نزف النخيل

قصة حياة ميثم التمار


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2021-08

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للترجمة

مركز متخصص بنقل المعارف والمتون الإسلامية؛ الثقافية والتعليمية؛ باللغة العربية ومنها باللغات الأخرى؛ وفق معايير وحاجات منسجمة مع الرؤية الإسلامية الأصيلة.


المشهد الأول

إشارة

كلّما تعاظمَ الكمالُ عجزَ البيان عن وصفه، لكن ضرورة الاستفادة من الشمس، تستوجب الاقتباس من مرايا شعاعها.
هكذا هو مداد الرواة عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)، فحين تعظم الغاية في معرفة ثراء وجوده، يستلهمُ طلاب الحقيقة تجلياتِها العلويّة في كلّ من اقترب وعشق وعرف.

هذا الكتاب يسردُ محطات من حياة «ميثم التمار» الصاحبِ المخلصِ الذي اقترب من مولاه فعشق وعرف. قاده القدر إلى بلاد المسلمين. نشأ مُحبًّا للخير، وكبر مُريدًا للعدالة. أدرك الكمال منجذبًا إلى هالة الأنس، وصار محلًّا للثقة. بذل كلامه وأفنى عمره في نصرةِ عليّ. جُرح وصُلب نازفًا على النخيل...

لنقرأ قصّة «ميثم» حكايةَ العشق وروايةَ طلبِ الحق. ومن قصد فيوضات النور تأملَ المصابيح.

نشكر كلّ من ساهم في إعداد الكتاب وترجمته وتحريره لا سيّما الأستاذ أحمد عودة في الترجمة، السيدة حوراء سجادي في تدقيق الترجمة، السيدة نجوى الموسوي في التحرير والتقديم، الأستاذ فيصل الأشمر في التدقيق اللغوي، والمصمّم

 

9


1

المشهد الأول

الفني الأخ علي عليق. كما ونشكر جزيل الشكر الكاتب سعيد محمدي والرسام محمد صادق؛ ولا ننسى معدّ وناشر النسخة الأصلية: انتشارات جمكران (دار جمكران للنشر)، وناشر النسخة العربية في بيروت: دار المعارف الإسلامية الثقافية.

تنويه: عنوان الكتاب الأصلي: باغ طوطي (روضة الببغاء)، وقد ارتأينا وضع عنوان آخر له، نزف النخيل.

 

مركز المعارف للترجمة

تشرين الثاني/ 2020م

 

10


2

المشهد الثاني

المشهد الأول

كانت النياق تنظر بعيونها الواسعة إلى أولئك المقيدين بالسلاسل، تحدّق بهم وهي تجرّ أفواهها على الأرض بين القمامة، وصوت السلاسل الملتفّة حول أقدام الرجال تملأ الفضاء المختنق، في ذلك الصباح الخريفي المشبع بضباب المستنقع.

كان الأسرى يجرون أرجلهم على الأرض وهم مثقلون ومتعبون، يعبرون من بين الإبل ونظراتها الحريصة، فيما أقدامهم تغوص في المستنقع حتى الرسغ، وهم يُقادون خلف المحاربين المنقّبين، يسيرون نحو تلك الخيام الواقعة خلف المستنقع، من دون الالتفات إلى أعواد القصب اليابسة المنتصبة الحادّة.

كانت سيوف المحاربين المنحنية تلمع، وهم تارة يقهقهون، وتارة أخرى يتكلمون بلغة لم يفهم الأسرى منها شيئًا، سوى كلمة واحدة، كان الرجال يكرّرونها بازدراء؛ مجوس... مجوس...

بدت وجوه الأسرى مقطبة وشاحبة، وأبدانهم مرهقة، وهم يتقدمون بخطوات ثقيلة؛ فطول الطريق أنهك قواهم، ما أجبرهم على السير ببطء شديد. لقد غارت عيونهم من شدة التعب، وغضِنَت جباههم حتى ارتسمت عليها الخطوط، أما لحاهم الكثيفة فصارت شعثاء غبراء.

 

11


3

المشهد الأول

من بين الأسرى كان فتىً ذو شعر طويل أسود يميل إلى الزرقة، لم يكد يُرى من بين الرجال الغلاظ وهو يسير، وقد اعتراه خوف شديد. كانت عيناه مسمّرتين على شفرة سيف الحارس وهو يراقبه بشدة. لم يعد في ركبتيه قوة تحمله على المشي، فمسير أيام وليال عديدة ومتواصلة أفقدته القدرة والحول؛ لكنه ظلّ يجهد نفسه على السّير حتى لا يتأخر عن القافلة. فإذا حدث

 

 

12


4

المشهد الأول

وتحركت قدمه ببطء خطوة واحدة، فإن الأسير الذي يتقدمه سيسحب السلسلة التي تقيد معصميه، مما يدمي جراحه أكثر فأكثر. تلك السلسلة حول معصميه أشبه ما تكون بالمنشار، إذا تحركت احتكّت بجلده، ومزّقت لحمه، وضغطت على عظامه، فيتسلّل الألم إلى فقرات ظهره، وتجري الدموع على وجنتيه من شدة الألم.

 

عندما خرجوا من أوحال المستنقع، طلب منهم فارس من الأعداء أن يتوجهوا نحو كثبان من الرمال، كانت مليئة بحصى ناعمة مدوّرة وحمراء، وتكاد ظلال شجرات النخل المنتصبة في الطرف الآخر من المستنقع أن تصل إليها. هناك تحلّق الأسرى حول تلة الرمال. ارتمى بعضهم على الأرض، وعلت الآهات والأنّات. ثم راحت تعلو أصوات الهمس بين من هم أفضل حالًا. لم يكن أحدٌ يعلم أيّ مصير ينتظرهم؛ أيقتلون أم يسجنون! لكن حديث الرجال جعل الفتى يرتعد من شدّة الخوف.

- يريدون أن يسلخوا جلودنا مثل الحرباء.

- فليرحمنا الرب.

كانت النظرات متوجهة نحو شفرات السيوف. أما الجنود فراحوا يخمدون صراخ الأسرى وعويلهم.

- نحن لم نرتكب أي ذنب، كنا أناسًا مساكين نعمل ليل نهار.

- لسنا أسارى في ميدان المعركة.

- في النهاية نحن عبيد.

 

14

 


5

المشهد الأول

 لم يجلبونا من ناحية النهروان إلى هنا عبثًا، لو أرادوا قتلنا لقتلونا هناك.

طلب الجندي البدين الواقف تحت ظل نخلة، بغضب، من الأسرى أن يسكتوا؛ لكن أحدًا منهم لم يفهم شيئًا من كلامه.

- لقد جلبونا ليعلقونا فوق المشانق، حتى يرى ذلك نساؤهم وأطفالهم.

- أما أنا فأفضّل أن تقطع عنقي بحدّ السيف، على أن أشنق وأتململ فوق المشنقة.

صوت غليظ يصدره الحارس فيسكت الجميع.

كان الفتى يرمي بطرف عينيه ظل الحارس، وهو يرتعد، وقد خُطف لونه من شدة الخوف، بينما رأس السيف المعلق برقبة الحارس يميل ويستقيم مع كل حركة يأتي بها، ويلمع مثل المرآة تحت أشعة الشمس.

في الجهة المقابلة كان صوت ضجيج النساء والأطفال يعلو، لقد خرجوا من خيامهم ووقفوا يشاهدون ما يحدث... نساء ورجال عجزة يرتدون أثوابًا طويلة بيضاء وسوداء. راح الجنود يزجرون الأطفال فيبتعدون، لم يكن عددهم كبيرًا. كان أكثرهم من الفتيات الصغيرات النحيلات.

عندما علت أصوات الأولاد وضحكاتهم، شعر الفتى برغبة عارمة في اللعب معهم، لكنه لم يكن يمتلك الشجاعة على رفع رأسه والنظر إليهم. في تلك اللحظات أحس بشوق شديد يأخذه، تراءت له صورة أمه وهي واقفة عند عتبة الباب تنتظره

 

15


6

المشهد الأول

بصمت، كما كانت تفعل كل مرة! ذكرى جعلت دموعه تسيل على خدّيه. أين أمه الآن؟ ماذا حلّ بأبيه؟ لم يعلم أحد كيف تجاوز الجنود أسوار المدينة ودخلوها. حدث ذلك في منتصف النهار. سقطت النهروان في يد فرسان من العرب كانوا يرتدون اللباس الأبيض. الجنود الملثمون يشاهدون في كل مكان؛ في الأسواق والأزقة. اضطربت المدينة دفعة واحدة، واختلّ أمنها، وانتشرت فيها رائحة الدماء والدخان، وأخذتها النيران. كان والده قد طلب إليه أن يعود إلى البيت ليحفظ حياته وحياة أمه. تحرك نحو المنزل مبتعدًا عن سوق التّمر وهو خائف، لكنه في الطريق وقع في يد عدد من الجنود، سدّوا عليه الطريق، وأقفلوا الزقاق من الجهتين. ما هي إلا لحظات، حتى سمع صوت الوهق يدور ثم يلتف مقيدًا كتفيه بإحكام. فجأة رأى نفسه ممددًا على الأرض. راح الفتى يصرخ ويفحص بيديه ورجليه، غير أنه لم يجد أحدًا ليساعده؛ لا والده ولا غيره. ابتلع الفتى ريقه، ومسح أنفه بكمّ يده الموحلة. كانت تتراءى له أمه من خلف غشاء دموعه، وهي تنتظره أمام الباب... ماذا حلّ بأبيه؟ أحيُّ هو أم قتل؟ إن كان حيًا فأين هو الآن؟ لماذا لم يصبح أسيرًا مثله؟ ما زالت صورة أبيه مطبوعة في ذهنه، بتلك اللحية الكثيفة، والجبهة العالية، وهو ينقل سلال التمر من مكان إلى مكان، ويناديه بصوت رخيم حنون، يطلب إليه أن يساعده في ترتيب السلال. لقد سمع من أحدهم أن والده شوهد جريحًا قرب حائط دكانه. حرّك شفتيه ببطء وهمس قائلًا: «أبي».

 

16


7

المشهد الأول

بصمت، كما كانت تفعل كل مرة! ذكرى جعلت دموعه تسيل على خدّيه. أين أمه الآن؟ ماذا حلّ بأبيه؟ لم يعلم أحد كيف تجاوز الجنود أسوار المدينة ودخلوها. حدث ذلك في منتصف النهار. سقطت النهروان في يد فرسان من العرب كانوا يرتدون اللباس الأبيض. الجنود الملثمون يشاهدون في كل مكان؛ في الأسواق والأزقة. اضطربت المدينة دفعة واحدة، واختلّ أمنها، وانتشرت فيها رائحة الدماء والدخان، وأخذتها النيران. كان والده قد طلب إليه أن يعود إلى البيت ليحفظ حياته وحياة أمه. تحرك نحو المنزل مبتعدًا عن سوق التّمر وهو خائف، لكنه في الطريق وقع في يد عدد من الجنود، سدّوا عليه الطريق، وأقفلوا الزقاق من الجهتين. ما هي إلا لحظات، حتى سمع صوت الوهق يدور ثم يلتف مقيدًا كتفيه بإحكام. فجأة رأى نفسه ممددًا على الأرض. راح الفتى يصرخ ويفحص بيديه ورجليه، غير أنه لم يجد أحدًا ليساعده؛ لا والده ولا غيره. ابتلع الفتى ريقه، ومسح أنفه بكمّ يده الموحلة. كانت تتراءى له أمه من خلف غشاء دموعه، وهي تنتظره أمام الباب... ماذا حلّ بأبيه؟ أحيُّ هو أم قتل؟ إن كان حيًا فأين هو الآن؟ لماذا لم يصبح أسيرًا مثله؟ ما زالت صورة أبيه مطبوعة في ذهنه، بتلك اللحية الكثيفة، والجبهة العالية، وهو ينقل سلال التمر من مكان إلى مكان، ويناديه بصوت رخيم حنون، يطلب إليه أن يساعده في ترتيب السلال. لقد سمع من أحدهم أن والده شوهد جريحًا قرب حائط دكانه. حرّك شفتيه ببطء وهمس قائلًا: «أبي».

 

16


8

المشهد الأول

عاد إلى نفسه مع صوت رقيق. رفع رأسه، رأى امرأة طويلة القامة تقف في مقابله؛ امرأة سمراء تجرّ أذيال ثوبها على الأرض، عيناها السوداوان تشبهان إلى حد بعيد عينَي «فرنگيس» زوجة جارهم. أدار الفتى رأسه بانزعاج، لكن الجندي أخذ بذقنه ورفع رأسه نحو الأعلى، حتى تتمكن المرأة من رؤيته بصورة أفضل. خلف المرأة كانت تقف بنت صغيرة، شعثاء، رمداء، وهي تحدق به.

«هذا الولد جيد لك، ماجدة! سيقوم بأعمالك المنزلية ويساعدك في أشغالك، ريثما يأتيك خبر عن زوجك. لن يكلفك دنانير كثيرة».

وقع ظل المرأة على وجه الفتى. تقدمت خطوات إلى الأمام، وضعت يدها أسفل ذقنه، فأرجع الفتى رأسه إلى الخلف بانزعاج. تبسمت المرأة، ولم تنطق بكلمة واحدة، ثم راحت تحدّق بعينيه العسليتين. ما زالت جفون عينيه مبتلة بالدموع. انحنت قليلًا وأمسكت عضده، وبدأت تضغط عليها، كما يضغط على أسفل ظهر الخروف. كان والده يفعل ذلك عندما يريد أن يتفحص الخرفان، ليعرف إذا ما كانت مناسبة للذبح أم لا!.

عَبرت المرأة بجانب الفتى من غير أن تقول شيئًا، وراحت تنظر إلى الأسرى واحدًا تلو الآخر. ثم ذهبت وعادت بعد لحظات ووقفت في مقابل الفتى، التفتت إلى الحارس وقالت: «كلامك صواب يا سعد! يجب أن لا أفرط في مالي في أيام وحدتي هذه!».

 

17


9

المشهد الأول

نادى الحارس رجلًا كان يمسك بيده عظمة ناقة. تقدم الرجل البدين ببطء شديد، حدّثه الحارس بكلمات، فشرع الرجل البدين الأحول يخطّ برأس خنجره خطوطًا على عظمة الناقة التي كانت في يديه، ثم مال إلى الفتى يتأمله من رأسه إلى قدميه، بعد ذلك رفع رأسه ولم ينطق بكلمة واحدة. تقدم الحارس، انحنى وقطع حبلًا من الليف كان معقودًا حول معصمي الفتى، وفك السلسلة، ثم استدار بنصف وجهه نحو المرأة وقال لها: «ولدٌ هادئ! منذ انطلقنا من النهروان وأنا أراقبه، إنه كثير البكاء فقط».

- هل أمه وأبوه هنا؟

- لا أظنّ ذلك، إنه مثل الحَمَلِ الضائع، يبدو وحيدًا.

- إذًا، ليس ضيق صدره وبكاؤه عبثًا.

- على كل حال يمكنُكِ أن تكوني أمًّا له.

تجهم وجه المرأة، وسألت الحارس عن اسمه.

- الأسير ليس لديه اسم، ثُم إننا لا نفهم

 

18


10

المشهد الأول

لغة هؤلاء. من الأفضل أن تطلقي أنت عليه اسمًا.

ثم أشار إلى الفتى أن يذهب خلف المرأة.

في وسط ذلك الضجيج الذي أحدثه الذين جاؤوا ليشتروا خدمًا لأنفسهم، عَبَرَ الفتى من بين الرجال الأشداء المرعبين، وسار خلف المرأة؛ كأنه صار منسيًا. عندما ابتعدوا قليلًا عن ضجيج الناس، رجعت المرأة إليه وأمسكت بعضده، وبدأت تتفحصه من جديد، وتدور حوله، ثم طلبت إليه أن يسير خطوات عدة ويرجع، لكن الفتى لم يفهم كلمة مما قالت، وراح ينظر إليها بدهشة وتحيّر. تقدم الجندي والغضب بادٍ عليه، أمسك الفتى وجره بقوة، وقال له ما يجب أن يفعل. طلبت المرأة منه أن يرفع يديه عاليًا. أمسك الجندي يدي الفتى وشدهما نحو الأعلى، غير أن المرأة جلست على الأرض، وبدا الانزعاج على وجهها، عندما رأت معصميه الداميين، وقد بدا بياض عظمهما.

«سوف يتحسن بعد أيام عدّة، وقد يتحسن بسرعة إذا وضعت عليها مرهما...» قال الجندي.

مع مرور الوقت، كانت حرارة الشمس ترتفع أكثر فأكثر، وكان هدير الجمال ورائحة القمامة المنتشرة قرب المستنقع يملآن الفضاء. أما الذباب فراح يتنقّل مع البعوض فوق جراحات الأسرى. بعد أن تأملت المرأة الفتى جيدًا وتفحصته، راحت تخرج بعض الدنانير من كيسٍ بحوزتها، تعدّها واحدًا واحدًا وهي مترددة، ثم دفعتها إلى الجندي وقالت له: «إن كان

 

 

19

 


11

المشهد الأول

مريضًا فسوف أرجعه». بعد ذلك أمسكت بعضد الفتى، والتفتت إلى ابنتها وتابعت حديثها: «مائدة! أمسكي الحبل واجلبيه إلى الخيمة». قالت كلمتها ومضت تتقدم خطوة خطوة.

- انتبهي أثناء الليل فلا يهرب الفتى!

- إن أتى بحركة قطّعه الحارس إربًا إربا.

كانت الفتاة تمسك برأس الحبل المجدول من ليف النخيل بيدها، وهي تجرّ الفتى خلفها. عبروا من بين خيمتين، ومالوا نحو الجهة الأخرى للمستنقع. مشوا فوق روث الحيوانات المتجمّع خلف إحدى الخيام، ثم ساروا بجانب المستنقع حيث الأرض ضحلة وموحلة. بعد ذلك داروا حول شجرات النخل اليابسة، واجتازوا الخيام المنصوبة المبعثرة هنا وهناك.

شعر الفتى أنّ عيونًا تلاحقه، كانت تلمع من خلال شقوق أبواب الخيام وهي خائفة، وكأنها تنظر إلى ساق قدمه بحذر. ما إن ابتعدوا قليلًا عن الخيام، حتى خرج أصحاب تلك العيون من خيامهم ولحقوا بهم. وكان عدد من الصبية يلعبون تحت ظلال النخل، وقفوا يطاردونهم بأعينهم. تقدم صبيّ طويل القامة، ورمى الفتى بقبضة من الوحل كانت في يده، فأحنى الفتى رأسه نحو الأسفل، لكن الطين التصق برقبته؛ عندها ارتفعت ضحكات الأولاد، لكنهم ما لبثوا أن فروا جميعًا بصيحة واحدة من المرأة.

- ها ماجدة! لقد اشتريت عبدًا جيدًا. يبدو نشيطًا وقويًا مع صغره.

 

20

 


12

المشهد الأول

- أعتقد أنه سالم.

- اسمه سالم؟

- لا. لكن يمكن أن يكون اسمًا جيدًا له.

- هل يفهم لغتنا؟

- لا أعتقد، إنه مجوسي. لكن سوف أعلمه. لقد جاؤوا به من وراء الأنهار الغزيرة. ألا تريد أنت أن تشتريَ واحدًا؟

لم يجب الرجل المسنّ.

- قال سعد إنّه ولد مطيع.

- يستطيع أن يعينك في عملك حتى يأتيك خبر عن زوجك.

تأوّهت المرأة، وتابعت سيرها من دون أن تجيب. تقدمت نحو خيمة ظهر من خلفها كلب، أخذ يعوي كأنه يستقبلهم بنباحه. تمتمت المرأة بكلمات، فبدأ الكلب يدور حول ذلك الفتى الغريب ويشتمّ رائحته، ثم رجع إلى ظل الخيمة؛ صف يديه قليلًا إلى الأمام، وجلس على ذيله وهو يراقب الوافد الجديد، ثم بسط يديه إلى الأرض، ووضع رأسه بينهما متظاهرًا بالنوم. كان بين الحين والآخر يحاول طرد الذباب بفمه، وهو يغلق إحدى عينيه، بينما يراقب من تحت جفن عينه الأخرى ذلك الغريب الواقف خارج الخيمة تحت أشعة الشمس الحارقة.

 

22


13

المشهد الثاني

- ها ماجدة! أليس هناك من خبر عن وائل؟

استدارت المرأة بوجهها، لكنّه لم يكن يُرى تحت حمل القصب الجاف على رأسها: «كلا يا أختاه». غير أن جوابها ضاع بين أعواد القصب. مرّت من بين النسوة اللاتي كنّ يجمعن القصب حزمًا حزمًا، وتابعت سيرها خلف سالم وهو يحمل فوق كتفيه حُزمة من القصب ويمضي خلف ابنتها مائدة.

كانت الخطى بطيئة، سارت ماجدة وسالمة جنبًا إلى جنب، وقد تشابكت أعقاب حُزمتيهما. قالت ماجدة وهي تجيب سالمة التي كانت تسأل عن حال زوجها: «ليس بعد» ثُم تأوهت بشدة.

- قلبي مطمئن بأنه سوف يعود؛ الأرض التي ذهب إليها واسعة وبعيدة. إن شاء الله سيظهر. لكن الحمد لله أنك اشتريتِ هذا الفتى.

- إنه مسكين ومسالم. على كل حال فهو بمنزلة العصا في يدي في هذا الزمن الصعب.

تابعوا المسير وعبروا بجانب الخيم. على مسافة ليست ببعيدة، كان الرجال مشغولين بصفّ القصب يشبكونه ويجدلونه، ويعملون منه سقفًا وعرائش يستظلون بها؛ فالعيش

 

23

 

 


14

المشهد الثاني

تحت الخيم السوداء في الطقس الحار والرطب يضيق الصدور ويخنق الأنفاس. منذ مدة والناس مشغولون بجمع أعواد القصب وصفّها ونسجها، وإقامة السقائف، لأنها ألطف هواء من الخيم. صحيح أن الأفاعي والعقارب تجد طريقها براحة أكبر إلى السقوف، لكن العيش تحت عرائش القصب أكثر راحة، وألطف هواء.

 

منذ أن وضع سالم قدميه في خيمة ماجدة، كانت الخيام تُزال واحدة تلو الأخرى، بينما تنتصب مكانها عرائش القصب. أما ماجدة فكانت تصبر لعل زوجها يعود. لكن وائلًا لم يكن بين الجنود الذين كانوا يعودون من المناطق البعيدة، ولم يكن لدى أحد خبر عنه، وهذا ما كان يقلق ماجدة. عندما يئست من الأمر صممت أن تنصب عريشًا من القصب مثل الآخرين، لكن بمساعدة سالم.

 

طرح سالم أعواد القصب التي كان يحملها فوق الحزم الأخرى، وتقدم نحو المرأة يساعدها على التخلص من الحمل الذي أحنى ظهرها، ثم اقترب من مائدة، أخذ الحزمة منها ورماها فوق كومة القصب اليابسة. تقدمت المرأة من ابنتها، وراحت تسحب أوراق القصب اليابسة والحادة من بين خصلات شعرها الطويل، بينما كان سالم ينفض قميصه الطويل العتيق، الذي خاطته له المرأة، وهو ينظر إلى حزم القصب ويبتسم.

 

اليوم تعبنا، لكن كان عملنا جيدًا. تعالا إلى داخل الخيمة لنأكل شيئًا.

 

24


15

المشهد الثاني

أشارت المرأة إلى كأسين مليئتين بلبن الإبل، وهي تعقد رأس القربة. لم يكن سالم يحب لبن الإبل، فهو كثير الدسم، وطعمه يعقد اللسان. في الأيام الأولى كان لبن الإبل ينزلق في حلقومه بصعوبة؛ لكن المرأة كانت تجبره على تناوله. أما مائدة فقد شربت اللبن بشهية، وأدنت الكأس نحو أمها، تطلب اللبن مرة أخرى.

 

كان سالم ينظر إلى رأس أنفه الذي بدا له ظلًّا في بياض اللبن. مضت شهور على وضع سالم قدمه في خيمة المرأة؛ لكن مع كل الأحداث التي مضت، لم يبق الكثير في ذاكرته. صار يرى أمه مكان ماجدة. كان يتصور أحيانًا أن أمه تناديه؛ غير أن صوت ماجدة الرفيع، لم يكن نديًا، بل كان إلى حدّ ما جافًا وأجشَّ؛ لم يكن بلطافة صوت أمه على الإطلاق. ففي كل مرة كانت تناديه، كان يشعر أن تلك المرأة العربية تطلبه بنبرة غير محببة. في البداية كان الأمر كذلك، لكن رويدًا رويدًا اعتاد على صوتها. كان يعتقد أن في ذلك الغضب المختبئ في صوتها، يكمن موج متلاطم من الحزن، حتى أنه في بعض الأحيان كان يتصور أن المرأة تحسبه مقصرًا في [قضية] موت زوجها، أو سببًا في اختفائه، لذلك عندما كانت تغضب ماجدة، كان يسعى للاختباء في مكان ما، حتى ابنتها مائدة كانت تشعر بذلك، فيراها تتنحى جانبًا عن أمها، وتأخذ مسافة منها.

 

رفع سالم رأسه ونظر بطرفه، من فوق كأس اللبن، إلى ماجدة. كانت في آخر الخيمة مشغولة بإطعام طفلها. من يرَ

 

25


16

المشهد الثاني

هذه المرأة كيف تطعم طفلها بهدوء وحنان، لا يتصور أنها تلك المرأة نفسها التي كانت إذا غضبت احمرّ وجهها، وبدا شعلة من نار، وارتجفت يداها، بحيث لو صودف شخص في طريقها، فلن يسلم من غضبها. ذات مرة لفّت شعر ابنتها حول رأسها بعنف، ولولا أن دخل الجيران عليها، لكان شعر ابنتها اقتلع من فروة رأسها. لكن بعد منتصف الليل ترى هذه المرأة نفسها تداعب شعر ابنتها، وهي تنوح على فراق زوجها، تمامًا مثلما كانت تفعل أمه كل صباح. كانت تضمّه إلى صدرها بقوة، وتنشد له الأغاني. لكن أين أمه الآن؟ لم يقدر أن يتصور في ذهنه أنها قتلت. في كثير من الأيام، كان يخرج بذرائع مختلفة، يبحث بين طيات الخيام، ويسأل الأسرى الجدد عن أمه وأبيه، لكن أحدًا لم يكن لديه خبر عن أيّ منهما. لقد جاؤوا من [خلف] مدن ومناطق بعيدة، لم يكن قد سمع باسمها حتى. كان يفكر أحيانًا بالهرب والرجوع إلى النهروان، لكنه لم يجرؤ على أن يأتي بحركة واحدة أثناء الليل، فشخير الحارس الذي كان يغطّ في النوم خارج الخيمة يرعبه.

- سالم! أين أنت؟ بماذا تفكر؟ انهض فلدينا الكثير من العمل.

بهذه الكلمات رجع سالم من سفر خياله. أدار رأسه حتى لا ترى ماجدة عينيه المغمّستين بالدموع. خرج من الخيمة وهو يمسح الدمع عن عينيه، مرّ بجانب الحارس؛ كان باسطًا ذراعيه، رابضًا في حرّ منتصف النهار. همس الفتى بصوت خفي «حيوان مؤذٍ». دمدم الكلب، فخاف سالم، وأسرع في مشيته، ثم سمع صوت المرأة

 

26

 

 


17

المشهد الثاني

وهي تقول: «مائدة! أنت أيضًا تعالي لتساعدي سالمًا».

هرعت مائدة إلى خارج الخيمة، ونادته؛ فانتظرها! لقد اعتادت مائدة عليه في هذه الفترة، ركضت نحوه، أمسكت بيده، وانطلقا معًا إلى حزم القصب المتراكمة خلف الخيمة. بالأمس كانوا قد مهدوا الأرض، فانتزعوا الأشواك منها، وفرشوها بالرمل الأحمر الناعم. كانت الرمال تصدر حفيفًا تحت أقدامهم. تناول سالم عصا حادة الرأس، وحاول أن يغرزها في الأرض، لكن التراب كان صلبًا، نظر حوله، ثم طلب من مائدة أن تحضر له حجرًا محدد الرأس، وراح يحفر به الأرض. كان الحجر المحدّد يحفر الأرض كالمخلب، ويدخل في التراب الصلب، بينما راحت مائدة تأخذ التراب من خلفه، تجمعه بيديها وتدفعه خارجًا. عملوا حتى حفروا حول الرمل المفروش ثلمًا، كأنه جدول ماء. كان سالم مع كل ضربة في الأرض، يشعر بارتياح أكثر، فكان يضرب الحجر بغضب، ويتمتم بكلمات بصوت منخفض، لم تفهم الفتاة منها شيئًا؛ لكنها استمتعت بسماعها، كانت الكلمات شعرًا حفظه سالم عن أمه.

- هل تبكي يا سالم؟

رفع سالم رأسه، مسح دموعه بكمّ يده، ونفض رأسه نافيًا. لم يدر لماذا الآن يتذكر التهاويد التي كانت أمه تغنيها لأخيه الصغير، لم يكن يظنّ أنه يحفظها. كان أحيانًا يرى ضحكات أمه من خلف غشاء دموعه، وأحيانًا يرى تذمّرها عندما تغضب. كان يتحسّس وجهها الهادئ وهم يتحلقون حول النار

 

27


18

المشهد الثاني

عند الصباح الباكر، حيث يُغمض والده عينيه، وينشد ترانيم، بينما هو يكررها بصوت خافت.

-ولدي! ميثم!

كانت أمه تناديه مباشرة بعد الدعاء. هو يعلم بأنها سوف تضع رأسه في حضنها، وتداعب شعره المنسدل، وتدعو له بالسلامة والعافية. كم كانت رائحة والدته تمنحه الطمأنينة والراحة عندما يلقي برأسه على صدرها، حينها كان يشعر بأنه طائر في سماء الصباح.

-ميثم!

رفع ميثم رأسه.

-سالم! ماذا تنشد؟

عندما رأى ماجدة مسح دموعه بعجلة، وعاد إلى عمله بهمّة ونشاط. لكن بعد لحظات قليلة، انهار الفتى، لم يستطع أن يتمالك نفسه، دوّى شهيقه في الفضاء. أمسكت ماجدة ذراعه، ورفعته إلى الأعلى. سالم يبكي بكاءً عاليًا. لقد كان الحجر أثقل مما كان يعتقد.

- ماذا جرى يا سالم؟

لم يفهم ما قالت المرأة، لكنه شعر بدفء الأمومة في صوتها. كانت ماجدة لأول مرة تناديه بتلك المحبة، خلافًا للأيام الأولى.

- مائدة! اذهبي بسرعة واجلبي قربة الماء.

سار سالم مع المرأة وهي تسانده، حتى جلسا في ظلل حزم

 

28

 

 


19

المشهد الثاني

القصب. مدت ماجدة يدها تريد أن تمسح التراب الممتزج بعرق جبينه، لكنه لم يدعها تفعل ذلك. حرّكت شفتيها، فلم يفهم الفتى شيئًا، لكن صوتها ولحن أمومتها كانا يمنحانه الطمأنينة. رجعت مائدة ومعها قربة الماء، فطلبت المرأة منه أن يتقدم ويحني رأسه قليلًا، ثم ملأت كفها ماء ورشته على وجهه، بعد ذلك ملأ سالم كفيه وراح يغسل وجهه بالماء البارد.

ثم ما لبثت ماجدة أن نهضت، وتناولت الحجر، وبدأت تحفر الأرض.

ما إن حلّ الغروب حتى انتصب عريش القصب مثل سائر العرائش. كانت ماجدة تضحك وهي تأخذ جرسًا صغيرًا بيدها، [زيّنته بالأزهار] الحمر والزرق. علّقته بخيط على مدخل العريش، حركته ثم ضحكت وقالت: «ألا تعتقدون أن عريشنا قد صار أجمل من عرائش الآخرين؟».

لمعت عينا مائدة، فقفزت في الهواء تريد تحريك الجرس، لكن يدها لم تصل إليه. في هذه الأثناء طلبت منها أمها أن تذهب وتجلب أخاها الذي كان يبكي. أما سالم، فأحسّ بأن تعب اليوم قد زال بانتهاء بناء العريش، وزال معه حزنه، فتقدم بفرح، وضرب الجرس، فمال الجرس الذهبيّ الصغير يمينًا وشمالًا، وانبعث منه صوت لفّ عتمة ذلك المساء.

 

30


20

المشهد الثالث

- سالم! هناك دكان فُتحت مؤخرًا، فيها حلوى جيدة.

- لكنّني لا أملك شيئًا.

- لا تملك شيئًا؟ وهذا الكيس المليء بالقمح على ظهرك؟

ثم تذوق شفتيه وقال: «عجبًا كم هي شهية تلك الحلوى».

- لكن هذا القمح هو مؤونة شهر كامل لماجدة وأطفالها.

- قبضة من القمح لا تنقص منه ولا تزيد فيه شيئًا.

عض على شفتيه وأكمل:

- لن تعرف هذه العجوز العربية شيئًا.

- أنا لا أفعل هذا.

- كان علي إخبارك؛ لقد اتفقنا على أن يأخذ كل منا حفنة من القمح، ولعلك تكون شريكنا.

اتّكأ سالم على نخلة، وعدل كيس القمح على ظهره.

قبضاتٍ عدة من القمح فقط؛ من سيعرف بالأمر؟

هز سالم رأسه معلنًا رفضه، ثم حبس أنفاسه في صدره وسار. كان كيس القمح أثقل مما يتصور، ترنح قليلًا، لكنه فتح ساقيه، وأحكم وقفته، وعندما تمكن من الحفاظ على توازنه، انفصل

 

31


21

المشهد الثالث

عن أصدقائه الفرس، وتقدم مبتعدًا عن النخلة. استدار خلف خيمة كبيرة - كانت مستودعًا لقمح أهل الكوفة - ثم انحرف بطريقه نحو ميدان كناسة.

كانت قبيلة بني أسد تستقرّ في الجهة الأخرى من الميدان، تمامًا مقابل المستنقع الذي جفّ مؤخرًا. وكانوا قد اتخذوا ممرًّا عبره، ليجعلوا طريقهم أقصر.

حل الغروب. بدت الشمس الحمراء كأنها تمتطي كيس القمح فوق ظهره. كان سالم يتقدم وسط المستنقع بخطوات ثقيلة، ويجهد نفسه ليصل إلى عريش ماجدة قبل حلول الظلام.

كان نسيم الغروب يهب تارة، فيتلاعب بشعره الطويل، وهو غارق في تفكيره؛ يتذكّر الشهور والسنوات التي قضاها في هذه المدينة. فالأيام الأولى كانت صعبة جدًا بالنسبة إليه؛ كل ليلة تأتيه أمه في الحلم، فيستيقظ أحيانًا في منتصف الليل على صوتها، ويشعر كأنها تلاطف أخته الصغيرة، وهي تنشد لها أغاني المهد حتى تنام. لكن عندما كان يعود إلى نفسه، يدرك أنه في خيمة تلك المرأة العربية، وأن الصوت صوت ماجدة التي تهدهد رضيعها البكّاء، وتنشد له كي يهدأ وينام.

لم تكن ماجدة امرأة سيئة. صحيح أنها لم تكن أمه، لكنها ليست سيئة. في الأيام الأولى كانت كثيرًا ما تصرخ وتصيح في وجهه لأي سبب وذريعة، وأحيانًا تلطمه بيدها الثقيلة على رقبته. كانت تتخذ من أي سبب ذريعة للصراخ، فيرتجف حيثما كان. لم تكن لترحم حتى ابنتها، فإذا صودفت مائدة بقربها، أمسكت

 

32

 


22

المشهد الثالث

بشعرها، ولفته حول معصمها فيُسمع صراخها من بعيد. لكن مع تقدم الوقت ومرور الأيام، فهم سالم أن ما تفعله إنما بسبب اختفاء زوجها وائل، وأنها تكرهه لهذا السبب أيضًا، فهي تعتقد أن شعبه هم الذين سلبوها زوجها، لأنه اختفى في بلادهم.

في الأيام الأولى لقدومه، لم تكن تسمح له بالنوم قرب الخيمة، بل كانت تأخذه إلى قرب الحظيرة، وتربطه بنخلة هناك، وتضع بقربه كأسًا من الماء، ثم ترمقه بنظرات مليئة بالكره والغضب. لكن فيما بعد تبدل سلوكها شيئًا فشيئًا؛ فلم تكد تمضي شهور عدة بعد شرائه حتى سمحت له بأن يأتي إلى داخل الخيمة، ويتمدد هناك عند بابها، حيث قربة الماء وكؤوس الفخار. في البداية كان سلوكهما يوحي بأنهما يتبادلان الكره، في حين أن كل واحد منهما يحتاج إلى الآخر، ويجب أن يتحملا بعضهما بعضًا، لكن سلوك ماجدة قد تبدل، وأصبحت أكثر رحمةً وعطفًا، خصوصًا، بعد تلك الليلة الباردة، حيث دخلت لسعة الصقيع إلى الخيمة، بينما هو نائم قرب الباب، مكوّر على نفسه، مثل الشّاة، يرتجف من شدة البرد. في تلك الليلة، أخذت ماجدة غطاء من وبر الإبل، وضعته على جسد الفتى، وتمتمت بكلمات لم يفهمها؛ لكن صوتها كان يوحي بالأمومة، ما جعله يتذكر أمه للحظات. لكن بعد ذلك اليوم أيضًا، لم تتبدل نظرة كل منهما إلى الآخر.

كان سالم يعلم أن جهل ماجدة بمصير زوجها - أحيّ هو أم ميت- يضاعف من قلقها واضطرابها؛ لقد أدرك ذلك

 

33


23

المشهد الثالث

من كلامها وحركاتها، خصوصًا بعد أي شجار أو سباب؛ إذ كانت تجلس في زاوية الخيمة، تلطم خديها وتخدشهما، وتدعو على نفسها وعلى أبنائها، وتنوح وتبكي على مصيرها، وتشكو تشردها، وكأنها في مأتم.

بينما كان سالم شاردًا في أفكاره، وإذا به يشمّ رائحة دخان من بعيد. وقف، قوّم ظهره، ورفع رأسه، وإذا به يرى دخانًا غليظًا يتصاعد من حيّ بني أسد؛ مشهد جعله يقطّب حاجبيه. كان لهب النار يرى عند الغروب من بين الدخان المتصاعد، وينغمس في قلب الظلام كل لحظة أكثر فأكثر. أسرع سالم الخطى. كانت الريح تهبّ فتزيد لهيب النار، وتوسع من دائرة الحريق. لم يعرف كيف استطاع أن يخرج نفسه من المستنقع إلى البرّ. كان الضجيج هناك يملأ حيّ بني أسد؛ النساء يصحن ويولولن، والرجال يركضون بكل اتجاه. في وسط هذه الجلبة، رأى مائدة تركض نحوه وهي تصرخ. كان كيس القمح على ظهره يتمايل بكل اتجاه، ويشتّت تماسكه واعتداله، فيأخذه يمينًا وشمالًا.

- سالم! ساعدنا يا سالم.

شحب وجه سالم، فوجه مائدة غارق بالدموع.

- ماذا جرى؟

-النار! النار! إنه عبد الرحمن!

ركض سالم، وعبر بين العرائش والسقائق. كان هناك رجل يحاول أن يهدىء من روع حصانه الفزع. أما الحصان فكان واقفًا على قائمتيه الخلفيتين، يدور حول نفسه، ويصهل صهيلًا

 

34


24

المشهد الثالث

عاليًا، بينما قائمتاه الأماميتان ترفّان مثل أجنحة الفراشة. كان صهيله مرعبًا. غير أن صوت الرجل كان يفزع الحصان أكثر.

- مائدة! ما الذي جرى؟

لم تستطع الفتاة أن تنطق بحرف، انعقد لسانها من شدة الخوف. كانت تبكي فقط، وتشير إلى النار، وتنادي باسم أخيها، عبد الرحمن!.

وضع سالم كيس القمح بجانب حجر على الأرض، وطلب من مائدة أن تجلس فوقه، ولا تتحرك حتى يرى ما الخبر.

كانت ألسنة النار تتطاول عاليًا. لقد بدا اللهب في عتمة ذلك الغروب مخيفًا، فألسنة النار المتصاعدة من أعواد القصب الجافة تلتفّ وتدور وتصعد إلى عنان السماء، وأجيج احتراق القصب يختلط مع دخان وبر الإبل الممزوج برائحة اللحم المحترق. كانت النار تتلوّى، تهبط وترتفع، وتشبّ نحو العرائش، فتصبح أعواد القصب الصفراء، في لمحة، سوداء قاتمة، ثم تنغمس في وسط الدخان، فيستعر اللهب مرة أخرى، ويتساقط العريش متداخلًا في بعضه بعضًا، ويسمع أجيج النار وهجيجها، وتعلو ألسنتها وتستعر. عرف سالم صوت ماجدة، من بين بكاء النساء، وهي تنادي طفلها. على مسافة ليست ببعيدة، بضع نساء تحلّقن في مأتم حول جنازة نصف محترقة، وهنّ يخدشن وجوههنّ، وينُحن ويصرخن. كان المشهد مزدحمًا، اختلط الرجال بالنساء، كان الجميع يهرعون يمينًا وشمالًا، لكن أحدًا منهم لم يستطع فعل أي شيء؛ فالنيران مهيبة ومرعبة وحارقة.

 

35


25

المشهد الثالث

لم يكن أحد ليملك الجرأة على الاقتراب. غير أن نواح النسوة وصراخ الرجال الذين راحوا يهرولون في كل اتجاه، قد زاد من خوف الأولاد.

أدار سالم بصره، وراح ينظر يمنة ويسرةً، فلم ير ماجدة. كان يسمع من خلف جدار اللهب صراخًا. لقد التفّت النيران وأحاطت بالعرائش مثل الحلقة، وراحت تلتهمها واحدة تلو الأخرى. كانت تلتهم كل شيء كأنها ثعبان.

- لقد علقت النساء والأطفال هناك.

- فليرحمهم الرب.

- ألا يوجد أحد يذهب فيساعدهم؟

سمع سالم صوت ماجدة مرة أخرى. إنه صراخ المرأة، كان يأتي من خلف جدار اللهب. تقدم سالم، وتخطى جموع الناس بصعوبة. كان شديد القلق على ماجدة. راح يتفحص بعينيه البنيّتين الثاقبتين أطراف أشعّة اللهب، لعلّه يرى ماجدة؛ لكنه في وسط ذلك الضجيج، لم يرها، ولم يعد يسمع صوتها.

- لو أن الماء موجود.

- ليتنا لم نجفف المستنقع.

- في الخلف، هناك، علقت امرأة وطفل في النار.

- من فعل هذا؟

- من يفعل هذا؟! إنه أحد هؤلاء المجوس؛ عبدة النار، الأنجاس!

 

36


26

المشهد الثالث

- كان يجب أن لا نسمح لهم بدخول الكوفة.

- لا تحكم بهذه السرعة يا أخي. يقولون إن النار بدأت من بيت أم خالد.

- هي لا تملك خادمًا.

-ماذا تقول؟! أنا أقول إنه من فعل هؤلاء المجوس الأنجاس. ألا ترى الحقد في أحداق عيونهم؟

لم يكن سالم يسمع شيئًا وسط هذا الضجيج. لقد هز وجوده الخوف والقلق؛ فهو ومنذ أن وضع ثوب زوج ماجدة الطويل على جسده، ما فتئ يسمع كلام الرجال العرب، ليلًا ونهارًا؛ عَبَرَ بسرعة، وتوجّه إلى الناحية الأخرى، حيث توجد نساء عدة ينتحبنَ ويبكين. هناك رأى مائدة تشير إلى النار. لقد تركت كيس القمح.

- أين أمك؟

- ذهبت لتخلص عبد الرحمن.

في هذه اللحظات، سمع سالم نباح الكلب. رأى ذلك

 

37


27

المشهد الثالث

الحيوان يثب ويخرج من بين ألسنة النار. التفت الكلب إلى جموع الناس وراح ينبح، ثم وثب مرة أخرى ودخل في النار واختفى فيها.

- مسكينة ماجدة! في المرة الأولى زوجها، وهذه المرة هي نفسها.

اضطرب سالم وتغيّر لونه، ثم ركض في الاتجاه الذي ذهب فيه الكلب.

- أيها الفتى! لا تذهب. هناك خطر.

في تلك اللحظة، هبت ريح بغير اتجاه، فلوت ألسنة النار ودفعتها إلى تلك الجهة. كان الكلب ينبح كأنه يطلب النجدة. عندئذٍ شقّ سالم ثوبه ليتمكن من التحرك بشكل أفضل، ثم وثب فوق جدار النار، قاصدًا الجهة الأخرى، وغاب بين الدخان والنار وسط صراخ الناس وصيحاتهم، ثم توجه حيث يُسمعُ صوت نباح الكلب. كانت الريح كالمجنونة تدفع النار يمينًا وشمالًا، صعودًا وهبوطًا، بينما لهيبها يلفح وجهه، وهو يحاول صدها بساعديه، ويتترّس خلف يديه. عندما وصل، كان الكلب قرب شجرة النخيل، وهو يدور حول ماجدة. كانت المرأة تحتضن طفلها إلى صدرها بقوة، وقد احترقت يداها ورجلاها. إنه لشيء أكيد، فليس غريبًا أن تفدي طفلها بنفسها!

- هيا، قومي!

- لا أستطيع.

 

38

 


28

المشهد الثالث

- سوف تستعر النار أكثر.

- أنقذ عزيزي يا ولدي!

انهار البغض الذي كان يسكن حنجرة ماجدة دفعة واحدة. فلأول مرة تناديه «يا ولدي». رفعت ماجدة بكمّيها المحترقين ولدها المذهول «عبد الرحمن» ودفعته باتجاه سالم.

- لا! سنذهب معًا.

عندما رأى سالم أن أنفاس ماجدة لا تخرج من صدرها إلاّ بصعوبة، راح يتلفت حوله بين ألسنة النار، فوقع نظره على قربة ماء. كان جلدها المبتل بالماء يلمع تحت ضوء النار، هرول إليها مسرعًا، وجدها مليئة بالماء، قطع رباطها بأسنانه، وأخذ يصّب الماء في كفه ويرش به وجه المرأة. لم تمض برهة من الزمن حتى شهقت ماجدة، وأخذت نفسًا عميقًا، وبدت كأنها استيقظت من نوم عميق. كان الخوف الشديد ظاهرًا في عينيها، بينما الكلب لا يزال يدور وينبح بقلق.

- يجب أن نذهب.

أمسك الفتى بعضد المرأة، وساعدها حتى تنهض.

- لا! اذهب أنت وخذ معك عبد الرحمن.

أخذ سالم قربة الماء، وسكبها على ماجدة وطفلها، ثم بلل ثيابه.

- إذا لم تحرقنا النار، فإن دخانها سوف يخنقنا.

تنحنح سالم، ثم أخذ عبد الرحمن، وأمسك بيد المرأة. كانت

 

39


29

المشهد الثالث

ماجدة تمشي وتغمز برجلها. لا شيء يُرى من خلال النار والدخان. كان الكلب يتقدمهم، يسير بين فجوات اللهب، ثم يعود أحيانًا، فينبح ثم يرجع ويتقدم.

كان سالم يحاول أن يتنفس بهدوء، لكن ماجدة ذهلت وبدت في عينيها الدهشة، وكلما تقدمت خطوات، كانت ترجع وتنظر إلى خيمتها؛ لقد أحرقت النار كل حياتها، وأخذت منها كل شيء. كانت جمرات النار المضيئة تشتعل بسهولة مع وبر الإبل والسمن واللحوم المحترقة.

 

40


30

المشهد الثالث

ما إن عبروا جدار اللهب حتى التهمت النار كل شيء. لم يبق سوى قبضة من الرماد. كانت النار تجمع نفسها، وتبتلع العرائش القريبة من خيمتهم. التفت سالم بطرفه إلى الوراء؛ لو تأخروا قليلًا عن التحرك، لقُضي عليهم. أوصل سالم المرأة إلى جهة النساء بشقّ الأنفس. كانا يسيران باتجاه الناس كأنهما ظلاّن في عتمة الليل، بينما الناس ينظرون إليه بتعجب وذهول، وهو خارج من بين النار والدخان، يحمل طفل ماجدة، ويضمه إلى صدره.

ما إن رأتهما مائدة حتى ركضت إليهما، وأخذت عبد الرحمن من سالم.

مع مرور الوقت، راحت النار تبتلع ألسنتها بالسرعة نفسها التي اشتعلت فيها. كان الليل قد أُشبع برائحة سعف النخيل، ووبر الإبل والغنم، ونواح النساء. حتى تلك الساعة لم تكن ماجدة لتصدق ما جرى؛ كانت عيناها لا تزالان مسمّرتين نحو الجمرات التي تختال (متوهّجة) بفعل هبوب الريح، وهي تداعب رأس ابنتها مائدة. لم يبق لديها شيء؛ لا منزل، ولا زوج، ولا أحد يواسيها في وحدتها هذه، سوى سالم الذي أنقذ حياتها من الموت.

 

42


31

المشهد الرابع

 

لولا هذا الفتى العجميّ لما كنت أنا وطفلي في عداد الأحياء، يا أبا سعيد!

نظر الرجل العجوز نظرة إعجاب إلى سالم، الذي كان مشغولًا في الجانب الآخر من كومة التراب، يدقّ الطين برجله، وقد بدت فوق شفته خطوط من الشعر الناعم.

يظهر من ملامح وجهه أنه ابن عائلة كريمة.

كان الفتى الفارسي يطلب من عبد الرحمن أن لا يذرّ التراب في الهواء، لكن عبد الرحمن لم يتوقف، بل كان يعبث أكثر، فيرمي التراب عاليًا، وتأخذه الريح ناحية سالم.

- الفتى عفيف وعطوف، يا عم!

- من المؤسف أن يكون عجميًا!

هزت ماجدة برأسها ولم تقل شيئًا. تقدمت نحو الرجل لتناوله وعاء الطين الذي كان على رأسها، وهي تقول: « كانت علامات النجابة ظاهرة عليه منذ ذلك اليوم الذي اشتريته فيه».

- لعلّه كذلك! لكنه في النهاية عجميّ، لا تجري فيه الدماء العربية.

 

43


32

المشهد الرابع

- ما هذا الكلام أبا سعيد؟ صحيح أننا على دين الإسلام، بينما هم على دين آخر، لكن جميعنا من البشر!.

ضحك الرجل العجوز وتناول وعاء الطين، ثم التفت إلى شجرات النخيل الواقعة ناحية المستنقع، وقال: «على كل حال، هو أعجمي وغريب عنا وعن ديننا». قال ذلك، وأخذ قبضة من الطين ومسح بها اللبنات الرطبة، ثم نظر إلى وجه ماجدة الأسمر المتعب، وقد جفّت بقع الطين على أنفها وجبينها، وتابع كلامه: «صحيح أن الإسلام يقول شيئًا آخر، ويعدّ التقوى معيارًا، لكنني عربيٌّ وأنا أفتخر بماضيّ». ثم أضاف وهو يشير بإصبعه المغطّاة بالطين إلى سالم: «كما الكره الذي يملأ عيون هؤلاء».

-لكنه يختلف عن البقية، إنه مثل الملائكة.

- عندما يكبر سيختلف كل شيء. انظري إلى ولدك كيف يلعب معه؛ لكن عندما يدرك أن هذا المجهول غريبٌ، ويعلمُ أنه على دين آخر، سوف يتبدّل سلوكه حتمًا.

-سالم يحب ديننا، أنا أدرك ذلك عندما ينظر إليّ وأنا في الصلاة، حتى أنه...

-مهما يفعلون! إنه جنسكنَّ أنتنَّ النساء، جنس أموميٌّ منذ الأزل.

انحنى الرجل المسنّ، وتناول لبنة وصاح: «أيها الفتى الفارسي! اجلب اللبنات».

رفع سالم رأسه. كان مشغولًا بأخذ الطين بكفيه وصبه في

 

44


33

المشهد الرابع

القالب، ليصنع منه لبنات من الطين.

كان الرجل يعلم أن الفتى يصغي بأذنيه الصغيرتين الحادتين إلى كلامهما. أما ما المقدار الذي يفهمه، فهذا كلام آخر. لكنه فهم من حركاته أنه يستمع إليهما بكل جوارحه.

صاح العجوز مرة أخرى: «أيها الولد العجمي! اجلب لي أنت وعبد الرحمن بعض اللبنات الجافّة. لا أريدها رطبة مثل سابقاتها».

وقف سالم، وتوجه نحو اللبنات المصفوفة فوق بعضها بعضًا، وضع واحدة فوق عضدي عبد الرحمن، وحمل بنفسه ثلاث لبنات، وضعها فوق بعضها بعضًا. كانت اللبنات ثقيلة ولا تزال رطبة قليلًا - إنهم مجبرون على بناء مأوى لهم قبل حلول برد الشتاء. تقول ماجدة إنهم سيشعلون نارًا داخل الجدران حتى تجف بسرعة- وضع سالم لبنات الطين على الأرض، أحسّ بنظرات المسنّ الثقيلة مسلطة على كتفيه، أراد

 

45


34

المشهد الرابع

الذهاب ليجلب حملًا آخر، فنادته ماجدة:

- تعال يا سالم! اشرب كأس الحليب هذا لتستعيد نشاطك.

قال الرجل بتهكّم: «تتصرفين وكأنه ولدك!».

- ولدي! لولاه لما كنا الآن على قيد الحياة.

مسح الطين عن لحيته الطويلة وقال: «لقد تناهى إلى مسامعي تلك الشجاعة التي ظهرت منه ذلك اليوم! لكن بكل الأحوال، مهما فعل فإنه ليس منا».

التفّ سالم حول الجدار. لاحظ أن فيه بعض الاعوجاج، وأن لبناته منحرفة قليلًا إلى الداخل والخارج. لكن في النهاية لا يوجد شخص آخر يساعدهم سوى جارهم المسنّ هذا. تقدم سالم باتجاه ماجدة، كانت تضع قربة الحليب على قدمها، وقد تمدد حليب الإبل الأبيض داخل الكأس الخشبيّة راسمًا على حوافها خطوطًا بيضاء. كانت الكأس مزينة بخطوط حمراء كالخيام، وضعتها ماجدة لتبدو جميلة. مدّ يده ليتناول كأس الحليب، لكن ماجدة قالت له ووجهها متجهم: «اغسل يديك أولًا، حتى لا يسقط الطين في الحليب».

تبسم سالم عندما رأى وجه ماجدة المتجهم قد انقلب إلى بسمة جميلة ارتسمت على شفتيها، ثم انطلق إلى حفرة كانت ناحية الجدار، أدخل يديه في مائها العكر حتى وصل الماء إلى مرفقه، غسل يديه وأزال الطين عنهما، ثم عاد. كانت ماجدة تنتظره وفي يدها كأس مليئة بالحليب. بدت قامتها طويلة ونحيلة، تمامًا مثل أمه. لكن عينيها كانتا مختلفتين، فلونهما

 

46


35

المشهد الرابع

أكثر سوادًا، وحدقتاهما أكثر اتساعًا. تناول سالم الحليب وهو يبتسم. الحليب بارد وطيب، لقد أثلج قلبه، تناول قليلًا منه، وبحركة من شفتيه عبّر بها أنه لذيذ. عندما تناول الحليب لأول مرة، لم يستسغه، لكنه فيما بعد اعتاد على شربه. أما اليوم فإنه يظنّ أن لا شراب في الدنيا أفضل من حليب الإبل. لعق شفتيه وهو يفكر؛ هذا الحليب يمنحه قدرة أكبر ويمدّه بالطاقة حين يعمل. راح سالم ينظر في قعر الكأس، بدت السماء الزرقاء وغيومها الرمادية من خلال ما بقي فيها من الحليب القليل، ثم رفع الكأس وشرب ما بقي فيها دفعة واحدة.

سألته ماجدة: «أتريد أكثر؟ ما زال هناك المزيد منه». أشار سالم برأسه؛ لا. ثم ناولها الكأس الفارغة.

ملأت ماجدة الكأس وأعطتها لابنتها، وطلبت منها أن تشرب النصف فقط، وتعطي نصفها الآخر لأخيها عبد الرحمن. ثم عقدت رباط القربة، ووضعتها جانبًا. بعد ذلك توجهت نحو الرجل العجوز، أخذت منه كأسه الفارغة وأدخلتها إلى الخيمة.

رجع سالم إلى لبنات الطين، حمل عددًا منها، ثم توجه إلى الجدار المعوج. تناول العجوز اللبنات منه وقال: «تقول أم الفضل إنك عصاها التي تتوكأ عليها، يا ابن العجم!».

كانت الكلمة الأخيرة مزعجة، قالها بطريقة لم تعجب سالمًا، غير أنه لم ينطق بكلمة واحدة. ناوله اللبنات ورجع بهدوء. وضع الطين الذي جهزه مسبقًا فوق جلدٍ من الماعز، وحملها فوق ظهره، وجلبها إليه. تناول الرجل قبضة من الطين ومسح بها

 

 

47


36

المشهد الرابع

الشقوق التي كانت تظهر بين لبنات الجدار الأعوج، فسدّ بها فجوة بين لبنتين. ثم التفت إلى الفتى وقال: «كيف دارت بك الأيام ووصلت إلى الكوفة وأنت بهذه السن؟ كنت أسيرًا؟».

رجع الفتى لجلب اللبنات ولم ينبس ببت شفة، لكن المسنّ تابع كلامه: «هل جميع العجم مغرورون إلى هذا الحد؟!». ثم ضحك، وقال: «لديكم الحق. فبلادكم المترامية الأطراف قد تمزقت تحت سنابك خيولنا». ثم تنحنح وتابع قائلًا: «يقول رجل من قبيلة مُضر إن ملككم فر إلى الجبال، ولا أحد يعلم عنه شيئًا، لعله قتل أيضًا. ما كان اسمه؟ ها... تذكرت: يزدجرد».

كان الرجل يلهث وهو يضع لبنة فوق أخرى، حتى ظهر انتفاخ كبير في الجدار، وبدا أنه سينهار عمّا قريب.

لكن المسنّ كان يتكلم، وهو يمسح أطراف الجدار بالطين: «لا يُعمر بيت حتى يخرب بيت آخر». ثم تابع بازدراء وقد ارتسمت على جبهته خطوط عدة: «لملككم اسم عجيب، لكن الأعجب منه هو أنت». بعد ذلك انحنى وهو يقول بصوت خافت: «كيف دخلت إلى قلب هذه المرأة من قبيلة بني أسد؟ إنها تحبك أكثر من ولدها».

لمعت عينا سالم وتلألأتا فرحًا من كلامه، لكنه بقي صامتًا. تناول لبنة وأراد أن يفتح فمه ليقول شيئًا، لكن ماجدة وصلت فجأة وقالت: «أنت يا سالم! اذهب واصنع أحجار الطين، وأنا سأناول أبا سعيد اللبنات». ثم أدارت رأسها نحو مائدة وهي غاضبة: «مائدة! اجمعي تلك الأخشاب وضعيها بالقرب من الكلب».

كان سالم يريد أن يقول للمسنّ: إذا أكملت بناء الجدار على

 

48


37

المشهد الرابع

هذا المنوال فسوف ينهار، لكن ماجدة طلبت منه أن يذهب، فبلع سالم ريقه، وتجمد الكلام في فمه، وعاد إلى الطين.

- هذا المخلوق عجيب؛ غلامك الذي اشتريته!

- ماذا جرى، يا أبا سعيد؟

- لا يفهم لغتنا أو أنه...

- سالم قليل الكلام.

- لكنه يتحدث جيدًّا إلى ولدك، ويضاحكه ويمازحه.

- لقد تعلم لغتنا. إنه يفهم جيدًا، غير أنه قليل الكلام. عندما نكون وحدنا فقط يتحدث عن أبيه وأمه، وعن الماضي و...

- لم يكن محاربًا، أين أُسر؟

- المسكين! كان والده بائع تمر في النهروان. إنه قلق كثيرًا على أبيه وأمه.

- أليسا أسيرَيْن؟

- لقد ذهبنا مرات إلى السوق؛ كلما جاؤوا بأسير، أو أتى أحد من بلاد بعيدة، كنا نذهب إلى السوق، لكننا لم نعثر عليهما، ولا خبر عنهما.

ثم توجهت إلى وعاء الطين، نقلته من مكانه وهي تقول: «ألا يبدو هذا الجدار مائلًا؟».

ضمّ المسنّ شفتيه ضاحكًا، وقال: «إنه أكثر استقامة من جدار الخيمة، انظري جيدًا».

 

49

 

 


38

المشهد الرابع

- لكن هذا يختلف عن الخيمة، يا أبا سعيد!

- لا فرق بينهما، المأوى مأوى.

لم تقل ماجدة شيئًا، تأوّهت فقط، ثم تابعت حديثها عن الفتى: « كان يعيش مع أهله في النهروان، لكنه يقول إنهم ليسوا من هناك. إنه يتحدث عن بلاد عجيبة، جبالها شاهقة ومكسوة بالثلوج، والربيع فيها مفعم بالزهور والأشجار المختلفة الأشكال والألوان. هل تصدق ذلك؟

-لا بدّ أن الفتى قد رأى الجنة في منامه.

- لعله جاء من الجنة أيضًا؛ إنه طاهر مثل الملاك.

قلبت المرأة يديها وأرته الحروق الظاهرة عليهما، وقالت: «من أي مكان جاء! فهو ملاك نجاتي ونجاة ولدي».

- لكن الكلام بهذا الشكل عن عبد أعجمي ليس صحيحًا!

التفتت ماجدة إلى سالم، وراحت تنظر إلى منكبيه العريضين كيف يتحركان بقوة وهو يقلب أحجار الطين، وينقلها من مكان إلى آخر، وقالت:

- ألا تذكر الحريق الذي حدث قبل عامين؟

- يقولون إنّه من فعل هؤلاء الأعاجم.

- أنت أكثر من يعلم أن النار خرجت من تنور أم خالد.

- على كل حال هذا الفعل قد كتب في صحيفتهم.

- تلك العجوز المسكينة! هي ليست مقصّرة أيضًا، كانت تريد أن تعدّ وليمة لقدوم ولدها.

 

50


39

المشهد الرابع

- لقد رحم الله قبيلة بني أسد، ولم يمت أحد منها.

تأوهت ماجدة ولم تقل شيئًا.

- لماذا لم تفري عندما رأيتِ النار؟

- أردت جلب بعض الأمتعة. فكرت حينها أن النار بعيدة، فأين النار من عريشنا؟ لكن الريح كانت تهب بشدة، فتجعل النار تدور كالحلقة، وتحمل معها أعواد القصب المشتعلة، فسقط بعضها في عريشنا، وما إن التفتّ إلى نفسي، حتى وجدت النار قد أحاطت بي من كل جانب كأنها الجحيم. لكن حارسنا لم يتركنا وحدنا، كان يدخل إلى وسط النار ثم يعود. الكلب هو من أخبر سالمًا بوجودنا وأرشده إلينا. كان يدور حولنا وينبح نباحًا عاليًا. لقد وصل بي الأمر أن قطعت كل أمل، لم يعد باستطاعتي أن أتنفس، حتى ظهر سالم فجأة.

تناول الرجل لبنة، وضعها فوق الجدار. كانت اللبنة ثقيلة، لم يستطع وضعها في مكانها المناسب، اهتز الجدار، فرفعها بيديه، ونظر بطرفه إلى سالم. كان يفكر بحاله (كم كان جيدًا لو أن له ولدًا أو عبدًا مثل هذا الشاب يعينه في كبره)، ثم التفت إلى ماجدة وقال لها: «لهذا السبب أنتِ تعطفين عليه إلى هذا الحدّ!».

أرادت المرأة أن تقول شيئًا، وإذ بها تصيح «انتبه يا عم! الجدار! الجدار!...». اهتز الجدار بشدة، ثم انهار إلى الأرض. أما المسنّ فلم يستطع أن يسحب نفسه إلى الخلف، وراح يتمتم ويشتم نفسه، بينما يئن ويفرك كاحله ويقول إن بناء البيوت ليس عمله.

وقف الجميع ينظرون إلى أحجار الطين المهشمة بدهشة

 

51


40

المشهد الرابع

وتحير. بدا الرجل مصدومًا، أمسك دشداشته، ورفعها منزعجًا. كانت الدماء تسيل من قدميه، وهو يئن ويولول ويكيل الشتائم للعجم. ثم طلب من سالم أن يعينه حتى يذهب إلى خيمته. توجه سالم نحو ماجدة وهو منزعج. كانت المرأة مسمرة في أرضها، وقد انقبض جلدها المتجعد من شدة الاضطراب، لم تصدق ما حدث. كان الوحيد عبد الرحمن يركض ويصيح فرحًا «لقد خرب... لقد سقط الجدار... خرب البيت». ثم ركض نحو الجدار وقد أصبح كومة من الطين المهشم، لكن ماجدة صاحت به أن يصمت. تقدم سالم من الرجل، أمسك به وساعده حتى يقف على قدميه، وهو يفكر ويقول في نفسه: يجب أن يبدأوا العمل من جديد لكن هذه المرة بأنفسهم.

 

52


41

المشهد الخامس

المشهد الخامس

 

رجل من العجم قتل الخليفة وفرّ هاربًا.

- منذ اليوم الأول كنت أقول لا يجب أن نثق بحمر الوجوه أولاء.

- من هو الخليفة التالي يا ترى؟

- سمعت أن الخليفة عيّن قبل موته «شورى»، على أن ينتخبوا واحدًا منهم.

كان الحديث عن مقتل عمر في كل مكان؛ الخليفة الذي طعنه رجل فارسي بخنجره عند الفجر، ثم فرّ تحت جناح الظلام.

كان سالم يسمع أحاديث الناس، وهو يحمل سلة التمر على كتفه، متنقلًا يبحث عن مشترٍ لتمره. كان العرب يتحدثون بأسلوب جعل الفتى يخاف، ناهيك عن نظرات عُيُونهم التي تثقل كاهله، وهو يرى الإحساس بالكراهية في عيون بعضهم. كانت خطواته بطيئة، يتنقل طالبًا مشتريًا لتمره الذي أعطته إياه ماجدة ليبيعه.

- لا تَصُحْ عاليًا أيها المجوسي القبيح!

- لكني مسلم.

-هاها... مسلم! لا شك أن القاتل الظالم الذي طعن الخليفة

 

53


42

المشهد الخامس

قرب مسجد النبيّ كان مسلمًا أيضًا! هيا ارحل من أمام دار الإمارة.

أسرع سالم الخطى، وعبر بالقرب من العمال والبنّائين؛ كانوا منهمكين ببناء سور عالٍ لدار الإمارة. أكثر العاملين كانوا من ذوي البشرة السوداء. كان سالم يعرف البنائين الفارسيين منهم. كانت مجموعة من العمال يدقون الطين بأرجلهم، وهناك آخرون يحملون لبنات الطين الثقيلة على أكتافهم، والعرق يتصبب من جباههم وهم ينقلونها إلى بنّاء ضخم الجثة. كان البنّاء يقف على «سقالة» من الخشب، ويصيح بهم حتى لا يتكاسلوا، ويتابعوا عملهم من دون تلفّت أو لهو. مرّ سالم بالقرب منهم، فتقدّم عامل طويل القامة، نحيل الجسم، مد يده وتناول تمرة ووضعها في فمه، فالتفت سالم على صوت فم الرجل وهو يمضغ حبة التمر، ورَمقه بنظراته، فتقطّب وجه العامل، ثم ضحك ضحكة ازدراء واستهزاء، لكنه ما لبث أن عاد إلى وسط الطين حين سمع صراخ البناء، واستأنف عمله.

أكمل سالم طريقه، وتوجه إلى سوق الأحذية. وقف يتأمل الأحذية الخشبية والجلدية، وهي مُعلقة ومتدلية من أحد الأعمدة. أما الأحذية المصنوعة من ليف النخيل فكانت مكومة في زاوية من زوايا الدكان. نظر سالم إلى صندله القديم المتهالك؛ كان تراب الزقاق الحار يؤذي أصابع قدميه الصغيرة. بينما هو واقف أمام الأحذية، وإذ بفارس ملثم يمتطي حصانه يمر على مرمى من بصره. مضى الفارس مسرعًا، وتوجه نحو الباب

 

56


43

المشهد السادس

الخشبيّ الكبير لدار الإمارة، ثم لحق به من كان في الأطراف من العرب. حتى أن بائع الأحذية مدّ عنقه ليرى ما الأمر! أما العمال فتوقفوا عن عملهم، ولم يعيروا أيّ اهتمام لصراخ البنّاء، وقفوا يريدون معرفة ما الخبر الجديد! تقدم الجنود وهم يحملون رماحًا حادّة تلمع تحت أشعة الشمس، ثم راحوا يبعدون الناس من حول الفارس. فكر سالم قليلًا وراح يحدث نفسه؛ ما الذي يربطه بمقتل الخليفة؟! لماذا يهتم للأمر؟ ثم اتخذ طريقه واتجه نحو سوق السمك. كان يفكر ويضحك.

كانت ماجدة قد تقدمت بالسّن، وأصبحت أكثر رحمة وعطفًا، خصوصًا، بعدما يئست من العثور على زوجها. يقول بعض الناس إن نهر دجيل الكبير[1] قد فاض وطغى عن حده، فأخذ معه عددًا من الناس إلى البحر. الله وحده يعلم إن كان زوجها من بينهم أم لا! على الرغم من ذلك، كانت ماجدة إذا حلّ الليل تنام قرب الباب، وتهرع خارج الغرفة مع كل صوت صغير.

مسح سالم العرق عن جبينه، ونقل سلّة التمر إلى كتفه الأخرى، ثم أسرع الخطى وهو يفكر؛ يجب أن يبيع التمر قبل حلول الغروب. مهما يكن، فهو ابن بائع تمر، ويعلم جيدًا ماذا عليه أن يفعل. لكن في الأيام الأخيرة التي شاع فيها أنّ رجلًا فارسيًّا يدعى «هرمز» قتل الخليفة، لم يكن أحد من العرب ليشتري منه التمر، كما أنهم صاروا ينظرون إليه بكراهية،

 

 


[1] هو نهر كارون حاليًا.

 

57


44

المشهد السابع

ويشتمونه إذا نادى على تمره. وهذا ما كان يقلقه بشدة.

- يجب أن لا نسمح لحمر الوجوه هؤلاء بالتردد إلى أي مكان يريدون.

- أنا قلق جدًا على زوجتي وأطفالي؛ فهل من يقتل الخليفة يرحم عيالي؟

- الحقد ملأ قلوبهم.

- نحن المساكين! الأفعى في أكمامنا، وقد غفلنا عن لسعاتها.

- هؤلاء «العلوج»[1] إنهم وحوش تمشي على أقدام.

- ماذا تقول يا بكر؟ أنت أفضل من يعلم أن عددًا كبيرًا منهم مسلمون...

- لا قيمة لإسلام هؤلاء القباح الحمر الوجوه.

قال رجل متوسط العمر منهم، وقد سطعت الشمس على وجهه العريض القاتم، وبدا عليه الغضب: «أنا لا أفهم هذه الأشياء. لقد ظهر الرسول بيننا نحن العرب. أما هؤلاء فمهما ادعوا الآن أنهم مسلمون، بالنهاية هم من العجم وعبدة النار».

كان الرجال العرب يتصايحون بين السوقين. مرّ سالم بجانبهم، وأسرع إلى سوق السمك. كان السوق الوحيد المظلّل بسقف. ما إن دخل السوق حتى ارتجفت أرنبة أنفه، وشعر بالغثيان؛ كانت رائحة السمك كريهة جدًا، حاول العبور بجانب

 


[1] جمع علج وهو حمار الوحش السمين. ويقال علج لكل شديد غليظ من الرجال (المنجد).

 

58


45

المشهد السابع

حفرة مليئة ببقايا السمك المختلط بالماء والطين. بدت الأسماك كأنها تنظر إليه بعيونها المفتوحة المتلألئة، وهي تفتح بعضًا من أفواهها، فيما أذيال بعضها ما زالت تتحرك.

-أيها الشاب! أتريد السمك بدلًا من التمر؟

وقف سالم للحظة، ثم رجع إلى الوراء قليلًا، وراح ينظر إلى الرجل صاحب المنكبين العريضين. كان الرجل يتكئ على عمود مصنوع من جذع نخلة يابسة. اقترب من الرجل الضاحك وهو متردد. بدا الرجل منحسر الشعر، كثيف اللحية، قد غطى الشعرُ وجهه. امتلاء وجنتيه وبروزهما يظهران أنه فارسي. كان يقف بجانب العمود كأنه قطعة من الصخر. إنه من أهل الديلمان المشهورين بأجسامهم الضخمة.

انحنى الرجل وأمسك بذيل سمكة، ثم رفعها عاليًا.

- إنها شهية مثل تمراتك. هذا إن كنت خبيرًا بالسمك!

ثم أدار السمكة، فبانت على بطنها الأبيض خطوط من الماء الممزوج بالدم، هذا المشهد جعل قلب سالم يتقطع، غير أنه تبسم...

مد الرجل يده ليتناول التمر، فصاح الشاب:

- لا تفعل! سوف يختلط التمر برائحة السمك.

نظر سالم حوله، فرأى بعضًا من سعف النخيل، أخذها ثم تناول قبضة من التمر ووضعها على أوراق النخل.

-هذه فقط!؟ هذه التميرات سوف تضيع في أمعائي.

 

59


46

المشهد الثامن

قال جملته ثم علت قهقهته.

مد سالم يديه وتناول قبضتين من التمر ووضعهما فوق الأولى. عندها قبض الرجل بأصابعه على تميرات عدة، ودفعها إلى فمه مرة واحدة، ثم بدأ يخرج نواتها واحدة تلو الأخرى من زاوية بين شفتيه، وهو مقطب الحاجبين. فجأة لمعت عيناه، وهز برأسه معلنًا أنها شهية. تناول قبضة أخرى، ففرغت أوراق النخيل من التمر، ولم يبق عليها شيء، وسالم ينظر إلى فمه بتعجب. عندما رأى السؤال في نظرته، مد يده وتناول قبضات عدة من التمر، ورماها فوق سعف النخيل اليابس، حتى فرغت زاوية من السلة. قال الرجل وهو يلوك بفمه: «الآن صار الأمر مختلفًا». بعد ذلك توجه إلى لوح وضع عليه أسماكًا كبيرة، وتناول إحداها، وقال: «سوف أعطيك واحدة من الأسماك الكبيرة، إنها طازجة وشهية، تأخذها إلى سيدك، حتمًا سيسرّ بها. إنها أفضل أنواع سمك الفرات. لقد اصطدتها بنفسي».

بقي سالم متحيرًا لا يدري ماذا يفعل!

- تعال خذ السمكة.

- وماذا أفعل بها؟

- تأخذها إلى سيدك.

ضحك سالم، وقال: «ولكني إلى الآن لم أَبع نصف تمري».

- يمكنك أيضًا أن تأخذ سمكة أخرى.

حكّ سالم شحمة أذنه وضحك.

 

60


47

المشهد الثامن

وضع الرجل السمكة في سلة كبيرة فارغة، وقال له: «هذه السمكة ملك لك، عندما تبيع تمرك، ارجع وخذها».

- هي أمانة لديك.

اندفع الرجل بصدره إلى الأمام، قائلًا: «أيها الشاب! أنا وأنت من بلاد فارس، فهل بيننا من خيانة؟!». ثم أراد أن يقول شيئًا، وإذ بامرأة قد ظهرت أمام الدكان، تريد شراء السمك.

لم ينتظر سالم، حمل سلته وانطلق.

- إياك أن تنسى سمكتك.

مضى سالم وهو يلوّح بيده، محاولًا أن لا تقع قدماه في الطين والدم الممزوج بالماء. كانت الدبابير والزراقط تحوم وتدخل في بقايا السمك والماء الملوث بالدم، وصوت طنينها يملأ فضاء السوق، كأنها لا تريد أن تفارق المكان. أما الذباب فقد ملأ السوق، حتى لا يكاد يخلو منه مكان. أطبق سالم على أنفه بإصبعيه، وعبر مسرعًا من أمام بائع يكاد سمكه أن يفسد، ثم انتهى إلى آخر السوق، حيث يوجد ميدان، اجتمع فيه عدد من الرجال. قال في نفسه: لعلي أبيع تمري هناك! ما إن أسرع الخطى حتى سمع صوت رغاء. لقد تجمع عدد من الرجال ينحرون جملًا. كان الحيوان يهدر والدم يتطاير من منحره، ويعلو في الهواء كالنافورة، ثم يعود إلى الأرض كالمطر، بينما الحيوان يحاول أن يقطع الحبل الذي يقيد قوائمه ليقف مجددًا، لكنه لم يستطع أن يحرك رقبته الطويلة، وبقي يهدر، ويفحص الأرض بقوائمه، بينما يفقد جزءًا من روحه كل لحظة. كان المشهد مريعًا. لم

 

61

 


48

المشهد الثامن

يتحمّله سالم، فتابع سيره وخرج من الميدان. في آخر الميدان تجمع عدد من الأولاد. ما إن تخطاهم حتى تبعوه، وعندما أحسّ بهم، أبطأ خطاه ثم توقف والتفت إليهم. تقدّم الأولاد نحوه. عبس بوجوههم، ودقّ الأرض برجله، ما جعلهم يهربون، إلا عدد منهم ظلّوا يحدقون به.

- ماذا تريدون؟

أطلت بنت صغيرة برأسها من وراء صبيّ منهم وقالت:

- ألا تعطينا بعض التمر يا عم؟

ضحك سالم من كلامها، وسرّ بندائها «يا عم».

- لفت نظركم بريق تمري. لكن ماذا ستعطونني به؟

لمعت أسنان صبيّ منهم أسود البشرة، لكنه لم ينطق بكلمة.

تابع سالم سيره، وتقدم إلى الأمام قليلًا، ثم وقف في ظل جدار هناك.

- من منكم ناداني بكلمة «عم»؟

بقي الجميع صامتين، ولم ينطق أحدٌ منهم. لكن فتاة مجعدة الشعر، تراجعت قليلًا إلى الوراء، واختبأت خلف ذلك الصبيّ الأسود البشرة.

- هذه أنت إذًا.

وضع سالم السلة على الأرض.

- أين الشبه بيني وبين «العم»؟.

ظهر الخوف على عيني تلك الفتاة العسليتين، وحاولت أن

 

62


49

المشهد الثامن

تخفي نفسها أكثر. تقدم سالم منها، فبدأت شفتاها ترتجفان. أما الأولاد فتسمروا في أماكنهم من شدة الخوف. استدار سالم والتفت إلى الأولاد الذين كانوا يطلّون برؤوسهم من الزقاق، ثم عاد ونظر إلى الفتاة نظرة توحي بالجدية:

- التمر حلو، أليس كذلك؟ لعله...

لم يكمل سالم كلامه. عاد مسرعًا إلى السلة، حملها وملأ كفّه تمرًا، ثم قال: «أنت أيتها الفتاة المختبئة، تقدمي إلى الأمام لكي أراكِ».

عندما رأى سالم عينَي الفتاة قد ترقرقتا بالدموع، تقدم نحوها وقال: «افتحي فمك لأرى هل لديك أسنان حتى تناديني «يا عم».

فتحت الفتاة فمها وهي خائفة.

-لا أعتقد أن لديك لسانًا أيضًا.

ثم وضع تمرة في فمها، ووضع واحدة أخرى في فمه، وهز برأسه.

- لا! كأنها حلوة!

بعد ذلك تقدم من الأولاد، وطلب إليهم أن يمدُّوا أيديهم، وراح يضع في يد كل واحد منهم حبتين من التمر. لم يكن أحد ليشتري تمره. أما ماجدة فمن أين ستعلم ماذا فعل؟ هذا إذا قالت شيئًا، ولعلها لن تقول.

عندما شاهد الأولاد الذين كانوا يختبئون خلف منعطف

 

64


50

المشهد الثامن

تقدم ولد صغير، وراح يتكلم بلسان حلو وهو يطلب التمر، فيما كان بعضهم يبكي. قال الرجل العجوز: «من منكم لم يأكل التمر فليقف صفًا واحدًا في ظل الجدار. أما الذين أكلوا فليذهبوا إلى خارج الظل؛ إلى أشعة الشمس هناك».

اصطفّ جميع الأولاد في ظل الجدار، وبعضهم كان يلوك تمرته بفمه؛ إلا عدد قليل منهم وقفوا في الشمس.

- هذا الصبيّ قد سرق تمرًا، يا ابن مسعود!

هزّ الصبيّ برأسه، وهو يمسح شفتيه بكم يده، وسأل: «أنا؟!».

تقدم الرجل العجوز وألقى نظرة في عينيه، فطأطأ الصبيّ رأسه، لكنه لم يخرج من الصف.

- اليوم أقام لكم فارسيّ حفلًا عظيمًا.

عندما سمع سالم كلمة «فارسي» تذكر قاتل الخليفة، فاضطرب وشعر

 

65


51

المشهد الثامن

بقلق شديد.

تابع ابن مسعود كلامه: «أنا أيضًا أريد أن أشارككم في فرحتكم». ثم طلب من خادمه الذي تبعه أن يأخذ السلة من سالم، ثم أضاف: «لكني أحب أن أعمل كما كان يعمل رسول الله. بداية، فليقف في الأمام من لم يأكل التمر».

توجه الرجل العجوز إلى سالم، وسأله:

- ما اسمك أيها الشاب؟

- سالم، سيدي!

- مولى من أنت؟

- أنا عبد لماجدة زوجة...

- آه، أنت العبد الذي اشترتك زوجة وائل؟ أنا أعرفها. لكن ألا تعتقد أنك تتلف تمر هذه المسكينة؟

ابتلع سالم ريقه بغصّة، وقال:

- لم يشترِ أحد التمر، فأردت أن أحلّي أفواه هؤ...

- أن تفرحهم و..

هز سالم رأسه، لا سيدي!

- ليس هناك مشكلة، أنا سوف أشتري تمرك، وأشتري التمر الذي أكلوه أيضًا.

التفت ابن مسعود إلى خادمه، وطلب منه أن يدخل إلى الدار،

 

66


52
نزف النخيل