الأنس بالقرآن الكريم

مجموعة مختارة من كلمات الإمام الخامنئيّ (دام ظله) حول القرآن الكريم


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2022-01

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


مقدّمة

مقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَمَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ؛ زِيَادَةٍ فِي هُدًى، أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى»[1].

اتّخذ القرآنُ الكريم مكانةً عظمى في قلوب المؤمنين منذ نزوله على قلب النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فقرؤوه ولازموه، وكانوا يعقدون المجالس للتدبّر بآياته المباركة، وليجذبوا به قلوبهم نحو الباري سبحانه وتعالى، ولْيَذّكّروا آيات الله في الدنيا والآخرة.

وإنّ الله -تعالى- أجزل ثواب من لازم هذا الكتاب الكريم، فقرأه ورتّله وحفظ آياته، واهتمّ بأموره وشؤونه، وعمل به وعلّمه؛ لما فيه من مكنونات علميّة وأخلاقيّة وتربويّة وغير ذلك، ممّا يُسهِم في تقويم حياة الفرد والمجتمع على جميع الأصعدة والميادين.

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (تحقيق صالح)، ص252.

 

 

8


1

مقدّمة

وقد نحا الإمام الخامنئيّ (دام ظله) منحىً متميّزاً بما يمثّله من موقعه العلميّ والقياديّ في الاهتمام بالقرآن الكريم، في حياته الشخصيّة وخطاباته وكتاباته، وتوجيه المعنيّين بالشأن الرسميّ والثقافيّ، ليعقدوا جلسات الأنس بالقرآن الكريم، ويبادروا إلى إنشاء المرافق التي تُعنى بشؤونه، حفظاً وتلاوة وتدبّراً وبحثاً وتحقيقاً.

قمنا في هذا الكتاب «الأنس بالقرآن الكريم» بجمع بعضٍ من توجيهات الإمام الخامنئيّ (دام ظله) وإرشاداته، في خصائص القرآن الكريم وآثاره والأنس به والتدبّر بآياته... نضعها بين يدي القارئ، عسى أن تكون دافعاً ومحفّزاً للاهتمام بكتاب الله العزيز والعمل به.

 

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

 

8

 


2

مدخل

مدخل

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، وبعد...

أيّها الأعزّاء، إنّ القرآن نور، وهو في الواقع يُنير القلب والروح. وإذا أنِستم بالقرآن، سوف ترون كيف تتنوّر قلوبكم وأرواحكم. فببركة القرآن، تنجلي الكثير من الظلمات والغشاوات عن قلب الإنسان وروحه. أليس هذا أفضل؟ ﴿يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ﴾[1]. يقول الله -تبارك وتعالى- في القرآن: ﴿ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ﴾[2]. ببركة القرآن، يخرج الإنسان من ظلمات الأوهام والأخطاء والزلّات والاشتباهات، إلى نور الهداية[3]. إنّ طريق الخلاص للشعوب الإسلاميّة كافّة، يتمثّل في التقرّب من الإسلام والقرآن. وإذا ما استطاعت أمّةٌ ما أن تحيا الأجواء القرآنيّة، وتتنعّم بالمعارف القرآنيّة عبر الأنس بالقرآن،

 


[1] سورة البقرة، الآية 257.

[2] سورة البقرة، الآية 257.

[3] من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة للدورة الحادية عشرة للمسابقات الدوليّة لحفظ القرآن الكريم وقراءته، بتاريخ 04/01/1992.

 

9


3

مدخل

مدخل

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، وبعد...

أيّها الأعزّاء، إنّ القرآن نور، وهو في الواقع يُنير القلب والروح. وإذا أنِستم بالقرآن، سوف ترون كيف تتنوّر قلوبكم وأرواحكم. فببركة القرآن، تنجلي الكثير من الظلمات والغشاوات عن قلب الإنسان وروحه. أليس هذا أفضل؟ ﴿يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ﴾[1]. يقول الله -تبارك وتعالى- في القرآن: ﴿ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ﴾[2]. ببركة القرآن، يخرج الإنسان من ظلمات الأوهام والأخطاء والزلّات والاشتباهات، إلى نور الهداية[3]. إنّ طريق الخلاص للشعوب الإسلاميّة كافّة، يتمثّل في التقرّب من الإسلام والقرآن. وإذا ما استطاعت أمّةٌ ما أن تحيا الأجواء القرآنيّة، وتتنعّم بالمعارف القرآنيّة عبر الأنس بالقرآن،

 


[1] سورة البقرة، الآية 257.

[2] سورة البقرة، الآية 257.

[3] من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة للدورة الحادية عشرة للمسابقات الدوليّة لحفظ القرآن الكريم وقراءته، بتاريخ 04/01/1992.

 

9


4

مدخل

ستستطيع التغلّب على مشكلاتها؛ المشكلة الكبرى التي يعاني منها المسلمون هي البُعد عن القرآن، ويكمن علاجها بالعودة إليه[1].

هذا الكتيّب، الأنس بالقرآن، تمّ تصنيفه موضوعيًّا من كلام سماحة الإمام الخامنئيّ (دام ظله) في القرآن الكريم، في مناسبات مختلفة، منذ استلامه القيادة في جمهوريّة إيران الإسلاميّة، حتّى تاريخ إصدار الكتيّب. أَوْلى الإمام الخامنئيّ منذ انتخابه بعد وفاة الإمام الخمينيّ (قدس سره)، اهتمامًا خاصًّا بالقرآن الكريم والبرامج والأنشطة القرآنيّة، سواءً التخصّصيّة منها أو العامّة، وقد بدا لافتًا في المناسبات كافّة التي يتطرّق فيها إلى كتاب الله، تركيزُه على «الأنس بالقرآن» الذي يُعَدّ في نظره بمنزلة «الجوّ المثاليّ» أو «التربة الخصبة» التي يستمدّ منها القارئ قوّتَه القرآنيّة، بدءًا من التلاوة والترتيل، وهي مقدّمة للمرحلة التالية، أي الفهم الظاهريّ، ثمّ التأمّل والتدبّر، وهذه بدورها مقدّمة للمرحلة الثالثة التي عنونها بـ«العمل بكتاب الله». يرى الإمام الخامنئيّ أهمّيّة التلازم بين الأنس القرآنيّ والمراحل الثلاث، بل مع صعود القارئ من التلاوة نحو التدبّر والعمل، يزداد أنسًا بالقرآن الكريم.

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة للمسابقات الدوليّة لحفظ القرآن الكريم وقراءته، بتاريخ 30/12/2000.

 

10


5

المبحث الأوّل: خصائص القرآن الكريم وآثاره

خصائص القرآن الكريم

إن القرآن بحر عميق شاسع لا نهاية له، بغضّ النظر عن المسافة التي تقطعونها، سواء على سطح القرآن أو في أعماقه، فلا يزال هناك إمكانيّة للسير والتقدُّم والحركة[1]. كلّما مضيتم به قُدُمًا، ازددتُم ظمأً ورغبةً، وازدادَت أفئدتكم نورانيّة[2]. هذا ما يقول عنه أمير المؤمنين الإمام عليّ(عليه السلام): «ظاهِرُهُ أَنِيقٌ، وَباطِنُهُ عَمِيقٌ»[3]. الأنيق بمعنى الجمال المذهل، الجمال الذي يحار المرء ويُدهَش عندما يراه ويواجهه. هكذا هو الجمال في القرآن[4].

أيّها الأعزّاء، إنّ القرآن نورٌ ينير الروح والقلب، فلو أنستم به، لرأيتم أنّ قلوبكم وأرواحكم منيرة[5]. «وهُوَ النُّورُ المُبينُ»[6] 

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن، بتاريخ 06/02/1992.

[2] من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة للمسابقات الدوليّة لحفظ القرآن الكريم وقراءته، بتاريخ 30/12/2000.

[3] الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد بن الحسن الموسوي، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387ه - 1967م، ط1، ص61.

[4] من كلام له (دام ظله) في محفل الأنس بـالقرآن، بتاريخ 06/05/2019.

[5] من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة للدورة الحادية عشرة للمسابقات الدوليّة لحفظ القرآن الكريم وقراءته، بتاريخ 04/01/1992.

[6] الطبرسيّ، الشيخ الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1415ه.ق - 1995م، ط1، ج1، ص44.

 

13


6

المبحث الأوّل: خصائص القرآن الكريم وآثاره

[حديث نبويّ]؛ ما هي خصوصيّة النور؟ النور يُنير الأجواء، ويُرشد الإنسان إلى الطريق، فيكتسب الإنسان به القدرة على الإبصار، ويكتسب البصيرة. إن لم يوجد النور، فلن تعمل العيون، ولن يكون هناك فائدة منها؛ لأنّها لن ترى شيئًا. إنَّ لنا عقلًا، ولدينا قدرات متنوّعة، ولدينا قدرة فكريّة، ولكن لولا النور، هذه [القدرات] لن يكون بإمكانها مساعدتنا. النور ضروريّ. هذا النور هو القرآن[1]، هو مشعل الإسلام ومشعل الهداية[2].

يريد القرآن من المسلمين أن يَخرجوا من غفلتهم ويكونوا منتبهين. ويقف في مقابل هذه الإرادة الإلهيّة والقرآنيّة إرادة سكارى القدرة وأسارى الشهوة. تُبيّن الآية القرآنيّة الشريفة في سورة «النساء»، إرادةَ الله بهذا النحو: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ﴾[3]؛ يعني يريد الله أن يهديكم ويدلّكم على سواء السبيل، ويُبصّركم ويوعّيكم. ويُبيّن -سبحانه-في الآية التي تلي الإرادة المقابلة: ﴿وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيۡلًا عَظِيما﴾[4]، فأتباع الشهوة يريدون أن تنحرفوا انحرافًا تامًّا. إنّ سكارى القوّة والشهوة غافلون، ويريدونكم أن تكونوا مثلهم في الغفلة والضياع. لذا، أصحاب القدرة والمستكبِرون في العالَم، الذين حازوا القوّة والشهوة والمنصب

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) في لقاء المشاركين في المسابقات القرآنيّة، بتاريخ 26/04/2018.

[2] من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن، بتاريخ 06/02/1992.

[3] سورة النساء، الآية 26.

[4] سورة النساء، الآية 27.

 

14


7

المبحث الأوّل: خصائص القرآن الكريم وآثاره

وكلّ أسباب الغفلة معًا، كلّما قابلوا أناسًا يقِظين مهتدين بالهداية الإلهيّة النورانيّة، أرادوهم مثلهم غافلين منحرفين عن الصراط القويم. لقد مَنَّ الله علينا -الشعب-وأيقظنا. نحن أيضًا، قبل ذلك كُنّا في سبات الغفلة، لا نهتدي طريقًا في ظلّ الأنظمة الطاغوتيّة والملكيّة اللامباركة. نحن أيضًا، كُنّا مُعْرِضِين عن الأخلاق الإسلاميّة، ومَنَّ الله علينا. أيقظَنا وأنارَ قلوبَنا[1].

أيّها الشباب الذين تسمعون هذا الحديث، اعلموا أنّ في القرآن حكمة ونورًا وشفاء، وأنّ الحكمة القرآنيّة تستطيع أن تحلّ جميع العقد التي تُنشئها الصراعات الموجودة في عالَم المادّة في قلب الإنسان وروحه، وهذه حقيقة. إنّها تفتح القلوب، وتشرح الصدر، وتبعث على الأمل، وتَهَب النور، وتولّد العقيدة الثابتة التي تسير بالإنسان نحو الصراط المستقيم؛ فعلينا تَلَقِّي القرآن والتمسُّك به[2]. إنّنا اليوم بحاجة إلى القرآن، نحتاج القرآن، سواء في حياتنا الشخصيّة أو الاجتماعيّة، أو في سياستنا أو سلوكنا الحكوميّ[3]؛ فالقرآن يمنحنا «المعنويّة»، ويمنحنا أيضًا المعرفة[4].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) في صحن القدس في الحرم الرضويّ، بتاريخ 11/06/2015.

[2] من كلام له (دام ظله) في لقاء الحكومة في إيران، بتاريخ 06/12/2005.

[3] من كلام له (دام ظله) في لقاء المشاركين بالمسابقات القرآنيّة، بتاريخ 26/04/2018.

[4] من كلام له (دام ظله) في لقاء المشاركين بالمسابقات القرآنيّة، بتاريخ 15/04/2019.

 

16


8

المبحث الأوّل: خصائص القرآن الكريم وآثاره

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وَمَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ؛ زِيَادَةٍ فِي هُدًى، أَوْ نُقْصَانٍ

 

17


9

المبحث الأوّل: خصائص القرآن الكريم وآثاره

مِنْ عَمًى»[1]. عندما تنهضون من جوار القرآن، هناك ما يكون قد أُضِيف إليكم، وذاك هو الهداية، وشيء قد أُنْقِص منكم، وذاك هو العمى والجهالة[2]. إنّ الجلوس مع القرآن والقيام عنه هو هكذا، وهذا بالطبع يحدث مع تدبُّره والاهتمام به. ينبغي قراءة القرآن بتوجُّه، ولنكنْ على علم أنّه ليس المطلوب محض تشكيل هذه الأصوات، لكن ينبغي قراءة القرآن مع التوجُّه والالتفات إلى المعاني والمقاصد القرآنيّة. إذا حدث هذا، سيجد المجتمع الإسلاميّ طريقه. ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ﴾[3]؛ يُخرِج الإنسان من ظلمات الخرافات، ومن ظلمات الضياع، من ظلمة الخوف والأوهام، إلى النور؛ نور الهداية، نور المعرفة، نور التقرّب إلى الله، نور الأنس بالخالق. هذه الخصوصيّات التي تظهر وتنشأ من الجلوس مع القرآن، والأنس به، وهذا ما نحتاج إليه. هذا ما تحتاج إليه الأمّة الإسلاميّة اليوم[4].

إحدى النقاط المهمّة في الأعمال البحثيّة القرآنيّة، هي أنّ الذي يُريد السير في طريق العمل القرآنيّ، عليه تهيئة قلبه لمواجهة الحقيقة القرآنيّة الخالصة؛ أي تطهير القلب. فإذا لم

 

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص252.

[2] من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة للدورة الثامنة للمسابقات الدوليّة لحفظ القرآن الكريم وقراءته، بتاريخ 06/02/1992.

[3] سورة البقرة، الآية 257.

[4] من كلام له (دام ظله) في جلسة الأنس بالقرآن الكريم، بتاريخ 29/06/2014.

 

18


10

المبحث الأوّل: خصائص القرآن الكريم وآثاره

يكن القلب طاهرًا، ولم يكن مستعدًّا لتقبُّل الحقّ والحقيقة من لسان القرآن، وإذا كان متعلّقًا بالأُسُس غير الإسلاميّة وغير الإلهيّة، فحين يتوجّه إلى القرآن، لن ينتفع منه شيئًا؛ هذا الذي يقوله القرآن: ﴿يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيراۚ﴾[1]. حسنًا، لماذا الإضلال بالقرآن؟ إنّ الهداية بالقرآن واضحة، ولكن لماذا الإضلال به؟ السبب هو هذا: ﴿وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَض فَزَادَتۡهُمۡ رِجۡسًا إِلَىٰ رِجۡسِهِمۡ﴾[2]، فالذين في قلوبهم مرضٌ حينما يقرؤون القرآن يزداد الرجس الذي داخلهم، تزيدهم الآية أو السورة القرآنيّة رجسًا. فما هو هذا الرجس؟ وما هذا المرض؟ ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَض﴾؛ إنّه من تلك الأمراض الأخلاقيّة نفسها. حينما نكون مصابين بالحسد والتكالب على الدنيا، وحينما تتغلّب علينا الشهوات وطلب السلطة، وحين تغلب علينا معاداة الحقّ وتجاهله وكتمانه، عندئذٍ لن ننتفع من القرآن، سوف نتلقّى من القرآن نقيض ما ينبغي أن يُعطينا إيّاه. يجب الاستعاذة بالله. ترون أنّ بعضهم يقرؤون أحيانًا آيات القرآن لضرب الإسلام ولإسقاط الجمهوريّة الإسلاميّة، وللقضاء على الفضائل التي وفّرَتْها لنا الجمهوريّة الإسلاميّة! ينبغي التقرّب إلى القرآن بطهارة؛ حتّى يؤثّر نور القرآن والذكر القرآنيّ في قلوبنا، فنستطيع الانتفاع منه إن شاء الله[3].

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 26.

[2] سورة التوبة، الآية 125.

[3] من كلام له (دام ظله) في لقاء جمع من سيّدات البلد الباحثات في القرآن، بتاريخ 20/10/2009.

 

19


11

المبحث الأوّل: خصائص القرآن الكريم وآثاره

آثار القرب من القرآن الكريم


الآثار الفرديّة

إنّ القرآن نور، وهو في الواقع يُنير القلب والروح. وإذا أنِستم بالقرآن، سوف ترون كيف تتنوّر قلوبكم وأرواحكم. فببركة القرآن، تنجلي الكثير من الظلمات والغشاوات عن قلب الإنسان وروحه. أليس هذا أفضل؟ ﴿يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ ﴾[1]. يقول الله –تبارك وتعالى– في القرآن: ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ ﴾[2]. فببركة القرآن، يخرج الإنسان من ظلمات الأوهام والأخطاء والزلّات والاشتباهات، إلى نور الهداية[3]. إذا أنس الشابّ المسلم مع القرآن، وأتاح لنفسه الفرصة للتدبّر فيه، فإنّ كثيرًا من شبهات الأعداء ستفقد تأثيرها[4].

أنتم، أيّها الشباب الأعزّاء، وكلّ الشباب الذين يسمعون هذا الكلام في أنحاء البلاد، اعلموا أنّ في القرآن الحكمة، وفيه النور،

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 257.

[2] سورة البقرة، الآية 257.

[3] من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة لمسابقات قراءة القرآن، بتاريخ 02/04/2016.

[4] من كلام له (دام ظله) في لقاء جمعًا من حفّاظ القرآن اليافعين والناشئة وقارئيه، بتاريخ 19/09/2001.

 

20


12

المبحث الأوّل: خصائص القرآن الكريم وآثاره

وفيه الشفاء. القرآن نبع لا ينتهي لأولئك الذين يسعون إلى نَيل المعرفة. لكن مضافًا إلى ذلك، القرآن قانون الحياة، فبجانب البعد المعرفيّ وكسب المعرفة، لدى القرآن تعليمات عمليّة للحياة؛ أي إنّه يبني بيئة الحياة، ويجعلها آمنة وسليمة ومريحة. ﴿يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ ﴾[1]. إنّه يدلّ الإنسان على طرق السلامة والأمان والطمأنينة في الحياة. على مرّ التاريخ، كان البشر ضحايا للقمع والتمييز والحرب وفقدان الأمن ودَوس القيم، ولا يزالون كذلك حتّى اليوم. الطريق لمعالجة ذلك هو القرآن. إذا عملنا بالقرآن، ستُحَلّ هذه المشكلات كلّها. في هذا الظاهر للقرآن، هناك الآلاف من قواعد الحياة. قال أمير المؤمنين: «إِنَّ الْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ‏، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ‏»[2]؛ أنيق يعني رائع وجميل. إنّ ظاهر القرآن رائع وجميل. لذوي النظرة الجماليّة، القرآن فريد من نوعه في جماله وروعته، لكنّ باطنه عميق[3].

إخوتـي، إنّ قراءة القرآن وتلاوته هي الخطوة الأولى، وليست الأخيرة. بدايةً، لا مناص من تعرُّف القرآن والاستئناس به، ثمّ نصْب مفاهيم القرآن أمام الأعين، سطورًا حاسمة ومتجسّدة لبرنامج الحياة، حتّى لا يجرّونا هنا وهناك. يجرّوننا يومًا نحو

 


[1] سورة المائدة، الآية 16.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص61.

[3] من كلام له (دام ظله) في جلسة الأنس بالقرآن الكريم، بتاريخ 25/04/2020.

 

22


13

المبحث الأوّل: خصائص القرآن الكريم وآثاره

الآثار الاجتماعيّة

إذا ما استطاعت أمّة ما أن تحيا الأجواء القرآنيّة وتتنعّم بالمعارف القرآنيّة عبر الأنس بالقرآن، فإنّها ستستطيع التغلّب على مشكلاتها. المشكلة الكبرى التي يعاني منها المسلمون، هي البُعد عن القرآن، ويكمن علاجها في العودة إليه[1].

فلتعلموا، أيّها الإخوة الأعزّاء، أنّ النظام الإسلاميّ والمجتمع الإسلاميّ يُظهران، عبر الأنس المتزايد بالقرآن، استحكامًا ومتانة داخليّة، وهذه المتانة هي التي تُمكّن المجتمعات في سُبُلها وحركتها المنشودة، وتمنحها القوّة في مواجهة التحدّيات. ينبغي الثبات من الداخل، ويأتي ذلك ببركة الأنس بالقرآن[2]. إن استطاعت هذه المحافل القرآنيّة أن تأخذ بقلوبنا إلى ما هو أبعد من الجوانب العقلانيّة -أي الجوانب العاطفيّة وعُلقة العشق والمحبّة بالقرآن- فإنّ المشكلات التي تقف في وجه المجتمع الإسلاميّ ستزول؛ هذا هو اعتقادنا[3].

إنّ طريق الخلاص للشعوب الإسلاميّة كافّة يتمثّل في التقرّب من الإسلام والقرآن، وهذا سبيل نجاة فلسطين أيضًا[4]. إذا أنسنا

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة للمسابقات الدوليّة لحفظ القرآن الكريم وقراءته، بتاريخ 30/12/2000.

[2] من كلام له (دام ظله) في لقاء القرّاء المشاركين في الدورة الحادية والثلاثين للمسابقات الدوليّة للقرآن الكريم، بتاريخ 03/06/2014.

[3] من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن، بتاريخ 21/07/2012.

[4] من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة للمسابقات الدوليّة لحفظ القرآن الكريم وقراءته، بتاريخ 30/12/2000.

 

23


14

المبحث الأوّل: خصائص القرآن الكريم وآثاره

بالقرآن، واقتربنا منه، واستطاعت مفاهيمه أن تؤثّر في قلوبنا، عندئذٍ، نستطيع أن نأمل ونتفاءل بأن تحظى الأمّة الإسلاميّة بالعزّة الموعودة من الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ﴾[1]. في تلك الحالة، سوف يمنّ الله -تعالى– على الأمّة الإسلاميّة بهذه العزّة. إذا أنسنا بالقرآن الكريم، ستكون هذه هي الآثار والبركات[2]. ففي ظلّ القرآن، يصير لمعرفتنا وبصيرتنا وشجاعتنا وإقدامنا معنى، ويحدث التوجُّه نحو الأهداف الصحيحة. يقول القرآن للمؤمنين: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ﴾[3]. أيُّ حياة هذه هي التي يدعونا إليها الله والرسول؟ بتعبير واحد: إنّها الحياة الإنسانيّة الكريمة[4].

إنّ مشكلات أيّ مجتمع تُحَلّ بالقرآن. المشكلات تُعالَج بالمعارف القرآنيّة. إنّ القرآن يُقدِّم طريقَ حلٍّ لأزمات الحياة البشريّة، هديّةً لبني آدم. هذا هو الوعد القرآنيّ، وقد أظهرت تجربة عصر الإسلام هذا الأمر. كلّما كُنّا أكثر قربًا من القرآن، وكلّما ازداد العمل به بيننا، سواء في أرواحنا أو في أعمالنا الجسمانيّة، وسواء أكان على مستوى أفرادنا أم مجتمعنا، نُصبح أكثر قربًا من السعادة ومن حَلِّ المشكلات والمعضلات.

 


[1]  سورة المنافقون، الآية 8.

[2]  من كلام له (دام ظله) في لقاء القرّاء المشاركين في الدورة الحادية والثلاثين للمسابقات الدوليّة للقرآن الكريم، بتاريخ 03/06/2014.

[3] سورة الأنفال، الآية 24.

[4]  من كلام له (دام ظله) في لقاء حشد كبير من أهالي بوشهر، بتاريخ 21/03/2013.

 

25


15

المبحث الأوّل: خصائص القرآن الكريم وآثاره

العزّة تكون في ظلّ القرآن، وكذلك الرفاهية والتقدّم المادّيّ والمعنويّ، والأخلاق الفاضلة، والقدرة والتغلّب على الأعداء، كلّها في ظلّ القرآن. لو أنّنا، الشعوبَ المسلمة، أدركنا هذه الحقائق جيّدًا، وسعينا للوصول إلى هذه الأهداف، يقينًا سوف ننال فوائد جمّة[1].

كلّما اقتربنا من القرآن، يتحقَّق أمران: الأوّل هو أنّنا نصبح أقوى، والثاني أنّ أعداءنا الدوليّين يتعبّؤون ضدّنا أكثر. حسنًا، فليكن. فكلّما اتّجهنا نحو القرآن واقتربنا منه، يزداد أعداء البشريّة حنقًا، ويبدؤون بتوجيه الاتّهامات والأكاذيب والشائعات والحصار الاقتصاديّ والضغوط السياسيّة، ويمارسون ضدّ شعبنا أنواع الخبث والمَلْعنة... مثلما تشاهدون ما يفعلون. لكن في المقابل، إنّ قدرتنا وقوّة تحمُّلنا وتأثيرنا كلّها تزداد يومًا بعد يوم، وسوف تتضاعف، كما ترون[2].

 

الآثار التربويّة ودور المرأة

إنّ مشاركتكُنّ في مجال العمل القرآنيّ سوف تُلهِم المجتمع النسائيّ في التوجّه نحو القرآن إن شاء الله. وإذا تحقّق الأنس بالقرآن لدى النساء، سيتمّ علاج الكثير من مشكلات المجتمع؛ لأنّ أفراد جيل المستقبل سيتربّون في أحضان النساء. والمرأة

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) في محفل الأنس بالقرآن، بتاريخ 21/07/2012.

[2]  من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن، بتاريخ 15/07/2010.

 

26


16

المبحث الأوّل: خصائص القرآن الكريم وآثاره

التي لديها المعرفة والأنس بالقرآن، والمتعلّمة مفاهيمه، يُمكنها أن تكون مؤثّرة جدًّا في تربية أبنائها. ونسأل الله، ببركة حركتكنّ وأنشطتكنّ العظيمة هذه، أن يغدو مجتمعنا في المستقبل مجتمعًا قرآنيًّا أكثر بكثير ممّا هو عليه اليوم[1]. إنّ السبب وراء تأكيد الإسلام، بهذا القدر، دورَ المرأة داخل الأسرة، هو أنّها لو التزمَت أسرتَها واعتنَت بها، وأَوْلَت تربيةَ أبنائها الأهمّيّة اللازمة، فكانت حاضرة معهم، وأرضعتهم وأنشأتهم في حضنها، وزوّدَتهم بالمؤونة الثقافيّة -القصص والأحكام والحكايات القرآنيّة والأحداث الملهمة- وغذَّتهم بها كلّما سنحَت الفرصة، كالأغذية الجسمانيّة، فإنّ أجيال ذلك المجتمع ستكون راشدة متسامية. هذا فنّ المرأة، وهو لا يتنافى مع الدرس والتدريس والعمل ودخول ميدان السياسة وأمثال هذه الأنشطة[2].

آثار البعد عن القرآن الكريم

إنّ ضَعْفنا، نحن الأمّةَ الإسلاميّة، وتخلُّفنا وضلالاتنا واضطراباتنا في قضايا الأخلاق والحياة، ذلك كلّه ناشئٌ من البعد عن القرآن[3]. فالانحرافات، وسوء الفهم، واليأس، وخيانات البشر بعضهم لبعض، وعداؤهم بعضهم لبعض، وإذلال الإنسان نفسه مقابل طواغيت العالم، وما إلى ذلك، كلّها ناجمة عن البعد عن

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في لقاء جمع من سيّدات البلد الباحثات في القرآن، بتاريخ 20/10/2009.

[2] من كلام له (دام ظله) في اجتماع نساء خوزستان، بتاريخ 10/03/1997.

[3]  من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن وحفظته وأساتذته، بتاريخ 02/08/2011.

 

27


17

المبحث الأوّل: خصائص القرآن الكريم وآثاره

القرآن[1]. ما معنى إلغاء القرآن من الحياة؟ يعني انقطاع العلاقة بين الشعوب الإسلاميّة والإسلام؛ لأنّ القرآن هو مشعل الإسلام ومشعل الهداية[2].

أَذكُر لكم أنّه لسنوات طويلة، كان هناك سعي إلى إيجاد مسافة فاصلة بين المعارف القرآنيّة وقلوب مجتمع المسلمين والأمّة الإسلاميّة، ولا يزال هذا السعي مستمرًّا إلى الآن. ففي يومنا هذا، وفي بعض الدول الإسلاميّة، إنّ رؤساء المسلمين في هذه الدول، ولمراعاة أعداء الإسلام، مستعدّون لإخراج فصل الجهاد من تعاليمهم الإسلاميّة، ومستعدّون لإخراج المعارف القرآنيّة وإبعادها من تعاليمهم العامّة في مدارسهم وبين شبابهم، إذا كانت تخدش مصالح الأعداء. اليوم يجري الأمر على هذا المنوال[3]. فالشعوب الإسلاميّة، بسبب حكومات الطواغيت، امتُصَّت دماؤها -مع أنّ القرآن الكريم قد حذّر مخاطَبيه من كلّ هؤلاء الطواغيت- لا دماؤها الاقتصاديّة أو ثرواتها الحيويّة ومناجمها وثرواتها الباطنيّة ونفطها وأمثال ذلك فحسب، بل روحيّة مقاومتها وصمودها، وطلبها العلوّ والعزّة في الدنيا أيضًا. لقد أدارت الشعوب الإسلاميّة ظهرها لثقافتها، وتقبّلت الثقافة المادّيّة، مع أنّنا في الظاهر كُنّا نقول: «لا إله إلا الله»، وكُنّا

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في لقاء المشاركين بالمسابقات القرآنيّة، بتاريخ 15/04/2019.

[2] من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن، بتاريخ 06/02/1992.

[3] من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن، بتاريخ 15/07/2010.

 

29


18

المبحث الأوّل: خصائص القرآن الكريم وآثاره

طوال الزمان مسلمين، لكنّ ثقافة الغرب وعلومه قد أثّرَت في قلوبنا وأبعدَتنا عن الحقائق. حينذاك، لم نفقد اقتصادنا وعزّتنا الدنيويّة فحسب، بل أخلاقنا ومعالمنا الأخلاقيّة. إذا كُنّا قد ابتُلِينا بالكسل والضعف والهوان، وإذا كُنّا قد خسرنا ألفة القلوب فيما بيننا، وحلَّ بيننا سوء الظنّ، كلّ ذلك بسبب الثقافة المعادية للإسلام والمخالفة له، التي جرى حشوها فينا وفرضها علينا[1]. إنّ بؤس المجتمعات الإسلاميّة يرجع إلى البعد عن القرآن وحقائقه ومعارفه. كلّ نقصٍ يعاني منه العالم الإسلاميّ هو بسبب الابتعاد عن المعارف الإلهيّة والمعارف القرآنيّة. فالقرآن كتاب الحكمة والعلم والحياة.

ما يُلاحَظ اليوم في عالَم الإسلام، أنّ أعداء الإسلام يواجهون الإسلام باسم الإسلام، وبلباس الإسلام. هذا التعبير نفسه الذي أَطلَقَه إمامُنا العظيم (رضي الله عنه): الإسلام الأمريكيّ قبالة الإسلام المحمّديّ الأصيل. الإسلام الأمريكيّ إسلامٌ ينسجم مع الطاغوت، ومع الصهيونيّة، وقد ظهر لخدمة أهداف أمريكا، فظاهره الإسلام واسمه الإسلام أيضًا[2]. لكن إذا أَنِسَت الأمّة الإسلاميّة بمعارف القرآن، ورفعَت من مستوى معرفتها، سوف يقلّ هذا النوع من الحوادث. إنّ اتّصال القلوب وارتباطها بالله

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن وحفظته وأساتذته، بتاريخ 02/08/2011.

[2]  من كلام له (دام ظله) في لقاء القرّاء المشاركين في الدورة الواحدة والثلاثين للمسابقات الدوليّة للقرآن الكريم، بتاريخ 03/06/2014.

 

30


19

المبحث الأوّل: خصائص القرآن الكريم وآثاره

 -تعالى– يمنع هذه القلوب من أن ترتكب الخيانة في طريق الله، وهذا ما نأمل أن يظهر ويحدث[1]. ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ ﴾[2]. [لذلك] يجب فهم القرآن. نحن بعيدون عن القرآن، والعدوّ يستغلّ حاليًّا هذا البعد. يومًا بعد يوم، يضخّ العدوّ التجرّد عن الإيمان، ويروّج اللامبالاة بيننا، ويشيع التبعيّة له. انظروا إلى الحكومات الإسلاميّة، انظروا إلى البلدان الإسلاميّة، انظروا لتروا كيف وضعها مقابل أمريكا، ومقابل الصهيونيّة والأعداء، مقابل الناهبين المتسلّطين! هذا كلّه بسبب البعد عن القرآن[3].

 

لاحِظوا تخلُّف البلدان الإسلاميّة، ولاحِظوا تسلُّط الكفّار على كثير منها. أنْ يقف الرئيس الأمريكيّ هناك ويقول بكلّ وقاحة: لولانا لن تستطيع هذه البلدان العربيّة أن تحافظ على نفسها حتّى لأسبوع واحد! فهذا إذلال للمسلمين. والسبب في ذلك يعود إلى أنّ هذا مرضٌ، فمرض الذلّة أسوأ من الأمراض كلّها. هذه ذلّة، وسببها تجنُّب التمسّك بالقرآن، ولأنّنا فقدنا هذا الشفاء وهذا

 


[1] من كلام له (دام ظله) في لقاء القرّاء المشاركين في الدورة الواحدة والثلاثين للمسابقات الدوليّة للقرآن الكريم، بتاريخ 03/06/2014.

[2]  سورة البقرة، الآية 257.

[3] من كلام له (دام ظله) في لقاء المشاركين بالمسابقات القرآنيّة، بتاريخ 27/04/2017.

 

31


20

المبحث الأوّل: خصائص القرآن الكريم وآثاره

العلاج. «عِصمَةٌ لِمَن تَمَسَّك بِهِ، ونَجاةٌ لِمَن تَبِعَه»[1]، هذا واقع، هذا هو القرآن[2].

 

 


[1]  الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق ونشر - مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) إيران - قم، 1414هـ، ط2، ج27، ص33.

[2]  من كلام له (دام ظله) في لقاء المشاركين بالمسابقات القرآنيّة، بتاريخ 26/04/2018.

 

32


21

المبحث الأوّل: خصائص القرآن الكريم وآثاره

[إنّ] في مضامين آيات سور«آل عمران» و«البقرة» و«الأنبياء» و«الأحزاب»، مطالب تُعَدّ اليوم علاجًا لآلام العالَم الإسلاميّ ونقاط ضعفه، وهي التي تُعمِّق إيمان الإنسان وترسّخه، وتجعل معرفته نيّرة واعية، وتُطلق طاقات الإنسان الحيويّة في الميدان وتُفعّلها. إنّ مجتمعًا له هذه الخصائص، سوف يتقدّم إلى الأمام وترتفع معنويّاته. وحينما ترتفع معنويّات المجتمع، لن يستطيع العدوّ فرض شيء عليه بالقوّة. حينما يريد جبابرة العالَم إخضاع فرد أو جماعة أو شعب، فإنّ خطوتهم الأولى هي تحطيم معنويّات ذلك الفرد أو المجتمع، والقضاء على مشاعر القدرة والصمود لديه. فما دام هناك شعور بالقوّة والقدرة والمعنويّات العالية لدى شعب أو جماعة، لن يستطيع أحد التغلّب عليها، لا الأعداء الخارجيّون، ولا الأعداء الداخليّون: الكسل والبطالة والعطالة. هذا الذي جاء في الرواية: «وَرَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَوَضَعَ دَوَاءَ الْقُرْآنِ عَلَى دَاءِ قَلْبِهِ‏»[1]، إنّما هو من أجل ألّا يقرأ الناس القرآن لكسب الشهرة والمنصب، أو لإشغال أنفسهم فحسب، بل يقرؤونه لأنّ فيه العلاج الأساسيّ. لنضع دواء القرآن على أوجاع أرواحنا ووجودنا وباطننا، ولنشفِ هذه الأوجاع به. هذا يستدعي أن تكون الأجواء قرآنيّة[2].


 


[1] الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج2، ص628.

[2] من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن، بتاريخ 28/10/2003.

 

33


22

المبحث الأوّل: خصائص القرآن الكريم وآثاره

إن كلّ نقص يعاني منه العالم الإسلاميّ هو بسبب الابتعاد عن المعارف الإلهيّة والمعارف القرآنيّة. إنّ ضعفنا، نحن الأمّةَ الإسلاميّة، وتخلُّفنا وضلالاتنا واضطراباتنا في قضايا الأخلاق والحياة، ذلك كلّه ناشئٌ من البعد عن القرآن[1]. انظروا إلى الحكومات الإسلاميّة، انظروا إلى البلدان الإسلاميّة، انظروا لتروا كيف وضعها مقابل أمريكا، ومقابل الصهيونيّة والأعداء، مقابل الناهبين المتسلّطين! هذا كلّه بسبب البعد عن القرآن[2].

إنّ الانحرافات، وسوء الفهم، واليأس، وخيانات البشر بعضهم لبعض، وعداءهم بعضهم لبعض، وإذلال الإنسان نفسه مقابل طواغيت العالم، وما إلى ذلك، كلّها ناجمة عن البعد عن القرآن[3].

أقولها كلمة واحدة: على مُسلِمي العالَم، في ضوء هذا العداء كلّه الذي يُحيط بهم، الاهتمام أكثر بالقرآن؛ فدَواء آلامنا هو القرآن. وإنّ كلّ ما نشهده من ضعف وذلّة وتخلُّف في العالَم الإسلاميّ، ناجم عن الابتعاد عن القرآن. علينا جميعًا، نحن وسائر البلدان الإسلاميّة، أن نقترب من القرآن أكثر[4].

 


[1] من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن وحفظته وأساتذته، بتاريخ 02/08/2011.

[2] من كلام له (دام ظله) في لقاء المشاركين بالمسابقات القرآنيّة، بتاريخ 27/04/2017.

[3] من كلام له (دام ظله) في لقاء المشاركين بالمسابقات القرآنيّة، بتاريخ 15/04/2019.

[4]  من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة للدورة الثامنة عشرة لمسابقات حفظ القرآن الكريم وتلاوته وتفسيره، بتاريخ 18/10/2001.

 

34


23

المبحث الثاني: الأنس بـالقرآن

ماهيّة الأنس بالقرآن

أيّها الأعزّاء، إنّ القرآن نور، وهو في الواقع يُنير القلب والروح. وإذا أنِستم بالقرآن، سوف ترون كيف تتنوّر قلوبكم وأرواحكم. فببركة القرآن، تنجلي الكثير من الظلمات والغشاوات عن قلب الإنسان وروحه. أليس هذا أفضل؟ ﴿يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ ﴾[1]. يقول الله –تبارك وتعالى– في القرآن: ﴿ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ ﴾[2]. ببركة القرآن، يخرج الإنسان من ظلمات الأوهام والأخطاء والزلّات والاشتباهات، إلى نور الهداية[3].

إن الأنس بالقرآن يعني قراءة القرآن، وقراءته مرّة ثانية وثالثة، والتدبّر في المفاهيم القرآنيّة وفهمها[4]، وإنّ إحدى طرائق تعميق اعتقادات الإنسان، وتعميق مبانيه الفكريّة، وتعميق إيمانه وروحه، هي الأنس بالقرآن. وعلى هذا، لا بدّ لكم في حياتكم من قراءة القرآن بتدبُّر، وتجنُّب هجرانه[5]. فالأُنس

 

 


[1]  سورة البقرة، الآية 257.

[2]  سورة البقرة، الآية 257.

[3]  من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة للدورة الحادية عشرة للمسابقات الدوليّة لحفظ القرآن الكريم وقراءته، بتاريخ 04/01/1992.

[4]  من كلام له (دام ظله) في خطبة صلاة الجمعة، بتاريخ 30/03/1990.

[5] من كلام له (دام ظله) في لقاء أعضاء الهيئة الدوليّة، بتاريخ 09/10/2005.

 

38


24

المبحث الثاني: الأنس بـالقرآن

بالقرآن سوف يجعل قلوبنا أكثر ألفة بمعارف القرآن[1]، والمعرفة الإسلاميّة أقوى وأعمق في أذهاننا[2]؛ و[لذلك]، عندما يتحقّق الأنس بالقرآن، ينفتح باب التدبّر والتأمّل والتفكّر في معارفه[3].

إنّنا إذا أردنا أن تأنس الأمّة بالقرآن، يجب أن نُروّج لتلاوة القرآن في المجتمع. [لكنّ] جلسات القرآن وتلاوته ما هي إلّا مقدّمة لمعرفة المفاهيم القرآنيّة[4]؛ فتلاوة القرآن بصوت عذب تؤدّي إلى تليين القلوب وخشوعها، وتهيئتها لفهم المعارف القرآنيّة والآيات القرآنيّة[5]، والتلاوات الجيّدة هي مقدّمة لجعل مجتمعنا يأنس بالقرآن الكريم[6]. [إذًا]، إنّ هذه المسابقات وهذه الجلسات ما هي إلّا ذريعة لتناول القرآن، والاقتراب من حقيقة القرآن وروحه. التلاوة ما هي إلّا وسيلة للوصول إلى تلك الحقيقة، وإلى تعلُّم المعارف القرآنيّة، وتشكيل الحياة الفرديّة والاجتماعيّة في ظلّ القرآن[7]. [لكنّ] هذا كلّه ليس سوى مقدّمة لتكريس الروح القرآنيّة، وتعميم الثقافة القرآنيّة في مجتمعنا. وأمّا المرحلة التالية، فهي العمل والفعل. ولكنّني أقول: إنّ

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن وحفظته وأساتذته، بتاريخ 02/08/2008.

[2] من كلام له (دام ظله) في خطبة صلاة الجمعة، بتاريخ 30/03/1990.

[3] من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن، بتاريخ 21/07/2012.

[4] من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة للمسابقات الدوليّة لحفظ القرآن الكريم وقراءته، بتاريخ 30/12/2000.

[5]  من كلام له (دام ظله) في لقاء جمع من المشاركين في المسابقات القرآنيّة الدوليّة، بتاريخ 24/06/2012.

[6]  من كلام له (دام ظله) في محفل الأنس بـالقرآن، بتاريخ 22/08/2009.

[7] من كلام له (دام ظله) في لقاء المشاركين في مسابقات القرآن الدوليّة، بتاريخ 08/06/2013.

 

 

39


25

المبحث الثاني: الأنس بـالقرآن

مرحلة ما قبل العمل هي مرحلة تعلُّم القرآن، وفهم معارفه ومعانيه، والتدبّر في آياته وكلماته المجيدة[1].

إخوتـي، إنّ قراءة القرآن وتلاوته هي الخطوة الأولى، وليست الأخيرة[2]. إن أرادت أمّة أن تتّبع تعاليم القرآن، فإنّ خطوتها الأولى هي تعرُّف كلمات القرآن ومظاهره. يجب أن يأنس الناس مع القرآن. هذا يضمن الحركة نحو مفاهيم القرآن[3]، فالأنس بالقرآن يزيد المعرفة العامّة للبلد[4]، و[لذلك] يجب أن يأنس جميع الناس بـالقرآن. وكي يُشاع الأنس بقراءة القرآن بين عامّة الناس، على الشباب الأعزّاء أن يأنسوا بـالقرآن[5]؛ فعندما يكون الأنس بـالقرآن حالة عامّة، يكون فهم القرآن ممكنًا وسهلًا[6]. وإذا أردنا أن تأنس الأمّة كلّها بـالقرآن، يجب أن نُروّج لتلاوة القرآن في المجتمع. إذا كُنتُ أعتمد إلى هذا الحدّ على قراءتكم، أيّها القرّاء الأعزّاء، وأُولِيها الأهمّيّة، السبب هو هذا الأمر. أنتم مجموعة من البشر تقرؤون، وسواء قرأتم بطريقة حسنة أو لا، هذا الأمر من ناحية مرتبط بكم، لكن ما يجبرني على أن أُبدي هذا الاهتمام كلّه بهذه المسألة،

 


[1] من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن وحفظته وأساتذته، بتاريخ 13/09/2007.

[2]  من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن الكريم، بتاريخ 16/09/2004.

[3]  من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن وحفظته وأساتذته، بتاريخ 09/02/1990.

[4] من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن: محمّد محمود الطبلاوي وأبو العينين شعيشع وأحمد رزيقي، بتاريخ 06/06/1991.

[5] من كلام له (دام ظله) خلال لقاء الحكومة في إيران، بتاريخ 06/12/2005.

[6] من كلام له (دام ظله) في اختتام مراسم قراءة القرآن، بتاريخ 08/04/1990.

 

41


26

المبحث الثاني: الأنس بـالقرآن

أنّه إذا استطاع قرّاء كلام الله في المجتمع أن يتلوا هذه الآيات الكريمة باللحن 

 

42


27

المبحث الثاني: الأنس بـالقرآن

الملكوتيّ والصحيح والجذّاب، ستأنس قلوب الناس بـالقرآن وتقترب منه[1]. الوصيّة هي أن تعملوا على الأنس بـالقرآن مهما استطعتم. اشتغلوا بـالقرآن أكثر فأكثر، وتعلّموا منه أكثر، وتدبّروا أكثر، واجعلوه درسًا وعبرة لحياتكم وسلوككم[2].

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في لقاء قارئي القرآن: شعبان عبد العزيز الصيّاد ومحمود صدّيق المنشاوي، بتاريخ 11/04/1991.

[2] من كلام له (دام ظله) في لقاء المشاركين في مسابقات القرآن الكريم الدوليّة، بتاريخ 24/06/2012.

 

43


28

المبحث الثاني: الأنس بـالقرآن

آثار الأنس بـالقرآن

إنّ الأُنس بـالقرآن يجعل قلوبنا أكثر ألفة بمعارفه[1]، والفائدة الأولى يجنيها القلب المستعدّ والجاهز. فإذا وجدتم قلوبكم قريبة من القرآن الكريم، اشكروا الله، وإذا وجدتم أنفسكم تتقبّل المعارف القرآنيّة بسهولة وتحملونها في قلوبكم، اعلموا أنّ الله -تعالى- أراد أن يهديكم؛ ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِۚ﴾[2]. هذه هي ميزة القرآن. إذا اقتربت قلوبكم من القرآن الكريم واستأنستم به، اعلموا أنّ الله -تعالى- أراد هدايتكم، وهذه أكبر النعم الإلهيّة[3]. وإذا كنتم في هذه الحياة الدنيا مستأنسين ومحشورين مع القرآن، ستُحشَرون في القيامة أيضًا مع القرآن[4].

كلّما استشعرتم الأنس بـالقرآن أكثر، ازداد تعلّقكم به. إنّ مَثَل القرآن كبحر عميق، يرى الإنسان منه وجه الماء، وكلّما غصتم

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن وحفظته وأساتذته، بتاريخ 02/08/2011.

[2]  سورة الأنعام، الآية 125.

[3] من كلام له (دام ظله) في لقاء المشاركين في مسابقات القرآن الكريم الدوليّة الحادية والثلاثين، بتاريخ 03/06/2014.

[4]  من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء أربعين دولة من العالم وجمع من العلماء في ذكرى البعثة النبويّة، بتاريخ 23/02/1990.

 

44


29

المبحث الثاني: الأنس بـالقرآن

فيه أكثر ترون أشياء جديدة؛ وهذا بالتأكيد يحدث ببركة الأنس بـالقرآن. ليست المسألة أنّ كلّ من درس مقدارًا من القرآن قد بلغ أعماقه. كلّا، هناك أمور مختصّة بالراسخين في العلم. يجب أن يتحقّق الرسوخ في العلم، وهذا لا يتأتّى للإنسان إلّا ببركة الأنس المديد بـالقرآن، وشمول الهداية القرآنيّة لحال الإنسان[1].

[صحيحٌ] أنّ الأنس بـالقرآن وتلاوته وحفظه أمور لازمة، لكنّ الهدف النهائيّ هو التمسّك بـالقرآن، وذلك في قلب الحياة أيضًا[2]. إذا ما أنسنا بـالقرآن، وفهمناه على نحو صحيح، وتدبّرنا فيه، عندئذٍ، سيمنحنا الإجابة الشافية عن أسئلة الحياة. علينا السعي وراء هذا الأمر، وهو بالغ الأهمّيّة. أعزّائي الشباب، كلّما أنستم بـالقرآن أكثر، ستتّضح لكم هذه الحقائق أكثر إن شاء الله، وكلّما شربتم من هذا الشراب العذب، ستشتاقون له أكثر، وستتعطّشون له أكثر. هكذا هو القرآن[3].

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن الكريم، بتاريخ 06/10/2005.

[2] من كلام له (دام ظله) في لقاء المشتركين في الدورة الخامسة عشرة للمسابقات القرآنيّة، بتاريخ 08/10/2002.

[3] من كلام له (دام ظله) في محفل الأنس بـالقرآن، بتاريخ 27/05/2009.

 

45


30

المبحث الثاني: الأنس بـالقرآن

كيفيّة تحصيل الأنس بـالقرآن

إنّ الخطوة الأولى هي تعرُّف نصّ القرآن، ومن هنا يجب العبور. والخطوة التالية هي تحصيل الأنس بـالقرآن، ما يعني قراءة القرآن. يجب أن يكون الأنس بـالقرآن على هذا النحو:أن تتعمّقوا في كلمات القرآن، وتسعوا إلى إدراك مفاهيمه. بالطبع، إنّ الغوص في أعماق هذا المحيط يحتاج إلى توجيهات الأشخاص الذين عرّفهم القرآن بنفسه، ووضع جواهره في اختيارهم، وهم بالدرجة الأولى الأئمّة المعصومون، ومن بعدهم العرفاء بالمعارف القرآنيّة[1]. شيئًا فشيئًا، وحينما يأنس الإنسان بـالقرآن، عندما يصل ذهنه من الناحية العاطفيّة -لأنّ ذلك يترك أثرًا في الذهن- ومن النواحي الأخلاقيّة أو الفكريّة، إلى طريق مسدود، فالذي يكون لديه أنس بـالقرآن، يرى فجأة كأنّ نجمة تُضيء؛ يذهب باتّجاهها، فيرى أنّ الطريق قد فُتِح. هكذا القرآن. كلّما استأنس الإنسان وتعمّق في القرآن، يفهم أكثر، وهذا ما نحن بحاجة إليه[2].

ينبغي أن تكون قلوبنا قرآنيّة. وينبغي أن تأنس أرواحنا

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في لقاء القرّاء المشاركين في الدورة الحادية والعشرين للمسابقات الدوليّة للقرآن الكريم، بتاريخ 28/10/2003.

[2]  المصدر نفسه.

 

46


31

المبحث الثاني: الأنس بـالقرآن

بـالقرآن. فلو استطعنا أن نأنس به، وأن نجعل لمعارف القرآن نفوذًا في قلوبنا وأرواحنا، ستصير حياتنا ومجتمعنا قرآنيّين، وعندئذٍ، لن نحتاج إلى بذل الجهد والضغط ووضع السياسات. فالأساس هو أن تكون قلوبنا وأرواحنا ومعرفتنا قرآنيّة حقًّا[1].

يجب أن نسلّم قلوبنا للقرآن. كلّ كلمة من كلمات القرآن يمكن أن تُحدِث ثورةً في قلوبنا؛ طبعًا، بالنسبة إلى من يأنس بـالقرآن ويتفاعل معه. وفق التجربة، إنّ مَن لا يأنس بـالقرآن لا ينتفع الكثير منه[2]، فالإنسان يتكامل في باطنه عبر الأنس بـالقرآن[3].

 


[1] من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن، بتاريخ 15/07/2010.

[2]  من كلام له (دام ظله) في لقاء نوّاب مجلس الشورى الإسلاميّ، بتاريخ 04/06/2009.

[3] من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن، بتاريخ 21/07/2010.

 

47


32

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

التلاوة

أعزّائي، أيّها الشباب الأعزّاء، إنّ تلاوة القرآن فضيلة كبرى فيها عظيم الأجر، لكنّها وسيلة للمعرفة. هذا القرآن هو محيط عظيم، كلّما توغّلتم فيه أكثر، ازددتم عطشًا وتعلُّقًا، واستنار قلبكم أكثر. يجب التدبّر في القرآن. مجدّدًا، أنا أرجوكم، أيّها الشباب، أن تأنسوا بمعاني القرآن[1]. اقرؤوا القرآن في بيوتكم، في أوقات فراغكم، إذا ما اتّسع لكم القليل من الفراغ، صِلُوا أنفسَكم بـالقرآن[2]، انشروا عطر القرآن في عائلاتكم[3].

أعزّائي، هذه التلاوة التي نُصرّ عليها بهذا المقدار، هي الخطوة الأولى اللازمة. القرآن يُعرِّف نفسَه بتعاريف شتّى، فيقول من بينها: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ﴾[4]؛ أي إنّ القرآن يهدي الإنسان للسبيل الأفضل، والعمل الأفضل، والنظام الأفضل، والمنهج الأفضل، والأخلاق الفضلى، وأساليب العمل الفرديّ والجماعيّ الفضل[5]. [إذًا]، إنّ جلسات القرآن وتلاوته

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة لمسابقات حفظ القرآن الكريم وقراءته، بتاريخ 30/10/2000.

[2]  من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن، بتاريخ 06/02/1992.

[3] المصدر نفسه.

[4] سورة الإسراء، الآية 9.

[5] من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة للدروة الخامسة عشرة للمسابقات القرآنيّة، بتاريخ 11/02/2020.

 

50


33

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

ما هي إلّا مقدّمة لمعرفة المفاهيم القرآنيّة[1]، وإنّ التلاوات الجيّدة مقدّمة لجعلِ مجتمعنا يأنس بـالقرآن الكريم[2].

ليس المقصود من القراءة هو أن نتلوه على عجل دون التمعّن في المعاني ومراعاة الفهم الصحيح، فليس ذلك المطلوب من قراءة القرآن. على كلّ حال، إنّ الالتفات إلى أنّ هذا هو كلام الله، تعلُّقٌ بالله، ودرجة من الارتباط، ومكسب، ولا يحقّ لأحد أن يمنع قراءة كهذه، لكنّ هذه ليست هي القراءة المطلوبة والمرغوبة التي أُمِرنا بها[3]. القرآن ليس للتلاوة فقط، فتلاوته مقدّمة لفهمه واكتساب المعرفة القرآنيّة؛ هذا ما ينبغي أن نحقّقه لأنفسنا. إذا كانت التلاوة صحيحة وحسنة، يجب أن تمنحنا فائدتَين اثنتَين: الأولى أن تعمّق معنويّاتنا وروحنا المعنويّة وتكرّسها؛ فنحن غرقى الأمور المادّيّة، والبشر بحاجة إلى التوجُّه المعنويّ والروح المعنويّة، وهذا ما يحدث بتلاوة القرآن إذا ما تلوناه تلاوة حسنة، هذا أوّلًا. وثانيًا، أن نمدّ فكرنا ونغذّيه بالمعرفة القرآنيّة؛ بمعنى أنّ القرآن يؤثّر في قلوبنا، وأيضًا في أذهاننا[4].

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة للمسابقات الدوليّة لحفظ القرآن الكريم وقراءته، بتاريخ 30/12/2000.

[2]  من كلام له (دام ظله) في محفل الأنس بـالقرآن، بتاريخ 22/08/2009.

[3] من كلام له (دام ظله) في لقاء جمع من مسؤولي الدولة في إيران، بتاريخ 08/11/2005.

[4]  من كلام له (دام ظله) في لقاء المشاركين بالمسابقات القرآنيّة، بتاريخ 15/04/2019.

 

51


34

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

تجب متابعة تعليم القرآن في ثلاثة مقاطع: مقطع قراءة القرآن، ومقطع الطلاقة في قراءة القرآن، ومقطع فهم مفاهيم القرآن. في مقطع قراءة القرآن، حتّى يتعلّم الطفل القراءة، لا داعي أن تذكروا له القصص القرآنيّة. دعوا هذه القصص لكتب التاريخ والكتب الدينيّة، وليُركّز الطالب على تعلُّم القراءة. المقطع الثاني هو مقطع قراءة القرآن بطلاقة، ويعني قدرة الطالب على القراءة بسهولة وراحة. وعلى هذا المنوال، ينبغي لكلّ أفراد الشعب الإيرانيّ في السنوات العشر المقبلة -على سبيل الفرض- أن يتمكّنوا بهِمَّتِكم من قراءة القرآن بطلاقة، ومن دون خطأ. المقطع الثالث هو مقطع إدراك المفاهيم القرآنيّة. يُمكن أن يكون المقطع الثاني في المرحلة المتوسّطة، ويقع الثالث في المرحلة الثانويّة، ويُمكن أن تُقسَّم المقاطع بصورة أخرى[1].

عندما تَتْلُون القرآن، إنْ كانت التلاوة صحيحة وجيّدة ومصحوبة بأسرار التلاوة وفنونها، سيزداد بتلاوتكم كلّ من لديه معرفة بـالقرآن، شوقًا إليه، وكلّ من يفهم معنى القرآن سيتدبّر. وأنا الذي قد شاركت كثيرًا في مجالس تلاوة القرآن، واستمعت كثيرًالأشرطة تسجيل التلاوة، فهمتُ حقائق كثيرة من القرآن أثناء التلاوة الجميلة لأحد القرّاء. حُسن التلاوة يُساعد الإنسان على التدبّر وإدراك المسائل والأفكار القرآنيّة. وإنّه لفنٌّ عظيمٌ

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن الكريم، بتاريخ 06/10/2005.

 

52


35

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

الصوت الحَسَن

إنّ تلاوة القرآن بصوت حَسَن، وبرعاية آداب خصوصيّة أسلوبه وموسيقاه وطريقته، أمورٌ لازمة، وهي تُقرّب الإنسان [من القرآن]، لكنّها لا تكفي. فإذا أردنا التشبيه، نقول: لنتصوّر القرآن عمارةً عظيمةً ذات صالات وغرف وطبقات مختلفة وأعماق كثيرة، ولهذه العمارة الواسعة والعظيمة بابٌ ومدخلٌ، فإذا ما جعلنا المدخل جميلًا، رغب الناس في دخول العمارة. ومدخل هذا البناء الرفيع هو هذه التلاوات الجميلة التي قُرِئَت هنا. قرميد المدخل وزينته هي هذه التلاوة، وهي أمرٌ لازمٌ وضروريّ جدًّا. ولهذا، إنّني أُشجِّع وأُقدِّر وأُجِلّ الأشخاص الذين يُذيقون قلوبَنا حلاوة القرآن، ويُمتّعوننا بتلاواتهم الجميلة[1]. [إنّ] تلاوة القرآن بالألحان الجميلة والأصوات العذبة كلَّها مقدّمة من أجل هذا، فلا ننظر إليها على أنّها صلب الموضوع، بل هي المقدّمة، وعلينا أن نَرِدَ خلالها لنصل إلى الأنس بـالقرآن[2].

إنّ تلاوة القرآن بصوت حَسَن عملٌ جيّدٌ جدًّا؛ رُوِيَ عن الإمامَين السجّاد والباقر (عليهما السلام) أنّ الناس عندما كانوا يمرّون

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة لمسابقات قراءة القرآن الكريم، بتاريخ 04/01/1995.

[2]  من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن الكريم، بتاريخ 10/07/2013.

 

54


36

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

بالقرب من مكان تلاوتهما (عليهما السلام)، كانت فرائصُهم ترتعد ويضعفون عن الحراك، فيبقون في أماكنهم يستمعون لتلاوة القرآن، حتّى ينالوا حظوظهم، ثمّ يُتابعون طريقهم وينصرفون. ولهذا، أنا أُشجِّع وأُقدِّر الذين جعلوا القرآن، بحُسْنِ تلاوتهم، عذبًا في قلوبنا، وجميلًا في أعيننا[1]. [لكن] لا تقتصر التلاوة على الصوت، بل هي عمليّة لها فنونها وأساليبها أيضًا، سواء أكانت أساليب ذات صلة بظاهر العمليّة، وهي نغمات التلاوة وألحانها، أم أساليب متعلّقة بباطن القرآن، وهي مرحلة أكثر عمقًا من سابقتها، وتتمثّل في تعرُّف مفاهيم الآيات. ودومًا قُلتُ لقرّائنا الشباب، والآن أؤكّد أيضًا: إنّ أهمّ جهودهم ينبغي أن تنصبّ على أن يفهموا جيّدًا الآيات التي يقرؤونها، وأن يُدقّقوا -على أقلّ تقدير- في ترجمة الآيات التي هم بصدد تلاوتها ومعناها ودقائقها، حتّى إذا ما قرؤوها سيخرج المفهوم ممزوجًا بالصوت من أعماق قلوبهم؛ إذّاك ستترك أثرها في فضاء المجتمع، ويقع الجميع تحت تأثيرها. وما ترونه من تأثير عميق يتركه بعض القرّاء المصريّين، إنّما سببُه مراعاة هذا الأمر، فهم يتلون القرآن كأنّهم يريدون تصوير مضمون الآية أمام أنظاركم. إنّني أسوق أحيانًا مثالًا لبعض قرّائنا الشباب والمدّاحين، وأقول: إنّ هؤلاء الأعزّاء، عندما يريدون إنشاد بيت شعر في مجلس، يفهم الجميع فيه معناه، بإمكانهم إنشاده على نحوَين: أحدهما أن يقرأ المدّاح

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في مراسم اختتام مسابقات قراءة القرآن الكريم، بتاريخ 04/01/1995.

 

55


37

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

بصوته العذب، كأنّه يُخاطبكم كلمة كلمة، وهذا ما يترك أثره في أعماقكم، ونحو آخر هو أن يقرأ كأنّه يُخاطب نفسَه فقط. القرآن كذلك، تُمكن قراءته بصيغتَين. والسبب في أنّ الكثير من القراءات لا تؤثّر في القلوب، على الرغم من أنّها لا تختلف كثيرًا في الأنغام والألحان، هو أنّ القارئ لا يُكلِّم المخاطَب بعبارات القرآن من صميم قلبه. وفي محيطنا، حيث لا يُجيد كثيرون اللغة العربيّة، بل حتّى في الأماكن التي يُجيدون فيها العربيّة، يُدرِك المرء أنّ القارئ لا يُكلّم المخاطَب من أعماق قلبه. فإذا ما أردتم لتلاوتكم أن تكون موفّقة من حيث التأثير وصناعة أجواء المجتمع وإحداث التغيير في القلوب والأرواح، من أهمّ شروط ذلك وأساساته أن يتعرّف قارئ القرآن، بصورة كاملة، مضمون الآية التي ينوي قراءتها، ويتلوها كأنّه يريد، بصوته العذب، تصوير ذلك المضمون وتجسيده أمام المستمع[1].

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن الكريم، بتاريخ 28/10/2003.

 

56


38

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

أهداف التلاوة

إنّ التلاوة بتأمُّل وتدبُّر تُعطي أثرًا. والتلاوة المطلوبة هي أن يقرأ الإنسان بتدبُّر وبفهمٍ الكلمات الإلهيّة، إنْ كانت لغته هي العربيّة، وإلّا راجع الترجمة وتدبّر فيها مرّتين، ثلاث مرّات... في القراءة الخامسة يتحقّق الفهم عند الإنسان، والانشراح الذهنيّ في ما يتعلّق بمضمون الآية، على نحوٍ لا يجري معه في أيّ بيان آخر. جرِّبوا هذا الأمر[1].

هذه المسابقات وهذه الجلسات ما هي إلّا وسيلة للاقتراب من حقيقة القرآن وروحه. والتلاوة ما هي إلّا وسيلة للوصول إلى تلك الحقيقة، وإلى تعلُّم المعارف القرآنيّة، وتشكيل الحياة الفرديّة والاجتماعيّة في ظلّ القرآن. وإذا ما أضحى القرآن هو الحاكم في المجتمعات البشريّة، هناك السعادة الدنيويّة، وعُلُوّ الدرجات المعنويّة. يفتح القرآن لنا طريق العزّة والسلامة، طريق الأمن والأمان، طريق الأمان النفسيّ، طريق الحياة الصحيحة ودرب الحياة السعيدة. نحن بعيدون عن القرآن، ولو أنّنا تعرّفناه، وأنِسنا بالمعارف القرآنيّة، وقارَنّا مدى بُعدِنا عن

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في لقاء أعضاء الهيئة الدوليّة، بتاريخ 09/10/2005.

 

57


39

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

الأمور التي أرادها القرآن لنا، لكانت حركتُنا أسرع، وطريقُنا أكثر وضوحًا، وهذا هو الهدف[1].

لو أردنا أن نستفيد من القرآن بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، علينا أن نتعرّف معارفَه ومفاهيمَه. هنا يكون الدور المساعد للتلاوة والحفظ والأنس بـالقرآن في هذا المجال. ولو لم يكن المطلوب أخذ الدروس من القرآن، ما أُوصِينا بتلاوته إلى هذا الحدّ. فعلينا أن نلتفت إلى أنّ الهدف ليس إيجاد هذه الأمواج الصوتيّة وبثّها في الأجواء، ليس هذا هو الهدف، كما أنّه ليس الالتذاذ والسرور بالصوت الحَسَن لقارئ القرآن بلحن جميل، مثلما يحدث عند إنشاد الشعر؛ فهذه جميعًا مقدّمات لفهم معارف القرآن: التلاوة، وما يشيع التلاوة في المجتمع، كالصوت الحَسَن واللحن الجيّد، وما يُعَدّ من عناصر ترويج التلاوة في المجتمع وترغيب النفوس بها[2].

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في لقاء المشاركين في مسابقات القرآن الكريم الدوليّة، بتاريخ 08/06/2013.

[2]  من كلام له (دام ظله) في محفل الأنس بـالقرآن، بتاريخ 12/08/2010.

 

58


40

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

الفهم والتأمّل والتدبّر

إنّ جلسات القرآن وتلاوته ما هي إلّا مقدّمة لمعرفة المفاهيم القرآنيّة[1]، والتلاوات الجيّدة هي مقدّمة لجعل مجتمعنا يأنس بـالقرآن الكريم[2]. [لكن] هل يكفي أن نُرتّل القرآن بصوت حَسَن، أو نتلذّذ بسماع تلاوته من صوت حَسَن؟ كلّا، بل هناك حاجة إلى شيء آخر، فما هو؟ إنّه التدبّر في القرآن. لا بدّ من التدبّر، والقرآن بنفسه يدعونا في موارد كثيرة إلى التدبّر. أيّها الأعزّة، إنّنا لو عرفنا كيف نأنس بالتدبّر في القرآن، لحصلنا على تلك الخصائص كلّها، غير أنّنا ما زلنا بعيدين عن القرآن؛ ولذلك علينا أن نخطو إلى الأمام[3].

إنّ التدبّر في القرآن ضروريّ، والتدبّر يعني التفكّر في المفاهيم القرآنيّة. هذا الخطاب عميق وعظيم، ويجب التدبّر فيه. إنّ القرآن صادر عن الذات الإلهيّة المقدّسة، بألفاظه ومفاهيمه، وهذا ما يُوجِب التأمّل الدقيق فيه، واستيعاب

 


[1] من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة للمسابقات الدوليّة لحفظ القرآن الكريم وقراءته، بتاريخ 30/12/2000.

[2] من كلام له (دام ظله) في محفل الأنس بـالقرآن، بتاريخ 22/08/2009.

[3]  من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة لمسابقات قراءة القرآن الكريم، بتاريخ 04/01/1995.

 

59


41

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

معانيه، والغور في أعماقه. وهذا لا يتأتّى إلّا عبر الأنس بنَصّ القرآن[1].

إنّ التدبّر ليس من أجل التفسير أساسًا، وإنّما هو لفهم المراد. فالإنسان يتلقّى أيّ قولٍ حكيمٍ بأحد وجهَين: أحدهما بلا مبالاة وسطحيّة، والآخر بدقّة وتفحُّص، وهذا أساسًا لا يصل إلى مرحلة التفسير والتعبير. إنّ التدبّر المطلوب في القرآن يعني اجتناب النظرة السطحيّة إليه؛ أي وأنت تقرأ كلّ آية قرآنيّة، كُنْ متأمِّلًا متعمِّقًا فيها، ساعيًا نحو فهمها. وهذا هو التدبّر، دونما حاجة إلى أن يُحمّل الإنسان آراءه وميوله على القرآن؛ لأنّ هذا هو التفسير بالرأي، وستُلاحِظ أنّ أبوابًا من المعرفة وفق محتوى الآية -مهما كان محتواها- تنفتح[2].

أيّها الإخوة الأعزّاء، هل يكفي أن نضع القرآن في جيوبنا؟ وهل يكفي العبور من تحت القرآن عند السفر؟ وهل تكفي اليوم المشاركة في جلسة تلاوة للقرآن؟[3] لا يصحّ الاكتفاء بقراءة القرآن من أوّله إلى آخره، والمرور عليه مرور الكرام، فهو بحاجة إلى التدبّر، وإلى الوقوف على كلّ كلمة من كلماته، وكلّ تركيب

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة للدورة الخامسة عشرة للمسابقات القرآنيّة، بتاريخ 11/02/2020.

[2]  من كلام له (دام ظله) في محاورة بمناسبة ميلاد السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، بتاريخ 10/10/1998.

[3]  من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة لمسابقات قراءة القرآن الكريم، بتاريخ 04/01/1995.

 

60


42

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

كلاميّ ولفظيّ فيه. فكلّما تدبَّر الإنسان وتأمَّل، ازداد أُنسُه وكَثُرَ نفعُه واستفادتُه. هكذا القرآن[1]. [لذلك]، بعد الاستئناس بظاهر القرآن، ينبغي -على نحوٍ أكيد- التفكّر والتزوّد بالمعلومات الوافرة/ والاستفادة منها لفهم تعاليم القرآن والحديث. فكلّما أضحَت معارف الإنسان أكثر، صار فهمه لـ القرآن والحديث أجلى وأوضح. والتجارب أيضًا كذلك؛ كلّما كانت تجربة الإنسان في الحياة أكثر حين ينظر في حوادث الحياة الدنيا المختلفة، تزداد معرفته بـالقرآن، وتتّضح مطالب القرآن له أكثر[2].

 

لفهم معارف القرآن درجات، أوّلها ما يحدث من التأمّل في ألفاظ القرآن وترجمته. وعندما نقول «المعارف القرآنيّة»، لا يعني أنّ هناك أبوابًا مغلقة ومشفّرة لا يصل إليها أحد. هناك معارف عالية لا يمكن لأيدي أمثالنا أن تصل إليها، ولكن هناك الكثير من المعارف يُمكن لنا، نحن الأشخاص العاديّين، أن نفهمها ونستفيد منها، بشرط أن نتوجّه إلى هذا الكلام وهذا البيان. وفي هذا المجال آيات قرآنيّة كريمة كثيرة، وهي تُمثّل دروسًا لنا في الحياة. منها -على سبيل المثال- هذه الآية الشريفة: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوۡقَ أَيۡدِيهِمۡۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيۡهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤۡتِيهِ أَجۡرًا

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في محفل الأنس بـالقرآن، بتاريخ 21/07/2012.

[2]  من كلام له (دام ظله) في لقاء جمع من سيّدات البلد الباحثات في القرآن، بتاريخ 20/10/2009.

 

61


43

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

عَظِيما﴾[1]. هذا درسٌ واضحٌ لحياتنا: ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۖ﴾؛ إذا نقضتم أو نكثتم العهد الذي أبرمتموه مع النبيّ والإسلام، ونقضتم البيعة مع الله، تكونون قد عملتم خلاف مصلحتكم. ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۖ﴾؛ فنقضُ البيعة مع الله والرسول (صلى الله عليه وآله) تنقلب علينا، ولا تؤثّر في الله ورسوله أو تضرّهما شيئًا. ﴿وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيۡهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيما﴾؛ أمّا إذا وفينا بهذا العهد الذي عاهدنا عليه الله والنبيّ، نكون قد عملنا لمصلحتنا، وسوف ننال ثوابًا عظيمًا من الله المتعالي. هذا الثواب لم يُذكَر أنّه في الآخرة أو في الجنّة، وإن كان قسمه الأعظم بالطبع في الآخرة، ولكنّ هذا الثواب هو في الدنيا أيضًا،ففي الدنيا، سوف ننال هذا الأجر. وكذلك الآيات من سورة «الأحزاب» المباركة، التي تلاها علينا أحد الإخوة أو مجموعة من الإخوة: ﴿مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَال صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلا﴾[2]. ‏فما هو هذا الصدق؟ صدقوا ما عاهدوا الله عليه؛ أي إنّهم التزموا صدقَ العهد الذي عاهدوا الله عليه، والميثاق الذي أبرموه مع الله والتزموه، ولم تَحْرِفهم عنه مصاعب الحياة وزخارف الشهوات الدنيويّة. ﴿لِّيَجۡزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّٰدِقِينَ بِصِدۡقِهِمۡ﴾[3]؛ وبسبب هذا الصدق والتزام

 

 


[1]  سورة الفتح، الآية 10.

[2]  سورة الأحزاب، الآية 23.

[3] سورة الأحزاب، الآية 24.

 

62


44

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

هذا العهد الإلهيّ، إنّ الله سيجزيهم. هذه معارف يُمكن فهمها بمراجعة ظاهر القرآن. وإن كان وراءها معارف أسمى وأعلى على نحوٍ مسلَّم به، ممّا يُمكن للخواصّ وعباد الله الصالحين أن يفهموه، ولا تناله أفهامنا إلّا عبرهم. فمن المسلَّمبه وجود مثل هذه الأمور، إذ ذُكر أنّ للقرآن بطونًا. يوجد الكثير من الروايات التي تذكر أنّ للقرآن ظاهرًا وباطنًا، وأسرارًا وأعماقًا، كالبحر الذي له ظاهرٌ، وهو ما نُسمّيه الماء أو البحر، ولكن لا ينحصر الأمر بظاهره، فله أعماق، وفي أعماقه حقائق أخرى. هذا من المسلَّمات. ولكن يُمكننا أن نستفيد أيضًا من هذا الظاهر، لكن بأيّ شرطٍ؟ بشرط الدقّة والتأمّل[1].

 

الإشكال والضعف الأساسيّ في تلاوة القرآن من دون تأمُّل، هو المرور من دون تمهّل على الجُمل، في حين ينبغي للإنسان أن يُصغي بقلبه عند سماع كلام حكيم؛ إذ لا يتأتّى فهم المراد أساسًا من دون التأمّل والتفكّر. وهذا الأمر ينطبق على أيّ كتاب عاديّ، خاصّة إذا كان كتابًا عميقًا مكتوبًا بيد حكيم كبير، فإذا قُرئ قراءة عابرة، لن يُفهم منه شيء. والقرآن نفسه يؤكّد وجوب ألّا نقرأه قراءة عابرة. القرآن هو من أعلى مقام، من قمّة المعرفة في عالَم الوجود، وهذا ما يتطلّب من الإنسان التأمّل. وبما أنّ هذه الآيات والمفاهيم عميقة جدًّا، كلّ مَن يتأمّل فيها ينتفع منها. حتّى الرسول نفسه إذا تأمّل في القرآن، انتفع منه.

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن الكريم، بتاريخ 12/08/2010.

 

63


45

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

ولا ريب في أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) كانوا يقرؤون القرآن بتأمُّل وتدبُّر على الدوام[1].

اسعوا -في الدرجة الأولى- لكي تفهموا عبارات القرآن؛ لأنّها بِلُغة غير لغتكم. وبعد فَهْمِ العبارة مثلما يفهمها العربيّ، يأتي دور التدبّر والتعمّق في القرآن. حينئذٍ، سيُظهِر القرآن جماليّاته لكم، ويوقع الإنسان في التحيّر والدهشة. إنّ الهداية القرآنيّة ضروريّة لنا[2]. عليْكم أوّلًا، تجويد القراءة وتحسين التلاوة، وثانيًا، فهم معاني ما تقرؤون، وثالثًا، حفظ القرآن الكريم، فإنّ حفظه من الأمور المهمّة[3]، فعندما تحفظون القرآن وتكرّرون آياته وتأنسون بتلاوته، هذا سيمنحكم فرصة التدبّر في القرآن[4].

أصدقائي الأعزّاء، أقول لكم: إنّ الأنس بـالقرآن والتدبّر فيه، وكذلك التدبّر في الأدعية المأثورة المعتَبَرة في الصحيفة السجّاديّة والكثير من الأدعية، له دور كبير في تعميق المعرفة الدينيّة. فتعميق المعرفة الدينيّة أمرٌ مهمٌّ جدًّا. قد يأتي شخص بدافع العواطف، يُشارك في صلاة الجماعة والاعتكاف ومجالس العزاء الحسينيّة، وفي بعض المظاهرات الدينيّة، لكنّه يكون فاقدًا هذه المعرفة في عمق وجوده، ولهذا نراه عند أوّل

 


[1] من كلام له (دام ظله) في محاورة بمناسبة ميلاد السيّدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)، بتاريخ 10/10/1998.

[2] من كلام له (دام ظله) في اللقاء العامّ أيّام الاثنين، بتاريخ 02/07/2001.

[3] من كلام له (دام ظله) في محفل الأنس بـالقرآن، بتاريخ 26/09/2009.

[4]  المصدر نفسه.

 

64


46

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

منعطف وعند أوّل مطبّ، تزلّ قدمه وينحرف. ولدينا مثل هذا الكثير. داخل هذه المجموعات الثوريّة وفي بداية الثورة، كان هناك من يبدو أكثر تديّنًا والتزامًا منّا، نحن أصحاب اللِحى والعمائم، وكان يبدو أكثر تعصُّبًا بشأن الدين، وبعدها، بمجرّد أن يصطدم بمطبّ واحد، يفقد السيطرة وينحرف! من الواضح أنّه لم يكن يمتلك قاعدة صلبة و«أرضيّة» مُحْكَمة. لهذا، إنّ تعميق المعرفة الدينيّة أمرٌ في غاية الأهمّيّة، والأنس بالمعارف الإسلاميّة مهمّ جدًّا. هذا أحد أقسام العمل الثقافيّ الذي ينبغي أن يُرَوَّج وينتشر[1].

 

يقول القرآن: ﴿وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ﴾[2]. حسنًا، ما معنى العاقبة ونهاية الأمر؟ نهاية الأمر للمتّقين، نهاية الأمر في الدنيا لمصلحة المتّقين، نهاية الأمر في الآخرة لمصلحة المتّقين. والكفاح إذا أُرِيدَ الانتصارُ فيه، ستكون العاقبة للمتّقين، وفي ساحة الحرب أيضًا، إن أردتم الانتصار على العدوّ، يجب أن تكونوا متّقين. لاحِظوا! إذا دقّقتم وجدتم أنّ العاقبة للمتّقين. لنتعمّق في هذا المعنى قليلًا، وندقّق فيه، ولا نمرّ على العبارة مرورًا سريعًا... يجب على الإنسان أن يتأمّل في هذه الكلمات والمفاهيم، وهذا هو التدبّر في القرآن، وهكذا يكون[3].


 


[1]  من كلام له (دام ظله) في لقاء وزير العلوم وأساتذة جامعة طهران، بتاريخ 02/02/2010.

[2]  سورة القصص، الآية 83.

[3]  من كلام له (دام ظله) في محفل الأنس بـالقرآن، بتاريخ 06/05/2019.

 

65


47

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

الحفظ مقدّمة التدبّر

ما أُريد الآن وفي هذا اللقاء أن أقوله، ولا سيّما لقرّاء بلدنا الأعزّاء، هو أن تتّجهوا أكثر نحو حفظ القرآن؛ فالحفظ وسيلة، لا شكّ، وليس هدفًا. إنّه وسيلة من أجل أن يقرأ المرء بسهولة، ويُكرّر بيسر، ويحصل على إمكانيّة التدبّر. فليذهب الشباب ويستفيدوا من استعداداتهم وذاكرتهم. وجِّهوا الأطفال والشباب نحو حفظ القرآن. وبالطبع، إنّ يومنا هذا لا يُمكن مقارنته بما كان في السابق، فقد تمّ تقدُّمٌ كبير، لكنّه قليل. ما هو موجودٌ الآن في بلدنا قليل. فلنتّجه نحو حفظ القرآن، وعندما يتحقّق الحفظ، فإنّ إمكانيّة التدبّر تزداد، وهذا التدبّر سيكون مفتاحًا، فالمفتاح الأساسيّ هو التدبّر في القرآن والتفكّر فيه[1]. إنّ ما يوصلنا إلى الحقائق النورانيّة هو تدبّر القرآن وحفظه. هو مقدّمة جيّدة للتدبّر[2].

أيّها الإخوة، لماذا لا تحفظون القرآن؟ أنتم شباب. والله، لقد فكّرت مرارًا في نفسي، وقُلتُ: لو كان ممكنًا، لتخلّيتُ عن كلّ ما لديّ مقابل أن أحفظ القرآن. لكن ليس الأمر ممكنًا

 


[1] من كلام له (دام ظله) في لقاء المشاركين في مسابقات القرآن الكريم، بتاريخ 05/07/2011.

[2]  من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن الكريم، بتاريخ 10/07/2013.

 

66


48

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

-للأسف- ففي هذه السنّ لم يعد في مقدوري أن أحفظ القرآن، ولكن أنتم شباب، أنتم فتية وتقدرون على الحفظ. إنّ ذاكرتكم شابّة. سنّ الخامسة والعشرين والثلاثين وما تحت الثلاثين -إنّ غالب قرّائنا، بحمد الله، هم في هذه السنّ- هي سنوات حفظ القرآن. احفظوا كلام الله والآيات الإلهيّة الكريمة، واقرؤوا عن حفظ[1].

 

إنّ من الأشياء التي يُمكن أن تمنحنا التدبّر في القرآن، هو حفظه. لدينا القليل من حَفَظَة القرآن. لقد قُلتُ سابقًا: إنّه في بلدنا يجب أن يكون عدد حَفَظَة القرآن بالحدّ الأدنى مليونًا، وهذا الرقم صار الآن قليلًا بالنسبة إلى عدد سكّاننا، ولكن الآن، الإخوة -ولله الحمد- قد أعدّوا وهيّؤوا المقدّمات اللازمة، وهم مشغولون بأعمال شتّى وإعداد البرامج من أجل أن تسير برامج الحفظ قُدُمًا، إن شاء الله. وأَمَلي أيضًا أن يُصبح أكثر، وبدلًا من أن يكون مليونًا، نقول: إن شاء الله، يجب أن يكون عدد حَفَظة القرآن الكريم عشرة ملايين. بالطبع، التفِتوا إلى أنّ حفظ القرآن هو الخطوة الأولى، إذ يجب الثبات على الحفظ أوّلًا. لهذا، إنّ حافظ القرآن يجب أن يكون تاليًا دائمًا له، فيتلوه باستمرار، وإلّا فسيفقد ما حفظه. وبعدها، يجب أن يُصبح هذا الحفظ مُعِينًا للتدبّر، وهو كذلك. إنّ الحفظ، في الحقيقة، مُعِينٌ على التدبّر.

 


[1] من كلام له (دام ظله) في لقاء قارئي القرآن: شعبان عبد العزيز الصيّاد ومحمود صدّيق المنشاويّ، بتاريخ 11/04/1991.

 

67


49

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

وكلّما كرّرتم القرآن وأصبحتم حَفَظة وقرأتموه دومًا، ستُهَيَّأ لكم فرصة التدبّر والتعمّق في آياته[1].

أرجو أن يُعلّم الآباء والأمّهات أولادهم الصغار القرآن، ويهتمّوا بذلك. لا نقول: إنّه ينبغي لكم، حتمًا، أن تجلسوا وتُعلّموهم بأنفسكم؛ من الممكن ألّا يكون الأب والأمّ على معرفة بـالقرآن، وحينئذٍ، يتولّى التعليم معلِّمٌ. أمّا أنتم، فعليكم الاهتمام بهذا الأمر. عليكم أن تُولُوا أهمّيّة لدرس القرآن هذا؛ حتّى يميل الناشئة، خاصّة في عمر الطفولة، إلى القرآن. الحفظ، الحفظ، حفظ القرآن... يجب أن يحفظوا القرآن! يجب أن يستقرّ القرآن في الصدور، حتّى ينفذ في القلوب، ويتجلّى في محيط المجتمع[2].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن وحفظته وأساتذته، بتاريخ 02/08/2010.

[2]  من كلام له (دام ظله) في اختتام مراسم قراءة القرآن، بتاريخ 08/03/1993.

 

68


50

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

العمل بـالقرآن

إنّ مفاهيم القرآن مفاهيم للحياة، وليست مجرّد معلومات. قد تكون معلومات الإنسان القرآنيّة جيّدة، ولكن لا أثر لـ القرآن في حياته مطلقًا. [لذلك]، يجب أن يكون سعينا إلى تجسيد القرآن في حياتنا. وكما أجابَت إحدى الزوجات المكرّمات للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) حينما سُئِلَت حول أخلاق الرسول: «كَانَ خُلُقُهُ القُرْآنَ»[1]؛ أي إنّه كان قرآنًا متجسِّدًا. ينبغي إيجاد هذا المعنى في مجتمعنا[2]. إذا أرادت أمّة أن تتّبع تعاليم القرآن، تكون خطوتها الأولى تعرُّف كلمات القرآن ومظاهره. يجب أن يأنس الناس مع القرآن. وهذا يضمن الحركة نحو مفاهيم القرآن[3]. أقول: إنّ مرحلة ما قبل العمل هي مرحلة تعلُّم القرآن، وفهم معارفه ومعانيه، والتدبّر في آياته وكلماته المجيدة[4]. يجب أن تكون أعمالنا قرآنيّة وإلهيّة، فلا نكتفي بالقول واللسان والادّعاء، بل نخطو ونتحرّك عمليًّا على هذا الطريق. فحيثما

 


[1]  ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله‏، شرح نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح محمّد أبو الفضل إبراهيم، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي‏، إيران - قم، 1404ه‏، ط1، ج6، ص340.

[2] من كلام له (دام ظله) في لقاء جمع من سيّدات البلد الباحثات في القرآن، بتاريخ 20/10/2009.

[3] من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن وحفظته وأساتذته، بتاريخ 09/02/1990.

[4] من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن وحفظته وأساتذته، بتاريخ 13/09/2007.

 

69


51

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

أنستم بـالقرآن وتلوتموه، ومتى ما وجدتم أمرًا أو هدايةً أو نصيحةً، اسعوا، بالدرجة الأولى، إلى أن تُرسّخوها في وجودكم وباطنكم وقلوبكم، وتجعلوها ظاهرة في أعمالكم. فلو أنّ كلّ واحد منّا تعهّد هذا في عمله، فإنّ مجتمعنا سيتقدّم ويُصبح قرآنيًّا[1].

لقد وعدَنا القرآن بالحياة الطيّبة: ﴿فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰة طَيِّبَةۖ﴾[2]، فماذا تعني الحياة الطيّبة؟ وما هي الحياة الطاهرة؟ هي تلك الحياة التي تُؤَمَّن فيها روح الإنسان وجسمه ودنياه وآخرته، ففيها يتمّ تأمين الحياة الفرديّة، والطمأنينة الروحيّة، والسكينة والاطمئنان، والراحة الجسديّة، وأيضًا الفوائد الاجتماعيّة، والسعادة، والعزّة الاجتماعيّة، والاستقلال، والحرّيّة العامّة. هذا ما وعدَنا به القرآن. فعندما يقول: ﴿فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰة طَيِّبَةۖ﴾، يعني جميع هذه الأمور؛ أي تلك الحياة التي يكون فيها العزّة والأمن والرفاهية والاستقلال والعلم والتطوّر والأخلاق والحلم والصفح. نحن بعيدون عن هذه الأمور، وينبغي أن نصل إليها[3].

القرآن كتاب حياة. إذا طابق البشر قواعد الحياة مع القرآن، سيكون لهم سعادة الدنيا والآخرة. مشكلتنا هي أنّنا لا نفعل ذلك، مشكلتنا هي أنّنا لا نطابق الحياة مع قواعد القرآن،

 


[1] من كلام له (دام ظله) في محفل الأنس بـالقرآن، بتاريخ 21/07/2012.

[2]  سورة النحل، الآية 97.

[3]  من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء القرآن، بتاريخ 15/07/2010.

 

70


52

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

 كشخص يذهب إلى الطبيب ويحصل على وصفة طبيّة، هذا هو وضعنا اليوم. لن تكون لهذه الزيارة إلى الطبيب نفع، دون العمل بالوصفة[1]. معنى ما نقوله هو أنّنا إن عملنا بـالقرآن، فإن الحياة ستصلح، هو هذا. يوجد معارف قرآنيّة، وهذه المعارف يجب أن تُبدَّل إلى خطابات عامّة بين الناس، وأن تُكَرَّر وتُكَرَّر، ويُعمَل عليها، ويجري البحث والتحقيق حولها والكتابة عنها، وينتج الشعراء والأدباء والفنانون أعمالًا فنّيّة عنها، بمقدار كبير ومستمرّ، إلى الدرجة التي تصبح معها هذه المعارف من واضحات المجتمع الإسلاميّ وبيّناته. بالطبع، هذا ليس مُحالًا، ولا شديد الصعوبة، وليس بعيدًا عن متناوَل اليد. ولا يتخيّلنّ أحدٌ أننا إن أردنا أن نقوم بهذه الأعمال، فإنها ستستغرق مئة سنة. كلّا، إذا شمّر أهل القلوب وأهل الدين عن سواعد الهمّة، هذه الأعمال تتحقّق بسرعة. يجب الاهتمام بـالقرآن بهذه الطريقة[2]؛ فالعمل به هو الطريق الصحيح لحياة المجتمعات الإسلاميّة والأمّة الإسلاميّة[3]. لقد بلغَت البشريّة في الصدر الأوّل للإسلام، ببركة العمل بـالقرآن، الأوج في العلم، وفي الأخلاق، وفي العمل، وفي ميادين التقدّم المادّيّ والمعنويّ كافّة[4]. [لكن] لماذا لا تتمتّع

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في محفل الأنس بـالقرآن، بتاريخ 25/04/2020.

[2]  من كلام له (دام ظله) في لقاء المشاركين بالمسابقات القرآنيّة، بتاريخ 27/04/2017.

[3]  من كلام له (دام ظله) في لقاء المشاركين بالمسابقات القرآنيّة، بتاريخ 26/04/2018.

[4]  من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة للدورة الخامسة عشرة للمسابقات القرآنيّة، بتاريخ 11/02/2020.

 

71


53

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

الأمّة الإسلاميّة اليوم بالعزّة التي تليق بها في العالَم؟ لماذا؟ لماذا نحن متأخِّرون في العلوم؟ ولماذا الأمّة الإسلاميّة متأخّرة في مضمار السياسة وتدبير الشؤون العالَميّة؟ السبب هو أنّها لا تعمل بـالقرآن. السبب هو أنّنا لم نعمل بـالقرآن. السبب هو أنّ القرآن -خلافًا لادّعاءاتنا- ليس معيارًا ومحورًا لمعرفتنا وعملنا. فبمقدار ما نعمل بـالقرآن الكريم، سنجد آثاره وبركاته[1].

إذا ما أضحى القرآن هو الحاكم في المجتمعات البشريّة، هناك السعادة الدنيويّة، وعُلُوّ الدرجات المعنويّة. يفتح القرآن لنا طريق العزّة والسلامة، طريق الأمن والأمان، طريق الأمان النفسيّ، طريق الحياة الصحيحة ودرب الحياة السعيدة[2].

إنّ مشكلات أيّ مجتمع تُحَلّ بـالقرآن. المشكلات تُعالَج بالمعارف القرآنيّة. إنّ القرآن يُقدّم طريق حلٍّ لأزمات الحياة البشريّة، هديّةً لبني آدم. هذا هو الوعد القرآنيّ، وقد أظهرت تجربة عصر الإسلام هذا الأمر. كلّما كُنّا أكثر قربًا من القرآن، وكلّما ازداد العمل به بيننا، سواء في أرواحنا أوفي أعمالنا الجسمانيّة، وسواء أكان على مستوى أفرادنا أم مجتمعنا، نُصبح أكثر قربًا من السعادة، ومن حَلِّ المشكلات والمعضلات[3].

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في لقاء المشاركين بالمسابقات القرآنيّة، بتاريخ 25/07/2009.

[2] من كلام له (دام ظله) في لقاء المشاركين في مسابقات القرآن الكريم الدوليّة، بتاريخ 08/06/2013.

[3]  من كلام له (دام ظله) في محفل الأنس بـالقرآن، بتاريخ 21/07/2012.

 

72


54

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

[إذًا]، القرآن ليس للتلاوة في الزوايا، بل هو للعمل والعلم والمعرفة، وأن يفهم المجتمع الإسلاميّ تكليفَه، وللتخلّص من التيه والظلمات. وجلسات القرآن وتلاوته ما هي إلّا مقدّمة لمعرفة المفاهيم القرآنيّة[1]. لو سألوا هذا العبد: هل ترى هذا الحدّ من حضور القرآن في المجتمع كافيًا أم لا؟ لقلتُ: لا! أوّلًا، يجب أن يتمكّن الجميع من القراءة والتلاوة،؛ إذ لو أَعطَيْتُم كلَّ شخص نسخة من القرآن، هل سيتمكّن من فتحها والقراءة الصحيحة منها؟ هذا هو النقص الأوّل. فالواقع الحاليّ الآن لا يشير إلى قدرة كلّ فرد من أفراد الشعب على تلاوة القرآن بصورة صحيحة وتامّة[2].

اعلموا أنّه لو تحقّقت فيكم هذه المعرفة القرآنيّة التي أبيّنها، لن يكون العمل منفصلًا عنها. عندما تتحقّق فيكم المعرفة بشيء، ستتحرّكون نحوه بنحوٍ تلقائيّ وطبيعيّ؛ العمل لا ينفكّ عن المعرفة. وهذا الذي ترونه من ابتلاء بعض الناس بالتراخي و«الخمول» والجمود والتدنّي الأخلاقيّ والروحيّ، وصدور الأعمال المخالفة للأخلاق والروحانيّة والعدالة والإنصاف عنهم، هو ناشئ، بالدرجة الأولى، من أنّ نور المعرفة لم يصل إلى قلوبهم. قد تكون لديهم معلومات، أو قرؤوا كتبًا وتعلّموا

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) في المراسم الاختتاميّة للمسابقات الدوليّة لحفظ القرآن الكريم وقراءته، بتاريخ 30/12/2000.

[2] من كلام له (دام ظله) في الجلسة الاختتاميّة لمسابقات قراءة القرآن، بتاريخ 25/01/1999.

 

73


55

المبحث الثالث: مراتب الأنس بـالقرآن

بعض أقاويل هذا وذاك، لكن ليس في قلوبهم ذلك النور. وأنتم ستجدون، ببركة القرآن والتدبّر فيه، تلك المعرفة وتلك النورانيّة[1].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) في لقاء مسؤولي نهضة محو الأمّيّة، بتاريخ 27/12/2001.

 

74


56

المبحث الرابع: نمط العيش القرآنيّ

الإمام الخمينيّ (قدس سره) نموذج المستأنس بالقرآن

كان الإمام يحبّ القرآن، وكان هو نفسه طالبًا في المدرسة القرآنيّة، وكان أنيسًا بـالقرآن، وكان يستمدّ العون من القرآن، وكان القرآن له برنامج الحياة[1]. لقد طُوِيَ، في مدرسة الثورة التي أسّسها الإمامُ، بساطُ الإسلام السفيانيّ والمروانيّ، إسلامُ المراسم والمناسك الخاوية، الإسلامُ المسخّر للظلم والقهر، أي الإسلام الذي تُسيّره أيدي القوى المغيرة على أرواح الشعوب، وساد الإسلام القرآنيّ والمحمّديّ، إسلام العقيدة والجهاد، إسلام الخصومة للظالم والعون للمظلوم، إسلام المقارعة للفراعنة والقارونيّين، وخلاصة الأمر: الإسلام المحطِّم للجبابرة، والمقيم لحكومة المستضعَفين[2].

إنّ السبب في تمكّننا، نحن شعبَ إيران، من الصمود والمقاومة في مواجهة هجمات العدوّ المختلفة، بكلّ صعوباتها، على مدى السنوات العشر بعد الثورة، وإلحاقنا المزيد من الخسائر به،

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) بمناسبة الذكرى الثامنة لارتحال الإمام الخمينيّ (قدس سره)، بتاريخ 04/06/1997.

[2]  المصدر نفسه.

 

78


57

المبحث الرابع: نمط العيش القرآنيّ

هو سيادة الروح الثوريّة والتقوى، ووحدة الكلمة بين أفراد شعبنا، ببركة الدين والإيمان والثورة والإسلام، والتربيةِ القرآنيّةِ والإسلاميّةِ للإمام العظيم الراحل، الذي كانت أقواله وكلماته وأفكاره انعكاسًا واضحًا لمفاد القرآن والإسلام ومضمونهما[1].

إنّ إبراهيم(عليه السلام) بكلّ شأنه، قال لله -تعالى-: ﴿أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ﴾، فقال الله -تعالى- له: ﴿أَوَ لَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ﴾[2]. بعدها، قال الله -تعالى- له: حسنًا، فلتقم بهذه الأعمال، لترى بعينك كيف يحيي الله الموتى. حسنًا، لقد رأينا نحن، بأمّ العين، كيف أنّ شعبًا أعزل انتصر في الحرب المفروضة، وكيف أنّ شعبًا حديث عهدٍ بالعمل السياسي والعلاقات الدوليّة ينتصر على مؤامرات الأعداء، كيف انتصر شعبنا، على الرغم من تشكُّل جبهة مادّيّة قويّة مقابله، تطعنه في الظهر، وتشهر عليه السيف من الأمام، وتثير الضجيج، وتعربد، وتفعل ما تفعله، فتحيك المؤامرات ضدّنا منذ أربعين سنة. ومنذ أربعين سنة، تبوء مؤامراتهم بالفشل، واحدة بعد أخرى. أَوَلا نرى هذا؟ هذه هي تجاربنا؛ فلنأخذ هذه التجارب بعين النظر، ولنعلم بأنّ طريق التقدّم القويّ المقتدر العزيز الناجح هو الارتباط بـالقرآن؛ فأساس جميع الخيرات هو هذا الكتاب العزيز الذي أنتم -ولله الحمد- على معرفة به، تأنسون به، بعضكم حافظ

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في لقاء جمع فئات الشعب، بتاريخ 18/12/2010.

[2] سورة البقرة، الآية 260.

 

79


58

المبحث الرابع: نمط العيش القرآنيّ

له، وبعضكم تالٍ وقارئ له، وبعضكم مستمع، وبعضكم معلِّم له. [إذًا]، أساس العمل هو هذا القرآن[1].

 

كم كان يتفطّر قلبي قبل الثورة، عندما كُنتُ أنظر إلى حال القرآن في مجتمعنا، وأرى الشباب بما لديهم من استعدادات وحماسة واهتمام، وهم ممعنون في بُعدِهم عن القرآن[2]. لقد أدخلَتْنا الثورة في وادي الأنس بـالقرآن[3]. قبل الثورة، كُنّا محرومين أساسًا هذه البركات. لا شكّ في أنّ أشخاصًا كانوا يجتمعون أحيانًا في مكان ما، ويتلون القرآن، ولكنّ هذا النموّ والرشد المتزايدَين، وهذا السيل العظيم من اهتمام الأطفال والشباب بـالقرآن، كلّه يرتبط بما بعد الثورة. ومن هنا، كان يأتي، أحيانًا، قبل الثورة، بعض القرّاء إلى إيران، ولكنّ أحدًا لم يكن يعلم متى أتى هؤلاء ومتى غادروا. قبل الثورة كان الشيخ أبو العينَين (شعَيْشع) قد أتى إلى مشهد بدعوة من الأوقاف -وكنتُ قد استمعتُ إلى صوته عبر أشرطة التسجيل قبل ذلك، وكانت تلاوته تُعجبني من بعد. ونحن كُنّا قد قطعنا صلتنا بالأشخاص الذين دعوه على نحو كلّيّ، ومع أنّني كنتُ أحبّ الاستماع إلى صوته، لكنّني لم أكن لأذهب إلى تلك المجالس التي يعقدونها -كانوا قد عقدوا جلسة في تلك القاعة في مسجد گوهرشاد،

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) في محفل الأنس بـالقرآن، بتاريخ 27/05/2009.

[2] من كلام له (دام ظله) في لقاء قرّاء أربعين دولة من العالم وجمع من العلماء في ذكرى البعثة النبويّة، بتاريخ 23/02/1990.

[3]  من كلام له (دام ظله) في اختتام مراسم قراءة القرآن، بتاريخ 19/12/1989.

 

80


59

المبحث الرابع: نمط العيش القرآنيّ

وكانوا يقرؤون القرآن، ولا أظنّهم كانوا قد وصلوا إلى مئة شخص. كان بعضهم متحلّقًا حول بعض، ويستمعون للتلاوة. كان الجوّ باردًا في ذلك الحين، وكان ولدي مجتبى لا يزال صغيرًا وبرفقتي، ولأنّني لم أكن أُريد المشاركة في تلك الجلسة، اضطررتُ إلى الجلوس في غرفة خارجيّة في ذلك الصقيع، حتّى أتمكّن من الاستماع إلى صوت الذي يُبَثّ. في ذلك الوقت، كان يجتمع نحو مئة شخص، ولكن الآن، حين تدخلون مكانًا ما، فإنّ المدينة واقعًا بأسرها تهتزّ! أجل، نحن نحيا بعشق القرآن، وببركته. نسأل الله ألّا يُفرّق بيننا وبين القرآن في الدنيا والآخرة[1].

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) في لقاء قارئي القرآن: شحّات محمّد أنور ومحمّد بسيوني، بتاريخ 09/02/1991.

 

81


60

المبحث الرابع: نمط العيش القرآنيّ

الجمهوريّة الإسلاميّة نموذج العمل بالقرآن

هناك حقيقة واضحة جدًّا، لكنّها لشدّة وضوحها، تبقى خافية في الغالب، ونحن نطرح هذه الحقيقة ونذكرها. هذه الحقيقة، التي هي أساس تحقُّق الجمهوريّة الإسلاميّة، هي تجسيد القرآن. إنّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، النظام الدينيّ، هو من أكبر مصاديق العمل بـالقرآن التي أوجدتها لنا الثورة. يجب ألّا نغفل عن هذا. أجل، هناك جداول كثيرة داخل هذا الإطار الكبير ينبغي أن تُملَأ، وأعمال كثيرة لا بدّ من أن تُنجَز، لكنّ المَهَمَّة والعمل الرئيسيَّين كانا إيجاد هذا النظام، إيجاد نظام قائم على الدين، وتكون هويّة المسؤولين فيه وأهدافهم وخصائصهم وأداؤهم وعلاقتهم بالجماهير وخدمتهم للناس، كلّها [قائمة] على أساس الدين، على أساس القانون الدينيّ والقانون الإسلاميّ. هذا نفسه هو أكبر مصداق من مصاديق العمل بـالقرآن. إنّه الأمر نفسه الذي قام به الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) حينما هاجر إلى المدينة. فما لم يوجد مجتمع ونظام وسلطة مركزيّة تنشر ظلالها على جميع الأنشطة الاجتماعيّة، لن تكون هناك ضمانة للأعمال. كان يوجد قبل الثورة خيّرون وناصحون قلائل، تتحرّق قلوبهم وضمائرهم،

 

82


61

المبحث الرابع: نمط العيش القرآنيّ

ويتألّمون وينصحون الناس -سواء في وسائل الإعلام العامّة أم ضمن حدود أضيق- ويعظونهم. وليست الموعظة عديمة التأثير، بل هي تؤثّر في القلب، لكنّها غير قابلة للتحقّق عمليًّا. لماذا؟ لأنّ النظام نظام طالح، ولأنّ اتّجاه المجتمع يُخالف العدالة والإنصاف والمروءة والأخلاق. فهل يُجدي، مع مثل هذا التوجّه، أن تُصرّ على هذا وذاك، أن كُنْ عادلًا، وكُنْ رحيمًا، وكُنْ منصفًا؟ التوجّه هو المهمّ. يتشكّل أساس التوجّه عبر تأسيس النظام، نظام له دين وله وجهة صحيحة. وهذا ما قامت عليه الثورة عندما أسَّسَت هذا النظام. ما أودّ قوله هو ألّا ينسى باحثونا القرآنيّون وشبابُنا المتحمّسون والمحبّون هذه الحقيقةَ. إنّها حقيقة جدّ واضحة وساطعة، لكن يبقى مغفولًا عنها في الغالب. إنّها حقيقة مهمّة جدًّا[1]. لقد أصبح القرآن هنا في الجمهوريّة الإسلاميّة هو المحور في إجراء القوانين العامّة في المجتمع؛ يعني أنّ كلّ ما يرتبط بشؤون إدارة مجتمع ما، يُؤخَذ من القرآن رسميًّا، لا اسميًّا، فالقوانين تُستمدّ من القرآن الكريم، وكلّ ما يُخالفه يُرفَض. حتّى الحكومة والسلطة السياسيّة، تتشكّل طِبقًا للمعايير القرآنيّة. القيم السائدة في المجتمع هي قيم قرآنيّة، وكلّ فرد ملتزم وخدوم يحظى بالانتماء والقبول في المجتمع الإسلاميّ. وإذا كان المسؤولون في البلاد اليوم، يحظون بمحبّة

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في جمع من سيّدات البلد الباحثات في القرآن، بتاريخ 20/10/2009.

 

83


62

المبحث الرابع: نمط العيش القرآنيّ

الشعب الإيرانيّ، فذلك بسبب عملهم بـالقرآن وإيمانهم وتديّنهم والتزامهم الدين[1].

 

نحن لا ندّعي أنّ ما لدينا اليوم هو الحياة الإسلاميّة بصفة كاملة، ولكنّنا ندّعي أنّنا نسير باتّجاه تحقيق الحياة الإسلاميّة. منذ بداية الثورة إلى اليوم، كانت الخطوط الأساسيّة لكلّ جهد مبذول وسعي جارٍ، إسلاميّةً وقرآنيّةً، ومجتمعنا -بحمد الله- يتقدّم يوميًّا نحو صيرورته مجتمعًا إسلاميًّا، وهذه الحركة لم تتوقّف مطلقًا، وآمل ألّا تتوقّف أبدًا[2]. إن كان المقصود من تصدير الثورة تصدير الثقافة القرآنيّة والإسلام الذي يصنع الإنسان، فهذا أمر سليم ونفتخر به. نحن نعرف تكليفنا، وهو أن ننشر، بكلّ طاقتنا وبأعلى صوتنا، المفاهيم والقيم والأحكام والمعارف الإسلاميّة، التي هي مصدر نجاة الشعوب والمستضعفين والمظلومين. ونشعر أنّنا إن لم نعمل بهذه المسؤوليّة، فسنكون مقصِّرين[3]. ثمّة في البلدان الإسلاميّة، سواء في أفريقيا أو آسيا، وفي كلّ أنحاء العالَم، حتّى في قلب البلد الذي مارس ضدَّنا أشدّ العداء -الولايات المتّحدة الأمريكيّة- مسلمون ليسوا من الشيعة، لكنّ قلوبهم طافحة بمحبّة الجمهوريّة الإسلاميّة،

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في لقاء العاملين ومسؤولي النظام وضيوف مؤتمر الوحدة الإسلاميّة، بتاريخ 17/11/2015.

[2]  من كلام له (دام ظله) في لقاء أعضاء مجلس خبراء القيادة، بتاريخ 23/05/2013.

[3] من كلام له (دام ظله) في مراسم بيعة الضيوف الخارجيّين المشاركين في مراسم الأربعين يومًا على ارتحال قائد الثورة الإسلاميّة العظيم، وجمع من أهل مشهد، وجمع من عشائر محافظة خوزستان، بتاريخ 05/10/2010.

 

84


63

المبحث الرابع: نمط العيش القرآنيّ

ومحبّة الإمام الخمينيّ، ومحبّة هذا الشعب العظيم ذي العزيمة والإرادة؛ لأنّ الجمهوريّة كانت إسلاميّة. أولئك يُحرِّفون هذا ويُبدِّلونه، ويريدون وَصْمَ الجمهوريّة الإسلاميّة، كذبًا، بوصمة معاداة الفرق الإسلاميّة. اذهبوا وأوضِحوا هذه الأمور. ليعلم إخوتنا المسلمون وأخواتنا المسلمات في العالَم كلّه، أنّ هذه الجمهوريّة جمهوريّتهم، وليعلموا أنّ الذي جرى هنا هو ما يتمنّاه قلب كلّ مسلم. فأيّ مسلم في العالم لا يطمح إلى سيادة القرآن؟ ها هنا قد تحقّقت حاكميّة القرآن، وسادت الشريعة[1].

 

 


[1]  من كلام له (دام ظله) في لقاء المسؤولين والوكلاء في بعثة الحجّ، بتاريخ 05/11/2008.

 

85


64

المبحث الرابع: نمط العيش القرآنيّ

قواعد سلوكيّة قرآنيّة

القرآن كتاب الحياة. إذا طابق البشر قواعد الحياة مع القرآن، سيكون لهم سعادة الدنيا والآخرة. يدلّ [القرآن] الإنسان على طرق السلامة والأمان والطمأنينة في الحياة. إذا عملنا بـالقرآن، ستُحَلّ هذه المشكلات كلّها؛ أي بلا شكّ، ستُنْقَذ المجتمعات البشريّة من هذه المشكلات كلّها، إذا اتّبعَت التعليمات العمليّة للقرآن، وسأتطرّق إلى بعضها باختصار.

 

1. ألّا نجعل الحياة الدنيا محورًا[1]

هذه الأشياء التي أقول إنّها موجودة في القرآن، وهي درس في الحياة، تنتمي إلى ظاهر القرآن؛ إنّها تنتمي إلى ما أفهمه وأمثالي من القرآن. وإلّا ما يفهمه الكماليّون في التوحيد والراسخون في العلم من القرآن، وما يفهمه أولياء الله، هو بواطن القرآن وبحر القرآن العميق. القرآن أعلى بكثير من هذه الكلمات. ما أقوله: إنّ هذه الآلاف من قوانين الحياة هي من الأشياء التي نحصل عليها من ظاهر القرآن.

 

 


[1] من كلام له (دام ظله) في محفل الأنس بـالقرآن، بتاريخ 25/04/2020.

 

86


65

المبحث الرابع: نمط العيش القرآنيّ

حسنًا، هذه الأشياء العمليّة، وبعضها يتعلّق بتنظيم قواعد الحياة. على سبيل المثال، افرضوا: ﴿فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰق﴾[1]. يوجد بعض الذين يحصرون جميع قواعد الحياة البشريّة والصداقات والعداوات والعلاقات والأهداف والدوافع على أنّها من فِعل الدنيا. ماذا تعني الدنيا؟ تعني المال، تعني السلطة، تعني الشهوة... هذا هو المراد من الدنيا هنا. فصداقتهم لهذه الغايات، وعداوتهم لهذه الغايات، وبناء علاقاتهم لهذه الغايات، وسعيهم لهذه الغايات، وأهدافهم لهذه الغايات... هذا ما يرفضه الله –سبحانه وتعالى–، إنّ إنشاء هكذا قاعدة للحياة أمر مرفوض عند الله –تعالى–. ﴿وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰق﴾. هؤلاء سيحصلون على أشياء في هذه الحياة الدنيويّة، في هذه الحياة المؤقتة والقصيرة، ولكن في الحياة الأصليّة والحقيقيّة والأخرويّة، حيث حياة الإنسان هناك، لا يملكون شيئًا، لا شيء من نصيبهم فيها، ولا ينتفعون منها.

 

2. مقاصد الحياة الحقيقيّة في الدنيا والآخرة

في المقابل، هناك قاعدة أخرى للحياة: ﴿وَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَة وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَة وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾[2]. هذه هي القاعدة الثانية. أي أولئك الذين يسعون إلى خير الدنيا، ولا يسعون إلى أيّ شيء؛ ﴿ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا﴾؛ لا يقولون: أعطنا

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 200.

[2] سورة البقرة، الآية 201.

 

87

 

 


66

المبحث الرابع: نمط العيش القرآنيّ

كذا، لكن من الواضح أنّه يريد الدنيا، ولكن هذا القول: ﴿ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَة﴾ يعني أعطِنا الأشياء الحسنة في الدنيا، الأشياء التي تتوافق مع فطرة الإنسان، والتي تتوافق مع الاحتياجات الحقيقيّة للإنسان. ﴿وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَة﴾؛ يسعون وراء الآخرة أيضًا. ﴿وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾؛ هناك أشخاص يوفّقهم الله –تعالى– لنَيل مقاصد الحياة الحقيقيّة. وثمّة مجموعة آيات من هذا القبيل، التي تحدّد قواعد الحياة. أو افرضوا، على سبيل المثال، في آية مرتبطة بالعقلاء من بني إسرائيل، حيث إنّ بعضهم كانوا ينصحون قارون ويقولون له: ﴿وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ﴾[1]. لم يقولوا لقارون: تخلَّص من كلّ ما لديك، بل قالوا له: اجعل ما لديك وسيلة. إنّ مال الدنيا وثروتها وسيلة، وسيلة للوصول إلى المراتب البشريّة والإنسانيّة السامية، وسيلة للوصول إلى المراتب المعنويّة. يمكن أن تكون وسيلة. يمكنكم إعمار العالَم بالمال، وإنقاذ حياة البشر، والقضاء على التمييز، وإخراج الفقراء والضعفاء من الفقر والضعف. ﴿وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ﴾؛ أوّلًا، ما هو تحت تصرُّفِك فهو ﴿ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ﴾، أعطاها الله لك، وثانيًا، الغاية منه هو أن تنفقَّه في سبيل الله. ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ﴾؛ وليس المقصود

 

 


[1]  سورة القصص، الآية 77.

 

89


67

المبحث الرابع: نمط العيش القرآنيّ

ألّا يكون لك حظّ وحصّة منه، بل لديك حصّة منه، فاستفِد من حصّتك أيضًا. ﴿وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ﴾؛ التفِتُوا! هذه هي قاعدة الحياة التي حدَّدَها الإسلام لنا. بعكس ما كان يتصوّره ذلك المجنون، قارون ذو الثراء الفاحش، كان يقول: ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓۚ﴾[1]؛ أي: أنا استطعت أن أحصل عليه بنفسي، حصلت عليه بذكائي. لكنّ الواقع لم يكن كذلك، فالله – تعالى – هو مَن سخّر الوسائل له، ثم استطاع أن يحصل عليها. لذلك، إنّ بعض آيات القرآن على هذا النحو، ولدينا الكثير من قبيل هذه الآيات التي تحدّد قواعد الحياة.

 

3. تنظيم العلاقات الاجتماعيّة

هناك بعض الآيات تتعلّق بتنظيم العلاقات الاجتماعيّة، وهذه التعليمات العمليّة تتعلّق بالعلاقات الاجتماعيّة. افرضوا: ﴿وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ﴾[2]؛ لا تغتابوا. هذا [الأمر] ينظّم العلاقات الاجتماعيّة. عندما تغتابون، تلوّثون قلوبكم، وتلوّثون قلوب مخاطبيكم، وتفضحون الحقيقة الخفيّة لأخ مؤمن وأخت مؤمنة، أمام هذا وذاك، وهذا أمر خطأ وغير صحيح. فهو قد يفعل تجاهك أيضًا الشيء نفسه. هذا العمل يُخرِج الحياة والعلاقات الاجتماعيّة عن نظامها الصحيح.

 

 


[1] سورة القصص، الآية 78.

[2]  سورة الحجرات، الآية 12.

 

89


68

المبحث الرابع: نمط العيش القرآنيّ

4. مراعاة العدالة والإنصاف حتّى مع المخالِف والعدوّ

افرضوا مثلًا حين يقول: ﴿وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَ‍َٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ﴾[1]؛ إذا اختلفتَ مع شخص ما، أو كنتَ على عداوة مع شخص ما، لا ينبغي أن يجعلك ذلك غير منصف معه، وأن تكون ظالمًا وغير عادل. التفِتوا! هذا قانون عمليّ. نعم، قد تختلفون مع شخص ما، ولكن في الأمور التي يكون فيها الحقّ معه، ينبغي ألّا يجعلكم [هذا] تخفون الحقّ أو تزهقون حقَّه وتضيّعونه وألّا تنصفوه بسبب مخالفتكم له. لاحِظوا في المجتمعات، [حتّى] في مجتمعنا -كي لا نذهب بعيدًا- إذا عملنا بهذه الآية مع أولئك الذين يخالفوننا، لو نعمل بهذه الآية؛ أي أن نكون منصفين معهم، وهم أيضًا أن يكونوا منصفين معنا، تخيلّوا كيف سيصبح الوضع في المجتمع، سيكون الوضع مقبولًا وجيّدًا.

 

5. الابتعاد عن نشر الشائعات والأكاذيب

يقول تعالى: ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ﴾[2]؛ أشرتُ إلى أنّه يوجد كهذه –كهذه الآيات في القرآن–الآلاف من التعليمات القرآنيّة. ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ﴾؛ لا تسعَ وراء الشيء الذي ليس عندك يقين به، ولا تَثِق بما لستَ موقنًا به. تقوم الصحافة السائدة في العالم الآن، على عكس هذا تمامًا؛ أي

 

 


[1]  سورة المائدة، الآية 8.

[2]  سورة الإسراء، الآية 36.

 

91


69

المبحث الرابع: نمط العيش القرآنيّ

إنّهم ينشرون عبثًا كلّ ما يُشاع، وما يُؤَلَّف من الكذب والأمور غير المطّلعين عليها وليس لديهم علم بها. للأسف، هناك بعض هذه الأمور داخل مجتمعنا أيضًا. إذا نفَّذْنا هذا الأمر الواحد، إنّ جزءًا كبيرًا من مشكلاتنا ستُحَلّ.

6. غياب الثقة بالمستبدّ والظالم

يقول تعالى: ﴿وَلَا تَرۡكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾[1]؛ لا تثقوا بالمستبدّ، بالظالم، ولا تتّجهوا نحوه. «الركون» يعني الميل إليه، والتوجُّه نحوه، والوثوق به. لا تَثِقوا بالإنسان الظالم. نتيجة ذلك، كما ترون: الدول الإسلاميّة والجماعات الإسلاميّة التي تثق بأكثر العناصر ظلمًا والأكثر استبدادًا في العالم! إنّهم يرون نتائج ذلك، وترونها أيضًا.

7. ألّا نخون الأمانة

يقول تعالى: ﴿وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ﴾[2]؛ أقيموا العدل، الذين جعلوا القسط والعدل والإنصاف في جميع أمور الحياة. أو قوله: ﴿لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ﴾[3]؛ لا تخونوا الأمانة. الأمانة لا تعني فقط المال الذي وضعتموه عندي، فالمنصب والمسؤوليّة التي منحتموني إيّاها هي أمانة أيضًا. فإذا لم أعمل بهذه الأمانة على نحو صحيح، أكون فقد خنتُ

 


[1]  سورة هود، الآية 113.

[2] سورة الحجرات، الآية 9.

[3] سورة الأنفال، الآية 27.

 

92


70

المبحث الرابع: نمط العيش القرآنيّ

الأمانة. انظروا: لو أنّنا نعمل بهذا الأمر فقط، ماذا سيحدث؟ لذلك، كلّ ما يقدّمه القرآن لنا هو تعليمات عمليّة.

8. تجنّب الخوف، والصمود في وجه العدو

يقول تعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾[1]، التي هي تتمّة لآية ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوۡلِيَآءَهُۥ﴾، حيث جاؤوا وقالوا لهم: «إنّهم يتآمرون عليكم، فاخشوهم». يخوّفون [المسلمين]. القرآن يقول: كلّا، لا تخافوا منهم، بل خافوا منّي، اعبدوا الله -تعالى-، ثِقوا بالله، واصمدوا في وجه العدوّ، ليمكنكم أن تدحروا العدوّ.

هذا الخائف من الظالمين هو نفسه الذي يقول للإنسان: اخشَ هذا وذاك، اخشوا من هذه القوى وتماشوا معها. هذا شيطان. ولقد شاهدنا على مرّ التاريخ، أنّ الأشخاص الذين خافوا من هذه القوى، قد ابتلوا بامتحانات صعبة ومريرة في حياتهم. اليوم، القوى والدول الإسلاميّة تراعي القوى المستبدة، فيخافون منهم ويتجاهلون قوّة أنفسهم، ونتيجة ذلك أنّهم يحصدون المذلّة.

لن أنسى أنّه عام 1358 هـ. ش. (1979-1980)، عندما أسر شبابُنا الجواسيس الأمريكيّين وسيطروا على وكر التجسُّس الأمريكيّ، ضغط بعضٌ على «مجلس الثورة» لإطلاق سراحهم.

 


[1] سورة آل عمران، الآية 175.

 

94


71

المبحث الرابع: نمط العيش القرآنيّ

أنا والمرحوم الشيخ هاشمي رفسنجاني و(أبو الحسن) بني صدر، نحن الثلاثة من المجلس، ذهبنا إلى قُمّ. في تلك المدّة، كان الإمام (الخمينيّ) في قمّ. ذهبنا إلى الإمام لنسأله ما علينا فعله. أخبرناه بما يحدث، وبأنّهم يضغطون علينا لكي نفرج عنهم في أقصر وقت، فالتَفَتَ الإمام إلينا وقال: هل تخافون من أمريكا؟ فأجبته: كلّا، لا نخاف! فقال: إذًا عليكم ألّا تُفرِجوا عنهم. هذا كان واقع الحال؛ فلو أنّ أحدًا قرَّر الخوف من أمريكا ومراعاتها، لكان سيعكس نتائجًا سلبيّة ومُرّةً على البلد في ذلك اليوم. نحن قد شاهدنا الحالات التي كانت تخاف فيها الحكومات والسلطات في بلدنا من العدوّ، وكيف كان هذا الخوف يسبّب لهم الكثير من المشكلات. القرآن يقول: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ﴾؛ ﴿خَافُونِ﴾ يعني أن تلتزموا أوامري. هناك حيث قال الله -تعالى-: جاهِدوا، فجاهِدوا؛ وحيث قال: توقَّفوا، توقَّفوا؛ هذا هو معنى ﴿خَافُونِ﴾.

 

9. إقامة الصلاة تحت عنوان ذِكر الله وتذكُّره

يقول تعالى: ﴿وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ﴾[1]. الآن بمناسبة شهر رمضان، التفِتوا إلى هذه النقطة أيضًا: ﴿وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ﴾؛ هذه إحدى التعليمات العمليّة. الصلاة هي للذِكر، للتذكُّر. حافِظوا على الصلاة من أجل ذِكر الله. إذا عملنا اليوم جميعنا

 


[1] سورة طه، الآية 14.

 

95


72

المبحث الرابع: نمط العيش القرآنيّ

بهذا الأمر، وكلّنا نستطيع أن نعمل به، أن نؤدّي الصلاة بتركيز، وألّا نترك قلبنا في مكان آخر أثناء الصلاة، وأن نصلّي من أجل ذِكر الله -تعالى-، سوف يَترك هذا حتمًا تأثيرات عظيمة في ترقّينا الروحيّ. وأيضًا: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَة نَّصُوحًا﴾[1]، فهذه الأيّام هي أيّام التوبة، أيّام الاستغفار، أيّام العودة إلى الله.

 

 


[1]  سورة التحريم، الآية 8.

 

96


73
الأنس بالقرآن الكريم