زَادُ المُنِيبين في شهر اللّه

﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰت مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ...﴾


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2024-03

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق


المقدّمة

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰت مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَر فَعِدَّة مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾[1].

أيّامٌ مباركةٌ تُقبل إلينا محمّلةً بالكرم الإلهيّ العميم، أيّام شهرٍ هو عند الله أفضل الشهور وأعظمها، أنزل فيه كتابَه الكريم ليُخرِج الناس من الظلمات إلى النور، وأجزل فيه العطاء والثواب لمن يتقرّب إليه، لا بالصوم فحسب، إنّما بالعمل الصالح أيضاً والصلاة والدعاء والاستغفار... ولنا في خطبة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) خير تعريف بمقام هذا الشهر الكريم وفضله وعظمته وعطاءاته.

 


[1] سورة البقرة، الآية 185.

 

7


1

المقدّمة

شهر رمضان المبارك، شهر التغيير الجذريّ عند الإنسان؛ في علاقته بالله تعالى، من خلال الدعاء والصلاة وقراءة القرآن؛ وفي علاقته بالآخرين، من خلال الاهتمام بشؤونهم وقضاياهم، ولا سيّما الفقراء والمحتاجين منهم. وبذلك، يكون شهر رمضان شهراً للتغيير الشامل في شخصيّة الإنسان، والذي له أثر لا محالة على المجتمع عامّة، حيث يعمّ السلام والودّ والحبّ بين عباد الله تعالى.

سعياً في تحقيق الاستفادة القصوى من هذه الفرصة العظيمة في هذا الشهر الكريم، ومواكبةً للعمل الثقافيّ التبليغيّ، قمنا في مركز المعارف للتأليف والتحقيق، بإصدار متنٍ تبليغيّ جديد من «سلسلة زاد المبلِّغ»، بعنوان «زاد المُنيبين»، يتضمّن مواعظَ ينبغي إعطاؤها الأولويّة التبليغيّة، استناداً إلى الأولويّات الثقافيّة لهذا العام.

نسأل الله أن يتقبّل أعمالنا وأعمالكم بأحسن القبول، وأن يجعلنا وإيّاكم من عتقائه من النار، وأن يحظى هذا الإصدار بقَبول المبلِّغين الكرام، ليكون عوناً لهم في خدمة المسلمين في هذا الموسم العباديّ العظيم.

 

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

 

8


2

الموعظة الأولى: شهر رمضان، أهمّيّته والاستعداد له

الموعظة الأولى: شهر رمضان، أهمّيّته والاستعداد له

محاور الموعظة

قيمة شهر رمضان وأهمّيّته
التحضير الروحيّ والمعنويّ للشهر الفضيل
الاغتنام الأمثل للوقت

هدف الموعظة

حثّ الناس على اغتنام فرصة شهر رمضان، وتعرّف فضله وقيمته وكيفيّة الاستعداد لاستقباله.

تصدير الموعظة

رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا أيّها الناس، إِنَّ أَنْفُسَكُمْ مَرْهُونَةٌ بِأَعْمَالِكُمْ، فَفُكُّوهَا بِاسْتِغْفَارِكُمْ، وَظُهُورَكُمْ ثَقِيلَةٌ مِنْ أَوْزَارِكُمْ، فَخَفِّفُوا عَنْهَا بِطُولِ سُجُودِكُمْ»[1].

 

 


[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، فضائل الأشهر الثلاثة، تحقيق وإخراج ميرزا غلام رضا عرفانيان، دار المحجة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1412هـ - 1992م، ط2، ج1، ص77.

 

9


3

الموعظة الأولى: شهر رمضان، أهمّيّته والاستعداد له

قيمة شهر رمضان وأهمّيّته

إنّ لِشهر رمضان المبارك قيمة وأهمّيّة كبيرة في روايات أهل البيت  (عليهم السلام)، إذ سلّطَت الضوء على جوانب روحيّة واجتماعيّة وعباديّة تُعزّز قيمة هذا الشهر المبارك، نذكر منها:

1. شهر الرحمة والمغفرة: إنّ هذا الشهر فرصة للتوبة والاستغفار والتقرّب إلى الله وتطهير النفس والتخلّص مِن الذنوب والأخطاء والحصول على رحمة الله ومغفرته؛ قال رَسُولُ اَللَّه (صلى الله عليه وآله): «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاِحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه»[1]، وقال الإمام الرضا (عليه السلام): «وَفِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ يغلُّ اَلْمَرَدَةَ مِنَ اَلشيَاطِينِ، وَيغْفرُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ سَبْعِينَ أَلْفاً. فَإِذَا كَانَ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ غَفَرَ اَللَّهُ لَهُ بِمِثْلِ مَا غَفَرَ فِي رَجَب وَشَعْبَان وَشَهْر رَمَضَانَ إِلَى ذَلِكَ اَلْيَوْمِ، إِلّا رَجُلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيَقُولُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: انْظروا هَؤُلاَءِ حَتَّى يَصْطَلِحُوا»[2].

2. شهر القرآن الكريم: لقد كان نزول القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «نَزلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ اَلتَوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ اَلْإِنْجِيلُ لِثَلاَث عَشْرَة لَيْلَة خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَان، وَأُنْزِلَ اَلزَبُورُ لِثَمَانِيَة عَشر خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَان، وَأُنْزِلَ اَلْقُرْآنُ فِي ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ

 

 


[1] الشيخ الصدوق، فضائل الأشهر الثلاثة، مصدر سابق، ج1، ص12.

[2] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط2، ج93، ص366.

 

10


4

الموعظة الأولى: شهر رمضان، أهمّيّته والاستعداد له

شَهْرِ رَمَضَانَ»[1]. وقد حثّت الآيات والروايات على تلاوة القرآن وتدبّر آياته والتأمّل فيها، قال تعالى: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰت مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ﴾[2]، وقال الرسول (صلى الله عليه وآله) في خطبة استقبال شهر رمضان: «وَمَنْ تَلاَ فِيهِ آيَةً مِنَ اَلْقُرْآنِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَتَمَ اَلْقُرْآنَ فِي غَيْرِهِ مِنَ اَلشهُورِ»[3]. ومن المستحسن -في هذا الشهر الفضيل- تخصيص وقت للقراءة اليوميّة والتفكّر في معاني القرآن وتطبيقه في الحياة.

3. شهر التكافل والعطاء: يركّز النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) في رواياتهم على أهمّيّة التضامن والعطاء في شهر رمضان، ويعدّونه شهراً للتعاضد ومشاركة الطعام ومساعدة المحتاجين والفقراء، ويحثّون على ممارسة الخير والعطاء والتكافل الاجتماعيّ فيه، عَنْ أَبِي عُمَارَةَ قَالَ: «رُوِّينا أَنَّ عَابِدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا بَلَغَ اَلْغَايَةَ فِي اَلْعِبَادَةِ صَارَ مَشَّاء فِي حَوَائِجِ اَلناسِ، عَانِياً بِمَا يُصْلِحُهُمْ»[4].

4. شهر العبادة والتقرّب إلى الله: شهر رمضان فرصة للتزوّد من العبادة وزيادة القُرب إلى الله. لذا، حثّت الروايات على أداء الصلوات والأعمال الدينيّة والاعتكاف في المساجد للتفرّغ للعبادة

 


[1] الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر الغفّاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج2، ص629.

[2] سورة البقرة، الآية 185.

[3] الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، الأمالي، كتابچى‏، إيران - طهران‏، 1418ه‏، ط6، ص95.

[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص199.

 

11


5

الموعظة الأولى: شهر رمضان، أهمّيّته والاستعداد له

والدعاء وقراءة القرآن وتلاوة الأدعية العامّة والخاصّة، وأكّدت أهمّيّة إحياء ليالي القدر. فَلا شهرَ أعظم من شهر رمضان المبارك، إذ اصطفاه اللَّه لأعظم هديّة للمجتمع البشريّ، وهي القرآن الكريم، وجعل في آخره ليلة القدر التي تتقدّر فيها مقدّرات البشريّة لسنة، بِحسب استحقاقهم واستعدادهم، وجعل العبادة فيها خيراً مِن عبادة ألف شهر، مُضافاً إلى كونه ربيع العبادة وشهر التهذيب والتربية والتعليم والطهر والعفاف والورع والتقوى، والذي يطوي -بخطوات سريعة وواثقة- مراحل السير والسلوك إلى اللَّه[1]؛ قال المصطفى (صلى الله عليه وآله) في خطبة استقبال شهر رمضان: «أيّها الناس، إنّه قَد أقبلَ إليكُم شهرُ اللَّهِ بِالبرَكةِ والرحمةِ والمَغفرةِ، شَهرٌ هُو عِندَ اللَّهِ خَيرُ الشُهورِ، وأيّامُهُ أفضلُ الأيّام، وَلياليهِ أفضَلُ الليالي، وَساعاتُهُ أفضلُ السَاعاتِ»[2].

التحضير الروحيّ لشهر رمضان

إنّ التحضير الروحيّ والمعنويّ مِن الأمور المهمّة في استقبال شهر رمضان المبارك والاستعداد له، لأنّ التحضير تهيئة النفس والقلب لاستقباله بطريقة تليق بعَظَمته. ويهدف التحضير الروحيّ إلى تحويل هذه المناسبة الربّانيّة إلى عمليّة إصلاح ذاتيّ للنفس، وهي عمليّة داخليّة تزكّي النفس الأمّارة بالسوء وتُطهّرها، فتُحقّق تحوّلاً على

 


[1] الشيرازيّ، الشيخ ناصر مكارم، المفاتيح الجديدة، دار نشر مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، إيران - قم، 1431ق، ط1، ص469.

[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص93.

 

12


6

الموعظة الأولى: شهر رمضان، أهمّيّته والاستعداد له

المستويات السلوكيّة والفكريّة والعاطفيّة كلّها. ومع أنّه لا بُدّ لهذا الإصلاح الذاتيّ مِن أن يكون مُستمرّاً في حياة الإنسان، إلّا أنّ أعظم فُرصِه في شهر رمضان. ويتمّ التحضير عن طريق:

1. التحضير المعرفيّ: من المهمّ معرفة أهمّيّة هذا الشهر وفضله، ورَسْم أهداف محدّدة من أجل تحقيقها فيه، كتكثيف العبادة وقراءة القرآن والمواظبة على الأدعية والابتعاد عن العادات التي قد توجِب شرود الذهن، كالإفراط في متابعة وسائل التواصل الاجتماعيّ وشبكات الإنترنت والتلفاز وغيرها.

2. التحضير العمليّ: من الجيّد البدء بِممارسة بعض العبادات، كالصوم التطوّعيّ وأداء صلاة الليل والقراءة المنتظمة للقرآن قبل حلول شهر رمضان، وكذلك الدعاء والصدقة والأعمال الخيريّة والتوبة والاستغفار؛ عن الرسول (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَكْثَرَ اَلاِسْتِغْفَارَ جَعَلَ اَللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجاً وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجاً، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ»[1]، وعَن الإمام الصادق (عليه السلام): «كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَتُوبُ إِلَى اَللَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ، كَانَ يَقُولُ: أَتُوبُ إِلَى اَللَّهِ»[2]. فإن كانت هذه حال الرسول (صلى الله عليه وآله)، وهو المنزّه عن الذنوب، فَكيف بِسائر العباد؟

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص172.

[2] المصدر نفسه، ج16، ص284.

 

13


7

الموعظة الأولى: شهر رمضان، أهمّيّته والاستعداد له

الاغتنام الأمثل للوقت

إنّ اغتنام الوقت بالشكل الأمثل في شهر رمضان يساعد على تحقيق الفائدة القصوى من هذا الشهر المبارك. فَلا بدّ مِن أن نستحضر دائماً أنّ الوقت -في الحقيقة- هو العمر والرأسمال الحقيقيّ للإنسان، وأن نلتفت إلى خصائص الوقت في هذا الشهر، لأنّ الوقت أَنفَسُ شيء لدى الإنسان، إذ إنّه ينقضي بسرعة ولا يُعَوَّض. وقد أشارَت الروايات إلى بعض هذه الأمور، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ اَلْمَغْبُونَ مَنْ غُبِنَ عُمرَه، وَإِنَّ اَلْمَغْبُوطَ مَنْ أَنْفَذَ عُمرَهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ»[1]، و«إِنَّ عُمرَكَ عَدَدُ أَنْفَاسِكَ، وَعَلَيْهَا رَقِيبٌ يُحْصِيهَا»[2]، و«إِنَّ مَاضِيَ عُمرِكَ أَجَلٌ، وَآتِيَهُ أَمَلٌ، وَاَلْوَقْتَ عَمَلٌ»[3].

ولكي تُستثمر أوقات شهر رمضان، ينبغي القيام بالأمور الآتية:

1. التخطيط اليوميّ: ووضع أهداف وجدول زمنيّ للأنشطة الدينيّة والعباديّة.

2. الاغتنام الأمثل للصلاة: والحرص على أدائها في أوّل وقتها، بل على صلاتها جماعة.

3. قراءة القرآن الكريم: والتدبّر في معانيه والتأمّل فيه وتفسير آياته وتطبيقها في الحياة اليوميّة.

 

 


[1] التميميّ الآمديّ، عبد الواحد بن محمّد، غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق وتصحيح السيّد مهدي رجائي‏، نشر دار الكتاب الإسلاميّ‏، إيران - قم‏، 1410ه‏، ط2، ص228.

[2] المصدر نفسه، ص222.

[3] المصدر نفسه، ص224.

 

14


8

الموعظة الأولى: شهر رمضان، أهمّيّته والاستعداد له

4. الاغتنام الأمثل للسحور والإفطار: من خلال بالدعاء والتضرّع إلى الله.

5. الاستفادة من الأوقات المباركة: كليالي القدر أو العَشر الأواخر.

6. المشاركة في الأعمال الخيريّة والتطوّعيّة.

 

15


9

الموعظة الثانية: استقبال الإمام الرضا (عليه السلام) لشهر رمضان

الموعظة الثانية: استقبال الإمام الرضا (عليه السلام) لشهر رمضان

محاور الموعظة

إقبال الإنسان على ما يَعنيه
الإكثار من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن
التوبة والأمانة ونزع الغلّ
ترك الذنوب والتقوى والتوكُّل

هدف الموعظة

تعرّف كيف استقبل الإمام الرضا (عليه السلام) شهر رمضان، لحثّ المؤمنين على الاقتداء بسيرته.

تصدير الموعظة

رسول الله (صلى الله عليه وآله): «قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اَللَّهِ بِالْبَرَكَةِ وَاَلرحْمَةِ وَاَلْمَغْفِرَةِ؛ شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اَللَّهِ أَفْضَلُ اَلشُهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ اَلْأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اَللَيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ اَلساعَاتِ. هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اَللَّهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اَللَّهِ»[1].

 

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص93.

 

 

16


10

الموعظة الثانية: استقبال الإمام الرضا (عليه السلام) لشهر رمضان

كان الإمام الرضا (عليه السلام) يحثّ أصحابه على الاستعداد لاستقبال شهر رمضان مِن آخر جمعة في شهر شعبان، وينصحهم، ويأمرهم بالتزكية البدنيّة والنفسيّة والروحيّة والتركيز على المهمّ وتقديم الأولويّات، حتّى يُقبِل الشهر عليهم وهم مُخلصون لله تعالى. ويُعدُّ حديثه حول ذلكَ برنامجاً متكاملاً للاستعداد لِشهر رمضان، فقد رَوَى أَبُو اَلصَلْتِ اَلْهَرَوِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى اَلرِضَا (عليه السلام) فِي آخِرِ جُمُعَةٍ مِنْ شَعْبَانَ، فَقَالَ (عليه السلام): «يَا أَبَا اَلصَلْت، إِنَّ شَعْبَانَ قَدْ مَضَى أَكْثَرُهُ، وَهَذَا آخِرُ جُمُعَةٍ فِيهِ، فَتَدَارَكْ فِي مَا بَقِيَ مِنْهُ تَقْصِيرَكَ فِي مَا مَضَى مِنْهُ، وَعَلَيْكَ‏ بِالْإِقْبَالِ‏ عَلَى‏ مَا يَعْنِيكَ‏، وَأَكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَتُبْ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبِكَ لِيُقْبِلَ شَهْرُ اللَّهِ إِلَيْكَ وَأَنْتَ مُخْلِصٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا تَدَعَنَّ أَمَانَةً فِي عُنُقِكَ إِلَّا أَدَّيْتَهَا، وَلَا فِي قَلْبِكَ حِقْداً عَلَى مُؤْمِنٍ إِلَّا نَزَعْتَهُ، وَلَا ذَنْباً أَنْتَ مُرْتَكِبُهُ إِلَّا قَلَعْتَ عَنْهُ، وَاتَّقِ اللَّهَ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فِي سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلَانِيَتِهِ، ﴿وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡء قَدۡرا﴾[1]»[2].

إقبال الإنسان على ما يَعنيه

قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ»[3]؛ أي ما لا يهمّه ولا يفيده في دينه وَدُنياه. والضابط في معرفة ما يعني الإنسان ممّا لا يعنيه هو الشرع، لا الهوى. فقد يحلو للكثير مِن الناس تَرْك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاهتمام بشؤون المسلمين،

 

 


[1] سورة الطلاق، الآية 3.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج94، ص72.

[3] المصدر نفسه، ج1، ص216.

 

17


11

الموعظة الثانية: استقبال الإمام الرضا (عليه السلام) لشهر رمضان

بِدعوى أنّه تدخُّلٌ في خصوصيّات الآخرين، وهو ممّا لا يعني الإنسان، والحقيقةُ أنّه مِن أبرز مَصاديق ما ينبغي أن يعتني به المرء تجاه المسلمين، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأُمُورِ اَلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ بِمُسْلِم»[1].

الإكثار من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن

إنّ شهر رمضان شهرُ الدعاء؛ لذا لا بُدّ مِن التركيز فيه على الأدعية، خاصّة تلك المرويّة عن أهل البيت (عليهم السلام)، كدعاء الافتتاح والبهاء ودعاء أبي حمزة وغيرها. ولا بدّ من الاستغفار، لأنّه يُنجي مِن القيود والسلاسل والغِلّ، ويجلي صدأ القلوب النورانيّة ويُطهّرها. والاستغفار يعني طلب المغفرة والعفو الإلهيّ عن الذنوب، فإذا تمَّ بشكلٍ صحيحٍ انفتح باب البركات الإلهيّة في وجه الإنسان؛ فالذنوب مرض يحتاج علاجاً، هُو الاستغفار. وقد ذَكرَت آياتٌ قرآنيّة عديدة أنّ للاستغفار فوائد دنيويّة وأخرويّة[2]؛ قَالَ النبيّ (صلى الله عليه وآله): «ألاَ أُخْبِرُكُمْ بِدَائِكُمْ مِنْ دَوَائِكُمْ؟»، قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُولَ اَللَّهِ. قَالَ: «دَاؤُكُمُ اَلذُنُوبُ، وَدَوَاؤُكُمُ اَلاِسْتِغْفَار»[3]. وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «تَعَطَّرُوا بِالاِسْتِغْفَارِ، لاَ تَفْضَحكُمْ رَوَائِحُ اَلذنُوب»[4]، فَلِلذنب رائحة كريهة تحتاج مُعطِّراً، هو الاستغفار واللجوء إلى الله تعالى وعفوِه ومغفرته.

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص164.

[2] الإمام الخامنئيّ (دام ظله)، أخلاق ومعنويّت (فارسي)، مؤسّسة فرهنكي قدر ولايت، إيران - طهران، ط1، ص163.

[3] الشعيريّ، محمّد بن محمّد، جامع الأخبار، المطبعة الحيدريّة، العراق - النجف، لا.ت، ط1، ص57.

[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج6، ص22.

 

18


12

الموعظة الثانية: استقبال الإمام الرضا (عليه السلام) لشهر رمضان

التوبة إلى الله

التوبة هي الندم على المعصية، والعزم على تَرك المعاودة إليها، وهي واجبة وجوباً فوريّاً على كلّ مُكلّف. وقد وردَت في القرآن الكريم والسُنّة الشريفة، مع الشروط التي لا بُدَّ مِن توفّرها لِتَصحّ مِن العَبد، وَمِنها:

1. الندم على ما صدرَ مِن معصية[1].

2. العزم على عدم العَود في المستقبل إلى الذنب[2].

3. الاستغفار[3].

4. الخروج مِن تبعات الذنوب، فَإنْ تعلّق بالمعصيةِ حَقٌّ للّه‏ تعالى أو للناس، يجب أداء هذا الحقّ لتتحقّق التوبة وتصحّ[4]؛ سواء أكان مالاً أو جنايةً أو حقّاً أخلاقيّاً [5].

أداء الأمانة

تُعدُّ الأمانة مِن أهمّ الفضائل الأخلاقيّة والقِيَم الإسلاميّة والإنسانيّة التي حَثَّ عليها الإسلام، فهي رأس مال المجتمع الإنسانيّ والسبب في شَدّ أواصر المجتمع وتقوية الروابط بين الناس؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ
 

 

 


[1] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، المبسوط، تصحيح وتعليق السيّد محمّد تقي الكشفيّ، المكتبة المرتضويّة لإحياء آثار الجعفريّة، لا.م، 1387ه، لا.ط، ج5، ص538.

[2] النجفيّ، الشيخ محمّد حسن، جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام، تحقيق وتعليق الشيخ عباس القوچانيّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1365ش، ط2، ج41، ص111.

[3] الأنصاريّ، الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين، رسائل فقهيّة، تحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، مجمع الفكر الإسلاميّ، إيران - قمّ، 1414ه، ط1، ص56.

[4] السبزواريّ، السيّد عبد الأعلى، مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، مكتب آية الله العظمى السيّد السبزواريّ، لا.م، 1413ه، ط4، ج3، ص350.

[5] السبزواريّ، السيّد عبد الأعلى، مواهب الرحمان في تفسير القرآن، مؤسّسة أهل البيت (عليهم السلام)، لبنان - بيروت، 1409ه، ط2، ج2، ص280.

 

19


13

الموعظة الثانية: استقبال الإمام الرضا (عليه السلام) لشهر رمضان

أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرا﴾[1]، وقال النبيّ الأكرم  (صلى الله عليه وآله): «لا إِيمانَ لِمَنْ لا أَمانَةَ لَهُ»[2]، وعن الإمام الصَادق (عليه السلام): «إنّ الله عَزَّ وَجَلَّ لَم يَبعَثً نَبِيّاً إلّا بِصِدقِ الحِدِيثِ وَأَداءِ الأَمانَةِ إِلى البرِّ وَالفاجِر»[3].

نَزع الغلّ والحقد مِن القلب

الغِلُّ بِكَسرِ الغَينِ الحِقد، وبِضَمِّها القَيْد؛ يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الغِلُّ داءُ القُلوب»[4]، و«مَنْ خَلاَ عَنِ الْغِلِّ قَلْبُهُ، رَضِيَ عَنْهُ رَبُّه»[5]. إنّ شهر رمضان أجمل فُرصة لِنَزع الغلّ والبُغض والأحقاد مِن النفوس، وفَتْح صفحة جديدة، والتخلُّص مِن الشوائب في القلوب. لذا، ينبغي أن يستقبل الصائم الشهر المبارك بالصفح والتسامح والتغاضي عن المعايِب وَطيّ صفحة الماضي وتَرك التشفّي.

ترك الذنوب

لا بُدّ مِن أن الالتفات إلى خطورة الذنوب في المسيرة التكامليّة للإنسان، لأنّ أبوابَ ما يحتاجه الفرد البشريّ والمجتمع الإنسانيّ -مِن ألطاف إلهيّة وتفضّلات ورحمة ونورانيّة وهداية إلهيّة وتوفيق وعَوْن

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 283.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج69، ص198.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص104.

[4] الليثيّ الواسطيّ، الشيخ كافي الدين عليّ بن محمد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق الشيخ حسين الحسينيّ البيرجنديّ، دار الحديث، إيران - قمّ، 1418ه، ط1، ص32.

[5] المصدر نفسه، ص640.

 

 

20


14

الموعظة الثانية: استقبال الإمام الرضا (عليه السلام) لشهر رمضان

على الأمور ونجاح في الساحات المختلفة- تنغلق بِسبب الذنوب التي يرتكبها، فتصبح حجاباً بينه وبين الرحمة والتفضّل الإلهيّ.

التقوى والتوكّل على الله

تحفظُ تقوى الله الناسَ مِن السقوط في المعصية، فَإذا وقى الإنسان نفسه بالتقوى، فَلا سبيل للشيطان إلى نفسه، ولا سلطان للأهواء والفتن عليه؛ يقول الإمام عليّ (عليه السلام): «التقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ، وَاَلْفُجُور دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ، لاَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ وَلاَ يُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ. أَلاَ وَبِالتَقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ اَلْخَطَايَا، وَبِالْيَقِينِ تُدْرَكُ اَلْغَايَةُ اَلْقُصْوَى»[1].

وعن الإمام الرضا (عليه السلام): «وَأَكْثِرْ مِنْ أَنْ تَقُولَ فِي مَا بَقِيَ مِنْ هَذَا اَلشَهْرِ: اللَّهُمَّ إِنْ لَمْ تَكُنْ غَفَرْتَ لَنَا فِي مَا مَضَى مِنْ شَعْبَانَ، فَاغْفِرْ لَنَا فِي مَا بَقِيَ مِنْهُ، فَإِنَّ اَللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يعْتِقُ فِي هَذَا اَلشَهْرِ رِقَاباً مِنَ اَلنَارِ لِحُرْمَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ»[2].

 

 


[1] الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387هـ - 1967م، ط1، ص221، الخطبة 157.

[2] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، تصحيح الشيخ حسين الأعلميّ، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1404هـ - 1984م، لا.ط، ج2، ص56.

 

21


15

الموعظة الثالثة: الصوم في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)

الموعظة الثالثة: الصوم في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)

محاور الموعظة

حقيقة الصوم
عِلّة الصيام

هدف الموعظة

بيان عظمة الصوم في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وإظهار حقيقته والعلّة من تشريعه.

تصدير الموعظة

أمير المؤمنين (عليه السلام): «صَوْمُ اَلنَفْسِ إِمْسَاكُ اَلْحَوَاسِّ اَلْخَمْسِ عَنْ سَائِرِ المَآثِمِ، وَخُلُوُّ اَلْقَلْبِ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَابِ اَلشَرِّ»[1].

 

 


[1] الآمديّ، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص423.

 

22


16

الموعظة الثالثة: الصوم في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)

حقيقة الصوم

الصوم اسمٌ يُطلَق على فِعل الامتناع عن الطعام والشراب والمفطّرات المذكورة في كتب الفقه، في مدّة زمنيّة محدَّدة مِن طلوع الفجر حتّى غروب الشمس. وفي روايات أهل البيت (عليهم السلام) ما يُشير إلى حقيقته، فَقال الإمام عليّ (عليه السلام): «الصَوْم حِجَابٌ ضَرَبَهُ اَللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ عَلَى اَلْأَلْسُنِ وَاَلْأَسْمَاعِ وَاَلْأَبْصَارِ وَسَائِرِ اَلْجَوَارِحِ، لِمَا لَهُ فِي عَادَةٍ مِنْ سِرِّهِ وَطَهَارَةِ تِلْكَ اَلْحَقِيقَةِ حَتَّى يُسْتَرَ بِهِ مِنَ اَلنَارِ. وَقَدْ جَعَلَ اَللَّهُ عَلَى كُلِّ جَارِحَةٍ حَقّاً لِلصِيَامِ، فَمَنْ أَدَّى حَقَّهَا كَانَ صَائِماً وَمَنْ تَرَكَ شَيْئاً مِنْهَا نَقصَ مِنْ فَضْلِ صَوْمِهِ بِحَسَبِ مَا تَرَكَ مِنْهَا»[1]. وَللصيام مراتب بيَّنها أهل بيت العِصمة (عليهم السلام)، مِنها تَرْك المفطّرات، ومنها صيام الجوارح، ومنها تَركُ الأعمال القبيحة، إذ إنّ أَجْرَ الصائم ينقص بِقُبح أعماله، وقد تذهبُ أعمالُه بِأجرِ صومِه كلّه، فلا يكون له مِن صومه إلّا الجوع والعطش. وَكَم مِن صائمٍ أمسكَ عن الطعام والشراب، فَأفطر لسانه بالنطق الحرام، وعينه بالنظر الحرام، وسمعه بالسمع الحرام! قَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي بَعْضِ خُطَبِهِ: «الصِيَامُ اِجْتِنَابُ المَحَارِمِ، كَمَا يَمْتَنِعُ اَلرَجُلُ مِنَ اَلطعَامِ وَاَلشَرَاب»[2]، وقالت السيّدة الزهراءO: «مَا يَصْنَعُ اَلصَائِمُ بِصِيَامِهِ إِذَا لَمْ يَصُنْ لِسَانَهُ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَجَوَارِحَه؟»[3].


 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج93، ص291.

[2] المصدر نفسه، ج93، ص294.

[3] المصدر نفسه، ج93، ص295.

 

23

 


17

الموعظة الثالثة: الصوم في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)

ولا بُدّ مِن الالتفات إلى أنّ الصوم أحد المصاديق الواضحة للصبر، لأنّ الإِنسان يحصل -في ظلّ هذه العبادة الكبرى- على الإِرادة القويّة والإِيمان الراسخ والقدرة على التحكّم في الميول والرغبات والأهواء النفسيّة؛ في رواية طويلة سألَ فيها رجلٌ مِن اليهود النبيّ (صلى الله عليه وآله) مجموعة مِن الأسئلة: ... فَأَخْبِرْنِي عَنِ اَلثَامِنِ، لِأَيِّ شَيْءٍ اِفْتَرَضَ اَللَّهُ صَوْماً عَلَى أُمَّتِكَ ثَلاَثِينَ يَوْماً، وَاِفْتَرَضَ عَلَى سَائِرِ اَلْأُمَمِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ اَلنَبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ آدَمَ (عليه السلام) لَمَّا أَنْ أَكَلَ مِنَ اَلشَجَرَةِ، بَقِيَ فِي جَوْفِهِ مِقْدَارُ ثَلاَثِينَ يَوْماً، فَافْتَرَضَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ ثَلاَثِينَ يَوْماً الجُوعَ وَالعَطَشَ، وَمَا يَأْكُلُونَهُ بِالليْلِ فَهُوَ تَفَضُّلٌ مِنَ اَللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ لِآدَمَ (عليه السلام) ثَلاثونَ يَوْماً كَمَا عَلَى أُمَّتِي». ثُمَّ تَلاَ اَلْآيَةَ: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾[1]، قَالَ: صَدَقْتَ، يَا مُحَمَّد. فَمَا جَزَاءُ مَنْ صَامَهَا؟ فَقَالَ اَلنَبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَصُومُ يَوْماً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، حَاسِباً مُحْتَسِباً، إِلّا أوْجَبَ اَللَّهُ تَعَالَى لَهُ سَبْعَ خِصَال؛ أَوَّلُ الخصْلَةِ يَذُوبُ الحَرَامُ مِنْ جَسَدِهِ، وَاَلثَانِي يَتَقَرَّبُ إِلَى رَحْمَةِ اَللَّهِ، وَاَلثَالِثُ يُكَفِّرُ خَطِيئَتَه، أَلاَ تَعْلَمُ أَنَّ الكَفَّارَاتِ فِي الصَوْمِ يُكَفِّرُ، وَالرَابِعُ يُهَوِّنُ عَلَيْهِ سَكَرَاتِ المَوْتِ، وَالخَامِسُ آمَنَهُ اللَّهُ مِنَ الجُوعِ وَالعَطَشِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَالسادِسُ بَرَاءَةٌ مِنَ اَلنَارِ، وَالسَابِعُ أَطْعَمَهُ اَللَّهُ مِنْ طَيِّبَاتِ الجَنَّةِ». قَالَ: صَدَقْتَ، يا مُحَمَّد[2].

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 183.

[2] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الاختصاص، تحقيق عليّ أكبر الغفّاريّ والسيّد محمود الزرنديّ، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414هـ - 1993م، ط2، ص38.

 

 

24

 


18

الموعظة الثالثة: الصوم في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)

إذاً، ليس الصوم عن الطعام والشراب فَقط، بل عن سائر الأعمال القبيحة والرذيلة أيضاً، كالكذب والحسد والمحرّمات؛ قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «كَمْ مِنْ صَائِم لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلّا الظَمَأُ! وَكَمْ مِنْ قَائِم لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلّا العَنَاء! حَبَّذَا نَوْم الأكيَاسِ وَإِفْطَارهُمْ»[1].

علّة الصيام

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَرَضَ اللَّه... الصيَامَ ابْتِلَاءً لإِخْلَاصِ الْخَلْقِ»[2]، وقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن الله تعالى: «الصوم لي، وأنا أجزي عليه»[3]؛ لأنّ الصوم أمر لا يطّلع عليه أحد، فَلا يقوم به على وجهه إلّا المخلصون[4].

إنّ الصِيام فريضة أوجبها الله على العباد، وهو عامل فاعل في تربية روح التقوى في المجالات والأبعاد جميعها، ومهيِّئٌ لقبول الحكم في قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾[5]؛ إذ إنّ النداءَ يفتح شغاف القلب ويرفع معنويّات الإنسان ويشحذ همّته، فَقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): 

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص283.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص512، الحكمة 252.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص63.

[4] ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله‏، شرح نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح محمّد أبو الفضل إبراهيم، نشر مكتبة آية الله المرعشيّ النجفيّ، إيران - قمّ، 1404هـ، ط1، ودار إحياء الكتب العربيّة - عيسى البابيّ الحلبيّ وشركاه، 1378هـ - 1959م، ط1، ج19، ص87.

[5] سورة البقرة، الآية 183.

 

25


19

الموعظة الثالثة: الصوم في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)

«لذّة النداء -يا أيّها الذين آمنوا- أزالت تعب العبادة والعناء»[1]. ثمّ تُبيّن الآية أنّ الصوم فريضة كتبت أيضاً على الأمم السابقة، وتبيِّن فلسفة الصوم ومنافعه، لتكون هذه العبادة محبّبة لدى النفس[2]. لذا، تقترن هذه العبادة بِالصبر على ترك اللذائذ المادّيّة.

والله تعالى إنّما فرض الصيام ليختبرنا به؛ ﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡء مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ﴾[3]. ثمّ بشّر الصابرين؛ ﴿وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾[4]. عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ﴾[5]: «الصبْرُ الصيَامُ» وَ«إِذَا نَزلَتْ بِالرَجُلِ النَازِلَةُ وَالشَدِيدَةُ فَلْيَصُمْ، فَإِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ﴾؛ يَعْنِي الصِيَامَ»[6]. فَمَن صبَرَ على ألمِ الجوع والعطش، وتَرَك ملذّات الدنيا، وأمسكَ عمّا يبغضه الله، فَقد أخلص لله عزّ وَجلّ في صيامه.

 

 


[1] قطب الدين الراونديّ، أبو الحسين سعيد بن هبة الله، فقه القرآن، تحقيق السيّد أحمد الحسينيّ، مكتبة آية اللّه العظمى النجفيّ المرعشيّ، إيران - قمّ، 1405ه، ط2، ج1، ص72.

[2] الشيرازيّ، الشيخ ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مدرسة الإمام عليّ بن أبي طالب، إيران - قمّ، 1426ه، ط1، ج1، ص518.

[3] سورة البقرة، الآية 155.

[4] سورة البقرة، الآية 155.

[5] سورة البقرة، الآية 45.

[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص63.

 

26


20

الموعظة الرابعة: مراتب الصيام

الموعظة الرابعة: مراتب الصيام

محاور الموعظة

صوم الجوارح والجوانح
أصناف الصائمين

هدف الموعظة

حثّ المؤمنين على ارتقاء المراتب الأعلى للصوم، من خلال بيان أنواعه وأصناف الصائمين.

تصدير الموعظة

لما حضر شهر رمضان، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): «سبحان الله! ماذا تستقبلون؟! وماذا يستقبلكم؟!»[1] (قالها ثلاث مرّات).

 

 


[1] الراونديّ، فضل الله بن عليّ، النوادر، تحقيق سعيد رضا عليّ عسكريّ، مؤسّسة دار الحديث الثقافيّة، إيران - قمّ، لا.ت، ط1، ص251.

 

27


21

الموعظة الرابعة: مراتب الصيام

صوم الجوارح والجوانح

إنّ من الضرورة أن يراقب الإنسان نفسه جيّداً، وليقف متأمّلاً حينما يستقبل شهر رمضان، وليعلم أنّه ليس كباقي الشهور، ولياليه ليست كباقي الليالي، وأيّامه ليست كباقي الأيام، والعبد فيه ليس كحاله في بقيّة الشهور، فهو ضيف الله سبحانه، وينبغي على الضيف أن يراعي آداب الاستضافة، فلا يصدر منه ما لا يليق بشأن الضيف، ولا يجوز له هتك حرمة الضيافة، يقول الشيخ المفيد {: «ومن سنن الصيام غضُّ الطرف عن محارم الله تعالى، وشُغْل اللسان بتلاوة القرآن، وتمجيد الله والثناء عليه، والصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، واجتناب سماع اللهو وجميع المقال الذي لا يرضاه الله تعالى، وهجر المجالس التي يُصنع فيها ما يُسخط الله عزَّ وجلَّ، وترك الحركة في غير طاعة الله عزّ وجلّ، والإكثار من أفعال الخير التي يُرجى بها ثواب الله تعالى»[1]، وقد رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال لمحمّد بن مسلم: «يا محمد، إذا صُمْتَ، فَلْيَصُمْ سمعُك وبصرُك ولِسانُك ولحمُك ودمُك وجلدُك وشعرُك وبشرُك، ولا يكون يوم صومك كيوم فطرك»[2].

والسّر في تشريع الصوم قهر عدوّ الله، وكسر الشهوة والهوى لتتقوّى النفس على التقوى، وترتقي من حضيض وحظوظ النفس البهيمية إلى ذروة التشبّه بالملائكة الروحانيّة. فإذا لم يدرك المرء

 

 


[1] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، المقنعة، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1410ه، ط2، ص310.

[2] المصدر نفسه.

 

28


22

الموعظة الرابعة: مراتب الصيام

هذه الحقيقة للصوم، يتلهّى بالقشور وينسلخ عنه شهر رمضان كما دخل فيه.

فالصوم؛ بمعنى الإمساك عن الطعام والشراب نهاراً، فهو وإن كان واجباً مطلوباً في الشريعة، إلّا أنّه ليس هو كلّ الصوم، فالصوم الصحيح الكامل إنّما يتمّ بصوم الجوارح والجوانح؛ أمّا صوم الجوارح فهو:

أوّلاً: الإمساك عن المفطرات.

ثانياً: كفّ البصر عن كلّ ما يحرم النظر إليه.

ثالثاً: كفّ اللسان عن زلاّته.

رابعاً: كفّ السمع عن آفاته.

وبعبارة جامعة: كفّ الحواسّ عن كلّ ما هو محرَّم عليها، وقد دلّ عليه ما رُوي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لجابر بن عبد الله، إذ يقول: «يا جابر، هذا شهر رمضان، من صام نهاره، وقام ورداً من ليله، وعفّ بطنه وفرجه، وكفّ لسانه، خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر»[1].

وكذلك من دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) إذا دخل شهر رمضان: «وأَعِنَّا عَلَى صِيَامِه بِكَفِّ الْجَوَارِحِ عَنْ مَعَاصِيكَ، واسْتِعْمَالِهَا فِيه بِمَا يُرْضِيكَ، حَتَّى لَا نُصْغِيَ بِأَسْمَاعِنَا إِلَى لَغْوٍ، ولَا نُسْرِعَ بِأَبْصَارِنَا إِلَى لَهْوٍ، وحَتَّى لَا نَبْسُطَ أَيْدِيَنَا إِلَى مَحْظُورٍ، ولَا نَخْطُوَ بِأَقْدَامِنَا إِلَى مَحْجُورٍ»[2].

وأمّا صوم الجوانح فهو:

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص87.

[2] الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، دفتر نشر الهادي، إيران - قمّ، 1418ه، ط1، ص188، الدعاء 44.

 

29


23

الموعظة الرابعة: مراتب الصيام

أوّلاً: صوم النفس لتذليلها وكسر شهواتها، ويدلّ عليه ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «صوم النفس عن لذّات الدنيا أنفع الصيام»[1].

ثانياً: صوم القلب، وهو أفضل الصيام، ويكون بتنزيه القلب عن التفكير في الآثام وجميع أسباب الشرّ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «صيام القلب عن الفكر في الآثام، أفضل من صيام البطن عن الطعام»[2].

أصناف الصائمين

بناءً على ما تقدّم من أنواع الصوم، يظهر لنا أنّه ثمّة درجات ومراتب للصيام، ويمكن تصنيف الصائمين إلى:

1. صوم العوامّ: وهم الذين لا يتعدّى صومهم الكفّ عن الطعام والشراب والفرج، على ما قرّره الفقهاء من واجباتٍ ومحرَّمات، وبذلك يسقط عنهم الواجب من دون ازدياد.

2. صوم الخواصّ: ويتحقّق بترك ما تقدّم، وإضافة صوم الجوارح كلّها، فيحفظ اللسان عن الغيبة، والعين عن النظر بالريبة، وكذلك سائر الأعضاء... وصوم هذا الصنف أكمل من صوم الصنف الأوّل؛ لأنّ يوم صومه ليس كيوم فطره، ويخرج من حدّ الجوع والعطش إلى حدّ الصوّامين، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ أبي (عليه السلام) قال: سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) امرأةً تسابّ جارية لها، وهي صائمة، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بطعام، فقال لها: كلي! فقالت: أنا صائمة يا رسول الله! فقال:


 


[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص302.

[2] المصدر نفسه.

 

30


24

الموعظة الرابعة: مراتب الصيام

كيف تكونين صائمة وقد سببتِ جاريتكِ؟! إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب، وإنّما جعل الله ذلك حجاباً عن سواهما من الفواحش من الفعل والقول يفطر الصائم. ما أقلّ الصوّام وأكثر الجوّاع!»[1].

3. صوم خواصّ الخواصّ: هؤلاء يضيفون إلى ما تقدّم صوم القلب وصيانته عن الفكر والوساوس، فيجعلونه مقصوراً على ذكر الله تعالى، ويكفّونه عمّا سواه جلّ وعلا، ويقتدون بالملائكة في الكفّ عن الشهوات بقدر الإمكان، وهؤلاء حقّاً يحصلون على ميراث الصوم، كما في حديث المعراج: «الصوم يورث الحكمة، والحكمة تورث المعرفة، والمعرفة تورث اليقين، فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح، بعسرٍ أم بيسر»[2].

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج93، ص293.

[2] المصدر نفسه، ج74، ص27.

 

31


25

الموعظة الخامسة: الحرمان من التوفيق لعبادة الصوم

الموعظة الخامسة: الحرمان من التوفيق لعبادة الصوم

محاور الموعظة

شهر ضيافة الله
أسباب الحرمان من التوفيق لعبادة الصوم

هدف الموعظة

بيان الأسباب الرئيسيّة التي تحرم بعضَ الناس من بركات صوم شهر رمضان مع معالجتها.

تصدير الموعظة

رسول الله (صلى الله عليه وآله): «فإنّ الشقيّ مَن حُرِم غفرانَ الله في هذا الشهر العظيم»[1].

 

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص154.

 

32


26

الموعظة الخامسة: الحرمان من التوفيق لعبادة الصوم

شهر ضيافة الله

إنّ الإنسانَ ضيفُ الله سبحانه في هذا الشهر، كما جاء في نصّ الخطبة الشهيرة لرسول الله (صلى الله عليه وآله): «هو شهرٌ دُعيتُم فيه إلى ضيافة الله، وجُعلتُم فيه من أهل كرامة الله»[1]، وإنّ كون المضيف هو الله سبحانه الجواد الكريم، الذي لا حدّ لعطائه، فهذا يعني أنّ ما يمكن أن يخرج به الإنسان -الضيف- من منح وجوائز وعطاءات من المائدة الربّانيّة لا حدّ له فيما لو وفّر الأرضيّة وكان مؤهّلاً لتلقّي ذلك. فلا أحد يخرج خاسراً من هذه المأدبة فيما لو شارك فيها فعلاً، ولم يحرم نفسه من الاغتراف منها، وقد ورد عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «إنّ أبواب السماء تُفتَح في أوّل ليلة من شهر رمضان، ولا تُغلَق إلى آخر ليلة منه»[2].

من هنا، علينا أن نحذر من كلّ ما من شأنه أن يحول بيننا وبين الاستفادة من هذه الفرصة الربّانيّة التي لا تأتي إلّا مرّة كلّ عام ولمدّة شهر، ومن يدري فلعلّ المفوّت لفرصة الاستفادة من هذا الشهر الكريم في هذا العام لا يُمدّ له في عمره ليعوّض ما فاته في العام القابل.

أسباب الحرمان من التوفيق لعبادة الصوم

إنّ الحرمان من التوفيق لعبادة الصوم، يكون إمّا بتقاعس المكلَّف عمداً عن أدائها ومن دون عذر، أو أنّه يؤدّيها، ولكنّها تقع منه باطلة بسبب تقصيره. وأسباب الحرمان عديدة، ولعلّ أبرزها الأمور الآتية:

 

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص154.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج93، ص344.

 

33


27

الموعظة الخامسة: الحرمان من التوفيق لعبادة الصوم

1. عدم التفقّه بأحكام الصوم: فالتقصير في تعلّم أحكام الصوم وشرائطه، وعدم ضبط أقسام المفطرات لمراعاة أحكامها عند الابتلاء بها، يؤدّي إلى بطلان الصوم ووقوع المكلَّف في الإثم بسبب تقصيره، فتضيع عليه بركات صوم هذا الشهر الكريم.

لذا ينبغي على المكلّف أن يتفقّه في أحكام الصوم قبل حلول شهر رمضان، ومراجعة المسائل التي يتوقّع ابتلاءه بها.

2. حبّ الدنيا: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «حبّ الدنيا أصل كلّ معصية، وأوّل كلّ ذنب»[1]، وإنّ من أبرز نتائج حبّ الدنيا الغفلة والانشغال عن الآخرة وعن طاعة الله، عن الإمام الكاظم (عليه السلام): «مَن أحبّ الدنيا، ذهب خوف الآخرة من قلبه»[2]، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «لِحبِّ الدنيا صمّت الأسماع عن سماع الحكمة، وعميت القلوب عن نور البصيرة»[3]، وهذا ما يؤدّي بالإنسان إلى الابتعاد عن عبادة ربّه، ومنها صوم شهر رمضان.

هنا، ينبغي على المكلّف أن ينبّه قلبه بذكر الآخرة قبل حلول شهر رمضان وأثناءه، ومع المداومة والإكثار تُقبِل نفسُه على الطاعة وقلبه على العبادة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَن أكثر من ذكر الآخرة،

 


[1] ورّام بن أبي فراس، مسعود بن عيسى‏، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر المعروف بمجموعة ورّام‏، مكتبة الفقيه‏، إيران - قم، 1410ه‏، ط1، ج2، ص122.

[2] الحرّانيّ، الشيخ ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1404هـ - 1363ش، ط2، ص399.

[3] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص404.

 

34


28

الموعظة الخامسة: الحرمان من التوفيق لعبادة الصوم

قلّت معصيته»[1]، وقال أيضاً: «ذكر الآخرة دواء وشفاء»[2].

3. طول الأمل: يُبتلى العديد من الناس -وخصوصاً الشباب- بطول الأمل، ويمنّون أنفسهم بقضاء ما عليهم من صيام لاحقاً، فيقعون فريسة رغباتهم العاجلة والفانية، ولا يلتزمون بفريضة الصوم، فيحرمون من ألطاف الله وعطاياه في هذا الشهر الكريم، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ الأمل يسهي القلب، ويكذب الوعد، ويكثر الغفلة، ويورث الحسرة»[3].

وفي علاج ذلك، ينبغي تنبيه القلب دائماً بعواقب طول الأمل، والاطّلاع على حال مَن غدرت بهم الدنيا من العصاة والمذنبين، الذين انتقلوا إلى دار الحسرة من دون توبة، ثمّ المبادرة إلى أداء الفرائض والواجبات فوراً ومن دون تسويف، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «اتّقوا خداع الآمال، فكم من مؤمّل يومٍ لم يدركه، وباني بناءٍ لم يسكنه، وجامع مالٍ لم يأكله»[4].

4. التهاون بالتكاليف الإلهيّة: بعض الناس لا يصومون متذرّعين بأتفه الأسباب، أو بسبب تهاونهم وقلّة اكتراثهم وعدم مبالاتهم، فترى أحدهم يفطر لأنّه غضب وانفعل، أو لإحساسه ببعض الإعياء، أو يدخّن لأنّه لا يتحمّل ترك ذلك طوال النهار... والأمثلة كثيرة. وليعلم هؤلاء أنّهم إنّما استهانوا واستخفّوا بالله عزّ وجلّ من خلال استخفافهم بطاعته وفرائضه.


 


[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص437.

[2] المصدر نفسه، ص256.

[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص35.

[4] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص91.

 

 

35


29

الموعظة الخامسة: الحرمان من التوفيق لعبادة الصوم

ينبغي أن يطّلع هؤلاء على عِظَم الجناية التي يرتكبونها بتهاونهم بطاعة الله عزّ وجلّ، وعلى الخسارة التي يقعون بها جرّاء تفويتهم بركات الصيام. ولعلّ قراءة خطبة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في استقبال شهر رمضان وغيرها من النصوص والروايات التي تحثّ على الطاعة وتنبّه من المعصية، يكون بها التأثير على سلوكهم بإذنه تعالى.

5. مصاحبة رفاق السوء: إنّ مصاحبة مَن يستهتر بصيام شهر الله، ويستخفّ بأحكامه، قد يكون لها التأثير على سلوك حتّى مَن اعتاد الصوم والالتزام بالأحكام الشرعيّة، ولو بعد حي؛. فالصحبة تُعدي، ولذلك ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «المرء على دين خليله، فلينظر أحدُكم مَن يخالل»[1]، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «فساد الأخلاق بمعاشرة السفهاء»[2].

وعلاج هذا الأمر يكون بترك رفقة السوء، واستبدالها بمصاحبة أهل الآخرة والدين، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَن دعاك إلى الدار الباقية وأعانك على العمل لها، فهو الصديق الشفيق»[3].

6. الذنوب والمعاصي: قال تعالى: ﴿كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾[4]، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «كان أبي (عليه السلام) يقول: ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة، إنّ القلب ليواقع الخطيئة

 

 


[1] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، إيران - قمّ، 1414ه، ط1، ص518.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص82.

[3] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص437.

[4] سورة المطفّفين، الآية 14.

 

36


30

الموعظة الخامسة: الحرمان من التوفيق لعبادة الصوم

فما تزال به حتّى تغلب عليه، فيصير أعلاه أسفله»[1]، وغيرها من الروايات المستفيضة التي تبيّن أثر المعاصي في قلب الإنسان وسلوكه، وكيف أنّها تسلب البركة والنعم من حياته، ومن ضمن التوفيقات التي قد تُسلب منه عدم التوفيق لصيام شهر رمضان بسوء اختياره.

لذا، على الإنسان العاصي المبادرة إلى التوبة، والإكثار من الاستغفار، وعليه أن يصلح مأكله ومشربه، وأن يُرجع الحقوق إلى أصحابها، وأن يصل رحمه المقطوعة... وأن يغتنم شهري رجب وشعبان للقيام بهذه الإصلاحات، فيدخل في شهر رمضان، وهو مهيَّأ لصيام أيّامه وإحياء لياليه بالطاعة والعبادة.

7. الرياء في العبادة: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ الله لا يقبل عملاً فيه مثقال ذرّة من رياء»[2]، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «آفة العبادة الرياء»[3]، والصوم من العبادات التي يُشترط فيها قصد القربة، وبالتالي فإنّ الصيام من دون نيّة خالصة محبطٌ للأجر، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالظَّمَأُ، وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ وَالْعَنَاءُ»[4].

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص268.

[2] الأمير ورّام، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، مصدر سابق، ج1، ص187.

[3] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص182.

[4] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص495، الحكمة 145.

 

37


31

الموعظة الخامسة: الحرمان من التوفيق لعبادة الصوم

فما تزال به حتّى تغلب عليه، فيصير أعلاه أسفله»[1]، وغيرها من الروايات المستفيضة التي تبيّن أثر المعاصي في قلب الإنسان وسلوكه، وكيف أنّها تسلب البركة والنعم من حياته، ومن ضمن التوفيقات التي قد تُسلب منه عدم التوفيق لصيام شهر رمضان بسوء اختياره.

لذا، على الإنسان العاصي المبادرة إلى التوبة، والإكثار من الاستغفار، وعليه أن يصلح مأكله ومشربه، وأن يُرجع الحقوق إلى أصحابها، وأن يصل رحمه المقطوعة... وأن يغتنم شهري رجب وشعبان للقيام بهذه الإصلاحات، فيدخل في شهر رمضان، وهو مهيَّأ لصيام أيّامه وإحياء لياليه بالطاعة والعبادة.

7. الرياء في العبادة: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ الله لا يقبل عملاً فيه مثقال ذرّة من رياء»[2]، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «آفة العبادة الرياء»[3]، والصوم من العبادات التي يُشترط فيها قصد القربة، وبالتالي فإنّ الصيام من دون نيّة خالصة محبطٌ للأجر، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالظَّمَأُ، وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ وَالْعَنَاءُ»[4].

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص268.

[2] الأمير ورّام، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، مصدر سابق، ج1، ص187.

[3] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص182.

[4] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص495، الحكمة 145.

 

37


31

الموعظة الخامسة: الحرمان من التوفيق لعبادة الصوم

ينبغي على المكلّف أن يجعل صومه لله وحده، فلا يحبطه بالرياء، وعليه تنبيه القلب بالتفكّر في عواقب الرياء وثمرات الإخلاص لله عزّ وجلّ، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «طوبى للمخلصين، أولئك مصابيح الهدى، تنجلي عنهم كلّ فتنة ظلماء»[1].

 


[1] المتقيّ الهنديّ، علاء الدين عليّ المتقيّ بن حسام الدين، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، مؤسّسة الرسالة، لبنان - بيروت، 1409هـ - 1989م، لا.ط، ج3، ص24.

 

38


32

الموعظة السادسة: وظائف تلاوة القرآن وأسرارها

الموعظة السادسة: وظائف تلاوة القرآن وأسرارها

محاور الموعظة

القلوب كالأجساد تمرَض وتموت
وظائف تلاوة القرآن وأسرارها
القلب السليم
حظّ القلب من التلاوة

هدف الموعظة

تشجيع الناس على اغتنام الأيّام الفضيلة بتلاوة القرآن الكريم، من خلال بيان وظائفها وأسرارها.

تصدير الموعظة

﴿ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَتۡلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ﴾[1].

 


[1] سورة البقرة، الآية 121.

 

 

39


33

الموعظة السادسة: وظائف تلاوة القرآن وأسرارها

القلوب كالأجساد تمرض وتموت

إنّ قلب العبد كجسده، معرّض للإصابة بالمرض أو الموت، ويزيد القلب عليه أنّه يصاب بالصّدأ أو القساوة، وما يدلّ على المرض والقساوة قوله تعالى: ﴿لِّيَجۡعَلَ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ فِتۡنَة لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَض وَٱلۡقَاسِيَةِ
قُلُوبُهُمۡۗ﴾[1]، وعلى الموت: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيۡتا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورا يَمۡشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ﴾[2]؛ أمّا ما يدلّ على الصدأ فقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد»[3].

وكما أنّ للجسد علاجاً، فكذلك ثمّة علاج للقلب، يقول العلّامة الطباطبائيّ{: «إنّ مرضَ القلب تلبّسه بنوع من الارتياب والشكّ، يكدّر أمر الايمان بالله، والطمأنينة إلى آياته، وهو اختلاطٌ من الإيمان بالشرك؛ ولذلك يرد على مثل هذا القلب من الأحوال، ويصدر عن صاحب هذا القلب في مرحلة الأعمال والافعال ما يناسب الكفر بالله وبآياته. وبالمقابلة تكون سلامة القلب وصحّته هي استقراره في استقامة الفطرة ولزومه مستوى الطريقة، ويؤول إلى خلوصه في توحيد الله سبحانه وركونه إليه عن كلّ شيء يتعلّق به هوى الإنسان، قال تعالى: ﴿يَوۡمَ لَا يَنفَعُ مَال وَلَا بَنُونَ ٨٨ إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡب سَلِيم﴾[4]»[5].

 

 


[1] سورة الحج، الآية 53.

[2] سورة الأنعام، الآية 122.

[3] قطب الدين الراونديّ، أبو الحسين سعيد بن هبة الله، الدعوات (سلوة الحزين)، مدرسة الإمام المهدي (عليه السلام)، إيران - قمّ، 1407ه، ط1، ص237.

[4] سورة الشعراء، الآيتان 88 - 89.

[5] الطباطبائيّ، العلّامة السيّد محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1417ه‏، ط5، ج5، ص377.

 

40


34

الموعظة الخامسة: الحرمان من التوفيق لعبادة الصوم

وظائف تلاوة القرآن وأسرارها

من هنا نبدأ بأعظم عمليّة علاجيّة لداء القلب؛ لأنّ تلاوة الآيات الشريفة تقود القارئ إلى الالتزام بآداب القراءة. وبعبارة أخرى، فإنّ وظائف التلاوة تفضي إلى نتائج علاجيّة للقلب، وتقوّم السلوك العمليّ للفرد، والوظائف هي:

1. ينبغي للقارئ أن يبتدئ التلاوة بالاستعاذة، ومن أسرارها أنّها تغلق أبواب المعصية وهو هدف بذاته، يطلبه الناجون، يقول تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ﴾[1]. وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «أغلقوا أبواب المعصية بالاستعاذة»[2].

2. الافتتاح بالبسملة والتسمية، ولا تُفتَح أبواب الطاعة إلّا بها، هذا ويضاف إليه الذكر المتكرِّر لصفتَي الرحمة الرحمانّية والرحمة الرحيميّة، إذ ترسّخان ملكة العفو والمغفرة في نفسه الإنسان وتزيده اطمئناناً، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «وافتحوا أبواب الطاعة بالتسمية»[3].

3. الترتيل والتدبّر، فإنّ الآيات الشريفة ليست بالنثر ولا بالشعر، ولا بدّ من أن تكون القراءة بأسلوب ينسجم مع طبيعة الآيات، وقد اصطلح عليه القرآن بالترتيل: ﴿وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا﴾[4]، وقد فسّره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله: «بيّنه تبياناً، ولا تنثره نثر الرمل، ولا تهذّه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه»[5].

 


[1] سورة النحل، الآية 98.

[2] قطب الدين الراونديّ، الدعوات (سلوة الحزين)، مصدر سابق، ص52.

[3] المصدر نفسه.

[4] سورة المزمل، الآية 4.

[5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج89، ص215.

 

41


35

الموعظة السادسة: وظائف تلاوة القرآن وأسرارها

وإنّ من أهمّ وظائف التلاوة التأمّل في الآيات، وتوجّه العقل إلى باطنها، وهو ما يعبَّر عنه بالتدبّر، يقول تعالى: ﴿كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَك لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾[1].

ومن أسرار التدبّر كسر الأقفال عن القلوب لنثر بذور الهداية فيها، فتنبت استقامة وبصيرة ووعياً، يقول تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ﴾[2]، وعن الإمام عليّ بن الحسين(عليهما السلام): «آيات القرآن خزائن العلم، فكلّما فتحت خزانه فينبغي لك أن تنظر فيها»[3].

وإنّ التدبر في القراءة كالتفقّه في العبادة، عن الإمام الباقر  (عليه السلام): «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ... ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبُر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه»[4].

4. الحضور القلبيّ مع كلّ آية، وأن تتلى مع الحزن والانكسار، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِالْحُزْنِ فَاقْرَؤوهُ بِالْحُزْنِ»[5]، ويصف أمير المؤمنين (عليه السلام) المتّقين بقوله: «تَالِينَ لأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا، يُحَزِّنُونَ بِه أَنْفُسَهُمْ ويَسْتَثِيرُونَ بِه دَوَاءَ دَائِهِمْ»[6].

 

 


[1] سورة ص، الآية 29.

[2] سورة محمد، الآية 24.

[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج89، ص216.

[4] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، معاني الأخبار، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1379هـ - 1338ش، لا.ط، ص226.

[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص614.

[6] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص304، الخطبة 193.

 

42


36

الموعظة السادسة: وظائف تلاوة القرآن وأسرارها

القلب السليم

بعد الإشارة إلى أنّ البعد المعنويّ في الإنسان الذي نعبّر عنه أحياناً بالقلب أو الروح، قد يصيبه ما يحجبه عنه الله تعالى بسبب المعاصي والآثام، وأخطر ما فيها النفاق، إذ يؤدّي إلى موته، ولكي نحافظ على سلامته، ونعمل على صونه ليبقى سليماً مطمئنّاً، لا بدّ من سلوك السبيل المناسب، وسبيل ذلك ذكر الله سبحانه: ﴿أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾، ﴿أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ﴾[1].

ولم يتوقّف تأثير تلاوة آيات القرآن عند حدّ معيّن، بل يصل إلى الكيان الوجوديّ للفرد، فيصيّره في العالم الملكوتيّ بمقدار تفاعله مع الآيات الشريفة، إذ يقول تعالى: ﴿إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُ ٱلرَّحۡمَٰنِ خَرُّواْۤ سُجَّداۤ وَبُكِيّا﴾[2]. هذه من صور الدنيا، وأمّا صورته البرزخيّة، فيقول الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَهُوَ شَابٌّ مُؤْمِنٌ، اخْتَلَطَ الْقُرْآنُ بِلَحْمِهِ وَدَمِه‏، وَجَعَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَكَانَ الْقُرْآنُ حَجِيزاً (مانعاً) عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّ كُلَّ عَامِلٍ قَدْ أَصَابَ أَجْرَ عَمَلِهِ غَيْرَ عَامِلِي، فَبَلِّغْ بِهِ أَكْرَمَ عَطَايَاكَ، قَالَ‏ فَيَكْسُوهُ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ حُلَّتَيْنِ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ [للقرآن]: هَلْ أَرْضَيْنَاكَ فِيهِ؟ فَيَقُولُ الْقُرْآنُ: يَا رَبِّ قَدْ كُنْتُ أَرْغَبُ لَهُ فِيمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، فَيُعْطَى الْأَمْنَ

 

 


[1] سورة الحديد، الآية 16.

[2] سورة مريم، الآية 58.

 

43


37

الموعظة السادسة: وظائف تلاوة القرآن وأسرارها

بِيَمِينِهِ وَالْخُلْدَ بِيَسَارِهِ ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَيُقَالُ لَهُ اقْرَأْ وَاصْعَدْ دَرَجَةً ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْنَا بِهِ وَأَرْضَيْنَاكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. قَالَ وَمَنْ قَرَأَهُ كَثِيراً وَتَعَاهَدَهُ بِمَشَقَّةٍ مِنْ شِدَّةِ حِفْظِهِ، أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَجْرَ هَذَا مَرَّتَيْنِ»[1].

حظّ القلب من التلاوة

1. زيادة الإيمان: باعتبار أنّ التاليَ لأجزاء القرآن سيجد موضوعات قرآنيّة متعدّدة تنقله من حال إلى حال، ويجول مع كلّ فكرة تبعاً للمستطردات القرآنيّة، فتنير قلبه، وهذا ممّا يزيد في إيمانه: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ﴾[2]. فعلى سبيل المثال، نلاحظ أنّ السعي بين التشويق والتخويف، كما هو عليه حال المتّقين الذين وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ، أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ»[3]، يعرج بأرواحهم من هذا العالم إلى عالم آخر، فيزدادون تعلّقاً بالله تعالى.

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص603.

[2] سورة الأنفال، الآية 2.

[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص304، الخطبة 193.

 

44


38

الموعظة السادسة: وظائف تلاوة القرآن وأسرارها

2. شرح الصدر وتنوير السريرة: الصدور الضيّقة الحرجة والسرائر المظلمة، تفتقر إلى الانشراح والاستنابة، وأفضل عامل لهما معاً تلاوة القرآن الكريم، عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «أفضل الذكر القرآن، به تشرح الصدور، وتستنير السرائر»[1].

إنّ من أسرار القرآن أنّه يوفّر لكلّ ذي حاجة حاجته، ويجد كلّ طالب ضالّته فيه، فهو ريُّ النفوس الظمأة وربيع القلوب وطريق العلماء، وبذلك وصفه أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ يقول: «جَعَلَهُ اللَّهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ، وَرَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ، وَمَحَاجَ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ، وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ وَنُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ»[2].

 


[1] الآمديّ، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص209.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص316، الخطبة 198.

 

45


39

الموعظة السادسة: وظائف تلاوة القرآن وأسرارها

2. شرح الصدر وتنوير السريرة: الصدور الضيّقة الحرجة والسرائر المظلمة، تفتقر إلى الانشراح والاستنابة، وأفضل عامل لهما معاً تلاوة القرآن الكريم، عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «أفضل الذكر القرآن، به تشرح الصدور، وتستنير السرائر»[1].

إنّ من أسرار القرآن أنّه يوفّر لكلّ ذي حاجة حاجته، ويجد كلّ طالب ضالّته فيه، فهو ريُّ النفوس الظمأة وربيع القلوب وطريق العلماء، وبذلك وصفه أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ يقول: «جَعَلَهُ اللَّهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ، وَرَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ، وَمَحَاجَ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ، وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ وَنُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ»[2].

 


[1] الآمديّ، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص209.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص316، الخطبة 198.

 

45


39

الموعظة السابعة: العلاقة مع الإخوان في نهج البلاغة

الموعظة السابعة: العلاقة مع الإخوان في نهج البلاغة

محاور الموعظة

1. خطورة قطيعة الإخوان

2. الحذر في العلاقة مع الآخرين

هدف الموعظة

ذكر أسس التعامل مع الآخرين في نهج البلاغة، والتحذير من خطورة القطيعة.

تصدير الموعظة

أمير المؤمنين (عليه السلام): «احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَى الصلَةِ، وَعِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اللطفِ وَالمُقَارَبَةِ، وَعِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى البَذْلِ، وَعِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُنُوِّ، وَعِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِينِ، وَعِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى العُذْرِ، حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ، وَكَأَنَّهُ ذُو نِعْمَةٍ عَلَيْكَ. وَإِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَيْرِ أَهْلِهِ. لَا تَتَّخِذَنَّ عَدُوَّ صَدِيقِكَ صَدِيقاً، فَتُعَادِيَ صَدِيقَكَ، وَامْحَضْ أَخَاكَ النَصِيحَةَ، حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ قَبِيحَةً»[1].

 

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص403، الكتاب 31.

 

46


40

الموعظة السابعة: العلاقة مع الإخوان في نهج البلاغة

العلاقة مع الإخوان

حثّ الإسلامُ الناسَ على اكتساب الإخوان، حتّى جعل ذلك مِن علامات القدرة والقوّة، فَعَن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَعْجَزُ النَاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الإِخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ»[1]. وقد حدّدَت الرواية، إلى جانب تعاليم أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، قواعدَ العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الإخوان، وما يحفظ المودّة بينهم. وقد وصّى الإمامُ (عليه السلام) بها وُلده.

خطورة قطيعة الإخوان

«احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَى الصلَة»

الصرم هو الصدُّ والقطيعة. فَهل أُبادر إلى مقاطعة أخٍ لي إن هوَ قاطعني، بسببٍ أو بِغَير سبب؟ إنّ العداوة تستمرّ وتكبر بسبب المقابلة بالمثل، وهذا يكون بين الأعداء، لا الإخوان؛ عن الإمام عليّ (عليه السلام): «لا تُتْبِعْ أَخَاكَ بَعْدَ القَطِيعَةِ وَقِيعَةً فِيهِ فَيُسَدَّ عَلَيْهِ طَرِيقُ الرُجُوعِ إِلَيْكَ، فَلَعَلَّ التَجَاربَ تَرُدُّهُ عَلَيْكَ»[2].

«وَعِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اللَطَفِ وَالمُقَارَبَة»

حين تَجِد لدى أخيك نوعاً مِن الجفاء والصدود، عليك أن تُبادر إلى مودّته وإظهار اللطف به. ويكفي مِن ذلك فائدة أن تَقصد به وجه الله عزّ وَجَلّ.

 

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص470، الحكمة 12.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص166.

 

47


41

الموعظة الثامنة: نظرة الإسلام إلى الآخرين

«وَعِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى الْبَذْلِ»

لو رأيْتَ مِن أخيك بُخلاً أو إحجاماً عن الكرم والإنفاق فَلا تبادله بمثل ذلك، بل بادِر بالبذل له، فتُخرجه من تلك الحال إلى الكرم.

«وَعِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُنُوِّ»

قد لا يُبادر الأخ إلى القطيعة، ولكنّه يبتعد، فَلا تبادر -بِدورك- إلى الابتعاد، بل ادنُ منه واقترِب، فلعلّه يعاني من مشكلة لم يحبّ أن يُطلعك عليها، فإذا وجد أنّك لم تُبادله بالبُعدِ بادَرَ إلى إطلاعِك، فتكون عوناً له على الخلاص ممّا يُعانيه.

«وَعِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِين»

الإنسان خاضع لِما يحيط به مِن ظروف وما يعيشه مِن حالات، وَقد يبادر إلى استعمال القَسوة أو الشدّة مع إخوانه -سواء أكان ذلك مبرَّراً أو لا- فالمطلوب معاملتُه بِلينٍ وتحمُّلُ فِعل الشدّة منه مع العُذر.

«وَعِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى الْعُذْرِ، حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ، وَكَأَنَّهُ ذُو نِعْمَةٍ عَلَيْكَ»

إذا أساء لك أخوك فَلا تبادره بالإساءة، بل بالإحسان، محتملاً له العُذر؛ عن الإمام عليّ (عليه السلام) في وصيّته لمحمّد بن الحنفيّة: «لا تَصرم أخاك على ارتياب، ولا تقطعه دون استعتاب، لعلَّ له عذراً وأنت تَلوم»[1].

 


[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1414هـ، ط2، ج‏4، ص391.

 

48


42

الموعظة السابعة: العلاقة مع الإخوان في نهج البلاغة

الحذر في العلاقة

«وَإِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِه، أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَيْرِ أَهْلِهِ»

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «الإِخْوَانُ ثَلاَثَةٌ؛ فَوَاحِدٌ كَالغِذَاءِ الذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلّ وَقْتٍ فَهُوَ العَاقِل، والثانِي فِي مَعْنَى الدَاءِ وَهُوَ الأَحْمَق، والثَالِثُ فِي مَعْنَى الدَوَاء»[1].

«لَا تَتَّخِذَنَّ عَدُوَّ صَدِيقِكَ صَدِيقاً، فَتُعَادِيَ صَدِيقَكَ»

لا يستطيع الإنسانُ أن يُصادق عدوّه، أو أن يُصادق عدوَّ صديقِه، لأنّ صداقة العدوّ تُشكّكُ النفسَ بعدم خلوص الصداقة، وتمزجها بالنفاق؛ قال رجلٌ لِأمير المؤمنين (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، إنّي أحبّك وأحبّ فلاناً [وسمّى بعض أعدائه، وفي بعض الروايات أنّه ذَكَر معاوية]، فقال (عليه السلام): «أمّا الآنَ فأنتَ أعْوَر؛ فإمّا أنْ تَعْمى وإمّا أن تُبْصِر»[2].

«وَامْحَضْ أَخَاكَ النَصِيحَة، حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ قَبِيحَة»

المحضُ إخلاص الشيء وتنقيته، ويعني طلب الخير للطرف المقابل الخالي مِن أيّة شائبة أو غرض شخصيّ. ويُستعمل في مورد النصيحة. فَقَد يطلب الأخُ النصيحةَ متى وَقع في مشكلة أو أراد أمراً، وقد تكون ابتداءً متى وقع الأخ في ما لا يُرضي الله عزّ وَجَلّ أو ابتعد عن طريق الحقّ؛ عن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ رَأَى أَخَاهُ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ فَلَمْ يَرُدَّهُ عَنْه وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْه فَقَدْ خَانَه، وَمَنْ لَمْ يَجْتَنِبْ مُصَادَقَةَ الأَحْمَقِ أَوْشَكَ أَنْ يَتَخَلَّقَ بِأَخْلاَقِه»[3].

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص229.

[2] المصدر نفسه، ج27، ص58.

[3] المصدر نفسه، ج72، ص65.

 

49


43

الموعظة الثامنة: نظرة الإسلام إلى الآخرين

الموعظة الثامنة: نظرة الإسلام إلى الآخرين

 

محاور الموعظة

نظرة الإسلام إلى الآخر
الأخوّة والمساواة

هدف الموعظة

إظهار نظرة الإسلام إلى الآخرين عبر المساواة الإنسانيّة والأخوّة الإسلاميّة.

تصدير الموعظة

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾[1].

 

 


[1] سورة الحجرات، الآية 13.

 

50


44

الموعظة الثامنة: نظرة الإسلام إلى الآخرين

كان الإسلامُ أوّلَ مَن أقرَّ المبادئ الخاصّة بحقوق الإنسان في أكمل صورة وعلى أوسع نطاق، فأقرّ مبدأ كرامة الإنسان لكونه إنساناً. فالناس جميعاً أُمّة واحدة، وربّهم واحد، وأصلهم واحد؛ يقول تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡس وَٰحِدَة وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالا كَثِيرا وَنِسَآءۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبا﴾[1]، و﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾[2].

نظرة الإسلام إلى الآخر

ينظر الإسلام إلى الآخر مِن منطلق الكرامة الإنسانيّة، القيمة المطلقة التي يبني عليها رؤيته الثقافيّة والاجتماعيّة، ويجعلها القاعدة الأساس في تشريعاته. فالآخر -أيّاً كان ولأيّة أُمّةٍ انتمى- يشمله قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ﴾[3]؛ أي إنّ تكريم الله لِبني آدم (عليه السلام) مُطلَق، يشمل البشر كلّهم، لا جماعة من المؤمنين أو فئة مِن الناس. إذاً، كُرِّمَ الإنسان، بِغَضّ النظر عن جِنسه ومعتقده وقيمته الاجتماعيّة، ولا يحقّ لأحدٍ أن يجرّده مِن الكرامة التي أودعها الله في جِبلَّته وفِطرته وطبيعته، سواء أكان مُسلماً أو غير مُسلِم، مؤمناً بِكتاب الله ورسوله ونبيّه أو غير مؤمن. فالكرامة البشرية حَقٌّ

 


[1] سورة النساء، الآية 1.

[2] سورة الحجرات، الآية 13.

[3] سورة الإسراء، الآية 70.

 

51


45

الموعظة الثامنة: نظرة الإسلام إلى الآخرين

مشاعٌ يتمتّع به الناس جميعهم مِن دون استثناء؛ وهذا ذروة التكريم وقمّة التشريف.

المساواة الإنسانيّة والأخوّة الإسلاميّة[1]

تعتمد العلاقة التي يَطرحها القرآن الكريم على أمرَيْن: المساواة والأخوّة. وينبغي تقويم أساس هذه العلاقة وتشخيص مضمونها ومحتواها بشكلٍ دائم؛ ما يجعل العلاقة الاجتماعيّة قائمة على أساس نظرة واقعيّة لحقيقة الإنسان وقيمته من ناحية، وطبيعة العلاقة الاجتماعيّة وتكوُّن بُنيتِها مِن ناحية أخرى. وفي هذا المجال يُقيم الإسلام أفضل العلاقات بين الناس على أساس المساواة والتكافؤ، فَبعضهم نظير الآخر، لا يمتاز أحدهم على الآخرين؛ قال النبيّ الكريم (صلى الله عليه وآله): «أيّها الناس، إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد؛ كلّكم لآدم، وآدم مِن تراب. وإنّ أكرمكم عند الله أتقاكم. ولا فَضلَ لِعربيٍّ على عجميٍّ إلّا بالتقوى. ألا هل بلَّغتُ؟» قالوا: نعم. قال (صلى الله عليه وآله): «فليُبلِّغ الشاهدُ الغائبَ»[2].

وإنّما تنشأ الاختلافات والامتيازات بسبب عوامل وأسباب طارئة مِن حركة الإنسان والمجتمع؛ بعضها حقّة وصحيحة، كامتياز التقوى والعِلم والجهاد، وبعضها باطلة وغير واقعيّة، كامتياز كثرة الأموال والأولاد والقدرة والسلطة المادّيّة.

 

 


[1] لِمزيد من الاطّلاع ينظر: الحكيم، السيّد محمّد باقر، دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة، مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)، لا.م، 1425ه، ط2، ج1، ص471 - 500.

[2] ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص34.

 

52


46

الموعظة الثامنة: نظرة الإسلام إلى الآخرين

أمّا طبيعة العلاقة التي يجب أن يقوم عليها البناء الاجتماعيّ ومحتواها فَهي علاقة الأخوّة الإسلاميّة والإيمانيّة، وعلاقة المساواة بين أبناء المجتمع الذي يقوم على العقيدة الإسلاميّة. فالمسلمون إخوة، يتكافؤون ويتساوون في قيمتهم المعنويّة، كأنّهم من أبٍ واحد وأمّ واحدة. لذا، وَضع الإسلام الصلةَ الاجتماعيّة موضع العلاقة النسبيّة التكوينيّة في قيمتها وأهمّيّتها؛ روى ثقة الإسلام الكلينيّ في الكافي قصّة زواج «جويبر»، وهو رجل من أهل اليمامة، أسلم فَحسن إسلامه، وكان رجلاً قصيراً دميماً محتاجاً، أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يخطب مِن زياد، أحد رؤساء قبائل المدينة، فَقال: «... يَا جُوَيْبِرُ، إِنَّ اللَّه قَدْ وَضَعَ بِالإِسْلَامِ مَنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَرِيفاً، وشَرَّفَ بِالإِسْلَامِ مَنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَضِيعاً، وأَعَزَّ بِالإِسْلَامِ مَنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ذَلِيلاً، وأَذْهَبَ بِالإِسْلَامِ مَا كَانَ مِنْ نَخْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ وتَفَاخُرِهَا بِعَشَائِرِهَا وبَاسِقِ [المرتفع في علوّه] أَنْسَابِهَا. فَالنَاسُ -اليَوْمَ- كُلُّهُمْ؛ أَبْيَضُهُمْ وأَسْوَدُهُمْ وقُرَشِيُّهُمْ وعَرَبِيُّهُمْ وعَجَمِيُّهُمْ، مِنْ آدَمَ، وإِنَّ آدَمَ خَلَقَه اللَّه مِنْ طِينٍ. وإِنَّ أَحَبَّ النَاسِ إِلى اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَطْوَعُهُمْ لَه وأَتْقَاهُمْ. ومَا أَعْلَمُ -يَا جُوَيْبِرُ- لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْكَ -الْيَوْمَ- فَضْلاً، إِلَّا لِمَنْ كَانَ أَتْقَى لِلَّه مِنْكَ...»[1].

لذا، لم يغفل الإسلام عن العلاقة بالآخر، وقوامها العلاقة الإنسانيّة؛ قال الإمام عليّ (عليه السلام) في عهده لِمالك الأشتر: «وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَحْمَةَ لِلرَعِيَّةِ والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُطْفَ بِهِمْ، ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص340.

 

52


47

الموعظة الثامنة: نظرة الإسلام إلى الآخرين

أمّا طبيعة العلاقة التي يجب أن يقوم عليها البناء الاجتماعيّ ومحتواها فَهي علاقة الأخوّة الإسلاميّة والإيمانيّة، وعلاقة المساواة بين أبناء المجتمع الذي يقوم على العقيدة الإسلاميّة. فالمسلمون إخوة، يتكافؤون ويتساوون في قيمتهم المعنويّة، كأنّهم من أبٍ واحد وأمّ واحدة. لذا، وَضع الإسلام الصلةَ الاجتماعيّة موضع العلاقة النسبيّة التكوينيّة في قيمتها وأهمّيّتها؛ روى ثقة الإسلام الكلينيّ في الكافي قصّة زواج «جويبر»، وهو رجل من أهل اليمامة، أسلم فَحسن إسلامه، وكان رجلاً قصيراً دميماً محتاجاً، أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يخطب مِن زياد، أحد رؤساء قبائل المدينة، فَقال: «... يَا جُوَيْبِرُ، إِنَّ اللَّه قَدْ وَضَعَ بِالإِسْلَامِ مَنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَرِيفاً، وشَرَّفَ بِالإِسْلَامِ مَنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَضِيعاً، وأَعَزَّ بِالإِسْلَامِ مَنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ذَلِيلاً، وأَذْهَبَ بِالإِسْلَامِ مَا كَانَ مِنْ نَخْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ وتَفَاخُرِهَا بِعَشَائِرِهَا وبَاسِقِ [المرتفع في علوّه] أَنْسَابِهَا. فَالنَاسُ -اليَوْمَ- كُلُّهُمْ؛ أَبْيَضُهُمْ وأَسْوَدُهُمْ وقُرَشِيُّهُمْ وعَرَبِيُّهُمْ وعَجَمِيُّهُمْ، مِنْ آدَمَ، وإِنَّ آدَمَ خَلَقَه اللَّه مِنْ طِينٍ. وإِنَّ أَحَبَّ النَاسِ إِلى اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَطْوَعُهُمْ لَه وأَتْقَاهُمْ. ومَا أَعْلَمُ -يَا جُوَيْبِرُ- لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْكَ -الْيَوْمَ- فَضْلاً، إِلَّا لِمَنْ كَانَ أَتْقَى لِلَّه مِنْكَ...»[1].

لذا، لم يغفل الإسلام عن العلاقة بالآخر، وقوامها العلاقة الإنسانيّة؛ قال الإمام عليّ (عليه السلام) في عهده لِمالك الأشتر: «وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَحْمَةَ لِلرَعِيَّةِ والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُطْفَ بِهِمْ، ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص340.

 

53


48

الموعظة الثامنة: نظرة الإسلام إلى الآخرين

تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ؛ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِين، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»[1]. وقد حثَّت الروايات على المجاملة العامّة وحُسن الخلق مع الناس جميعاً، فالأصلُ الاحتفاظ بالعلاقة الاجتماعيّة على المستوى الإنسانيّ، ما لم تطرأ أوضاع استثنائيّة تفرض موقفاً آخر، كالبراءة أو القطيعة؛ يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «مُجَامَلَةُ النَاسِ ثُلُثُ الْعَقْلِ»[2].

مِن هنا، يتّضح موقف الإسلام من الكفّار، وَقد فَصَّل القرآن في العلاقة العامّة بين الكفّار والأعداء الذين يتّخذون موقفاً سياسيّاً أو عسكريّاً عدوانيّاً ضدّ المسلمين، وبين الكفّار العاديّين الذين لا موقف عدائيّاً لهم، فَنهى عن ولاء القسم الأوّل ومودّته -كما في سورة الممتحنة- وأجاز البرّ والقسط للقسم الثاني. وقد ورد في كتب الفقه جواز الصدقة على الكافر، كجزءٍ من آداب تعامل الإسلام مع الآخرين؛ ما يعني أنّ الكفر لا يسلبه صفته الإنسانيّة ما لم يدخل في عداد الكافر الحربيّ. وكذلك، ورد في فتاوى فقهائنا المعاصرين ما يدلّ على أهمّيّة الودّ والإحسان إلى الكفّار ما لم يكونوا مِن أعداء الإسلام والمسلمين؛ قال تعالى: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٨ إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ﴾[3].

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص427، الكتاب 53.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص643.

[3] سورة الممتحنة، الآيتان 8 - 9.

 

54


49

الموعظة الثامنة: نظرة الإسلام إلى الآخرين

ويُشير إلى ذلك تأكيدُ أهمّيّة الدعوة إلى الله والحوار بالأسلوب الذي يتّسم بالعقلانيّة والمحافظة على العلاقة الإنسانيّة الاجتماعيّة العامّة والحكمة والموعظة الحسنة مع الكفّار وغير المسلمين والناس عامّة، ونَهيُ القرآن الكريم والحديث الشريف عن سَبِّ الكفّار، تجنّباً لتصعيد الموقف السلبيّ منهم.

إذاً، إنّ كيان الإسلام ومجد المسلمين يستدعيان الحفاظ على استقلالهما الثقافيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، والحذر من الوقوع في حبائل الكفر. ولكنّ ذلك لا ينافي مداراة الكفّار، ودعوتهم إلى الحقّ، والبرّ والإحسان إليهم، وإيجاد العلاقات السياسيّة والاقتصاديّة معهم، إذا كان فيه صلاح الإسلام والمسلمين، مع رعاية الاحتياط.

 

55


50

الموعظة التاسعة: قواعد التعامل مع الناس في وصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام)

الموعظة التاسعة: قواعد التعامل مع الناس في وصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام)

محاور الموعظة

القاعدة الذهبيّة في التعامل مع الآخرين
فروع القاعدة السبعة

هدف الموعظة

تعرّف قواعد التعامل مع الناس في وصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام)، ودفع المكلّفين للعمل بها.

تصدير الموعظة

أمير المؤمنين (عليه السلام): «يَا بُنَيَّ، تَفَهَّمْ وَصِيَّتِي، وَاِجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِي مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، وَأَحِبَّ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبّ لِنَفْسِكَ، وَاِكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَه لَهَا؛ لاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاِسْتَقْبِحْ لِنَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ. وَارْضَ مِنَ النَاسِ مَا تَرْضَى لَهُمْ مِنْكَ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ، بَلْ لاَ تَقُلْ كُلَّ مَا عَلِمْتَ مِمَّا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَك»[1].

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص196.

 

56


51

الموعظة التاسعة: قواعد التعامل مع الناس في وصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام)

القاعدة الذهبيّة في المعاملة مع الآخرين

«اجْعلْ نفْسك ميزاناً فيما بيْنك وبيْن غيْرك»

يُشير الإمام عليّ (عليه السلام) إلى أحد أهمّ الأصول الأخلاقيّة والمثل الإنسانيّة، ويُبيّن الطريقة الصحيحة في التعامل مع الناس، وهي طريقة العدل والإنصاف، بأن تجعل نفسك ميزاناً بينك وبين الآخرين. والميزان -عادةً- ذو كفَّتَيْن، يَزِنُ الوزن الصحيح عندما تكونان متساويَتَيْن؛ وفي هذا إشارة إلى أنّه ينبغي عليك أن تحبّ للآخرين ما تحبّه لنفسك، وتكره لهم ما تكره لها.

وقد وردَت روايات في آداب التعامل مع الناس، وأفرد العلماء في كتب الحديث باباً خاصّاً تحت عنوان «آداب العِشرة» بَيّنوا فيه الطرق العامّة لِمعاشرة الناس وحسن معاملتهم بِنَحوٍ يعكس فيه المؤمن التعاليم الصحيحة. وقَرَن الله عزّ وَجلّ أمر عبادته وتوحيده بِأمر الإحسان إلى الناس، سواء أكان مرتبطاً بالوالدين أو الأصحاب؛ قال تعالى: ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ
لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالا فَخُورًا﴾[1].

 

 


[1] سورة النساء، الآية 36.

 

57


52

الموعظة التاسعة: قواعد التعامل مع الناس في وصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام)

تطبيقات القاعدة

بعد أن ذكر الإمام عليّ (عليه السلام) القاعدة العامّة للعِشرة، أورَدَ بعض تطبيقاتها التي يتمكّن الإنسان -بِسُلوكها- مِن اتّباع تعاليم الإسلام، فَوَضّحَ هذا الأصلَ الأخلاقيّ المهمّ في سَبعةِ عناوين، وبَيَّن أبعاده المختلفة:

«فأحْببْ لغيْرك ما تُحبُّ لنفْسك»

لكلّ إنسان طريقة خاصّة في التعامل، وَعليه أن يعامل الناس كما يُحبّ أن يُعامَل. ولا يختصّ هذا بالأخ أو الصديق، بل يشمل الناس كلّهم. فلو أحببتَ أن يُخلِص لك أحدهم في صداقته، فَيبذل لك ما تطلبه منه من مال وخدمات، فعليك أن تبادله بمثل ذلك، فتبذل له ما يَطلبه منك. وإن أحبَبتَ أن يُعاملك عدوّك ومن خاصمتَ بالعدل والإنصاف، فلا يتّهمك بهتاناً، فعليك أن تعامله بمثل ذلك، فلا تُظهر عداوتك له بِظُلمك إيّاه، ولا تتّهمه بما لم يَفعل أو تَقُلْ عنه ما لم يَقُل؛ عن الإمام عليّ (عليه السلام): «اُبْذُلْ لِأَخِيكَ دَمَكَ وَمَالَكَ، وَلِعَدُوِّكَ عَدْلَكَ وَإِنْصَافَكَ، وَلِلْعَامَّةِ بِشْرَكَ وَإِحْسَانَكَ. سَلِّمْ عَلَى الناسِ يُسَلِّمُوا عَلَيْكَ»[1].

«واكْرهْ لهُ ما تكْرهُ لها»

كما حال الحبّ، كذلك الكره والبُغض، فَما تكرهه لنفسك اكرَههُ للآخرين؛ إذا كرهتَ أن يتحدّث عنك الآخرون بالسوء فَعليك أن تتجنّب الحديث عنهم بالسوء، وإذا كرهتَ أن يأخذ الآخرون منك حقّاً فَعليك أن تحذر مِن أخذ حقوقهم.

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج78، ص50.

 

58


53

الموعظة التاسعة: قواعد التعامل مع الناس في وصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام)

«ولا تظْلم كما لا تُحبُّ أنْ تُظْلم»

إنّ أكثر ما يمكن أن يقع فيه الإنسان هو ما يكون فيه ظُلم للغير. ضَعْ نفسك مكان المظلوم، تكتشف صعوبة الظُلم.

«وأحْسِنْ كما تُحبُّ أنْ يُحْسن إليْك»

على الإنسان أن يتذكّر أنّ وجوده وما بين يديه مِن النعمِ هو مِن فضل الله وإحسانه إليه. لذا، عليه أن يبادر إلى الإحسان.

«واسْتقْبِحْ منْ نفْسك ما تسْتقْبحُهُ منْ غيْرك»

ينظر الإنسان إلى بعض ما يصدر عن الغير بِعَين السخط، ويراه قبيحاً، ولكن قبل أن يُصدر حُكمه، فَليَرجع إلى نفسه، وَليَضع نفسه مكان ذلك الشخص، بالظروف نفسها التي يَعيشها، وَليَنظر هل سيقوم بِما يراه قبيحاً أم لا؟

«وارْضَ من الناس بما ترْضاهُ لهُمْ منْ نفْسك»

قد يتعامل بعضهم بِجفاء مع المرءِ فَلا يرضى منهم ذلك. فَلينظر إلى نفسه، هل يُعاملهم أيضاً بجفاء أم يبادر إلى الإحسان إليهم؟

«ولا تقُلْ ما لا تعْلمُ وإنْ قَلّ ما تعْلم»

إنّ أخطر ما يمكن أن يقع فيه الإنسان ادّعاء العلم، فيقول ما لا يعرف، ويتحدّث بما لا يعلم؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡ‍ُٔولا﴾[1]، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «يَا بُنَيَّ، لاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَم، بَلْ لاَ تَقُلْ كُلَّ

 

 


[1] سورة الإسراء، الآية 36.

 

59


54

الموعظة التاسعة: قواعد التعامل مع الناس في وصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام)

مَا تَعْلَمُ...»[1]. كما أنّ الروايات حذّرَت من قَولِ ما يعلمه الإنسان كلّه، فكيف بِقول ما لا يعلم؟ الحقيقة أنّ هذا الأصل الأخلاقيّ المهمّ، لو طُبّقَ بالتفاصيل والأغصان السبعة التي ذكرها الإمام (عليه السلام) في أيّ مجتمع، وعمل به الناس، لَسادَ الصلح والأمن، وَلَزالَت النزاعات والصراعات، ولَبَلغَت المحبّة والتعاون والتكاتف الحدّ الأقصى في واقع الحياة، لأنّ المشاكل الاجتماعيّة تنشأ من جشع بعضهم وطمعه بالنفع والراحة والسعادة، فيما يُريد مِن الآخرين أن يتعاملوا معه بالقيم والعدل، مِن غير أن يلتزم هو بذلك.

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص544، الحكمة 382.

 

60


55

الموعظة العاشرة: عِزّة نفس المؤمن

الموعظة العاشرة: عِزّة نفس المؤمن

محاور الموعظة

المؤمن عزيزٌ لا يُذَلّ
المؤمن حُرّ
معنى عِزّة النفس عند المؤمن
موجبات العِزّة؛ كيف تكون عزيزاً؟

هدف الموعظة

بيان أهمية عِزّة نفس المؤمن، ومعناها وموجباتها.

تصدير الموعظة

أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَأَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ وَإِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَغَائِبِ، فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً. وَلَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللَّهُ حُرّاً. وَمَا خَيْرُ خَيْرٍ لَا يُنَالُ إِلَّا بِشَرٍّ، وَيُسْرٍ لَا يُنَالُ إِلَّا بِعُسْر؟ وَإِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَمَعِ، فَتُورِدكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ. وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ ذُو نِعْمَةٍ فَافْعَلْ، فَإِنَّكَ مُدْرِكٌ قَسْمَكَ، وَآخِذٌ سَهْمَكَ. وَإِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَعْظَمُ وَأَكْرَمُ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ»[1].

 

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص401، الكتاب 31.

 

61


56

الموعظة العاشرة: عِزّة نفس المؤمن

المؤمن عزيز

«وَأَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ وَإِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَغَائِبِ، فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً»؛ دَنِيَّة تعني الشيء الحقير الوضيع، والرَغَائِبِ تعني الشيء المطلوب المرغوب، وتَعْتَاضَ تعني أخذ العوض عن شيء. وَهنا إشارة إلى أنّ بعض الرغبات والذنوب النفسانيّة تتطلّب تنازلَ الإنسان عن كرامته وشخصيّته، وَالأجدر به أن يعيش الكرامة والحرّيّة، فَلا يخضع لها، ولا يَرِد سبيلها، ولا يهين نفسه فَيحقّق رغباته ويتنازل عن طموحاته المعنويّة على حساب الميول المادّيّة والدنيويّة.

المؤمن حرّ

«ولا تكُنْ عبْد غيْرك وقدْ جعلك اللهُ حُرّاً»

خلقَ اللَّهُ تعالى الإنسانَ حُرّاً، فلِماذا يبيع الحرّيّة بأثمان مادّيّة؟ فَلْيَعِشْ بإمكانات محدودة ويقنع بالمعاناة والمشقّة، حِفظاً لِماء وجهه، وَكَيْلا يذلّ نفسه بخضوعه لمشيئة الآخرين. وقد تحدّث الإمام الصادق (عليه السلام) عن ذلك بِأبعاده وَجِهاته، وبَيَّن أنّ خمس خصالٍ يجب أن تتوفّر في الشخصيّة الحرّة، فَقال: «خَمْسُ خِصَالٍ مَنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهَا فَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ مُسْتَمْتَعٍ؛ أَوَّلُهَا الْوَفَاءُ، وَالثَانِيَةُ التَدْبِيرُ، وَالثَالِثَةُ الْحَيَاءُ، وَالرَابِعَةُ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْخَامِسَةُ -وَهِيَ تَجْمَعُ هَذِهِ الْخِصَالَ- الْحُرِّيَّة»[1].

 

 


[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1403هـ - 1362ش، لا.ط، ج1، ص284.

 

62


57

الموعظة العاشرة: عِزّة نفس المؤمن

الغاية والوسيلة

«وما خيْرُ خيْرٍ لا يُنالُ إلّا بِشَرٍّ، ويُسْرٍ لا يُنالُ إلّا بعُسْر؟»

يؤكّد الإمام (عليه السلام) أنّ الخير الذي يَصِل إليه الإنسان عن طريق الشرّ ليس خيراً، فَالحصول على المال، مثلاً، بإذلال النفس شرٌّ، وَلَو كان من أجل فِعل الخير.

«وَإِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَمَعِ، فَتُورِدكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ»؛ تُوجِفَ تعني تُسرع، والمَنَاهِل منابع الماء.

يُشبّه الإمام (عليه السلام) موارد الطمع بمنزلة المطايا والدوابّ الجامحة والمتمرّدة، التي إذا ركبها الإنسان فَقَد زمامه واختياره، وربّما قادته إلى وادي الهلكة. وفي هذا التعبير إشارة لطيفة إلى حقيقةٍ، هي أنّ الإنسان يتوجّه إلى منبع الماء لإرواء عطشه، إلّا أنَّ المنبع الذي تقود إليه مطايا الطمع لا يروي العطش، بل ما هو إلّا سراب فيه الهلكة؛ «مَا هَدَمَ الدِينَ مِثْل البِدَعِ، وَلَا أَفْسَدَ الرَجُلَ مِثْل الطَمَع»[1].

«وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ ذُو نِعْمَةٍ فَافْعَلْ، فَإِنَّكَ مُدْرِكٌ قَسْمَكَ، وَآخِذٌ سَهْمَكَ. وَإِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَعْظَمُ وَأَكْرَمُ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ»

يستند الإمام (عليه السلام) إلى مسألة أخلاقيّة مهمّة، هي أنّ الإنسان لا ينبغي أن يرهن نفسه لإحسان الآخرين ومِنَّتهم، بل يجب عليه الاعتماد على ما يملكه من إمكانات وطاقات، لِينال حصّته من النعم والمقدّرات الإلهيّة، وَلو نال القليل. في الحقيقة، إنّ النصيب

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص92.

 

63


58

الموعظة العاشرة: عِزّة نفس المؤمن

الأقلّ، مع حِفظ كرامة الإنسان وشخصيّته ومقامه، أوفر من الكثير مع بذْل ماء الوجه والكرامة. وعلى الرغم مِن أنّ تعبير الإمام (عليه السلام) مُطلَق يشمل عدم الخضوع لِمِنّة أيّ شخص، لأنّ شخصيّة الإنسان تتعرّض بالسؤال والطلب إلى الخلل والاهتزاز، فالسؤال -عادةً- يقترن بالذلّة أو الِمنّة، إلّا أنّ الطلب مِن المحبّين والمشفقين الذين يستجيبون برحابة صدر، كالأب والابن والأخ، قد يكون محموداً؛ قَالَ يَوْماً رَجُلٌ عِنْدَ الإمام الباقر (عليه السلام): اللهُمَّ أَغْنِنَا عَنْ جَمِيعِ خَلْقِكَ. فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «لَا تَقُلْ هَكَذَا، لَكِنْ قُل: اللَهُمَّ أَغْنِنَا عَنْ شِرَارِ خَلْقِكَ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ أَخِيهِ»[1]. ووَردَ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله لولده الإمام الحسن (عليه السلام): «يَا بُنَيَّ، إِذَا نَزَلَ بِكَ كَلَبُ الزَمَانِ وَقَحْطُ الدَهْرِ فَعَلَيْكَ بِذَوِي الْأُصُولِ الثابِتَةِ وَالْفُرُوعِ النَابِتَةِ مِنْ أَهْلِ الرَحْمَةِ وَالْإِيثَارِ وَالشَفَقَةِ، فَإِنَّهُمْ أَقْضَى لِلْحَاجَاتِ، وَأَمْضَى لِدَفْعِ الْمُلِمَّات»[2].

 

موجبات العِزّة

1. طاعة الله: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِذَا طَلَبْتَ العِزَّ، فَاطْلُبْهُ بِالطَاعَة»[3].

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص172.

[2] المصدر نفسه، ج93، ص159، ح 38.

[3] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص136.

 

64


59

الموعظة العاشرة: عِزّة نفس المؤمن

2. اليأس عمّا في أيدي الناس: قال لقمان (عليه السلام) لابنه، وهو يَعِظه: «فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَجْمَعَ عِزَّ اَلدُنْيَا فَاقْطَعْ طَمَعَكَ مِمَّا فِي أَيْدِي النَاس، فَإِنَّمَا بَلَغَ الأَنْبِيَاءُ وَالصِدِّيقُونَ مَا بَلَغُوا بِقَطْعِ طَمَعِهِم»[1].

3. نُصرة الحقّ: قال الإمام العسكريّ (عليه السلام): «مَا تَرَكَ اَلْحَقَّ عَزِيزٌ إِلّا ذَلَّ، وَلاَ أَخَذَ بِهِ ذَلِيلٌ إِلّا عَزَّ»[2]، فَمَن تركَ نُصرةَ الحقِّ ذَلَّ.

4. إكرام الناس: قال الإمام عليّ (عليه السلام): «إِنَّ مَكْرُمَةً صَنَعْتَهَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ النَاس إِنَّمَا أَكْرَمْتَ بِهَا نَفْسَكَ وَزَيَّنْتَ بِهَا عِرْضَكَ، فَلاَ تَطْلُبْ مِنْ غَيْرِكَ شُكْرَ مَا صَنَعْتَ إِلَى نَفْسِكَ»[3]، فَمِن موجبات كرامة النفس أن يتعامل الإنسان بإكرام مع سائر الناس.

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج13، ص419.

[2] المصدر نفسه، ج69، ص232.

[3] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص154.

 

65


60

الموعظة الحادية عشرة: حياة القلوب

الموعظة الحادية عشرة: حياة القلوب

 

محاور الموعظة

إحياء القلب بالموعظة
تقوية القلب
التنوير
كبح النفس عن التمرُّد
التمعُّن في حوادث الدهر

هدف الموعظة

تعرّف طرق إحياء القلوب، والحثّ على كبح جماح النفس، والتمعّن في حوادث الدهر.

تصدير الموعظة

أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَحْيِ قَلْبَكَ بِالمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزَهَادَةِ، وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ، وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ، وِذَلِّلْهُ بِذِكْرِ المَوْتِ، وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ، وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُنْيَا، وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَهْرِ وَفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَيَالِي وَالْأَيَّامِ، وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ المَاضِينَ، وذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ فِي مَا فَعَلُوا وَعَمَّا انْتَقَلُوا وَأَيْنَ حَلُّوا وَنَزَلُوا، فَإِنَّكَ تَجِدهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا عَنِ الْأَحِبَّةِ، وَحَلُّوا دِيَارَ الْغُرْبَةِ، وَكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ»[1].

 

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص392، الكتاب 31

 

66


61

الموعظة الحادية عشرة: حياة القلوب

اهتمّ الإسلام بقلبِ الإنسان اهتماماً بالغاً، وقد شرحَت آيات كثيرة في القرآن الكريم أهمّيّة القلب ودوره، كونه المعيار الذي يميّز الإنسان الصالح من غيره، فَيَقول تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا
وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ﴾[1]، لكنّ صاحب القلب الحيّ كالأرض الصالحة الزكيّة التي تثمر فيها أشجار السعادة وتحيا بِربيع دائم؛ ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتۡ سُورَة فَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمۡ زَادَتۡهُ هَٰذِهِۦٓ إِيمَٰناۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنا وَهُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ ١٢٤ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَض فَزَادَتۡهُمۡ رِجۡسًا إِلَىٰ رِجۡسِهِمۡ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ﴾[2].

المرحلة الأولى (إيجابيّة): إحياء القلب بالموعظة

«أَحْيِ قَلْبَكَ بِالمَوْعِظَةِ»؛ ما المقصود بالموعظة؟ تتمثّل الموعظة بالخيرات والمكرمات والتوقّي مِن السيّئات والقبائح، فإذا انطلقت هذه المواعظ مِن القلب، مقترنة بالأدلّة والشواهد، وَبِنيّة إسداء الخير للآخرين والشفقة عليهم، فإنّها تسكن القلب وتؤثّر في إحياء الروح والعواطف.

المرحلة الثانية (سلبيّة): الزهد

«أَمِتْهُ بِالزَهَادَةِ»، إذ يجب أن يموت القلبُ بِآليّة الزُهد، ويكسب حياة جديدة بالموعظة. فالإمام عليّ (عليه السلام)، بتعبيره البليغ والجذّاب، يأمر بإحياء القلبِ، ثمّ يأمر بإماتته؛ ينظر الأمر الأوّل إلى الأبعاد

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 204.

[2] سورة التوبة، الآيتان 124 - 125.

 

67


62

الموعظة الحادية عشرة: حياة القلوب

الإيجابيّة في العقل والروح، بينما ينظر الثاني إلى الأبعاد السلبيّة، فيكون العقل أسيرَ براثن الشهوات. وهذه مرحلة إزالة العوائق والموانع عن القلب.

المرحلة الثالثة: تقوية القلب

«وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ» الذي يحصل عليه الإنسان بالنظر في آفاق الخلق وأسرار الطبيعة، أو بالعبادة والعبوديّة للَّه تعالى، فيعبد اللَّه كأنّه يراه، ويؤمن بالآخرة كأنّه فيها. وينشأ هذا اليقين مِن التفكير في خَلق السماوات والأرض، أو مِن التربية والبيئة، ثمّ ينمو ويَقوى بالعمل بِمقتضاه[1].

المرحلة الرابعة: التنوير

«وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ»، إذ يجعل الإنسان فيه إشراقة نورٍ يُضيء جوانب ظلمات القلب. فَالحكماء عاشوا تجارب الحياة واستخلصوا أسرارها وقدّموها للناس صافية من كلِّ كَدر، فيحسن بمن وقف عليها أن يأخذها بجدّ ويعمل بها بِيَقين[2]، إذ إنّ الحكمة والمعرفة مِن شأنها أن تنير طريق السالك إلى اللَّه وتمنحه المعرفة بالعوائق التي تواجه المؤمن في طريق المعنويّات.

 

 


[1] مغنيّة، الشيخ محمّد جواد، في ظلال نهج البلاغة، انتشارات كلمة الحقّ، إيران، 1427ه، ط1، ج3، ص488.

[2] الموسويّ، السيّد عبّاس، شرح نهج البلاغة، دار المحجّة البيضاء، لبنان - بيروت، 1418ه - 1998م، ط1، ج4، ص273.

 

68


63

الموعظة الحادية عشرة: حياة القلوب

المرحلة الخامسة والسادسة: كبح النفس عن التمرُّد

بما أنّ نفس الإنسان قد تتمرّد عليه وتسلك سبيل الطغيان والعصيان، فإنّ الإمام عليّ (عليه السلام) يرشده إلى كيفيّة كبح جماحها، فيقول: «وَذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ»، لأنّ الموت والإقرار بالفناء يعملان على تذليل الجماح، فيتعامل الإنسان مع الواقع والحياة مِن موقع الإذعان والتسليم.

 

التمعُّن في حوادث الدهر

بعد أن طرح الإمام عليّ (عليه السلام) توصياته السابقة، أوصى ولده بأن يتمعّن ويتدبّر في حوادث الدهر والزمان، ويرى المتغيّرات والتقلّبات التي تطرأ بالليل والنهار؛ «وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا، وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ وَفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّام». فأشار إلى فجائع الناس في الدنيا، والتي تستتبع متغيّرات وتقلّبات كثيرة، وإلى الحوادث المرّة والأليمة التي يفرضها الواقع الصعب على الإنسان في حركة الحياة، وإلى الآفات والبلايا والأمراض وأشكال الإخفاق التي تنقضّ عليه كحيوان مفترس، وهو لا يملك وسيلة للدفاع عن نفسه والتصدّي لها ومقاومتها. ثمّ يُشير إلى أنّ مرور الزمان وتبدّل الليل والنهار مِن شأنه أن يثير تقلّبات قبيحة ومزعجة وتغيّرات مؤسفة وغير مقبولة في حياة الفرد والمجتمع البشريّ، فيجعلها مُظلمة ومشوّشة. فَلَو تمعّن الإنسان في هذه الأمور وتَدبّر في هذه الحوادث والتقلّبات، لَتَبصَّر في حقائق هذا العالَم، واندفع للحركة في الطريق الصحيح.

 

69


64

الموعظة الحادية عشرة: حياة القلوب

كيف نتمعَّن ونتفكَّر في الحوادث والتقلّبات؟

يشرح الإمام (عليه السلام) هذه الحقيقة، فيقول: «وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ، وَذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ فِي مَا فَعَلُوا وعَمَّا انْتَقَلُوا وَأَيْنَ حَلُّوا وَنَزَلُوا». والمضمون نفسه ورد في القرآن الكريم، فَقَال تعالى: ﴿قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلُۚ﴾[1]، و﴿أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوب يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَان يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ﴾[2]. ثمّ يُوضّح الإمام (عليه السلام) هذه الحقيقة أكثر، فيقول: «فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا عَنِ الْأَحِبَّةِ، وَحَلُّوا دِيَارَ الْغُرْبَةِ، وَكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ». فَلَو شكّكنا في كلّ شيء، فلا شَكّ في هذه الحقيقة الحاسمة، وهي أنّنا -كلّنا من دون استثناء- سائرون على خطى القدماء، وسنلاقي المصير نفسه، في ذلك اليوم الذي نودّع فيه الزوجة والأبناء الأصدقاء والمقامات ووسائل الحياة كلّها، فَنتركها لِغيرنا، ونرحل.

 

 


[1] سورة الروم، الآية 42.

[2] سورة الحجّ، الآية 46.

 

70


65

الموعظة الثانية عشرة: التوفيق للمحافظة على الصلاة في شهر رمضان (1)

الموعظة الثانية عشرة: التوفيق للمحافظة على الصلاة في شهر رمضان (1)

محاور الموعظة

المحافظة على مواقيت الصلاة
منازل الصلاة وأركانها
المعاني التي تتمّ بها حياة الصلاة

هدف الموعظة

التذكير بأهمية المحافظة على الصلاة وبيان منازلها وأركانها.

تصدير الموعظة

«اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَقِفْنَا فِيْهِ عَلَى مَوَاقِيْتِ الصَلَوَاتِ الْخَمْس، بِحُدُودِهَا الَتِي حَدَّدْتَ، وَفُرُوضِهَا الَتِي فَرَضْتَ، وَوَظَائِفِهَا الَتِي وَظَّفْتَ، وَأَوْقَاتِهَا الَتِي وَقَّتَّ، وَأَنْزِلْنَا فِيهَا مَنْزِلَةَ الْمُصِيْبينَ لِمَنَازِلِهَا، الْحَافِظِينَ لأرْكَانِهَا، المُؤَدِّينَ لَهَا فِي أَوْقَاتِهَا، عَلَى مَا سَنَّهُ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ (صَلَوَاتُكَ عَلَيْه وآلِه) فِي رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَجَمِيْعِ فَوَاضِلِهَا، عَلَى أَتَمِّ الطَّهُورِ وَأَسْبَغِهِ، وَأَبْيَنِ الْخُشُوعِ وَأَبْلَغِهِ»[1].

 

 


[1] الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق، ص188، الدعاء 44.

 

71


66

الموعظة الثانية عشرة: التوفيق للمحافظة على الصلاة في شهر رمضان (1)

تتكوّن الصلاة، بِحسب نَصّ الإمام (عليه السلام)، مِن أُمورٍ لَو تمّ الالتفات والتوجّه إليها والقيام بها، لَكانت الصلاة معراج المؤمن وقُربان كلّ تقيّ، ولَأوصلَت إلى القُرب الإلهيّ، ولَبَرزَت آثارها الروحيّة، ولَتَعَدَّت كونها فَرضاً إلهيّاً مطلوباً من المكلّف مِن الناحية الفقهيّة. فالإمام (عليه السلام) يطلب من الله أن يوقِفَه على أداء الصلاة في مواقيتها وحدودها، والمحافظة على أركانها، كما كان يؤدّيها النبيّ (صلى الله عليه وآله)، بِآدابها وسُنَنها كلّها.

معاني المفردات[1]

قِفْنَا: أطلِعنا عليه.

المواقيت: أوقات الصلاة.

الفروض: الواجبات.

الوظائف: المراد بها الآداب.

الحافظين لأركانها: واجباتها المبحوث عنها شرعاً.

الفواضل: الدرجة الرفيعة في الفضل.

أتمّيّته: الإتيان به على الوجه المسنون بتمامه.

الطهور: يَعمّ الغسل والوضوء وإزالة النجاسة الظاهريّة والباطنيّة.

أبين الخشوع: أوضحه.

 

 


[1] الشيرازيّ، السيّد عليّ خان المدنيّ، رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد الساجدين (عليه السلام)، تحقيق السيّد محسن الحسينيّ الأميني، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، 1415ه، ط4، ج6، ص52.

 

72


67

الموعظة الثانية عشرة: التوفيق للمحافظة على الصلاة في شهر رمضان (1)

المحافظة على مواقيت الصلاة

حثَّتْ رواياتٌ كثيرة على الصلاة في أوّل وقتها؛ قال الإمام الباقر (عليه السلام): «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ الصَلاةُ، فَإِنْ قُبِلَتْ قُبِلَ مَا سِوَاهَا. إِنَّ الصَلاةَ إِذَا اِرْتَفَعَتْ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا رَجَعَتْ إلى صَاحِبِهَا وَهِيَ بَيْضَاءُ مُشْرِقَة، تَقُولُ: حَفِظْتَنِي، حَفِظَكَ اللَّهُ. وإِذَا ارْتَفَعَتْ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا بِغَيْرِ حُدُودِهَا رَجَعَتْ إلى صَاحِبِهَا وهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَة، تَقُول: ضَيَّعْتَنِي، ضَيَّعَكَ اللَّهُ»[1]، وعَنْه (عليه السلام) في قَول اللهِ جلّ جلاله: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَوَٰتِهِمۡ يُحَافِظُونَ﴾[2]: «هذِهِ الفَريضَةُ، مَن صَلّاها لِوَقتِها، عارِفاً بِحَقِّها، لا يُؤثِرُ عَلَيها غَيرَها، كَتَبَ اللهُ لَهُ بَراءَةً لا يُعَذِّبُهُ. ومَن صَلّاها لِغَير وَقتِها، غَيرَ عارفٍ بِحَقِّها، مُؤثِراً عَلَيها غَيرَها، كانَ ذلِكَ إلَيهِ عزّ وجلّ؛ فَإِن شاءَ غَفَرَ لَهُ، وإن شاءَ عَذَّبَهُ»[3].

منازل الصلاة وأركانها

يطلب الإمام (عليه السلام) مِن الله أن يجعله من الحافظين لِمَنازل الصلاة وأركانها. وَمنازل الصلاة مراتبُها التي تليق بها، مِن قولهم: عرفتُ لِفلان منزلته؛ أي مرتبته مِن الفضل والشرف، وهو رفيع المنازل. وفي الحديث: «أَنْزِلُوا النَاسَ مَنَازِلَهُم»[4]‏؛ أي أكرِموا كُلّاً بِحسبِ فضله

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص268.

[2] سورة المؤمنون، الآية 9.

[3] القاضي النعمان المغربيّ، دعائم الإسلام، تحقيق آصف بن عليّ أصغر فيضيّ، دار المعارف، مصر - القاهرة، 1383هـ - 1963م، لا.ط، ج‏1، ص135.

[4] الطبرسيّ، الميرزا حسين النوريّ، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، لبنان - بيروت، 1408هـ - 1987م، ط1، ج7، ص177.

 

73


68

الموعظة الثانية عشرة: التوفيق للمحافظة على الصلاة في شهر رمضان (1)

وشرفه. أمّا الأركان فهي ما تبطل الصلاة بزيادتها ونقصانها عمداً وسهواً، وهي: النيّة، تكبيرة الإحرام، القيام، الركوع، والسجدتان[1]. وقد يكون المراد كلّ شيء يؤدّي إلى الحفاظ على هذه الصلاة. ثمّ إنّ تكرار ذِكر الأوقات اهتمامٌ بها، فالظاهر أنّ المراد بالمحافظة على المواقيت المحافظةُ على أوّل الوقت وما قَرُب منه، لِقول أبي عبد الله (عليه السلام): «لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقْتَانِ، وَأَوَّلُ الْوَقْتِ أَفْضَلُهُ. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ آخِرَ الْوَقْتَيْنِ وَقْتاً، إِلَّا فِي عُذْرٍ مِنْ غَيْرِ عِلَّة»[2].

المعاني التي تتمّ بها حياة الصلاة[3]

 1. حضور القلب

فراغ القلب للصلاة وأفعالها

 2. التفهّم

إمعان الفكر وصرف الذهن إلى إدراك المعنى

 3. التعظيم

معرفة عظمة الله، ومعرفة حقارة النفس

 4. الهيبة

معرفة قدرة الله وسطوته ونفوذ مشيئته

 5. الرجاء

معرفة لطف الله وكرمه

 6. الحياء

استشعار التقصير في العبادة

الأوّل: حضور القلب؛ أي أن يفرغ الإنسان قلبه مِن غير ما هو ملابس له ومتكلّم به، فيكون العلم بالفعل والقول مقروناً بهما، ولا يكون الفكر

 

 


[1] السيّد عليّ خان المدنيّ الشيرازيّ، رياض السالكين، مصدر سابق، ج6، ص51.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص274.

[3] الفيض الكاشانيّ، المولى محمّد محسن، المحجّة البيضاء في تهذيب الإحياء، صحّحه وعلّق عليه عليّ أكبر الغفّاريّ، دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم، إيران - قمّ، لا.ت، ط2، ج1، ص371-372 (بتصرّف).

 

74


69

الموعظة الثانية عشرة: التوفيق للمحافظة على الصلاة في شهر رمضان (1)

جارياً في غيرهما. فإن انصرف فكره عن غير ما هو فيه، وكان في قلبه ذِكر لِما هو فيه، ولم يكن فيه غفلة عنه، فقد حصلَ حضور القلب.

وإنّ سَبب حضور القلب الهمّة؛ فلا يحضر القلبُ إلّا في ما أهمّه، ولا حيلة ولا علاج لإحضار القلب إلّا بصرف الهمّة إلى الصلاة بفَهمِ الغرض المنوط بها، وهو الإيمان والتصديق بأنّ الآخرة خير وأبقى، وأنّ الصلاة وسيلة إليه، فإذا أُضيف هذا إلى حقيقة العِلم بحقارة الدنيا حَصل مِن مجموعهما حضور القلب في الصلاة.

الثاني: تَفَهُّم معنى الكلام، وهو أمر وراء حضور القلب، فربّما يكون القلب حاضراً مع اللفظ، ولا يكون حاضراً مع المعنى، فاشتمال القلب على العلم بمعنى اللفظ هو المراد. وهذا مقام يتفاوت فيه الناس، فَكَم من معانٍ لطيفة يفهمها المصلّي أثناء الصلاة كما لم يخطر لِقلبه من قبل! هكذا تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر.

وأمّا سبب التفهُّم فصرف الذهن إلى إدراك المعنى، وعلاجه إحضار القلب مع الإقبال على الفكر وَرَفع الخواطر الشاغلة؛ إذ إنّ مَن أحبّ شيئاً أكثر ذِكره، فَذكر المحبوب يَهجم على القلب بالضرورة. لذا، لا يصفو خاطِرُ مَن أحبّ غير الله.

الثالث: التعظيم، وهو أمر وراء حضور القلب والتفهّم، إذ يخاطب الإنسان غيره بكلامٍ حاضرٍ في القلب مُتفهّم لِمعناه، فيعظّمه.

والتعظيم، يتولّد مِن معرفتَيْن؛ إحداهما معرفة جلال الله وعَظَمته، وهي من أصول الإيمان، وثانيهما معرفة حقارة النفس وخسّتها بِكَونها

 

75


70

الموعظة الثانية عشرة: التوفيق للمحافظة على الصلاة في شهر رمضان (1)

عبداً مسخّراً مربوباً. وتتولّد مِن المعرفتَيْن الاستكانة والانكسار والخشوع لله؛ وهو التعظيم.

الرابع: الهيبة، وهي خوف منشؤه التعظيم، فَمن لا يخاف لا يَهاب، وَمصدرها الإجلال.

والهيبة تتولّد مِن المعرفة بِقدرة الله وسطوته ونفوذ مشيئته فيه، وبأنّه لو أَهلك الأوّلين والآخرين لم ينقص مِن مُلكه ذرّة. مُضافاً إلى مطالعة ما جرى على الأنبياء (عليهم السلام) والأولياء (عليهم السلام) مِن مصائب وبلاءات، مع القدرة على الدفع. وكلّما زاد العِلم بالله، زادَت الخشية والهيبة.

الخامس: الرجاء، فالعبد ينبغي أن يكون راجياً بِصلاته ثوابَ الله وخائفاً بِتقصيره من عقابه.

وسببه معرفة كرم الله وعميم إنعامه ولطيف صنعه ومعرفة صدقه في وعده بالجنّة عن طريق الصلاة، فإذا حصل اليقين بِوعده والمعرفة بِلُطفه، انبعث مِن مجموعهما الرجاء لا محالة.

السادس: الحياء، ومستنده استشعار التقصير وتوهُّم الذنب.

وسببه استشعار التقصير في العبادة، وعِلم الإنسان بالعجز عن القيام بِعظيم حقّ الله. وتقوّي ذلك المعرفة بعيوب النفس وآفاتها وقلّة إخلاصها وخبثها وميلها إلى الحظّ العاجل في أفعاله جميعها، مع العِلم بعظيم ما يقتضيه جلال الله، والعلم بأنّه مطّلع على السريرة وخطرات القلب، وإن دقَّتْ وخفيَتْ. فإذا حصلت هذه المعارف يقيناً، انبعثت فيها -بالضرورة- حال تسمّى الحياء.

 

76

 

 


71

الموعظة الثالثة عشرة: التوفيق للمحافظة على الصلاة في شهر رمضان (2)

الموعظة الثالثة عشرة: التوفيق للمحافظة على الصلاة في شهر رمضان (2)

محاور الموعظة

الصلاة وِفاق سُنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله)
الخشوع في الصلاة

هدف الموعظة

بيان الصلاة وِفاق سُنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ودور الخشوع في تحصيل كمال العبادة.

تصدير الموعظة

أمير المؤمنين (عليه السلام): «... عَلَى مَا سَنَّهُ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ (صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فِي رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَجَمِيْعِ فَوَاضِلِهَا، عَلَى أَتَمِّ الطَهُورِ وَأَسْبَغِهِ، وَأَبْيَنِ الْخُشُوعِ وَأَبْلَغِهِ»[1].

 


الصلاة وِفاق سُنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)

[1] الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق، ص188، الدعاء 44.

 

77


72

الموعظة الثالثة عشرة: التوفيق للمحافظة على الصلاة في شهر رمضان (2)

الصلاة وِفاق سُنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله)

إنّ قول الإمام (عليه السلام) «عَلَى مَا سَنَّهُ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ» يعني أن يجعلنا الله مِن المؤدّين لها كما سَنَّها عبدُه ورسولُه، فقد قال الرسول (صلى الله عليه وآله): «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»[1]، ونقل حمَّاد بن عيسى أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) قال له يَوْماً: «يَا حَمَّاد، تُحْسِنُ أَنْ تُصَلِّي؟»، قَالَ: يَا سَيِّدِي، أَنَا أَحْفَظُ كِتَابَ حَرِيزٍ فِي الصَلاةِ، فَقَالَ (عليه السلام): «لا عَلَيْكَ، يَا حَمَّادُ، قُمْ فَصَلِّ». فَقام بَيْنَ يَدَيْهِ، مُتَوَجِّهاً إلى الْقِبْلَةِ...[2] وقد أوضحَت الرواية إلى آخرها كيفيّة الصلاة. ولا شكّ في أنّ للصلاة الصحيحة المقبولة مراتب في كمالها، بِحسبِ المقدار المأتيّ مِن حدودها.

الخشوع في الصلاة

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «عَلَى أَتَمِّ الطهُورِ وَأَسْبَغِه، وَأَبْيَنِ الْخُشُوعِ وَأَبْلَغِه»؛ وإسباغُ الوضوء إتمامُه وإكمالُه، وهو ذو وجهَيْن: إتمامه على ما فَرَض الله، وإكماله على ما سَنَّه رسول الله (صلى الله عليه وآله). ومِنه: أسبِغوا الوضوء؛ أي أبلِغوه مواضعه، وأعطوا كلّ عضوٍ حقّه[3].

إنّ الخشوع في الصلاة ناتجٌ عن المعرفة والإيمان بالله عَزَّ وجَلَّ، ونتيجته الإقبال التامّ على الصلاة بِالقلب والجوارح، وعدم الالتفات يميناً أو شمالاً بالنظر إلى الأطراف، وعدم التفكّر في غيرِ الصلاة.

 

 


[1] ابن شهرآشوب المازندرانيّ، محمّد بن عليّ، متشابه القرآن ومختلفه، دار بيدار للنشر، إيران - قم، 1369هـ.، ط1، ج‏2، ص170.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص311.

[3] السيّد عليّ خان المدنيّ الشيرازيّ، رياض السالكين، مصدر سابق، ج6، ص52.

 

78


73

الموعظة الثالثة عشرة: التوفيق للمحافظة على الصلاة في شهر رمضان (2)

وهو يعني تذلّلُ العبد وخضوعُه واستكانتُه لله تعالى، ومحلّه القلب. وللخشوع أثرٌ سلوكيّ يظهر على الجوارح، ويتمثّل في تعظيم العَبد لحرمات الله تعالى والامتثال لأوامره والانقياد لأحكامه والبكاء من خشيته. إذاً، هو قيام القلب بين يدَي الله بخضوع وذُلّ، كإمامنا عليّ بن الحسين (عليهما السلام)، الذي إذا قام إلى الصلاة كانَ كساقِ شجرةٍ، لا يتحرّك منه إلّا ما حرّكَته الريح، وكالإمامَيْن الباقر والصادق (عليهما السلام)، إِذ كانا إذا قَامَا إلى الصلَاةِ تَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهُمَا؛ مَرَّةً حُمْرَةً، وَمَرَّةً صُفْرَةً، كَأَنَّمَا يُنَاجِيَانِ شَيْئاً يَرَيَانِهِ[1]. وكذلك كان الإمام عليّ (عليه السلام)، فَقد نُقِلَ -في وصف صلاته- أنّه إذا دخل الصلاة كان كأنّه بناء ثابت، أو عمود قائمٌ لا يتحرّك، فَإذا ركع أو سجد وَقع الطير عليه مِن طول ركوعه وسجوده وهدوئه بِلا حركة، فَيَظنّ الطيرُ أنّه ليس إنساناً. ولم يُطِق أحدٌ أن يحكي ويحاكي صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلّا عليّ بن أبي طالب وعليّ بن الحسين (عليهما السلام)[2].

مفهوم الخشوع في القرآن

لقد أَوْلى القرآن الكريم مَوضوعَ الخشوع اهتماماً بالغاً، فَقد أورده في 17 موضعاً بِألفاظ مختلفة. وهو في القرآن على نَوعَيْن: الأوّل نابع من الإيمان والمعرفة، وهو الذي ذكره الله عَزَّ وجَلَّ وأثنى عليه في قوله ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ﴾[3].

 

 


[1] القاضي النعمان المغربيّ، دعائم الإسلام، مصدر سابق، ج1، ص159.

[2] المصدر نفسه، ج1، ص159.

[3] سورة المؤمنون، الآيتان 1 - 2.

 

79


74

الموعظة الثالثة عشرة: التوفيق للمحافظة على الصلاة في شهر رمضان (2)

والثاني نابع من الخوف والذلّ، وقد ذَكره الله جَلَّ جَلاله في بيان أهوال يوم القيامة بِقوله ﴿يَوۡمَئِذ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُۥۖ وَخَشَعَتِ ٱلۡأَصۡوَاتُ لِلرَّحۡمَٰنِ فَلَا تَسۡمَعُ إِلَّا هَمۡسا﴾[1]. ويَعدّ القرآنُ الكريم خشوعَ القلب الأساسَ الذي يَسري إلى الجوارح، ويُقابل بين الخشوع المرتبط ارتباطاً وثيقاً بِذكر الله تعالى وقَسوة القلب وطول الأمد، إذ إنّ سببها عدم ذكر الله تعالى؛ ﴿أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلُ فَطَالَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡۖ وَكَثِير مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ﴾[2].

أسباب حصول الخشوع

ثمّة أسباب عديدة ذَكرها علماء الأخلاق، مِنها:

1. التوجّه إلى عَظَمة المعبود سبحانه وتعالى: على الإنسان أن يتوجّه إلى عَظَمة المعبود سبحانه وتعالى، وأن يقارن بين صغره وضعته أمام عَظمته تعالى. ومن اللافت افتتاح الصلاة بإعلان العَظمة للذات المقدّسة بِلفظ «الله أكبر»، التي لا شكّ في أنّ التعمُّق فيها يوصلُ إلى إدراكٍ ما، وَلَو على مستوى قدرات الإنسان لِمعنى العَظَمة.

2. التفكُّر في عَظَمة المخلوقات: إنّ الطريق الذي ينبغي على الإنسان سلوكه لتحقيق الخشوع هو التفكير بِعَظَمة المخلوقات، ثمّ الالتفات إلى عَظَمة الخالق الذي خلقها كلّها بإرادة واحدة.

 

 


[1] سورة طه، الآية 108.

[2] سورة الحديد، الآية 16.

 

80


75

الموعظة الثالثة عشرة: التوفيق للمحافظة على الصلاة في شهر رمضان (2)

3. التوجُّه إلى ضعف النفس وحقارتها أمام الذات الإلهيّة المقدّسة: إنّ الطريق الأوّل التوجُّه إلى عَظَمة الله تعالى، الذي يلازمه -عادةً- التوجّه إلى حقارة النفس وضعفها وفقرها الحقيقيّ أمامه تعالى. وممّا يُوَلّد حالة الخشوع والانكسار للحقّ تعالى؛ هو أنّ الإنسان بارتكاب الذنوب والمعاصي يجافي وليّ نعمته، فَيكفر بالنعم بدلاً من أن يشكره عليها.

4. الخوف من الله تعالى: مِن العوامل المهمّة لِتوليد الخشوع الخوف مِن الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوۡلِيَآءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾[1] و﴿وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ ٤٠ فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ﴾[2]. والخوف -هنا- سببه أعمال الإنسان، فَالله تعالى وضع نظاماً خاصّاً لِعالَم الوجود، ومِنه أنّ آثاراً تترتّبُ على ارتكاب الذنب.

5. التوجُّه إلى صفات الله الجماليّة: يمكن تسمية التوجُّه إلى صفات الله الجماليّة «طريق العشق والمحبّة»، فإذا توجَّه الإنسان نحو هذه الصفات، وَجدَ اللهَ يستحقُّ الثناء والعبادة. ومن المعلوم أنّه كلّما ازداد حُبّ الإنسان لأحدٍ ازداد سَعيه للاقتراب منه، فكلّما ازدادَت محبّة الله في قلب الإنسان ازداد منه قُرباً. فَحُبّ الله تعالى يتولَّد، إذاً، من التوجُّه نحو الصفات الجماليّة له؛ لذا فإنّ حصول الخشوع لله، ومدى شدّته أو ضعفه، منوط بحصول حالة الشوق، والتي تُناط -بِدَورها- بمدى حُبّ الله تعالى[3].

 


[1] سورة آل عمران، الآية 175.

[2] سورة النازعات، الآيتان 40 - 41.

[3] اليزديّ، الشيخ محمّد تقي مصباح، السير إلى الله، ترجمة ماجد الخاقانيّ، دار الولاء للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1430ه - 2009م، ط2، ص374، أسباب الخشوع (بتصرّف).

 

81


76

الموعظة الرابعة عشرة: الدعاء والتضرُّع في شهر رمضان

الموعظة الرابعة عشرة: الدعاء والتضرُّع في شهر رمضان

محاور الموعظة

حقيقة الدعاء
العبادة والدعاء
شروط الدعاء وآدابه

هدف الموعظة

تعرّف حقيقة الدعاء والتضرُّع في شهر رمضان، وتوضيح ارتباط العبادة بالدعاء، وبيان شروطه وآدابه.

تصدير الموعظة

أَوْحَى اللَّهُ إِلَى موسى (عليه السلام): «يَا مُوسَى، كُنْ إِذَا دَعَوْتَنِي خَائِفاً مُشْفِقاً وَجِلاً، وَعَفِّرْ وَجْهَكَ فِي التُرَابِ، وَاسْجُدْ لِي بِمَكَارِمِ بَدَنِكَ، وَاقْنُتْ بَيْنَ يَدَيَّ فِي اَلْقِيَامِ، وَنَاجِنِي حَيْثُ تُنَاجِينِي بِخَشْيَةٍ مِنْ قَلْبٍ وَجِلٍ»[1].

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج90، ص341.

 

82


77

الموعظة الرابعة عشرة: الدعاء والتضرُّع في شهر رمضان

حقيقة الدعاء

الدعاء طلبُ الداني أمراً مِن العالي، على جهة الخضوع والاستكانة؛ أي طلبُ العَبدِ مِن الله عزّ وجلّ العناية والمدد، وهو أمر نفسانيّ. فإذا كان عَن قلبٍ لاهٍ خَرج عن حقيقته.

أهمّيّة الدعاء في الروايات

قال النبِيّ (صلى الله عليه وآله): «أَفْضَلُ عِبَادَةِ أُمَّتِي بَعْدَ قِرَاءَةِ اَلْقُرْآنِ الدُعَاءُ»، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[1]؛ «أَلَا تَرَى أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ؟»[2].

العبادة والدعاء

الدعاء عَطف رحمة الله عزّ وجلّ، وتنصيب الإنسان نفسه مقام العبوديّة والمملوكيّة والاتّصال بمولاه بالتبعيّة والذِلّة؛ لذا كانت العبادة -في الحقيقة- دعاء[3].

أهمّيّة الدعاء

إنّ حقيقة الإنسان الفقر، وهو ليس صفة عارضة عليه، بل حقيقته الوجوديّة في قبال الله تعالى. لذا، فَهو محتاج للغنيّ المطلق دائماً، فيدعو الفقيرُ المطلقُ الغنيَّ المطلق؛ قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ

 

 


[1] سورة غافر، الآية 60.

[2] قطب الدين الراونديّ، الدعوات (سلوة الحزين)، مصدر سابق، ص19.

[3] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج10، ص38.

 

83


78

الموعظة الرابعة عشرة: الدعاء والتضرُّع في شهر رمضان

ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ﴾[1]. إنّ الدعاء يُشكّل حلقة أو مدرسة تعليميّة تُعرّفُ حقيقة العبادة؛ لذا قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): «الدعَاءُ مُخُّ‏ العِبَادَة»[2]. والإنسان يحتاج -بفطرته- إلى فتح قناة اتّصال مباشر يلجأ إليها في أيّ آنٍ ومكان، وليس أفضل مِن الدعاء وسيلة.

شروط الدعاء وآدابه

1. معرفة الله تعالى: قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): «لَوْ عَرَفْتُمُ اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِه، لَزَالَتِ الْجِبَالُ بِدُعَائِكُمْ»[3]؛ والمراد معرفته بصفاته وأسمائه الحسنى.

2. الانقطاع إلى الله عمّا سواه: لا بُدَّ للداعي مِن الانقطاع إلى الله وحده، فلا يدخل الأغيار، لأنّ الله تعالى هو الغنيّ المطلق. وَلا يصحّ الدعاء والقلب مَحلٌّ لِغيره؛ قال تعالى: ﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن
لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ﴾[4].

3. حُسن الظنّ بالله تعالى: قال الإمام الرضا (عليه السلام): «أَحْسِنِ الظنَّ بِاللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عزّ وجلّ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ بِي؛ إِنْ خَيْراً فَخَيْراً، وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً»[5]. وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «إِذَا دَعَوْتَ فَأَقْبِلْ بِقَلْبِكَ، وَظُنَّ حَاجَتَكَ بِالبَابِ»[6].

 

 


[1] سورة فاطر، الآية 15.

[2] قطب الدين الراونديّ، الدعوات (سلوة الحزين)، مصدر سابق، ص18.

[3] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج‏17، ص301.

[4] سورة الأحقاف، الآية 5.

[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج‏2، ص71.

[6] المصدر نفسه، ج‏2، ص473.

 

84


79

الموعظة الرابعة عشرة: الدعاء والتضرُّع في شهر رمضان

4. التذلُّل والخضوع لله: لا بُدَّ للداعي مِن التذلُّل لله تعالى والخضوع له؛ أي استحضار معنى العبوديّة المطلقة للسيّد المطلق.

5. اقتران الدعاء بالعمل: قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): «يَا أَبَا ذَرٍّ، يَكْفِي مِنَ الدعَاءِ مَعَ البِرِّ مَا يَكْفِي الطعَامَ مِنَ الْمِلْحِ. يَا أَبَا ذَرٍّ، مَثَلُ الذِي يَدْعُو بِغَيْرِ عَمَلٍ، كَمَثَلِ الذِي يَرْمِي‏ بِغَيْرِ وَتَرٍ»[1].

إنّ أهمّ شرط مِن الشروط الباطنيّة للدعاء الإيمان بأنّ الضارّ والنافع هو اللَّه، وَبعنايته، وبأنَّه خير وأبقى، وبألّا خيرَ في الوجود إلّا بِولاية اللَّه وقُربه ولقائه. وعلى المؤمن ألّا يلتذّ بِنِعم اللَّه إلّا لكونها مِن الله، فتنشغل نفسه وعقله وروحه عن الدنيا بحمده وثنائه. وإن غَلَبَ نَظرُ المؤمنين إلى الأسباب، إلّا أنّ الأهمَّ مُسبّبُ الأسباب، فَلا يطلبوا غيره، ولا يخلو دعاؤهم للدنيا مِن دعاء القُرب والرضى، وإن قصرت درجته عن ذلك، فلا أقلّ مِن المغفرة والجنّة[2].

وللدعاء شروط أخرى، منها:

1. قَطع الطمع عن غير اللَّه، والرجاء إلى اللَّه: قال تعالى: ﴿وَٱدۡعُوهُ خَوۡفا وَطَمَعًاۚ﴾[3]، وعَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَرَأَ فِي بَعْضِ اَلْكُتُبِ أَنَّ اَللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: «وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي وَمَجْدِي وَاِرْتِفَاعِي عَلَى عَرْشِي، لَأَقَطَعَنَّ أَمَلَ كُلَّ مُؤَمِّلٍ مِنَ النَاسِ غَيْرِي بِالْيَأْسِ، وَلَأَكْسُوَنَّهُ

 


[1] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص534.

[2] الملكيّ التبريزيّ، الميرزا جواد آغا، المراقبات (أعمال السنة)، تحقيق السيّد عبد الكريم الموسويّ، مؤسّسة دار الاعتصام للطباعة والنشر والتحقيق، إيران - قمّ، 1416ه، ط1، ص209 (بتصرّف).

[3] سورة الأعراف، الآية 56.

 

85


80

الموعظة الرابعة عشرة: الدعاء والتضرُّع في شهر رمضان

ثَوْبَ اَلْمَذَلَّةِ عِنْدَ الناسِ، وَلَأُنَحِّيَنَّهُ مِنْ قُرْبِي، وَلَأُبَعِّدَنَّهُ مِنْ فَضْلِي. أَيُؤَمِّلُ غَيْرِي فِي الشَدَائِدِ، وَالشَدَائِدُ بِيَدِي، وَيَرْجُو غَيْرِي، وَيَقْرَعُ بِالْفِكْرِ بَابَ غَيْرِي، وَبِيَدِي مَفَاتِيحُ الْأَبْوَابِ؟ وَهِيَ مُغْلَقَةٌ، وَبَابِي مَفْتُوحٌ لِمَنْ دَعَانِي. فَمَنْ ذَا الَّذِي أَمَّلَنِي لِنَوَائِبِهِ، فَقَطَعْتُهُ دُونَهَا؟ وَمَن ذَا الَّذِي رَجَانِي لِعَظِيمَةٍ، فَقَطَعْتُ رَجَاءَهُ مِنِّي؟ جَعَلْتُ آمَالَ عِبَادِي عِنْدِي مَحْفُوظَةً، فَلَمْ يَرْضَوْا بِحِفْظِي، ومَلَأْتُ سَمَاوَاتِي مِمَّنْ لاَ يَمَلُّ مِنْ تَسْبِيحِي، وَأَمَرْتُهُمْ أَلّا يُغْلِقُوا اَلْأَبْوَابَ بَيْنِي وَبَيْنَ عِبَادِي، فَلَمْ يَثِقُوا بِقَوْلِي»[1].

2. التحميد والتمجيد: قال الإمام الصَادِق (عليه السلام): «إِنَّ فِي كِتَابِ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّ اَلمِدْحَةَ قَبْلَ اَلْمَسْأَلَةِ، فَإِذَا دَعَوْتَ اَللَّهَ فَمَجِّدْهُ»، قيل: كَيْفَ نُمَجِّدُهُ؟ قَالَ (عليه السلام): «تَقُولُ: يَا مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَيَّ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ، يَا فَعَّالاً لِما يُرِيدُ، يَا مَنْ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، يَا مَنْ هُوَ بِالْمَنْظَرِ اَلْأَعْلَى، يَا مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ»[2].

3. دعاء اللّه بأسمائه المناسبة للدعاء: وذِكر نعمه، وشكره، ثمّ الإقرار بالذنوب، والاستغفار، واللبث في الدعاء، وتَرك الاستعجال، والإلحاح، فإنّ اللَّه تعالى يحبّ السائل اللجوج، وأقلّ الإلحاح تكرار الدعاء ثلاث مرّات قبل سؤال الحاجة.

4. الصلاة على محمّد وآله: عن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ كَانَتْ لَهُ إِلَى اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَاجَةٌ، فَلْيَبْدَأْ بِالصَلاَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، ثُمَّ يَسْأَل

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص66.

[2] المصدر نفسه، ج2، ص484.

 

86


81

الموعظة الرابعة عشرة: الدعاء والتضرُّع في شهر رمضان

حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَخْتِم بِالصلاَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَقْبَلَ الطَرَفَيْنِ وَيَدَعَ الوَسَطَ، إِذَا كَانَتِ الصلاَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ لاَ تُحْجَبُ عَنْهُ»[1].

5. الإقبال على الله: الرؤوف الرحمن الرحيم، بِتطهير القلب والروح مِن الأفكار الدنيّة والمحرّمة والمكروهة، لا سيّما هموم الدنيا وهمّ الخوف المكروه، وسوء الظنّ بالله، وعدم الركون إلى مواعيده، فإنّها مهلكة لقلب المؤمن، بل مورثة لإعراض اللَّه جلّ جلاله عنه؛ ﴿وَذَٰلِكُمۡ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمۡ أَرۡدَىٰكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم
مِّنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ﴾[2].

6. الدعاء في الرخاء قبل الوقوع في الشدّة والبلاء.

7. رفع الكفّيْن بالدعاء: قال أَبو بَصِير: سَأَلْتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عَنِ الدُعَاءِ وَرَفْعِ اَلْيَدَيْنِ، فَقَالَ: «عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُه؛ أَمَّا اَلتَعَوُّذُ فَتَسْتَقْبِلُ اَلْقِبْلَةَ بِبَاطِنِ كَفَّيْكَ، وَأَمَّا اَلدُعَاءُ فِي اَلرِزْقِ فَتَبْسُطُ كَفَّيْكَ وَتُفْضِي بِبَاطِنِهِمَا إِلَى اَلسَمَاءِ، وَأَمَّا اَلتَبَتُّلُ فَإِيمَاءٌ بِإِصْبَعِكَ اَلسَبَّابَةِ، وأَمَّا اَلاِبْتِهَالُ فَرَفْعُ يَدَيْكَ تُجَاوِزُ بِهِمَا رَأْسَكَ، وَدُعَاءُ اَلتَضَرُّعِ أَنْ تُحَرِّكَ إِصْبَعَكَ اَلسَبَّابَةَ مِمَّا يَلِي وَجْهَكَ، وَهُوَ دُعَاءُ اَلْخِيفَةِ»[3].

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص494.

[2] سورة فصّلت، الآية 23.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص480.

 

87


82

الموعظة الخامسة عشرة: الإمام المجتبى (عليه السلام) سيّد شباب الجنّة

الموعظة الخامسة عشرة: الإمام المجتبى (عليه السلام) سيّد شباب الجنّة

محاور الموعظة

ولادته
من صفاته
بين الحبّ والولاء

هدف الموعظة

بيان قبسٍ من حياة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) وصفاته.

تصدير الموعظة

رسول الله (صلى الله عليه وآله): «هو سيّد شباب أهل الجنّة، وحجّة الله على الأُمّة، أمره أمري، وقوله قولي، من تبعه فإنّه منّي، ومن عصاه فليس منّي»[1].

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص176.

 

88


83

الموعظة الخامسة عشرة: الإمام المجتبى (عليه السلام) سيّد شباب الجنّة

ولادته

وُلِد (عليه السلام) في المدينة المنوّرة يوم النصف من شهر رمضان من السنة الثالثة للهجرة على الأقوى، وهو أوّل أولاد أمير المؤمنين والسيّدة الزهراء (عليهما السلام).

لمّا وُلِد (عليه السلام) قالت السيّدة الزهراء للإمام عليّ (عليهما السلام): «سَمِّه»، فقال: «ما كنتُ لأسبقَ باسمه رسولَ الله (صلى الله عليه وآله)»، فجاء النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فأُخرِج إليه، فقال: «اللّهمّ، إنّي أُعيذه بك ووِلده من الشيطان الرجيم»[1]، وأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى، وأسماه النبيّ (صلى الله عليه وآله) حسناً، ولم يكن يُعرف هذا الاسم في الجاهليّة.

من صفاته

من عظيم ما كان عليه الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، أنّ كلّ واحد منهم كان يشتمل على صفات متعدّدة، تشكّل بمجملها صفات الإنسان الكامل، الذي ينبغي أن يُتّخذ قدوة وأسوة لدى أيّ إنسان في السير والسلوك في هذه الحياة الدنيا، وهكذا كانوا (عليهم السلام)، مصدر إلهام وإرشاد، في أقوالهم وأفعالهم لكلّ المسلمين والمؤمنين عبر التاريخ الإسلاميّ. نذكر من صفات الإمام الحسن (عليه السلام):

1. كرمه

وقد برزت في كلّ واحد منهم صفة لُقِّب بها في حياته وبعد رحيله عن هذه الدنيا، وفي ذلك دلالة على تأثّر الناس بهذا الإمام وعظمة ما

 


[1] انظر: العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج43، ص256.

 

89


84

الموعظة الخامسة عشرة: الإمام المجتبى (عليه السلام) سيّد شباب الجنّة

كان عليه، ومن ذلك ما لُقِّب به الإمام الحسن (عليه السلام)، بـِ «كريم أهل البيت»، إشارة إلى سخائه وجوده وكرمه، تجلّت في أحداث ومواقف دلّت على رأفته بالمساكين، واستقالته من حطام هذه الدنيا الفانية، وأنّ كلّ شيء في نظره، إنّما هو في حقيقته ملك لله، وليس هو بيد الإنسان إلّا كصاحب له، سوف نفقده بعد حين، من دون أيّ قدرة على الحفاظ عليه.

وقد ورد في كرم الإمام الحسن (عليه السلام) وسخائه الكثير من الروايات، منها:

ما رُوي أنّ جاريةً حيَّتْهُ بطاقة (حزمة) من ريحان، فقال (عليه السلام) لها: «أنتِ حرّة لوجه الله»، فلامه أنس بن مالك على ذلك، فأجابه  (عليه السلام): «أدّبنا الله فقال تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّة فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ﴾[1]؛ وكان أحسن منها إعتاقها»[2].

ورُوي أيضاً أنّ شاميّاً رآه راكباً، فجعل يلعنه، والحسن (عليه السلام) لا يردّ، فلمّا فرغ أقبل الإمام (عليه السلام) وتبسّم، وقال: «أيّها الشيخ، أظنّك غريباً، ولعلّك شبَّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرَّكت

 


[1] سورة النساء، الآية 86.

[2] ابن شهر آشوب، مشير الدين أبو عبد الله محمّد بن عليّ، مناقب آل أبي طالب، تصحيح وشرح ومقابلة لجنة من أساتذة النجف الأشرف، المكتبة الحيدرية، العراق - النجف الأشرف، 1376هـ - 1956م، لا.ط، ج3، ص183.

 

90


85

الموعظة الخامسة عشرة: الإمام المجتبى (عليه السلام) سيّد شباب الجنّة

رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك؛ لأنّ لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً، ومالاً كبيراً»، فلمّا سمع الرجل كلامه بكى، ثمّ قال: أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنتَ أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبّتهم[1].

2. تواضعه

رُوي أنّه (عليه السلام) مرّ على فقراء، وقد وضعوا كسيرات على الأرض، وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها، فقالوا له: هلمّ يابن بنت رسول الله إلى الغداء، فنزل، وقال: ﴿إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡتَكۡبِرِينَ﴾[2]، وجعل يأكل معهم، ثمّ دعاهم إلى ضيافته، وأطعمهم وكساهم[3].

بين الحبّ والولاء

لو أردنا أن نعرج إلى ما واجهه الإمام الحسن (عليه السلام) مع القاعدة الشعبيّة، عند مواجهته الحكمَ الظالمَ في زمانه، فيمكن اختصارها بالآتي:

يتصوّر الكثيرون أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) لم يقم بالثورة على غرار ما قام به أخوه سيّد الشهداء (عليه السلام)، وهذا في الواقع من الأخطاء الشائعة بين الناس؛ ذلك أنّ الإمام (عليه السلام) في الحقيقة تحرّك نحو

 

 


[1] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص164.

[2] سورة النحل، الآية 23.

[3] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص187.

 

91


86

الموعظة الخامسة عشرة: الإمام المجتبى (عليه السلام) سيّد شباب الجنّة

مواجهة معاوية، وانطلق في هذه المواجهة، بل جهّز جيشاً وعتاداً، إلى أن وصل الأمر قاب قوسين أو أدنى من اشتعال الحرب والمعركة، إلّا أنّ شيئاً وقف حائلاً دون ذلك، وهو ما تعرّض له هذا الجيش من اختراقات في صفوفه على صعيد قادته وجنوده، ما جعل الإمام حينها بين خيارين، بين أن يستمرّ من دون تبعات حسنى للحرب، وبين ما قام به من صلح.

والفكرة الأساس هنا، هو أن جيشه وجمهور الناس آنذاك، جميعهم كانوا يهتفون بحبّه، ويعلنون الولاء له، إلّا أنّ ذلك كلّه قد اضمحلّ في الوقت الذي كان ينبغي أن يترجم فيه هذا الحبّ وهذا الولاء تسليماً لأمر الإمام (عليه السلام)، وعدم الانزلاق بحبّ الدنيا وأهوائها، والتراجع خوفاً من الحرب والسيف.

إنّ المشكلة الأساس في هؤلاء، كانت في أنّهم كانوا يحبّون الإمام الحسن (عليه السلام) عاطفيّاً، إلّا أنّهم لم يترجموا حبّهم عمليّاً، فقد بقي في الأذهان والقلوب، حتّى وقع الاختراق فيهم، وضعُفَت نفوسُهم، ما اضطرّ الإمام إلى التنازل عن الحرب العسكريّة.

في الواقع، هذا امتحان كبير لكلّ مؤمن ومسلم، في أن يتسلّح بالإيمان والمعرفة والحبّ، وأن يأخذ التسليم لأصحاب الأمر في صغائر الأمور وكبائرها أساساً في ولائه وحبّه لهم، وإلّا كان ذلك مجرّد مشاعر عاطفيّة لا تغني ولا تسمن من جوع.

 

92


87

الموعظة السادسة عشرة: الاستغفار في شهر رمضان

الموعظة السادسة عشرة: الاستغفار في شهر رمضان

محاور الموعظة

الاستغفار
العلاقة بين الله تعالى وعباده
آثار الاستغفار

هدف الموعظة

إيضاح مفهوم الاستغفار في شهر رمضان، وبيان آثاره.

تصدير الموعظة

أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَأَمَّا اَلْأَمَانُ اَلْبَاقِي فالاسْتِغْفَارُ؛ قَالَ اَللَّهُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ﴾[1]»[2].

 


[1] سورة الأنفال، الآية 33.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص483، الحكمة 88.

 

93


88

الموعظة السادسة عشرة: الاستغفار في شهر رمضان

الاستغفار

لا ينفكّ مفهوم الغفران عن المنظومة الفكريّة الإسلاميّة المبنيّة على الرحمة الإلهيّة. فالله تعالى إله الرحمة، والدين دين الرحمة، والنبيّ (صلى الله عليه وآله) نبيّ الرحمة؛ قال تعالى: ﴿لَوۡلَا تَسۡتَغۡفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾[1]، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «بِذِكْرِ اَللَّهِ تُسْتَنْزَلُ الرحْمَةُ»[2]. والاستغفار لجوء العبد إلى الله، رجاء ستر ذنوبه، والتجاوز عن خطاياه[3]. ولا بدّ مِن الالتفات إلى خطورة الذنوب في المسيرة التكامليّة للإنسان، لأنّ أبوابَ ما يحتاج إليه الفرد البشريّ والمجتمع الإنسانيّ -من ألطاف إلهيّة وتفضّلات ورحمة ونورانيّة وهداية وتوفيق وَعَون على الأمور ونَجاح في الساحات المختلفة- تنغلق بسبب الذنوب التي يرتكبها. فَتُصبح الذنوب حجاباً بينه وبين الرحمة والتفضّل الإلهيّ، يُزيله الاستغفار.

العلاقة بين الله تعالى وعباده

إنّ علاقة الله تعالى بعباده علاقة الحبّ والرحمة، وفي القرآن الكريم دلائل كثيرة على ذلك، أهمّها قبول الله التوبة مِن العُصاة، والتجاوز عن سيّئاتهم، ودعوة العاصين والخاطئين إلى رحابِ الودود الرحيم التوّاب الغفور، والإنعام بالرضى، والحبّ بعد الغضب؛ قال

 


[1] سورة النمل، الآية 46.

[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص188.

[3] ابن منظور، محمّد بن مكرم‏، لسان العرب‏، تحقيق وتصحيح جمال الدين الميرداماديّ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - دار صادر، لبنان - ‏بيروت، 1414ه‏، ط3، ج5، ص25.

 

94


89

الموعظة السادسة عشرة: الاستغفار في شهر رمضان

تعالى: ﴿فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارا ١٠ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارا﴾[1] و﴿وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾[2] و﴿قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ﴾[3].

آثار الاستغفار

يُستفادُ مِن مجموع الآيات والروايات أنّ للاستغفار آثاراً عظيمة تؤثّر في مُجريات حياة الإنسان، مِنها:

1. صلاح المجتمع: قال الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام): «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مَن أنعم الله عزَّ وجلَّ عليه نعمة فَلْيحمد الله، ومَن استبطأ الرزق فَلْيَستغفر الله، ومَن حَزنه أمرٌ فَلْيقُل: لا حول ولا قوّة إلّا بالله»[4]، فَثمّة ارتباط بين الاستغفار وَصلاح المجتمع ونزول البركات والحياة الطيّبة.

2. رَفع العذاب عن الأمّة: قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ﴾[5]، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «كَانَ فِي اَلْأَرْضِ أَمَانَانِ مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ رُفِعَ أَحَدُهُمَا، فَدُونَكُمُ اَلْآخَر فَتَمَسَّكُوا بِهِ. أَمَّا اَلْأَمَانُ اَلَذِي رُفِعَ فَهُوَ رَسُولُ اَللَّهِ (صلى الله عليه وآله)،

 

 


[1] سورة نوح، الآيتان 10 - 11.

[2] سورة النور، الآية 31.

[3] سورة الزمر، الآية 53.

[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص201.

[5] سورة الأنفال، الآية 33.

 

95


90

الموعظة الخامسة عشرة: الإمام المجتبى (عليه السلام) سيّد شباب الجنّة

وَأَمَّا اَلْأَمَانُ اَلْبَاقِي فَالاِسْتِغْفَارُ؛ قَالَ اَللَّهُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ﴾»[1].

3. زيادة الرزق: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَكْثِرُوا الاسْتِغْفَارَ، تَجْلِبُوا الرِزْق»[2]. فَلا شكّ في أنّ الذنوب والمعاصي تُبعد الإنسان عن الرزّاق العليم وتحجب الرزق، وَالاستغفار يمحوها ويطهّر النفس ويدرّ الرزق، فَتنفتح البرَكَة وتُرى آثارها.

4. إبعاد الشيطان: عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام): «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: أَلاَ أُخْبِركُمْ بِشَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ فَعَلْتُمُوهُ تَبَاعَدَ اَلشَيْطَانُ مِنْكُمْ كَمَا تَبَاعَدَ اَلْمَشْرِقُ مِنَ اَلْمَغْرِبِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: الصوْمُ يُسَوِّدُ وَجْهَهُ، وَالصدَقَةُ تَكْسِرُ ظَهْرَهُ، وَاَلْحُبُّ فِي اَللَّهِ وَاَلْمُؤَازَرَةُ عَلَى اَلْعَمَلِ اَلصالِحِ يَقْطَعُ دَابِرَهُ، وَالاسْتِغْفَارُ يَقْطَعُ وَتِينَهُ»[3]، فالاستغفار سلاحٌ بِيَدِ المستغفِر يُبعد به الشيطان، بل يقطع به وتينه.

5. دواء الذنوب: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِدَائِكُمْ مِنْ دَوَائِكُمْ؟»، قيل: بَلَى، يَا رَسُولَ اَللَّهِ. قَالَ: «دَاؤُكُمُ اَلذنُوبُ، وَدَوَاؤُكُمُ الاسْتِغْفَارُ»[4]. فالذنوب مرض يحتاج علاجاً، هو الاستغفار.

6. مُعطّر لروائح الذنوب: قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «تَعَطَّرُوا بِالاِسْتِغْفَارِ، لاَ تَفْضَحكُمْ رَوَائِحُ الذُنُوبِ»[5]، فَللذنب رائحة كريهة

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج90، ص284.

[2] المصدر نفسه، ج90، ص278.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص62.

[4] الشعيريّ، جامع الأخبار، مصدر سابق، ص57.

[5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج6، ص22.

 

97


91

الموعظة الخامسة عشرة: الإمام المجتبى (عليه السلام) سيّد شباب الجنّة

11. نَفْي الفقر: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ النِعْمَةُ فَلْيُكْثِرِ اَلْحَمْدَ لِلَّهِ، وَمَنْ كَثُرَ هَمُّهُ فَعَلَيْهِ بِالاسْتِغْفَارِ، وَمَنْ أَلَحَّ عَلَيْهِ الْفَقْرُ فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلّا بِاللَّهِ، يَنْفِي اَللَّهُ عَنْهُ اَلْفَقْرَ»[1]. فالاستغفار مِن أسباب نَفيِ الفقر، ويُقابِل شكرَ النعمة، فكما أنّ النعمة تستحقّ الشكر، فكذلك نَفْي الفقر يحتاج استعانةً بالله واستغفاراً مِن الذنب.

12. خير الدعاء: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «خَيْرُ الدعَاءِ الاسْتِغْفَارُ»[2]، فبالاستغفار يبقى العبدُ على اتّصال دائم بربّه، ويخشاه في كلّ عمل يقوم به، صغيراً كان أم كبيراً. وهذا هو الهدف مِن طلب المغفرة، فالله تعالى يريد نجاة عباده، وهو ينظر إليهم وَهُم لا ذنب لهم، خاشعين مُنيبين إليه، يخافون عقابه.

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص93.

[2] المصدر نفسه، ج2، ص504.

 

98


92

الموعظة السابعة عشرة: التوبة في شهر رمضان

الموعظة السابعة عشرة: التوبة في شهر رمضان

محاور الموعظة

العلاقة بين الله تعالى وعباده
مفهوم التوبة
أركان التوبة وشرائطها
آثار التوبة

هدف الموعظة

تعرّف مفهوم التوبة وبيان أركانها وشرائطها وآثارها.

تصدير الموعظة

﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ﴾[1].

 

 


[1] سورة التوية، الآية 118.

 

99


93

الموعظة السابعة عشرة: التوبة في شهر رمضان

لا شكّ في أنّ الغاية التي ينشدها أيّ مؤمن خروجه مِن الدنيا وقد غَفَرَ الله تعالى ذنوبه جميعها، فلا يسأله عنها يوم القيامة، ويدخله جنّاته.

العلاقة بين الله وعباده

يمكن فَهمُ علاقة الله تعالى بعباده وَنظرته إلى المذنبين مِن الآتي:

1. الله تعالى يبسط الرحمة لِعباده ويَقبل توبتهم ويمحو سيّئاتهم.

2. مِن أعظم صور الرحمة الإلهيّة تبديلُ اللهِ سيّئات التائبِ حسنات.

3. لا يحبّ الله تعالى الانتقام -والعياذ بالله- وتعذيب المؤمنين، بل إنّه رؤوف وَدود رحيمٌ بِمن رَجع إليه.

4. إنّ غضب الله لا يحلّ إلّا على الكافر المصرّ على كفره، والعاصي المصرّ على معصيته، والمستهتر بمقام ربّه، أمّا النادم فَهو قريب مِن الله ومحبوب لديه.

5. إنّ التوبة والإيمان والعمل الصالح بابُ الفلاح في الدنيا والآخرة.

6. إنّ الدليل على حبّ الله تعالى لعباده ما أتاحه لهم مِن مكّفرات لِذنوبهم تُنجيهم في الدنيا والآخرة.

مفهوم التوبة

قال تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ﴾[1].

التوبةُ تَرْكُ الذنب، مَعرفةً بِقُبحه، ونَدماً على فِعله، وعزماً على عدم العودة إليه، وتدارُكاً لِما يمكن تداركه مِن أعمال، وأداءً لِما ضُيِّع مِن فرائض؛ إخلاصاً لله، ورجاءً لثوابه، وخَوفاً من عقابه. وَهي توفيق إلهيّ

 

 


[1] سورة التوية، الآية 118.

 

100


94

الموعظة السابعة عشرة: التوبة في شهر رمضان

محض، لأنّ ذات الإنسان فقيرة، والفقر عَينُ الذات، مُتمحّض في الحاجة إلى الله تعالى. فَمن يريد الرجوع إلى الله يحتاج توفيقاً وعناية خاصّة وإعانة منه تعالى؛ وهي توبة العبد الأولى. أمّا التوبة الثانية، فهي رجوع العبد إلى الله بالتوبة عن ذنوبه ومعاصيه، وَهي تحتاج -أيضاً- قبولَ الله تعالى ومغفرته. يبتدئ الله تعالى العبدَ برحمة الهداية، فَما إن يتوب العبد إليه حتّى يقبله ثانيةً. إذاً، توبة العبد محقوقة بتوبَتَيْن؛ توبة متقدّمة، وهي التوفيق للتوبة، وتوبة متأخّرة، وهي قبول التوبة[1].

أركان التوبة وشرائطها

قَالَ أمير المؤمنين (عليه السلام) لِقَائِلٍ في حَضْرَتِهِ: أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ: «ثَكلَتْكَ أُمُّكَ، أَتَدْرِي مَا الاسْتِغْفَارُ؟ الاسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ العِلِّيِّينَ، وَهُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ؛ أَوَّلُهَا النَدَمُ عَلَى مَا مَضَى، وَاَلثَانِي العَزْمُ عَلَى تَرْكِ العَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً، والثَالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى المخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اللَّهَ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ، وَالرَابِعُ أَنْ تَعْمدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّي حَقَّهَا، وَالخَامِسُ أَنْ تَعْمدَ إِلَى اللَحْمِ الَذِي نَبَتَ عَلَى السُحْتِ فَتُذِيبهُ بِالْأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ الْجِلْدَ بِالعَظْمِ وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ، وَالسَادِسُ أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاَوَةَ الْمَعْصِيَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ»[2]. ويمكن تقسيم كلام الإمام (عليه السلام) وِفاقَ الشكل الآتي: الأوّلان رُكنان للتوبة، والثالث والرابع شرطان لِقبولها، والأخيران شرطان لِكمالها.

 


[1] ينظر: العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج4، ص245 (بتصرّف).

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص550، الحكمة 417.

 

101


95

الموعظة السابعة عشرة: التوبة في شهر رمضان

1. الندم مِن واضحات الأركان، وهو الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، أو الرجوع إلى الفطرة الطاهرة التي تدنّسَت بالذنب، ولا يمكن أن يتمّ هذا الرجوع مِن دون الندم على ما فات.

2. العزم على تَرك العَوْدِ رُكنٌ واضح أيضاً، فَلا يَصدق عنوان الرجوع إلى الله أو الرجوع إلى الفطرة الصافية من دونه. والندمُ يَستبطن العزم على عدم العَوْد؛ قال أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِنَّ النَدَمَ عَلَى الشرِّ يَدْعُو إِلَى تَرْكِه»[1].

3. تدارُك ما هضمَه مِن حقوق الله وحقوق الناس شرطٌ للقبول.

4. أداء حقّ الله في كلِّ فَرض شرطُ للقبول أيضاً.

5. إذابة اللحم النابت مِن الحرام شرطُ الكمال.

6. إذاقة الجسم ألم الطاعة كما ذاق حلاوة المعصية شرطٌ ثانٍ للكمال[2].

آثار التوبة

إنّ آثار التوبة كثيرة، ولها فَضائل جَمّة وأسرار بديعة وَفوائد متعدّدة وبركات متنوّعة، مِنها:

1. سبب الفلاح والفوز بِسعادة الدارَيْن: قال تعالى: ﴿وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾[3].

2. تُكفّر السيّئات: قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَة نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمۡ سَيِّ‍َٔاتِكُمۡ وَيُدۡخِلَكُمۡ جَنَّٰت 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص427.

[2] ينظر: الحائريّ، السيّد كاظم الحسينيّ، تزكية النفس، دار البشير، إيران - قم، 1430ه.ق، ط5، ص238 - 249.

[3] سورة النور، الآية 31.

 

102


96

الموعظة السابعة عشرة: التوبة في شهر رمضان

تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ﴾[1]، فَإذا تاب العبد توبة نَصوحاً كفَّر الله بها ذنوبه وخطاياه جميعها.

3. التوبة تُبدّل السيّئات حسنات: قال تعالى: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَٰلِحا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّ‍َٔاتِهِمۡ حَسَنَٰتۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورا رَّحِيما﴾[2]، فإذا حسنَت التوبة بَدَّل الله سيّئات صاحبها حسنات. وهذا مِن أعظم البشارة للتائبين، إذا اقترنَ بِتوبتهم إيمان وعمل صالح.

4. سبب للمتاع الحسن والخيرات: قال تعالى: ﴿وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُمَتِّعۡكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَل مُّسَمّى وَيُؤۡتِ كُلَّ ذِي فَضۡل فَضۡلَهُۥۖ﴾[3]، وقال على لسان نوح (عليه السلام): ﴿فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارا ١٠ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارا ١١ وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰل وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰت وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرا﴾[4].

5. الله يُحبّ التوّابين: قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ﴾[5]، فَعبوديّة التوبة مِن أَحبّ العبوديّات إلى الله وأكرمها.

6. الله يفرح بِتوبة التائبين: قَالَ رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اَللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ اَلْعَبْدِ مِنَ الظمْآنِ الْوَارِدِ وَالْمُضِلِّ الْوَاجِدِ وَالْعَقِيمِ الْوَالِدِ»[6]، فَهو عزّ وجلّ يفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح. كما أنّ لهذا الفرح تأثيراً عظيماً في حال التائب وقلبه.


 


[1] سورة التحريم، الآية 8.

[2] سورة الفرقان، الآية 70.

[3] سورة هود، الآية 3.

[4] سورة نوح، الآيتان 10 - 12.

[5] سورة البقرة، الآية 222.

[6] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج12، ص126.

 

103


97

الموعظة الثامنة عشرة: ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر

الموعظة الثامنة عشرة: ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر

 

محاور الموعظة

استقبال ليلة القدر
تسميتها
خصائصها في سورة القدر
فضائلها في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)
فضل إحيائها
سرّ تعدّد لياليها!

هدف الموعظة

حثّ المؤمنين على اغتنام ليلة القدر وإحيائها، من خلال بيان فضلها وعظمتها.

تصدير الموعظة

﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ ١ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ ٢ لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَيۡر مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡر﴾[1].

 


[1] سورة القدر، الآيات 1 - 3.

 

104


98

الموعظة الثامنة عشرة: ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر

استقبال ليلة القدر

إنّ ليلة القدر وإحياءها لمن الفرص الربّانيّة العظيمة التي منحها الله تعالى للإنسان، كي يتوجّه بقلبه وعقله إليه سبحانه، فيطلب منه العون والستر والرحمة والمغفرة، وتقدير ما هو حسن لدينه ودنياه في قابل أيّامه الآتية.

إنّها محطّة روحيّة ومعنويّة، يستطيع المرء من خلالها أن يعيد وصال ما انقطع بينه وبين ربّه، إن أحسن استغلالها وإحياءها.

إنّها ليلة مفتوحة لعباد الله كلّهم، أن يقفوا بين يديه ويتضرّعوا إليه، فللمذنب نصيب فيها بأن يستغفر الله ويتوب إليه على ما اقترف من ذنوب ومعاصٍ وآثام، وللمطيع نصيب فيها بأن يطلب من الله الاستزادة في طاعته والثبات على إيمانه ودينه.

تسميتها

إنّ تسمية هذه الليلة بليلة القدر، إنّما هو لما تختزنه من مضامين، وقد قيل: إنّها سُمّيت بذلك:

1. لشرفها، حيث إنّ القدر في اللغة هو الشرف، كما تقول: فلان ذو قدر عظيم، أي ذو شرف.

2. لتقدير مآل العباد في تلك السنة، فيكتب فيها ما سيجري في ذلك العام، وهذا من حكمته تعالى وبيان إتقان صنعه وخلقه.

3. لعظمة العبادة فيها قدراً، عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله): «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر»[1].

 

 


[1] الشيخ الصدوق، فضائل الأشهر الثلاثة، مصدر سابق، ص105.

 

105


99

الموعظة الثامنة عشرة: ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر

خصائصها في سورة القدر

إنّه لو أردنا بيان خصائص هذه الليلة المباركة فيكفينا ما ورد عنها في سورة القدر المباركة، لنقول إنّها:

1. الليلة التي أنزل الله فيها القرآن، قال تعالى: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ﴾.

2. ليلة مباركة، قال تعالى: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَة مُّبَٰرَكَةٍۚ﴾.

3. ليلة يكتب الله تعالى فيها الآجال والأرزاق خلال العام، قال سبحانه: ﴿فِيهَا يُفۡرَقُ كُلُّ أَمۡرٍ حَكِيمٍ﴾[1].

4. ليلة فضلُ العبادة فيها عن غيرها من الليالي، قال تعالى: ﴿لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَيۡر مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡر﴾.

5. ليلة تنزل الملائكة فيها إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة والمغفرة، قال سبحانه: ﴿تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمۡر﴾.

6. ليلة خالية من الشرّ والأذى، حيث تكثر فيها الطاعة وأعمال الخير والبرّ، وتكثر فيها السلامة من العذاب، قال تعالى: ﴿سَلَٰمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطۡلَعِ ٱلۡفَجۡرِ﴾.

فضائلها في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)

1. ليلة القضاء: فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «في ليلة تسع عشرة من شهر رمضان التقدير، وفي ليلة إحدى وعشرين القضاء، وفي ليلة ثلاث وعشرين إبرام ما يكون في السنة إلى مثلها لله -جلّ ثناؤه- يفعل ما يشاء في خلقه»[2].

 

 


[1] سورة الدخان، الآية 4.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص160.

 

106


100

الموعظة الثامنة عشرة: ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر

2. اقتران بقاء القرآن بها: كما عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً: «لو رفعت ليلة القدر، لرفع القرآن»[1].

3. يُضاعف فيها الأجر: سُئل الإمام الصادق (عليه السلام)؛ كيف تكون ليلة القدر خير من ألف شهر؟ قال: «العمل الصالح فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر»[2].

4. يُكتب فيها تقديرُ حياة العباد: سأل سليمان المرزويّ الإمام الرضا (عليه السلام) قائلاً: ألا تخبرني عن ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ﴾ في أيّ شيء أُنزلت؟ قال: «يا سليمان، ليلة القدر يقدّر الله عزّ وجلّ فيها ما يكون من السنة إلى السنة، من حياة أو موت، أو خير، أو شرّ، أو رزق. فما قدّره في تلك الليلة فهو من المحتوم»[3].

وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «تنـزّل فيها الملائكة والروح والكتبة الى سماء الدنيا، فيكتبون ما هو كائن في أمر السنة وما يصيب العباد فيها. قال: وأمر موقوف لله تعالى فيه المشيئة، يقدّم منه ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء، وهو قوله تعالى: ﴿يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ﴾[4]»[5].

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص158.

[2] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج2، ص158.

[3] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، تصحيح الشيخ حسين الأعلميّ، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1404هـ - 1984م، لا.ط، ج1، ص162.

[4] سورة الرعد، الآية 39.

[5]  الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص60.

 

107


101

الموعظة الثامنة عشرة: ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر

فضل إحيائها

عن الإمام الباقر (عليه السلام): «إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى أن يُغفل عن ليلة إحدى وعشرين، وعن ليلة ثلاثة وعشرين، ونهى أن ينام أحد تلك الليلة»[1].

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من أحيا ليلة القدر، حُوِّل عنه العذاب إلى السنة...»[2].

وعنه أيضاً (صلى الله عليه وآله): «قال موسى: إلهي، أريد قربك.

قال: قربي لمن استيقظ ليلة القدر.

قال: إلهي، أريد رحمتك.

قال: رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر.

قال: إلهي، أريد الجواز على الصراط.

قال: ذلك لمن تصدّق بصدقة ليلة القدر.

قال: إلهي، أريد أشجار الجنّة وثمارها.

قال: ذلك لمن سبّح تسبيحة في ليلة القدر.

قال: إلهي، أريد النّجاة من النّار.

قال: ذلك لمن استغفر في ليلة القدر.

قال: إلهي، أريد رضاك.

قال: رضاي لمن صلّى ركعتين في ليلة القدر»[3].

 

 


[1]  القاضي النعمان المغربيّ، دعائم الإسلام، مصدر سابق، ج1، ص281.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج95، ص145.

[3]  المصدر نفسه، ج95، ص145.

 

108


102

الموعظة الثامنة عشرة: ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر

وعنه (صلى الله عليه وآله): «يفتح أبواب السماوات في ليلة القدر، فما من عبد يصلّي فيها إلّا كتب الله تعالى له بكلّ سجده شجرةً في الجنّة لو يسير الراكب في ظلّها مئة عام لا يقطعها، وبكلّ ركعة بيتاً في الجنّة من درّ وياقوت وزبرجد ولؤلؤ، وبكلّ آية تاجاً من تيجان الجنّة»[1].

وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «من أحيا ليلة القدر، غُفرت له ذنوبه، ولو كانت ذنوبه عدد نجوم السماء، ومثاقيل الجبال، ومكاييل البحار»[2].

سرّ تعدّد لياليها

لا شكّ في أنّ ليلة القدر هي الليلة التي نزل فيها القرآن الكريم، وأنّها من ليالي شهر رمضان المبارك، حيث قال الله تعالى: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ﴾، وقال في آية أخرى: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ﴾، وهذا يعني أنّ القرآن الكريم قد نزل في هذه الليلة.

ولكن أيّ ليلة هي من ليالي شهر رمضان؟

إنّنا لو أردنا جمع الأحاديث الواردة في هذا الشأن لتبيّن معنا، أنّ بعضها قد ذكر وقتها بشكل عام، وأنّها في العشر الأواخر من شهر رمضان، وبعضها الآخر خصّصه بليالٍ معيّنة:

1. في العشر الأواخر: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «تحرَّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان»[3].

 

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج95، ص145.

[2]  ابن طاووس، السيّد رضيّ الدين عليّ بن موسى الحسنيّ الحسينيّ، الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يُعمل مرّة في السنة، تحقيق جواد القيوميّ الأصفهانيّ، مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران - قمّ، 1414هـ، ط1، ج1، ص346.

[3] الإمام مالك، الموطّأ، تصحيح وتعليق محمّد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربيّ، لبنان - بيروت، 1406هـ - 1985م، لا.ط، ج1، ص319.

 

109


103

الموعظة الثامنة عشرة: ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر

2. في إحدى ليالٍ ثلاث لا غير: ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، وليلة الواحد والعشرين من شهر رمضان، وليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان. عن سفيان بن السمط قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الليالي التي يُرجى فيها من شهر رمضان؟ فقال: «تسع عشرة، وإحدى وعشرين، وثلاث وعشرين»[1].

ورُوي أيضاً أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) سُئل عن ليلة القدر، فقال: «التمسها في ليلة إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين»[2].

والسؤال هنا، ما سرّ اختفاء الليلة بين الليالي الثلاث هذه؟

يمكن القول: إنّ سرّ ذلك يكمن في أن يتوجّه الناس للاهتمام بإحياء هذه الليالي، واغتنام أكبر قدر كافٍ من الوقت وساعات ليالي شهر رمضان المبارك بالدعاء والتضرّع إلى الله سبحانه.

إنّ هذه الليلة المباركة فرصة ثمينة لا ينبغي للمؤمن تضييعها، فلا بدّ من استغلال وقتها في ما يرضي الله تعالى، من قراءة للقرآن الكريم، ودعاء، وصلوات، بل ومطالعة الكتب العلميّة والمفيدة؛ فإنّ ذلك كلّه ممّا يقع في مرضاة الله سبحانه، ولا بدّ هنا من الإشارة إلى كون إحياء الليلة هذه يكون باليقظة حتّى طلوع فجرها.

 

 


[1]  الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام)، إيران - قمّ، 1414ه، ط2، ج10، ص358.

[2]  المصدر نفسه، ج10، ص472.

 

110


104

الموعظة التاسعة عشرة: الاعتكاف، فضله وحكمته

الموعظة التاسعة عشرة: الاعتكاف، فضله وحكمته

محاور الموعظة

محطّة لاستعادة النشاط المعنويّ
فضل الاعتكاف
أفضل أوقات الاعتكاف
شروط الاعتكاف
توصيات للمعتكفين والقيّمين على الاعتكاف

هدف الموعظة

حثّ المؤمنين على سنّة الاعتكاف، من خلال بيان فضله وأهمّيّته.

تصدير الموعظة

﴿وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَة لِّلنَّاسِ وَأَمۡنا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّىۖ وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ﴾[1].

 


[1] سورة البقرة، الآية 125.

 

111


105

الموعظة التاسعة عشرة: الاعتكاف، فضله وحكمته

فضل الاعتكاف

ورد العديد من الأحاديث الشريفة ما يدلّ على فضل الاعتكاف وأهمّيّته، منها:

1. عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «اعتكاف العشر الأواخر من شهر رمضان يعدل حجّتين وعمرتين»[1].

2. وعنه (صلى الله عليه وآله) كذلك: «اعتكاف عشر في شهر رمضان يعدل حجّتين وعمرتين»[2].

3. وقد ورد في سيرته (صلى الله عليه وآله) أنّه عمل بهذه السنّة وداوم عليها، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) إذا دخل العشر الأواخر، ضُربت له قبّة شعر»[3].

4. بل ونجد حرصه (صلى الله عليه وآله) بعدم فوات هذا العمل، وإن فات عنه فإنّه يعمد إلى قضائه، فعن الإمام الرضا (عليه السلام): «كانت بدر في رمضان، فلم يعتكف النبيّ (صلى الله عليه وآله) فلمّا كان من قابل، اعتكف عشرين يوماً من رمضان، عشراً لعامهِ، وعشراً قضاءً لما فاته»[4].

5. وممّا جاء في اعتكافه (صلى الله عليه وآله)، أنّه قام أوّل ليلة من العشر الأواخر من شهر رمضان، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: «أيّها الناس، قد كفاكم اللّه عدوّكم من الجنّ والإنس، ووعدكم الإجابة، فقال: 

 

 


[1] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج2، ص188.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج94، ص130.

[3]  الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج‏7، ص462.

[4] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج2، ص184.

 

113

 


106

الموعظة الثامنة عشرة: ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر

﴿ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ﴾[1] ألا وقد وكّل اللّه تعالى بكلّ شيطان مريد، سبعة أملاك، فليس بمحلول حتّى ينقضيَ شهركم هذا. ألا وأبواب السماء مفتّحة من أوّل ليلة منه إلى آخر ليلة منه. ألا والدعاء فيه مقبول»، ثمّ شمَّر (صلى الله عليه وآله) وشدَّ مئزره، وبرز من بيته واعتكفهنّ، وأحيا الليل كلّه وكان يغتسل كلّ ليلة بين العشاءين[2].

أفضل أوقات الاعتكاف

يصحّ الاعتكاف في كلّ وقت يصحّ فيه الصوم، وأفضله شهر رمضان المبارك، وأفضله العشر الأواخر منه كما جاء في السُنّة المباركة لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله).

شروط الاعتكاف

ولا بدّ أن نذكر الشروط التي ذكرها الفقهاء في صحّة الاعتكاف، وها إنّنا نذكرها هنا باختصار:

الأوّل: العقل

فلا يصحّ من المجنون، ولا من السكران وأمثالهما.

وإنّ البلوغ في الاعتكاف ليس شرطاً في صحّته، فلو اعتكف الصبيّ المميّز صحّ منه.

 

 


[1] سورة غافر، الآية 60.

[2] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج7، ص560.

 

114


107

الموعظة التاسعة عشرة: الاعتكاف، فضله وحكمته

الثاني: النيّة

ويعتبر فيها القربة والإخلاص كسائر العبادات الأخرى، ولا يعتبر فيها التلفّظ.

الثالث: الصوم

فلا يصحّ الاعتكاف من دون الصوم، ويكفي في الصوم مطلقه، واجباً كان أم مندوباً، عن نفسه أم عن غيره.

الرابع: أن لا يقلّ عن ثلاثة أيّام متتالية

أن لا يقلّ عن ثلاثة أيّام بلياليها المتوسّطة، ويجوز أزيد من ذلك، إذ لا حدّ لأكثره. نعم، القاعدة هي: وجوب ثالث لكلّ يومين، فإذا اعتكف يومين وجب الثالث، ولا إشكال في أن يزيد على الثلاثة أيّام (حتّى لو يوماً واحداً أو ليلةً واحدة)، وليس له حدٌّ معيّن، لكن بعد كلّ يومين يجب اعتكاف اليوم الثالث. وتُحتَسب أيّام الاعتكاف الثلاثة من طلوع فجر اليوم الأوّل إلى المغرب من اليوم الثالث.

الخامس: الحضور في مسجد واحد

الاعتكاف في أحد المساجد الأربعة (المسجد الحرام، ومسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ومسجد الكوفة، ومسجد البصرة) أكثر فضيلةً، ولكن يجوز الاعتكاف في كلّ مسجدٍ جامع. أمّا المساجد غير الجامعة التي تُقام فيها الجماعة، ولها إمام عادل، فيصحّ فيها الاعتكاف أيضاً بقصد الرجاء.

السادس: الإذن

يعتبر في صحّة الاعتكاف إذن من يعتبر إذنه بالنسبة إلى المعتكف، وهم:

 

115


108

الموعظة التاسعة عشرة: الاعتكاف، فضله وحكمته

1. الزوجة، تحتاج إلى إذن زوجها إذا كان الاعتكاف منافياً لحقّه على الأحوط وجوباً.

2. الولد، يحتاج إلى إذن والديه إذا كان اعتكافه مستلزماً لإيذائهما.

السابع: استدامة اللبث في المسجد

فلو خرج اختياراً من دون سبب مجوّز للخروج بطل اعتكافه، بلا فرق بين العالم بالحكم والجاهل به.

إذا خرج من المسجد ناسياً أو مكرهاً أو لأمرٍ ضروريٍّ عقلاً أو عرفاً أو شرعاً، سواء أكان واجباً أم مستحبّاً، دنيويّاً أم أخرويّاً، لا يبطل اعتكافه.

توصيات للمعتكفين

إنّ من أراد أداء هذه السنّة الطيّبة، فمن الجميل أن يتقيّد ببعض النصائح التي تساعد على نيل النتائج المرجوّة منها، لذا نذكر بعض التوصيات:

1. اغتنام الوقت قدر الإمكان بالعبادة والطاعة.

2. الابتعاد عن المباهاة والمراء والجدال.

3. الابتعاد عن الجلسات التي تلهي عن ذكر الله، والتي قد توقع المعتكف بالحرام، كالغيبة وما شاكل ذلك.

4. الاهتمام بالقرآن الكريم والصحيفة السجّاديّة.

 

116


109

الموعظة العشرون: فزتُ وربِّ الكعبة

الموعظة العشرون: فزتُ وربِّ الكعبة

محاور الموعظة

إباؤه وشهامته
صدقه وإخلاصه
زُهده
عدم تكلّفه
ضربة بضربة

هدف الموعظة

بيان بعضٍ من صفات أمير المؤمنين (عليه السلام)، لحثّ المؤمنين على انتهاج خطّه (عليه السلام).

تصدير الموعظة

رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا عمّار، إذا رأيتَ عليّاً سلك وادياً، وسلك الناسُ وادياً غيرَه، فاسلُك مع عليٍّ ودعِ الناس؛ إنّه لن يُدَلِّيَك في ردىً، ولن يخرجَك من الهدى»[1].

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج38، ص32.

 

117


110

الموعظة العشرون: فزتُ وربِّ الكعبة

هو رجلٌ عاش لله تعالى، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، يحبّ فيه، ويبغض فيه، أوّل الناس إسلاماً، وأعظمهم جهاداً، قسيم الجنّة والنار، فيه يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ لِأَخِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَضَائِلَ لَا يُحْصِي عَدَدَهَا غَيْرُهُ، فَمَنْ ذَكَرَ فَضِيلَةً مِنْ فَضَائِلِهِ، مُقِرّاً بِهَا، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّر»[1].

وإنّ انتماءَنا لأمير المؤمنين (عليه السلام) وولايتَنا له، يفرضان علينا أن نقتديَ به، ونهتديَ بهديه، ونترجمَ حبَّنا له ومودَّتَنا في سلوكنا وأفعالنا. ولو أردنا الإضاءة على جوانب شخصيّته المباركة كلّها لطال بنا المقام، لكن نقتصر على الآتي:

إباؤه وشهامته

لقد كان أبيّاً يترفّع عن فعل ما يقترفه الجاهلون، فلم يكن يردّ على الذين يواجهونه بالسبّ والشتيمة، بل كان يوصي أصحابه ألّا يفعلوا مثل ما يفعل أعداؤه ممّن كانوا يشتمونه على المنابر كرهاً وحقداً، قائلاً لهم: «إِنِّي أَكْرَه لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، ولَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ، كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ: اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا ودِمَاءَهُمْ، وأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وبَيْنِهِمْ، واهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَه، ويَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ والْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِه»[2].

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص201.

[2]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص323، الخطبة 206.

 

118


111

الموعظة العشرون: فزتُ وربِّ الكعبة

صدقه وإخلاصه

إنّ شدّة التزامه (عليه السلام) بمبادئ الإسلام الحنيف والحقّ، دفعته إلى ألّا يداهن أحداً على حساب تلك المبادئ، حتّى عُيّر من بعض الجهلة بأنّه لم يكن يعرف بالسياسة، وهذا منهم جهل مطبق بفكر الإمام وسيرته وسلوكه، وهو الذي ترك لنا بمواقفه تلك عبراً ودروساً لا ينبغي لمؤمنٍ إلّا أن يتّخذها دستوراً له في حياته ليحفظ بذلك دينه وإنسانيّته، فمثل هؤلاء كانوا يقدّمون السياسة على تلك المُثل، على قاعدة «الغاية تبرّر الوسيلة».

وفي مقولته الشهيرة بعد حيلة معاوية بن أبي سفيان: «واللَّه مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي، ولَكِنَّه يَغْدِرُ ويَفْجُرُ، ولَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ»[1]، تأكيدٌ واضح على السياسة التي كان يتّبعها، فلم يكن يغلّب المصالح الآنيّة والضيّقة على المبادئ الأخلاقيّة التي لا ينبغي التنازل عنها قيد أنملة.

وفي حقيقة الإيمان يقول (عليه السلام) مبيّناً هذا المفهوم: «الإِيمَانُ أَنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ، عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ»[2].

زُهده

إنّ من أبرز الصفات التي اتّصف وعُرِف بها (عليه السلام)، صفة الزهد، ويعني عدم التعلّق بأمور الدنيا ومادّيّاتها، وترك الارتباط بها، من زينة وزخرفة ومأكل وملبس ومسكن، فقد كان بسيطاً في عيشه أيّما

 

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص318، الخطبة 200.

[2] المصدر نفسه، ص556، الحكمة 458.

 

119


112

الموعظة العشرون: فزتُ وربِّ الكعبة

بساطة، يخصف نعله ويأكل الشعير ويطحنه بيديه الكريمتين، ويأكل من الخبز اليابس.

روى هارون بن عنترة عن أبيه، قال: دخلتُ على عليّ بالخورنق، وكان فصل شتاء، وعليه خَلَقُ[1] قَطِيفة[2]، هو يرعد فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيباً، وأنت تفعل ذلك بنفسك؟! فقال: «والله ما أرزؤكم شيئاً، وما هي إلّا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة»[3].

وأتاه أحدهم بطعام نفيس حلو، يُقال له: الفالوذج، فلم يأكله عليّ، ونظر إليه يقول: «والله إنّك لطيّب الريح حسن اللون طيّب الطعم، ولكن أكره أن أُعوّد نفسي ما لم تعتد»[4].

والمشهور أنّه كان يأبى أن يسكن قصر الإمارة الذي كان مُعدّاً له بالكوفة، لئلّا يرفع سكنه عن سكن أُولئك الفقراء الكثيرين الذين يقيمون في خِصاصهم البائسة، ومن كلامه هذا القول الذي انبثق عن أسلوبه في العيش: «أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِه الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ؟!»[5].

 


[1]  الخَلَق: البالي من الثياب والجلد.

[2]  كساءٌ له أَهداب.

[3]  ابن الأثير، عز الدين عليّ بن أبي الكرم محمّد الشيبانيّ، الكامل في التاريخ، دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، 1386هـ - 1966م، لا.ط، ج3، ص400.

[4]  المتّقي الهنديّّ، كنز العمال، مصدر سابق، ج13، ص184.

[5]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص418، الكتاب 45.

 

120


113

الموعظة العشرون: فزتُ وربِّ الكعبة

عدم تكلّفه

إنّ من السمات التي اتّسمت بها شخصيّة الإمام (عليه السلام) البساطة وعدم التكلّف، فلم يكن يُشعِر الآخرين بضرورة التكلّف له، وكان يقول: «شَرُّ الإِخْوَانِ مَنْ تُكُلِّفَ لَه»[1]، ويقول: «إِذَا احْتَشَمَ[2] الْمُؤْمِنُ أَخَاه فَقَدْ فَارَقَه»[3].

والنهي عن التكلّف يشمل ما كان مرتبطاً بالأفعال والأقوال، ومن ذلك التملّق والمبالغة في الحبّ وغير ذلك، ومن ذلك ما حدث مع بعض من غالوا به(عليه السلام)، وقد قال: «هَلَكَ فِيَّ رَجُلَانِ: مُحِبٌّ غَالٍ ومُبْغِضٌ قَالٍ»[4].

ضربة بضربة

إنّ في الموقف الذي اتّخذه أمير المؤمنين (عليه السلام) بعدما ضربه ذاك الشقيّ على رأسه الشريف درسٌ عظيمٌ لنا، إذ يُحذّر أرحامه في حال شهادته بهذه الضربة، يقول: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا لَا تَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي. انْظُرُوا، إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِه هَذِه، فَاضْرِبُوه ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ، ولَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِيَّاكُمْ والْمُثْلَةَ! ولَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ»[5].

 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص559، الحكمة 479.

[2]  أي التكلّف.

[3]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص559، الحكمة 480.

[4]  المصدر نفسه، ص489، مصدر سابق، الحكمة 117.

[5]  المصدر نفسه، ص422، الكتاب 47.

 

121


114

الموعظة العشرون: فزتُ وربِّ الكعبة

وهذا في الواقع ينسجم بشكل تامّ مع مبادئه الرفيعة في أن يؤخذ حقّ المظلوم، ولكن أن يكون ذلك بحدوده الشرعيّة التي شرّعها الله تعالى.

فهو من جهة يؤكّد ضرورة الاقتصاص من القاتل، ومن جهة أخرى يحذّر من تعدّي حدود الله في الاقتصاص منه.

وهذا ليس غريباً عنه (عليه السلام)، وهو الذي سار في حياته كلّها ملازماً للحقّ والعدل، بصغائر الأمور وكبائرها.

فسلامٌ عليه يوم وُلِد، ويوم استشهد، ويوم يُبعَث حيّاً.

 

122


115

الموعظة الحادية والعشرون: نحن مُوَدِّعوه

الموعظة الحادية والعشرون: نحن مُوَدِّعوه

محاور الموعظة

نحن مُوَدِّعوه
لا ينقضي الشهر بانتهائه
سيرة أهل العصمة (عليهم السلام) في العشر الأواخر

هدف الموعظة

حثّ المكلَّفين على حسن الوداع باغتنام الأيّام الأواخر من شهر رمضان المبارك.

تصدير الموعظة

«اللَّهُمَّ، وَمَا أَلْمَمْنَا بِهِ فِي شَهْرِنَا هَذَا مِنْ لَمَم أَوْ إثْم، أَوْ وَاقَعْنَا فِيهِ مِنْ ذَنْبِ وَاكْتَسَبْنَا فِيهِ مِنْ خَطِيئَة عَلَى تَعَمُّد مِنَّا، أَوِ انْتَهَكْنَا بِهِ حُرْمَةً مِنْ غَيْرِنَا، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاسْتُرْنَا بِسِتْرِكَ، وَاعْفُ عَنَّا بِعَفْوِكَ، وَلاَ تَنْصِبْنَا فِيهِ لأعْيُنِ الشَّامِتِينَ، وَلاَ تَبْسُطْ عَلَيْنَا فِيهِ أَلْسُنَ الطَّاغِينَ، وَاسْتَعْمِلْنَا بِمَا يَكُونُ حِطَّةً وَكَفَّارَةً لِمَا أَنْكَرْتَ مِنَّا فِيهِ بِرَأْفَتِكَ الَّتِي لاَ تَنْفَدُ، وَفَضْلِكَ الَّذِي لا يَنْقُصُ»[1].

 

 


[1]  الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق، ص202، الدعاء 45.

 

123


116

الموعظة الحادية والعشرون: نحن مُوَدِّعوه

نحن مُوَدِّعوه

أيّامٌ قليلة تفصلنا عن وداع شهر رمضان المبارك، هذا الشهر الذي جاءنا بموائده الكريمة، لننهل منها ما يقرّبنا إلى الله تعالى، فنستغفره ونتوب إليه من خطايانا وذنوبنا، وقد وعدنا الإجابة فيه، وفتح لنا باب توبته وغفرانه.

والمفلح هو ذاك الذي استغلّ هذه الأيّام، ودأب للتقرّب إلى الباري سبحانه وتعالى بكلّ جدٍّ ونشاط، فتلا كتابَ الله، وفعل الحسنى، وأطعم مؤمناً، وقضى حاجةَ أخٍ له في الإيمان، ووصل رحمَه، وأعان يتيماً، وأصلح ذاتَ البين، وأحسن الجوار...

أمّا الشقيّ، فهو من كانت مائدة الرحمن أمامه، فتقاعس وزهد بما لا ينبغي الزهد فيه، فتسلّطت عليه الشياطين، وكان فريستها في ذنب هنا ومعصية هناك.

إنّ أهل بيت العصمة الأطهار (عليهم السلام)، قد أولوا اهتماماً كبيراً لوداع شهر رمضان، فتحدّثوا عنه وكأنّما عزيز عليهم يريد الرحيل، فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعائه في وداع شهر رمضان: «فَنَحْنُ مُوَدِّعُوه وِدَاعَ مَنْ عَزَّ فِرَاقُه عَلَيْنَا، وغَمَّنَا وأَوْحَشَنَا انْصِرَافُه عَنَّا، ولَزِمَنَا لَه الذِّمَامُ الْمَحْفُوظُ، والْحُرْمَةُ الْمَرْعِيَّةُ، والْحَقُّ الْمَقْضِيُّ»[1].

ويقول (عليه السلام) مخاطباً الشهر المبارك: «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ اللَّه الأَكْبَرَ، ويَا عِيدَ أَوْلِيَائِه، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَكْرَمَ مَصْحُوبٍ مِنَ الأَوْقَاتِ، ويَا خَيْرَ شَهْرٍ فِي الأَيَّامِ والسَّاعَاتِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ قَرُبَتْ فِيه

 

 


[1] الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق، ص198، الدعاء 45.

 

124


117

الموعظة الحادية والعشرون: نحن مُوَدِّعوه

الآمَالُ، ونُشِرَتْ فِيه الأَعْمَالُ... السَّلَامُ عَلَيْكَ مَا أَكْثَرَ عُتَقَاءَ اللَّه فِيكَ! ومَا أَسْعَدَ مَنْ رَعَى حُرْمَتَكَ بِكَ!»[1].

وإن دلّ هذا على شيء، فإنّما يدلّ على تلك المكانة التي كان يحتلّها هذا الشهر المبارك في قلوبهم المطهّرة، فدعوا الله تعالى، وخصّصوا لذلك أدعية، هي كجرس إنذارٍ لنا نحن المقصّرين، عسى أن توقظنا، لنرمّم ما قصّرنا به خلال أيّامه المباركة، ذلك أنّ أبواب رحمته تعالى ما زالت مُفتّحة لم تُغلق، وهذا ما وعدنا به رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ قال في خطبة استقبال الشهر الكريم: «إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مُفتّحة»[2].

سيرة أهل العصمة (عليهم السلام) في العشر الأواخر

ويُستفاد من الروايات التي تحكي سيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وآله الأطهار (عليهم السلام) في العشر الأواخر من شهر رمضان، أنّهم كانوا يُكثرون من العبادة وتلاوة القرآن، علاوةً على عباداتهم في ما مضى من شهر رمضان. فالعشر الأواخر ليست أيّام تعبٍ وإرهاق بانتظار انتهاء شهر الله، والتخلّص من فريضة شاقّةٍ كما يتصوّر بعضهم، بل على العكس من ذلك، هي أيّام وليالي عبادة خاصّة، يجب اغتنامها والاستفادة منها أكثر، اقتداءً بأهل العصمة (عليهم السلام).

 


[1]  الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق، ص198، الدعاء 45.

[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص155.

 

125


118

الموعظة الحادية والعشرون: نحن مُوَدِّعوه

رُوي أنّ النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) إذا دخل العشر الأواخر، شدَّ المئزر واجتنب النساء وأحيا الليالي وتفرّغ للعبادة[1]. وفي رواية أنّه (صلى الله عليه وآله) كان إذا دخلت العشر الأواخر من شهر رمضان، اعتكف في المسجد، وضُربَت له قبّة من شعر، وشمّر المئزر، وطوى فراشه.

وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يحثّ أصحابه في العشر الأواخر على تكرار دعاء «أعوذ بجلال وجهك الكريم...»[2]. وفي رواية كان (عليه السلام) يقول في كلّ ليلة من العشر الأواخر بعد الفرائض والنوافل: «اللهمّ، أدِّ عنّا حقّ شهر رمضان...»[3]. وفي ثالثة كان (عليه السلام) يقول في كلّ ليلة من العشر الأواخر: «اللهمّ، إنّك قُلت في كتابك...»[4].

وكان (عليه السلام) يبادر أصحابه بالسؤال عن أداء مستحبّات العشر الأواخر من غُسلٍ أو عبادةٍ، كما فعل مع حمّاد بن عثمان عندما دخل عليه في ليلة واحد وعشرين[5].

لا ينقضي الشهر بانتهائه

إنّ الله تعالى قد وضع لشهر رمضان حكمة وغاية، بيّنها في قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾[6].

 


[1]  الشيخ الصّدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج2، ص100.

[2]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص160.

[3]  القمّيّ، الشيخ عبّاس، مفاتيح الجنان، تعريب السيّد محمّد رضا النوريّ النجفيّ، مكتبة العزيزي، إيران - قمّ، 1385ش - 2006م، ط3، ص360.

[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص165.

[5]  السيّد ابن طاووس، الإقبال بالأعمال الحسنة، مصدر سابق، ج1، ص366.

[6]  سورة البقرة، الآية 183.

 

126


119

الموعظة الحادية والعشرون: نحن مُوَدِّعوه

فالتقوى، التي كانت الحكمة البالغة من صيام شهر رمضان، لا ينبغي أن تنتهي بانتهائه، إنّما تستمرّ إلى ما بعده من أيّام وشهور، وبذلك يكون المرء قد حقّق المراد والمبتغى.

وقد عرّف الإمام الصادق (عليه السلام) التقوى بقوله: «أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك»[1].

وفي القرآن الكريم آيات عديدة تبيّن صفات المتّقين:

قال سبحانه: ﴿وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَة مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ ١٣٣ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾[2].

وقال: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾[3].

وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَبِٱلۡأَسۡحَارِ هُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ ١٨ وَفِيٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ حَقّ لِّلسَّآئِلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ﴾[4].

وقال: ﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰت وَعُيُونٍ ١٥ ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَبۡلَ ذَٰلِكَ مُحۡسِنِينَ ١٦ كَانُواْ قَلِيلا مِّنَ ٱلَّيۡلِ مَا يَهۡجَعُونَ﴾[5].

 

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص285.

[2] سورة آل عمران، الآيتان 133- 134.

[3]  سورة آل عمران، الآية 135.

[4]  سورة الذاريات، الآيتان 18 - 19.

[5] سورة الذاريات، الآيات 15 - 17.

 

127


120

الموعظة الثانية والعشرون: خطوات الشيطان في التسلُّط على الإنسان

الموعظة الثانية والعشرون: خطوات الشيطان في التسلُّط على الإنسان

 

محاور الموعظة

مراحل تسلُّط الشيطان على الإنسان
ما يساعد الشيطان على الإنسان

هدف الموعظة

تحذير المكلّف من خطوات الشيطان في التسلُّط عليه.

تصدير الموعظة

الإمام الصادق (عليه السلام): «يَا عَبْدَ اللَّه، لَقَدْ نَصَبَ إِبْلِيسُ حَبَائِلَهُ فِي دَارِ الْغُرُورِ، فَمَا يَقْصِدُ فِيهَا إِلّا أَوْلِيَاءَنَا. وَلَقَدْ جَلَّتِ الْآخِرَةُ فِي أَعْيُنِهِمْ، حَتَّى مَا يُرِيدُونَ بِهَا بَدَلاً»[1].

 

 


[1]  ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص301.

 

128


121

الموعظة الثانية والعشرون: خطوات الشيطان في التسلُّط على الإنسان

مراحل تسلُّط الشيطان على الإنسان

قال تعالى: ﴿وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنا فَهُوَ لَهُۥ قَرِين ٣٦ وَإِنَّهُمۡ لَيَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ﴾[1]. وسياسة الشيطان سياسة الخطوات؛ ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ حَلَٰلا طَيِّبا وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّ مُّبِينٌ﴾[2]. فَالمراحل التي يقطعها الشيطان للوصول إلى هدفه عن طريق التغرير بالناس هي:

1. الإلقاء والوسوسة: ﴿فَوَسۡوَسَ إِلَيۡهِ ٱلشَّيۡطَٰنُ﴾[3]. والوسوسةُ الصوت المنخفض جدّاً، وقد قِيلَتْ لِخطورِ الأفكار السافلة والسيّئة التي تنبع مِن داخل الإنسان أو مِن خارجة[4].

2. المسّ المباشر: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِف مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ﴾[5]. والطائف ما يَدور حول الشيء، فكأنّ وساوس الشيطان تَدور حول فِكر الإنسان وروحه لِتَجد لها منفذاً، فإذا تذكّرَ -في مثل هذه الحال- ربَّه واستعاذ مِن وساوس الشيطان أبعدها عنه، وإلّا أذعنَ لها وانقاد وراء الشيطان[6].

3. النفوذُ إلى القلب: ﴿ٱلَّذِي يُوَسۡوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ﴾[7]. وشَرُّ الوسواس الخنّاس وَسوَسةُ ذي الصفة الشيطانيّة الذي يهرب ويختفي

 

 


[1]  سورة الزخرف، الآيتان 36 - 37.

[2]  سورة البقرة، الآية 168.

[3] سورة طه، الآية 120.

[4]  الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج10، ص94.

[5]  سورة الأعراف، الآية 201.

[6]  الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج5، ص342.

[7] سورة الناس، الآية 5.

 

129


122

الموعظة الثانية والعشرون: خطوات الشيطان في التسلُّط على الإنسان

مِن ذِكر اسم الله، فالشياطين يمزجون أعمالهم دائماً بالتستُّر، وَيَرمون إلقاءاتهم في الإنسان بطريقة خفيّة، حتّى يخال أنّها مِن بَنات أفكاره؛ ما يؤدّي إلى ضلاله وغوايته[1].

4. البقاء في الباطن والروح: ﴿وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنا فَهُوَ لَهُۥ قَرِين﴾[2]. إنّ الغفلة عن ذِكر الله، والغَرق في ملذّات الدنيا، والانبهار بزخارفها ومغرياتها، يؤدّي إلى تسلُّط الشيطان على الإنسان، فَيكون له قريناً دائماً، ويُلقي لجاماً حول رقبته يشدّه به ويجرّه إلى حيثُ شاء[3].

5. الانضمام إلى حزب الشيطان: ﴿ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ﴾[4]، فَلا يكون مُنحرفاً وَحسب، بل في زمرة الشيطان وحزبه وجيشه، مِن أنصاره في إضلال الآخرين[5].

6. اتّخاذ الشيطان وليّاً: ﴿وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيۡطَٰنَ وَلِيّا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانا مُّبِينا﴾[6]، ومَن كان الشيطان له قائداً فَهو مِن القوم الخاسرين في الدنيا والآخرة[7].

 


[1] الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج20، ص584.

[2]  سورة الزخرف، الآية 36.

[3]  المصدر نفسه، ج16، ص55.

[4]  سورة المجادلة، الآية 19.

[5] المصدر نفسه، ج18، ص147.

[6]  سورة النساء، الآية 119.

[7]  مغنيّة، الشيخ محمّد جواد، التفسير المبين، مؤسّسة دار الكتاب الإسلامي، لا.م، 1403هـ - 1983م، ط2، ص123.

 

130


123

الموعظة الثانية والعشرون: خطوات الشيطان في التسلُّط على الإنسان

7. تحوُّل الإنسان شيطاناً: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ﴾[1]، عن طريق وحي شياطين الجنّ بالوسوسة والنزغة إلى شياطين الإنس، ووحي بعض شياطين الإنس إلى بعضهم الآخر بأسرار المكر والتسويل[2].

ما يساعد الشيطان على الإنسان

ثمّة أمور عديدة تساعد الشيطان على الإنسان، منها:

1. مجالسة أهل الهوى: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَاعْلَمُوا أَنَّ يَسِيرَ الرِيَاءِ شِرْكٌ، وَمُجَالَسَةَ أَهْلِ الْهَوَى مَنْسَاةٌ لِلْإِيمَانِ ومحضرةٌ للشيطان»[3].

2. الافتراق عن جماعة أهل الحقّ: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَمَنْ رَمَى بِهِ الشَّيْطَانُ مَرَامِيَهُ وَضَرَبَ بِهِ تِيهَهُ، وَسَيَهْلِكُ فِيَّ صِنْفَانِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْحُبُّ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ، وَمُبْغِضٌ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْبُغْضُ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ، وَخَيْرُ النَّاسِ فِيَّ حَالاً النَّمَطُ الْأَوْسَطُ، فَالْزَمُوهُ وَالْزَمُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ [عَلَى‏] مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّيْطَانِ كَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ»[4].

3. الظلم والكِبر: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَاللَّهَ اللَّهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ وَآجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ وَسُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ، فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ

 


[1]  سورة الأنعام، الآية 112.

[2] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج7، ص321.

[3]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص117، الخطبة 86.

[4] المصدر نفسه، ص184، الخطبة 127.

 

131


124

الموعظة الثانية والعشرون: خطوات الشيطان في التسلُّط على الإنسان

الْعُظْمَى وَمَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ»[1].

4. الانشغال بِعيوب الغير عن عيوب النفس: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ نَفْسِهِ، تَحَيَّرَ فِي الظُلُمَاتِ، وَارْتَبَكَ فِي الْهَلَكَاتِ، وَمَدَّتْ بِهِ شَيَاطِينُهُ فِي طُغْيَانِهِ، وَزَيَّنَتْ لَهُ سَيِّء أَعْمَالِهِ»[2].

5. الوقوع في الفتنة: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلصَ مِنْ لبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ، فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَيَنْجُو الَذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنى»[3].

6. الإعجاب بالنفس وحبّ المدح: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَإِيَّاكَ والْإِعْجَاب بِنَفْسِكَ وَالثِقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وَحُبَّ الْإِطْرَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَيْطَانِ فِي نَفْسِهِ، لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ»[4].

7. الشكّ: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَمَنْ تَرَدَّدَ فِي الرَيْبِ، وَطِئَتْهُ سَنَابِكُ الشَّيَاطِينِ»[5].

 

 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص294، الخطبة 192.

[2]  المصدر نفسه، ص221، الخطبة 157.

[3]  المصدر نفسه، ص88، الخطبة 50.

[4]  المصدر نفسه، ص443، الكتاب 53.

[5]  المصدر نفسه، ص474، الحكمة 31.

 

132


125

الموعظة الثانية والعشرون: خطوات الشيطان في التسلُّط على الإنسان

8. الغضب: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَاحْذَرِ الْغَضَبَ، فَإِنَّهُ جُنْدٌ عَظِيمٌ مِنْ جُنُودِ إِبْلِيسَ»[1]، فَالغضب نار تشتعل في الإنسان فَتطغى على العقل حتّى يقع بالمفسدة والضرر.

9. حُبّ المال والترف: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابٍ له إلى معاوية: «فَإِنَّكَ مُتْرَفٌ، قَدْ أَخَذَ الشَّيْطَانُ مِنْكَ مَأْخَذَهُ، وَبَلَغَ فِيكَ أَمَلَهُ، وَجَرَى مِنْكَ مَجْرَى الرُّوحِ وَالدَّمِ»[2].

10. الحسد والعداوة: قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ﴾[3]، وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «يقول إبليس لجنوده: ألقوا بينهم الحسد والبغي، فإنّهما يعدلان عند الله الشرك»[4].

 

 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص460، الكتاب 69.

[2] المصدر نفسه، ص370، الكتاب 10.

[3]  سورة المائدة، الآية 91.

[4]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج72، ص278.

 

133


126

الموعظة الثالثة والعشرون: المراقبة والمحاسبة

الموعظة الثالثة والعشرون: المراقبة والمحاسبة

محاور الموعظة

المراقبة
المحاسبة
لِماذا نحاسب أنفسنا؟

هدف الموعظة

بيان لِماذا نحاسب أنفسنا، وتعرّف أهمّيّة المراقبة والمحاسبة.

تصدير الموعظة

الإمام الصادق (عليه السلام) في وصيّته: «يَابْنَ جُنْدَب، حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَعْرِفُنَا أَنْ يَعْرِضَ عَمَلَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُون مُحَاسِبَ نَفْسِه، فَإِنْ رَأَى حَسَنَةً اِسْتَزَادَ مِنْهَا وَإِنْ رَأَى سَيِّئَةً اسْتَغْفَرَ مِنْهَا، لِئَلاَّ يَخْزَى يَوْمَ اَلْقِيامَةِ»[1].

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص279.

 

134


127

الموعظة الثالثة والعشرون: المراقبة والمحاسبة

إذا أدرك الإنسان أنّه في محضر الله، فلا بُدّ له مِن مراقبة أعماله والانتباه إلى تصرّفاته مِن جهة، ومحاسبة نفسه باستمرارٍ مِن جهةٍ أخرى. فَالمراقبة الدائمة والحساب المستمرّ يوصِلان الإنسان إلى المكان الذي لا يَنظر فيه إلّا إلى الله. ويُبيّن القرآن الكريم هذَيْن الأصلَيْن بِقَوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡس مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾[1]. وتدعو هذه الآية إلى أصلَيْن أخلاقيَّيْن؛ الأوّل المراقبة، والثاني المحاسبة. فَكلّ إنسانٍ مُكلَّفٌ بمراقبة نفسه ومحاسبتها؛ فإن عمِلتْ خيراً شكرَ الله، وإن عمِلتْ سوءاً استغفر الله وتاب إليه.

المراقبة

على الإنسان أن يُراقب كلامه وفِعله ونظره وغيرها لِكَيْلا يقعَ في ما لا يُرضي الله ويخالف أمره، فالله ﴿يَعۡلَمُ خَآئِنَةَ ٱلۡأَعۡيُنِ وَمَا تُخۡفِي ٱلصُّدُورُ﴾[2] و﴿مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيد﴾[3]، فَيُسجّل كلّ شيء؛ ﴿وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَام مُّبِين﴾[4]. فَمَن يُراقب نفسه باستمرار سيحرص على ألّا يرتكب أيّة مخالفة؛ قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له: «فَرَحِمَ اَللَّهُ مَنْ رَاقَبَ رَبَّه، وَخَافَ ذَنْبَهُ، وَجَانَبَ هَوَاهُ، وَعَمِلَ لآِخِرَتِه، وَأَعْرَضَ عَنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ

 


[1]  سورة الحشر، الآية 18.

[2] سورة غافر، الآية 19.

[3]  سورة ق، الآية 18.

[4]  سورة يس، الآية 12.

 

 

134


128

الموعظة الثالثة والعشرون: المراقبة والمحاسبة

الدُنْيَا»[1]، وقال الإمام الصادق (عليه السلام) في وصيّته: «واقصِد فِي مَشْيِكَ، وَرَاقِبِ اللَّهَ فِي كُلِّ خُطْوَةٍ كَأَنَّكَ عَلَى الصرَاطِ جَائِزٌ، وَلاَ تَكُنْ لَفّاتاً»[2].

المحاسبة

يحاسب الإنسان نفسه عن طريق البحث والتدقيق في أعماله، لِيَرى إن كان قد أدّى التكاليف الإلهيّة على أكمل وجه أم لا، فإذا اكتشف أنّه ارتكب ما يخالف أمر ربّه استغفَرَ وأناب إليه نادماً عازماً على ألّا يعود إلى معصيته مُطلقاً، وسعى مباشرة في إصلاح الأمر وجبران ما فات، وإذا اكتشفَ أنه أدّى ما عليه حمدَ الله وشكرَه على ما وَفّقه إليه؛ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بعض خطبه: «أيّها الناس، لا يشغلنّكم دُنياكم عن آخرتكم، فلا تُؤثِروا هواكم على طاعة ربِّكم، ولا تجعلوا أيمانكم ذريعة إلى معاصيكم، وحاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، ومَهّدوا لها قبلَ أن تُعَذّبوا، وتَزَوَّدوا للرحيل قبل أن تُزعَجوا، فإنّها موقِفُ عَدلٍ واقتضاءُ حقٍّ وسؤالٌ عن واجب. وقد أبلغ في الإعذار مَن تَقدّم بالإنذار»[3]، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَوَازِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوَازَنُوا؛ حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ بِأَعْمَالِهَا، وَطَالِبُوهَا بِأَدَاءِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهَا، وَالْأَخْذِ مِنْ فَنَائِهَا لِبَقَائِهَا»[4].

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص18.

[2]  المصدر نفسه، ج73، ص167.

[3]  المصدر نفسه، ج74، ص183.

[4]  الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج12، ص154.

 

136


129

الموعظة الثالثة والعشرون: المراقبة والمحاسبة

لِماذا نحاسب أنفسنا؟ (دوافع محاسبة النفس وعواملها)

أكّد الإمام الصادق (عليه السلام) في وصيّته لعبد الله بن جندب مسألةَ المحاسبة، وبيّنَ أن سببها ودافعها عدم الشعور بِالخزيِ يومَ القيامة. وَمِثل هذا التنبيه يوجِب مراقبة الأعمال لئلّا تؤدّي إلى الخزي والحسرة الأبديّة يوم الحسرة والحساب، مع عدم إمكانيّة التدارك. فَعندما يَعتقد الإنسان بِيوم الحساب، وأنّه سيُحاسَب حتماً، سيندفع إلى محاسبة نفسه قبل وُقوفه ذلك الموقف. وينبغي عليه أن يَعلم أنّ عمله الصالح لُطفٌ من الله تعالى، فعليه -بحسب الروايات- أن يشكره على هذه النعمة، ويَطلب منه التوفيق، بينما عليه أن يُبادر إلى التوبة والاستغفارِ إن قصّر أو أساء.

الخزي يوم القيامة

الخزي هو العذاب والإهانة والفضيحة يوم القيامة. وَالعقلاء وأعزَّة النفس يَخافون مِن الخزيِ أكثر مِن نار جهنّم، فَهُم يتحمّلونَ الأذى والمحن شَرط أن يحافظوا على كرامتهم، إذ إنّ أشدَّ عقوبات الآخرة عليهم الخزي في محضر اللّه وعباده. لذا، حينما دَعا إبراهيم (عليه السلام) لنفسه قال: ﴿وَلَا تُخۡزِنِي يَوۡمَ يُبۡعَثُونَ ٨٧ يَوۡمَ لَا يَنفَعُ مَال وَلَا بَنُونَ ٨٨ إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡب سَلِيم﴾[1]. وتكرّرت لفظة «الخزي» في القرآن الكريم، تعبيراً عن حال المغضوب عليهم في الآخرة، فهي تُطلق على معاني الذلّ والعار والفضيحة وشماتة الأنداد مِن البشر، واحتقار الخالق لهم

 


[1]  الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق،ج3، ص49.

 

137


130

الموعظة الثالثة والعشرون: المراقبة والمحاسبة

وَطردهم نهائيّاً مِن رحمته. فَالمغضوب عليه:

1. حاله كحال أهل النار؛ قال تعالى: ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدۡخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدۡ أَخۡزَيۡتَهُۥۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَار﴾[1].

2. يحادد الله ورسوله؛ قال تعالى: ﴿أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّهُۥ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَأَنَّ لَهُۥ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدا فِيهَاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡخِزۡيُ ٱلۡعَظِيمُ﴾[2].

كيف ننجو مِن الخزي يوم القيامة؟

إنّ أوّلَ خطوة في طريق النجاة التوبةُ والإقلاعُ عن الذنب، خَوفاً مِن الله وإرضاءً له؛ توبةٌ خالصة مِن أيّ هدف آخر، كالخوف مِن الآثار الاجتماعيّة أو الآثار الدنيويّة للذنوب، يُفارق بها الإنسان الذنبَ ويتركه إلى الأبد[3]؛ قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَة نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمۡ سَيِّ‍َٔاتِكُمۡ وَيُدۡخِلَكُمۡ جَنَّٰت تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ يَوۡمَ لَا يُخۡزِي ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥۖ نُورُهُمۡ يَسۡعَىٰ بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَآۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡء قَدِير﴾[4]. إذاً، محاسبة النفس ومراقبة الأعمال هيَ الباب والمدخل الأساس للتوبة وعدم الخزيِ يوم القيامة.

 


[1]  سورة آل عمران، الآية 192.

[2] سورة التوبة، الآية 63.

[3]  الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق،ج18، ص453.

[4] سورة التحريم، الآية 8.

 

 

138


131

الموعظة الرابعة والعشرون: مجاهدة النفس ومقاماتها

الموعظة الرابعة والعشرون: مجاهدة النفس ومقاماتها

محاور الموعظة

خطورة الغفلة
الحساب قبل العقاب
مقامات مجاهدة النفس

هدف الموعظة

تعرّف حقيقة المحاسبة، وشرح المقامات الخمسة لمجاهدة النفس.

تصدير الموعظة

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡس مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدۖ﴾[1].

 


[1] سورة الحشر، الآية 18.

 

139


132

الموعظة الرابعة والعشرون: مجاهدة النفس ومقاماتها

خطورة الغفلة

إنّ الغفلة هي العامل الأخطر في إرباك عمليّة المراقبة والمحاسبة؛ فهي تخدّر الشعور والإحساس الإنسانيّ، وتعطّل حواسّ الإنسان وإدراكاته، فَتُخرجه عن إنسانيّته، وتهبط به إلى درجةٍ أحطّ مِن الأنعام؛ ﴿وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوب لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُن لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَان لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡغَٰفِلُونَ﴾[1]. فَإذا استحكمت به، أنسَتْه خالقه ومُصوّره ورازقه؛ ﴿نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ﴾[2]، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) مُوصِياً تلميذه جابر الجعفيّ: «إيّاك والغفلة، ففيها تكون قساوة القلب. وإيّاكَ والتواني في ما لا عُذرَ لك فيه، فإليهِ يلجأ النادِمون»[3]. والغفلة عن الله تزيد كَدَر القلب، وتُمكّن النفس والشيطان مِن التغلّب على الإنسان، وتوقِعه في المفاسد، في حين أنّ ذِكره تعالى يصقل قلبه ويُكسبه الصفاء ويُخلّصه مِن قيود النفس[4].

وَلِتحقيق المراقبة يجب أن يستحضر الإنسان عَظَمة الله تعالى، ويستشعر رقابته، فإنّ ذلك يكسر جماح النفس وَيُلطّف هواها ويسهّل قيادتها، عن طريق تجنُّب المحرّمات وأداء الواجبات مِن غير تسامُح،

 

 


[1]  سورة الأعراف، الآية 179.

[2]  سورة الحشر، الآية 19.

[3]  ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص285.

[4]  الإمام الخمينيّ (قدس سره)، السيّد روح الله الموسويّ، الكلمات القصار (مواعظ وحكم من كلام الإمام الخميني(قدس سره)، دار الوسيلة، بيروت- لبنان، 1416ه - 1995م، ط1، ص15.

 

140


133

الموعظة الرابعة والعشرون: مجاهدة النفس ومقاماتها

والسعي -بِجهدٍ- في جَعل رضى الله تعالى غايةَ كلّ عمل، وتَذَكُّر أنّ الله تعالى دائم النظر إليه وأنّ نفسه في محضره دائماً.

الحساب قبل العقاب

وإنّ أوّل ما يجب أن يدركه الإنسان ويفكّر فيه أنّه عبد مربوبٌ لا طريق لنجاته إلّا التقوى، وأنّ الله تعالى وضعه في هذا العالم لِيَختبره ويمتحنه؛ فإمّا أن يُطيعه وإمّا أن يعصيه، فَيكون عرضة للنعيم أو العذاب الأبديَّين. وعندما يَعقل سبب خلقه ومَصيره المحتوم، وأنّ أوّل خطوة في إصلاح النفس أن عِلمه بأنّ النفس مربوبة متعبّدة، يُدرك أنّه لا يمكن له النجاة إلّا بِطاعة ربّه ومولاه، عن طريق معرفة أوامره ونواهيه والعمل بناء عليها. فالطاعة، إذاً، طريق النجاة، والمعرفة دليله، وَالأساس في الطاعة الورع، والأساس في الورع التقوى، والأساس في التقوى مُراقبة النفس ومحاسبتها ومراعاة الخوف والرجاء. وما على الإنسان إلّا أن يعمل بِقاعدة «الْحِساب قَبْلَ العِقَاب»[1]، فَمُحاسبة النفس في الدنيا خيرٌ مِن التعرُّض للعقاب في الأخرى.

وكما أنّ للعبد وقت في أوّل النهار يُشارط فيه نفسه على التوصية بالحقّ، يَنبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يُطالب فيها نفسه ويحاسبها على حركاتها وسكناتها كلّها، كما يفعل التجّار في الدنيا مع الشركاء في آخر كلّ سنة أو شهر أو يوم، حِرصاً منهم على الدنيا، وخوفاً مِن أن يَفوتهم منها ما لَو فاتهم لَكان خيراً، ولَو حصل ذلك لهم

 


[1]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص21.

 

141


134

الموعظة الرابعة والعشرون: مجاهدة النفس ومقاماتها

فلا يبقى إلّا أيّاماً قلائل، فَكيف لا يحاسِب العاقل نفسه في ما يتعلَّق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآبدين[1]؟

مقامات مجاهدة النفس

يَقول العلّامة ابن ميثم البحرانيّ: محاسبة النفس ضبط الإنسان على نفسه أعمالها الخيريّة والشرّيّة، لِيُزكّيها بما ينبغي لها، ويعاقبها على فِعل ما لا ينبغي. وهي باب عظيم مِن أبواب المرابطة في سبيل اللَّه، فإنّ للعارفين في سلوك سبيل اللَّه ومرابطتهم مع أنفسهم مقامات خمسة:

1. المشارطة: إذ ينبغي أن تكون حال الإنسان مع نفسه كحاله مع شريكه إذا سلَّم إليه مالاً لِيتاجر به، فالعقل هو التاجر في طريق الآخرة، ومَطلبه وربحه تزكية النفس، إذ بِذلك فلاحها؛ قال تعالى: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾[2].

2. المراقبة عند خوضها في الأعمال: قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ ٣٢ وَٱلَّذِينَ هُم بِشَهَٰدَٰتِهِمۡ قَآئِمُونَ﴾[3].

3. المُحاسبة والمُطالبة بالوفاء بالشرط بعد الفراغ من العمل: إنّ رِبح هذه التجارة هو الفردوس الأعلى، وَتدقيق الحساب فيها أهمّ مِن التدقيق في أرباح الدنيا، لِحَقارتها بالنسبة إلى نعيم الآخرة... وَقد وَرد في الخبر أنَّ للعبد في كلّ يومٍ وليلةٍ أربعاً وعشرين خزانة مَصفوفة، يفتح خزانة فيراها مليئة نوراً مِن حسناته التي عملها في

 

 


[1] الغزاليّ، إحياء علوم الدين، دار الكتاب العربي، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج15، ص25.

[2]  سورة الشمس، الآيتان 9 - 10.

[3]  سورة المعارج، الآيتان 32 - 33.

 

142


135

الموعظة الرابعة والعشرون: مجاهدة النفس ومقاماتها

تلك الساعة، فينال من الفرح والاستبشار بمشاهدة تلك الأنوار ما لو قُسّم على أهل النار لأغناهم عن الإحساس بآلامها، ويفتح خزانة أخرى فيراها سوداء مُظلمة يفوح نَتنها، وهي الساعة التي عصا اللَّه تعالى فيها، فَيَناله مِن الهول والفزع ما لو قُسمّ على أهل الجنّة لَنغّص عليهم نعيمها، ويفتح خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسرّه وما يسوؤه، وهي الساعة التي نام فيها أو غفل في شيء مِن مُباحات الدنيا، فيتحسّر على خلوّها، ويناله مِن الغبن الفاحش ما ينال مَن قَدر على ربح كثير ثمّ ضيّعه؛ ﴿يَوۡمَ يَجۡمَعُكُمۡ لِيَوۡمِ ٱلۡجَمۡعِۖ ذَٰلِكَ يَوۡمُ ٱلتَّغَابُنِۗ﴾[1].

4. المجاهدة والمعاقبة: فإذا رأى نفسه قد تاقَت إلى معصيةٍ عاقبَها بالصبر عن أمثالها، وضَيّقَ عليها في مواردها وما يقود إليها مِن الأمور المباحة، وإن رآها توانَت وكسلَت عن شيء مِن الفضائل أو وِرد مِن الأوراد، أدّبَها بتثقيل الأوراد عليها، وألزمها فنونَ الطاعات، جبراً لِما فات.

5. التوبيخ والمعاتبة: وسبيل المعاتبة أن تُذكِّرها بِعيوبها، وما هي عليه مِن الجهل والحمق، وما بين يديها مِن مغافصة[2] الموت، وما تؤول إليه من الجنّة والنارِ وما عليه اتّفاق كلمةِ أولياء اللَّه وسادات الخلقِ ورؤساء العالم مِن وجوبِ سلوك سبيل اللَّه ومفارقة معاصيه، وتذكيرها بآيات اللَّه وأحوال الصالحين مِن عباده.

فهذه محاسبات النفس ومرابطاتها[3].

 

 


[1]  سورة التغابن، الآية 9.

[2]  غافَصَ الرجلَ: أَخذه على غرّةٍ فَركِبَه بمَساءة.

[3] البحرانيّ، ابن ميثم، شرح نهج البلاغة، مركز النشر مكتب الاعلام الإسلاميّ - الحوزة العلمية، إيران - قمّ، 1362ش، ط1، ج2، ص319 - 322. بتصرّف وتلخيص.

 

143


136

الموعظة الخامسة والعشرون: كيفيّة المحاسبة

الموعظة الخامسة والعشرون: كيفيّة المحاسبة

محاور الموعظة

أسلوب محاسبة النفس
يا نفسُ، ذُوقِي، فَما عند الله أعظم
احمل نفسك لنفسك
اِستَحي مِن مَلك الملوك

هدف الموعظة

بيان كيفيّة المحاسبة من خلال الروايات، وحثّ المؤمنين على القيام بذلك.

تصدير الموعظة

الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّكَ قَدْ جُعِلْتَ طَبِيبَ نَفْسِكَ، وَبُيِّنَ لَكَ الداء، وَعُرِّفْتَ آيَةَ الصحَّةِ، وَدُلِلْتَ عَلَى الدوَاءِ، فَانْظُرْ كَيْفَ قِيَامكَ عَلَى نَفْسِكَ»[1].

 


[1]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص454.

 

144


137

الموعظة الخامسة والعشرون: كيفيّة المحاسبة

أسلوب محاسبة النفس

المحاسبةُ جَردُ الأعمال اليوميّة وَوضعها في ميزان الشريعة، لِينظُر المرء ما وافق الشرع مِنها وما لم يُوافق، فيحمد الله على الأوّل ويستغفره مِن الثاني ويبدأ بإصلاح أعماله. وَلعلَّ أفضل أسلوب لمحاسبة النفس ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) لِرَجلٍ سأله عن كيفيّة محاسبة النفس: «إِذَا أَصْبَحَ ثُمَّ أَمْسَى رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: يَا نَفْسُ، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مَضَى عَلَيْكِ لاَ يَعُودُ إِلَيْكِ أَبَداً، وَاَللَّهُ يَسْأَلُكِ عَنْهُ فِي مَا أَفْنَيْتِه؛ فَمَا الذِي عَمِلْتِ فِيهِ؟ أَذَكَرْتِ اللَّهَ أَمْ حَمَدْتِهِ؟ أَقَضَيْتِ حَقَّ أَخٍ مُؤْمِن؟ أَنَفَّسْتِ عَنْهُ كُرْبَتَه؟ أَحَفِظْتِهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ فِي أَهْلِهِ وَوُلْدِه؟ أَحَفِظْتِهِ بَعْدَ المَوْتِ فِي مُخَلَّفِيه؟ أَكَفَفْتِ عَنْ غَيْبَةِ أَخٍ مُؤْمِنٍ بِفَضْلِ جَاهِك؟ أَأَعَنْتِ مُسْلِماً؟ مَا الذِي صَنَعْتِ فِيهِ؟ فَيَذْكُر مَا كَانَ مِنْهُ؛ فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ جَرَى مِنْهُ خَيْرٌ حَمِدَ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ، وَإِنْ ذَكَرَ مَعْصِيَةً أَوْ تَقْصِيراً اسْتَغْفَرَ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى تَرْكِ مُعَاوَدَتِه، وَمَحَا ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِتَجْدِيدِ الصَلاَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطيِّبِينَ، وَعَرْضِ بَيْعَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) عَلَى نَفْسِهِ وَقَبُولِهَا، وَإِعَادَةِ لَعْنِ شَانِئِيهِ وَأَعْدَائِهِ وَدَافِعِيهِ عَنْ حُقُوقِه»[1].

إنّ أفضل الأعوان على طاعة الله والاجتناب عن معاصيه والتزوّد لِيَوم المعاد محاسبة النفس، إذ يتفكّر الإنسان آخر كلّ يوم وليلة، بل كلّ ساعة، في ما عَمِل فيه مِن خيرٍ أو شرّ؛ عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: ألا أخبركم بأَكْيَسِ الكيِّسين وأحمق

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج89، ص250.

 

145


138

الموعظة الخامسة والعشرون: كيفيّة المحاسبة

الحمقى؟ قالوا: بلى، يا رسول الله. قال (صلى الله عليه وآله): أكيَس الكيّسين مَن حاسب نفسه وعَمِل لِما بَعد الموت، وأحمق الحمقى مَن اتّبعَ نفسه هَواها، وتمنّى على الله الأماني»[1].

و«لا يَكون العبد مؤمناً حتّى يحاسب نفسه أشدَّ مِن محاسبة الشريك شريكه والسيّد عبده»[2]. وممّا أَوصى به أمير المؤمنين (عليه السلام) ابنه الحسن (عليه السلام): «يا بُنيّ، للمؤمن ثلاث ساعات: ساعة يُناجي فيها ربّه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها بين نفسه ولذّتها في ما يحلّ ويجمل»[3].

يا نفس، ذُوقي، فَما عند الله أعظم

المعاقبةُ تحميل النفس أثقالاً أخرى جرّاء تقصيرها وإفراطها. والتوبة أوّل ما يجب أن يُبادر إليه الإنسان عندما يُحاسب نفسه ويَقف على ما ارتكب مِن مخالفات شرعيّة، فَيَستغفر الله تعالى ثمّ يُؤنّبها ويوبّخها ويردعها ويُذيقها مرارة الطاعة كما ذاقت حلاوة المعصية، لئلّا تَقع مرّة أخرى في تلك الموبقات، إذ إنّ إهمالها وتَرك معاقبتها يُصعّب عليه ضبطها؛ بَيْنَمَا رَسُولُ اَللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَسْتَظِلُّ بِظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَنَزَعَ ثِيَابَهُ ثُمَّ جَعَلَ يَتَمَرَّغُ فِي الرمْضَاءِ، يَكْوِي ظَهْرَهُ مَرَّةً وَبَطْنَهُ مَرَّةً وَجَبْهَتَهُ مَرَّةً، وَيَقُولُ: يَا نَفْسُ، ذُوقِي، فَمَا عِنْدَ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعْظَمُ مِمَّا صَنَعْتُ بِكِ. وَرَسُولُ اَللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَنْظُرُ إِلَى مَا يَصْنَع. ثُمَّ إِنَّ الرَجُلَ لَبِسَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ أَقْبَل. فَأَوْمَأ إِلَيْهِ النَبِيُّ (صلى الله عليه وآله) وَدَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: «يَا عَبْدَ اَللَّهِ، لَقَدْ رَأَيْتُكَ صَنَعْتَ شَيْئاً مَا رَأَيْتُ أَحَداً مِنَ الناسِ صَنَعَه، فَمَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْت؟»، فَقَالَ الرَجُلُ: حَمَلَنِي عَلَى ذَلِكَ مَخَافَةُ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ قُلْتُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ، ذُوقِي، فَمَا

 


[1]  المالكيّ الأشتريّ، ورام بن أبي فراس، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام)، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1368ش، ط2، ج2، ص413.

[2] ابن طاووس، السيّد علي بن موسى، محاسبة النفس، المرتضوي، إيران - طهران، 1418هـ.، ط4، ص14.

[3]  الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص147.

 

146


139

الموعظة الخامسة والعشرون: كيفيّة المحاسبة

عِنْدَ اَللَّهِ أَعْظَمُ مِمَّا صَنَعْتُ بِكِ. فَقَالَ النبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «لَقَدْ خِفْتَ رَبَّكَ حَقَّ مَخَافَتِهِ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَيُبَاهِي بِكَ أَهْلَ اَلسمَاءِ». ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِه: «يَا مَعْشَرَ مَنْ حَضَرَ، اُدْنُوا مِنْ صَاحِبِكُمْ حَتَّى يَدْعُوَ لَكُمْ». فَدَنَوْا مِنْهُ، فَدَعَا لَهُمْ: «اَللهُمَّ اجْمَعْ أَمْرَنَا عَلَى الْهُدَى، وَاِجْعَلِ التَقْوَى زَادَنَا وَالْجَنَّةَ مَآبَنَا»[1].

احمل نفسك لنفسك

تأتي عمليّة مجاهدة النفس بعد المعاقبة، وهي ترويض النفس وتزكيتها وتطويعها على ما لا تحبّ وترغب، عن طريق مخالفتها في بعض مشتهياتها مِن المباحات وتحميلها أثقالاً مِن الأعمال والأوراد في ذِكر الله تعالى؛ ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾[2]. لذا، على الإنسان أن يُجاهد نفسه إنْ لم ترتدِع بِأن يحملها على ما لا ترغب؛ قال الإمام الصادق (عليه السلام): «اِحْمِلْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ لَمْ يَحْمِلْكَ غَيْرُكَ»[3]، و«اِجْعَلْ قَلْبَكَ قَرِيناً بَرّاً أَوْ

 


[1]  النيسابوريّ، الشيخ محمّد بن الفتال، روضة الواعظين، تقديم السيّد محمّد مهدي السيّد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضيّ، إيران - قمّ، 1417ه، ط1، ج2، ص452.

[2]  سورة العنكبوت، الآية 69.

[3]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص454.

 

147


140

الموعظة السادسة والعشرون: البلاء بين الامتحان والعذاب

وَلَداً وَاصِلاً، وَاِجْعَلْ عَمَلَكَ وَالِداً تَتَّبِعهُ، وَاِجْعَلْ نَفْسَكَ عَدُوّاً تُجَاهِدهَا، وَاِجْعَلْ مَالَكَ عَارِيةً تَرُدّهَا»[1].

استحي مِن مالكِ الملوك

أثناء عمليّة المجاهدة، تفلت مِن زمام النفس فلتات تُوقع صاحبها في بعض المخالفات الشرعيّة، وعلاج ذلك أن يختلي الإنسان بنفسه ويوجّه لها العتاب واللوم الشديد والتأنيب والتوبيخ؛ يقول الإمام الخمينيّ{ إنّ على الإنسان العاقل أن يُفكّر في نفسه ويرحم حالها المسكينة، ويخاطبها: أيّتها النفس الشقيّة التي قضَت سنيّ عمرها الطويلة في الشهوات، ولم يكن نصيبها سوى الحسرة والندامة، اِبحثي عن الرحمة، واستَحي مِن مالكِ الملوك، وسيري قليلاً في طريق الهدف الأساسيّ المؤدّي إلى حياة الخلد والسعادة السرمديّة، ولا تبيعي تلك السعادة بشهوات أيّام قليلة فانية لا تتحصّل مع الصعوبات المضنية الشاقّة. فَكِّري قليلاً في أحوال أهل الدنيا والسابقين، وتأمَّلي متاعبهم وآلامهم الكثيرة بالنسبة إلى هنائهم، فلا هناء وراحة لأيّ شخص[2]. فَإنّ أعظم الوَعظ ما وَعظ به الإنسان نفسه، لأنّه، إن لم يفعل، لن ينتفع بِوَعظ غيره؛ قَالَ الإمام الصادِق (عليه السلام): «مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَاعِظٌ مِنْ قَلْبِهِ وَزَاجِرٌ مِنْ نَفْسِه وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَرِينٌ مُرْشِدٌ، اِسْتَمْكَنَ عَدُوَّهُ

 


[1]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص454 - 455.

[2]  الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله الموسويّ، الأربعون حديثاً، تعريب محمد الغروي، دار التعارف للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1424ه – 2003م، ط7، ص33.

 

148


141

الموعظة السادسة والعشرون: البلاء بين الامتحان والعذاب

مِنْ عُنُقِهِ»[1]، وقال رسولُ اللّه (صلى الله عليه وآله): «أوحَى اللّهُ إلى عيسَى بن مَريمَ: عِظْ نفسَكَ بحِكمَتي، فإنِ انتَفَعتَ فَعِظِ الناسَ، وإلّا فاستَحِ مِنّي»[2].

 


[1]  الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج4، ص402.

[2]  المتّقيّ الهنديّّ، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، مصدر سابق، ج15، ص795.

 

149


142

الموعظة السادسة والعشرون: البلاء بين الامتحان والعذاب

الموعظة السادسة والعشرون: البلاء بين الامتحان والعذاب

محاور الموعظة

حقيقة البلاء
كيف يعرف العبد إن كان البلاء امتحاناً أو عذاباً؟

هدف الموعظة

إيضاح معنى البلاء، ومتى يَكون البلاء امتحاناً؟ ومتى يكون عذاباً؟

تصدير الموعظة

﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ﴾[1].

 

 


[1] سورة الملك، الآية 2.

 

150


143

الموعظة السادسة والعشرون: البلاء بين الامتحان والعذاب

حقيقة البلاء

البلاء -بمعنى الاختبار والامتحان- يُرافق المؤمنين في مراحل حياتهم كلّها، وأَشدّ الناس بَلاءً الأنبياء (عليهم السلام). وهو ما يمتحن به الله سبحانه إيمانَ عِباده المؤمنين وَصبرهم وشُكرهم واستمراريّتهم على المنهج الربّانيّ، لِمَنحهم الأجر والثواب، وتوجيههم وتقويمهم وصَقل نفوسهم وتمحيصهم. ويكون البلاء في الشدّة والرخاء، وَقد يكون شَرّاً، كالأمراض والعلل والفقر والذلّ، وقد يَكون خيراً، كالعِلم والغنى والجاه والصحّة والعافية والعَظَمة. ولِفَهم حقيقته، لا بدَّ مِن الالتفات إلى أمور:

1. البلاء سُنّة إلهيّة: سَنَّها الله عزّ وجلّ في خَلقه، وأجراها فيهم منذ أنْ خَلَقهم، لأنّ الاختبار موجِب للتكامل الإنسانيّ. وَهي خالدة لا تقبل التغيير أو التبديل؛ ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلا﴾[1].

2. البلاء خير للإنسان: فَكما أنّ لَبن الأمّ ضروريٌّ لحياة الطفل ونموّه وتكامله، كذلك البلاء، أساسٌ في ارتقاء البشر؛ قَالَ رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللَّهَ لَيُغَذِّي عَبْدَهُ المُؤْمِنَ بِالبَلاَءِ كَمَا تُغَذِّي الوَالِدَةُ وَلَدَهَا بِاللبَن»[2].

3. الدنيا ليست محلّاً للثواب والعقاب: عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ (عليه السلام) أَنَّ أَشَدَّ النَاسِ بَلاَءً النبِيُّونَ، ثُمَّ اَلْوَصِيُّونَ، ثُمَّ اَلْأَمْثَل فَالْأَمْثَل. وَإِنَّمَا يُبْتَلَى المؤْمِنُ عَلَى قَدرِ أَعْمَالِهِ اَلْحَسَنَة. فَمَنْ صَحَّ دِينُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ

 

 


[1]  سورة الفتح، الآية 23.

[2]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج78، ص195.

 

151


144

الموعظة السادسة والعشرون: البلاء بين الامتحان والعذاب

يَجْعَلِ الدنْيَا ثَوَاباً لِمُؤْمِنٍ وَلاَ عُقُوبَةً لِكَافِر، وَمَنْ سَخُفَ دِينُهُ وَضَعُفَ عَمَلُهُ قَلَّ بَلاَؤُهُ. وَأَنَّ اَلْبَلاَءَ أَسْرَعُ إِلَى اَلْمُؤْمِنِ اَلتقِيِّ مِنَ المطَرِ إِلَى قَرَارِ الأَرْض»[1].

الدنيا دار امتحان

إنّ الدنيا دار امتحان، فَالعالَم الدنيويّ -بِنقصه وضعفه- لا يكون محلّاً للثواب المحض أو العقاب المحض، وإنّما في كلّ نِعمةٍ مِن نِعمه دفعٌ للهموم والآلام، وفي كلّ ألمٍ وتَعبٍ نِعمة. ثمّ إنّ نِعَم دار كرامة الحقّ عَزّ وجلّ خالصة، غَير مَشوبة بالنِقَم، كما أنّ عقابه أليم وعظيم. الدنيا، إذاً، دارُ امتحانٍ وتفريق بين الشقيّ والسعيد، والمُطيع والعاصي، لا دار نتائج الأعمال.

وقد اقتضَت سُنّة الله سبحانه وتعالى أن يخضع الناسُ لابتلاءات شتّى طوال حياتهم، حتّى يَميز الخبيث من الطيّب، والصالح مِن الطالح، كاستخلاص الألماس مِن الفحم، والذهبِ مِن الحجر والتراب. وكلّ ابتلاء يُطلِع الإنسان على ماهيّة نفسه، فالله تعالى يَعرف قَدر الإنسان وقيمته في الأزل، إلّا أنّه يكشف له بالابتلاءات مدى قدرته على مقاومة المصائب والبلايا وكيفيّة التعامل معها؛ أَيَصبر عليها أم يتملّص منها؟ هل سيتحمّلها أم سيَقف مِنها موقف المعارض للقدر الإلهيّ؟

 


[1]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص259.

 

152


145

الموعظة السادسة والعشرون: البلاء بين الامتحان والعذاب

إذاً، بِالابتلاء تُعرَف قلوب العباد، وبِحسبِ النجاح في الدنيا تُقسَّم الدرجات في الآخرة. ولا ندعو إلّا بِما علّمه الإمام الصادق (عليه السلام) لِبعض أصحابه لِدَفْعِ الْهَوْلِ وَالغَمّ: «أَعْدَدْتُ لِكُلِّ عَظِيمَةٍ لاَ إِلَهَ إِلّا اَللَّه، وَلِكُلِّ هَمٍّ وَغَمٍّ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلّا بِاللَّه. مُحَمَّدٌ النورُ الأَوَّل، وَعَلِيٌّ النُورُ الثَانِي، وَالأَئِمَّةُ الأَبْرَار، عُدَّةٌ لِلِقَاءِ اللَّه، وَحِجَابٌ مِنْ أَعْدَاءِ اَللَّه. ذَلَّ كُلُّ شَيْءٍ لِعَظَمَةِ اَللَّه، وَأَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الكِفَايَة»[1].

كيف يعرف العبد إنْ كان البلاء امتحاناً أو عذاباً؟

الضابطةُ مَعرفةُ الإنسان بِقُربه أو بُعدِه عن الله، فَهو على نفسه بصيرة، يَعرف نفسه جيّداً في ما خصَّ الطاعة والمعصية، إذ لا أحد يجهل عِصيانه إذا ارتكب المعصية. فإذا شعرَ بأنّه قريب مِن الله، وأنّ أغلب أفعاله وأقواله مِن الطاعات، عَلمَ أنّ ما يُصيبه ابتلاء لِرَفْع درجته عند الله. أمّا إذا كان مِن أهل المعاصي، ونزلتْ به البلايا، فَلْيَعلم أنّها عقوبة؛ يقول تعالى: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَة فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَة فَمِن نَّفۡسِكَۚ وَأَرۡسَلۡنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولاۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدا﴾[2]، ويقول الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام): «والذنُوبُ التِي تُنْزِلُ البَلاَءَ تَرْكُ إِغَاثَةِ الملْهُوفِ وَتَرْكُ مُعَاوَنَةِ المظْلُومِ وَتَضْيِيعُ الأَمْرِ بِالمعْرُوفِ وَالنَهْيِ عَنِ المنْكَر»[3]. وقد يصعب على بعضهم تمييز أصحاب المصائب مِن

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج9، ص312.

[2]  سورة النساء، الآية 79.

[3]  الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، معاني الأخبار، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1379هـ - 1338ش، لا.ط، ص271.

 

153


146

الموعظة السادسة والعشرون: البلاء بين الامتحان والعذاب

أصحاب البلاء، حتّى لَيَظنّ أنّ كلّ أزمة يمرّ بها المرء عقاب، بِفِعل عمله السيّئ، ﻷنّه تعوَّد أن يردّ الحسنة إلى ما ظهر مِن النعم، والسيّئة إلى ما ظهر مِن السوء، ناسياً أنّ في ظاهر الكثير مِن النعم الرحمة، وفي باطنها العذاب.

الفارق بين الابتلاء والعقاب

الابتلاء جُزء مِن سيرة اﻷنبياء (عليهم السلام)، فَما مِن نبيّ إلّا ابتُليَ في قومه أو أهله أو عشيرته أو بدنه أو زوجه. وأكمل الناس إيماناً أشدَّهم بلاءً؛ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أشدّ الناس بلاءً الأنبياء (عليهم السلام)، ثمّ الصالحون، ثمّ الأمثل فَالأمثل. يُبتلى الرجل على حَسب دينه، فإنْ كان في دينه صَلباً اشتدَّ به بلاؤه، وإنْ كان في دينه رِقّة ابتليَ على قَدر دينه. فَما يبرح البلاء بِالعبد حتّى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة»[1]، وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «أَشَدُّ الناسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءُ (عليهم السلام)، ثُمَّ اَلْأَوْصِيَاءُ، ثُمَّ اَلْأَمَاثِلُ فَالْأَمَاثِلُ»[2]. فَالبلاء دليل محبّة الله للعبد المؤمن، يبتليه ليُطهّره ويصطفيه، فَيُنزل عليه رحمته الناتجة عن الرضى بِما قَسم، ويُعينه على احتماله والصبر عليه، ثمّ يَجعله في معيّته. أمّا العقاب، فَنَتيجة سَخَط الله على المرء لذنوبٍ أذنبها، فَيَنفرد بالشدّة واﻷذى حتّى يَضيق بهما.

 

 


[1] أحمد بن حنبل، المسند (مسند أحمد)، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج1، ص172.

[2]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص252.

 

154


147

الموعظة السابعة والعشرون: الابتلاء بالخير والابتلاء بالشرّ

الموعظة السابعة والعشرون: الابتلاء بالخير والابتلاء بالشرّ

 

محاور الموعظة

البلاء والمصائب أمور نسبيّة
الحياة مبنيّة على الابتلاء
أنواع الابتلاء وقواعده

هدف الموعظة

معرفة فلسفة البلاء، وبيان أنّ الحياة مبنيّة على ذلك.

تصدير الموعظة

﴿كُلُّ نَفۡس ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَيۡرِ فِتۡنَةۖ وَإِلَيۡنَا تُرۡجَعُونَ﴾[1].

 


[1]  سورة الأنبياء، الآية 35.

 

155


148

الموعظة السابعة والعشرون: الابتلاء بالخير والابتلاء بالشرّ

البلاء والمصائب أمور نسبيّة

لا شكَّ في أنّ كلّ إنسان يعتقد أنّ مصيبته كبرى المصائب في الحياة، فهو يَدور حول نفسه ومشاكله، وهذا أمر طبيعيّ؛ فَمن يبحث عن عمل يرى جلوسه في المنزل بلا عملٍ أكبر المصائب، ومشكلة المواطن العاديّ تختلف عن مشكلة المسؤول، وصاحب المصنع يختلف في ابتلائه عن العامل. فَمِعيار البلاء -كبيراً كان أو صغيراً- نسبيّ، حتّى في المصائب الكبرى العامّة. ولا يمكن التقليل مِن شعور فَرد أو جماعة مِن الناس في أيّة مصيبة أو ابتلاء، إذ لَيس مِن الصواب وَضع معيار بِحسب قدرات محدّدة، فكلّ مُبتلى يشعر بتقدير ابتلائه.

 

الحياة مبنيّة على الابتلاء

إنّ الله تعالى خَلق خلقاً لا يعصي ولا يُبتلى -أي الملائكة- وَأراد أن يخلق خلقاً آخر لديه إمكانيّة الخطأ والصواب، والطاعة والمعصية، فَخلق البشر، وبنى حياتهم وقوانينها على الاختبار والابتلاء. ثمّ تقرَّرت، بحسب الآية الكريمة، مجموعة مِن المبادئ والقوانين.

1. قانون الموت العامّ في حقّ البشر: قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفۡس ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ﴾.

2. قانون البلاء العامّ: قال تعالى: ﴿وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَيۡرِ فِتۡنَةۖ﴾، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنَّ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مَرِضَ فَعَادَهُ إِخْوَانُهُ، فَقَالوا: كَيْفَ نَجِدُكَ، يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِين؟ قَالَ: بِشَرٍّ. قَالُوا: مَا هَذَا كَلاَمُ مِثْلِكَ! فَقَالَ: إِنَّ اَللَّهَ يَقُولُ ﴿وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَيۡرِ فِتۡنَةۖ﴾،

 

156

 

 


149

الموعظة السابعة والعشرون: الابتلاء بالخير والابتلاء بالشرّ

فَالْخَيْرُ الصحَّةُ وَالغِنَى، وَالشرُّ المرَضُ وَالفَقْر»[1].

3. تحديد الهدف مِن الحياة الدنيا: ﴿وَإِلَيۡنَا تُرۡجَعُونَ﴾، فَليست الدنيا مكاناً أصليّاً، بل مكان أداء الاختبار فقط. وبَعد اكتساب التكامل اللازم يكون الرجوع إلى المكان الأصليّ، وهو الدار الآخرة.

أنواع الابتلاء

للبلاء أنواع، مِنها:

1. الابتلاء الاضطراريّ: وهو ممّا لا خَيار للعبد فيه عند وقوعه، كالمرض والمصائب وغيرها.

2. الابتلاء الاختياريّ: وهو ما يُقدِم عليه العبد باختياره، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، وإغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب، والعبادات الشاقّة، لِما فيها مِن عناء وبذلٍ للأموال والأنفس.

قواعد الابتلاء

1. عَظَمة الأجر على قَدر البلوى: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وكُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى والِاخْتِبَارُ أَعْظَم، كَانَتِ الْمَثُوبَةُ والْجَزَاءُ أَجْزَلَ»[2].

2. الابتلاء الاختياريّ يدفع الابتلاء الاضطراريّ: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الصدَقَةُ تَدْفَعُ اَلْبَلاَءَ اَلْمُبْرَم، فَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصدَقَة»[3]، وقال أمير

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج5، ص213.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 292، الخطبة 192.

[3]  الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج2، ص433.

 

157


150

الموعظة السابعة والعشرون: الابتلاء بالخير والابتلاء بالشرّ

المؤمنين (عليه السلام): «صَنَائِعُ اَلْمَعْرُوفِ تدرُّ النعْمَاءَ وَتَدْفَعُ اَلْبَلاَء»[1] و«ثَلاَثٌ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا سَعِد؛ إِذَا ظَهَرَتْ عَلَيْكَ نِعْمَةٌ فَاحْمَدِ اَللَّه، وإِذَا أَبْطَأَ عَنْكَ اَلرزْق فَاسْتَغْفِرِ اَللَّه، وَإِذَا أَصَابَتْكَ شِدَّةٌ فَأَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلّا بِاللَّه»[2]. فَعِندما يُقحم المؤمن نفسه في الابتلاء الاختياريّ، يدفع الله عنه الكثير مِن الابتلاءات الاضطراريّة.

3. البلاء على قَدر الاستطاعة: فَمِن عَدْل الله ورحمته أنّه يبتلي الإنسانَ بما يستطيع؛ فَلا يكلّفه إلّا ما يطيق، ولا يحمّله فوق طاقته، وَلا يحاسبه على ما أُكرِه عليه.

4. لا ابتلاء بِغير لطف مِن الله: لأنّ حكمة الله تتجلّى في الابتلاءات مصحوبة بِاللطف، ولا يُدرك ذلك إلّا مَن تأمّل جيّداً في أيّ بلاء يصيبه؛ يقول بعض العلماء: مَن لم يُقبل على الله بملاطفات الإحسان سِيق إليه بِسلاسل الامتحان، ومَن ظنَّ انفكاك لطف الله عن قَدَره، فذلك لِقصور نظره، إذ ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيف لِّمَا يَشَآءُۚ﴾[3].

5. أجزَل الأجر على الصبر: وهو مِن أكبر ألطاف الله تعالى بِمن صبرَ على بلائه؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَاب﴾[4]، فيُعطى الصابرُ حقّه تامّاً كاملاً، ويكون له أفضل الأجر والثواب عند اللّه، إذ لا يبلغ ثواب الصبر والاستقامة أيّ عمل[5].

 

 


[1]  الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج12، ص346.

[2] ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص207 – 208.

[3]  سورة يوسف، الآية 100.

[4]  سورة الزمر، الآية 10.

[5]  الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج15، ص38.

 

158


151

الموعظة السابعة والعشرون: الابتلاء بالخير والابتلاء بالشرّ

الابتلاء بالخير والابتلاء بالشرّ

قال تعالى: ﴿وَبَلَوۡنَٰهُم بِٱلۡحَسَنَٰتِ وَٱلسَّيِّ‍َٔاتِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ﴾[1]، فقد يُكرمهم الله بالرفاه والنعمة حتّى يثير فيهم روح الشكر ويُعيدهم إلى طريق الحقّ، وقد يُغرقهم في الشدائد والمصاعب والمصائب حتّى ينزلوا من مركب الغرور والأنانيّة والتكبّر وَيَقِفوا على عَجزهم، لعلّهم يستيقظون ويَعودون إليه تعالى؛ والهدف في كِلتا الحالتَيْن التربية والهداية والعودة إلى الحقّ. وعلى هذا الأساس، تشمل الحسناتُ كلّ نِعمة ورفاه واستقرار، وتشمل السيّئات كلّ نقمة وشدّة[2].

الابتلاء مِن مظاهر اسم الله «القابض»

مِن أسماء الله تعالى «القابض» و«الباسط»؛ قال تعالى: ﴿وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾[3]، ولهما معنَيان:

الأوّل: «الباسط» مَن يُوسِّع أرزاق العباد ويَزيدها بجوده وكرمه؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرا﴾[4]، و «القابض» مَن يُضيَّق عليهم أرزاقهم ويقترها وِفاق حكمته. وفي كِلَيْهما صلاح العباد؛ قال تعالى: ﴿وَلَوۡ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزۡقَ لِعِبَادِهِۦ لَبَغَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَر مَّا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرُۢ بَصِير﴾[5].

 

 


[1]  سورة الأعراف، الآية 168.

[2]  الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج5، ص275 - 276.

[3] سورة البقرة، الآية 245.

[4]  سورة الإسراء، الآية 30.

[5]  سورة الشورى، الآية 27.

 

159


152

الموعظة السابعة والعشرون: الابتلاء بالخير والابتلاء بالشرّ

الثاني: «القابض» مَن يقبض الأرواح بالموت أو بالنوم، فإذا قبض تعالى روح عبدٍ فَقَد أماته أو أنامه، وهو ضدّ «الباسط» الذي يُحييه أو يوقظه من نومه. والقبض قد يكون في الأرزاق بالتوسُّع والتقتير، وفي النفوس بالسرور والأحزان، وفي الأبدان بالصحّة والألم...

والإنسان في هذه الحياة ما بين قَبْضٍ وبَسْط.

واجبات المؤمن تجاه «القابض» و«الباسط»

1. توطين النفس على الصبر عند القبض، وعلى الشكر عند البسط: قَالَ رسول الله (صلى الله عليه وآله): «عَجَباً لِأَمْرِ اَلْمُؤْمِن! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلّا لِلْمُؤْمِن. إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ»[1].

2. الأخذ بأسباب انشراح الصدر وبَسْطه: فَعَن ذِكر الله قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾[2]، وعن كفالة اليتيم والمسكين قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لِمَن شكى قَسوة قلبه: «إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ، فَأَطْعِمِ اَلْمِسْكِين، وَاِمْسَحْ رَأْسَ اَلْيَتِيمِ»[3].

3. طَلب بَسط الرزق بأسبابه الإيمانيّة والكونيّة: فَمِن الأسباب الإيمانيّة الاستغفار؛ قال تعالى على لسان نوح (عليه السلام): ﴿فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارا ١٠ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارا ١١

 

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج79، ص139.

[2]  سورة الرعد، الآية 28.

[3]  الطبرسيّ، الشيخ عليّ بن الحسن‏، مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، تحقيق مهدي هوشمند، دار الحديث، لا.م، 1418ه، ط1،ص292.

 

160


153

الموعظة السابعة والعشرون: الابتلاء بالخير والابتلاء بالشرّ

وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰل وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰت وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرا﴾[1]. ومِنها الإيمان والتقوى؛ ﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰت مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾[2]. ومنها صِلة الرحم؛ «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَجَلِه، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»[3]. أمّا السبب الكونيّ فالسعي في المعاش والضَرب في الأرض؛ ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ﴾[4].

 


[1] سورة نوح، الآيات 10 - 12.

[2]  سورة الأعراف، الآية 96.

[3]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص89.

[4] سورة الملك، الآية 15.

 

161


154

الموعظة الثامنة والعشرون: غايات الابتلاء

الموعظة الثامنة والعشرون: غايات الابتلاء

محاور الموعظة

غايات الابتلاء
الهدف الأساس للابتلاء

هدف الموعظة

تعرّف غايات الابتلاء، والهدف الأساس منه.

تصدير الموعظة

أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ اَلْبَلاَءَ لِلظالِمِ أَدَبٌ، وَلِلْمُؤْمِنِ امْتِحَانٌ، وَلِلْأَنْبِيَاءِ دَرَجَةٌ، وَلِلْأَوْلِيَاءِ كَرَامَةٌ»[1].

 

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج64، ص235.

 

 

162

 


155

الموعظة الثامنة والعشرون: غايات الابتلاء

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ لِتَظْهَرَ اَلْأَفْعَالُ اَلَّتِي بِهَا يُسْتَحَقُّ اَلثَّوَابُ وَاَلْعِقَابُ»[1].

إنّ اللَّه تعالى يعلم ما فَعل عِباده وما سيفعلونه مِن خيرٍ أو شرّ، لكنْ سَبقَ في عدله وقضائه ألّا يحاسب أحداً على ما يَعلم منه، وما ينطوي عليه صدره وسرّه، بل على ما يظهر منه، بعد أن وهبَه القدرة والعقل والإرادة، ورزقه مِن الخيرات والطيّبات، وأمره ونهاه، فإن خالفَ وعصى قامَت عليه الحجّة واستحقّ المؤاخذة والعقاب[2].

غايات الابتلاء

ترتبط معرفة الهدف مِن الابتلاء -أساساً- بتحديد المبتلى. والله تعالى يبتلي عباده بأنواع المِحَن والفِتَن والابتلاءات لحِكَمٍ وغاياتٍ عديدة وعظيمة، منها:

1. عقوبات تأديبيّة أو تنبيهيّة للمُعاندين المستكبرين، من أجل إخراج التكبّر مِن قلوبهم وإرجاعهم إلى الله تعالى، ويُساعد على ذلك التدبُّرُ في أحوال الماضين؛ قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَاحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ المثُلاَتِ بِسُوءِ اَلْأَفْعَالِ وَذَمِيمِ اَلْأَعْمَالِ، فَتَذَكَّرُوا فِي اَلْخَيْرِ وَاَلشرِّ أَحْوَالَهُمْ، وَاِحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ»[3] و«إِنَّ اللهَ يَبتَلِي عِبَادَهُ عِندَ الأَعمَالِ السيِّئةِ بِنَقْصِ الثمَرَاتِ وَحَبسِ البَرَكاتِ

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص484، الحكمة 93.

[2] مغنيّة، الشيخ محمّد جواد، في ظلال نهج البلاغة، انتشارات كلمة الحق، إيران، 1427، ط1، ج4، ص271.

[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص295، الخطبة 192.

 

163


156

الموعظة الثامنة والعشرون: غايات الابتلاء

وَإغْلاقِ خَزَائِنِ الخَيرَاتِ، لِيَتوبَ تَائِبٌ وَيُقْلِعَ مُقْلِعٌ وَيَتَذكَّرَ مُتَذكِّرٌ وَيَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ»[1].

 

2. تصحيح الإيمان والمعتقدات الدينيّة؛ قال الإمام الصّادق (عليه السلام): «البَلَاءُ زَيْنُ المُؤمِنِ، وَكَرَامَةٌ لِـمَن عَقَلَ، لِأَنَّ فِي مُبَاشَرتِهِ وَالصبرِ عَلَيهِ وَالثباتِ عِندَهُ تَصحِيح نِسبةِ الإيمانِ»[2]، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لاَ تَفْرَحْ بِالْغِنَاءِ وَاَلرخَاءِ، وَلاَ تَغْتَمَّ بِالْفَقْرِ واَلْبَلاَءِ، فَإِنّ اَلذهَبَ يُجَرَّبُ بِالنارِ، وَاَلْمُؤْمِنَ يُجَرَّبُ بِالْبَلاَءِ»[3].

3. كفّارة للذنوب وَحَطٌّ للسيّئات ودَفعٌ إيمانيّ للرجوع إلى الله تعالى، إنْ وقع على المؤمن. فَكِلا النعمة والبلاء رحمةٌ مِن الله تعالى على العباد مِن جهة التذكير والتنبيه والإيقاظ، لأنّ النعمة توجب الرجوع إليه تعالى وشكره، وإلّا صارت نقمة، والمحنة توجب الاستغفار؛ قَالَ رَسُولُ اَللَّه (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اَلْمُؤْمِنَ إِذَا قَارَفَ الذنُوبَ ابْتُلِيَ بِهَا بِالْفَقْرِ، فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِ وَإِلّا اُبْتُلِيَ بِالْمَرَضِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِ وَإِلّا اُبْتُلِيَ بِالْخَوْفِ مِنَ السلْطَانِ يَطْلُبُهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِ وَإِلّا ضَيَّقَ عَلَيْهِ عِنْدَ خُرُوجِ نَفْسِهِ حَتَّى يَلْقَى اَللَّهَ حِينَ يَلْقَاهُ وَمَا لَهُ مِنْ ذَنْبٍ يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ، فَيَأْمُرُ بِهِ إِلَى اَلْجَنَّةِ. وَإِنَّ اَلْكَافِرَ وَاَلْمُنَافِقَ لَيُهَوَّنُ عَلَيْهِمَا خُرُوجُ أَنْفُسِهِمَا، حَتَّى يَلْقَيَانِ اَللَّهَ حِينَ يَلْقَيَانِهِ وَمَا لَهُمَا عِنْدَهُ مِنْ حَسَنَةٍ يَدَّعِيَانِهَا عَلَيْهِ، فَيَأْمُرُ بِهِمَا إِلَى النارِ»[4].

 

 


[1]  المصدر نفسه، ص199، الخطبة 143.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج64، ص231.

[3]  الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ج1، ص520.

[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج78، ص199.

 

164


157

الموعظة الثامنة والعشرون: غايات الابتلاء

4. تعويد المؤمن على الطاعة والاستجابة لأمر الله، مع الجهل بموارد العلّة. وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بِقوله: «وَلَكِنَّ اللهَ سُبحَانَهُ يَبتَلِي خَلقَهُ بِبَعضِ مَا يَجهَلُونَ أَصلَهُ، تَميِيزاً بالاختِبَارِ لَـهُمْ، وَنَفيَاً لِلاستِكبَارِ عَنهُمْ، وَإِبعَاداً لِلخُيَلَاءِ مِنهُمْ»[1].

5. تزكية المؤمن؛ قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَلَكِنَّ اللهَ يَخْتبِرُ عِبادَهُ بِأَنوَاعِ الشدَائِدِ، وَيَتَعبَّدُهُمْ بِأَنواعِ المَجَاهِدِ، وَيَبتَلِيهِمْ بِضُـرُوبِ المَكَارِهِ، إِخرَاجَاً لِلتكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِسْكَاناً للتذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَلِيَجْعلَ ذَلِكَ أَبوَابَاً فُتُحَاً إِلَى فَضلِهِ، وَأَسبَاباً ذُلُلاً لِعَفوِهِ»[2].

6. رفع درجاتٍ إن وقعَ على الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)، فَلا يصحّ القول إنّه كفّارة عن ذنوبهم، لأنّهم معصومون؛ قال أمير المؤمنين  (عليه السلام): «قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اَللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَاِبْتَلاَهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ وَاِمْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَمَخَضَهُمْ بِالْمَكَارِهِ، فَلاَ تَعْتَبِرُوا اَلرضَى وَاَلسخْطَ بِالْمَالِ وَاَلْوَلَدِ جَهْلاً بِمَوَاقِعِ اَلْفِتْنَةِ وَاَلاِخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ اَلْغِنَى وَاَلاِقْتِدَارِ»[3]، وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «مَا أَثْنَى اَللَّهُ تَعَالَى عَلَى عَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى مُحَمَّد (صلى الله عليه وآله) إِلّا بَعْدَ اِبْتِلاَئِهِ وَوَفَاءِ حَقِّ اَلْعُبُودِيَّةِ فِيهِ. فَكَرَامَاتُ اَللَّهِ -فِي اَلْحَقِيقَة- نِهَايَاتٌ بِدَايَاتُهَا اَلْبَلاَءُ، وبِدَايَاتُ نِهَايَاتِهَا اَلْبَلاَءُ»[4].

 

 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص287، الخطبة 192.

[2]  المصدر نفسه، ص292، الخطبة 192.

[3] المصدر نفسه، ص291، الخطبة 192.

[4]  الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج2، ص439.

 

165


158

الموعظة الثامنة والعشرون: غايات الابتلاء

الهدف الأساس مِن البلاء

يمكن فَهم الهدف الأساس مِن الابتلاء عن طريق تتبّع الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وهي التمييز بين الخبيث والطيّب، وحصول الإنسان على كماله ودرجاته الكماليّة العليا. ولا يُستبعد أن تكون هي الأصل، وتكون بَقيّة العلل فروعاً ترجع في النهاية إليها.

 

166


159

الموعظة التاسعة والعشرون: كيف أكون عبداً شكوراً؟

الموعظة التاسعة والعشرون: كيف أكون عبداً شكوراً؟

محاور الموعظة

الشكر عبادة
أنواع الشكر
السبيل الإلهيّ إلى التحريض على الشكر

هدف الموعظة

التحريض على الشكر، وبيان كونه عبادة، وذكر أنواعه.

تصدير الموعظة

الإمام الباقر (عليه السلام): «يَا جَابِرُ، اسْتَكْثِرْ لِنَفْسِكَ مِنَ اللهِ قَلِيلَ الرِزْقِ، تَخَلُّصاً إِلَى الشكْرِ، وَاسْتَقْلِلْ مِنْ نَفْسِكَ كَثِيرَ الطاعَةِ للهِ، إِزْرَاءً عَلَى النَفْسِ، وَتَعَرُّضاً لِلْعَفْو»[1].

 


[1] ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص285.

 

167


160

الموعظة التاسعة والعشرون: كيف أكون عبداً شكوراً؟

الشكر عبادة

الشكر أمرٌ وجدانيّ، وهو صِفة نبيلة جليلة. والإنسان، بمقتضى طَبعه وَفِطرته السليمة، يرى أنّ الشكر حقٌّ وواجب مُقدَّس، فإذا قدَّم إليه شخصٌ شيئاً وَجَبَ عليه شُكره؛ يقول تعالى: ﴿وَٱشۡكُرُواْ لِي وَلَا تَكۡفُرُونِ﴾[1] و﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد﴾[2] و ﴿ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡراۚ وَقَلِيل مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ﴾[3]. كما أنّ النصوص الواردة عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) تؤكّد عَظَمة الشكر ومنزلته؛ قالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِين (عليه السلام): «إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُجَّارِ، وإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَار»[4]، وقال الصادِقُ (عليه السلام) عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام): «الطَاعِمُ الشَاكِرُ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِ الصَائِمِ الْمُحْتَسِبِ، وَالْمُعَافَى الشاكِرُ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ كَأَجْرِ الْمُبْتَلَى الصَابِرِ، وَالْغَنِيُّ الشَاكِرُ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ كَأَجْرِ الْمَحْرُومِ الْقَانِع»[5]. فإنْ أكلَ الإنسان وشكَرَ تساوى أجره والصائم، وإن سلِمَ وشَكَر تساوى أجره والمريض الصابر على مرضه، وإن كان غنيّاً شاكراً تساوى أجره والفقير القانع بما عنده وبما رزقه الله عزّ وَجلّ.

 


[1]  سورة البقرة، الآية 152.

[2]  سورة إبراهيم، الآية 7.

[3]  سورة سبأ، الآية 13.

[4]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص196.

[5]  المصدر نفسه، ج68، ص41.

 

168


161

الموعظة التاسعة والعشرون: كيف أكون عبداً شكوراً؟

أنواع الشكر

للشُكر أنواع عديدة:

1. شكر القلب: عن طريق تَذَكُّر نِعَم الله عزّ وجلّ وآلائه وما تفضَّل به؛ «تَفكُّر ساعةٍ خيرٌ مِن عبادة سنة»[1].

2. شكر اللسان: بِقولِ «شكراً لله»، وهو مِن المستحبّات المؤكّدة بعد الفراغ من الصلاة؛ أي سجدة الشكر، وتكون بِوَضع الجبهة على التربة وَقَول «شكراً لله»، ثمّ وضع الجبين الأيمن وَقول «شكراً لله»، ثمّ الأيسر كذلك، ثمّ وَضع الجبهة مجدّداً وَقول «شكراً لله».

3. الشكر بالجوارح: فالشكر الحقيقيّ هو الشكر بالعملِ الذي ينطبع ويتجسّد في أعمال الإنسان وحركاته وسكناته، وَلَو شَكر الله على ذلك ألف سنة لن يُجازيه على نِعمة واحدة. والله غنيّ مُطلق، لا يَنتفع بالشكر، بل يعود الشكر بالفائدة والنعمة على الإنسان نفسه.

اختلاف الشكر بحسب اختلاف النعم

كيف يَشكر الإنسانُ اللهَ على نعمة المال؟ يُخرِج منه حقّ الله وحقّ رسوله، فالخُمس واجب شرعيّ مقدّس؛ ﴿وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَيۡء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ﴾[2] و﴿لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ﴾[3]، فإنفاق المال في بناء الحسينيّات والمساجد والمشاريع والجمعيّات الخيريّة -مثلاً- شُكرٌ لله على المال. وكيف يشكر الإنسانُ اللهَ على

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج68، ص327.

[2]  سورة الأنفال، الآية 41.

[3] سورة آل عمران، الآية 92.

 

169


162

الموعظة التاسعة والعشرون: كيف أكون عبداً شكوراً؟

لأنّه لا ينتفع بِعذابهم حتّى يُؤثره، ولا يتضرّر بِوجودهم حتّى يدفعه عن نفسه. وَالمراد ألّا موردَ لِعذابهم إنْ أدّوا حقّ الله وشكروا نعمه وآمنوا به، فَالله شاكرٌ لِمَن شكره وآمنَ به، عليمٌ لا يجهل مورده. وفي الآية دلالة على أنّ العذاب الشامل لأهله إنّما هو مِمّا جنوهُ مِن ضلال وشِرك ومعصية، وَلَو كان شيء مِن ذلك مِنه تعالى لَكان العذاب الذي يستتبعه أيضاً مِنه، لأنّ المسبّب يستند إلى مَن استندَ إليه السبب[1].

ما الطريقة التي اتّبعها الإمام الباقر (عليه السلام) لإيجاد دافع الشكر؟

يُقدّم الإمام (عليه السلام) لِجابرٍ طريقةَ إيجاد الدافع إلى الشكر، فَيشير في حديثه إلى أنّ علّةَ شُحِّ الشكر عدمُ الالتفات إلى آلاء الله وأنعمه بِشكلٍ جيّد. فَمِن أجل أن يتولّد في نفس الإنسان دافع الشكر، عليه القيام بِأمرَيْن؛ الأوّل أن يحاول الوقوف على أنعم الله ويعرفها حقّ معرفتها ويستعظمها، والثاني أن يستقلّ عباداته بأن يراها ضئيلة وقليلة المقدار. فَعندما عوتب الإمام زين العابدين (عليه السلام) على كثرة عبادته وبُكائه بين يدي الله، مع أنّ الله قد جعله في عداد المعصومين (عليهم السلام)، قال(عليه السلام): «مَن يَقوى على عبادة عَليّ (عليه السلام)؟»[2] ، إذ استقلّ عبادته عندما قاسَها بعبادة جدّه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام). فَمن أجل أن يستقلّ الإنسان عباداته، عليه أن يقيسها بِطاعة عباد الله الصالحين

 


[1]  العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج5، ص119.

[2]  المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، تحقيق مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لتحقيق التراث، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414هـ - 1993م، ط2، ج2، ص143.

 

171


163

الموعظة التاسعة والعشرون: كيف أكون عبداً شكوراً؟

المخلَصين، مِن حيث الكمّ والكيف، عندها يخجل مِن نفسه. فَلو أراد المرء أن يقدّم فاكهة لأحدهم هديّةً، هل يقدّمها بِراحة بالٍ مِن دون خجلٍ، إذا كان 90% منها فاسداً ومتعفّناً؟ فَإن لم يلتفت إلّا إلى 10% مِن صلواته، فهي كتلك الهديّة. ألا ينبغي له -والحال هذه- أن يقدّمها بين يدي الباري عزّ وجلّ بمنتهى الخجل والحياء؟

 

172


164

الموعظة الثلاثون: عيد الفِطر ثَمَرة المسيرة الرمضانيّة

الموعظة الثلاثون: عيد الفِطر ثَمَرة المسيرة الرمضانيّة

محاور الموعظة

لم جُعل يوم الفِطر عيداً؟
كيف تكونون في ما تستأنفون؟
عيدٌ لمن قَبِل اللهُ صيامَه
من فضائل ليلة عيد الفطر

هدف الموعظة

بيان المعاني السامية لعيد الفِطر السعيد وليلته، وذكر بعضٍ من فضائلهما.

تصدير الموعظة

﴿ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلۡ عَلَيۡنَا مَآئِدَة مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَة مِّنكَۖ وَٱرۡزُقۡنَا وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ﴾[1].

 

 


[1]  سورة المائدة، الآية 114.

 

173


165

الموعظة الثلاثون: عيد الفِطر ثَمَرة المسيرة الرمضانيّة

جعل الإسلام عيد الفِطر السعيد ثمَرةً للرحلة الملكوتيّة التي سار فيها المؤمنون، وهم في طاعة الله تعالى، وأبواب رحمته ومغفرته مشرّعة لهم شهراً كاملاً. فإذا استكملوا هذه المسيرة الروحيّة، فازوا بالغاية المرجوّة، وحصَّلوا الملَكات الفاضلة التي تؤهّلهم ليكونوا جديرين باتّباع سبيل الحقّ المستقيم، فاستحقّوا الاحتفال، وإعلان الفرحة، والشكر لله تعالى على ما هداهم وأوْلاهم.

 

لم جُعل يوم الفِطر عيداً؟

يجيب الإمام الرضا (عليه السلام) عن هذا السؤال، فيقول: «لأن يكون للمسلمين مجمعاً يجتمعون فيه، ويبرزون إلى الله عزّ وجلّ، فيحمدونه على ما مَنَّ عليهم، فيكون يوم عيد، ويوم اجتماع، ويوم فطر، ويوم زكاة، ويوم رغبة، ويوم تضرّع، ولأنّه أوّل يوم من السنة يحلّ فيه الأكل والشرب، لأنّ أوّل شهور السنة عند أهل الحقّ شهر رمضان، فأحبّ الله عزّ وجلّ أن يكون لهم في ذلك اليوم مجمعٌ يحمدونه فيه ويقدّسونه»[1].

 

كيف تكونون في ما تستأنفون؟

إنّ من سنّة الله في خلقه، أنّ الأيّامٌ تذهب وتنتهي، والأعوام تمضي وتنقضي، ويبقى الأمر على هذا الحال إلى أن يرِث الله الأرض ومَن عليها، وهو خير الوارثين، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّكم في آجالٍ مقبوضة، وأيّام معدودة، والموت يأتي بغتةً، مَن يزرع خيراً

 


[1]  الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، مصدر سابق، ج2، ص122.

 

174


166

الموعظة الثلاثون: عيد الفِطر ثَمَرة المسيرة الرمضانيّة

يحصد غبطة، ومَن يزرع شرّاً يحصد ندامة، ولكلّ زارعٍ ما زرع، ولا يسبق البطيء منكم حظّه، ولا يدرك حريص ما لم يُقدَّر له، مَن أُعطي خيراً فالله أعطاه، ومَن وُقي شرّاً فالله وقاه»[1].

وإنّ في تقلُّب الأيّام، وتصرُّم الأعوام فرصةً للمُراجَعة والمُحاسَبة، فلينظُر العاملُ عملَه، والمُؤمِّلُ أين وما أمَّله؟!

لذا خَطَب أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم الفطر، فقال: «أيها الناس؛ إن يومكم هذا يوم يُثاب فيه المحسنون ويَخسر فيه المبطلون، وهو أشبه بيوم قيامكم، فاذكروا بخروجكم من منازلكم إلى مصلاكم خروجكم من الأجداث إلى ربكم، واذكروا بوقوفكم في مصلاكم وقوفكم بين يدي ربكم، واذكروا برجوعكم إلى منازلكم رجوعكم إلى منازلكم في الجنة أو النار... واعلموا عباد الله؛ إنّ أدنى ما للصائمين والصائمات أن يُناديهم ملَك في آخر يوم من شهر رمضان: أبشروا عباد الله، فقد غفر لكم ما سلف من ذنوبكم، فانظروا كيف تكونون فيما تستأنفون»[2].

فعلى الذي مَنَّ الله عليه بالتوفيق في شهر رمضان، فأناب وصام وقام؛ أن يحافظ على هذه الدرجة الطيّبة، ويزداد في الخيرات. وطوبى له هذا العيد السعيد الذي يُباهي الله به ملائكته، ويُشهدُهم أنّه غفر لعبده في هذا اليوم الجوائزيّ، وعلى المسيء الذي فرّط في موسم خصبٍ لا يُعوَّض أن يسارع إلى التوبة، فإنّه غافر الذنب وقابل التوب.

 


[1]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص458.

[2]  الأمير ورّام، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، مصدر سابق، ج2، ص157.

 

175


167

الموعظة الثلاثون: عيد الفِطر ثَمَرة المسيرة الرمضانيّة

عيدٌ لمن قَبِل اللهُ صيامَه

وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف العيد، وبيان أنّ مَن يستحقّ الفرح والاحتفال هو المؤمن، الذي طوى مسيرة التكامل الروحيّ، من خلال الصيام طاعةً لله تعالى. وأمّا من لم يتّصف بهذه الصفة، فكأنّما لا عيد له، لقوله (عليه السلام): «إنّما هو عيد لمن قَبِل الله صيامه وشكر قيامه وكلّ يوم لا يُعصى الله فيه، فهو يوم عيد»[1].

وممّا يروى في سيرة الإمام المجتبى (عليه السلام) أنّه خرج في يوم فطر، ونظر إلى أناس يلعبون ويضحكون، فقال لأصحابه، والتفت إليهم: «إنّ الله عز وجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه، يستبقون فيه إلى طاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلّف آخرون فخابوا، والعجب من الضاحك في هذا اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون، والله لو كُشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه، ومسيء بإساءته»[2].

من فضائل ليلة عيد الفطر

هي ليلة عظيمة مباركة، والمتدبّر في بعض الروايات الشريفة الواردة في حقّها، يتيقّن أنّها من الليالي التي تتجلّى فيها رحمة الله الواسعة بأكرم التجلّيات، فقد روي عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، في حديث طويل: «فإذا كانت ليلة الفطر، وهي تسمّى ليلة الجوائز، أعطى الله العاملين أجرهم بغير حساب»[3].

 

 


[1]  النيسابوري، روضة الواعظين، مصدر سابق، ص354.

[2] السيّد ابن طاووس، الإقبال بالأعمال الحسنة، مصدر سابق، ج1، ص468.

[3] المصدر نفسه، ج1، ص27.

 

176


168

الموعظة الثلاثون: عيد الفِطر ثَمَرة المسيرة الرمضانيّة

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «ليلة الفطر، الليلة التي يستوفي فيها الأجير أجره»[1].

وقال الحسن بن راشد: قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): إنّ الناس يقولون: إنّ المغفرة تنزل على مَن صام شهر رمضان ليلة القدر؟ فقال: «يا حسن، إنّ القاريجار[2] إنّما يُعطى أجرتَه عند فراغه، وذلك ليلة العيد»[3].

من أعمالها

وعليه، وبما لها من هذا الفضل، ينبغي للمؤمن اغتمام هذه الليلة بما ذكَره العلماء -بناءً على ما ورد في الروايات عن أهل العصمة (عليهم السلام)- من أعمالٍ في هذه الليلة، ومنها:

1. الغسل

2. الإحياء.

3. زيارة الإمام الحسين (عليه السلام).

4. قراءة ثلاث سوَر من القرآن الكريم، وكثرة الاستغفار.

5. الصلوات المختصّة بليلة الفطر، وقد ورد في جزاء من صلّاها أنّه «لم يرفع رأسه من السجود حتى يغفر له، ويتقبّل منه صومه، ويتجاوز عن ذنوبه»[4]، و«شفع في أهل بيته كلهم، وان كانوا قد وجبت لهم النار»[5].

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج88، ص124.

[2] القاريجار: معرَّب كاريگر، أو الگارجار، وصُحِّف في كثير من النسخ، وفي بعض نسخ المتن والكافي «الفاريجان»، وهو بمعنى العامل بالحصاد.

[3]  الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج2، ص168.

[4]  السيّد ابن طاووس، الإقبال بالأعمال الحسنة، مصدر سابق، ج1، ص460.

[5]  المصدر نفسه، ج1، ص459.

 

177


169
زَادُ المُنِيبين في شهر اللّه