرجل البصير والحكيم المبصر؛ كان يعرف الناس والإنسان وعباد الله بشكل جيّد، كما كان الأنبياء والأولياء وأصفياء الله حين يخاطبون

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 03/08/1984م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/12/1987م.

 

28


20

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

الناس دائماً ويتكلّمون معهم، يستجيبون لهم ويسمعون كلامهم ويؤيّدونهم في ما يقولونه[1].

على أيّة حال، فلقد كان حديثه هو أنّ هذا مخالفة للشرع، ومخالفة للإسلام، ويجب أن يتمّ إلغاء هذه اللوائح الثلاث. كان يقوم باختبار قوّة، ولقد ردّ عليهم بخطبة قويّة وإعلان شديد اللهجة، وقد ساعد آخرون في هذا الأمر، واستجاب الناس[2]. بعد شهرين، تمّ إلغاء مرسوم القرار. كان الجميع سعداء، وقد ذُكر هذا الأمر في صفحات الجرائد في قمّ. عند مخرج الزقاق المؤدّي إلى الحرم قرب مدرسة الحجّتيّة، كان هناك بائعٌ للصحف؛ أي كان هناك محلٌّ لعطّار في مقابل الزقاق يبيع الصحف، وكان يعرض -ظهراً أو عصراً- الصحف للبيع. كنّا نمرّ من هناك حين نظرنا إلى عناوين الصحف، فرأينا أنّهم قد أعلنوا عن ذلك ونشروه. وصل الشباب حينها، فقال شباب قمّ: نبارك لكم يا سيّد! كان الجميع سعداء لأنّ النتيجة كانت النصر[3].

المضحّي

بعدها جاءت قضيّة الاستفتاء؛ أي استفتاء الشاه واللوائح السداسيّة[4]. عندما وقعت قضيّة اللوائح والاستفتاء، أصبحت أبعاد

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 03/08/1984م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/1982م.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 09/1982م.

[4] بعد ابطال لائحة مجالس الأقاليم والولايات، زاد ضغط أميركا على إيران من أجل القيام بإصلاحات غربيّة. لذا، قام الشاه في 08/02/1963م بالإعلان عن أصول الإصلاحات السداسيّة التي كانت مدّ نظر أميركا، وأطلق عليها اسم «الثورة البيضاء» وطلب إجراء استفتاء عليها.

 

29

 

 


21

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

القضيّة أوسع؛ أي إنّ الشاه قد بدأ فعليّاً الدخول في مضمار وضع القوانين المخالفة للشرع، والتي كانت تستبطن جذوراً استعماريّة أيضاً[1].

كانت المشاريع التي يطلقون عليها اسم «إصلاحيّة»، والتي يقدّمها الشاه، مشاريع أميركيّة مِن كندي، الرئيس الأميركيّ آنذاك. كانت «إصلاحات الأراضي» و«حرّيّة المرأة» المزعومتان من مشاريعهم، إذ كان الأميركيّون يعوّلون كثيراً على إيران[2].

طبعاً، أنا لا أعلم كم كان الإمام آنذاك ناظراً إلى جذور هذا المشروع الاستعماريّة. إنّ ما يظهر من البيانات هو أنّ جذورها غير إسلاميّة، وهذا ما دفع الإمام إلى المواجهة والصدام؛ كان مطّلعاً -حتماً- على الجانب الأميركيّ في هذه الأطروحات. أمّا كم كان هذا هامّاً ومحفّزاً بالنسبة إليه، فهذا ما لا أستطيع توضيحه الآن. ولكن يمكن الاستنتاج أنّه كان إنساناً معارضاً في هذا المجال، كما كان معارضاً لسياسات الهيمنة الخارجيّة. كم كان ثاقب النظر وحكيماً في تعامله مع هذه المسألة! هذا أمر يجلب لي الحيرة.

على أيّة حال، عندما طُرحت قضيّة الاستفتاء، كان قد قرّر معارضته، وقال: هذا مخالف للشرع، مخالف للقانون، وهي قوانين مفروضة على الشعب[3].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/1982م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 03/11/1985م.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/1982م.

 

30


22

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

يجب أن أذكر هذا الأمر كذلك: إنّه في اليوم الذي بدأت فيه هذه المواجهة، لم يكن مطّلعاً على أبعاد هذا الأمر -وهذا ما كان الإمام نفسه قد صرّح به لاحقاً- وقال: لقد واجهنا هذه القضيّة بشكل بسيط، وبعد أن دخلنا فعليّاً فيها رأينا الخطط والخدع والمؤامرات التي كانت تُحاك[1].

عندما يريد إنسانٌ أن يدخل في ساحةٍ إحدى أطرافها السلطات والقوى العسكريّة والأمنيّة والتعذيب الأليم -إذ لا يراعون الضمير ولا الدين، ويخضعون لدعم السياسات العالميّة والاستكباريّة- فإنّ أوّل شرط للدخول في هذه الساحة هو أن يضحّي الإنسان بروحه، ولقد سلّم الإمام روحه، وكان حاضراً لقبول المخاطر كافّة؛ أي إنّه لم تكن لروحه وما يمتلكه أهمّيّة بالنسبة إليه. لقد وضع الإمام روحه على كفّه بالفعل، وكان جاهزاً ليدخل الساحة: يكفي أن يتخلّى رجل سماويّ عن روحه ليستنهض جيشاً بأكمله، فهو يسلّم روحه لرصاصة، ويُخلّص بلاداً بأكملها من الشؤم والعار[2].

كما الشمس... كما البركان

عام 1963م، العام الثاني على المواجهة، كان عام السطوة والضغوطات والقتل. وقد سطع الإمام كالشمس في سماء أمل الشعب الإيرانيّ. كان شخصاً مضحّياً، وبركاناً عندما كان ينبغي له

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/1982م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 01/10/1999م.

 

31


23

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

أن يكون كذلك، شخصاً تجتمع فيه جميع المشاعر المطلوبة في رجل عالميّ، رجل وطنيّ، رجل إسلاميّ[1].

في حوالي 22 آذار، حصلت أمور عدّة، كان أحدها إعلان الإمام الخمينيّ أنّه لا عيد لنا هذه السنة. وقد انتشر هذا الخبر بشكل واسع. أعلن أنّه لا عيد لنا وهم يضربون العلماء -يضربون آية الله الخوانساريّ[2]-، ويهاجمون الناس، ويبدّلون أحكام الإسلام؛ في ظلّ هذه المصائب كلّها، نحن لا عيد لنا.

أنا أذكر أنّنا كنّا من الأشخاص الذين قرّروا أن يلبس الطلبة لباساً أسود، أن يلبسوا قميصاً أو عباءة سوداء. ذهبنا وخِطنا لباسا أسود، ولأنّنا لم نكن نملك مالاً لكي نخيط عباءات سوداء، خِطنا قمصاناً سوداً. وفجأةً رأينا أنّه، وفي أيّام قليلة، قد انتشر اللباس الأسود في قمّ إلى حدّ أنّك لو نظرت إلى أيّ عالم أو طالبِ علم لرأيت عليه لباساً أسود. أذكر أنّنا لم يهنأ لنا بال في تلك الأيّام أبداً، ولم نكن نعرف أبداً متى يكون طعام الغداء والعشاء، إذ كنّا دائماً نتحرّك ونقوم بالاتّصالات، لكي نكون حاضرين في 21 و22 و23 آذار؛ أي في الأيّام التي يأتي فيها الزوّار من طهران ومن غيرها من الأماكن -خاصّة الطهرانيّون-، ونستفيد أقصى الاستفادة من حضورهم، ظاهرين لهم باللباس الأسود.

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

[2]  آية الله السيّد أحمد الخوانساريّ (1891-1984م) من علماء الشيعة الكبار. وقد وصل إلى المرجعيّة بعد وفاة آية الله البروجرديّ. كان يسكن في طهران. وقد تمّت إهانته في سوق طهران بسبب مخالفته إصلاحات الأراضي.

 

32


24

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

طبعنا المنشورات، نسخنا منها عدداً كبيراً، وبدأنا نرميها. كنّا نرمي الكثير من المنشورات التي تقول أنّه لا عيد لنا في الساحات وأماكن التجمّعات في الهواء؛ لقد كنت شاهداً على هذا كلّه.

ها هم يقتلون الطلّاب في المدرسة الفيضيّة

في 22 آذار، كنت في المدرسة الحجّتيّة. عصر ذلك اليوم، كنت أريد أن أجهّز نفسي للذهاب ، فرأيت السيّد جعفر شبيريّ الزّنجانيّ[1] قد جاء إلى غرفتي في المدرسة الحجّتيّة، وقال: ألن تأتي إلى المدرسة الفيضيّة؟

فسألته: بلى، كنت أجهّز نفسي لأذهب إلى هناك.

فقال: إذا فلنذهب سويّة.

لبسنا واتّجهنا نحو المدرسة الفيضيّة حيث يقيم السيّد الكلبايكانيّ مجلس عزاء[2]. عند خروجنا من المدرسة الحجّتيّة، يمكن لنا الذهاب إلى صحن الحرم من داخل الزقاق، وهناك طريق أقصر وهو زقاق الحرم. ومن أجل أن نصل أسرع إلى الصحن ومنه إلى المدرسة الفيضيّة، ذهبنا من زقاق الحرم. عندما وصلنا إلى آخر زقاق الحرم، رأيت فجأةً عدداً من الطلبة يأتون متفرّقين؛ أحدهم يحمل عمامته، وآخر من دون نعليه، وآخر يحمل عباءته تحت إبطه. وهم يهربون ويخرجون من الصحن، ويدخلون إلى زقاق

 

 


[1] آية الله السيّد جعفر شبيريّ الزنجانيّ، من تلامذة آية الله مرتضى الحائريّ، ومن زملاء دراسة آية الله الخامنئيّ.

[2] آية الله السيّد محمّد رضا الكلبايكانيّ (1899-1993م) من علماء الشيعة الكبار. وصل إلى مقام المرجعيّة بعد وفاة آية الله البروجرديّ، وكان يسكن في قمّ.

 

33


25

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

الحرم، ولا يذهبون حتّى باتّجاه الشارع. هكذا ظهرت جموع الطلبة: 15 شخصاً، 20 شخصاً، متفرّقين يدخلون في زقاق الحرم. عندما وصلوا إلينا، كان كلّ منهم يقول شيئاً: عودا! الوضع خطير! لا تتقدّما.

لم نعرف لماذا الخطر. وفي النهاية قام اثنان بإيقافنا، وقالوا لنا: إلى أين تذهبان؟

قلنا: إلى المدرسة الفيضيّة.

قالوا: لا تذهبا إلى المدرسة الفيضيّة، المدرسة الفيضيّة خطرة، ها هم يقتلون الطلّاب في المدرسة الفيضيّة[1]، إنّهم ينكّلون بطلبة العلم!

قلت للسيّد جعفر: يا سيّد جعفر فلنذهب، فلنذهب، إنّهم يتكلّمون جزافاً. كان أحد الطلّاب يعرفنا، فأمسك بنا، وقال: لن أدعكما تذهبان! لا يمكن أن أدعكما تذهبان. أنا أعلم أنّ هذا قتل للنفس، هذا انتحار! ولن أدعكما تذهبان. أمسك بنا بقوّة، حينها أحسست أنّ الخطر جدّيّ. فقلنا: فلنذهب إذن إلى منزل السيّد الخمينيّ.

 


[1] وقعت أحداث المدرسة الفيضيّة يوم شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)، أثناء إقامة مجلس عزاء في المدرسة. في هذه الحادثة، قام أفراد قوّة المغاوير التابعة للنظام -الذين كانوا يجلسون بين الجموع- بإطلاق شعارات أدّت إلى اندلاع مواجهات. فأخرجوا الناس العاديّين من المدرسة، ثمّ بدأوا يهجمون على طلبة العلم. وتدخّلت قوّات الأمن والسافاك في الأمر، وبدأوا يضربون الطلّاب بمساعدة المغاوير بشكل همجيّ.

 

34


26

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

دخلنا الشارع، فرأيناه خالياً؛ لا سيارة تمرّ فيه، ولا إنساناً. كان هناك واحد أو اثنان على الرصيف، وكان يقف أمام زقاق «آرك» 30 أو 40 شخصاً من النساء والرجال، وكان واضحاً أنّهم لا يسمحون لهم بالمجيء؛ إمّا أنّهم لا يسمحون لهم، أو أنّهم يخافون أن يأتوا إلى الزقاق. لم ندرك ما هو السبب بدقّة. قرّرتُ والسيّد جعفر قطع الشارع بشكل طبيعيّ. عندما وصلنا إلى وسط الشارع، نظرت إلى اليمين، فرأيت 4 أو 5 شباب طويلي القامة، كاشفين عن صدورهم، يشبهون الهمجيّين وما شاكلهم، فلم أشعر بالخطر منهم للوهلة الأولى. كانوا قادمين باتّجاهنا أو أنّهم يمشون في وسط الشارع. كانوا الوحيدين الذين يمشون في الشارع غير السيّارات والدرّاجات الهوائيّة والعربات، وكانوا قادمين باتّجاهنا. عندما اقتربوا منّا، نظرت مجدّداً فرأيت أحدهم -وهو يوجّه كلامه إليَّ - يقول كلمة كانت شائعة في ذلك الزمن بين الهمجيّين: «عاش الشاه» وانطلق نحوي.

كنت في البداية أنظر ولم أكن منتبهاً، ولكنّ السيّد جعفر قد فهم الموضوع قبلي فتوجّه بسرعة نحو الزقاق. كنت واقفاً، وحين رأيته قادماً باتّجاهي بشكل يوحي بالخطر، انطلقت باتّجاه الزقاق، ولكن بهدوء. وحينما بدأ بالركض نحوي، عرفت أنّه يريد أن يضربني في وسط الشارع أمام الناس. ولقد عرفت لاحقاً أنّ هذه كانت عادتهم إذا رأوا طالب علم في الشارع: يفتحون له عمامته، يمزّقونها، يرمون عباءته، ويبدأون بركله بشدّة، فإمّا أن يموت وإمّا

 

35


27

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

أن يبقى حيّاً، ولكنّهم في النهاية كانوا يهدفون إلى تحقيره وإهانته وضربه -وهذا ما كان يريد أن يفعله بي-. ولكن عندما شعرت أنّه قادم باتّجاهي في حالة تهديد، ذهبت باتّجاه الجموع التي كانت مجتمعة أمام زقاق «آرك».

فتح لي الناس طريقاً بينهم، فإنّهم حينما شعروا أنّني أهرب منه قاموا بفتح طريق لي، فدخلت بين الجموع، ثمّ الزقاق، فرأيت أنّه ما زال يريد اللحاق بي، لكنّ الناس وقفوا أمامه ومنعوه من الدخول.

وكانوا هم كذلك يخافون من الدخول في الأزقّة، فلم يكونوا يدخلونها. بدأ يقول كلمات شبيهة بـ: تعال إلى هنا! أو مثلاً: لماذا ذهبت؟ إلى أين تهرب؟ ومن هذه التعبيرات، ولكنّني قلت حينها للسيّد جعفر: سيّد جعفر، أسرع ولننطلق.

ذهبنا ووصلنا إلى منزل الإمام الخمينيّ. عندما اقتربنا من منزله رأينا أنّ هناك طالباً أو طالبَيْ عِلم من الرّياضيّين الأقوياء، كان أحدهم الميرزا عليّ أصغر كني، وشخص أو شخصان غيره. متى كان هذا الأمر؟ كنّا نقترب من وقت الغروب. رأينا أنّهم كانوا يقفون أمام الباب ينتظرون أن يهجم أشخاص على منزل الإمام الخمينيّ، مستعدّين للدفاع عنه، وتقدّمتُ إلى باب المنزل. كان باب الباحة الداخلي مغلقاً كما جرت العادة، وباب الباحة الخارجيّ مفتوحاً؛ فدخلنا. سألنا: أين الإمام؟ فقالوا لنا: هو في الداخل، والناس في الداخل كذلك.

 

 

36

 


28

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

عندما دخلت رأيت أنّه كان واقفاً من أجل صلاة المغرب. كنت قلقاً وخائفاً إلى حدّ أنّني وجدتُ نفسي غير قادر على أن أصلّي جماعة خلفه، ولم أكن أصلاً جاهزاً للصلاة؛ كان قلبي مضطرباً، ولم أكن جاهزاً للصلاة أبداً! فصرفت نفسي عن الصلاة خلفه، وذهبت إلى الباب الخارجيّ. كنت أتحدّث مع الأشخاص الموجودين في الخارج عن كيفيّة إغلاق هذا المكان، فإمّا أن نبني دشمة أو نفكّر في بعض التدابير للدفاع لو أرادوا الهجوم. فقلت: إنّ علينا، أوّلاً، أن نغلق الباب؛ العمل الأوّل الذي يجب أن نفعله هو أن نغلق الباب! فقالوا: إنّ هذا غير ممكن. قال لنا الإمام أنّه يجب ألّا نغلق الباب. كانوا قد أغلقوا الباب في العصر، فجاء وقال: إنّكم إذا أغلقتم الباب فسأخرج من المنزل. ومن أجل ألّا يخرج من المنزل -وهو أمر خطير- قاموا بفتح الباب؛ كانت الأبواب مفتوحة على وسعها، كان هذا الباب مفتوحاً، وكذلك الباب الواصل بين الباحة الصغيرة الداخليّة والباحة الكبيرة الخارجيّة.

رأيت أنّ هذا لن ينفع. فقلت: إذاً، فلنحضر كمّيّة من العصيّ والحطب أو أيّ شيء آخر من أجل أن نضربهم به لو جاؤوا. فلم نكن نفكّر أنّ في أيديهم أسلحة -ولربّما لم يكن معهم فعلاً-، بل كان معهم عصيّ وغيرها.

قلنا: فليكن معنا عصيّ لنتمكّن من مقاومتهم بها، على الأقلّ، أو حجارة فنرميها عليهم من الأعلى. خلاصة الأمر، كنّا مشغولين بهذه الأفكار.

 

37

 

 


29

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

في هذه الأثناء، انتهى حديثنا، وأنهى الإمام صلاته وذهب إلى غرفته. فذهبنا نحن أيضاً إلى الغرفة، هي نفسها التي نذهب إليها من الجهة الخارجيّة، وندخل من الباب، لنجد فراش الإمام على الأرض إلى يسارنا، وكان في أعلاها مرآة معلّقة على الجدار؛ كانت هذه المرآة خاصّة بالإمام.

لم يكن طلبة العلم في ذلك الزمان يعتنون بالمرآة، أمّا هو فلا؛ كانت المرآة فوق رأسه، فمتى نهض نظر فيها ورتّب مظهره. كان الإمام ملتزماً بالتنظيم والترتيب منذ تلك الأوقات[1].

كان -حقّاً- نموذجاً بالنسبة إلى ترتيب شعره ومظهره الخارجيّ في قمّ، ولو سألتم أيّاً من تلامذته، لقالوا لكم هذا الكلام. كانت نعاله دائماً مشمّعة ونظيفة، وعمامته مرتّبة، فلم يستعمل أبداً تلك العمامات التي تكون مفتوحة ومترهّلة. من البداية حتّى أيّامه الأخيرة -كما كنتم ترون- كان دائماً يلبس لباساً مرتّباً ونظيفاً، ويمتلك مظهراً لائقاً[2].

دخلنا الغرفة، وكانت قد امتلأت بالطلبة. كنت أقف على بابها؛ أي داخل الغرفة، ولكنّني كنت واقفاً على الباب، وكان الآخرون جالسين. بدأ الإمام حديثه، وكان يقول: إنّهم فانون، وستبقون أنتم. لا تخافوا! ولقد رأينا أسوأ من هذا. في أيّام والد محمّد رضا[3] كنّا

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 09/1982م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 24/04/1994م.

[3] المقصود من والد محمّد رضا هو رضا ميربنج المعروف برضا شاه بهلويّ.

 

38


30

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

قد رأينا أسوأ من هذا. لقد رأينا أيّاماً لم نكن نستطيع فيها أن نبقى في المدينة، فكنّا نُجبر على الخروج من المدينة في الصباح الباكر، فنطالع ونباحث ونعمل خارج المدينة، ثمّ نعود في الليل إلى غرفنا في المدرسة، وإلّا لأمسكوا بنا وآذوننا، ورفعوا عماماتنا وقاموا بأذيّتنا.

ولقد رأيت أنّ ما كان يتحدّث عنه الإمام هو بالضبط ما كنّا نشعر به في ذلك اليوم، ولقد كانت هذه الحالة أيضاً في الأيّام الأخيرة في قمّ -ربّما لأسبوع أو أربعة أو خمسة أيّام- كانت هذه الحال موجودة بحيث لم يكن أحد يستطيع الخروج إلى الشوارع بسهولة، فلم نكن نُظهر أنفسنا في الشارع[1].

ومن الكلمات التي لا زلت أذكرها، وبقيت راسخة في ذهني، التي قالها في ذلك اليوم، وهي هذه، قال: هم سيذهبون وأنتم ستبقون، فاثبتوا. هم الباطل. وهل كان يمكن لأحد أن يتكلّم هكذا في ذلك اليوم؟ هم سيذهبون وأنتم ستبقون! كان النظام ذا قدرة ظاهريّة، مدعوماً من قوى العالم كافّة، يمتلك الثروة والأسلحة، ولديه سياسة وأزلام ومرتزقة، ولديه الوسائل الإعلاميّة بأنواعها كافّة. وكنّا نحن عدّة صغيرة، مظلومة، لا نملك المعدّات ولا المال ولا الأسلحة، من دون أيّة إمكانيّات سياسيّة، ولا يوجد من يعرفنا في العالم كلّه. فماذا تعني جملة «هم سيذهبون وأنتم ستبقون؟!».

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 09/1982م.

 

39


31

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

كان يتردّد صدى هذه الجملة في أذنيّ دائماً[1].

وبينما الإمام يتكلّم، جاؤوا بولد عمره 14-13 أو 15 كانوا قد ألقوه من السطح، وحالته سيّئة جدّاً، وكانوا قد خلعوا عنه عباءته وألبسوه معطفاً. حين جاؤوا به إلى الإمام، ما إن أدخلوه من باب الغرفة حتّى قال أحدهم بصوت عالٍ، وهو باكٍ: سيّدي، لقد رموا هذا الشخص من على السطح.

تغيّر حال الإمام، وقال: خذوه وضعوه في تلك الغرفة، وأتوا بالطبيب من أجله. فأخذوا ذلك الولد ووضعوه في الغرفة من أجل أن يأتوا إليه بالطبيب.

وأكمل الإمام حديثه الذي امتدّ إلى 20 أو 25 دقيقة -على ما أظنّ-. وعندما أنهى الإمام كلامه شعرت بأنّني قويّ ومقاومٌ إلى حدّ أنّه لو هجمَت تلك الجموع ومعها جيش على هذا المنزل، فأنا جاهز لأقاوم وحدي. -والله- لقد أثّر فينا كلام الإمام إلى حدٍّ لا أنساه. والسبب في أنّني ما زلت أذكر كلامه ذاك بدقّة، هو هذا الأثر العظيم والعجيب الذي تركه في داخلي؛ أنا الذي كنت في اللحظات السابقة مرعوباً إلى الحدّ الذي لم أكن أستطيع أن أقف للصلاة، شعرت بعد كلامه هذا -أي بعد نصف ساعة من دخولي إلى المنزل- أنّني لا أخاف من أيّ شيء، وأنّني جاهز للدفاع وحدي. وقلت في نفسي: إنّني سأبقى الليلة هنا، لأنّه كان من الممكن أن

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/06/1989م.

 

40


32

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

يهجموا على منزل الإمام في الليل؛ سأبقى وسأدافع. ولقد ظهر أنّ هناك كثيرين مثلي قرّروا البقاء هناك في تلك الليلة. جهّزنا أنفسنا وتوزّعنا في الغرفة الخارجيّة لنمكث ليلتنا هناك. كنت أفكّر في نفسي أنّه عليّ أن أذهب وأبقى عند الباب، وعلى ذاك أن يذهب إلى أوّل الزقاق. كنّا نفكّر في ما يمكن أن يحدث، وكيف يجب أن نتعامل معه، ونقسّم الأعمال علينا، حين جاء الخبر من الإمام أنْ علينا جميعاً أن نذهب. قلنا: إنّنا لن نذهب. فقالوا لنا: إنّ الإمام يقول إنّه لا يرضى بأن يبقى أحد هنا الليلة. لذلك، نهضنا جميعاً وخرجنا، ولم يبقَ أحد.

مرّت ليلة الهجوم على المدرسة الفيضيّة. فأرسلتُ بداية الأمر برقيّة إلى مشهد كي لا يقلق والداي أو يضطربا، وبعدها قام الطلّاب كلّهم بإرسال البرقيّات إلى مدنهم. وجلستُ في اليوم التالي أكتب وصيّتي[1][2].

 

 


[1] جزء من وصيّة آية الله العظمى الإمام عليّ الخامنئيّ في اليوم التالي لحادثة الفيضيّة:

إنّ والدي ووالدتي اللذين سيعمّهما الحزن أكثر من الجميع بوفاتي، فكما يقول الحديث الشريف: «إذا بكيت على شيء فابكِ على الحسين(عليه السلام)»، فلا ينسياني عند ذكر مصائب أجدادنا إن شاء الله تعالى.

يبدو أنّ مهمّتي قد انتهت.

اللّهمّ اجعل الموت أوّل راحتي وآخر مصيبتي، واغفر لي، وارحمني بمحمّد وآله الأطهار.

العبد عليّ الحسينيّ الخامنئيّ.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 09/1982م.

 

41


33

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

الغفلة عن وجود الإمام

فلْأتكلّم عن تحليل النظام، فما هو تحليله حول المدرسة الفيضيّة الذي أدّى إلى الحادثة التي حصلت هناك؟ عليّ أن أقول: إنّ تحليل النظام لم يكن تحليلاً خاطئاً مئة بالمئة، بل كان خمسون بالمئة منه خاطئاً، وخمسون بالمئة منه مصيباً.

كان النظام يفكّر في نفسه أنّ حوزة قمّ هي مركز ومحور هذه المواجهة التي قد بدأت الآن، فالحوزة تختلف عن سائر المواجهات الأخرى التي انطلقت من الجامعة أو الأحزاب في الماضي، أو من بعض الشخصيّات؛ والسبب هو في أنّ علماء الدين محبوبون بين الناس، وأصحاب نفوذ -والحوزة على وجه الخصوص-، إذ لم تكن مركزاً لخمسين أو مئة أو خمسمئة عالم دين لمدينة ما، بل هي مركز لآلافٍ عدّةٍ من علماء الدين من إيران كلّها، والذين كان أغلبهم من الشباب النشيطين الشجعان الأتقياء، لا يبالون بالمال ولا بالأملاك، ولم يتعلّقوا بجاهٍ أو مقام أو لقب. وأشخاص كهؤلاء هم حتماً خطيرون.

إنّ المواجهة التي تندلع بين هؤلاء، بوجودهم، تحمل خطر الانتشار إلى البلد كلّه. وهذا أمر خطير بالنسبة إلى النظام، فكان لا بدّ من قلعهم وقمعهم. ولا يتحقّق هذا القلع والقمع إلّا بتوجيه صفعة لهم في حوزة قمّ نفسها. ولهذا اختاروا اليوم الذي يجتمع فيه الطلّاب والعلماء والمراجع كلّهم.

وكان لهذا فائدة أخرى لهم -وفق تحليلهم- هو أنّ هذا الرعب الذي سيزرعونه في قمّ عن طريق هذا العمل سينتشر في البلد كلّه،

 

 

42


34

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

إن عن طريق طلّاب العلم أنفسهم أو الزوّار الذين يأتون حتماً في أوّل الربيع -أي أيّام عيد النوروز- إلى قمّ؛ أي إنّ أيّ عائد من قمّ، سيكون ناقلاً للرعب والوحشيّة إلى مدينته وعائلته ومَن هم حوله.

أمّا النصف الذي كان خطأً، فهو أنّهم كانوا يظنّون أنّه يمكن إسكات هذه الفئة بالإرهاب والتهديد؛ لأنّ الذين يسكتون بالإرهاب والتهديد يكون دافعهم مادّيّاً، أو يملكون جاهاً أو مقاماً يخافون زواله.

ولكنّ أحداً في قمّ لم يكن كهذا؛ لم يكن أيٌّ من الطلّاب والفضلاء والمدرّسين في قمّ يملك جاهاً أو مقاماً أو مالاً، بل حتّى لم يكن لأكثر هؤلاء الشباب زوجة وأطفالاً ليفكّروا بأنّ زوجتهم وأطفالهم سيقلقون أو يحزنون؛ لم يخافوا أيّ شيء. ولا بدّ لي من أن أضيف أنّه حتّى ذلك اليوم، لم يكن وجه هجمات النظام القبيح قد ظهر بشكل كامل بعد، فلو أنّ الطلّاب والفضلاء ظنّوا أنّ بعد الهجوم على الفيضيّة سيتمّ إعدام 500 أو ألف شخص مثلاً، لربّما ترك هذا الأمر بعض الأثر عليهم. ولكن لم يكن هناك سابقة لأمر كهذا، ولم يكونوا يفكرّون أنّ هذا ممكن الحصول؛ إنّ الضغط على شاب ثائر تقيّ -لا يملك ما يخسره- سيكون بلا فائدة قطعاً.

والأهمّ من هذا كلّه هو وجود شخص مثل الإمام الخمينيّ، الذي كان خافياً عن أنظارهم ومغفولاً عنه في حساباتهم، أي إنّهم لم يظنّوا أنّه لو قمعوا قمّ وأوجدوا ذلك الرعب -حتّى لو كان الرعب مسيطراً بشكل كامل-، فإنّ شخصاً فيها سيطرد هذا الرعب

 

43

 

 


35

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

بكلامه، وسيزرع بأعماله الشَجاعة من جديد في أعماق أفراد الحوزة جميعهم، هو الإمام الخمينيّ.

كانوا -حقّاً- قد أخطأوا في تحديد أهمّيّة الإمام الخمينيّ، ولم يعرفوه بشكل صحيح. وفي اليوم الذي عرف فيه النظام الإمام الخمينيّ بالشكل الصحيح، فعلوا ما كان يجب عليهم فعله في مواجهتهم الإمام الخمينيّ؛ أي إنّهم أمسكوا بذلك العظيم، ومن ثمّ نفوه، ولو كانوا يستطيعون لأعدموه.

بالطبع، يجب أن أذكر أنّه حتّى عام 1963 و1964م لم يكونوا قد عرفوا الإمام بشكل صحيح كما يجب. وربّما لم يعرفوه حتّى السنوات الأخيرة -أي حتّى عامي 1977 و1978م-، فلو أنّ أجهزة الاستخبارات -لا الإيرانيّة فقط، بل غيرها كالأميركيّة- قد عرفوا الإمام الخمينيّ بادئ الأمر كما عرفوه لاحقاً في الــ 1977 والـ1978م، لكانوا قتلوه حتماً، ولم يكن هناك احتمال بأن يبقى حيّاً إلى ما بعد تلك المرحلة. لذا، فإنّهم كانوا غافلين عن وجود الإمام الخمينيّ، ولم يكونوا قد أخذوا تأثير وجوده في حساباتهم[1].

 

التذكار الجميل

شرعت رسائل وبرقيّات التنديد بحادثة الفيضيّة في الوصول من العلماء في مختلف المدن إلى قمّ، وقد بدأ هذا بهمّة وسعي سرّيّين من قمّ؛ أي إنّ الإمام كتب رسالة وقام بإرسالها، ومن ثمّ بدأت الرسائل تصل إلى علماء قمّ من المدن تباعاً وتندّد بحادثة الفيضيّة.

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 10/1982م.

 

44


36

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

وبهذا، صنع الإمام الخمينيّ من حادثة المدرسة الفيضيّة، عن طريق هذه الرسالة وأعمال أخرى، منصّة للقفز إلى مراحل جديدة من المواجهة. فحصل عكس ما كان يريده النظام، وعكس ما كان يريد تحقيقه. وأوجد الإمام -قهراً- نتيجة أخرى لحادثة الفيضيّة لم يكونوا ليتوقّعوها؛ كانوا يظنّون أنها ستكون مكاناً للقمع، ولكنّ الإمام جعل منها طريقاً ومستمسكاً لردّة فعل شعبيّة عظيمة، تفاعلت يوماً بعد يوم، وصلت إلى أوجها في 5 حزيران.

تمّ تعطيل الدروس لأيّام عدّة 20- يوماً- بسبب حادثة المدرسة الفيضيّة. وفي أوّل يوم عادت فيه الدروس، أقيم درس الإمام في المسجد الأعظم، وبعد الدرس قال: فلنذهب إلى المدرسة الفيضيّة لنقرأ الفاتحة لشهدائها. فبدأ السير والطلّاب يسيرون خلفه. كان هذا أمراً لم يكن ليخطر على بال أحد، بأن يقوم الإمام فجأة بفعل كهذا!

لم تكن المدرسة الفيضيّة مسكونة بعد ذلك اليوم لأنّهم كانوا قد خرّبوا فيها، وخلعوا الأبواب، وكسّروا الجدران، ووسّخوها، ونشروا الفوضى فيها، وبعثروا الأغراض، فلم تكن مسكونة. مُضافاً إلى أنّه لم يعُدْ للطلبة الذين كانوا يعيشون في هذه المدرسة الجرأة في قلوبهم ليذهبوا إليها.

بدأنا السير؛ كنت في ذلك اليوم عند الإمام، وكذلك كانت مجموعة كبيرة من الطلّاب. تحرّكنا باتّجاه المدرسة. دخل الإمام المدرسة، وانعطفنا باتّجاه اليسار، وجلس هناك عند مدخل الغرفة

 

 

45

 


37

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

الأولى أو الثانية، وكذلك فعل الطلبة حوله. كان الحزن الشديد بادياً على وجه الإمام؛ كان حزيناً جدّاً. فطلب أحدهم أن يقرأ شخص ما مجلساً، فنهض سيّدٌ وقرأ مجلساً هناك، وبكى الجميع. وألقى الإمام هناك خطبة صغيرة، وخرجنا من المدرسة. إنّ تمزيق الرعب الذي كان قد حلّ على حوزة قمّ كان مؤثّراً جدّاً. وبدأ تردّد الطلّاب إلى الحوزة، فأصبح معلوماً أنّه: كلّا، بإمكانهم المجيء والذهاب -على الرغم من أنّه تمّ لاحقاً إغلاق باب المدرسة الفيضيّة لسنوات طوالٍ من أجل ترميمها-.

وهذا ما حصل. لديّ من ذلك اليوم صورة مع الإمام -أي مع الطلّاب، وقد كنت واقفاً وراءهم-، وهذه الصورة تذكار جميل لي من ذلك اليوم[1].

من اليوم السابع من محرّم

وقعت حادثة الفيضيّة في شهر شوّال. ومرّ شهرا ذي القعدة وذي الحجّة، وحلّ شهر محرّم. أي إنّه كانت هناك فاصلة زمنيّة تمتدّ شهرين وخمسة أيّام من تلك الحادثة، حتّى حلول شهر محرّم. وكما ظهر في آخر أيّام النضال، كان للإمام دائماً إيماناً غريباً بشهر محرّم، فكان -حقّاً- يعدّه «شهر انتصار الدم على السيف». كان الإمام قد استعدّ لشهر محرّم من البداية -وكان هذا واضحاً- لأنّ ذلك المخطّط الذي كان الإمام قد حضّر له في شهر محرّم، وأبلغ عنه، وتمّ العمل بناءً عليه، لم يكن مخطّطاً فجائيّاً؛ كان مخطّطاً

 


[1]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 10/1982م.

 

46


38

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

يحتاج شهرين -على الأقلّ- ليستطيع إنسانٌ طبخَه وإعداده بشكل صحيح.

وبناءً على هذا، يمكن أن نعرف أنّ الإمام قد رأى في حادثة الفيضيّة -وبمجرّد أن حصلت- حادثةً يجب أن يتمّ استثمارها في محرّم. وقد بدأ قبل محرّم بكتابة الرسائل وتبادل المعلومات بشكل علنّي وسرّيّ[1].

كان المرحوم السيّد مصطفى يقول إنّ الإمام كان ينام مدّة ساعتين أو ثلاثة، ويكتب الرسائل في الوقت الذي تبقّى من الليل. لم يحصل أبداً في حياة الإمام -حين كنّا طلبة علم ومع من كان قبلنا- أن يجتمع الإمام ويجلس مع الطلبة في غير الدرس أو مجالس العزاء. وحين بدأ النضال، كانت للإمام جلسات في الليل بعد الصلاة، خارج وقت الدرس ومجالس العزاء، وأحياناً في النهار، وعند العصر كذلك. كان منزل الإمام وغرف منزله مليئة دائماً بجموع الطلبة، وأحياناً شخص واحد، شخصين، أو خمسة أشخاص، إذ يكون لديهم لقاء خاصّ مع الإمام؛ فكانت هناك دائماً مجموعة تذهب إلى الإمام، ويقوم الإمام بالتحدّث معها.

كنّا نرى أنّه كان هناك، وحتّى آخر ساعات الليل -أي حتّى الساعة الثالثة أو الرابعة- من يتردّد إلى منزل الإمام، وكنّا نحن كذلك الأمر؛ أحياناً مع مجموعة وأحياناً أخرى مع بعض

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 10/1982م.

 

47


39

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

الأشخاص. وبعد أن كنّا نذهب من عنده، كان الإمام يدخل إلى غرفته ويبدأ كتابة الرسائل. يمكنني -ربّما- أن أقول إنّ الإمام قد أرسل مئات الرسائل إلى الولايات المختلفة. كان يكتب الرسائل للعلماء في المدن، ويشرح لهم عن المخاطر التي تحيط بالعالم الإسلاميّ من طرف الحكومة، ودور إسرائيل وأميركا، وإنّ الهدف هو حذف الإسلام؛ الهدف هو قمع علماء الدين. وكان يوسّع في شرحه بالمقدار الذي كانت تسمح به الرسائل، مع مراعاة حالة المُرسل إليه[1].

كان الإمام يبدع في تهيئة الأرضيّة الذهنيّة للعلماء في المدن. كان منذ البداية يمتلك إيماناً راسخاً بدور العلماء ونفوذهم في قلوب الناس؛ كان يولي هذا الأمر أهمّيّة كبيرة[2].

عندما اقترب حلول شهر محرّم، قام بوضع مخطّط للمدن المختلفة، وكان هذا المخطّط عبارة عن إرسال طلبة العلم والأفاضل إلى أطراف البلاد ليطلبوا من العلماء والخطباء في تلك الأماكن أن يخصّصوا كلامهم في اليوم السابع عن حادثة الفيضيّة؛ أي من اليوم السابع، يقومون بعرض ما حدث في الفيضيّة، ويوضّحون، ومن اليوم التاسع تبدأ مسيرات اللطم بالتعرّض إلى هذا الأمر عبر الحديث عن المدرسة الفيضيّة أثناء مجالس العزاء، حتّى يعرف الإيرانيّون كلّهم ما حصل في حادثة الفيضيّة. وحقّاً، حين يفكّر

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 08/1982م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/1982م.

 

48


40

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

الإنسان، يرى أنّه لم يكن هناك طريق أفضل لتعريف الناس -على امتداد إيران- بحادثة الفيضيّة، وجرّهم إلى النضال وإيجاد الحماس فيهم. لقد كنت أنا من الأشخاص الذين تمّ بعثهم، ولقد رأيت أثر هذا الفعل[1].

طلب منّي أن أذهب إلى مشهد، وحين أصل إلى مشهد، أسلّم رسالة منه إلى السيّد الميلانيّ والسيّد القمّيّ، وأطلب منهما أن يبقى هذا الأمر طيّ الكتمان، وأن أوصل رسالة إلى جميع علماء مشهد. كانت تلك الرسالة المرسلة إلى علماء مشهد كافّة، هي أن استعدّوا للمواجهة، فإنّ اليهود والصهاينة قد بدأوا الهيمنة على البلد، وللعلماء مهمّة شرعيّة. هذه الرسالة كان يجب أن تصل إلى الجميع. أمّا الرسالة التي كان يجب أن تصل إلى السيّد الميلانيّ والسيّد القمّيّ -مُضافةً إلى الرسالة العامّة- هي أن يقولوا للخطباء كلّهم أن يبدأوا من اليوم السابع من محرّم بقراءة مجالس عزاء عن الفيضيّة في خطبهم، وكذلك الأمر، من اليوم التاسع، في مسيرات اللطم والهيئات.

ذهبتُ إلى مشهد، وأوصلتُ الرسالة إلى عدد من علمائها؛ إذ ذهبتُ إلى منازلهم وأوصلت الرسالة. وبالطبع، كان لكلّ منهم ردّة فعل مختلفة على الرسالة، ولكنّ الأغلب لم يحملها على محمل الجدّ؛ ربّما كان الشخص الوحيد الذي أدرك هذه الرسالة، وفهِمَها بحقّ،

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 10/1982م.

 

49


41

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

وعمل بناءً عليها، هو المرحوم آية الله الشيخ مجتبى القزوينيّ[1].

وحول الرسالة المتعلّقة بالمدرسة الفيضيّة، فقد ذهبتُ إلى السيّد الميلانيّ والسيّد القمّيّ وأوصلتُ رسالة الإمام الخمينيّ لهما[2].

وذهبتُ أنا بعدها في سفرٍ للخطابة، واخترت مدينة بيرجند[3]، وقد عرضتُ الخطّة على العلماء هناك، والتزمتُ بها أنا كذلك. لقد كنت -في أيّام محرّم القريبة من 5 حزيران- في تلك المنطقة، حيث قاموا بإلقاء القبض عليّ لاحقاً وإرسالي إلى مشهد وسجني.

كانت هذه رصاصةً قد أصابت هدفها ببراعة، وكان الإمام قد أطلقها على قلب العدوّ وأصابه. بدأ شهر محرّم بالشكل الطبيعيّ، وكان النظام غافلاً. ومن دون أن يكون هناك شبكة إعلانات واتّصالات منظّمة، فجأةً، في اليوم السابع من محرّم، وفي أنحاء البلاد كلّها، بدأوا يرون أنّ المذيعين المتديّنين وأصحاب المنابر والخطباء -بالطبع الذين كانت قلوبهم قويّة للقيام بهذا الأمر، فقد كان البعض لا يسعى نحو هذه الأمور لعدم قدرته عليها- في المجالس والمحافل، قد بدأوا الحديث عن موضوع جديد. لقد حصلت هناك ثورة في أذهان الناس، وتمّ إطلاق عواصف في الحالة الذهنيّة في المجتمع. لم يعي النظام كيف يتعاطى بشكل صحيح مع هذه الحادثة، فألقوا القبض على بعضهم وحبسوهم، وضربوا

 

 


[1] آية الله الشيخ مجتبى القزوينيّ (1901-1967م) من علماء الشيعة الكبار. كان يسكن في مشهد.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 10/1982م.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 11/1982م.

 

50


42

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

بعض الخطباء. ولم يكونوا قد خرجوا بعد من الدوار الذي صنعه لهم يوم السابع من محرّم، حتّى بدأت المسيرات الدينيّة والهيئات في الخروج إلى الشوارع في المدن المختلفة مُطلِقة شعارات تتعلّق بالفيضيّة[1].

إلقاء القبض على الإمام!

يوم العاشر كان ذروة هذا الأمر، فقد قام الإمام نفسه بإلقاء خطبته المعروفة في قمّ. كان هناك أشخاص موجودون أثناء إلقاء الخطبة، وقد نقلوا إلينا ما حدث؛ أخبرونا عن الخطبة، وكيفيّة مجيء الإمام إلى المدرسة الفيضيّة، وعن حشود الناس العظيمة -إذ كان قد اجتمع عشرات الآلاف ليسمعوا هذه الخطبة- وكيف خلق هذا الأمر عواصف قويّة في المجتمع، في أهالي قمّ و طهران و غيرها من الأماكن على حدّ السواء[2].

تحدّث الإمام بشكل عجيب وكاسح في المدرسة الفيضيّة، واعتمد على أكثر مسألة أساسيّة، وأشار إليها، وهي أنّ نظام الهيمنة مُعارِض للإسلام، وهدّد الشاه -لو ظلّ يعمل على هذا المنوال- أنّه سيعلن أنّ هذا الإنسان لا دين له، ولن يستطيع الناس أن يتحمّلوه.

كان المحور هو الدين في الأصل. وحين تمّ إلقاء هذه الخطبة، قرّر النظام، الذي كان يشعر في الأشهر السابقة أنّ هناك مواجهة عميقة تتّخذ شكلها، والذي كان قد وجد المركز الأصليّ لهذه

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/06/1989م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/06/1989م.

 

51


43

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

المواجهة -وهو الإمام نفسه الذي كان على رأس العلماء المناضلين-، أنّه يجب أن يُخرج الإمام من مشهد المواجهة. فتسلّلوا ليلاً إلى منزل الإمام في ليلة الثاني عشر من محرّم -وكانت ليلة 5 حزيران- وألقوا القبض على الإمام، وأخذوه إلى نقطة مجهولة -عُرف لاحقاً أنّها طهران-، واعتقلوه مؤقّتاً في نادي الضبّاط. ثمّ أخذوا الإمام إلى سجن، وأبقوه في زنزانة انفراديّة[1].

كان السيّد مصطفى شاهداً عن قربٍ على تلك الحادثة، وقد روى ما حدث. عندما ألقوا القبض على الإمام، كان هو أوّل من أطلق الصرخة وأخبر أهالي قمّ عمّا حدث، فقد استيقظ الناس على نداءات السيّد مصطفى الحماسيّة، وأدركوا ما حصل؛ أنّ إمامهم قد أُخذ[2].

في ذلك اليوم، تجمّع الناس في صحن الحرم، وقام أشخاص عدّة من طلبة العلم الفاعلين والمناضلين والشباب، وكذلك من تجّار قمّ المعروفين بالأسماء، بمساعدة الناس وتوجيه شعاراتهم وكلامهم، مستفيدين من مكانتهم الاجتماعية. وفي تلك الأثناء، يأتي السيّد مصطفى ويرتقي المنبر -وكان لحضور السيّد مصطفى في الصحن الذي كان يُمطر دماً وناراً، وتفوح منه رائحة الموت- أثراً غريباً -كما نقلوا-؛ كان قد جعل الناس تثور. كان مركز المواجهة يبدأ من هنا، من قدوم السيّد مصطفى إلى صحن الحرم، وحضوره بين الناس.

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/06/1989م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 12/10/1983م.

 

52


44

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

كان السيّد مصطفى رجلاً شجاعاً، لقد كان -حقّاً- ابن الإمام، وكان -حقّاً واِنصافاً- شخصاً يليق به أن نعرّفه بأنّه ابن هذا الرجل العظيم والشخصيّة الكبيرة، وكان يمتلك تلك الشجاعة التي تجعله يخرج في الوقت المناسب كابنٍ للإمام[1].

لقد أطلق حركةً عظيمةً سقط فيها عدد كبير من الناس شهداء في طهران، تبريز، شيراز، وبعض المدن الأخرى، والأماكن القريبة من طهران، مثل: ورامين وسليل الإمامة جعفر. كانت هذه ذكرى عظيمة، وكانت هذه أوّل انتفاضة شعبيّة ملطّخة بالدماء في مقابل النظام الجائر. كانت هناك انتفاضات قبل هذه بالطبع -أي كانت هناك مظاهرات وتحرّكات-، وقد أدّى بعضها إلى سقوط الدماء على يد جلاوزة النظام، ولكنّها لم تكن بهذه السعة والضخامة على مستوى البلد؛ كانت هذه المرّة الأولى التي يحدث فيها مثل هذه الحادثة[2].

نعم للرمح، وكلّا للغطرسة!

عندما وقعت حادثة 5 حزيران لم يكن الإمام قد أخبر أو دعا إلى حصول شيء، ولكنّ الناس هم من احتشدوا بذلك الشكل العظيم؛ لا في صحراء قمّ، بل من أجل الدفاع عن الإمام. وقفوا في مقابل رصاصات العدوّ، وكم قدّموا من الشهداء والجرحى! وكم تمّ ضربهم! كان الأمل بالناس والاعتماد عليهم -حقّاً- أمراً لا مثيل له بالمقايسة مع بعض الأشخاص الآخرين الذين كانوا موجودين.

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 12/10/1983م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/06/1989م.

 

53


45

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

يمكن للإنسان أن يعرف كم كانت لهذه الخصلة من فعاليّة، وكم كانت هامّة في تقدُّم المواجهة.

كان الإنسان يتذكّر صدر الإسلام ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَيَّدَكَ بِنَصرِهِۦ وَبِٱلمُؤمِنِينَ﴾[1]، إذ كان الله تعالى يقول للنبيّ إنّ نصره وتأييده هو من الله بوسيلة المؤمنين، الذين هم وسيلة الدعم التي يجعلها الله للقادة الصالحين؛ محبّة الإمام هذه التي تمتلكها القلوب، ولا زالت، وستبقى دائماً[2].

بدأت المواجهة، ومنذ ذلك اليوم بدأ بعضهم -العلماء وغيرهم- يقولون: لن تؤول هذه الأحداث إلى نتيجة، ما من فائدة!

وقد كان الإمام يقول في تلك الأيّام بثقة تامّة: إنّنا جاهزون، كان يقول: إنّنا قد جهّزنا صدورنا لرماحكم، ولكن لم نجهّز قلوبنا لتسمع كلامكم وتقبل غطرستكم.

أظهرت حركة الإمام هذه أنّ «الظروف» و«الأوضاع في هذا الزمان» وما شاكلها هي أقوال لا مسوّغ لها. كان بعضهم يقول في تلك الأيّام: لقد قام نظام الشاه بتوطيد علاقته بالأميركيّين. كانوا يقولون: أنتم اليوم تقاتلون أميركا، وهل هذا ممكن؟! أنتم اليوم تواجهون هذا النظام، هل ستسمح أميركا بهذا؟![3].

قمتُ في أحد الأيّام بإرسال رسالة من مشهد إلى الإمام -من

 

 


[1] سورة الأنفال، الآية 62.

[2]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/06/1989م.

[3]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 03/11/1985م.

 

54


46

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

باب الشكوى- أنّنا نتعرّض للضغط من جهاتٍ عدّة: الجهة الأولى السافاك، والثانية المسؤول الفلانيّ، والثالثة بعض الأشخاص ممّن يرتدون زيّنا. وقد أوصلت هذه الرسالة إليه بصعوبة شاقّة. وقد أرسل إليّ رسالةً مقتضبةً جواباً على رسالتي. فبعد أن أجاب عن أمرين أو ثلاثة، كتب: أمّا مسألة الجهات الثلاث التي ذكرتها، فإنّ الحال هنا كما تقول؛ الوضع هنا كذاك[1].

لقد قيل للإمام مرّات عديدة: يا من تشجّع الشعب الإيرانيّ على الوقوف في وجه النظام البهلويّ، من سيقدّم الجواب عن السؤال حول الدماء التي تُراق على الأرض؟؛ أي إنّهم جعلوا دماء الشباب في مواجهة الإمام.

وقد قال لي هذا الأمر عام 1963م أحد العلماء الكبار، فقال: في 5 حزيران حين قام -أي الإمام- بهذه الحركة، قُتل كثيرون، وقد كانوا من خيرة شبابنا. من سيتحمّل مسؤوليّتهم؟[2] كان يقول: إنّنا قد تكبّدنا خسارة في 5 حزيران لأنّ أهمّ جيل في مجتمعنا هم الشباب، والأفضل من بين الشباب وأكثرهم لياقة هم المتديّنون، ومن بين المتديّنين هم الذين يمتلكون شجاعة المبادرة؛ هم الأفضل من الجميع. وفي هذه الفاجعة، الذين كانوا يمتلكون شجاعة المبادرة من المؤمنين قُتلوا كلّهم، أو أنّ عدداً كبيراً منهم قتل، ونحن تكبّدنا خسارة. أين سنجد مثل هؤلاء الشباب مجدّداً؟

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 26/05/2003م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 03/06/1996م.

 

55


47

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

طبعاً لم أكن لأقبل هذا المنطق من التفكير حتّى منذ ذلك الوقت الذي كنت فيه طالب علم، فتناقشنا قليلاً. وبالطبع، فإنّ الجواب عن هذه المسألة هو: إنّنا في أيّ أمر نحتاج هؤلاء الشباب أصحاب المبادرة؟ وماذا نريد منهم أن يفعلوا؟ لو أنّنا تصرّفنا معهم كما يقولون، لكان وجودهم خسارة. مُضافاً إلى أنّه من الصحيح أنّ بعضهم يُقتل في هذه الأحداث، ولكنّ هذه الأحداث تقوم ببناء وإنتاج أشخاص أكثر؛ كانت هذه هي الأمور التي لم يكونوا ينتبهون إليها[1].

في الحقيقة، يجب علينا أن نقبل أنّ الإمام كان وحيداً. لقد رأيت في روايةٍ أنّ أحدهم يسأل الإمام المعصوم: أن يكون هناك 313 شخصاً حول قائم آل محمّد حين ظهوره، هل يعني هذا أنّ البقيّة ليسوا مؤمنين؟ وأنّ هناك 313 شخصاً مؤمناً فقط في ذلك الزمان؟ فيجيب الإمام: «كلّا، أمّا هؤلاء الـ313 هم نجباء وحكّام»، ويذكر لهم أوصافاً، وهي: نجباء -أي مصطفون- والمنتجبون هم المختارون من المجتمع. حكّام المجتمع، أي الأشخاص أصحاب التأثير في مسائل الناس الاجتماعيّة، فالعُقَد تُحلّ على أيديهم، وبيدهم نقطة معيّنة يعملون على حلّها وتكون حينها نقطة مفصليّة. قضاة، هناك تعبير بأنّهم قضاة، أي هم أشخاص وصلوا إلى درجة القضاء، يمكنهم القضاء بين الحقّ والباطل، أي إنّ ملكة القضاء قد وُجدت فيهم. هم الفقهاء، الذين يعرفون الدين.

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 12/1982م.

 

56


48

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

وبعدها يضيف: «هذا من أجل ألّا تشتبه عليهم الأمور»، أي إنّ صاحب العصر والزمان -عجّل الله تعالى فرجه وأرواحنا فداه- يحتاج أشخاصاً عدّة ممّن لا يشتبه عليهم أيّ أمر، فلا يقفون وسط العمل ليفكّروا هل هذا صحيح أم غير صحيح؟ هل نفعل هذا؟ إراقة الدماء إلى أين ستصل؟ ألا يحصل هذا؟؛ هذا هو دور البصيرة والإيمان الراسخ والنافذ الذي كان يمتلكه الإمام[1].

وقعت عند قدمي الإمام!

مع اقتراب عيد النوروز عام 1964م خرجتُ من السجن واستطعت أن أذهب -ضمن تدبير معيّن- إلى المنزل الذي كان الإمام مقيماً فيه إقامة جبريّةً في منطقة قيطريّة في طهران[2].

عندما خرجتُ من السجن، لا أنسى كيف تحلّق أصدقائي الطهرانيّون حولي، وكيف أثارت الأمور التي نقلتُها لهم عن السجن الضجّة بينهم. وممّا سمعتُه عن لسانهم هو أنّ بعض أولئك الخطباء الذين كانوا في السجن -ممّن ألقوا القبض عليهم في شهر رمضان لأيّام عدّة، بعدما ألقوا القبض عليّ، وقد أطلقوا سراحهم قبلي- قد ذهبوا من السجن مباشرة للقاء الإمام الخمينيّ، فأخذَتني الغبطة لأنّهم قد لبثوا في السجن لأيّام عدّة، ربّما عشرة، أو خمسة عشر يوماً، وقد ذهبوا للقاء الإمام الخمينيّ، وأنا لم أذهب. كان واضحاً أنّهم كانوا مجموعة، قالوا لهم إنّهم يريدون أن يذهبوا

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 26/04/1986م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 16/07/1991م.

 

57


49

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

للقاء الإمام الخمينيّ، فأركبهم السافاك وسيلة نقلٍ وأخذهم للقاء الإمام الخمينيّ. شعرت بالغبطة كثيراً، وقلت إنّني أنا أيضاً يجب أن أذهب لأرى الإمام الخمينيّ.

فسألت عن العنوان، فكان قيطريّة. ولم أكن أعرف الطريق؛ لم أكن أعرف قيطريّة أصلاً! وبالسؤال، وبمشقّة بالغةٍ وصلتُ مكاناً قريباً من منزله. كانوا قد أعطوني العنوان، وبالفعل ذهبتُ، بالأسئلة الكثيرة وصلتُ إلى هناك. رأيت أنّه صحيح، كان العنوان الذي أعطوني إيّاه هو هذا المكان. قرب هذا الشارع الضيّق، كانت هناك أرضٌ كبيرة مُهمَلة، وفي آخر تلك الأرض كان هناك باب، وكان ذاك البابُ بابَ منزله. وأوّل ذلك الشارع، أمام تلك الأرض المهمَلة -لا في داخلها، بل خارج تلك الأرض- كان هناك شرطيّان واقفان. فعرفت أنّه صحيح، هو هنا.

فسألت أحد الشرطيّين: أين هو منزل السيّد الخمينيّ؟

فقال: ماذا تريد أن تفعل؟

قلت: أريد أن أذهب لرؤيته.

قال: لا يمكنك رؤيته.

قلت: يمكنني أو لا، أين هو منزله؟

قال: ذلك المنزل؛ أشار إلى الباب وقال: هنا.

قلت: هل أنت المسؤول؟

قال: أجل.

 

58


50

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

قلت: هل تسمح لي بأن أذهب لرؤيته؟

قال: كلّا.

فأخبرته عن الموضوع؛ قلت: كنت في السجن، وقد جاء السافاك بعدد من علماء الدين الذين كانوا في السجن لملاقاته. أنا كنت من تلامذته، وأنا متعلّق به إلى حدّ كبير، فلماذا يجب ألّا ألتقي به؟ أرجوك أن تسمح لي برؤيته لدقائق معدودة.

فوقع تحت تأثير صراحتي وصدقي. لقد كنت آنذاك طالب علم شابّ، ففكّرت في نفسي: لو كنتُ أنا مكان ذلك الشرطيّ، وأتى طالبُ علمٍ صادق ومليء بالحماس بهذا الشكل، لكنتُ أُرغمتُ على إعطاءه الإذن. لكنّ الشرطيّ الثاني لم يقبل. وفي النهاية تناقشا بينهما، ثمّ قال أحدهما: اذهب، بشرط ألّا تلبث أكثر من 10 دقائق.

نظرتُ إلى الساعة وقلت: حسناً، 10 دقائق.

عندما افترقنا، حسبتُ أنّني سأحتاج إلى 10 دقائق لأصل إلى بابِ ذلك المنزل -لو ذهبت ببطء-، فركضت، ووصلتُ إلى باب المنزل، وحين هممتُ بطَرق الباب، إذ بي أرى السيّد مصطفى يفتحه. عندما رآني -وقد كنت من الأصدقاء المقرّبين من السيّد مصطفى- فرح جدّاً، وقبّلني، وحضنني. قلت له: أين السيّد؟ فقال: السيّد هنا، تعال ادخل.

دخلنا إلى إحدى الغرف وجلسنا. وإذ بي أرى السيّد قد دخل. فوقعت على قدميه -من الأشياء التي أذكرها هي أنّني وقعتُ على

 

59

 

 


51

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

قدميه أريد تقبيلهما من شدّة محبّتي للإمام الخمينيّ-. كان الأمر عجيباً بالفعل، أعني أنّ محبّة هذا الرجل كانت دائماً موجودة في قلوبنا. انزعج ولم يقبل أن أقبّل قدميه. ثمّ جلسنا، فأخذتُ بالبكاء، ولم أستطع أن أتكلّم. وانزعجتُ من أنّه سيظنّ الآن أنّني قد بدأتُ أبكي لأنّني كنت في السجن، ولن يعرف أنّ هذا البكاء سببه الشوق إلى رؤيته. وكلّما أردت أن أكبح جماح نفسي، وأتوقّف عن البكاء، أخذتني الغصّة، ولم أفلح في ذلك. كلّما أردت أن أتكلّم، لم أستطع. وفي النهاية، استطعت بمشقّة؛ لقد كانا ساكتين وينظران إليّ. فلاطفني قائلاً: كيف حالك؟ ولكنّ الكلام الوحيد الذي قلته: إنّ شهر رمضان هذه السنة -للأسف- قد ذهب هدراً من دون وجودك. أرجوك أن تخطّط بشكل لا يذهب به محرّمنا القادم هدراً، سيكون هذا بغيضاً. فقال: نعم. وأخذ يشجّعني معنويّاً قائلاً: أجل، يجب أن يحصل هذا.

في المحصّلة، جلسنا لدقائق عدّة، وقلت: لم يسمحوا لي بأكثر من 10 دقائق.

فوقف وودّعنا بعضنا وخرجتُ؛ لم يطُل الأمر كلّه أكثر من عشر أو اثني عشر دقيقة[1].

لم يكن دخول السجن والمشاكل التي كانت تحدث -بالنسبة إلينا نحن الشباب في ذلك الوقت- صعباً، بل كان الأمر أشبه بالتسلية. ولكنّ عمر الإمام في تلك السنة، أي في سنة بدء المواجهة،

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 01/1983م.

 

60


52

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

كان 63 عاماً. وفي عمر الثالثة والستّين، كان هذا الرجل يستطيع بثورة مشاعره أن يثير مشاعر شعبٍ بكامله. لم يكن دخول السجن والنفي سهلاً على شخص في ذلك العمر. ولكنّ هذا الفداء والتضحية وتقبُّل المخاطر كان جليّاً في هذا الرجل[1].

كان يقول: لماذا يجب أن أخاف؟ وممَّ؟ إذا قتلوني، فسأكون قد رحلتُ عن عمر الثلاثة والستّين، وقد كان هذا عمر النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) عندما رحلا عن الحياة. وما هو الأجمل من هذا؟

لقد كان هذا هو منطقه[2].

إذا قمعتموني، فهذا يصبّ في صالحي!

بعد أن تمّ إخلاء سبيل الإمام من الحبس والإقامة الجبريّة، في 1964م، عاد من طهران إلى قمّ. كان ظنّ النظام البهلويّ في نفسه -أو كان يتوقّع- أنّ الإمام قد ارتدع عن مثل تلك المواجهات الحماسيّة والقويّة التي أدّت إلى سجن هذا العظيم وإلى حادثة 5 حزيران الدمويّة؛ كان ظنّهم هو هذا. ولقد تحدّثوا معه في الأمر، وفاوضوه، وتكلّموا معه مرّات ومرّات عندما كان في السجن والإقامة الجبريّة، ولكنّهم كانوا يسمعون ردّاً قاطعاً وحاسماً من الإمام بالنفي[3].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 26/12/1995م.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/11/1984م.

 

61


53

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

كان الإمام يقول إنّني قد أرسلتُ رسالة إلى الشاه بأنّه وجهاز السافاك الخاصّ به يقمعونني، وهذا يعود عليّ بالنفع لأنّ الناس يؤمنون بأنّني أصيلٌ وعلى حقّ، ويعرفون أنّني أقول الصدق، وأنّني لو لم أكن صادقاً، لما قمعتموني إلى هذا الحدّ[1].

ولكنّهم لم يستطيعوا أن يبقوا على سجن الإمام أكثر من ذلك، فقد كان يؤدّي ذلك إلى مشاكل سياسيّة واجتماعيّة بالنسبة إليهم، فكانوا مجبورين على إخلاء سبيله. كانوا يظنّون في قرارة أنفسهم أنّهم، وبعد إخلاء السبيل هذا، لربّما يستطيعون أن يؤثّروا عليه بشكل مباشر أو غير مباشر، وأن يوقفوا هذه المواجهات القاسية التي كانت تتمّ بقيادته. ولكنّ الإمام، ومن الأيّام الأولى التي دخل فيها إلى قمّ، قام باستقبال الناس التي كانت تأتي مجموعات مجموعات من أقطار البلد كافّة والمدن المختلفة. وقد استفاد الجميع من تعابير وكلمات وخطابات الإمام أنّ المواجهات مستمرّة كما كانت[2].

كنتُ آنذاك في مشهد، وسمعت بما حصل. فأحضرتُ أبي إلى طهران، ومن هناك انطلقنا إلى قمّ، وذهبنا لرؤية الإمام. حين دخلت مع والدي إلى غرفته، شعرت أنّه منزعج -إلى حدّ ما- بسبب وضع عين والدي[3].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 12/02/1980م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/11/1984م.

[3]  كان والد آية الله الخامنئيّ مبتلى بمرضٍ في عينيه، وقد عانى مدّة من ضعف البصر والعمى. وقد تحسّنت حاله إلى حدّ ما بعد سنوات من العلاج الطبّيّ.

 

62


54

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

في ذلك اللقاء -لا أنسى أبداً هذه النقطة، وهي المحبّة الخاصّة التي أولاني إيّاها- حين قبّلت يده، أمسك بيدي لمدّة وضغط عليها بيده، فشعرت أنّ هذه المحبّة هي تشجيع ونوع من إبراز العناية الخاصّة[1].

نفي الإمام

بعد مرور أشهر عدّة على إخلاء سبيل الإمام، حصلت قصّة الحصانة القضائيّة، أي حصانة المواطنين الأميركيّين في إيران. وقد جاؤوا بهذا الأمر على شكل قانون؛ المواطنون الأميركيّون -الذين كانوا آنذاك حوالي سبعة، ثمانية، أو عشرة آلاف أميركيّ أو أكثر في إيران- يمتلكون الحصانة من الناحية القضائيّة، أي إنّهم وإن قاموا بارتكاب جرم، إهانة شخص، ارتكاب جناية، أو مخالفة في داخل بلدنا، فإنّه ليس من حقّ أجهزتنا الأمنيّة والقضائيّة التعرّض لهم. وهذا أحد أبشع طرق هيمنةِ قوّةٍ وسلطةٍ سياسيّة على بلدٍ ما. وقلّما تجد دولة في العالم تقبل بهيمنة كهذه عليها. فحينما يسكن مواطنو دولة ما في دولة أخرى، فإنّهم يتّبعون القوانين القضائيّة لذلك البلد. وإذا قاموا بارتكاب جناية أو جرم، فتجب محاكمتهم وفق القوانين القضائيّة لذلك البلد. ولكن ما بيّنه الإمام في خطبته التي ألقاها بهذه المناسبة -وفصّل في شرحه للناس- فهو أنّه لو قام شخص أميركيّ عاديّ بإهانة أعلى سلطة في الدولة -لو صفعه على وجهه- فليس من حقّه ملاحقته، ويجب على الأميركيّين أن يشكّلوا محكمة، ويحاكموه، ويصدروا الحكم الذي يرونه مناسباً.

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/03/1983م.

 

63


55

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

كان قانوناً مُذلّاً، وقراراً استعباديّاً بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، يذهب بماء وجه الشعب الإيرانيّ وشرفه وعزّته، ويزيد من هيمنة الأميركيّين. وبالطبع، كان الأميركيّون بحاجة إلى هذا الأمر. فإنّهم، وبعد أن شعروا أنّ المواجهات في إيران تأخذ منحىً جدّيّاً وشعبيّاً، وبناء على تخيّلاتهم الواهمة عن مستقبل هذه المواجهات، كانوا يحتاجون إلى أن يزيدوا من نفوذهم في البلد يوماً بعد يوم. ولربّما، لو لم تتمّ مواجهة هذا القانون بردّة فعل قويّة، حصلت أمور أخرى بعد ذلك. وقد تصدّى الإمام لهذا الأمر بشكل حازم.

لقد قام الإمام هذه المرّة -كما في المرّات السابقة- بشرح ما يحصل للناس، فتكلّم معهم. وقد انتشر خطاب الإمام عبر مئات، بل آلاف الشبّان الحريصين والمهتمّين في الحوزة العلميّة وسوق طهران والجامعة وأماكن أخرى في أنحاء الوطن كافّة. وقد عرف الجميع أنّ إمامهم الحبيب والعظيم يتعامل مع هذا الموضوع بهذا الشكل.

طبعاً، كان بإمكان النظام أن يتوقّع ردّة فعل الناس. ولو أكمل الإمام حركته تلك، فسيكون في هذا الأمر خسارة للنظام لا يمكن جبرها. لذا، قاموا بمحاولة إصلاح هذا الأمر، فخطفوا الإمام ليلاً من منزله في قمّ، وأخذوه مباشرة إلى مطار طهران، ونفوه في طائرة من نوع سي – 130 إلى خارج الوطن[1].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/11/1984م.

 

 

64


56

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

كنتُ قد عدتُ من قمّ إلى مشهد منذ أشهر عدّة، وكنت أنوي البقاء في مشهد. وفي الأسبوع الأوّل لزواجي حصلَت قصّة نفي الإمام إلى تركيا.

في اليوم الذي تلا نفيَ الإمام، أقيمت جلسة هامّة جدّاً في مشهد، في منزل السيّد القمّيّ؛ اجتمع هناك علماء مشهد كافّة. لقد أراد السيّد القمّيّ أن أتفاعلَ والشيخ واعظ الطبسيّ وشخصاً أو شخصين أيضاً مع تلك الجلسة، ونقوم بإيجاد حماس وحرارة تبعثان علماء مشهد على القيام بتحرّك عامّ، مثل: الإضراب، وعدم الذهاب إلى الصلاة، وأحياناً الاعتصام في مسجد كوهرشاد. صادف أن يكون ذلك اليوم هو اليوم الذي كنت أذهب فيه في عادةً إلى منزل والد زوجتي. فذهبت إلى هناك وقلت لزوجتي إنّه سيكون هناك جلسة، ويجب أن أذهب، ويمكن ألّا أعود، فربّما يتمّ سجني، أو قتلي، أو قد يفعلون شيئاً ما. فرأيت أنّها ثابتة وجاهزة لتقبّل هذه الأمور كلّها[1].

في ذلك اليوم الذي تمّ فيه نفي الإمام، كانت هناك ردّات فعل في أنحاء البلد كافّة من علماء الدين والحوزات العلميّة والفئات المختلفة. ولكنّ النظام، ولأنّه كان مرتاح البال من ناحية الإمام -إذ قام بنفي هذا العظيم إلى خارج البلاد-، فقد قام بالتعامل بقسوة، وألقى القبض على المحرّكين الأساسيّين، وأخضعهم للإقامة الجبريّة، أو سجنهم، أو نفاهم[2].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 05/1982م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 01/11/1984م

 

65


57

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

كان بعيداً، ولكنّه كان يقوم بتوجيه الناس

بعد نفي الإمام، كانت هناك حالة من اليُتم وفقدان الأب بين المناضلين، خاصّةً في الحوزات العلميّة[1]. ولكنّ المواجهة قد دخلت مرحلة جديدة؛ في هذه المرحلة كانت المواجهات قد أخذت منحىً منظّماً ضمن حركات منسجمة ومؤسّسات وتشكيلات وأحزاب[2].

في الأعوام الأربعة عشر التي كان فيها في المنفى، كنّا بعيدين عنه في الظاهر، ولكن كنّا نمضي وفق رؤية وخطّ الإمام، ولم نكن منفصلين عنه. لقد كنّا في تلك السنوات الأربع عشرة مع الإمام حقّاً. وطوال هذه المدّة، خاصّةً في السنوات الأخيرة، أي من 1970 و1971م حتّى 1975 و1976م، زادت حدّة الخناق والضغوطات. كانت المجموعات، الفرق، والأحزاب السياسيّة المختلفة -السرّيّة والمناضلة، السياسيّة وغير السياسيّة- تخرج إلى الوجود، ثمّ تضمحلّ تحت ضغط النظام وتفنى، أو تصبح بلا فائدة، على الرغم من أنّه كان لبعضها دعمٌ سياسيٌّ دوليّ، من محاور الشرق والغرب[3] -خاصّةً المتّصلين بالشرق-، إذ كان يتمّ توجيههم ومساعدتهم من هناك. ولكنّ ثورة الإمام لم تكن تعتمد على التشكيلات الحزبيّة؛ لم يكن للإمام أيّ تشكُّلٍ حزبيّ في داخل الدولة، بل كان له عدد

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 29/10/1984م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/11/1984م.

[3] محور الشّرق والغرب هو مصطلح وُجد بعد الحرب العالميّة الثانية: المحور الغربيّ يعني أميركا والدول التي تتبع لها، ومحور الشرق يعني الاتّحاد السوفياتيّ والدول التي تتبع له.

 

66


58

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

من الطلّاب والأصدقاء والمطّلعين على فكره وعموم الناس. وحينما كان الإمام يوجّه رسائله عن طريق البيانات، لم يكن يخاطب أولئك الأصدقاء والمعارف الذين كانوا على علاقة به، بل كان يخاطب عموم الناس. لقد كان يتكلّم مع عموم الناس ويوجّههم، واستطاع خلال أربعة عشر عاماً -أو خمسة عشر- أن يعمّق من بعيدٍ جذورَ الفكر الإسلاميّ والنهضة الإسلاميّة في الأذهان. استطاع أيضاً أن يوسّعها على صعيد المجتمع، فيعلّق قلوب الشباب والأذهان والاعتقادات بها، لكي تتحضّر الأرضيّة لتلك الثورة العظيمة.

كان كثيرون في داخل البلد يقومون بأعمال عظيمة بإخلاص وتضحية، ولكن لو لم تكُن محوريّة الإمام موجودة، لم يكن ليتحقّق أيّ من هذه الأعمال، ولضاعت هذه الجهود كلّها، وأُرهق جميع هؤلاء الناس. لقد كان هو الشخص الذي لا يمكن أن يتعب، وكان الآخرون يتقوّون به ويستلهمون القوّة منه[1].

مطلب الحكومة الإسلاميّة

في عام 1969م، أسّس الإمام الخمينيّ في النجف مركز الفقاهة؛ فِكر «ولاية الفقيه» بالاعتماد على الركائز الفقهيّة المحكمة. ولاية الفقيه هي -بالطبع- من مسلّمات الفقه الشيعيّ. قد يقول بعض غير المحصّلين: لقد ابتدع الإمام الخمينيّ ولاية الفقيه، ولم يكن سائر العلماء موافقين عليها؛ هذا نابعٌ من عدم الاطّلاع. مَن هو محيطٌ بكلام الفقهاء يعلم أنّ قضيّة ولاية الفقيه من بين القضايا

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

 

67


59

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

الجليّة والواضحة في الفقه الشيعيّ. ما فعله الإمام الخمينيّ هو أنّه استطاع تدوين هذا الفكر نظراً للآفاق الجديدة والعظيمة التي يشهدها العالم المعاصر والسياسات الحاليّة والمدارس المعاصرة، وجعل هذا الفكر متجذّراً وثابتاً ومبرهناً وذا جودة، أي إنّه أظهره بشكل يجعل أيّ إنسان صاحب رأي في القضايا السياسيّة المعاصرة ومطّلع على المدارس السياسيّة المعاصرة قادراً على فهم هذا الفكر واستيعابه[1].

عندما طُرحت ولاية الفقيه -قضيّة الحكم الأساسيّة في الإسلام- بواسطة الإمام الخمينيّ بشكل استدلاليّ ومبنائيّ، عقد العلماء والمفسّرون والخبراء الإسلاميّون جلسات عديدة في مختلف أنحاء البلاد والحوزات العلميّة من أجل تفسير الأسس الإسلاميّة والقضايا الرئيسيّة المرتبطة بالمعرفة الإسلاميّة[2]، وتغيّر شكل المواجهة. لم يكن هناك اعتراض -حتّى ذلك اليوم- على أعمال الأجهزة الحاكمة والنظام البهلويّ، ولم يكن ليعترض أحدٌ على ظلمهم وجورهم وسيّئاتهم وغيرها من الأمور. منذ تلك اللحظة تغيّرت القضيّة بالنسبة إلى الخواصّ، وإلى دائرة أوسع بشكلٍ تدريجيّ. باتت القضيّةُ أنّ هؤلاء يحكمون هنا بلا مُبرّر، ويجب أن يتمّ تأسيس حُكم إسلاميّ في هذه البلاد[3].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

[2]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 01/02/1984م.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 01/05/1989م.

 

 

68


60

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

لقد جسّد الإمام الخمينيّ تجربةَ إدخال الإسلام في صلب الحياة العمليّة التي كانت تبدو مستحيلة وغير قابلة للتحقّق، وكذلك، الكلام الذي كنّا قد قرأناه في الكتب؛ صرّحنا بذلك مراراً في السابق. لكن كانت هناك تصوّرات تجعل بعضها أشبه بالخيال: سيادة الإسلام، قوّة الإسلام، عزّة الإسلام، حضور الإسلام في الساحات العالميّة كافّة، وتلك الدعوة العامّة المقتدرة التي تترافق مع شموخ الإسلام؛ لا الدعوة من موضع الضعف والموضع الفرديّ، بل الدعوة العامّة ضمن الأجواء الإنسانيّة. هذه القضايا التي قرأناها في التاريخ، وكنّا قد سمعناها وأنشد شعراؤنا فيها أبياتاً من الشعر:

«نحن الذين کنّا نأخذ الجزية من الملوك

ثمّ بعد ذلك أخذنا منهم الملك والتاج»[1]

كان مجرّد شِعر، لكنّ الإمام الخمينيّ حقّقه[2].

وجّه الإمام الخمينيّ الجليل فقه الشيعة -من المرحلة التي كان منفيّاً فيها- نحو الفقه الاجتماعيّ، والفقه الحكوميّ، والفقه الذي يسعى إلى إدارة نظام حياة الشعوب، وعليه أن يجيب عن أصغر وأكبر مسائل الشعوب[3].

كنتُ قد سألتُ إمامنا الخمينيّ العزيز -أعلى الله مقامه-: منذ أيّة مرحلة بدأتم التفكير بتأسيس حكومة إسلاميّة؟ وهل كانت

 

 


[1]  أديب الممالك الفراهانيّ، شِعر تهنئة بولادة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/06/2001م.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1997م.

 

69


61

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

لديكم نيّة لفعل ذلك قبل تلك المرحلة؟ أجابني سماحته: لست أذكر بدقّة تاريخ خطور قضيّة الحكومة [الإسلاميّة] في ذهني، لكنّني كنت -من البداية- أفكّر بتحديد تكليفي لكي أعمل به، وما حدث كان إرادة الله -عزّ وجلّ-.

لقد وضع الإمام الخمينيّ العزيز -بإيمانه وجهاده وإخلاصه وعمله الصالح- الحجر الأساس للحكومة الإسلاميّة في إيران، وأنزل الله -عزّ وجلّ- نصره عليه، فإله العالم أصدقُ القائلين إذ قال: ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا﴾[1]، «مَن کانَ لِلهِ کانَ اللهُ لَه»[2]، ﴿وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ﴾[3]؛ هذه الآيات والروايات تدلّ على الواقع والحقيقة[4].

لطف الله الخفيّ!

عقب قضيّة رحيل نجل الإمام الخمينيّ، تجلّى بُعدٌ آخر من أبعاد هذه الشخصيّة العظيمة. كثيرٌ من الناس عظماء وعلماء وشجعان، لكنّ أولئك الذين تمتدّ هذه العظَمة داخل عواطفهم، وفي زوايا وأعماق قلوبهم، ليسوا كثيرين. ذلك الرجل المسنّ الذي رحل ابنه عندما ناهز عمره الثمانين عاماً -في ذلك الزمان-، عندما

 

 


[1] سورة العنكبوت، الآية 69.

[2] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، مؤسسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط2، ج‏79، ص197.

[3] سورة الحجّ، الآية 40.

[4] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 12/07/1989م.

 

70


62

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

رحل ابنه الفاضل والمميّز عن الدنيا، نُقلت عنه جملة كانت: موت مصطفى من الألطاف الإلهيّة الخفيّة[1].

أحدثت وفاته حالة من الحزن العميق بين الناس، تحوّلت إلى مجالس غضب واعتراض ضدّ النظام.

بعد أن تلقّينا خبر وفاة السيّد مصطفى (رضوان الله تعالى عليه)، خطّطنا في مشهد لاتّخاذ المواقف اللازمة. ذهبت إلى مؤسّسة البريد والبرقيّات وكتبت 4 برقيّات تعزية[2]: الأولى باسمي، وأخرى باسم الشيخ الطبسيّ، والثالثة باسم السيّد محاميّ، والرابعة باسم السيّد هاشميّ نجاد.

عندما سلّمت البرقيّات إلى عامل البريد، استغرب، وذهب لكي يُريها لأصدقائه. انتشرت حالة من الهلع بين الموظّفين لأنّ نصّ برقيّات التعزية تضمّن عبارات تتسبّب بأزمة للنظام، لما ورد فيها من تكريم لشخصيّة الإمام الخمينيّ، والتضامن العميق مع الآلام التي كان سماحته يتحمّلها[3].

بدايةً، كان الحاجّ السيّد مصطفى شخصاً ورعاً جدّاً، لا يكترث بالمظاهر الدنيويّة والزخارف وأمثال هذه الأمور. الأشخاص الذين يتمتّعون -مثله- بشهرة معيّنة في الحوزة، عادةً، أو كان آباؤهم شخصيّات معيّنة، أو كانوا أبناء شخصيّات هامّة، كان حال لباسهم

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

[2] كان نصّ برقيّة السيّد الخامنئيّ فارسيّاً، لكنّه كان مكتوباً بالحروف الإنكليزيّة. لم يكن متاحاً في ذلك الزمان إرسال تلغراف باللغة الفارسيّة.

[3]  من كتاب «المنفى».

 

71


63

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

وزيّهم وحركاتهم ومنزلهم وأمثال هذه الأمور ذا خصوصيّة معيّنة تدلّ -بوضوح- أنّ هذا الشخص ابن شخصيّة هامّة.

فعندما كان [هذا الشخص الفلانيّ] يسير بين طلّاب الحوزة، يتّضح من طريقة جلوسه ونهوضه بأنّ هذا ابن شخصيّة مرموقة؛ لم يكن السيّد مصطفى كذلك على الإطلاق، لا في ثيابه، ولا في عباءته، ولا في حذائه، ولا في حياته الخاصّة، ولا في منزله. لم يكن ليُلاحَظ فيه أبداً أيّ نوع من أنواع التباهي وأمثال هذه الأمور. وفي بدايات زواجه -أظنّ في بدايات زواجه عندما لم أكن أنا في قمّ خلال تلك الفترة- كان الإمام الخمينيّ قد فصل من منزله باحةً صغيرة تبلغ حوالي أربعين أو خمسين متراً -ولا أعتقد أنّ المساحة كانت أكثر من ذلك- وحوّلها إلى غرفتين صغيرتين؛ هذا كان منزل الحاجّ السيّد مصطفى [الخمينيّ].

ثمّ بعد مدّة، عندما زاد ذهاب وإيّاب الإمام الخمينيّ خلال فترة النضال -وكان يستفيد من هذه الباحة الخارجيّة-، استأجر سماحة الإمام الخمينيّ منزلاً للسيّد مصطفى -أي إنّ السيّد مصطفى هو من استأجر- وكان منزلاً عاديّاً جدّاً. كانت حياته حياة محقّرة للغاية. لقد كان، باختياره هو، ورِعاً وعديم الاكتراث[1]. كان في صلب النضال، لكن من دون أيّ ادّعاء وتباهٍ.

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 12/10/1983م.

 

72


64

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

كان مُذهلاً أنّ شأنَ السيّد مصطفى في منزل الإمام الخمينيّ شأنُ أحد المتردّدين إلى هذا المنزل، وأحد الذين يتردّدون بشكلٍ طبيعيّ إلى هذا المنزل. لم يكن ليشعر أحدٌ بأنّه نجل الإمام؛ كان كالآخرين. حتّى أنّ مراجعته للإمام كانت ضمن الحدّ الذي يراجع به الآخرون سماحة الإمام الخمينيّ[1].

خصائص السيّد مصطفى دفعت النظام إلى سجنه. بقي فترة في السجن، ثمّ نفوه. ذهب بداية إلى الإمام الخمينيّ في تركيا، ثمّ رافقه إلى النجف، وبعد ذلك لم نلتقِ به. لكنّ بعض الأصدقاء الذين كانوا يأتون من النجف وخالطوه عن قرب، كانوا يقولون إنّ الخصائص الإيجابيّة كلّها، خاصّة ميزة الزهد، ترتقي وتتسامى لدى سماحته.

أن يكون المرء ابناً لشخصيّةِ العالم الإسلاميّ الأولى ويعيش بهذا الزهد، ويستلم شهريّة السادة [المراجع] في النجف، ويعيش بهذه الشهرية، فهذا على درجة عالية من الأهمّيّة. وقد كان الإمام الخمينيّ محبّاً له، ومتعلّقاً به بشدّة، فالصبر الذي أبرزه الإمام أمام هذه الحادثة جعل وجه سماحته المبارك يشعّ نوراً كالشمس الساطعة. كنت في مشهد عندما بلغنا الخبر؛ لم يكن بعض الأصدقاء ليصدّقوا ذلك لشدّة هول المصاب وعظمته[2].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 22/10/1979م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 29/09/1997م.

 

73


65

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

هذا الصبر الكبير أمام هذا الحدث العظيم هزّ الشعب، وجعل أمواج هذا المحيط تتلاطم. لقد كان هذا الحدث عظيماً بنفسه، لكنّ أسلوب تعامل هذا الأب أمام هذا الحدث جعله أكبر وأعظم بعشرات المرّات. لقد عرف الشعب -فجأةً- إمامه الخمينيّ، وخضعت الأرواح العظيمة والصلبة والعصيّة على الانحناء أمام هذه الروح التي تفوق تلك الأرواح عظَمة؛ فردّد الجميع عبارة «آمنّا وصدّقنا». لقد أثبت [سماحته] أنّه قائد ورجلٌ عظيم، أنّه إنسان ذو منزلة رفيعة. وبدأت الأحداث بعد ذلك[1].

شعر الشعب بأنّ عليه أن يُثبت وفاءه لهذا القائد، الذي -طوال 14 عاماً- كانت صوره، واسمه، ورسالة استفتاءاته، وأصحابه، وأفكاره وعقائده؛ تُعدّ كالبضائع المهرّبة في هذه البلاد. مَن كانت مناصرته أعظم جريمة، مَن شخّص الأعداءُ في العالم بواسطة تجربتهم والاستفادة من أجهزتهم الاستخباريّة بشكل صحيح أنّ عدوّهم الحقيقيّ والنهائيّ في إيران هو سماحته، ها قد ظهر في الميدان الآن. شعر الناس -فجأةً- بمسؤوليّة على عاتقهم في ما يخصّ الإعراب عن الحبّ والإخلاص لسماحته، ومناصرته. شعروا بالدوافع في ذواتهم، فانطلق الناس إلى التحرّكات، وبات النظام الجبّار يواجه حدثاً مفاجئاً غير محسوب؛ لم يكن يظنّ أنّ هذه الشهادة ستُحرّك الناس بهذا الشكل، لم تكن الأدمغة المفكّرة في السافاك والسي آي ايه تستطيع إدراك عمق القضيّة ورؤية جوانبها الروحانيّة والمعنويّة،

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 23/10/1979م.

 

74


66

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

لم يكونوا يظنّون بأنّهم سيواجهون بعد هذا الحدث ردود الفعل هذه كلّها[1].

قضيّة مراسم الأربعين وقيادة الإمام الخمينيّ

بعد رحيل السيّد مصطفى الخمينيّ، ظنّوا أنّه يجب العمل على إسقاط هذه الشخصيّة النورانيّة من أعين الناس، وكتبوا ذلك المقال[2].

أرادوا القيام بردّ فعل على سلوك الناس وتحرّكاتهم، فبدأوا بثّ الدعايات في الصحف، ووجّهوا إهانة للإمام الخمينيّ، وأهانوا السيّد مصطفى عبر دعاياتهم في الصحف[3]. وقد نجمت عن هذه الإهانة ردود فعل قاسية جدّاً -إذ انطلقت ردود الفعل هذه من مدينة قمّ[4]- فثارت قمّ، وثار الشعب؛ كان الشعب متلألأ في قمّ[5].

بالفعل، وبالمعنى الحقيقيّ للكلمة، بدأت تحرّكات الناس في الشوارع، وتواجدهم في الساحات، وثباتهم أمام قبضات النظام الحديديّة والقاسية. ملأ هؤلاء الشباب القمّيّون الشوارع، وسُفكت دماؤهم في الطرقات بعد أن أزعجوا رجال نظام الطاغوت كثيراً! فقد كانت حنكة وذكاء شباب قمّ تجعل رجال الأمن في حيرة شديدة[6].

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 23/10/1979م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 22/10/1979م.

[3] بأمر من الشاه تمّ إدراج مقال بنيّة توجيه الإهانة للإمام الخميني وعلماء الدين بواسطة أحد مستشاري البلاط وتحت اسم مستعار في جريدة اطلاعات بتاريخ 07/01/1978 تحت عنوان «إيران والاستعمار الأسود والأحمر».

[4] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 01/02/1984م.

[5] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 22/10/1979م.

[6] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 26/10/2010م.

 

75


67

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

في ذلك اليوم الذي تلقّينا فيه خبر حادثة 19 دي [90/30/1978م]، بعد تأخير يومين أو ثلاثة، كنت حينها في بلوشستان، في إيرانشهر[1].

لم تنشر الخبر وسائل الإعلام، ولم يكن السفر إلى تلك المناطق كالسفر إلى سائر المدن، فكان التردّد إليها محدوداً. عندما سمعت أنّ قمّ شهدت هذه الأحداث، تجلّى أمام عينيّ منعطف جديد. لم نشهد مثل هذه الأحداث طوال نهضتنا المستمرّة منذ 15 عاماً. شهدت هذه الفترة كلّ شي، من سجن ونفي وتعذيب ونضال سياسيّ ونضال سرّيّ وتجمّع من أجل إلقاء الخطابات والتصريح بالكلام الهامّ أو سماع الكلام الهامّ، ثمّ بعد ذلك تحمّل اعتداءات النظام؛ كنّا نعاني هذه الأمور كلّها. وما لم نشهده كان هذا الحدث الجديد الذي وقع، وتلك المشاركة الحتميّة والملموسة للناس في الشوارع[2].

ممارسات النظام العنيفة سرّعت عمليّة النضال، فاستشهد البعض في قمّ، وأقام أهالي مدينة تبريز مراسم أربعينهم؛ كانت مهيبة، وتنمّ عن مشاعر الاعتراض[3].

وبمناسبة أربعين شهداء تبريز، أقام أهالي مدينة يزد مراسم تأبين مهيبة اعترضوا فيها على النظام الحاكم، فقام النظام بردود فعل استشهد على إثرها عدد من أهالي المدينة.

 

 


[1] كان قائد الثورة الإسلاميّة الإمام الخامنئيّ منفيّاً في العامين 1977 و1978م. مدّة 285 يوماً في مدينتي إيرانشهر وجيرفت. وقد تمّ شرح أحداث فترة نفي سماحته في كتاب «المنفى».

[2]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 08/01/1987م.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 01/02/1984م.

 

76


68

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

انطلقت مراسم الأربعين، وتسارعت هذه الظاهرة. ثمّ بعد مرور أشهر عدّة، تشكّلت في المدن الكبيرة والصغيرة كافّة في إيران ثورات شعبيّة حاشدة على شكل مسيرات وجلسات وخطابات لاذعة وتوزيعٍ للبيانات في أنحاء البلاد كلّها[1].

وفي المراحل كلّها، كان الإمام الخمينيّ -في مختلف الأحداث- يقود الناس ويوجّههم إلى ما ينبغي عليهم فعله. وكانت هذه المرحلة الثانية والمفصليّة في النضال، إذ انتقلت المواجهة مرّة أخرى من شكلها الهادئ وطويل الأمد والجذريّ إلى مرحلة الحماس والغليان العامّ والمعارضة القويّة للنظام من الشعب[2].

«القائد» يعني الإنسان الرفيع والعظيم القادر على تحديد مستلزمات التاريخ الطبيعيّة في اللحظات المناسبة، وتشخيص حاجات الإنسان الطبيعيّة، وتشخيص الآلام، كما يفعل الطبيب، واقتراح وتحديد العلاج المناسب لها. «القائد» يعني ذلك الإنسان الرفيع الذي يتصرّف انطلاقاً من رؤيته ومعرفته، الذي يدرك ما تحتاجه كلّ مرحلة، وفي كلّ لحظة من لحظات التاريخ، أيّ عمل هو العمل الصالح. والإمام الخمينيّ كان قائداً بالفعل، وبما للكلمة من معنى. فقد قدّم للأمّة الدفع المناسب في كلّ لحظة مناسبة، ولبّى حاجات هذه الأمّة بالشكل المناسب.

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 01/02/1984م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 01/02/1984م.

 

77


69

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

القيادة ليست أمراً يُتّفق عليه بحيث يجلس بعضهم ويختارون شخصاً للقيادة. ففي أيّة قافلة، ذاك الذي يستيقظ قبل الجميع في الصباح ويوقظ الآخرين، ويعرف الطريق أكثر من الجميع، ولا يهاب الأخطار، ويتقدّم الجميع في السير، ويسارع قبل الجميع للحضور في الميدان، ويعود بعد الجميع في الليل، وينام بعد الجميع، ويفكّر بهموم الجميع، ويفتح لهم الطريق، ويوقظ النائمين، ويُشجّع أثناء السير أولئك المحبطين والمتأخّرين؛ يكون القائد، إن صرّحوا بذلك أو لا، إن سمّوه قائداً أو لم يفعلوا ذلك. القيادة أمرٌ طبيعيّ وقهريّ، وقد أثبت الإمام الخمينيّ قيادته بشكل عمليّ؛ لقد أثبت قيادته لجميع الأذهان[1].

أمّة وحده

بعد مدّة، بدأت قضيّة مهاجرة ذلك العظيم [الإمام الخمينيّ] إلى الكويت، ومن ثمّ إلى فرنسا[2]. تاه العدوّ؛ لم يعرف كيف خرج الإمام من النجف وذهب باتّجاه الكويت. احتاروا، وقالوا على الفور: لا تسمحوا له بالعبور، أرجِعوه. فأرجَعوه. كانوا يفكّرون في المكان الذي سيتّجه إليه: لا بدّ من أنّه سيذهب إلى ليبيا، أو لا بدّ من أنّ مقصده سوريا، إلى الشام، إلى جانب مرقد السيّدة زينب (عليها السلام)، لا بدّ من أنّه سيذهب إلى أماكن كهذه. فجأةً، رأوا أنّه ظهر في باريس، قلب المنطقة التي تدّعي الحرّيّة!


 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 22/10/1979م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

 

78


70

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

فرنسا أمّ الديمقراطيّة في أوروبا، وهي تتباهى بأنّها تحتوي الأفكار والآراء كلّها، وأنّ صحف اليمين واليسار كلّها تُباع في شوارعها بمنتهى الحرّيّة. فلماذا لا تتحمّل هذا الرجل العالم المناضل؟ لماذا يرسلون إليه -بعد أيّام عدّة من دخوله- أنّه لا يحقّ لك إجراء أيّ حوار؟ لقد فُضحوا من الخطوة الأولى[1].

قال الإمام الخمينيّ: إن لم يسمحوا لي بالإقامة في بلد ما، فسوف أسافر من مطار إلى مطار، وأبلّغ رسالتي إلى لعالم كلّه. تلك العظَمة، وتلك الشجاعة، وسعة الصدر، وتلك الاستقامة الفريدة، وقدرة القيادة الإلهيّة والنبويّة، تجلّت هنا مرّة أخرى. وقد كان هذا بُعداً جديداً من أبعاد شخصيّة ذلك الرجل العظيم[2].

لقد كان الإمام وحدَه بحجم أمّة ﴿إِنَّ إِبرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ﴾[3] كان أمّة بذاته؛ لقد وقف بعظَمة كشجرةٍ وحيدة في صحراء لا زرع فيها، تعصف فيها الأعاصير والعواصف الرمليّة، وتحرقها الشمس اللاهبة، فانتصر على العطش والقحط، وحوّلها إلى أراض خضراء وعطرة[4].

أحد الإخوة الأعزّاء، والذي كان في باريس في خدمة الإمام الخمينيّ، نقل إليّ: إنّ المراسلين سألوا الإمام: إلى أيّة درجة أنت مطمئنّ من تحقيق النصر؟ فأجابهم الإمام قائلاً: نحن منتصرون

 


[1]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 05/03/1980م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

[3] سورة النحل، الآية 120‏.

[4] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 22/08/1979م.

 

79


71

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

الآن. قال الإمام هذا عندما كان الشاه لا يزال يعقد الأمل على أنّ قوّات الكوماندوس الأميركيّ ستهاجم الناس وترتكب مجزرة بحقّهم، ولو قتلت مليون شخص! وقد كان ذلك محتملاً، فكان من الممكن أن يقوموا بذلك -كما أنّهم استعرضوا نموذجاً لذلك في 17 شهريور [80/90/8791م][1] -؛ في تلك الظروف، قال الإمام الخمينيّ: نحن منتصرون[2].

وصل بيان الإمام الخمينيّ المعروف قبل محرّم. وقد قال سماحته حول محرّم في ذلك البيان: «الشهر الذي انتصر فيه الدم على السيف».

عندما وصل ذلك البيان، وبتلك التعليمات التي كان سماحته قد أوردها فيه، والتي ستراق جرّاءها الدماء حتماً -شكِّلوا التجمّعات في المساجد، في الساحات، لا تعطوا التزاماً للأجهزة، لا تستسلموا لتعطيل مجالس العزاء-، شعرنا بأنّ علينا أن نسخّر قوانا كاملةً من أجل إحياء مضمون هذا البيان.

في مرحلتين، ربط الإمام الخمينيّ قضيّة النهضة بقضيّة عاشوراء: الأولى كانت خلال الفترة الأولى للنهضة، أي في أيّام محرّم عام 1963م عندما أصبح ذِكر شؤون النهضة رائجاً على المنابر في الحسينيّات وهيئات اللطم ومجالس قرّاء العزاء وذاكري المصائب المتديّنين،

 

 


[1] نموذج آخر من نماذج إبادة الناس حدث في يومي 30 و31 ديسمبر عام 1978م في مدينة مشهد. تمّ سرد أحداث هذين اليومين في رواية «السنونو» الخاصّة بالناشئة.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 24/01/1984م.

 

80


72

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

والأخرى كانت في الفترة الثانية للنهضة، أي في محرّم عام 1978م عندما قال الإمام الخمينيّ: فليتمّ إحياء وتعظيم شهر محرّم، وليُقِم الناس مجالس العزاء، وجعل سماحته عنوان هذا الشهر «شهر انتصار الدم على السيف». ثمّ انطلق الإعصار الشعبي العامّ مجدّداً؛ أي إنّ قضيّة النهضة والثورة كانت ذات روح وتوجّهات حسينيّة، وارتبطت بحادثة ذكر المصاب الحسينيّ، وذكرى الإمام الحسين (عليه السلام)[1].

بعد شهر محرّم، وخلاف آراء غالبيّة الذين كانوا يتطلّعون إلى القضيّة على أنّها أمر عاديّ، قرّر الإمام الخمينيّ أن يعود إلى إيران، فظهر سماحته في إيران، واحتدمت المواجهة[2].

القهوجيّ

خلال الأسابيع الأخيرة قبل انتصار الثورة الإسلاميّة تمّ تأسيس مجلس شورى الثورة الإسلامية. وكنت قد ذهبت إلى مشهد من أجل إحياء شهر محرّم، وطال الأمر قليلاً، طال أسابيع عدّة. كنت أودّ العودة في وقت مبكر، ولم أوفّق إلى ذلك. بعث سماحة الشيخ مطهّريّ إليّ رسالة بأن عليّ أن أعود فوراً إلى طهران، وقال إنّهم يحتاجونني من أجل عمل معيّن. وعندما تأخّرت أيّاماً عدّة، أرسل سماحته إليّ رسالة أخرى أكّد عليّ فيها أن آتي. وعندما جئت إلى

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/08/1989م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 05/03/1980م.

 

81


73

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

طهران، أخبروني أنّ الإمام أمر بأن أكون ضمن مجلس شورى الثورة الإسلاميّة[1].

أظنّ أنّني كنت أصغر شابّ في مجلس شورى الثورة الإسلاميّة، فقد كنت أبلغ من العمر 39 عاماً. طبعاً، انضمّ بعض الأشخاص في ما بعد، وكانوا أصغر منّي حينها، لكنّني كنت الأصغر من بين الذين كانوا أعضاء في مجلس شورى الثورة الإسلاميّة في البداية[2].

قبل عودة الإمام الخمينيّ (رضوان الله تعالى عليه)، كنّا قد اعتصمنا في جامعة طهران، وكان قد بقي على عودة الإمام ٤ أو ٥ أيّام. عقدنا اجتماعاً مع الأصدقاء الذين كانت غالبيّتهم من علماء الدين، قلنا: حسناً، سيعود الإمام الخمينيّ في غضون أيّام إلى طهران، سيتدفّق الناس ويتّجهون صوبنا، ولكلّ واحد منهم شأنٌ معيّن، قضيّة معيّنة، وكلامٌ معيّن. علينا أن نكون مستعدّين من الآن؛ لننظّم من الآن هيكليّة تُدير شؤون بيت الإمام، فيجب أن يتكفّل كلّ واحد بتحمّل مسؤوليّة معيّنة. وافق الجميع على أن نجتمع ونفكّر في هذه القضيّة، فعقدنا اجتماعاً.

قلت لهم: أنا أتكفّل بأن أكون القهوجيّ. ضحك الرفاق، وقالوا: هل تمزح؟ أجبتهم: لا، لست أمزح، على العكس. ولأنّني من محبّي الشاي وشاربيه بشكل مستمرّ، فلديّ القدرة على تحضير شايٍ مميّز. أنا سأكون القهوجيّ. قالوا: ليس الوقتُ الآن وقت مزاح.

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 30/04/1984م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/02/1999م.

 

82


74

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

أجبتهم: لست أمزح، أتحدّث بمنتهى الجديّة. بيت الإمام يحتاج قهوجيّاً، وأنا سأكون ذاك الشخص. هذا الكلام جعل جلستنا تتّخذ مساراً جيّداً. ثمّة بونٌ [شاسع] بين أن يجلس كلّ واحد منّا ويُعيّن هدفاً لنفسه، ويتناقش في من يكون رئيس هذا التنظيم؟ أنا أحدّث نفسي بأنّني الأنسب، وأنت تحدّث نفسك بأنّك الأنسب، سينتج عن ذلك نزاع واعتراض. لقد قمتُ في خِضَمّ هذا النزاع بترطيب الأجواء -كما يقول المصارعون الشعبيّون-، قلتُ إنّ عملي سيكون استلام مسؤوليّة القهوجيّ، فَلانَ الجميع، وأثمرت عن تلك الجلسة نتائج مميّزة[1].

من الناس، ومعتمدٌ على الناس

يوم دخول الإمام، كان الجميع مسرورين، وكانوا يضحكون. وقد كنت أنا أذرف الدموع جرّاء قلقي ممّا قد يصيب الإمام، فلم أكن أعلم ما قد يحلّ به، لأنّ التهديدات كانت موجودة.

ثمّ اتّجهنا صوب المطار ودخلنا إليه. دخل الإمام بتلك الحال. وبمجرّد أن ظهر السكون على وجه الإمام، زالت مخاوفنا، وانتهى قلقنا بشكل كامل، أي إنّ الإمام بطمأنينته منحني -وقد يكون منح كثيرين غيري- الهدوء والسكينة. عندما رأيت الإمام بعد سنوات مديدة، زال تعب هذه السنين فجأةً من جسدي. شعرت بأنّ تلك الآمال كلّها مجسّدة في وجود الإمام، وها قد تبلورت كلّها أمامنا

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 29/07/1993م.

 

83


75

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

بكلّ صلابة، واكتسبت وجوداً حقيقيّاً ينمّ عن الانتصار[1].

في الحقيقة، لقد تحقّق في حقّ أصحاب الإمام مع دخوله مفهوم آية ﴿فَإِذَا دَخَلتُمُوهُ فَإِنَّكُم غَٰلِبُونَ﴾[2]، التي قالها الله لأصحاب النبيّ موسى (عليه السلام). عندما دخل الإمام، سجّل الله -عزّ وجلّ- الغلبة، وانتهى الأمر[3].

كنتُ قد دخلت إلى مدرسة «رفاه» التي كانت تشكّل مركز الأعمال والاستعدادات المرتبطة باستقبال الإمام الخمينيّ. فجأةً، رأيت الإمام يأتي وحيداً من داخل أحد الأزقّة باتّجاه المبنى! كان ذلك لافتاً جدّاً وجذّاباً بالنسبة إليّ[4].

كنتُ بجانب النافذة، فتوجّهت نحو الغرفة، ودخلتُ القاعة لكي أرى الإمام عن قرب. دخل الإمام، وكان هناك عدد من الإخوة داخل القاعة أيضاً، ذهبوا إلى الإمام وتحلّقوا حوله لكي يقبّلوا يده.

كلّما هممتُ بالاقتراب لتقبيل يد الإمام، كنت أتنبّه إلى أنّني قد أتسبّب بالإزعاج لسماحته، ولو قليلاً. وعلى الرغم من ميلي الشديد إلى أن أتشرّف بتقبيل يد سماحته، وقفتُ إلى جانب الباب، ومرّ الإمام على بعد مترين مني[5]. بعد ليلتين، عندما كان سماحة الإمام الخمينيّ في مدرسة علويّ، أرسل في طلبي. طلب حضوري

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 14/01/1984م.

[2] سورة المائدة، الآية 23.

[3]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 31/01/1997م.

[4] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 03/02/1998م.

[5] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 14/01/1984م.

 

84


76

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

وسائر الإخوة الذين كنّا أعضاء في مجلس شورى الثورة الإسلاميّة. دخلت إلى الغرفة وقد كان الليل في بدايته، ورأيت الإمام جالساً خلف القرآن يتلو آيات منه. متى كان ذلك؟ بعد يومين أو ثلاثة من دخول الإمام [إلى إيران]، تلك الأيّام التي كانت الجموع تحتشد فيها في الأطراف، وكان كثيرون يراجعون الإمام ويأتون ويذهبون[1].

جاء إليّ سيّد من هؤلاء الذين يدّعون النضال والانحياز إلى الناس في اليوم الثاني من دخول الإمام [الخمينيّ] إلى مدرسة رفاه، وقد كنّا مشغولين في كلّ لحظة بعشرات الأمور. وسط هذا الازدحام، أخذ هذا الرجل بيدي، وقال: سيّدنا، أريد أن أزاحمكم مدّة عشر دقائق. كانت خلاصة كلامه الآتي: قل للإمام ألّا يشغل نفسه بالناس إلى هذا الحدّ، فهو مع الناس منذ الصباح حتّى الظهيرة، ويلوّح بيده للناس، ثمّ يستريح قليلاً، ويعود إلى الناس بعد الظهر، فتأتي النساء، فيلوّح بيده لهنّ أيضاً.

أجبته: ماذا تعني؟

قال: رجال السياسة هؤلاء كلّهم، وهؤلاء المفكّرين، أصحاب الأفكار النيّرة والعقول الناضجة، فليأتوا وليجلسوا مع الإمام، وليتشاور الإمام معهم لنرى ما ينبغي علينا فعله.

أجبته: لا يعتقد الإمام الخمينيّ كثيراً بهذه العقول المفكّرة التي تتحدّث عنها؛ لا يؤمن الإمام بهؤلاء[2]. لا يعتقد الإمام بهذه

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 29/01/1982م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 05/03/1980م.

 

85


77

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

الشخصيّات السياسيّة؛ لقد قال الإمام الخمينيّ «لا» لهؤلاء على مدى 15 عاماً. الإمام يرفض مبادئهم. الإمام من الناس، ويعتمد عليهم، وقد أنجز تكليفه بقوّة الشعب؛ لا يمكن فصله عن الشعب[1].

القوّات الجوّيّة

ذكرى 19 بهمن [80/02/9791م] كانت ذكرى مشرّفة، فقد قام شباب القوّات الجوّيّة -قوّات الشاه والضبّاط وأصحاب الرتب- في ذلك اليوم بعمل عاشورائيّ[2]. في ذلك اليوم، حمل شباب القوّات الجوّيّة بطاقاتهم في شارع إيران، واتّجهوا صوب بيت الإمام الخمينيّ -وقد كنت شاهداً وأرى ما يحدث- رأيت ما جرى قبل أن يدخلوا ويأتوا بتلك العريضة الموقّعة للإمام الخمينيّ ويقوموا بسائر الأمور التي قاموا بها، وذلك الاستعراض المهيب، هذه القضايا كلّها لم تكن بالأمر السهل. لعلّ استعراض القوّات الجوّيّة التي كانت تابعة للشاه كان سيؤدّي إلى استشهاد مئة شهيد! نعم، كان ذلك محتملاً؛ أن يفقد نصف الجمع -أو نسبة يُعتنى بها منهم- أرواحهم بسبب ما أقدموا عليه. لكنّهم لم يسمحوا للرعب بأن يتسلّل إلى قلوبهم، وفعلوا ما فعلوه.

كان هذا العمل خطوة رمزيّة وشكليّة أثبتت مشاركة القوّات،

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 22/10/1978م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 07/02/2006م.

 

86


78

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

وكان معناها أنّنا لا نريد الزيّ والعتاد والأوسمة والكوردون[1] وهذه المظاهر لنفسها، بل نريد هذه الأمور من أجل الحقيقة والهدف، ونحن مستعدّون لبذل أرواحنا من أجل ذاك الهدف. وقد أثبتوا ذلك بشكل عمليّ. ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱستَقَٰمُواْ﴾[2] لم يتزعزعوا في هذا الطريق[3].

إذا أردنا تلخيص مشاعرنا في ذلك اليوم، أستطيع القول إنّنا شعرنا بالنصر، أي إنّ الشعور السائد يومها كان: إنّ أعظم سدّ كان يُتصوّر أنّه سيُشكّل حائلاً أمام الثورة الإسلاميّة لم يعد موجوداً. كان التصوّر السائد أنّ الجيش سيُؤخّر انتصار الثورة بسفك الدماء؛ العدوّ كان يتصوّر ذلك، ونحن أيضاً كنّا نخشى ذلك. والسبب هو أنّه لم يكن يُتوقّع من الذين كانوا مهيمنين على الجيش غير هذا الأمر. عندما رأينا شباب الجيش الذين يمثّلون هيكليّة الجيش الحقيقيّة يقدّمون ذلك الاستعراض بذلك الشكل أمام الإمام الخمينيّ، ويعلنون بيعتهم له، ويطلقون الهتافات، ثمّ يرفعون رايتهم عالياً ويقدّمونها للإمام كي يوقّع عليها، شعرنا أنّ هذا السدّ والحائل لم يعد موجوداً[4].

 

 


[1] مجموعة من الخيوط ذات اللون الأصفر أو الأبيض، يضعها الضبّاط على أكتافهم ويغطّون بها صدورهم.

[2] سورة فصّلت، الآية 30. سورة الأحقاف، الآية 13.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 08/02/1995م.

[4] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 14/01/1984م.

 

87


79

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

صوت الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران

في يوم من الأيّام، كنت أتنقّل بسرعة بين ثلاثة مقرّات من أجل إنجاز عمل ما، وكنت مستعجلاً. أوقفني أحد الإخوة، وقال: أنتم منشغلون هنا بأعمالكم بينما العناصر الشيوعيّون توجّهوا إلى المصانع لكي يُجيّشوا العمّال، وهم يقومون بأعمال تخريبيّة.

سألته: في أيّ مكان تشعر بأنّ الوضع حسّاس أكثر من سائر الأمكنة؟

ذكر اسم أحد المصانع، وقال إنّ في هذا المصنع بعض الأشخاص. فقرّرت أن أذهب بنفسي لأستطلع الأوضاع. ذهبت إلى المصنع -كان عدد عمّاله 800، وقد أضيف إليهم 500 فتاة وشابّ شيوعيّ-، ورأيت أنّ الأوضاع على النحو ذاك، وبدأت بحلّ المشاكل، فانقضى يومي هناك؛ كان العاشر من شباط [1979م]. في الحادي عشر من شباط، وعندما كنت عائداً من ذلك المصنع، سمعت الإذاعة تقول: «صوت الثورة الإسلاميّة في إيران». ركنتُ السيّارة في مكان ما، وترجّلت منها، وهويت إلى الأرض ساجداً[1].

كان الإمام الخمينيّ يوصي دائماً -عندما كنت أتشرّف في البدايات بلقاء سماحته، أي منذ فترة الدراسة الحوزويّة في قمّ، ويقول: عندما يكون العمل لله وتكون نيّة الإنسان لله، فلا داعي حينها للقلق بشأن ما حدث وما لم يحدث.

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 31/01/1985م.

 

88


80

الفصل الأوّل: النهضة الإسلاميّة

حدث مرّات عديدة أن قال لنا قائد الثورة الإسلاميّة [الإمام الخمينيّ] حول هذه الثورة: عندما تسيرون من أجل الله لا تفكّروا هل انتصرتم أم لا؛ هذا كلام عجيب جدّاً، وهو كلام في غاية العظَمة. الناس جميعهم منشغلون بالسير في مسار ما، ويفكّرون بانتصار هذه التحرّكات، ثمّ يقول قائد هذه الثورة: فليكن همّكم رضى الله -عزّ وجلّ-؛ أنتم منتصرون إذا رضي عنكم الله -عزّ وجلّ- ، انتصرتم أم لم تنتصروا[1]. لقد قال سماحته مراراً أنّنا لا نعمل من أجل تحقيق «النتيجة»، بل إنّنا مأمورون بأداء «التكليف». لو افترضنا أنّ ما حصل بعد عودة الإمام من باريس حتّى اليوم لم يحصل، بل على العكس، قتلوا الناس وأعدموا أصحاب الإمام ونفوا الإمام -كما حصل في السابق-، لم يكن الإمام ليشعر بالهزيمة حينها أيضاً، وكان اعتقدَ بأنّه قد انتصر؛ من يعمل من أجل أداء التكليف، لا يكون انتصاره بتحقيقه مبتغاه، بل يشعر بالنصر عندما ينجح بأداء تكليفه.

«سيري نحو البادية أفضل من مجرّد الجلوس

فإن لم أبلغ مرادي أكون قد بذلت جهدي[2]»[3].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 27/01/1982م.

[2] الشاعر سعديّ الشيرازيّ.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 08/06/1989م.

 

89


81

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

كالرسل: قائد ورجل دولة، زاهد وعارف

بعد تأسيس النظام الإسلاميّ، كانت -برأيي- الأبعاد الوجوديّة المشهودة لدى الإمام [الخمينيّ] أهمّ بأضعاف وأعظم ممّا كان ملحوظاً في السابق. فأثناء هذه المدّة، كانت شخصيّة الإمام [الخمينيّ] البارزة والمميّزة مشهودة في بُعدين ووجهين. فأثناء مدّة الحكم، هناك وجه تتجلّى فيه صورة القائد ورجل الدولة، والوجه الآخر تتجلّى فيه صورة الزاهد والعارف. والإنسان يعجز عن العثور على نموذج يدمج بين هذين الوجهين في ما عدا [شخصيّة] أنبياء كداوود وسليمان ورسولنا الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله). هذه حقائق لمسها الشعب الإيرانيّ طوال هذه الأعوام المتمادية، وقد عاينّاها نحن أيضاً عن كثب، ورأيناها؛ هذه هي التربية الإسلاميّة والقرآنيّة. كان الإمام الخمينيّ يدعو إلى هذا الأمر، وكان يرغب في النظام الإسلاميّ من أجل تربية مثل هذه النوعيّة من البشر. كما أنّه، بحدّ ذاته، كان تجسيداً لأرقى مظاهر هذا الإنسان. لقد كانت تتجسّد فيه صورة الحاكم ورجل الدولة والقائد، وقد كان الإمام الجليل رجلاً ذكيّاً وشهماً ومدبّراً ومبتكراً وسخيّاً[1]. وكان -فعلاً- حكيماً إلهيّاً[2].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 01/09/1988م.

 

 

93


82

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

لم يكن النهج الذي كان يتبعه الإمام الخمينيّ وحده باعثاً على العمل الثقيل الذي نهض به ليُنجَز بالعقل والدراية والقوّة الجسديّة والطاقات السياسيّة، بل كان سماحته يتمتّع أيضاً بنقاء وصفاء باطنيّين، وعلاقة مع الله، استطاع بها تحقيق هذه النجاحات. وإن كانت خصائص الإمام [الخمينيّ] البشريّة أرقى رتبة من الأشخاص العاديّين، إلّا أنّ أحداً لا يظنّ أنّ هذه الثورة انتصرت واستمرّت بالحكمة والقوّة العقليّة وخصائص الإمام العاديّة والبشريّة فقط[1]. فقد كانت -في الدرجة الأولى- تنبع من إخلاصه؛ ﴿مُخلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ﴾[2]، فكان عمله خالصاً لوجهه فقط، ولم يكن يعمل لغيره. لذلك، لم يكن ليرضخ وإن وقف العالم كلّه في وجهه، وطالبه بأمر لا يُرضي الله -عزّ وجلّ-.

في الدرجة الثانية، كان متوكّلاً، وصاحب حُسنِ ظنّ بالله -جلّ وعلا-؛ لم يكن ينظر إلى أيّ عمل على أنّه خارج نطاق القدرة الإلهيّة. كانت الأعمال العظيمة، والخطوات العظيمة، وقلع الجبال الراسخة والجبال الراسيات سهلاً عليه، لأنّه كان معتقداً بأنّه متوكّل على الله، وأنّ الله يمدّه بالعون. ولأنّه كان متوكّلاً على الله، كان يتطلّع بحُسن ظنّ. لقد أنجز هذه الأعمال العظيمة كلّها بالتوكّل على الله -عزّ وجلّ-، وكان يعلم أنّه قادرٌ على إنجازها[3].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 18/09/1991م.

[2] سورة الأعراف، الآية 29. سورة يونس، الآية 22. سورة العنكبوت، الآية 65. سورة لقمان، الآية 32. سورة غافر، الآيتان 14 و65. سورة البيّنة، الآية 5.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 14/07/1989م.

 

94


83

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

كانت الإمام [الخمينيّ] رصيناً وصبوراً وحليماً، بحيث لم يكن ينطق كلمةً إن تحدّث مئة شخص في أحد المجالس بكلمات لا يقتنع بها، ما لم يرَ مصلحةً في ذلك؛ كان يلتزم الصمت. فيما لو تمّ طرح كلامٍ أمام الأشخاص العاديّين خلاف عقيدتهم، كان يعصف إعصارٌ بداخله يدفعه إلى الإجابة بسرعة.

وإذا وُجدت هذه الرصانة والصبر والحلم والسيطرة على النفس وسعة الصدر في أيّ شخص، فسوف تصنع منه إنساناً عظيماً. في الوقت نفسه، لو أنّ الإمام الخمينيّ لم يكن يملك تلك العناصر الأساسيّة، أي الروحانيّة والارتباط بالله -عزّ وجلّ-، والعمل من أجل رضاه، والتقوى، وأداء التكليف، لما انتصرت الثورة الإسلاميّة، ولم يكن ليعشقه الناس إلى هذا الحدّ، ولم يكن ليقدر على إطلاق هذا الإعصار في العالم، كما لم يكن ليستطيع الصمود كالجبل أمام تهديدات وتهويلات العدوّ[1].

سأل الإمام: هل تخشون أميركا؟

لم يكن أيّ حدث -مهما كان كبيراً- قادراً على هزم الإمام ودفعه إلى الخضوع أمامه. لقد كان الإمام [الخمينيّ] أعظم من الأحداث الصعبة والمريرة كلّها التي وقعت خلال مدّة عشر سنوات من قيادته، وقد كانت [تلك الأحداث] كثيرة جدّاً: تلك الحرب، والهجوم الأميركيّ، ومؤامرات الانقلاب، وتلك الاغتيالات العجيبة والغريبة، وذلك الحصار الاقتصاديّ، وتلك الخطوات الغريبة والعجيبة التي

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 18/09/1991م.

 

95


84

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

ثانياً، كان واضحاً أنّنا لم نكن نهابها. قلنا: لا.

أجبت بـ «لا»، وأجاب ذلك الأخ بـ «لا» أيضاً، ولستُ أذكر جواب الشخص الثالث. عندما قلنا، نحن الاثنان، إنّنا لا نخشى أميركا، قال [سماحته]: فلتحتفظوا بهم إذاً.

قلنا: سمعاً وطاعة. نهضنا وجئنا، وشاهدتم كيف سارت قضية الرهائن في العالم[1].

وعندما اندلعت الحرب المفروضة، تخيّلوا!

شعبٌ بهذا الدمار كلّه الذي خلّفته مرحلة حكم الشاه الظالمة، وهذه الحاجة كلّها إلى العمل والتجديد، يشنّ العدوّ هجومه فجأةً، ويعمل على القضاء على ما بقي لهذا الشعب! فقد عطّلوا سكّة الحديد، ومصافي النفط، وتصدير النفط، ومصانع الحديد.

حسناً، من الطبيعيّ أنّ أحداً لن يرضخ أمام خطوة كهذه[2].

في ذلك الوقت، كان الخبراء والمحلّلون والنخب جميعهم يصرّحون بشكلٍ حاسم أنّ صدّام منتصرٌ في هذه الحرب، وستُمنى إيران بالهزيمة، سوى قلّة مِن أولئك الذين كانوا يعتقدون بالرؤية الإسلاميّة والإيمانيّة -رؤية الإمام للأحداث-، فقد كان الأمل موجوداً في قلوبهم -بغضّ النظر عن كونه كبيراً أو صغيراً-؛ كان في قلوب بعضهم بصيص أمل، وبعضهم الآخر لا. كانت قلوبهم مشعّة بهذا الأمل.

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 14/08/1988م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 03/06/1996م.

 

97


85

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

لقد نقلتُ هذه الخاطرة مرّات عديدة: كان اليوم الثالث أو الرابع من الحرب، وكنّا مجتمعين جميعاً داخل غرفة العمليّات في هيئة الأركان. كنت حاضراً حينها، مُضافاً إلى مسؤولي البلاد ورئيس الجمهوريّة ورئيس الوزراء -في ذلك الحين، كان بني صدر رئيساً للجمهوريّة، وكان المرحوم رجائيّ رئيساً للوزراء- وعدد من نوّاب المجلس والعسكريّين وغيرهم. كنّا نتناقش ونتشاور. ثمّ جاء أحد القادة العسكريّين إليّ، وقال: الأصدقاء في الغرفة المحاذية يريدون التحدّث معك في أمر خاصّ.

ذهبتُ إليهم، كان المرحوم فكوريّ والمرحوم فلاحيّ هناك؛ أتذكّر هؤلاء. وكان هناك شخصان أو ثلاثة أشخاص آخرين. جلسنا، وقلت: ما الذي تودّون قوله؟

قالوا: انظر يا سيّدنا!

جلبوا ورقة، -ولا زلت أحتفظ بنفس الورقة إلى الآن بين الملاحظات، فهي بخطّ أولئك الإخوة الأعزّاء-: هذه هي طائراتنا؛ على سبيل المثال اف – 5، اف – 4، لست أعلم ماذا أيضاً، سي – 130، وماذا؟ وماذا؟ أنواع طائرات النقل والطائرات العسكريّة. كانوا قد كتبوا سبعة أو ثمانية أنواع. ثمّ كتبوا أنّنا نملك من هذه الطائرة عشر طائرات -على سبيل المثال- مستعدّة للخدمة، وتستطيع أن تكون قيد الخدمة في يومِ كذا. وهذه تحتاج إلى قطع للصيانة الفوريّة؛ في الطائرات قطع يجب أن يتمّ تغييرها بعد كلّ إقلاع أو بعد كلّ إقلاعين، وكانوا يقولون إنّنا لا نملك هذه القطع.

 

98

 

 


86

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

لقد نقلتُ هذه الخاطرة مرّات عديدة: كان اليوم الثالث أو الرابع من الحرب، وكنّا مجتمعين جميعاً داخل غرفة العمليّات في هيئة الأركان. كنت حاضراً حينها، مُضافاً إلى مسؤولي البلاد ورئيس الجمهوريّة ورئيس الوزراء -في ذلك الحين، كان بني صدر رئيساً للجمهوريّة، وكان المرحوم رجائيّ رئيساً للوزراء- وعدد من نوّاب المجلس والعسكريّين وغيرهم. كنّا نتناقش ونتشاور. ثمّ جاء أحد القادة العسكريّين إليّ، وقال: الأصدقاء في الغرفة المحاذية يريدون التحدّث معك في أمر خاصّ.

ذهبتُ إليهم، كان المرحوم فكوريّ والمرحوم فلاحيّ هناك؛ أتذكّر هؤلاء. وكان هناك شخصان أو ثلاثة أشخاص آخرين. جلسنا، وقلت: ما الذي تودّون قوله؟

قالوا: انظر يا سيّدنا!

جلبوا ورقة، -ولا زلت أحتفظ بنفس الورقة إلى الآن بين الملاحظات، فهي بخطّ أولئك الإخوة الأعزّاء-: هذه هي طائراتنا؛ على سبيل المثال اف – 5، اف – 4، لست أعلم ماذا أيضاً، سي – 130، وماذا؟ وماذا؟ أنواع طائرات النقل والطائرات العسكريّة. كانوا قد كتبوا سبعة أو ثمانية أنواع. ثمّ كتبوا أنّنا نملك من هذه الطائرة عشر طائرات -على سبيل المثال- مستعدّة للخدمة، وتستطيع أن تكون قيد الخدمة في يومِ كذا. وهذه تحتاج إلى قطع للصيانة الفوريّة؛ في الطائرات قطع يجب أن يتمّ تغييرها بعد كلّ إقلاع أو بعد كلّ إقلاعين، وكانوا يقولون إنّنا لا نملك هذه القطع.

 

99

 

 


87

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

يوماً -كحدٍّ أقصى-، ولن تخدم آخر طائراتنا، أي طائرة سي – 130، والتي هي طائرة نقلٍ إلّا ثلاثين أو ثلاثة وثلاثين يوماً. ثمّ لن تكون لدينا أيّة طائرة.

نظر إليّ الإمام [الخمينيّ] -وأنقل مضمون ما قاله سماحته، وقد أكون دوّنت دقيق عبارات سماحته في مكان ما- وقال: ما هذا الكلام؟! فلتقُل لهم أن يذهبوا ويحاربوا، والله يمدّهم بالعون ويُصلح أمورهم، ولن يحدث أيّ مكروه.

لم يكن كلام الإمام مُقنعاً بالنسبة إليّ -منطقيّاً- لأنّ الإمام لم يكن متخصّصاً في مجال الطائرات. لكنّني كنت أعتقد بحقّانية الإمام، والنور الذي يغمر قلبه، ودعم الله لسماحته. وكنت أعلم أنّ الله -عزّ وجلّ- اختار هذا الرجل من أجل عمل عظيم، ولن يدعه وحده؛ كنت أعتقد بهذا الأمر. لذلك، استعدتُ قوّة قلبي، وذهبتُ إلى أولئك -في اليوم نفسه أو غداته- لكي أخبرهم أنّ الإمام قال: إنّ عليكم إجراء عمليّات الصيانة بالقدر الذي تستطيعون، ولتبادروا إلى ذلك.

طائرات اف – 5 واف – 4 واف – 14 نفسها التي كان من المقرّر أن تتوقّف عن العمل بشكل كامل بعد خمسة أو ستّة أيّام، لا تزال تخدم اليوم في قوّاتنا الجوّيّة[1].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 27/07/2009م.

 

100


88

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

إذن الجبهة

كانت قد مرّت سبعة أو ثمانية أيّام على الحرب، وكانت الأخبار كلّها تأتي مُحبطة، ولم يكن بيدي حيلة -كانت وقتها مدّة رئاسة جمهوريّة بني صدر-. طبعاً، كنتُ في ذلك اليوم ممثّل الإمام الخمينيّ في المجلس الأعلى للدفاع، والناطق باسم المجلس الأعلى للدفاع أيضاً، لكن لم يكن بيدنا حيلة... ذهبتُ إلى الإمام الخمينيّ حاملاً هذه الهواجس كلّها، وقد كنتُ أحتمل -بشكل قويّ- أن يقول لا؛ كنت أودّ كسب الإذن لكي أذهب.

قلت إنّني سأذهب إلى الجبهة. طبعاً، لم أكن محيطاً بفنون الحرب، فأنا لم أشارك في خدمة العلم. ولعلّي في ذلك اليوم لم أكن قادراً على إطلاق رصاصة عاديّة بشكل صحيح أيضاً. قلت إنّني سأذهب إلى الإمام الخمينيّ وأطلب منه أن يُرسلني إلى هناك، فلعلّي -بوجودي وبأنفاسي وخطاباتي- أستطيع أن آخذ بعضهم إلى هناك وأقوم بشيء ما.

لم أكن أدري ما علينا فعله، فقد كان الإمام الخمينيّ يقول لنا دائماً: حافظوا على أنفسكم، ولتتّخذوا إجراءات الحيطة والحذر. كنت أحتمل احتمالاً قويّاً أن أذهب ويجيب الإمام [الخمينيّ] بلا[1].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 01/12/1988م.

 

101


89

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

أنتم تعلمون أنّه لم يكن هناك حدّ لخضوعي أمام الإمام [الخمينيّ]، أي إنّني كنت أعدّ الإمام –حقّاً- ممثّلاً لكلّ شيء بالنسبة إليّ. وكنت فعلاً أخجل في بعض الأحيان من أن أقول لسماحته أنّني تلميذك، بحيث لم أكن أرى نفسي في مستوى أن أكون تلميذ الإمام حتّى؛ كنت خاضعاً أمامه إلى هذا الحدّ. وأينما كانت لدى سماحته رؤية مغايرة لرؤيتي، كنت أرضخ لأمر سماحته، إن وجّه إليّ الأمر[1].

قصدتُ سماحته، وكنت قد قلت مسبقاً للسيّد الحاجّ أحمد [الخمينيّ] إنّني أنوي التقدّم بمثل هذا الطلب إلى الإمام، ورجوته أن يتحدّث إلى الإمام قبل قدومي، ويمهّد له بحيث لا يرفض. ذهبنا إلى هناك، كان عدد من القادة العسكريّين حاضرين، كنّا مع بعضنا البعض، وكان المرحوم شمران حاضراً أيضاً. بعد أن انتهى الجميع من حديثهم وهمّوا بالخروج، قلتُ للإمام: أرجوك أن تسمح لي بالذهاب إلى الأهواز أو دزفول، لعلّنا نستطيع فعل شيء.

أجابني على الفور: نعم، فلتذهب أنت أيضاً. شعرتُ بالسعادة لدرجة أنّني كدتُ أحلّق. كان المرحوم شمران جالساً هناك، قال: سيّدنا، فلتسمح لي أنا أيضاً بالذهاب.

أجابه الإمام: فلتذهب أنت أيضاً.

خرجنا، ولم أؤخّر الموضوع، قلت: دكتور [شمران]! فلننطلق الآن.

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 08/04/1997م.

 

102


90

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

قال: فلتصبر حتّى العصر، لديّ عدد من المعارف والأصدقاء.

ذهبتُ إلى المنزل، قلت لفريق حمايتي: في أمان الله!

كان لديّ خمسة أو ستّة مرافقين عيّنهم الحرس الثوريّ. قلت لهم: لا حاجة هناك إلى الحماية، فأنا ذاهب إلى ساحة المعركة. كانت الحماية ضروريّة في طهران، ولكنّ ساحة الحرب لا تحتاج مثل هذه الأمور!

ودّعتهم وانقلبَت أحوالهم. بكى بعضهم وانزعجوا، ثمّ قالوا لي: حسناً، سوف نرافقك، لكن ليس تحت عنوان فريق الحماية، نحن نرغب في الالتحاق بالجبهة.

أجبتهم: تعالوا.

انطلقنا عصر ذلك اليوم مع المرحوم شمران، ووصلنا في بدايات الليل إلى الأهواز. دخلتُ في صلب الأحداث على الفور، أي إنّني لم أؤخّر ذلك ليلةً واحدة. في الليلة الأولى، وفور وصولنا، تشكّلت جماعة صغيرة تحمل الآربي جي والأسلحة، مهمّتها أن تغزو صفوف الأعداء، وتُنفّذ ضدّه هجوماً ليليّاً، وتقوم بعمل ما. وأنا لم أكن أدري ما الذي عليّ فعله. أصبح شمران قائد هذه المجموعة لأنّه كان قد مارس العمل العسكريّ سابقاً، وهو محيطٌ بهذه الأمور. قلت للمرحوم شمران: هل آتي معكم أنا أيضاً؟

أجابني: ما الضير في ذلك؟

 

103

 

 


91

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

طلبت منهم أن يجلبوا لي ثياباً، فجاؤوني بثياب خدمة العلم العسكريّة؛ كانت المرّة الأولى التي أرتدي فيها بزّة عسكريّة[1].

كنت آتي كلّ أسبوع من أجل صلاة الجمعة في طهران، وزيارة الإمام الخمينيّ. قبل الظهر، بعد الظهر، في أيّة ساعة أصل فيها، كنت أذهب مباشرة إلى جماران، وأقدّم للإمام تقريراً حول الأحداث التي جرت. خاصّة في البدايات، حين كانت تغطّي الجبهات هالة من الإبهام، ولم يكونوا يسمحون بوصول الأخبار إلى الإمام بشكل صحيح. فكنت أرى أنّه من واجبي أن أذهب إلى الإمام، ثمّ أتفرّغ لأعمالي الأخرى. كنت أتّجه لإنجاز أعمالي فور خروجي من عند الإمام. في أحد الأيّام، عندما كنت في خدمة سماحته -وقد كنت أرتدي لباس الخدمة العسكريّة، فعندما أركب الطائرة لأعود إلى هنا، أو أستقلّ السيّارة أو القطار -أيّاً كان- كنتُ أرتدي الجبّة، وأعتمر العمامة، ويبقى هذا اللباس [الثياب العسكريّة] تحت الجبّة، فلم تكن لديّ ثياب أرتديها، وكنت أذهب بهذه الهيئة إلى الإمام[2]-، كنت واقفاً خلف الباب منشغلاً بفكّ أربطة جزمتي، والإمام [الخمينيّ] جالسٌ على كنبته ينظر إليّ من هناك. عندما دخلت، تطلّع سماحته إليّ بوجه مُشفق -وقد كنت آنس بذلك الوجه- وقال لي: في أحد الأيّام، كانوا يقولون لمن يرتدي ثيابك هذه إنّه مخالف للمروءة. أي إنّ سماحته كان مسروراً لأنّ طالب

 


[1]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 01/12/1988م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 26/04/1986م.

 

104


92

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

الحوزة بات يرتدي الثياب العسكريّة من دون أن يُنظر إلى ذلك على أنّه أمرٌ يُعارِض المروءة[1].

شعرتُ بأنّ سماحته مسرور. في البداية، كنت أشعر بنوع من الشكّ في قلبي؛ في المرّة الأولى التي خلعتُ فيها جبّتي وارتديت الثياب العسكريّة، كنت أفكّر: هل هذا العمل جيّد أم لا؟ ثمّ عندما رأيت أنّ سماحته ابتسم، وشملني بعنايته، أدركت أنه مسرور[2].

اذهبوا وابحثوا حتّى تعثروا عليها

ذهبت يوماً إلى الإمام [الخمينيّ]. قال لي سماحته: كم بندقيّة لدينا؟ كم بندقيّة فرديّة لدينا؟ فلتبحثوا في هذا الأمر، ثمّ أعلموني بالنتيجة.

جمعت الإخوة القادة جميعاً على الفور، وقلت لهم: إنّ الإمام طلب أن تحدّدوا عدد البنادق المتوفّرة لدينا.

فأجاب هؤلاء: سمعاً وطاعة!

فتمّ إبلاغ الجميع فوراً: القوّات البرّيّة، القوّات الجوّيّة، قوّات الشرطة، ثمّ أبلغوني بعددٍ ستضحكون مستغربين إن قلته لكم؛ أكان لدينا هذا العدد من البنادق فقط؟! وأنا حدّثتُ نفسي بهذا الأمر أيضاً، لأنّه -حسب تصوّري- كان هناك عدد كبير. كنّا لا نزال في أيّام الحرب الأولى، ولم تكن لدينا تجربة بخصوص السلاح والعتاد والجنود والحرب ومثل هذه الأمور.

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 08/05/1993م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/12/1991م.

 

105


93

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

ذهبتُ إلى الإمام الخمينيّ وقلت له: سيّدنا، هذا فهرس البنادق. لدينا هذا القدر في يد القوّات البرّيّة، وهذا القدر في يد القوّات الجوّيّة، وهذا القدر في المكان كذا.

قرأتُ الإحصائيّات للإمام. تأمّل الإمام [الخمينيّ] وألقى نظرة، وقال بلهجة الواثق جدّاً: لدينا أكثر بكثير من هذا العدد، لدينا أكثر بكثير.

استغربتُ كيف أنّ الإمام يقول بهذه الثقة أنّ لدينا أكثر بكثير من هذا العدد! ثمّ غيّر الإمام موضوع الحديث وقال: فلتعلم هذا الأمر؛ الأسلحة والعتاد المدّخر في هذا البلد تمّ تجهيزه سابقاً من أجل مواجهة قوّة مثل روسيا. لدينا أسلحة وعتاد أكثر من هذا العدد بكثير؛ اذهبوا واعثروا عليها.

ذهبنا وبحثنا بأنفسنا واكتشفنا أماكنها -أي بحثنا داخل البلد-. ذهبنا وتفقّدنا مختلف الأماكن، فعثرنا على أشياء لم يكن لدى القادة علم بوجودها[1].

يشهد الله أنّه لو لم يكن في الحرب شخص صلب يملك ثبات الإمام [الخمينيّ]، لكانت هذه البلاد خسرت محافظتين على الأقلّ. لم تكن هذه المرّة شبيهة بسابقاتها، بل كانت الأمور في منتهى الجدّ؛ كان هذا أمراً في منتهى الخطورة. حسناً، يكتبون أنّ الإمام قال بعد تحرير خرّمشهر: أوقفوا الحرب! هذه أكاذيب واتّهامات

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 07/09/1983م.

 

106


94

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

باطلة! لقد كنّا حاضرين هناك، نرى كلّ ما يحدث... متى قال الإمام أن أوقِفوا الحرب؟! فالإمام الخمينيّ في تلك المدّة نفسها التي أنهى فيها الحرب عام 1988م -كان ذلك بعد ذهاب المسؤولين إليه ومناقشته والتحدّث إليه وإصرارهم عليه- لم يكن مستعدّاً لإنهاء الحرب[1].

مواجهة الجبابرة الدوليّين

موافقة الإمام [الخمينيّ] على قرار وقف إطلاق النار جاءت بعد لائحة المشاكل التي وضعها المسؤولون عن الشؤون الاقتصاديّة أمام الإمام، وقالوا إنّ البلد لم يعد يتحمّل، ولا يستطيع أن يواصل حرباً بهذه التكاليف كلّها؛ أُجبر الإمام حينها على الموافقة على القرار. لم تكن الموافقة على القرار بسبب الخوف أو بسبب هجمات العدوّ، ولم تكن بسبب تهديد أميركا؛ لم تكن بسبب احتمال أن تتدخّل أميركا في هذه الحرب. لأنّ أميركا كانت تتدخّل قبل تلك المدّة في شؤون الحرب. ولو أنّ العالم كلّه تدخّل في هذه الحرب، لم يكن الإمام (رضوان الله تعالى عليه) شخصاً يتراجع؛ لم يكن ليتراجع!

كان ذلك شأناً داخليّاً، وكانت تلك قضيّة أخرى. طوال مدّة الحياة المباركة للإمام [الخمينيّ] (رضوان الله تعالى عليه) التي استمرّت عشرة أعوام بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، لم يحصل -ولو للحظة واحدة- أن يتردّد الإمام الخمينيّ في أيّ جانب من الجوانب بسبب ثقل تهديد العدوّ.

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/08/1996م.

 

107


95

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

أدرك جميع أعداء الثورة الإسلاميّة وجرّبوا -طوال مدّة العشرة أعوام هذه- أنّه يستحيل إخافة الإمام. هذه نعمة عظيمة جدّاً؛ أن يشعر العدوّ بأنّ شخصيّة كشخصيّة الإمام الخمينيّ لا تنسحب من الميدان بالتهويل والتهديد. لقد قام الإمام الخمينيّ، بسلوكه وبشخصيّته اللامعة، بما جعل العالم كلّه يُدرك هذه النقطة؛ ألّا يُمكن إخراج هذا الرجل من الميدان، ولا يُمكن تهديده، وليس ممكناً ثنيه عن مواصلة مساره عبر الضغط والتهديدات العمليّة[1].

كان الإمام [الخمينيّ] يقف بمنتهى الصراحة في الجبهة المعارِضة للجبابرة الدوليّين والمستكبرين. لم يكن يجامل أحداً، وهذا ما جعل الإمام في جبهة المظلومين في المواجهة مع الجبابرة والمستكبرين والقوى المتغطرسة حول العالم، وكان يُعلن عن ذلك بصراحة ومن دون أيّة تقيّة أو مجاملة. كان منحازاً إلى المظلومين حول العالم بشدّة، فلم يكن الإمام الخمينيّ ممّن يتصالح مع المستكبرين. ولقد كان تعبير «الشيطان الأكبر» في وصف أميركا إبداعاً كبيراً قام به الإمام الخمينيّ. والامتدادات المعرفية والعمليّة لتعبير «الشيطان الأكبر» كثيرة وكبيرة جداً. عندما تعتبرون شخصاً أو جهازاً معيّناً شيطاناً، فمن الواضح كيف يجب أن يكون سلوككم تجاهه، وكيف يجب أن تكون مشاعركم تجاهه؛ وقد كانت مشاعر الإمام الخمينيّ تجاه أميركا على هذا النحو حتّى اليوم الأخير؛ كان يستخدم هذا التعبير ويؤمن به من الأعماق.

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 03/06/1996م.

 

108


96

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

وفي المقابل، دعم الإمام الخمينيّ الجليلُ فلسطينَ على مدى هذه الأعوام الطويلة، ودافع عنها. دافع عن فلسطين وعن أفغانستان. يوم دخل الاتّحاد السوفياتيّ أفغانستان، ومع أنّنا كنّا نكابد الصعوبات جرّاء معاداة أميركا لنا، وعلى الرغم من أنّ الحكومات في مثل هذه الظروف -عندما تكون علاقتها سيّئة بطرف ما- تتصالح وتنسجم مع الطرف المقابل، اتّخذ الإمام الخمينيّ الجليل موقفاً حاسماً ضد الاتّحاد السوفياتيّ، وهو موقف لم تتّخذه حتّى بعض الحكومات ذات الميول الغربيّة. لكنّ الإمام الخمينيّ الجليل دعم شعب أفغانستان من دون لحاظ أيّة اعتبارات أخرى، ودعم الشعب اللبنانيّ، ودعم الفلسطينيّين بكل ودّ ومحبّة؛ هذا هو منطق الإمام الخمينيّ في مسألة مواجهة الاستكبار[1].

 

تجسيد للطف والعاطفة

ذلك الرجل الذي كان وجهه الصلب يُرعب أعداء الشعب الإيرانيّ ويهزّهم، ذلك السدّ المنيع والجبل الراسخ، كان في القضايا العاطفيّة والإنسانيّة[2] رحيماً وعطوفاً وصاحب قلب مغمور بالمحبّة والإنسانيّة[3].

كانت تلك الروح العظيمة، وذلك الجبل الراسخ يهتزّ ويرتعد أمام بعض الأعمال التي قد تبدو عاديّة للناس. أثناء الحرب، كان

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/2015م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 03/06/1996م.

 

 

109


97

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

تلامذة المدارس قد كسروا حصالاتهم في صلاة الجمعة في طهران، وأهدوا ما فيها من أموال لدعم الجبهات[1]؛ جاؤوا وكسروا حصّالاتهم أمامنا، وسكبوا أموالهم أمامنا -كان عدد الحصّالات كبيراً-، وقد عرض التلفاز هذه الصور[2]. تكوّن جبلٌ من الأموال، وقد تأثّر الإمام الخمينيّ في المشفى عند مشاهدته هذه المشاهد على التلفاز، وقال لي حين تشرّفت بزيارته: هل رأيت ما الذي فعله هؤلاء الأطفال؟!

في تلك اللحظة، رأيت أنّ سماحته يبكي، وأنّ عيناه اغرورقتا بالدموع.

مرّة أخرى رأيت فيها بكاء الإمام، عندما سردتُ له كلام والدة أحد الشهداء؛ كان لديّ خطاب في إحدى المدن، وبعد انتهاء الخطاب، ما إن هممتُ بركوب السيّارة حتّى رأيتُ سيّدة تقف خلف الإخوة في الحرس الثوريّ تتوجّه إليّ بالكلام. طلبت منهم أن يفسحوا لها الطريق لأسمع ما ترغب في قوله. تقدّمَت إليّ، وقالت: قولوا للإمام الخمينيّ نيابة عنّي إنّ ابني قد أُسر على يد العدوّ، ووصلني مؤخّراً نبأ استشهاده، قولوا للإمام: فداءً لك، فلتبقَ حيّاً. وأنا مستعدّة لتقديم سائر أبنائي ليستشهدوا في النهج الذي تسير عليه.

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 29/06/1989م.

[2]  من كلام له (دام ظله) بتاريخ 18/03/2001م.

 

110


98

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

عدتُ إلى طهران وتشرّفت بزيارة الإمام، لكن نسيت أن أنقل لسماحته هذه الرسالة. ثمّ بعد أن خرجت، تذكّرت توصية والدة الشهيد تلك، فعدتُ وتشرّفتُ مجدّداً بلقاء الإمام، ونقلتُ لسماحته ما قالته تلك السيّدة. رأيت وجه الإمام وقد تقطّب على الفور، وذرف الإمام الخمينيّ من الدموع قدراً جعل قلبي يعتصر بشدّة[1]. رأيتُ أنّ جبل الثبات والوقار والشموخ هذا قد انكفأ على نفسه؛ تأثّرت روح سماحته وجسده بكلام والدة الشهيد هذا، وأصبح شبيهاً بذاك الذي انكسر قلبه[2].

كان الإمام الخمينيّ حازماً، ولم يكن ليتزعزع، كان إنساناً يثبت على قراره. إلّا أنّه كان تجسيداً للعاطفةـ، وتجسيداً للطف، وتجسيداً للمحبّة، وتجسيداً للتعاطف والانغماس في حبّ الله -عزّ وجلّ- ومحبّة خلق الله، خاصّة الفئات المظلومة والمستضعفة في المجتمع[3].

إمام الأمّة

كان الإمام يثق بالناس. عندما انتصرت الثورة، كان الإمام الخمينيّ قادراً على أن يعلن أنّ نظامنا هو نظام جمهوريّة إسلاميّة من دون أن يطلب من الناس إبداء رأيهم، ولم يكن ليعترض أحد. لكنّه لم يقم بهذا الأمر، بل أطلق سماحته استفتاءً

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 08/06/1989م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/2015م.

 

111


99

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

حول أساس ونوعيّة النظام، وطلب من الناس الإعراب عن رأيهم، فأعلن الناس تأييدهم لنظام «الجمهوريّة الإسلاميّة»، وثُبّت هذا النظام.

وفي ما يخصّ تحديد الدستور، كان الإمام قادراً على أن يطرح دستوراً ما، وكانت غالبيّة الناس -وبأكثريّة قاطعة- ستقبل من دون شكّ. كان قادراً على تعيين بعض الأشخاص، ثمّ يقول: فليذهب هؤلاء ويدوّنوا الدستور، ولم يكن ليعترض أحد. لكنّ الإمام لم يفعل هذا الأمر، بل أسّس لانتخابات مجلس خبراء القيادة، وكان مستعجلاً أيضاً ليتمّ هذا الأمر في أسرع وقت ممكن. ففي الثورات حول العالم -والتي كان أغلبها انقلابات وليس ثورات-، الذين يستلمون زمام الأمور، ويكونون على رأسها، يُحدّدون فرصة سنة أو سنتين لأنفسهم، ويقولون إنّه يجب أن تمرّ هذه المدّة لكي نستعدّ لإجراء عمليّة انتخابات، لكنّهم غالباً ما يمدّدون هذه المدّة أيضاً. لكن في ما يخصّ الإمام الخمينيّ، لم يمرّ شهرين على انتصار الثورة حتّى أقام سماحته استفتاءً شعبيّاً على نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. وبعد شهر أو اثنين، أجريت انتخابات مجلس خبراء القيادة. وبعد أشهر عدّة، أقيمت انتخابات رئاسة الجمهوريّة. وبعدها بأشهر أقيمت انتخابات مجلس الشورى الإسلاميّ. أي إنّه في عام واحد -أي في العام 1980م- استفتى الإمام الخمينيّ 4 مرّات آراء الناس بخصوص مختلف القضايا: عن أساس النظام، ودستور النظام -إذ إنّه تمّ انتخاب خبراء تدوين

 

 

112

 

 


100

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

القانون في المرّة الأولى، ثمّ التصويت على الدستور نفسه-، وعن رئاسة الجمهوريّة، وفي ما يخصّ تشكيل مجلس الشورى الإسلاميّ[1].

تمّ تثبيت واقعِ أنّ الشخصيّات التي تجمع بين الإيمان والتضحية، والفكر السامي، والإرادة الحديديّة، ولا تُسخّر هذه الأمور من أجل خدمة مصالحها الشخصيّة، بل في سبيل المبادئ الإلهيّة ورِفعة الناس، تستطيع أن تُحرّك محيطاً بكامله، كما تفعل الأعاصير. ولا يستطيع أيّ نسيم أن يهزّ المحيط. قد يتمكّن مجرى طبيعيّ للهواء من جعل مياه إحدى المسابح تتلاطم، لكنّ إثارة أمواج المحيط وجعلِها تتلاطم تحتاج إعصاراً مدوّياً. كانت هذه العناصر كلّها متوفّرة في الإمام الخمينيّ لجعل أمواج الشعب والأمّة تتلاطم.

لقد اعتمد الإمام على تكتّل الناس هذا. في يوم من الأيّام، تشرفنا بلقاء الإمام الخمينيّ بعد أن ألقى سماحته خطابه. كنّا في الحقيقة قلقين من تحدّث الإمام مدّة طويلة بحماس واندفاع كبيرين. فقد كان سماحته قد تعافى للتوّ من مرض قلبيّ، وهذا ما كان يُقلق المرء، وهو أمر طبيعيّ؛ كلّ من يلتفت إلى هذه الأمور يقلق. قلنا لسماحته: إنّه من الجيّد أن تقلّلوا قليلاً من هذه الكلمات والخطابات. وإن كان لا بدّ من أن تلقوا خطاباً، فلتجتنبوا التحدّث مدّة طويلة على الأقلّ، ربع ساعة -على سبيل المثال-، لا أن تتحدّثوا ثلاثة أرباع الساعة أو ساعة -كما نُلاحظ مؤخّراً-. أجاب سماحته: إنّني أتحدّث بهدوء. ثمّ يقول: إنّني لا أستطيع عدم

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

 

113


101

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

الذهاب وإلقاء الخطاب عندما يحضر عدد من عامّة الناس إلى هنا. هذا هو الإيمان بالكتل الشعبيّة، واعلموا أنّه لو لم يكن هذا الإيمان بالكتل الشعبيّة موجوداً، لما انتصرت الثورة الإسلاميّة بهذه السرعة. وبسبب أنّ هذه البلاد شهدت ثورات عديدة، فقد كانت نسبة الكفاح والنضال مرتفعة. وأثناء هذه النهضات كلّها، انتصر مَن كان يعتمد على الناس. ومَن كان يعتمد على فئة معيّنة، قُمع. وإنّ ثورتنا كانت ثورة غير مستقرّة ومتزعزعة قبل أن تسري بين الكتل الشعبيّة، ولم يكن واضحاً ما إذا كانت ستنتصر... استمرار هذه الثورة سيكون مرهوناً بأن تكون راسخة في قلوب الكتل الشعبيّة[1].

زاهدٌ وعارف

لقد كان الإمام الخمينيّ -في الوجه الخاصّ بحياته الشخصيّة والخاصّة- إنساناً زاهداً وعارفاً ومنقطعاً عن الدنيا. طبعاً، المقصود هو الدنيا السيّئة. وقد كان سماحته يُعبّر عن الدنيا السيّئة بأنّها الشيء الذي بداخلكم. مظاهر الطبيعة هذه: الأرض والأشجار والسماء والاختراعات وأمثال هذه الأمور ليست ضمن الدنيا السيّئة؛ هذه نعم الله، وينبغي تطوير هذه الأمور. الدنيا السيّئة هي تلك الأنانيّة، وذلك الطمع، والشعور بالتعلّق داخل الإنسان. لقد كان الإمام الخمينيّ منقطعاً عن هذه الدنيا بشكل كامل[2].

قد يكون الإنسان جالساً بين الجدران الأربعة في منزله، ولا شأن

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 03/07/1980م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

 

114


102

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

الذهاب وإلقاء الخطاب عندما يحضر عدد من عامّة الناس إلى هنا. هذا هو الإيمان بالكتل الشعبيّة، واعلموا أنّه لو لم يكن هذا الإيمان بالكتل الشعبيّة موجوداً، لما انتصرت الثورة الإسلاميّة بهذه السرعة. وبسبب أنّ هذه البلاد شهدت ثورات عديدة، فقد كانت نسبة الكفاح والنضال مرتفعة. وأثناء هذه النهضات كلّها، انتصر مَن كان يعتمد على الناس. ومَن كان يعتمد على فئة معيّنة، قُمع. وإنّ ثورتنا كانت ثورة غير مستقرّة ومتزعزعة قبل أن تسري بين الكتل الشعبيّة، ولم يكن واضحاً ما إذا كانت ستنتصر... استمرار هذه الثورة سيكون مرهوناً بأن تكون راسخة في قلوب الكتل الشعبيّة[1].

زاهدٌ وعارف

لقد كان الإمام الخمينيّ -في الوجه الخاصّ بحياته الشخصيّة والخاصّة- إنساناً زاهداً وعارفاً ومنقطعاً عن الدنيا. طبعاً، المقصود هو الدنيا السيّئة. وقد كان سماحته يُعبّر عن الدنيا السيّئة بأنّها الشيء الذي بداخلكم. مظاهر الطبيعة هذه: الأرض والأشجار والسماء والاختراعات وأمثال هذه الأمور ليست ضمن الدنيا السيّئة؛ هذه نعم الله، وينبغي تطوير هذه الأمور. الدنيا السيّئة هي تلك الأنانيّة، وذلك الطمع، والشعور بالتعلّق داخل الإنسان. لقد كان الإمام الخمينيّ منقطعاً عن هذه الدنيا بشكل كامل[2].

قد يكون الإنسان جالساً بين الجدران الأربعة في منزله، ولا شأن

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 03/07/1980م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

 

114


103

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

له بهذه الدنيا، ولا شأن له بالناس، ولا يتعرّض للامتحان، لكنّه تقيّ. و[في حالة أخرى] قد يكون مثل الإمام الخمينيّ، بتلك العظَمة، وفي قمّة الشهرة العالميّة -إذ إنّ هذه الثورة كانت نتيجة لإرادته وحزمه-، ويتمتّع بهذه المحبّة من الناس المستعدّين لموافقته على أعماله كلّها، لكنّه ينتهج مسار الزهد والتقوى بهذا الشكل[1].

لقد لاحظتُ في حياة إمامنا الخمينيّ الجليل (رضوان الله تعالى عليه) أنّه عندما كان يُلقى إليه حِملٌ عظيم من دون سابق إنذار، كان يُقوّي نفسه بالارتباط والتواصل المعنويّ والقلبيّ؛ كان سماحته لا يلتقي بأحدٍ -عادةً- في شهر رمضان[2].

يشهد الله أنّني بعد كلّ شهر رمضان، كنت ألمس، عند زيارتي الإمام الخمينيّ، أنّ الإمام ارتقى أكثر من السابق في شهر رمضان هذا، وحلّق وابتعد عن المادّة أكثر من السابق[3]. كنت أرى بوضوح أنّ سماحته بات أكثر نورانيّة. وبسبب هذه النورانيّة، بقي سماحته صلباً وثابتاً كالجبل حتّى آخر لحظات عمره. سنّ العجز هو -عادةً- مرحلة الضعف والانحطاط الجسديّ والروحيّ لدى الإنسان، والشابّ قويٌّ من الناحية الروحيّة والجسديّة، إلّا أنّه ينبغي أن يربط هذين الأمرين بالله -عزّ وجلّ- كي لا يتزعزع شيء في داخله[4].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 31/05/2005م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/03/1992م.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 18/02/1991م.

[4] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 02/03/1992م.

 

115


104

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

كان من أصحاب الخلوات والعبادة والبكاء في منتصف الليل، ومن أصحاب التضرّع والدعاء والارتباط بالله -عزّ وجلّ-، ومن أهل العرفان والشعر والروحانيّة والأمور المعنويّة والمشاعر الجيّاشة[1].

سألتُ الإمام الخمينيَ مَرّة: أيّ الأدعية المعروفة يجعلك تشعر بِأُنس أكبر، أو أنّ سماحتك تعتقد به أكثر من سائر الأدعية؟

فقال بعد تأمّل: دعاء كميل والمناجاة الشعبانيّة.

عندما ترجعون إلى هذين الدعاءين، وعلى الرغم من أنّ سائر الأدعية -مثل «أبي حمزة الثمالي» أو «دعاء الإمام الحسين في يوم عرفة» أو الأدعية الكثيرة الأخرى- هي نوع من الارتباط بالله -عزّ وجلّ-، إلا أنّكم تلمسون في هذا الدعاء وهذه المناجاة حالة الاستغفار والإنابة والاستغاثة والتضرّع لله -عزّ وجلّ- بأسلوب عاشق. دعاء كميل هو أيضاً مناجاة مع الله -جلّ وعلا-، ويجسّد علاقة المحبّة والعشق بين العبد والمعبود، وهو الأمر الذي كان يجعل قلب إمامنا الجليل منيراً. [2]

كانت المعارف القرآنيّة حيّة في قلب الإمام الخمينيّ. كان الإمام يتلو القرآن كثيراً. وكان الأنس بالقرآن من بين الأعمال التي يقوم بها سماحته. عندما كنّا نزوره، كان القرآن بيده في العديد من الأحيان، وكان منشغلاً بالقراءة[3].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 01/03/1990م.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 24/05/2003م.

 

116


105

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

فليرحم الله السيّد الحاجّ أحمد [الخمينيّ] إذ كان يقول: في الأيّام الأخيرة، لم تكن المناديل الورقيّة تكفي لمسح دموع الإمام [الخمينيّ]!

كان السيّد أحمد [الخمينيّ] يقول لي هذا بشكل خاصّ؛ كان يقول: كنّا نجلب لسماحته منشفة لكي يجفّف بها دموع عينيه.

انسكاب دموع العجوز الذي يبلغ من العمر تسعين عاماً أصعب من انسكاب دموع شابّ يبلغ من العمر خمساً وعشرين أو ثلاثين سنة. كما أنّ أعمال ذلك العجوز كانت عجيبةً وشبيهة بأعمال الشباب، فقد كان ذرفه للدموع كذرف الشباب للدموع أيضاً[1].

هذه الأمور كلّها اكتسبها الإمام الخمينيّ من العمل، والتقيّد بالدين والتقوى، وإطاعة أوامر الله -عزّ وجلّ-. وكان سماحته أيضاً يصرّح بهذا المضمون في كلماته، فيقول: كلّ ما لدينا هو من الله؛ كان يعدّ كلّ شيء من الله، وكان مصهوراً في الإرادة الإلهيّة، ومنغمساً في الحكم الإلهيّ. لقد نصر اللهُ الثورة! الله هو من حرّر خرّمشهر! الله هو من ألّف بين قلوب الناس! كان ينظر إلى كلّ شيء من المنظار الإلهيّ، وكان عاملاً بالأحكام الإلهيّة. بالتالي، شرّع الله -عزّ وجلّ- أمامه أبواب رحمته[2].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 08/11/1995م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1999م.

 

117


106

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

نشكر الله أن عاصرْنا الإمام الخمينيّ

عندما زرنا الإمام [الخمينيّ] الجليل، وكان سماحته قد اجتاز امتحان الحكم الصعب ضمن أصعب المراحل، رأينا أنّ سماحته، مقارنةً مع القدوة الأساس، أقرب وأفضل الناس إلى تلك القدوة. لا أرغب في الادّعاء بأنّ إمامنا الخمينيّ كان كأمير المؤمنين (عليه السلام)، لا؛ لم يكن إمامنا يساوي ذرّة تراب من نعل ذلك العظيم. فآلاف الأشخاص مثل الإمام [الخمينيّ] ليسوا في مستوى يخوّلهم أن تتمّ مقارنتهم مع الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام). فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) يخاطب أصحابه قائلاً: «إِنَّكُم لا تَقدِرونَ عَلی ذلِك»[1]، أي إنّكم لا تستطيعون أن تتصرّفوا مثلي. لكن على الرغم من امتلاكه الخصائص البشريّة -عدا امتلاكه العصمة-، كنّا –للإنصاف- نرى إمامنا الجليل أقرب الناس إلى ذلك النموذج والقدوة؛ كان قريباً جدّاً، ويوحي بالشبه كثيراً. كان بالإمكان رؤية وجه تلك الشخصيّات العظيمة في سلوك وعمل هذا الرجل [الإمام الخمينيّ][2].

عندما تزورون منزل الإمام [الخمينيّ]، ذلك الإمام الذي يفضّله الناس على أنفسهم وأبنائهم ووجودهم، ترون أنّ حياته هي حياة الأناس العاديّين نفسها، أو حياة الذين يعيشون مستوى متدنيّاً

 

 


[1] الرضيّ، السيّد محمّد بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387هـ - 1967م، ط1، ص417، الرسالة 45: رسالته إلى عثمان بن حنیف.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 05/04/1999م.

 

118


107

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

من الحياة. سجّادته كسجّاداتهم، طعامه مثل طعامهم، ومشاكل عيشه هي كمشاكلهم، ويعيش الضائقة نفسها؛ إذا كان ينقص الناسَ النفطُ الأبيض، كنت تجد أنّ منزل الإمام أيضاً ينقصه هذا النفط -وهو متوفّر بكميّة قليلة-، وإذا كان الموفّر للناس من بعض البضائع والمستلزمات قليلاً، كان الإمام يعيش تلك الضائقة نفسها، وكان ذلك النقص ملموساً في منزله. كان في مرتبة واحدة مع أهله وشعبه؛ طبعاً، النموذج الأرقى والأبرز هي حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان يقول: «أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْش؟!»[1]. كانت حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) من حيث المأكل والملبس والمسكن في أدنى المستويات التي كان يعيشها الناس؛ وهذا الأمر خاصّ بأمير المؤمنين (عليه السلام)[2].

في لقاء مع الإمام الخمينيّ الجليل (رضوان الله تعالى عليه) قلت لسماحته: لو أنّنا بقينا نشكر الله -عزّ وجلّ- إلى الأبد على إرسالك في زماننا، لأنقصنا شكره على ذلك[3]. لو أننا لم نرَ هذا الإمام، ونقلوا لنا قصصاً حوله فيما بعد، لما استطعنا إدراك الأمور بشكل صحيح. لكنّنا رأينا الإمام عن قرب! قلت لسماحته يوماً: إنّنا لو سمعنا بهذه الخصائص، أو نقلوها لنا، لما كنّا قادرين على أن

 

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص418، الرسالة 45: رسالته إلى عثمان بن حنیف.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 28/10/1983م.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 05/11/2001م.

 

119


108

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

نتخيّلها بشكل صحيح. كم علينا أن نشكر الله على أنّنا نرى هذا النموذج الحيّ أمامنا؟ فلنتقرّب منه[1].

 

لقد أحيانا الإمام الخمينيّ

لقد كنّا أمواتاً، بالفعل، وأحيانا الإمام [الخمينيّ]. لقد كنّا تائهين، وهدانا هو. لقد كنّا غافلين عن مسؤوليّات الإنسان المسلم العظيمة، وأيقظنا هو، ودلّنا على الطريق، وأخذ بأيدينا وشجّعنا، وتقدّم الجميع في السير إلى الأمام.

نشكر الله على أنّنا صدّقنا كلامه بكلّ وجودنا، وسرنا خلفه ولم نتوقّف، ولم نتركه في منتصف الطريق[2].

نشكر الله على أنّه قد أرانا في حياة الإمام [الخمينيّ]، حين كانت قلوبنا جميعاً مستقرّة بوجوده -أي عندما كان الإمام، لم يكن المرء ليخشى أيّ شيء فعلاً-، الألوان والأصناف كلّها، لكي لا نتزعزع وننهار بعد الإمام، إذا ما واجهْنا أيّاً من أصناف التحديّات هذه، فنقول: ما الذي حلّ بنا؟ اُنظروا أيّ ضخّ إعلاميّ يُمارس ضدّنا! كلّما ارتفعت نسبة الضخّ الإعلاميّ، أراجع ذاكرتي ومذكّراتي في تلك المدّة، فأتعجّب! الضخّ الإعلاميّ الذي مورس حينها كان أضعاف الضخّ الإعلاميّ الحاليّ. وكلّما كنّا نسمع بانعقاد جلسة أو اجتماع هيئة من قادة الدول ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة، أراجع ذاكرتي ومذكّراتي، فأرى أنّ ما حدث في زمان الإمام كان أكبر وأسوء... إذا هوّلوا علينا

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 05/04/1999م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 10/07/1989م.

 

120


109

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

بالهجوم العسكريّ أو هدّدوا بأنّهم قد يأتون فجأة ويقصفون مكاناً ما، فسوف نتذكّر بأنّه «وهل قُصفنا قليلاً في زمن الإمام؟!»؛ هذه كلّها ألطاف الله -عزّ وجلّ-. فمع وجود ذلك السند العظيم والركن الركين، كان الإنسان مهما شعر بالضعف، قادراً على أن يلجأ إليه ويقوّي به ذاته؛ لقد أرسل الله -عزّ وجلّ- هذه الامتحانات كلّها إلينا -الواحد تلو الآخر- لكي نعلم أنّ هذه التصريحات لا تعدو كونها مجرّد تهويلات واستعراض للقوّة[1].

أثناء مدّة المسؤوليّة المتواصلة التي كُلّفتُ بها من الأيّام الأولى لانتصار الثورة، كنتُ أتذكّر -مرّات عديدة- جملة أمير المؤمنين (عليه السلام) التي يقول فيها: «إذَا احمَرَّ البَأسُ‏، اتَّقَينا بِرَسولِ‏ اللهِ‏»[2]، أي عندما كانت تصعب الأمور علينا في الحروب، وكنّا نشعر أنّنا ضعاف أمام الحدث، كنّا نلجأ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله). وعندما كنت أتذكّر جملة أمير المؤمنين (عليه السلام)، كنت أرى أنّ الأمر يصدق علينا أيضاً.

كان يحدث مراراً أن نجلس مع الإخوة المسؤولين، ونتبادل آراءنا وأفكارنا في مختلف القضايا، ونوكل إبلاغ المشكلة إلى إحدى المجموعات، ثمّ نذهب بها إلى الإمام الخمينيّ، فقد كان سماحته يحلّها برأيه السديد وإرادته القويّة وإيمانه وتوكّله الفريد من

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 24/11/1992م.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص520، الحكمة 266.

 

121


110

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

بالهجوم العسكريّ أو هدّدوا بأنّهم قد يأتون فجأة ويقصفون مكاناً ما، فسوف نتذكّر بأنّه «وهل قُصفنا قليلاً في زمن الإمام؟!»؛ هذه كلّها ألطاف الله -عزّ وجلّ-. فمع وجود ذلك السند العظيم والركن الركين، كان الإنسان مهما شعر بالضعف، قادراً على أن يلجأ إليه ويقوّي به ذاته؛ لقد أرسل الله -عزّ وجلّ- هذه الامتحانات كلّها إلينا -الواحد تلو الآخر- لكي نعلم أنّ هذه التصريحات لا تعدو كونها مجرّد تهويلات واستعراض للقوّة[1].

أثناء مدّة المسؤوليّة المتواصلة التي كُلّفتُ بها من الأيّام الأولى لانتصار الثورة، كنتُ أتذكّر -مرّات عديدة- جملة أمير المؤمنين (عليه السلام) التي يقول فيها: «إذَا احمَرَّ البَأسُ‏، اتَّقَينا بِرَسولِ‏ اللهِ‏»[2]، أي عندما كانت تصعب الأمور علينا في الحروب، وكنّا نشعر أنّنا ضعاف أمام الحدث، كنّا نلجأ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله). وعندما كنت أتذكّر جملة أمير المؤمنين (عليه السلام)، كنت أرى أنّ الأمر يصدق علينا أيضاً.

كان يحدث مراراً أن نجلس مع الإخوة المسؤولين، ونتبادل آراءنا وأفكارنا في مختلف القضايا، ونوكل إبلاغ المشكلة إلى إحدى المجموعات، ثمّ نذهب بها إلى الإمام الخمينيّ، فقد كان سماحته يحلّها برأيه السديد وإرادته القويّة وإيمانه وتوكّله الفريد من

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 24/11/1992م.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص520، الحكمة 266.

 

121


111

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

نوعه. يشهد الله أنّني، أثناء مدّة حياتي، لم أرَ ولم أسمع بأحد لديه هذا الحدّ من التوكّل وحسن الظنّ بالله؛ لقد كان يحلّ المشاكل ويفكّ العقد[1].

 

الإمام الخمينيّ حاضرٌ اليوم أيضاً

غداة تلك الليلة التي انتقل فيها الإمام [الخمينيّ] العزيز إلى جوار الرحمة الإلهيّة، تفاءلت بالقرآن الكريم عند السحر -وأنا في حال من الغليان والحيرة- فجاءت هذه الآية الشريفة من سورة الكهف: ﴿وَأَمَّا مَن ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلحُسنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُۥ مِن أَمرِنَا يُسرٗا﴾[2]. فحدّثتُ نفسي بأنّ المصداق الكامل لهذه الآية هو هذا الرجل الجليل؛ الإيمان والعمل الصالح وجزاء الحُسنى خيرُ مكافأة له[3].

لقد رحل «عبد الله الصالح»، وفقده الشعب الإيرانيّ. وكان من الطبيعيّ أن يُسلب الشعب الصبر، ويجزع، ويُصبح مضطرباً بذلك الشكل[4].

انتفاضته، نفيه، عودته، حياته المحفوفة بالبركات ورحيله عن الدنيا، هذه الأمور كلّها كانت لله -عزّ وجلّ-؛ حياة وممات هذا الرجل العظيم كانت لله[5].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 03/08/1989م.

[2] سورة الكهف، الآية 88.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 06/06/1989م.

[4] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 04/06/1990م.

[5] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 10/06/1989م.

 

122


112

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

هو حاضرٌ اليوم أيضاً. بكلامه، وبروحه، وباسمه وأنفاسه. وهل يُمكن ألّا يكون الإمام بيننا؟! هو حاضرٌ اليوم أيضاً، يسير بالبلاد قُدماً إلى الأمام؛ يد الإمام القويّة تساند هذه الثورة[1].

إحدى القضايا التي لا شكّ في أنّها ستؤثّر على مسار حياتنا، هي دعاء روح الإمام الخمينيّ الزكيّة[2]؛ لقد لمست حضوراً أكثر من عاديّ لروح الإمام الخمينيّ (رضوان الله تعالى عليه) الزكيّة. حسناً، لا شكّ في أنّ أرواح المؤمنين حاضرة، وأنّهم غير منفصلين عن قضايا مجتمعهم وبيئتهم. رأيي هو أنّ هذا الأمر يصدق على إمامنا الخمينيّ (رضوان الله تعالى عليه) أكثر، وبشكل أقوى[3].

نسأل الله أن ندرك قيمة هذه النعمة، ونتعامل معها على النحو الذي يليق بالنعم الإلهيّة العظيمة. نشكر الله أن منّ علينا بالإمام [الخمينيّ]، وزرع محبّته في قلوبنا، وجعل صورة الإمام وشخصيّته حلوة ووضّاءة في أعيننا، ووجّه قلوبنا في هذا الاتّجاه. هذه نعمة عظيمة منّ الله بها علينا؛ نشكر الله -عزّ وجلّ-[4].

نسأل الله أن يرفع درجات الإمام الخمينيّ الجليل يوماً بعد يوم، وأن يحشره مع أجداده وأوليائه الطاهرين، ومع الأنبياء وأئمّة الهدى (عليهم السلام). وأن يُثبّتنا على هذا النهج بتلك المعرفة، ويوفّقنا كي

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 05/03/1998م.

[2] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 25/05/1994م.

[3] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 22/05/1995م.

[4] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 29/05/1999م.

 

123


113

الفصل الثاني: النظام الإسلاميّ

لا نكون خجلين أمام الإمام، ونتمكّن من القول إنّنا قمنا بتكليفنا وتابعنا مسيرتك. أسأل الله ألّا نكون قد ضيّعنا جهود سماحته، وجهود هذا الشعب[1].

 

﴿وَسَلَٰمٌ عَلَيهِ يَومَ وُلِدَ وَيَومَ يَمُوتُ وَيَومَ يُبعَثُ حَيّٗا﴾[2].

 


[1] من كلام له (دام ظله) بتاريخ 24/05/2003م.

[2] سورة مریم، الآية 15.

 

124


114
العبد الصالح