علم المنطق (الجزء الأول)

يُعتبر علم المنطق من العلوم الخادمة للعلوم الأخرى، ولهذا اعتُبر من العلوم الآليّة التي لا غنى عن دراستها لدارس العلوم الإسلامية على اختلافها...


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2023-01

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية


المقدّمة

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى آله الطيبين، وصحبه الأخيار المنتجبين، وبعد...

 

يُعتبر علم المنطق من العلوم الخادمة للعلوم الأخرى، ولهذا اعتُبر من العلوم الآليّة التي لا غنى عن دراستها لدارس العلوم الإسلامية على اختلافها، لا سيّما العلوم العقائدية والفلسفية ونحوها. ونظراً لوجود مضامين ومصطلحات وعبائر قد تكون جديدة أو معقّدة على الطالب، يبرز دور الأستاذ في تقديم هذه المادّة وتوضيحها بطريقة تعليمية – تعلّمية، تلبّي حاجات الطلاب، خاصّةً بعد أن تظهر لهم أهميّتها في حياتهم العلمية والعملية، ومدى الاستفادة منها في كثير من العلوم وقضايا الحياة.

 

من هنا وضع مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية هذه المادة المختصرة في علم المنطق بإسلوبٍ تعليميٍّ وميسّر، بالاعتماد على منهجية ومضمون كتاب المنطق للمرحوم العلّامة الحجة الشيخ محمد رضا المظفّر رحمه الله، بل وفي بعض عباراته أيضاً، إضافةً إلى الآتي:

- تقسيم المادة إلى دروس مستقلّة ومترابطة.

- وضع أهداف خاصّة بكلّ درس.

- إعداد صفحة مفاهيم رئيسة تتضمّن خلاصةً لكلّ درس، حتّى يسهل على الطالب المراجعة والحفظ.

- وضع تمارين خاصّةً بكلّ درس، تساهم في فهم المادّة وتحقيق أهدافها.

- ذكر عدد من المصادر والكتب المنطقية عند نهاية كل درس، يمكن للأستاذ والطالب الرجوع إليها في حالة الرغبة في التوسّع في مضامين الدرس المذكور.

- تسهيل العبارة، والابتعاد قدر الإمكان عن العبارات المعقّدة والمغلقة، مع المحافظة على الاصطلاحات الخاصّة بعلم المنطق، إذ لا يمكن تسهيل وتغيير هذه الاصطلاحات أيضاً، فعلى الطالب أن يجدّ ويسعى لتحصيل هذا العلم، وسيرى ما يفيده في مسيرته العلمية والعملية.

 

                                                                                               والحمد لله رب العالمين

مركز النون للتأليف والترجمة

 

11

 


1

الدرس الأوَّل: الرؤوس الثمانية لعلم المنطق

الدرس الأوَّل

الرؤوس الثمانية لعلم المنطق

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرَّف الرؤوس الثمانية لعلم المنطق.

2. يُحصِّل تصوّرًا إجماليًّا عن هذا العلم.

3. يجد الشوق والرغبة في تحصيل علم المنطق.

 

12


2

الدرس الأوَّل: الرؤوس الثمانية لعلم المنطق

تمهيد

جرت سيرة العلماء - قبل الدخول في أيِّ علمٍ من العلوم - على تقديم مقدِّمةٍ للعلم، فكما توجد مقدِّمةٌ للكتاب، كذلك ثمّة مقدِّمة للعلم، الهدف منها إعطاء الطالب تصوُّرًا إجماليًّا عن العلم الذي هو بصدد دراسته، يكون به على بصيرةٍ بما يطلب، ما يوجِد عنده شوقًا ورغبةً في طلبه وبذله الجهد وتحمُّل المشقَّة في تحصيله، وذلك ببيان ما بات يُطلَق عليها "الرؤوس الثمانية للعلم"، وهي عبارة عن: تعريف العلم، موضوع العلم، الغاية من العلم، واضع العلم، مسائل العلم، مبادئ العلم، مرتبته بين العلوم، المنهج المتَّبع في تحقيق مسائله.

 

تعريف علم المنطق

لغةً

"المنطق": كلمة مشتقَّة من "النطق". ومادَّة "نطق" في اللغة العربيَّة لم تُستَعمَل إلَّا للدلالة على معنى الكلام الذي هو ضدّ الصمت، وهو النطق الظاهريّ. ولكنّ الفلاسفة المتقدِّمين توسَّعوا في معنى الكلمة لتشمل النطق الباطنيّ أيضًا، وهو ما به الفهم وإدراك الكلِّيَّات، ومنه عبَّروا عن النفس الإنسانيَّة بالنفس الناطقة، أي المدرِكة للكلِّيَّات.

 

وكلمة "منطق" العربيَّة تقابلها كلمة "لوجوس" في اللغة اليونانيَّة، التي تدلّ من أوَّل أمرها على المعنيَين معًا: النطق الظاهريّ والنطق الباطنيّ[1].

 

 


[1] انظر: بخيت، محمَّد حسن مهدي: علم المنطق المفاهيم وال مصطلحات (قسم التصوُّرات)، ط1، إربد الأردنيَّة، عالم الكتب الحديث، 2013م، ج1، ص15.

 

14


3

الدرس الأوَّل: الرؤوس الثمانية لعلم المنطق

ووجه تسمية هذا العلم بـ "علم المنطق" أنَّه ينفع في كِلا النطقَين (الظاهريّ والباطنيّ)، من حيث إنَّه يُقوِّي قوَّة المتكلِّم في الإنسان، لأنَّ التكلُّم عبارة عن بيان ما هو مخزون في الذهن، وكذلك يعصمه عن الخطأ في الفهم وإدراك الكلِّيَّات.

 

فالمنطق: إمَّا مصدر ميميّ بمعنى النطق، أُطلِق على هذا العلم مبالغةً، وإمَّا اسم مكان، كأنَّ هذا العلم محلّ النطق ومظهره، يُظهره بصورته المطلوبة القويمة لطالب هذا العلم، فيكون نطقه صحيحًا[1].

 

اصطلاحًا

قبل بيان التعريف الاصطلاحيّ لعلم المنطق، لا بأس ببيان مقدِّمة:

يتميَّز الإنسان عن سائر المخلوقات بكونه كائنًا مفكِّرًا، بما وهبه الله تعالى من نعمة العقل.

ولكنّ هذا الكائن المفطور على التفكير تراه كثيرًا ما يُخطِئ في عمليَّة تفكيره، فقد يستخدم تارةً معلوماتٍ معيَّنة للوصول إلى مطلوبه، لكنَّها لا تكون مناسبةً لهذا المطلوب، أو يكون هذا المطلوب الذي يبتغي الوصول إليه ممَّا لا يترتَّب على هكذا نوعٍ من المعلومات (وهذا ما يُعبَّر عنه بالخطأ في الموادّ)، وقد يستخدم تارةً أخرى معلوماتٍ مناسبةً للمطلوب، ولكن يؤلِّفها ويُرتِّبها بطريقة خاطئة تجعلها غير موصلةٍ إلى المطلوب (وهذا ما يُعبَّر عنه بالخطأ في الصورة)، تمامًا كالنجَّار الذي يُخطئ في صناعة الكرسيّ، فتارةً يكون خطؤه بسبب "الموادّ" التي يستعملها في صناعة الكرسيّ، كأن يستعمل مثلًا موادًّا مغشوشة، وتارةً يكون خطؤه في "صورة" التأليف لهذه الموادّ، فيظهر الخلل في الصورة النهائيَّة للكرسيّ. ولكنّ أخطاء النجَّار هذه هي أخطاء على مستوى الصناعة العمليَّة، أمَّا أخطاء الإنسان في عمليَّة تفكيره، فهي أخطاء على مستوى الصناعة العلميَّة والفكريَّة.

 

وهذه الأخطاء في عمليَّات تفكير الإنسان قد تؤدّي به إلى خسائر فادحة، وربَّما تكون


 


[1] الحيدريّ، رائد السيِّد غالب: المقرَّر في شرح منطق المظفَّر مع متنه المصحَّح، ط7، بيروت، دار المحجَّة البيضاء، 1434هـ.ق/2013م، هامش ص13.

 

15


4

الدرس الأوَّل: الرؤوس الثمانية لعلم المنطق

نتيجتها خسارة الدارَين معًا، وما أعظمها من خسارة!

 

وبسبب هذه الأخطاء الكثيرة في عمليَّة التفكير، ونظرًا إلى خطورتها على الإنسان، كان الإنسان -على الرغم من كونه مفطورًا على التفكير- بحاجة إلى أداةٍ يستعين بها على تصحيح عمليَّة تفكيره، تمامًا كما كان -على الرغم من كونه مفطورًا على النطق- محتاجًا إلى أداة النحو، يُقوِّم بها نطقه، ويُصلحه ليكون كلامه على طبق اللغة التي يتعلّمها، من ناحية هيئات الألفاظ وموادّها.

 

وعلم المنطق هو هذه الأداة التي يستعين بها الإنسان على تصحيح عمليَّة تفكيره، وتُرشده إلى التفكير الصحيح، فتعصمه عن الخطأ في الذهن. وعليه، فالحاجة إلى المنطق هي تصحيح عمليَّة التفكير، وليست تعليم الإنسان التفكير.

ولذا، عرَّفوا علم المنطق - وفق التعريف المشهور له - بأنَّه: "آلة قانونيَّة تعصم مراعاتُها الذهنَ عن الخطأ في الفكر"[1].

 

وفي هذا التعريف بعض المصطلحات التي لا بدّ من التوقُّف عندها:

- كلمة "آلة":

المقصود بالآلة أنَّ علم المنطق هو من قسم العلوم الآليَّة في مقابل العلوم الاستقلاليَّة أو الذاتيَّة، فإنَّ العلوم على قسمَين: "علوم ذاتيَّة أو استقلاليَّة" يكون المقصودُ والغرضُ منها مسائلَ العلم نفسها، كعلمَي الفقه والعقيدة، و"علوم آليَّة" يكون المقصود والغرض منها ليست مسائل العلم نفسها، وإنَّما تُستَخدَم لحصول غاية أخرى، كاستخدامها في علومٍ أخرى، وذلك كعلم الرياضيّات وأصول الفقه والنحو.

 

وعلم المنطق هو من قسم العلوم الآليَّة، إذ إنَّ قواعده ومسائله لا تُدْرَس لذاتها، وإنَّما لأجل تحصيل غرضٍ آخر وراءها، وهو صون الذهن عن الخطأ في الفكر في سائر العلوم.


 


[1] من الواضح أنَّ هذا التعريف لعلم المنطق ليس تعريفًا حقيقيًّا له بالحدّ أو بالرسم، بل هو ليس تعريفًا لعلم المنطق بقدر ما هو بيانٌ للغاية التي لا يتوقَّف تحقُّقها على معرفة هذا العلم فحسب، بل على ممارسة تلك القوانين ورعايتها، ومعلومٌ أنَّ الممارسة والمراعاة لقواعد العلم وقوانينه خارجةٌ عن أصل العلم. ولعلّ التعريف الحقيقيّ لعلم المنطق هو ما ذكره ابن سينا بقوله: "المنطق علمٌ يُتعلَّم فيه ضروب الانتقالات من أمورٍ حاصلةٍ في ذهن الإنسان، إلى أمورٍ مستحصلة".

 

16


5

الدرس الأوَّل: الرؤوس الثمانية لعلم المنطق

- كلمة "قانونيَّة":

"القانون": لفظٌ يونانيٌّ أو سريانيّ، واصطلاحًا يعني القاعدة والضابطة الكلِّيَّة العامَّة التي تُعرَف منها أحكام جزئيَّاتها وأفرادها[1]. ومعنى أنَّ "المنطق آلة قانونيَّة" أنَّ كلّ مسألة من مسائله هي قانونٌ كلِّيّ وقاعدة عامَّة، وليست جزئيَّة. فالمنطق يهتمّ بالكلِّيَّات فقط، ولا شأن له بالجزئيَّات.

 

- كلمة "مراعاتها":

من الإشكالات التي توجَّهت إلى علم المنطق، أنَّه لا جدوى ولا نفع من تعلُّم قواعده، وذلك نظرًا إلى أنَّ كثيرًا ممَّن تعلَّموا المنطق، لم تعصم هذه القواعدُ المنطقيَّةُ ذهنَهم عن الخطأ في الفكر، ومن ثمّ فإنَّ الغرض المدَّعى من هذا العلم لم يحصل لمن تعلَّم قواعدَ هذا العلم، ومن ثمّ فلا نفع في تعلُّمها.

 

ويكمن الجواب الحلِّيّ[2] عن هذا الإشكال، في كلمة "مراعاتها" التي تفيد أنَّه لا يكفي تعلُّم قواعد المنطق، بل لا بدَّ من مراعاتها عند التطبيق. فمن يتعلَّم قواعد المنطق ولا يراعيها عند التطبيق، سيكون في معرض الخطأ في الذهن، ولن يُعصَم ذهنُه، وذلك لأنَّ عصمة الذهن عن الخطأ في الفكر مقيَّدةٌ بتعلُّم قواعد المنطق أوَّلًا، وبمراعاتها عند التطبيق ثانيًا.

 

وعليه، فالعصمة هي للقواعد المنطقيَّة، وليست للمناطقة أو للفلاسفة، فمَن لم يُحكِم أو لم يُراعِ هذه القواعد، يقع في الخطأ لا محالة.


 


[1] الحيدريّ، المقرَّر في شرح منطق المظفَّر، مصدر سابق، هامش ص13.

[2] ثمَّة نوعٌ آخر من الأجوبة، يُقال له: "الجواب النقضيّ". وفي الحقيقة، إنَّ الجواب النقضيّ ليس جوابًا، فإنَّه لا يهدف إلى حلّ الإشكال، بل هو على العكس تمامًا، يُوسِّع من دائرة الإشكال، فهو يقول للمستشكِل: هذا الإشكال الذي تراه هنا، فهو موجود بنفسه في محلٍّ آخر أيضًا.

وقد أُجيبَ عن هذا الإشكال على علم المنطق بجوابٍ نقضيٍّ أيضًا، مفاده أنَّ هذا الإشكال الذي تُشْكِلون به على علم المنطق، موجود بنفسه في عِلْمَي النحو والصرف، فالناس يدرسون النحو والصرف، ولكن على الرغم من ذلك، يخطئون في نطقهم، فهل نقول بأنَّه لا نفع من تعلُّم النحو والصرف أيضًا؟!

 

17


6

الدرس الأوَّل: الرؤوس الثمانية لعلم المنطق

موضوع علم المنطق

قبل الدخول إلى موضوع علم المنطق، لا بدَّ من معرفة ما هو "موضوع العلم"؟

 

موضوع العلم: هو الأمر المركزيّ المحدَّد الذي تدور حوله مسائل العلم، فتبحث في خواصِّه وأحواله وآثاره. ويُحدَّد موضوعُ العلم بأخذ الجامع بين موضوعات مسائله.

 

ولَمَّا كان علم المنطق هو العلم الذي يبحث عن القواعد العامَّة للتفكير الصحيح، ولَمَّا كان التفكير أو الفكر عمليَّة ذهنيَّة عبارة عن ترتيب مجموعة من المعلومات الحاضرة في الذهن، للكشف بها عن مجهولات، ولَمَّا كانت عمليَّات التفكير كلّها، في العلوم جميعًا،لا تخرج عن أحد أمرَين:

- إمَّا تعريف سلسلة من المصطلحات

 

- وإمَّا الاستدلال على جملة من المسائل

 

كان لعلم المنطق موضوعان، هما: "المعرِّف" و"الحُجَّة".

 

والمراد من "المعرِّف": ما يوصِل إلى معلومٍ تصوُّريّ، أيْ ما يُنتِج الخروجَ من الجهل بمفهومٍ من المفاهيم، إلى العلم به. وعلم المنطق، في قسم المعرِّف منه، غايته تعليم الإنسان كيفيَّة تعريف الأشياء تعريفًا صحيحًا دقيقًا، يستطيع بواسطته تصوُّر هذا المفهوم الذي كان مجهولًا عنده، تصوُّرًا صحيحًا، ويصبح بذلك معلومًا عنده. ويعرِّفون "المعرِّف": بالمعلوم التصوُّريّ، من حيث إنَّه يُتوصَّل به إلى العلم بالمجهول التصوُّريّ.

 

فقولنا: "حيوان ناطق" هو المعرِّف لحقيقة الإنسان مثلًا.

والمراد من "الحُجَّة": ما يوصِل إلى معلومٍ تصديقيٍّ، أي ما يُنتِج التصديق والإذعان بثبوت حُكمٍ لموضوعٍ ما في قضيّةٍ من القضايا. وعلم المنطق يُعلِّم الإنسان طرق الاستدلال الصحيحة، التي تُمكِّنه من التصديق والإذعان بأحكام كانت مجهولة عنده. ويُعرِّفون "الحُجَّة": بالمعلوم التصديقيّ، من حيث إنَّه يُتَوصَّل به إلى العلم بالمجهول التصديقيّ.

 

وذلك كالاستدلال على قضيَّة: الحديد يتمدّد بالحرارة.

 

فإذا قلنا: الحديد معدن، وكلّ معدن يتمدّد بالحرارة.

 

18

 


7

الدرس الأوَّل: الرؤوس الثمانية لعلم المنطق

موضوع علم المنطق

قبل الدخول إلى موضوع علم المنطق، لا بدَّ من معرفة ما هو "موضوع العلم"؟

 

موضوع العلم: هو الأمر المركزيّ المحدَّد الذي تدور حوله مسائل العلم، فتبحث في خواصِّه وأحواله وآثاره. ويُحدَّد موضوعُ العلم بأخذ الجامع بين موضوعات مسائله.

 

ولَمَّا كان علم المنطق هو العلم الذي يبحث عن القواعد العامَّة للتفكير الصحيح، ولَمَّا كان التفكير أو الفكر عمليَّة ذهنيَّة عبارة عن ترتيب مجموعة من المعلومات الحاضرة في الذهن، للكشف بها عن مجهولات، ولَمَّا كانت عمليَّات التفكير كلّها، في العلوم جميعًا،لا تخرج عن أحد أمرَين:

- إمَّا تعريف سلسلة من المصطلحات

 

- وإمَّا الاستدلال على جملة من المسائل

 

كان لعلم المنطق موضوعان، هما: "المعرِّف" و"الحُجَّة".

 

والمراد من "المعرِّف": ما يوصِل إلى معلومٍ تصوُّريّ، أيْ ما يُنتِج الخروجَ من الجهل بمفهومٍ من المفاهيم، إلى العلم به. وعلم المنطق، في قسم المعرِّف منه، غايته تعليم الإنسان كيفيَّة تعريف الأشياء تعريفًا صحيحًا دقيقًا، يستطيع بواسطته تصوُّر هذا المفهوم الذي كان مجهولًا عنده، تصوُّرًا صحيحًا، ويصبح بذلك معلومًا عنده. ويعرِّفون "المعرِّف": بالمعلوم التصوُّريّ، من حيث إنَّه يُتوصَّل به إلى العلم بالمجهول التصوُّريّ.

 

فقولنا: "حيوان ناطق" هو المعرِّف لحقيقة الإنسان مثلًا.

والمراد من "الحُجَّة": ما يوصِل إلى معلومٍ تصديقيٍّ، أي ما يُنتِج التصديق والإذعان بثبوت حُكمٍ لموضوعٍ ما في قضيّةٍ من القضايا. وعلم المنطق يُعلِّم الإنسان طرق الاستدلال الصحيحة، التي تُمكِّنه من التصديق والإذعان بأحكام كانت مجهولة عنده. ويُعرِّفون "الحُجَّة": بالمعلوم التصديقيّ، من حيث إنَّه يُتَوصَّل به إلى العلم بالمجهول التصديقيّ.

 

وذلك كالاستدلال على قضيَّة: الحديد يتمدّد بالحرارة.

 

فإذا قلنا: الحديد معدن، وكلّ معدن يتمدّد بالحرارة.

 

18

 


7

الدرس الأوَّل: الرؤوس الثمانية لعلم المنطق

إذًا: الحديد يتمدّد بالحرارة.

فهذا القول هو (الحجّة)، لأنَّه هو الموصل إلى التصديق والإذعان بثبوت التمدّد بالحرارة (الحُكم) للحديد (الموضوع).

 

وعليه، فالمنطق يبحث:

- في وسائل التعريف، ليُحدِّد ما يصلح منها للتعريف، وما لا يصلح.

- وفي وسائل الإثبات (الأدلّة)، ليُحدّد المنتِج منها للغرض، من غير المنتِج، وما يُنتِج منها للغرض كيف ينبغي ترتيبه لضمان إنتاجه؟

 

الغاية من علم المنطق

إنَّ التعريف المتقدِّم لعلم المنطق -من أنَّه "آلة قانونيَّة تعصم مراعاتُها الذهنَ عن الخطأ في الفكر"- هو في الحقيقة ليس تعريفًا حقيقيًّا لعلم المنطق، بقدر ما هو بيانٌ للغاية من هذا العلم. فإنَّ الغاية من علم المنطق هي عصمة الذهن عن الخطأ في الفكر، وذلك عبر ما يُعطيه من قواعد عامَّة للتفكير الصحيح.

 

وببيانٍ آخر:

علم المنطق يُعلّمك القواعد العامّة للتفكير الصحيح، حتّى ينتقل ذهنُك إلى الأفكار الصحيحة في العلوم جميعًا. فيُعلّمك نوعَ الصور والمعلومات التي تَعْلَمُها والحاضرةِ في ذهنك الصالحةِ للمطلوب، وعلى أيّة هيئة وترتيب فكريّ تنتقل منها إلى الأمور المجهولة والغائبة عنك.

 

واضع علم المنطق

قبل الحديث عن واضع علم المنطق، وما إذا كان له واضعٌ أو لا، تجدر الإشارة إلى تاريخ هذا العلم:

ممَّا ينبغي أن يُعلَم، أنَّ علم المنطق ليس من العلوم التي أنتجها العلماء المسلمون، وإنَّما كانت نشأة علم المنطق في اليونان. ففي القرن الخامس قبل الميلاد، ظهرت في اليونان أزمة ماليَّة، تسبَّبت في نشوء نزاعاتٍ وخصوماتٍ بين الناس، أفضت إلى المحاكم، ونتيجةً

 

19

 


8

الدرس الأوَّل: الرؤوس الثمانية لعلم المنطق

لذلك، امتهن جماعةٌ من الناس مهنة المحاماة، وكانوا بارعين في الخطابة وإقناع الآخرين والدفاع عن موكِّليهم وقلب الوقائع والحقائق وجعلها لمصلحتهم، حتّى ذهب بهم الأمر إلى إنكار الواقع الخارجيّ، وإنكار وجود حقيقة، والاعتقاد بأنَّ الواقع والحقيقة رهنُ شعورِ الإنسان وإدراكه، وعُرِف هؤلاء بـ"السفسطائيِّين"، ومنهجهم بـ"السفسطة"[1].

 

وقد تصدَّى لهؤلاء السفسطائيِّين ثلاثةٌ من كبار فلاسفة اليونان، وكشفوا عن مغالطاتهم، وأثبتوا أنَّ للأشياء واقعًا، وهم: سقراط، ثمَّ تلميذه أفلاطون، وصولًا إلى أرسطو، الذي جمع القواعد المنطقيَّة ودوَّنها، بعد أن كانت متناثرة وغير مدوَّنة، وهذَّبها ورتَّبها، وأضاف إليها قواعد أخرى. وإليه يُنسَب المنطق الحاليّ، حيث يُعرَف بـ"المنطق الأرسطيّ".

 

وعليه، فلا يمكن الحديث عن واضعٍ لعلم المنطق، وأرسطو إنَّما هو مؤلِّفُ هذا العلم ومدوِّنُه، وليس واضعَه المبتكِر لأصله.

 

أمَّا انتقال علم المنطق من اليونان، ووصوله إلى علماء المسلمين، فكان عن طريق الترجمة. وكانت أدقّ ترجمة له من اللغة اليونانيَّة إلى اللغة العربيَّة -بحسب المحقِّقين- ترجمة إسحاق بن حنين[2].

 

مسائل علم المنطق

لَمَّا كان موضوع علم المنطق -بحسب ما تقدَّم- هو المعرِّف والحجَّة، ولَمَّا كان موضوع العلم يُحدَّد بأخذ الجامع بين موضوعات مسائله، كانت مسائل علم المنطق -بطبيعة الحال- تتعلَّق بـ:

- مبادئ التعريف (ويعبِّرون عنه بكاسب التصوُّر أو القول الشارح) وكيفيَّة تأليفه، حدًّا كان أو غيره.


 


[1] انظر مثلًا: الطباطبائيّ، محمَّد حسين: أصول الفلسفة والمنهج الواقعيّ، ترجمة: عمَّار أبو رغيف، تقديم وتعليق: مرتضى مطهَّري، لا.ط، لا.م، المؤسَّسة العراقيَّة للنشر والتوزيع، لا.ت، ج1، ص90-92.

[2] المطهَّري، مرتضى: المنطق، ترجمة علي حسن الهاشميّ، مراجعة وإعداد: حسين بلّوط، ط2، بيروت، دار الولاء للطباعة والنشر، 1432هـ.ق/2011م، ص11.

 

 

20


9

الدرس الأوَّل: الرؤوس الثمانية لعلم المنطق

- مبادئ الحجَّة (ويعبِّرون عنها بكاسب التصديق أو الدليل) وكيفيَّة تأليفها، قياسًا كانت أو غيره.

 

ومن هنا، قسَّموا مسائل علم المنطق إلى قسمَين رئيسَين: القسم الأوَّل في كاسب التصوُّر (القول الشارح)، والقسم الثاني في كاسب التصديق (الدليل).

 

مبادئ علم المنطق

مبادئ كلّ علم عبارة عن القضايا والمفاهيم التي يعتمدها الباحث في تحقيق مسائل العلم. ويُشتَرَط فيها إمَّا أن تكون بيِّنةً بذاتها (بديهيَّة)، أو مبيَّنة في علمٍ سابق.

 

ومبادئ علم المنطق هي القضايا البديهيَّة التي لا يختلف على صحّتها اثنان (كاستحالة اجتماع النقيضَين أو ارتفاعهما)، أو قضايا يقينيَّة قريبة من البديهيَّة، يُصَدَّق بها بمجرَّد تصوُّرها والتأمُّل فيها (كقضيَّة مساوي المساوي مساوٍ).

 

ومن هنا، كان علم المنطق لا يعتمد على علم سابقٍ عليه في شيء، بل على العكس من ذلك، فإنَّ العلوم كلَّها تعتمد عليه.

 

مرتبة علم المنطق بين العلوم

نظرًا إلى أنَّ العلوم جميعها تحتاج إلى علم المنطق، لِما يُقدِّمه لها من قواعد عامَّة للتفكير الصحيح، كان متقدِّمًا في التحصيل على سائر العلوم، ليكون ذهن المتعلِّم مرتَّبًا ومسلَّحًا بقواعد التفكير الصحيح قبل الورود في المباحث العلميَّة.

وعليه، فعلم المنطق يحتلّ الصدارة والمرتبة الأولى بين العلوم كافَّة. ولذا، أُطلِقَت عليه أسماء تُعبِّر عن رتبته هذه بين العلوم، من قبيل كونه: "خادم العلوم"، أو "رئيس العلوم"، أو "الميزان"، أو "المعيار".

 

المنهج المتَّبَع في تحقيق مسائل علم المنطق

المنهج المتَّبَع في تحقيق مسائل علم المنطق، هو المنهج البرهانيّ العقليّ، الذي يعتمد على مبادئ بديهيَّة بيِّنة بذاتها من حيث المادَّة، وترتيبها على هيئات بديهيَّة بيِّنة الإنتاج أيضًا.

 

 

21


10

المقدّمة

المفاهيم الرئيسة

- علم المنطق هو الأداة التي يحتاجها الإنسان -باعتباره كثير الخطأ في تفكيره- في تصحيح عمليَّة التفكير. ووفقًا لذلك، عُرِّف بأنَّه: "آلة قانونيَّة تعصم مراعاتُها الذهنَ عن الخطأ في الفكر".

 

- موضوع علم المنطق هو: "المعرِّف" و"الحجَّة". والمقصود من "المعرِّف": المعلوم التصوُّريّ، من حيث إنَّه يُتَوَصَّل به إلى العلم بالمجهول التصوُّريّ. والمقصود من "الحجَّة": المعلوم التصديقيّ، من حيث إنَّه يُتَوَصَّل به إلى العلم بالمجهول التصديقيّ.

 

- غاية علم المنطق تصحيح عمليَّة تفكير الإنسان، وما أعظمها من حاجةٍ وغاية!

 

- "أرسطو طاليس" هو مؤلِّفُ علم المنطق ومدوِّنُه، وليس واضعَه المبتكِر لأصله.

 

- تنقسم مسائل علم المنطق إلى قسمَين رئيسَين: القسم الأوَّل في كاسب التصوُّر (القول الشارح)، والقسم الثاني في كاسب التصديق (الدليل).

 

- مبادئ علم المنطق هي القضايا البديهيَّة التي لا يختلف على صحّتها اثنان، أو قضايا يقينيَّة قريبة من البديهيَّة، يُصَدَّق بها بمجرَّد تصوُّرها والتأمُّل فيها، ولا يعتمد في مبادئه على علمٍ سابقٍ عليه في شيء.

 

- علم المنطق هو العلم الذي تحتاج إليه العلوم جميعها، لِما يُقدِّمه لها من قواعد عامَّة للتفكير الصحيح. ولذلك، يُسَمّى بـ"خادم العلوم"، أو "رئيس العلوم"، أو "الميزان" و"المعيار".

 

- المنهج المتَّبَع في تحقيق مسائل علم المنطق، هو المنهج البرهانيّ العقليّ.

 

 

22


11

الدرس الأوَّل: الرؤوس الثمانية لعلم المنطق

تمارين

 

1. أجب بصحّ (√) أو خطأ (x)، معلِّلًا الإجابة:

أ. قوّة العقل والتفكير هي من الأمور التي يكتسبها الإنسان.  □

 

ب. مَن تعلّم المنطق يصبح قادرًا على التفكير بنحو صحيح.  □

 

ج. علم المنطق يُغني عن تعلّم سائر العلوم، كالرياضيَّات والفيزياء.       □

 

د. نحتاج إلى تعلُّم علم المنطق لنفسه وذاته، كما نتعلّم مسائل الفقه.     □

 

ه. كلّ من درس المنطق لا يُخطئ في التفكير.      □

 

23

 


12

الدرس الأوَّل: الرؤوس الثمانية لعلم المنطق

2. أجب بصحّ (√) أو خطأ (x):

أ. قوّة العقل والتفكير تكفي لمواجهة ما يعترض الإنسان في حياته.      □

ب. تنمية مدركات الإنسان ومعلوماته تحصل بواسطة قوّة العقل والتفكير.         □

ج. إذا كان الإنسان عاقلًا مفكِّرًا، فهو مصيبٌ دائمًا.        □

د. دائمًا ما يخطئ الإنسان في تصوُّر الأشياء وإدراكها، وفي نقلها إلى الآخرين.    □

ه. المنطق لا يُخطئ، غير أنّ المستعمِل قد يُخطئ.   □

و. يكفي معرفة القواعد المنطقيَّة حتّى لا نقع في الخطأ في التفكير.       □

 

3. اختر الإجابة الأصحّ:

أ. نحتاج إلى المنطق:

□        لنُمنَحَ قوّة عاقلة لعمليَّة التفكير.

□        لنتعلّم كيف نُفكّر.

□        لكثرة ما نُخطئ في أفكارنا.

□        لتصحيح أفكارنا وتنظيمها وتعديلها.

 

ب. أين الدخيل؟ سبب الوقوع في الخطأ في عمليَّة التفكير، حتَّى ممّن درس المنطق، هو:

□        عدم الحصول على مَلَكة العلم.

□        عدم مراعاة قواعد العلم عند الحاجة.

□        وقوع الخطأ والاشتباه في تطبيق القواعد.

□        كونه علمًا يونانيًّا مضى عليه الزمن، ويحتاج إلى تطوير.

 

ج. ما هو التعريف الأدقّ للمنطق؟

□        هو قانون التفكير الصحيح.

□        هو العلم بالقواعد التي، مع مراعتها، لا يقع الذهن عادةً في الخطأ في الفكر.

□        هو علمٌ يبحث عن القواعد العامَّة للتفكير الصحيح.

□        هو آلة قانونيَّة تعصم مراعاتُها الذهنَ عن الخطأ في الفكر.

 

24


13

المقدّمة

أسئلة حول الدرس

1. ما العلاقة بين المنطق والتفكير؟

2. بيِّن أهمِّيَّة علم المنطق.

3. ماذا يبحث علم المنطق؟

 

للتوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان، انظر:

1. خير الدين، علم المنطق، ص6-13.

 

2. خير الدين، سمير، القواعد المنطقيَّة دروس بيانيَّة في شرح المنطق وتطبيقاته، ط1، بيروت، معهد المعارف الحكمية، 1426ه/2006م، ص5-40.

 

3. الفضليّ، عبد الهادي، مذكّرة المنطق، لا.ط، قم المقدسة. مؤسسة دار الكتاب الإسلامي، لا.ت، ص7-30.

4. المطهَّري، المنطق، مصدر سابق، ص11-22.

 

5. المظفَّر، محمد رضا، المنطق، لا.ط، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1427ه/2006م، ص11-12.

 

6. الوائليّ، صالح، معالم المنطق، مؤسسة الدليل للدراسات والبحوث العقدية التابعة للعتبة المقدسة، ص51-55.

 

7. اليزديّ، الملا عبد الله، حاشية على التهذيب، انتشارات دار التفسير، إيران - قم، ص35-37.

 

 

25

 

 


14

الدرس الثاني: العلم وأقسامه

الدرس الثاني

العلم وأقسامه

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرَّف معنى العلم، وانقسامه إلى حضوريّ وحصوليّ.

2. يدرك أنَّ العلم المبحوث عنه في علم المنطق هو خصوص العلم الحصوليّ.

3. يتعرَّف مراتب العلم الحصوليّ.

4. يحدِّد المرتبة التي تُعَدّ مجال علم المنطق وميدان بحثه.

 

26


15

الدرس الثاني: العلم وأقسامه

تمهيد

تقدَّم في الدرس الأوَّل، أنَّ المنطق هو الآلة التي يُصحِّح بها الإنسان عمليَّة تفكيره، ومن ثمّ يعصم بها ذهنَه عن الخطأ في الفكر. وتقدَّم أنَّ الفكر أو التفكير حركةٌ عقليَّة في المعلومات الموجودة في ذهن الإنسان، يهدف منها تحويلَ مجهولاته إلى معلوماتٍ جديدةٍ يُضيفها إلى معلوماتِه السابقة.

 

إذًا، الهدف هو العلم بمعلوماتٍ جديدة. وهذا العلم بالمعلومات الجديدة يتوقَّف على التفكير، وهذا التفكير معرَّضٌ للخطأ في كثيرٍ من الأحيان، والمنطق هو الذي يُصحِّح عمليَّة التفكير هذه، ويُجنِّبها الخطأ.

 

وعليه، فتعلُّم قواعد المنطق ومراعاتها أثناء عمليَّة التفكير هي التي يتوقَّف عليها "العلم" بالمعلومات الجديدة.

 

لذا، كان لا بدَّ من معرفة ما هو "العلم" أوَّلًا، ليتمكَّن الإنسان من تحديد القواعد المنطقيَّة التي يحتاجها للعلم الصحيح بالمعلومات الجديدة، وعدم قوعه في الخطأ في عمليَّات تفكيره.

 

من هنا، نقف في ما يأتي على بيان معنى "العلم"، وتحديد نوعه الذي يُبحَث عنه في علم المنطق، وتكون القواعد المنطقيَّة لأجله، وكذلك بيان مراتب هذا العلم وأقسامه، تمهيدًا للدخول في تحديد هذه القواعد المنطقيَّة وبيانها.

 

 

28


16

الدرس الثاني: العلم وأقسامه

العلم

قد تسأل: ما هو العلم بالأشياء؟ أو متى يكون الإنسان عالِمًا بالشيء؟

الإجابة بسيطة: فإنَّ الإنسان حينما يحضر الشيء عنده، يُصبح هذا الشيء معلومًا له، ويُصبح هو عالـِمًا به. وبتعبيرٍ آخر: العلم هو حضور المعلوم لدى العالِم.

 

ولكن، كيف يحضر الشيء عند العلم به؟ هل تحضر الأشياء جميعهاعند العلم بها، بطريقةٍ واحدةٍ وبمستوى واحدٍ؟

 

الجواب: لا، فإنَّ بعض الأشياء تحضر بذاتها، بوجودها الواقعيّ والعينيّ، وبعضها لا تحضر بذاتها، وإنَّما بواسطة شيءٍ يعكس حقيقتها في الذهن، وهذا الشيء الذي يعكس المعلوم في الذهن ولا يكون هو المعلوم نفسه، يُطلَق عليه -اصطلاحًا - اسم "الصورة الذهنيَّة" أو "المفهوم".

 

وعلى أساس هذا الاختلاف في طريقة حضور الأشياء عند العلم بها، بين حضورها بنفسها مباشرة أو حضورها عن طريق الصورة، جرى تقسيم العلم إلى قسمَين: حضوريّ وحصوليّ.

 

فـ"العلم الحضوريّ" هو حضور المعلوم بنفسه لدى العالِم، كعلم النفس بذاتها، وعلم الله تعالى بمخلوقاته، فإنّه محيط بها وهي حاضرة عنده، وكعلم الإنسان بحالاته النفسيّة، كعلمه بألمه حال وجود المرض وتألُّمه منه، فإنَّ علمه بالألم حال التألُّم هو بحضور الألم نفسه عنده.

 

أمَّا "العلم الحصوليّ" فهو حضور المعلوم بصورته، لا بنفسه، لدى العالِم، أو بتعبيرٍ آخر: هو حضور صورة المعلوم لدى العالِم، كعلم الإنسان بالألم بعد ذهاب الألم، فإنَّه يبقى عالِمًا بالألم الذي كان عنده حال المرض، لكن بصورة الألم وليس بالألم نفسه، وكعلم الطبيب بألم المريض، فألم المريض ليس حاضرًا بنفسه عند الطبيب، وإنَّما هو حاضر بصورته التي حصلت عنده نتيجة نقل المريض له لطبيعة الألم.

 

 

29


17

الدرس الثاني: العلم وأقسامه

تحديدٌ أوَّل[1] للعلم المبحوث عنه في علم المنطق

نظرًا إلى أنَّ العلمَ الحضوريَّ هو حضور المعلوم نفسه عند الإنسان، فلا مجال لوقوع الخطأ في هذا النوع من العلم، بل ليس موطنه الذهن أصلًا. أمَّا العلم الحصوليّ، فباعتبار أنَّه يحصل بحضور صورة المعلوم، وليس بحضور المعلوم نفسه، فهو العلم القابل لوقوع الخطأ فيه،لاحتمال عدم مطابقة الصورة لمحكيّها والواقع الخارجيّ الذي تحكي عنه.

 

ونظرًا إلى أنَّ علم المنطق هو الآلة القانونيَّة التي تعصم مراعاتُها الذهنَ عن الخطأ، فإنَّ العلم المبحوث عنه في علم المنطق هو خصوص العلم الحصوليّ.

 

ولكن لإدراك الإنسان للأشياء وعلمه بها علمًا حصوليًّا مراتب، يشترك في بعضها مع العجماوات (البهائم)، ويفترق عنها في مرتبةٍ، هذه المرتبة هي ميدان علم المنطق.

 

لذا، كان لا بدّ من معرفة هذه المراتب المشتركة، وبيان المرتبة المختصَّة، لمعرفة مجال علم المنطق والميدان الذي يبحث فيه.

 

مراتب الإدراك أو مراتب العلم الحصوليّ

1. العلم الحسّيّ: أوّل درجات العلم

إذا وُلِدَ الإنسان، يُولَد وهو خالي النفس من كلِّ فكرةٍ وعلمٍ فعليّ، سوى هذا الاستعداد الفطريّ. فإذا نشأ وأصبح ينظر ويسمع ويذوق ويشمّ ويلمس، نراه يحسّ بما حوله من الأشياء، ويتأثّر بها التأثّر المناسب، فتنفعل نفسه بها، فنعرف أنّ نفسه التي كانت خاليةً، أصبحت مشغولةً بحالةٍ جديدةٍ، نُسمّيها: "العلم". وهي العلم الحسّيّ الذي ليس إلّا حسّ النفس بالأشياء التي تنالها الحواسّ الخمس: الباصرة، السامعة، الشامّة، الذائقة، اللامسة، وهذا أوّل درجات العلم، وهو رأس المال لكثير من العلوم التي يحصل عليها الإنسان، ويُشاركه فيه سائر الحيوانات التي لها جميع هذه الحواسّ أو بعضها.


 


[1] سيأتي تحديدٌ ثانٍ للعلم المبحوث عنه في علم المنطق، هو أضيق دائرةً من هذا التحديد الأوَّل، وذلك بعد انتهاء الكلام عن أقسام العلم، وتحديدًا في الدرس الخامس.

 

 

30


18

الدرس الثاني: العلم وأقسامه

ومن الطبيعيّ جدًّا أنَّ مَن يفقد نوعًا من الحواسّ يفقد العلم بذلك النوع من المحسوسات، فالأعمى لا يعرف المبصرات، والأصمّ لا يُدرك المسموعات، وهكذا في ما يخصّ باقي أنواع الحواسّ، ومن هنا قالوا: "إنّ مَن فَقَد حسًّا فَقَد علمًا".

 

2. العلم الخياليّ

ولو دقّقنا أكثر في مدارك الإنسان، لوجدنا نوعًا آخر من المعرفة موجودًا في ذهنه، وهو أنّ الإنسان عندما ينظر إلى مشهدٍ ما ثمّ يغمض عينَيه، يجد أنّ صورة هذا المشهد ما زالت عالقة للحظات في ذهنه، وكذلك لو سمع صوتًا وانقطع ذلك الصوت، يجد أنّ الصوت نفسهما زال يتردّد في مسامعه للحظات، وهكذا الأمر في باقي الحواسّ بعد الانقطاع عن الحسّ، وهذا ما يُسمّى بـ "العلم الخياليّ"، فهو العلم بالصور الحسِّيَّة (ما يُحفَظ في الذهن من صور المحسوسات) بعد زوال الاتّصال بالمحسوس الخارجيّ[1].

 

وهذا النوع من العلم موجودٌ عند الحيوانات، فلا ميزة للإنسان عليها فيه.

 

ثمّ تترقّى مدارك الإنسان، فيتصرّف ذهنُه في صور المحسوسات المحفوظة عنده، فينسب بعضها إلى بعض: هذا أطول من ذاك، وهذا الضوء أشدّ نورًا من الآخر أو مثله... ويؤلِّف بعضها من بعض تأليفًا قد لا يكون له وجودٌ في الخارج، كتأليفه لصور الأشياء التي يسمع بها ولا يراها، فيتخيّل البلدة التي لم يرها مؤلّفةً من الصور الذهنيّة المعروفة عنده من مشاهداته للبلدان، وهذا هو "التخيّل" يحصل عليه الإنسان بقوّة المتخيّلة.

 

3. العلم الوهميّ

ثمّ يتوسّع في إدراكه إلى أكثر من المحسوسات، فيُدرك المعاني الجزئيّة التي لا مادّة لها ولا مقدار، مثل أن يُدرك حبّ أبوَيه له[2]، أو يُدرك عداوة مبغِضيه له، وخوف الخائف، وحزن الثاكل، وفرح المستبشر...[3] وهذا هو "العلم الوهميّ" يحصل عليه الإنسان بقوّة الوهم.


 


[1] راجع: الشفاء: ج 6، ص36. وأسرار الحُكم: ص 221.

[2] لا مفهوم "حبّ الأبوَين"، فإنّه مفهوم كلّيّ كما سيتّضح.

[3] لا يخفى أنّه ليس المراد درك الخائف الخوف الموجود عنده فعلًا، وإلَّا لكان علمًا حضوريًّا، بل المراد إداركه خوف غيره المعيَّن، أو إدراك خوف نفسه ولكن في حالة عدم وجود هذه الصفات في نفسه فعلًا، ليكون العلم بها حصوليًّا.

 

31


19

الدرس الثاني: العلم وأقسامه

وبعض الحيوانات تمتلك هذا النوع من العلم.

 

وبعد هذه القوّة، يفترق الإنسان عن الحيوان، فيُترَك الحيوان وحده يُدير إدراكاته بالوهم فقط، ويصرفها بما يستطيعه من هذه القوّة المحدودة.

 

4. العلم الأكمل: العقل

ثمّ يذهب الإنسان في طريقه وحده، متميِّزًا عن الحيوان بقوّة العقل والفكر التي لا حدّ لها ولا نهاية، فيُدير بها دفّة مدركاته الحسّيّة والخياليّة والوهميّة، ويُميّز الصحيح منها من الفاسد، وينتزع المعاني الكلِّيَّة من الجزئيّات التي أدركها، فيتعقّلها ويقيس بعضها على بعض، وينتقل من معلومٍ إلى آخر، ويستنتج ويحكم، ويتصرّف ما شاءت له قدرته العقليّة والفكريّة.

 

وهذا العلم الذي يحصل للإنسان بهذه القوّة، هو العلم الأكمل الذي كان به الإنسان إنسانًا، ولأجل نموّه وتكامله، وُضِعَت العلوم وأُلِّفَت الفنون، وبه تفاوتت الطبقات واختلفت الناس.

 

وعِلم المنطق وُضِعَ من بين العلوم لأجل تنظيم تصرُّفات هذه القوّة، خوفًا من تأثير الوهم[1] والخيال عليها، ومن ذهابها في غير الصراط المستقيم لها.


 


[1] قال في أسرار الحُكم ص 222: إذا لم يكن الوهم كالكلب المعلّم، فإنّه يتنازع مع العاقلة، ويحكم بخلافها، ولا يذعن لأحكام العاقلة.

 

32


20

الدرس الثاني: العلم وأقسامه

المفاهيم الرئيسة

- العلم هو حضور المعلوم لدى العالم، وهو ينقسم إلى قسمَين: حضوريّ وحصوليّ، لأنَّ حضور المعلوم إمَّا أن يكون بنفسه ومباشرة، فيكون حضوريًّا، وإمَّا أن لا يكون بنفسه، بل بصورته الذهنيَّة، فيكون حصوليًّا.

 

- العلم المبحوث عنه في المنطق هو خصوص العلم الحصوليّ.

 

- للعلم الحصوليّ مراتب:

1. العلم الحسّيّ: وهو حسّ النفس بالأشياء التي تنالها الحواسّ الخمس: الباصرة، السامعة، الشامّة، الذائقة، اللامسة، فيتأثّر بها التأثّر المناسب، وتنفعل نفسه بها، وهذا أوّل درجات العلم.

 

2. العلم الخياليّ: هو العلم بالصور الحسّيّة (ما يُحفَظ في الذهن من صور المحسوسات) بعد زوال الاتّصال بالمحسوس الخارجيّ.

 

3. العلم الوهميّ: وهو إدراك المعاني الجزئيّة التي لا مادّة لها ولا مقدار، مثل حبّ أبويه له، وعداوة مبغضيه، وخوف الخائف.

 

4. العلم العقليّ الأكمل: يحصل بقوّة العقل والفكر التي لا حدّ لها ولا نهاية، يُدير الإنسان بها دفَّة مدركاته الحسِّيَّة والخياليَّة والوهميَّة، ويُميِّز الصحيح منها من الفاسد، وينتزع المعاني الكلِّيَّة من الجزئيَّات، فيتعقَّلها ويقيس بعضها على بعض، وينتقل من معلومٍ إلى آخر، ويستنتج ويحكم، ويتصرَّف ما شاءت له قدرته العقليَّة والفكريَّة. وبهذا العلم يمتاز الإنسان عن الحيوان.

 

- علم المنطق وُضِع من بين العلوم لأجل تنظيم تصرُّفات القوَّة العاقلة، خوفًا من تأثير الوهم والخيال عليها، ومن ذهابها في غير الصراط المستقيم لها.

 

 

33


21

الدرس الثاني: العلم وأقسامه

تمارين

1. أجب بصحّ (√) أو خطأ (x)، معلِّلًا الإجابة:

أ. العلم هو مجموعة مسائل تبحث عن موضوع ما كالمنطق.   □

 

ب. العلم الحسّيّ هو المشاعر والعواطف، كالشعور بالحبّ.   □

 

ج. إدراك أنّ زيدًا أطوَل من عمروٍ هو من العلم الخياليّ.      □

 

د. الوهم هو تصوّر مفهوم خاطئ.       □

 

ه. العقل يُدرك القضايا والقواعد الكلّيّة. □

 

و. "الخطّان المستقيمان المتوازيان لا يلتقيان" هي قاعدة كلّيّة. □

 

34

 


22

المقدّمة

2. ميّز في هذه الحادثة ما حصل مع المحقِّق من أنواع العلم: حسّيّ، خياليّ، وهميّ، عقليّ.

 

دخل المحقّق إلى الغرفة التي حصلت فيها الحادثة، وبدأ بالفحص وتتبُّع آثار السارق. وأوَّل ما وقع نظره على النافذة المفتوحة، اقترب منها بهدوءٍ، فرأى آثار أصابع السارق على قبضة النافذة، فنظر إلى الأسفل، فرأى آثار أقدامٍ كبيرةٍ على الرمال، فاستنتج أنّ السارق قد هرب من النافذة، وأنّه رجلٌ كبيرٌ. وحين عاد ليسأل صاحبة الدار عن بعض الملابسات، شعر بحالةِ خوفٍ شديدٍ وذُعرٍ لديها، فأخذ يخفِّف من روعها، وحين سألها أين كانت أثناء دخول السارق الدار، أجابت بأنّها كانت نائمة، فشعرَت بصوتٍ داخل الغرفة، فنادت زوجها، لكنّه لم يجبها، وعندما قامت لمحت السارق يركض في الخارج، وما زالت صورته في ذهنها. وبدأ المحقِّق يسألها عن مواصفاته وعن بعض الأمور الأخرى. وحين سألها عن زوجها، استنتج أنَّ العلاقة بينهما ليست جيِّدة، وشعر منها أنّها تُخفي شيئًا عنه، فأخذ يسألها عن ترتيب الغرفة، وأنّها منظّمة ومرتّبة بنحو جيّد، فوجدها - من دون شعورٍ - تسترق النظر إلى النافذة لتنظر ما في الخارج.

 

 

35


23

الدرس الثاني: العلم وأقسامه

أسئلة حول الدرس

1. ميّز بين أقسام العلم (الحسيّ، والخياليّ، والوهميّ)، موضحًا بالأمثلة.

2. عرّف العلم بأسلوبك الخاصّ.

3. ما هو العقل؟ وماذا يُدرك؟ أوضِح بمثال.

 

للتوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان، انظر:

1. خَنْدان، علي أصغر، المنطق التطبيقيّ منهج جديد في توظيف أصول علم المنطق، ترجمة: محمد حسن الواسطي وعبد الرزاق سيادت الجابري، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت - لبنان، 2017م، ص25-27.

 

2. خير الدين، علم المنطق، مصدر سابق، ص16-17.

 

3. خير الدين، القواعد المنطقيَّة دروس بيانيَّة في شرح المنطق وتطبيقاته، مصدر سابق، ص49-62.

 

4. العابدي، فلاح، والموسوي، سعد، ميزان الفكر، أكاديمية الحكمة العقلية، ط1، 2011م، ص25-26.

 

5. المطهَّري، المنطق، مصدر سابق، ص25-26.

 

6. المظفَّر، المنطق، مصدر سابق، ص13-15.

 

7. الوائليّ، معالم المنطق، مصدر سابق، ص57.

 

 

36

 

 


24

الدرس الثالث: تقسيمات العلم الحصوليّ (1) التصوُّر والتصديق

الدرس الثالث

تقسيمات العلم الحصوليّ (1):

التصوُّر والتصديق

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يعرف أنَّ العلم الحصوليّ ينقسم إلى تصوُّر وتصديق.

2. يعرف المراد من التصوُّر والتصديق.

3. يقدر على التمييز بين التصوُّر والتصديق.

 

 

39


25

الدرس الثالث: تقسيمات العلم الحصوليّ (1) التصوُّر والتصديق

تمهيد

تقدَّم في الدرس السابق أنَّ العلم ينقسم - في أوَّل ما ينقسم إليه - إلى: حضوريّ وحصوليّ.

 

وممَّا تقدَّم أيضًا في تعريف كلٍّ منهما، يمكننا استنتاج فرقَين رئيسَين بين هذَين القسمَين من أقسام العلم:

- الفرق الأوَّل:

- العلم الحضوريّ هو حضور المعلوم بنفسه لدى العالم.

- العلم الحصوليّ هو حضور المعلوم لا بنفسه، بل بصورته في ذهن العالم.

 

- الفرق الثاني:

- المعلوم بالعلم الحضوريّ وجودُه العلميّ هو عينُ وجوده العينيّ.

- المعلوم بالعلم الحصوليّ وجودُه العلميّ غير وجوده العينيّ.

 

وإلى هذا الفرق يرجع السبب في كون العلم الحضوريّ مصيبًا دائمًا وغيرَ قابلٍ لوقوع الخطأ فيه، وكون العلم الحصوليّ قابلًا للخطأ.

 

ولكن ثمَّة فرقٌ ثالثٌ يُضاف إليهما، وهو ما سيكون موضع بحثنا في هذا الدرس.

 

- الفرق الثالث:

- العلم الحضوريّ لا ينقسم إلى تصوُّرٍ وتصديق.

 

- أمَّا العلم الحصوليّ فهو وحده الذي ينقسم إلى تصوُّرٍ وتصديق.

 

وباعتبار أنَّ ميدان البحث في علم المنطق -كما تقدَّم أيضًا - هو العلم الحصوليّ، كان لا بدَّ من التعرُّض إلى أقسامه هذه والوقوف عليها، لمعرفة القواعد المنطقيَّة التي تنفع في تصحيح عمليَّة التفكير في تحصيل المعلوم بكلٍّ منهما.

 

 

41

 

 


26

الدرس الثالث: تقسيمات العلم الحصوليّ (1) التصوُّر والتصديق

قِسْمَا العلم الحصوليّ: التصوُّر والتصديق

تقدَّم أنَّ العلم الحصوليّ هو حضور صورة المعلوم في ذهن العالم.

 

ولكنّ صورة المعلوم هذه التي تحضر، يختلف نحوُ حضورها إلى ذهن العالم، فتارةً تحضر حضورًا مجرَّدًا عن الحُكم، وتارةً يكون حضورها مستتبِعًا لحُكم.

 

ولذلك ينقسم العلم الحصوليّ إلى: تصوُّرٍ وتصديق.

 

التصوُّر

هو حضور صورة المعلوم في ذهن العالم، عند العلم به، حضورًا مجرَّدًا عن الحُكم، وإن شئت فقل: حضورًا غير مُستَتْبِعٍ لحُكم.

 

أمَّا التصديق

فهو حضورُ صورة مطابقة النسبة للواقع، المستلزِمُ لحُكم النفس وإذعانها وتصديقها بالمطابقة.

 

توضيح ذلك:

إذا جاءك شخص وأخبرك بأنَّ زيدًا قائم، فإنَّ حصول صورة لزيد في ذهنك هو تصوُّرٌ لزيد، وحصول صورة في ذهنك للقيام هو تصوُّرٌ للقيام، وحصول صورة النسبة (نسبة القيام إلى زيد) هو تصوُّرٌ للنسبة، فهذه كلُّها تصوُّرات خالية من الحُكم.

 

ولكن بعد تصوُّراتك هذه وذهابك إلى الغرفة الثانية ورؤيتك لزيد، فإن وجدتَ زيدًا قائمًا فعلًا، عندها يحصل لديك إدراك مستلزِم لإذعان النفس وتصديقها بأنَّ النسبة (نسبة القيام إلى زيد) التي أخبرك بها فلان مطابقةٌ للواقع فعلًا، أمَّا لو وجدته جالسًا وليس قائمًا، عندها أيضًا يحصل لديك إدراك مستلزِم لإذعان النفس وتصديقها بأنَّ النسبة التي أخبرك بها فلان غير مطابقة للواقع. فإدراكُك لكلٍّ من مطابقة النسبة للواقع أو عدم مطابقتها للواقع، المستلزِمُ لإذعان النفس وتصديقها، هو التصديق.

 

مثال آخر:

إذا رسمتَ مثلّثًا، تحدُث في ذهنك صورةٌ له، هي عِلمُك بهذا المثلّث، ويُسمَّى هذا

 

42


27

الدرس الثالث: تقسيمات العلم الحصوليّ (1) التصوُّر والتصديق

العلم بالتصوُّر، وهو تصوُّر مجرّد لا يستتبع جزمًا واعتقادًا. وإذا تنبّهتَ إلى زوايا المثلّث، تحدث لها أيضًا صورة في ذهنك، وهي أيضًا من التصوُّر المجرّد. وإذا رسمتَ خطًّا أفقيًّا وفوقه خطًّا عموديًّا مقاطعًا له، تحدُث زاويتان قائمتان، فتنتقش صورة الخطَّين والزاويتَين في ذهنك، وهي من التصوُّر المجرّد أيضًا. وإذا أردتَ أن تُقارن بين القائمتَين ومجموع زوايا المثلّث، فتسأل في نفسك: هل هما متساويان؟ وتشكّ في تساويهما، تحدث عندك صورة لنسبة التساوي بينهما، وهي من التصوُّر المجرّد أيضًا.

 

فإذا برهنتَ على تساويهما، تحصل لك حالةٌ جديدةٌ مغايرةٌ للحالات السابقة كلّها، وهي إدراكُك لمطابقة النسبة للواقع، المستلزِمُ لإذعان النفس وتصديقها بالمطابقة، وهذه الحالة -أي الصورة المطابقة للواقع التي تعقَّلتها وأدركتها- هي التي تُسمَّى بالتصديق، لأنّها إدراكٌ يستلزم تصديق النفس وإذعانها.

 

تنبيهات

التنبيه الأوَّل:

يتَّضح ممَّا تقدَّم، أنَّ التصوُّر متقدِّمٌ على التصديق، وأنَّ التصديق متوقِّفٌ على التصوُّر، إذ ليس التصديق إلَّا تصوُّرًا يستلزم حُكمًا، ولكن لأجل التمييز بينهما، سُمِّي التصوُّر المحض المجرَّد عن أيِّ حُكم تصوُّرًا، وسُمِّي التصوُّر المستتبِع للحُكم تصديقًا.

 

التنبيه الثاني:

إنَّ التصديق إنَّما سُمِّي بذلك من باب تسمية الشيء باسم لازمه، إذ تبيَّن أنَّ المقصود من اصطلاح "التصديق" هو إدراك مطابقة النسبة للواقع، أو عدم مطابقتها، وهذا الإدراك يستلزم إذعان النفس وتصديقها، فكان التصديق لازمًا لهذا الإدراك، وليس هو الإدراك نفسه، فسُمّي الإدراك باسمِ لازمِه، فكان "التصديق".

 

التنبيه الثالث:

قد يَرِد في بعض كتب المنطق مصطلح "التصوُّر المطلق"، فيجب الانتباه إلى أنَّه -أي

 

 

43

 


28

الدرس الثالث: تقسيمات العلم الحصوليّ (1) التصوُّر والتصديق

مصطلح التصوُّر المطلق- يختلف في معناه عن مصطلح "التصوُّر"، فإنَّ الأوَّل -أي التصوُّر المطلق- يُراد به ما يساوق العلم، أي ما يعمّ كِلا التصوُّرين: التصوُّر المجرَّد، والتصوُّر المستتبِع للحُكم (التصديق)، في حين أنّ الثاني -التصوُّر- يُراد به خصوص التصوُّر الساذج المجرَّد عن أيِّ حُكم، الذي يقع في قبال التصديق.

 

 

44


29

الدرس الثالث: تقسيمات العلم الحصوليّ (1) التصوُّر والتصديق

المفاهيم الرئيسة

- العلم الحصوليّ -الذي يُبحَث عنه في المنطق- يفترق عن العلم الحضوريّ في أمور ثلاثة:

1. العلم الحصوليّ هو حضور صورة المعلوم لدى العالم، أمَّا العلم الحضوريّ فهو حضور المعلومِ نفسِه لدى العالم.

 

2. المعلوم بالعلم الحصوليّ وجودُه العلميّ غيرُ وجوده العينيّ، أمَّا المعلوم بالعلم الحضوريّ فوجودُه العلميّ هو عين وجوده العينيّ.

 

3. العلم الحصوليّ ينقسم إلى تصوُّر وتصديق، أمَّا الحضوريّ فلا ينقسم إليهما.

- التصوُّر: هو حضور صورة المعلوم لدى العالم حضورًا مجرَّدًا عن الحُكم.

- التصديق: هو حضور صورة المعلوم لدى العالم حضورًا مستتبِعًا للحُكم، فهو تصوُّرٌ يستلزم الحُكم بمطابقة النسبة للواقع، أو عدم مطابقتها له.

 

- مصطلح "التصوُّر المطلق" الذي قد يَرِد في بعض كتب المنطق، يختلف عن مصطلح "التصوُّر"، ويُراد به ما يساوق العلم، أي ما يعمّ التصوُّر الساذج (التصوُّر) والتصوُّر المستتبِع للحُكم (التصديق).

 

 

45

 


30

الدرس الثالث: تقسيمات العلم الحصوليّ (1) التصوُّر والتصديق

تمارين

1. اختر الإجابة الأصحّ:

أ. في انقسام العلم:

□        العلم ينقسم إلى حصوليّ وحضوريّ، ثمَّ الحصوليّ ينقسم إلى تصوُّر وتصديق.

□        العلم ينقسم إلى حصوليّ وحضوريّ، ثمَّ الحضوريّ ينقسم إلى تصوُّر وتصديق.

□        العلم ينقسم إلى تصوُّر وتصديق، ثمَّ التصوُّر ينقسم إلى حصوليّ وحضوريّ.

□        العلم ينقسم إلى تصوُّر وتصديق، ثمَّ التصديق ينقسم إلى حصوليّ وحضوريّ.

 

ب. في الفرق بين العلم الحصوليّ والعلم الحضوريّ:

□        المعلوم بالعلم الحضوريّ وجودُه الذهنيّ هو غير وجوده الخارجيّ.

□        المعلوم بالعلم الحضوريّ وجودُه الذهنيّ هو عين وجوده الخارجيّ.

□        المعلوم بالعلم الحصوليّ وجودُه الذهنيّ هو عين وجوده الخارجيّ.

 

ج. في التصوُّر والتصديق:

□        التصوُّر = الحُكم فقط         □        التصديق = الإدراك المستلزِم للحُكم

□        التصوُّر = الإدراك + الحُكم    □        التصوُّر = التصديق + الحُكم

□        التصديق = الحُكم فقط       □        التصديق = التصوُّر + الحُكم

 

2. عد إلى التمرين الثاني من تمارين الدرس الثاني، اقرأه، وضع خطًّا تحت التصوُّر، وخطَّين تحت التصديق.

 

46


31

الدرس الثالث: تقسيمات العلم الحصوليّ (1) التصوُّر والتصديق

أسئلة حول الدرس

1. برأيك، ما الفرق بين ارتسام صورة الشيء في المرآة، وارتسامها في الذهن؟

2. ما الفرق بين التصوُّر والتصديق؟ أوضح بالمثال.

3. هل يمكن حصول تصديق من دون تصوُّر؟

 

 

للتوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان، انظر:

1. بخيت، علم المنطق المفاهيم والمصطلحات، مصدر سابق، قسم التصوُّرات، ج1، ص10-12.

2. الفضليّ، مذكّرة المنطق، مصدر سابق، ص68-73.

3. المطهَّري، المنطق، مصدر سابق، ص26-27.

4. المظفَّر، المنطق، مصدر سابق، ص16-17.

5. اليزديّ، حاشية على التهذيب، مصدر سابق، ص28-31.

 

 

47

 


32

الدرس الرابع: موارد التصوُّر والتصديق

الدرس الرابع

موارد التصوُّر والتصديق

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يعرف موارد التصوُّر المتعدِّدة.

2. يحدِّد المورد الوحيد للتصديق.

3. يتعرَّف أقسام التصديق.

 

 

48


33

الدرس الرابع: موارد التصوُّر والتصديق

تمهيد

تقدَّم أنَّ العلم الحصوليّ هو عبارة عن حضور صورة المعلوم في ذهن العالم، وينقسم إلى تصوُّرٍ وتصديق.

 

والسؤال الذي يُطرَح هنا هو أنَّه: هل كلُّ معلومٍ قابلٌ لأنْ يُعلَمَ به تصوُّرًا وتصديقًا؟

 

الجواب: ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ كلَّ ما كان قابلًا للعلم به قابلٌ للتصوُّر على الأقلّ، لأنَّ التصوُّر ليس إلَّا حضور صورةٍ عن المعلوم في ذهن العالم حضورًا مجرَّدًا عن أيِّ حُكم.

 

وهنا يأتي السؤال الثاني: هل كلّ ما كان قابلًا للتصوُّر هو قابلٌ للتصديق أيضًا؟ أم إنَّه قد يكون هناك معلومٌ قابل للتصوُّر وليس قابلًا للتصديق؟

 

وهذا ما يفتح الباب للحديث عمَّا يُعرَف بموارد التصوُّر والتصديق، أو مجالاتهما.

 

موارد التصوُّر والتصديق

للإجابة عن السؤال المتقدِّم، لا بدَّ من تقديم مقدِّمة:

إنَّ المعلوم تارةً يكون أمرًا واحدًا، فيُعبَّر عنه بلفظٍ مفرد، وتارةً يكون عبارة عن أمورٍ متعدِّدةٍ بينها نسبة معيَّنة، فيُعبَّر عنها بتركيبٍ لفظيّ. ويختلف هذا التركيب باختلاف النسبة، فقد تكون النسبة ناقصة غير تامَّة، فيكون المركَّب مركَّبًا ناقصًا، وقد تكون النسبة تامَّة، فيكون المركَّب تامًّا. وإذا كانت النسبة تامَّة، فقد تختلف بين كونها إنشائيَّة وكونها خبريَّة، فيختلف المركَّب -بتبعها- بين كونه مركَّبًا تامًّا إنشائيًّا، وكونه مركَّبًا تامًّا خبريًّا، على تفصيلٍ يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.

 

والآن، بعد أن عرفنا كلَّ معلوم بماذا قد يُعبَّر عنه، نعود إلى السؤال لنعرف: هل كلّ

 

 

50

 


34

الدرس الرابع: موارد التصوُّر والتصديق

معلومٍ قابلٍ للتصوُّر هو قابلٌ للتصديق أيضًا؟ وذلك عبر دراسة ما يُعبَّر به عن المعلوم باعتبار أنَّه يحكي عنه، وليس شيئًا آخر.

 

1. المفرد[1]: من اسمٍ[2]، وفعلٍ (كلمة)[3]، وحرفٍ (أداة)[4]. فهذه كلُّها قابلة للتصوُّر، ولكن لا يمكن أن تكون قابلةً للتصديق أيضًا، لأنَّ التصديق - بمعناه الذي تقدَّم - هو إدراك مطابقة النسبة للواقع، أو عدم مطابقتها له، وفي المفرد لا توجد نسبة أصلًا حتَّى تطابق الواقع أو لا تطابقه. فالمفرد إذًا، هو موردٌ للتصوُّر، وليس موردًا للتصديق. وبعبارة ثانية: المفرد هو متعلَّق للتصوُّر، وليس متعلَّقًا للتصديق.

 

2. المركَّب الناقص[5]: كالمضاف والمضاف إليه[6]، والشبيه بالمضاف[7]، والموصول وصِلَته[8]، والصفة والموصوف[9]، وكلّ واحد من طرفَي الجملة الشرطيّة[10]. فهذه كلّها قابلة للتصوُّر كما تقدَّم، ولكنَّها ليست قابلة للتصديق، لأنَّ النسبة فيها ناقصة، فهي قاصرة عن الحكاية عن واقعٍ أصلًا، وإذا كانت كذلك فعن أيِّ مطابقةٍ للواقع أو عدم مطابقة يمكن أن نتحدَّث؟! فالمركَّبات الناقصة هي أيضًا من موارد التصوُّر، وليست موردًا للتصديق.

 


 


[1] المقصود بـ"المفرد" عند المناطقة هو نفسه "الكلمة" في اصطلاح النحويِّين، بأقسامها الثلاثة.

[2] نحو: محمَّد عليّ، فاطمة، أسد، طاولة، خزانة.

[3] نحو: أكَلَ، يدرسُ، اضربْ. وتجدر الإشارة إلى أنَّ المقصود بـ"الكلمة" عند المناطقة هو نفسه "الفعل" في اصطلاح النحويِّين.

[4] نحو: من، ما، مهما، إن. وتجدر الإشارة إلى أنَّ المقصود بـ"الأداة" عند المناطقة هو نفسه "الحرف" في اصطلاح النحويِّين.

[5] يُعرَّف المركَّب الناقص بأنَّه: ما لا يصحّ للمتكلِّم السكوتُ عليه، ويبقى السامع منتظِرًا منه إضافةَ كلامٍ آخر حتَّى يتمّ المعنى عنده.

[6] نحو: طالب العلم، كتاب المنطق، حقيبة الأستاذ.

[7] الشبيه بالمضاف هو: ما اتَّصل به شيءٌ من تمام معناه. وهذا الذي به التمام إمَّا أن يكون مرفوعًا به، نحو: يا محمودًا فعله، ويا حَسَنًا وجهه، أو منصوبًا، نحو: يا طالعًا جبلًا، أو مخفوضًا بخافضٍ متعلّقٍ به، نحو: يا خيرًا من زيدٍ، أو معطوفًا عليه قبل النداء، كقولك: يا ثلاثة وثلاثين في رجلٍ سمّيته ثلاثة وثلاثين.

[8] نحو: ﴿...   عِندَهُۥ عِلۡمٞ مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ﴾.

[9] نحو: عالِمٌ جليلٌ، خطيبٌ مصقع.

[10] نحو: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ  ﴾ و﴿لَا  ﴾.

 

 

51


35

الدرس الرابع: موارد التصوُّر والتصديق

3. المركَّب التامّ الإنشائيّ[1]: كالأمر[2]، والنهي[3]، والنداء[4]، والاستفهام[5]، والتمنِّي[6]، والترجِّي[7]، والعَرْض[8] والتحضيض[9]، وغيرها من المركَّبات الإنشائيَّة[10]. فهذه كلّها قابلة للتصوُّر، ولكنَّها أيضًا قابلة للتصديق، وذلك لأنَّ النسبة فيها، وإن كانت تامَّةً، لكنَّها ليس وراءها واقع تحكي عنه حتَّى تُطابقه أو لا تُطابقه، فليس هناك واقعٌ قبل الإنشاء يأتي الإنشاء ويحكي عنه كما هو الحال في الخبر، وإنَّما بالإنشاء ينشأ واقع ويوجد. وعليه، فالمركَّبات التامَّة الإنشائيَّة هي أيضًا من موارد التصوُّر، وليست من موارد التصديق.

 

4. المركَّب التامّ الخبريّ[11]: المركَّبات التامَّة الخبريَّة هي المركَّبات التي تحكي عن واقعٍ

 


[1] يُعرَّف المركَّب التامّ الإنشائيّ بأنَّه: ما يصحّ السكوت عليه، ولا يصحّ وصفه بالصدق أو الكذب لذاته. وسيأتي بيان هذا التعريف وتوضيحه في الدرس الحادي عشر، إن شاء الله تعالى.

[2] الأمر: وهو طلب العالي من الداني فِعلَ شيء، نحو: ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱرۡكَعُواْ مَعَ  ﴾، و﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾..

[3] النهي: وهو طلب العالي من الداني الكفّ عن شيء، نحو: ﴿  تَجَسَّسُواْ﴾، و﴿  يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ﴾.

[4] النداء: هو توجيه الدعوة إلى المخاطَب، وتنبيهه للإصغاء وسماع ما يريده المتكلِّم. ويقولون في تعريفه أيضًا: "طلب الإقبال بالحرف (يا) أو أحد أخواته"، نحو: يا أيّها الناس، يا محمَّد، يا خير الدعاة للهدى.

[5] الاستفهام: وهو طلب معرفة شيءٍ، سواء أكان طلبًا حقيقيًّا، كأن كان مجهولًا حقًّا، أو كان طلبًا إنكاريًّا، أو كان طلبًا تقريريًّا، نحو: متى عدت من السفر؟، هل ذهبت إلى الحجّ هذه السنة؟، من زارنا؟، هل المرّيخ مسكون؟

[6] التمنِّي: وهو طلب تحقُّق أمرٍ محبوبٍ، سواء أكان تحقُّقه ممكنًا أم غير ممكن، ولا يصحّ أن يكون في أمرٍ محتوم الوقوع، نحو: ليت الشباب يعود يومًا.

[7] الترجِّي: وهو طلب حصول شيءٍ مرغوبٍ فيه، ميسور التحقُّق، ولا يكون إلَّا في الأمر الممكن التحقُّق، نحو: لعلَّك تُحسِن اختيار الكلام.

[8] العَرْض: وهو الطلب برفقٍ ولين، ويَظهران -غالبًا- في صوت المتكلِّم وفي اختيار كلماته رقيقةً دالَّةً على الرفق، ومن أدواته "ألَا"، نحو: ألَا تدنو منّي.

[9] التحضيض: وهو الطلب بشدَّةٍ وعنف، ويظهران -غالبًا- في صوت المتكلِّم وفي اختيار كلماته جزلةً قويَّةً، ومن أدواته "هلَّا"، نحو: هلَّا حطَّمت قيود الاستبداد، وهلَّا قوَّضت حصون الاستعباد.

[10] كالدعاء (وهو طلب الداني من العالي فعل شيء أو الكفّ عنه، نحو: ربِّ ارحمني برحمتك التي وسعت كلَّ شيء، ربِّ لا تَكِلني إلى نفسي طرفة عينٍ أبدًا)، والالتماس (وهو طلب المساوي من مساويه فعل شيء أو الكفّ عن شيء، نحو قولك لزميلك في الصف: أعطني الكتاب، لا تكتب على دفتري)، والتعجُّب (شعورٌ داخليٌّ تنفعل به النفس حين تستعظم أمرًا نادرًا، أو لا مثيل له، مجهول الحقيقة، أو خفيّ السبب، نحو: ما أجمل الوردة الناضرة!، وأجْمِل بالوردة الناضرة!)، والمدح (نحو: نِعْمَ المولى ونعم النصير، نِعْمَ الصديق الكتاب)، والذمّ (بِئْسَ الخلق الكذب، بِئْسَ الرجال عبيد الشهوات)، والقسم (نحو: باللهِ، لأقولَنَّ الصدق، ﴿تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَٰلِكَ ٱلۡقَدِيمِ﴾)، والعقد (كإنشاء عقد البيع والإجارة والنكاح ونحوها، نحو: بعتُ، وآجرتُ، وأنكحتُ...)، والإيقاع (كصيغة الطلاق والعتق والوقف ونحوها، نحو: فلانة طالق، وعبدي حرّ...).

[11] يُعرَّف المركَّب التامّ الخبريّ بأنَّه: ما يصحّ للمتكلِّم السكوت عليه، ويصحّ وصفُه بالصدق أو الكذب لذاته. وسيأتي بيان هذا التعريف وتوضيحه في الدرس الحادي عشر، إن شاء الله تعالى.

 

 

52


36

الدرس الرابع: موارد التصوُّر والتصديق

حكايةً تامَّة، بمعنى أنَّ ثمَّة واقعًا موجودًا فعلًا، تأتي هذه المركَّبات الخبريَّة وتحكي عنه حكايةً تامَّة. فهي -بطبيعة الحال- قابلة للتصوُّر، وباعتبار أنَّ النسبة فيها نسبة تامَّة تحكي عن واقع موجودٍ فعلًا، يكون الحديث عن مطابقة النسبة للواقع أو عدم مطابقتها أمرًا ممكنًا، ومن ثمّ يمكن فيها التصديق.

 

ولكن، بعض المركَّبات التامَّة الخبريَّة صحيحٌ أنَّ ثمَّة واقعًا وراءها تحكي عنه، ومع ذلك، قد لا نتمكَّن من الحُكم بمطابقة النسبة التي فيها للواقع أو عدم مطابقتها له، حُكمًا مستلزِمًا لإذعان النفس وتصديقها، فنبقى في دائرة الشكّ أو الوهم من المطابقة أو عدم المطابقة، كنسبة السكنى إلى المرّيخ عندما يُقال: "المريخ مسكون"، فإنَّا نتصوَّر المريخ، ونتصوَّر معنى مسكون، ونتصوَّر النسبة (نسبة السكنى إلى المريخ)، ولكن إلى الآن لم نتمكَّن من إدراك ما إذا كانت هذه النسبة مطابقة للواقع أم لا إدراكًا مستلزِمًا لإذعان النفس وتصديقها، بل ما زال الشكّ يراودنا.

 

وعليه، فالنسبة في المركَّبات التامَّة الخبريَّة، كما تكون موردًا للتصوُّر، يمكن أن تكون موردًا للتصديق أيضًا، ولكن لا مطلقًا، بل عند الحُكم والإذعان بمطابقتها للواقع أو عدم مطابقتها له فقط، أمَّا عند الشكّ فيها أو توهُّمها، فلا تكون موردًا إلَّا للتصوُّر.

 

53


37

الدرس الرابع: موارد التصوُّر والتصديق

أقسام التصديق

ينقسم التصديق إلى قسمَين: يقين وظنّ.

وذلك لأنّ التصديق فيه حُكمٌ وإذعانٌ، فهو لا يكون إلَّا عند ترجيح أحد طرفي الخبر -الوقوع أو اللاوقوع- سواء أكان الطرف الآخر محتمَلًا أم لا.

 

- اليقين: ترجيحٌ مع نفي احتمال الطرف الآخر بتاتًا. وهو أعلى درجات التصديق[1].

 

- الظنّ: ترجيحٌ مع وجود احتمال للطرف الآخر. وهو أدنى درجات التصديق.

 

وتوضيح ذلك: إذا عُرِض عليك خبرٌ من الأخبار، فنفسُك لا تخلو عن إحدى حالاتٍ أربع:

1. اليقين: وهو أن تذعن نفسُك بالنسبة، ولا تجوّز إلّا طرفًا واحدًا، إيجابًا أو سلبًا -أي إمّا وقوع الخبر أو عدم وقوعه- فتصدّق به على نحو الجزم، ولا تحتمل كذبه. (100% لأحد الطرفَين، مقابل 0% للطرف الآخر).

 

2. الظنّ: وهو أن تجوّز الطرفَين، مع ترجيحٍ لمضمون الخبر أو عدمه، أي لأحدهما على الآخر، فتركن نفسُك إلى طرفٍ دون الآخر. (ترجيح الطرف الذي تتراوح نسبة احتماله بين [51-99%] على الطرف الآخر الذي تتراوح نسبة احتماله بين [1-49%]).

 

3. الشكّ: وهو أن تجوّز الطرفَين، ويتساوى الوقوع واللاوقوع في الاحتمال. (50% لأحد الطرفَين، مقابل 50% للطرف الآخر).

 

4. الوهم: وهو أن تجوّز الطرفَين، وتأخذ بالطرف المرجوح، وتترك الراجح. فهو احتمالٌ لمضمون الخبر أو عدمه، مع ترجيحِ الطرف الآخر. (الأخذ بالطرف الذي تتراوح نسبة احتماله بين [1-49%]، وترك الطرف الآخر الذي تتراوح نسبة احتماله بين [51-99%]).


 


[1] ولليقين معنى آخر في اصطلاحهم، يأتي الحديث عنه لاحقًا، وهو: خصوص التصديق الجازم المطابق للواقع، لا عن تقليد. وهو أخصّ من معناه المذكور في المتن، لأنّ المقصود به: التصديق الجازم المطابق للواقع، سواء أكان عن تقليد أم لا.

 

 

55


38

الدرس الرابع: موارد التصوُّر والتصديق

تنبيه

يُعرَف ممَّا تقدَّم أمران:

الأوَّل: أنّ الوهم والشكّ ليسا من أقسام التصديق، إذ ليس فيهما ترجيح لأحد الطرفَين -الوقوع أو اللاوقوع- على الطرف الآخر حتَّى تُذعن النفس وتُصدّق.

 

الثاني: أنّ الظنّ والوهم دائمًا يتعاكسان، فإنّك إذا توهّمت مضمون الخبر، فأنت تظنّ بعدمه، وإذا كنت تتوهّم عدمه، فإنّك تظنّ بمضمونه، فيكون الظنّ لأحد الطرفَين توهُّمًا للطرف الآخر.

 

 

56


39

الدرس الرابع: موارد التصوُّر والتصديق

المفاهيم الرئيسة

- للتصوُّر موارد أربعة يمكن أن يتعلَّق بأحدها:

1. المفرد: اسم، وفعل (كلمة)، وحرف (أداة)

2. المركَّب الناقص

3. النسبة في الإنشاء

4. النسبة في الخبر عند الشكّ فيها أو توهّمها، حيث لا تصديق

 

- ليس كلّ ما يكون موردًا للتصوُّر يكون موردًا للتصديق أيضًا، وذلك لعدم وجود نسبة أصلًا (كما في المفردات)، أو لوجودها ولكنَّها ناقصة قاصرة عن الحكاية عن واقع (كما في المركَّبات الناقصة)، أو لوجودها وكونها تامَّة ولكن لا واقع وراءها (كما في المركَّبات التامَّة الإنشائيَّة).

 

57


40

الدرس الرابع: موارد التصوُّر والتصديق

- ليس للتصديق إلَّا مورد واحد يتعلَّق به، وهو النسبة في الخبر عند الحُكم بمطابقتها للواقع أو عدم مطابقتها له.

 

- ينقسم التصديق إلى يقينٍ وظنٍّ، لأنَّ فيهما فقط يوجد ترجيحٌ لأحد الطرفين على الآخر ترجيحًا يُفيد إذعان النفس وتصديقها، أمَّا في غيرهما (الشكّ والوهم)، فلا إذعان ولا تصديق.

 

 

58


41

الدرس الثالث: تقسيمات العلم الحصوليّ (1) التصوُّر والتصديق

تمارين

 

ميّز التصوُّر من التصديق في ما يأتي:

1. ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ﴾    تصوُّر     □        تصديق   □

2. يا أيّها الرجل المعلِّم غيرَه   تصوُّر     □        تصديق   □

3. عبد المطّلب     تصوُّر     □        تصديق   □

4. ﴿إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِۚ﴾     تصوُّر     □        تصديق   □

5. محمَّد تصوُّر     □        تصديق   □

6. رجال الله        تصوُّر     □        تصديق   □

7. ﴿مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ﴾        تصوُّر     □        تصديق   □

8. النبيّ الأمّيّ القرشيّ التهاميّ المكّيّ    تصوُّر     □        تصديق   □

9. ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾   تصوُّر     □        تصديق   □

10. ﴿وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُ ٱلۡأَمۡرُ كُلُّهُۥ﴾ تصوُّر     □        تصديق   □

11. ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ﴾          تصوُّر     □        تصديق   □

12. يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزًا عظيمًا تصوُّر     □        تصديق   □

13. ﴿فَٱعۡبُدۡهُ وَتَوَكَّلۡ عَلَيۡهِۚ﴾  تصوُّر     □        تصديق   □

14. ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ﴾    تصوُّر     □        تصديق   □

15. ﴿فَٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ﴾        تصوُّر     □        تصديق   □

16. ﴿ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾  تصوُّر     □        تصديق   □

 

 

59

 


42

الدرس الرابع: موارد التصوُّر والتصديق

أسئلة حول الدرس

1. اذكر الموارد التي يتعلّق بها كلٌّ من التصوُّر والتصديق، وأعطِ مثالًا لكلّ مورد.

2. هل الوهم والشكّ من أقسام التصديق؟ بيّن ذلك.

3. ما المراد من تعاكس الظنّ والوهم؟

 

للتوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان، انظر:

1. الرحيمي، محاضرات في المنطق شرحًا لحاشية ملَّا عبد الله، ج1، ص25-27.

2. الصدر، حسن، دروس في علم المنطق، دار الكتاب العربي، ص30-34.

3. المظفَّر، المنطق، مصدر سابق، ص17-20.

4. اليزديّ، حاشية على التهذيب، مصدر سابق، ص31.

 

 

60

 


43

الدرس الخامس: تقسيمات العلم الحصوليّ (2): الضروريّ والنظريّ

الدرس الخامس

تقسيمات العلم الحصوليّ (2)

الضروريّ والنظريّ

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يعرف أنَّ العلم الحصوليّ -بقسمَيه- ينقسم إلى ضروريٍّ ونظريّ، والمراد منهما.

2. يدرك أسباب توجُّه النفس اللازمة للعلم بالضروريّ.

3. يشرح ما هو "الفكر" المحتاج إليه للعلم بالنظريّ.

4. يطّلع على تحديدٍ ثانٍ لدائرة العلم المبحوث عنه في المنطق.

 

 

61

 


44

الدرس الخامس: تقسيمات العلم الحصوليّ (2): الضروريّ والنظريّ

تمهيد

تقدَّم أنَّ العلم الحصوليّ ينقسم إلى قسمَين: تصوُّر وتصديق. وتقدَّم المراد من التصوُّر وموارده المتعدِّدة، وكذلك المراد من التصديق ومورده الوحيد، وقسمَيه: اليقين والظنّ.

 

ولكن إذا نظرنا إلى الإدراكات التصوُّريَّة، وجدنا فرقًا بينها، فبعضها يُدرَك إدراكًا مباشرًا دون أن يحتاج الإنسان في إدراكها إلى علَّة توضيحيَّة، لأنَّها واضحةٌ في ذاتها، لا تحتاج إلى توضيح، في حين يُحتاج في بعضها الآخر إلى إعمال فكرٍ ونظرٍ للتوصُّل إليها.

 

وكذلك الإدراكات التصديقيَّة، فإنَّ بعضها يُدرَك دون احتياجٍ إلى ما يوصِل إليه، بل يُدرَك إدراكًا مباشرًا، ومنها ما لا يُدرَك إدراكًا مباشرًا، بل يحتاج في إدراكه إلى ما يوصِل إليه.

 

من هنا، فقد قَسَّم المناطقةُ كلًّا من التصوُّر والتصديق -باعتبار الطريق الموصِل إليه- بحسب الضرورة[1] إلى: "بديهيّ" (ضروريّ)، و"نظريّ" (كسبيّ).

 

وإذا كان العلم الحصوليّ ينقسم إلى تصوُّرٍ وتصديق، وكان كلٌّ منهما ينقسم إلى بديهيّ (ضروريّ) ونظريّ (كسبيّ)، فإنَّ نتيجة ذلك هو انقسام العلم الحصوليّ إلى ضروريّ ونظريّ.

 

فما المقصود من الضروريّ والنظريّ؟


 


[1] المقصود بحسب الضرورة -هنا- هو أنَّ انقسام كلٍّ من التصوُّر والتصديق إلى بديهيّ ونظريّ، إنَّما هو انقسامٌ تطلبه طبيعتُهما، ولا بدّ منه لاكتساب العلوم، إذ لو كانت التصوُّرات والتصديقات بديهيَّةً كلّها، لَمَا جهل الإنسانُ شيئًا، ولكان عالِمًا بكلّ شيء، وهذا باطلٌ بالوجدان، ولو كانت نظريَّةً كلّها، لَمَا علم الإنسانُ شيئًا، إذ لا بدَّ من وجود تصوُّرات وتصديقات بديهيَّة ينتقل الإنسان بواسطتها للعلم بالتصوُّرات والتصديقات النظريَّة.

 

 

63


45

الدرس الخامس: تقسيمات العلم الحصوليّ (2): الضروريّ والنظريّ

أقسام العلم الحصوليّ: الضروريّ والنظريّ

ينقسم العلم الحصوليّ إلى تصوُّرٍ وتصديق، وينقسم كلٌّ منهما إلى بديهيّ ونظريّ، فهذه أقسام أربعة: تصوُّر بديهيّ (ضروريّ)، تصوُّر نظريّ، تصديق بديهيّ (ضروريّ)، تصديق نظريّ. وفي ما يأتي بيانُ هذه الأقسام:

1. التصوُّر البديهيّ: ويُقال له "الضروريّ" أيضًا، وهو ما لا يتوقَّف حصولُه على كسبٍ ونظرٍ وفكر، بل يكفي لحصوله مجرَّد توجُّه النفس بأحد أسباب التوجُّه الآتية، وذلك كتصوُّر الحركة، والسكون، ومفهوم الشيء، ومفهوم الوجود.

 

ومن هنا، يُعلَم أنَّ السبب في تسميته بـ"البديهيّ" أنَّه يحصل في الذهن بالبداهة، التي تعني المفاجأة والارتجال من دون توقُّف، وأنَّ السرّ في إطلاق "الضروريّ" عليه أنَّه يحصل بالاضطرار والمفاجأة أيضًا، وكأنَّ النفس مضطرَّةٌ إلى العلم به.

 

2. التصوُّر النظريّ: ويُقال له "الكسبيّ" أيضًا، وهو ما يتوقَّف حصولُه على كسبٍ ونظرٍ وفكر، وذلك كتصوُّر معنى "الإنسان" ومعنى "العقل" ومعنى "الروح"، فهذه كلّها تصوُّرات نظريَّة، لأنَّها تتوقَّف على كسبٍ ونظر، أي تتوقَّف على "تعريف"، فتصوُّر معنى "الإنسان" -مثلًا- لا يمكن الوصول إليه إلَّا بعد تعريفه بأنَّه "الحيوان الناطق".

 

3. التصديق البديهيّ: ويُقال له "الضروريّ" أيضًا، وهو ما لا يتوقَّف حصولُه على كسبٍ ونظرٍ واستدلال، بل يكفي مجرَّد تصوُّر طرفَي النسبة حتَّى يجزم الذهن ويقطع بوجود النسبة أو عدمها، وذلك كالتصديق بأنَّ السماء فوقنا والأرض تحتنا، والتصديق بأنَّ الابن أصغر من أبيه، والتصديق بأنَّ النقيضَين لا يجتمعان ولا يرتفعان.

 

4. التصديق النظريّ: ويُقال له "الكسبيّ" أيضًا، وهو ما يتوقَّف حصولُه -بعد تصوُّر الطرفَين- على كسبٍ ونظرٍ وفكر، وذلك كالتصديق بأنَّ العالَم حادث، والتصديق بأنَّ حدود العالَم متناهية أو غير متناهية، إلى غير ذلك من التصديقات التي لا يُدركها العقلُ إلَّا بعد الاستدلال عليها.

 

 

64

 


46

الدرس الخامس: تقسيمات العلم الحصوليّ (2): الضروريّ والنظريّ

توضيحٌ في الضروريّ

تقدَّم أنَّ العلم الضروريّ، سواء أكان تصوُّرًا أم تصديقًا، هو ما لا يحتاج في حصوله إلى الكسب والنظر والفكر، بل يكفي لحصوله مجرَّد توجُّه النفس بأحد أسباب التوجُّه، وهذا ما يحتاج إلى بعض البيان:

فإنَّ الشيء قد يكون بديهيًّا ولكن يجهله الإنسان، لفقدِ سببِ توجُّه النفس، فلا يجب أن يكون الإنسان عالِمًا بجميع البديهيَّات، ولا يضرّ ذلك ببداهة البديهيّ. ويمكن حصر أسباب التوجُّه في أمورٍ خمسة:

1. الانتباه: وهذا السبب مطّرد ولا بدّ منه في البديهيّات جميعها، فالغافل قد تخفى عليه أوضح الواضحات.

 

2. سلامة الذهن: وهذا مطّرد أيضًا، فإنّ مَن كان سقيم الذهن قد يشكّ في أظهر الأمور أو لا يفهمها، سواء أكان هذا السقم ناشئًا من نقصانٍ طبيعيّ، أو مرضٍ عارض، أو تربيةٍ فاسدة.

 

3. سلامة الحواس: وهذا السبب خاصٌّ بالبديهيّات المتوقّفة على الحواسّ الخمس، وهي المحسوسات، فإنّ الأعمى أو ضعيف البصر يفقد كثيرًا من العلم بالمنظورات، وكذا الأصمّ يفقد العلم بالمسموعات، وفاقد الذائقة يفقد العلم بالمذوقات، وهكذا...

 

4. فقدان الشبهة[1]: والشبهة هي أن يؤلّف الذهن دليلًا فاسدًا يُناقض بديهةً من البديهيّات[2]، ويغفل عمّا في الدليل من المغالطة، فيشكّ بتلك البديهة، أو يعتقد بعدمها[3]. وهذا يحدث كثيرًا في العلوم الفلسفيّة والجدليّات.


5. عمليَّة غير عقليَّة: لكثيرٍ من البديهيّات، كالاستماع إلى كثيرين يمتنع تواطؤهم عل

 

 


[1]  إنّ اعتبار فقدان الشبهة سببًا من أسباب التوجُّه لا يخلو عن تسامح، لأنّه -بالدقّة- هو من قبيل عدم المانع، لا من قبيل السبب والمقتضي.

[2] ومن هنا، يُعلَم أنّ هذا السبب يختصّ بالتصديقات البديهيّة، وهو مطرّد فيها.

[3] فإنّ من البديهيّات عند العقل: أنّ الوجود والعدم نقيضان، وأنّ النقيضَين لا يجتمعان ولا يرتفعان، ولكنّ بعض المتفلسفين حاول إثبات إمكان اجتماعهما، ممثّلًا لذلك باجتماع القوّة السالبة والموجبة في الكهرباء، واجتماع اليبوسة والسيولة عند شطوط البحار والأنهار، غافلًا -أو متغافلًا- عن أنّ هذا ليس من اجتماع النقيضَين في شيء، لعدم وحدة العمل، وهو شرطٌ أساسٌ للحُكم بالاستعالة.

 

65


47

الدرس الخامس: تقسيمات العلم الحصوليّ (2): الضروريّ والنظريّ

5. عمليَّة غير عقليَّة: لكثيرٍ من البديهيّات، كالاستماع إلى كثيرين يمتنع تواطؤهم على الكذب في المتواترات، وكالتجربة في التجربيّات، وكسعي الإنسان لمشاهدة بلادٍ أو استماع صوتٍ في المحسوسات... وما إلى ذلك. فإذا احتاج الإنسان للعلم بشيءٍ إلى تجربةٍ طويلةٍ -مثلًا- وعناءٍ عمليٍّ، فلا يجعله ذلك عِلمًا نظريًّا ما دام لا يحتاج إلى الفكر والعمليّة العقليّة.

 

توضيحٌ في النظريّ

ممّا تقدَّم -من أنَّ النظريَّ هو ما احتاج العلمُ به إلى كسبٍ ونظرٍ وفكر-، يُعلَم أنَّ المقصود من "النظر" أو "الفكر" هو: "إجراء عمليَّة عقليَّة في المعلومات الحاضرة في الذهن، لأجل الوصول إلى المطلوب"، والمطلوب هو العلم بالمجهول الغائب. وبتعبيرٍ آخر أدقّ: الفكر هو: "حركة العقل من المجهول إلى المعلوم، ثمّ بين المعلومات الموجودة، ثمّ منها إلى تحصيل المجهول".

 

وتحليل ذلك: أنَّ الإنسان إذا واجه بعقله المشكل (المجهول)، وعرف أنّه من أيّ أنواع المجهولات هو، فزع عقلُه إلى المعلومات الحاضرة عنده، المناسبة لنوع المشكل، وعندئذٍ، يبحث فيها ويتردّد بينها بتوجيه النظر إليها، ويسعى إلى تنظيمها في الذهن، حتّى يؤلّف المعلومات التي تصلح لحلّ المشكل. فإذا استطاع ذلك، ووجد ما يؤلّفه لتحصيل غرضه، تحرّك عقله، حينئذٍ، منها إلى المطلوب، أعني: معرفة المجهول وحلّ المشكل.

 

فتمرّ على العقل بهذا التحليل،إذًا،خمسة أدوار:

أدوار العقل

1. مواجهة المُشكل المجهول.

2. معرفة نوع المُشكل، فقد يواجه المشكل ولا يعرف نوعه.

3. حركة العقل -أوّلًا- من المُشكل إلى المعلومات المخزونة عنده.

4. حركة العقل -ثانيًا- بين المعلومات للفحص عنها، وتأليف ما يناسب المشكل ويصلح لحلّه.

 

 

66


48

الدرس الخامس: تقسيمات العلم الحصوليّ (2): الضروريّ والنظريّ

5. حركة العقل -ثالثًا- من المعلوم الذي استطاع تأليفه ممَّا عنده إلى المطلوب.

 

و"الفكر" أو "النظر" هو خصوص الأدوار الثلاثة الأخيرة، أمَّا الدوران الأوَّلان (مواجهة المشكل، ومعرفة نوعه) فهما مقدِّمتا الفكر، وليستا من الفكر نفسه في شيء. ومن هنا، يتَّضح الوجه في تعريفهم "للفكر" بأنَّه عبارة عن: "حركة العقل بين المجهول والمعلوم".

 

تطبيق

لو عُرِضَت أمامنا هذه المعادلة: 2 + 2 × 5 + 5 =؟

فإنّ الدور الأوَّل يتحقّق بمواجهتنا المشكلة، والدور الثاني عبر معرفة نوعها وأنّها معادلة رياضيَّة، والدور الثالث بالانتقال من المشكلة إلى المعلومات المخزونة عندنا في الذهن، فنعرف علامة (+) وعلامة (×) وعلامة (=)، ثمَّ ننتقل إلى الدور الرابع، وهو حركة العقل بين المعلومات للوصول إلى نتيجة، ونستفيد من معلوماتنا الحاضرة في ذهننا أنَّ معادلة الضرب مقدَّمة على معادلة الجمع، فنعيد تركيب المعادلة على الشكل الآتي: 2 + (2 × 5) + 5 -وإلَّا إذا لم تكن هذه المعلومات حاضرة في ذهننا، أو كانت حاضرة ولكن لم نستطع التأليف بينها، عندها لن نتمكَّن من حلِّ المشكل، أو نحلّه حلًّا خاطئًا- فإذا ألَّفنا بين هذه المعلومات تأليفًا صحيحًا، عندها ننتقل إلى الدور الخامس، وهو حركة العقل من المعلومات التي تألَّفت إلى المشكل، وننتج الجواب، وهو 17.

 

تنبيهات

التنبيه الأوَّل:

هذه الأدوار الخمسة قد تمرّ على الإنسان في تفكيره وهو لا يشعر بها، فإنّ الفكر يجتازها غالبًا بأسرع من لمح البصر، على أنّها لا يخلو منها إنسان في أكثر تفكيراته الموصلة للنتيجة. ولذا قلنا: إنّ الإنسان مفطورٌ على التفكير.

 

التنبيه الثاني:

من له قوّة الحدس يستغني عن الحركتَين الأوليَين من أدوار الفكر، وينتقل رأسًا بحركةٍ واحدةٍ من المعلومات المخزونة عنده إلى تحصيل المجهول، ولذلك يكون صاحب الحدس

 

67

 


49

الدرس الخامس: تقسيمات العلم الحصوليّ (2): الضروريّ والنظريّ

القويّ أسرع تلقّيًا للمعارف والعلوم، بل هو من نوع الإلهام وأوّل درجاته. ولذلك جعلوا "القضايا الحدسيّة" من أقسام البديهيّات، لأنّها تحصل بحركةٍ واحدةٍ مفاجِئةٍ من المعلوم إلى المجهول عند مواجهة المشكل، من دون كسبٍ وسعيٍ فكريٍّ، فلم يحتَجْ للرجوع إلى المعلومات الموجودة عنده وفحصها وتأليفها.

 

التنبيه الثالث:

إنَّ قضيّةً واحدةً قد تكون بديهيًّة عند شخصٍ، ولكنّها نظريّةٌ عند شخصٍ آخر، وذلك لأحد سببَين على الأقلّ، أو لكلَيهما معًا:

1. لكون الأوَّل عنده من قوّة الحدس ما يستغني به عن النظر والكسب، أي ما يستغني به عن بعض حركات الفكر، دون الشخص الثاني، فإنّه يحتاج إلى جميع الحركات لتحصيل المعلوم.

 

2. لفقدان الشخص الثاني أحد أسباب التوجُّه المتقدِّمة اللازمة لهذا النوع من القضايا.

 

العلم المبحوث عنه في المنطق

تقدَّم سابقًا أنَّ العلم المبحوث عنه في علم المنطق هو خصوص العلم الحصوليّ، بقسمَيه: التصوُّر والتصديق، وليس العلم الحضوريّ.

 

ولكن بما تقدَّم -من أنَّ العلم الحصوليّ، بقسمَيه: التصوُّر والتصديق، ينقسم إلى ضروريّ ونظريّ- تضيق دائرة العلم المبحوث عنه في علم المنطق أكثر:

 

إذ ممَّا تقدَّم -من أنَّ العلم الضروريّ، تصوُّرًا كان أم تصديقًا، يحصل في النفس بمجرَّد الالتفات إليه، من غير احتياجٍ إلى كسبٍ ونظرٍ وفكر- يُعلَم: أنَّ العلمَ الضروريّ لا يُطلَب بالبحث، إذ لا يتوقَّف على وسيلةٍ تُعِين على الوصول إليه، ولا على قوانين وقواعد تضبطه، إذ إنَّ النفس تُدركه تلقائيًّا. وعليه، فالعلم الضروريّ في غنًى عن المنطق.

 

وممَّا تقدَّم أيضًا - من أنَّ العلم النظريّ هو الذي لا يُدرَك إلَّا بالاكتساب واستعمال النظر والفكر، ومن أنَّ الفكر في معرض الخطأ - يُعلَم: أنَّ هذا العلم النظريّ هو الذي تصدَّى له

 

 

68


50

الدرس الخامس: تقسيمات العلم الحصوليّ (2): الضروريّ والنظريّ

علماء المنطق، فوضعوا له قوانين وقواعد، تُجنِّب مراعاتُها الإنسانَ عن الخطأ في الذهن في أثناء عمليَّة الكشف عن المجهول النظريّ - التصوُّريّ أو التصديقيّ - وتحويله إلى معلوم.

 

وعليه، فالعلم المبحوث عنه في علم المنطق هو: خصوص العلم الحصوليّ النظريّ، التصوُّريّ أو التصديقيّ.

 

ومن تعريف كلٍّ من التصوُّر النظريّ والتصديق النظريّ، يُعلَم الوجه في كون موضوع علم المنطق هو "المعرِّف" و"الحجَّة".

 

 

 

69


51

الدرس الخامس: تقسيمات العلم الحصوليّ (2): الضروريّ والنظريّ

المفاهيم الرئيسة

- ينقسم العلم الحصوليّ - بكلا قسمَيه: التصوُّر والتصديق - إلى قسمَين:

1. بديهيّ (ضروريّ): وهو ما لا يحتاج في حصوله إلى كسبٍ ونظرٍ وفكر، بل يكفي في حصوله توجُّه النفس بأحد أسباب التوجُّه.

 

2. نظريّ (كسبيّ): وهو ما يحتاج في حصوله إلى كسبٍ ونظرٍ وفكر.

- يمكن حصر أسباب توجُّه النفس للعلم بالبديهيّ -سواء أكان تصوُّرًا أم تصديقًا- في أمورٍ خمسة: الانتباه، وسلامة الذهن، وسلامة الحواسّ، وفقدان الشبهة، وعمليَّة غير عقليَّة.

 

- الفكر الذي يُحتاج إليه للعلم بالنظريّ -سواء أكان تصوُّرًا أم تصديقًا- هو عبارة عن "إجراء عمليَّة عقليَّة في المعلومات الحاضرة في الذهن، لأجل الوصول إلى المطلوب"، ويتمثَّل في حركات ثلاث للعقل:

•         الحركة الأولى: الحركة الذاهبة من المشكل إلى المعلومات المخزونة عند العقل.

•         الحركة الثانية: الحركة الدائرة بين المعلومات المخزونة في الذهن، لتأليف ما يصلح منها لحلّ المشكل.

•         الحركة الثالثة: الحركة الراجعة من المعلومات التي تمَّ تأليفها إلى المجهول وحلّه.

 

أمَّا مواجهة المشكل ومعرفة نوعه، فهما مقدِّمتا الفكر، وليستا من الفكر في شيء.

 

- من له قوّة الحدس يستغني عن الحركتَين الأوليَين للفكر، وينتقل رأسًا بحركةٍ واحدةٍ من المعلومات المخزونة عنده إلى تحصيل المجهول.

 

- إنَّ قضيّةً واحدةً قد تكون بديهيَّةً عند شخصٍ، ولكنّها نظريّةٌ عند شخصٍ آخر.

 

- العلم المبحوث عنه في علم المنطق هو خصوص العلم الحصوليّ النظريّ، التصوُّريّ أو التصديقيّ.

 

 

70

 

 


52

الدرس الخامس: تقسيمات العلم الحصوليّ (2): الضروريّ والنظريّ

أسئلة حول الدرس

1. ميّز بين العلم النظريّ والعلم الضروريّ، موضحًا بالمثال.

2. هل ينقسم النظريّ أو الضروريّ إلى تصوُّر وتصديق؟ أعطِ أمثلة.

3. هل توجد أيّة علاقة بين الضروريّ والنظريّ؟ اشرح بمثال.

 

 

 

للتوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان، انظر:

1. بخيت، علم المنطق المفاهيم والمصطلحات، مصدر سابق، قسم التصوُّرات، ج1، ص12-14.

2. الرحيمي، محاضرات في المنطق شرحًا لحاشية ملَّا عبد الله، مصدر سابق، ج1، ص30-40.

3. الصدر، دروس في علم المنطق، مصدر سابق، ص34-35.

4. الفضليّ، مذكّرة المنطق، مصدر سابق، ص74.

5. المطهَّري، المنطق، مصدر سابق، ص27-29.

6. المظفَّر، المنطق، مصدر سابق، ص21-24.

7. اليزديّ، حاشية على التهذيب، مصدر سابق، ص31.

 

 

73

 


53

الدرس السادس: وجه حاجة المنطقيّ إلى الألفاظ

الدرس السادس

وجه حاجة المنطقيّ إلى الألفاظ

 

 

1. يعرف أنَّ الغرض الأصليّ للمنطقيّ إنّما يتعلَّق بالمعاني، لا بالألفاظ.

2. يعدِّد المستويات الثلاثة للانتقالات الذهنيَّة بين المعاني.

3. يدرك كيف أصبحت الألفاظُ أداةَ الانتقال الذهنيّ بين المعاني.

4. يعرف الوجه في عدم استغناء المنطقيّ عن مباحث الألفاظ.

 

 

75

 


54

الدرس السادس: وجه حاجة المنطقيّ إلى الألفاظ

تمهيد

تقدَّم أنَّ العلم المبحوث عنه في المنطق هو خصوص العلم الحصوليّ النظريّ، سواء التصوُّريّ أم التصديقيّ.

 

وتقدَّم - أيضًا - أنَّ المقصود من النظريّ هو ما كان محتاجًا في حصوله إلى كسبٍ ونظرٍ وفكر.

 

وتقدَّم أنَّ النظر أو الفكر عبارة عن الانتقال من المعلوم إلى المجهول، فالفكر في التصوُّرات عبارة عن الانتقال من التصوُّرات الذهنيَّة المعلومة والتوصُّل بها إلى العلم بمجهولات تصوُّريَّة، وفي التصديقات عبارة عن الانتقال من التصديقات الذهنيَّة المعلومة والتوصُّل بها إلى العلم بمجهولات تصديقيَّة.

 

ولَمَّا كان هدف علم المنطق هو تصحيح عمليَّة التفكير، فمعنى ذلك أنَّ هدف علم المنطق تصحيح عمليَّة الانتقال بين المعاني.

 

إذًا، فغرض المنطقيّ إنَّما يتعلَّق، أوَّلًا وبالذات، بالمعاني.

 

وهذه الانتقالات الذهنيَّة بين المعاني إنَّما هي على مستويات ثلاثة:

- على مستوى ذهن الإنسان نفسه، في الانتقال بين المعاني داخل ذهن الإنسان نفسه.

 

- بين ذهنه وأذهان الآخرين من أفراد نوعه، المشافهين له غير الغائبين عنه.

 

- بين ذهنه وأذهان الآخرين من أفراد نوعه، الغائبين عنه غير المشافهين، كانتقالات المعاني بين الأجيال السابقة والأجيال اللاحقة.

 

وهنا تبرز أسئلة رئيسة: كيف تحصل عمليَّة الانتقال بين المعاني في ذهن الإنسان

 

 

76


55

الدرس السادس: وجه حاجة المنطقيّ إلى الألفاظ

نفسه، حتَّى يُوجِدَ لها علمُ المنطق قوانين وقواعد تضبطها وتُصحِّحها؟ بل كيف تجري عمليَّة الانتقال بين المعاني ونقلها من ذهنِ إنسانٍ إلى آخر، في مقام التفهُّم والتفهيم والتعلُّم والتعليم؟ وكيف تجري عمليَّة نقل المعاني من الأجيال السابقة إلى اللاحقة؟

 

ومعرفة أجوبة هذه الأسئلة هي في غاية الأهمِّيَّة، إذ من دون معرفة كيفيَّة حصول الانتقالات بين المعاني، لا يمكن وضع قواعد تُصحِّح عمليَّات الانتقال هذه.

 

وللإجابة عن هذه الأسئلة، لا بدَّ من الوقوف على مرحلتَين من حياة الإنسان: مرحلة ما قبل الألفاظ[1]، ومرحلة ما بعد الألفاظ، وذلك لِما ترتَّب علىهذه الألفاظ من أثرٍ على عمليَّات الانتقال بين المعاني بمستوياتها الثلاثة.

 

1. مرحلة ما قبل الألفاظ

الإنسان في بادئ أمره، كان ينظر إلى وجوده ووجود الأشياء من حوله (الوجود الخارجيّ للأشياء) ويتحسَّسها ويتعرَّفها، وكانت تنعكس صورٌ لها في ذهنه، فتحضر إلى ذهنه بصورها (الوجود الذهنيّ للأشياء)، وهو ما أطلقنا عليه اسم "العلم الحصوليّ".

 

وهذان النحوان من الوجود - الخارجيّ والذهنيّ - هما وجودان حقيقيَّان، ليس للإنسان أيُّ تدخُّلٍ في حصولهما، لا بوضعٍ ولا باعتبار.

 

بلحاظ هذه المرحلة، كان الإنسان يُدبِّر أمر فكره معتمدًا على الوجود الذهنيّ للأشياء، وهي التي تُشكّل مادّة المعاني الموجودة عنده.

 

وإذا ما أراد أن ينقل ما في ذهنه إلى الآخرين من أفراد نوعه المشافهين له غير الغائبين عنه، يعتمد على الوجودات الخارجيّة للأشياء، فيُحضِرُها بنفسها، فإذا أراد إفهام الآخر معنى "الحجر" -مثلًا- كان يأتي بالحجر نفسه أمام الشخص الآخر الذي يريد إفهامه معنى الحجر، ليحسّ به الشخصُ الآخر ببعض الحواسّ، ويفهم -حينئذٍ- معناه.

 

ولكنّ هذه الطريقة غاية في الصعوبة، إذ يبقى معها الإنسان عاجزًا عن نقل أفكاره كلِّها إلى الآخرين، أو فهم أفكار الآخرين كلّها، وذلك لسببَين على الأقلّ: أوَّلهما أنَّ بعض


 


[1]  ليس من الضروريّ سبق المرحلة الأولى زمانًا على المرحلة الثانية، إذ الغرض بيان الحاجة إلى الألفاظ.

 

 

77


56

الدرس السادس: وجه حاجة المنطقيّ إلى الألفاظ

الأشياء ليست من الموجودات الخارجيّة، بل هي من قبيل المعاني التي لا مادَّة لها ولا مقدار، كمعنى "الخوف" مثلًا، فكيف سيُحضره؟! وبعضها الآخر وإن كان من الموجودات الخارجيّة، لكنَّه لا يمكن إحضاره، فكيف يُحضر "الجبل" -مثلًا- إذا أراد تفهيم الآخر معنى الجبل؟!

 

وأمّا إذا ما أراد أن ينقل ما في ذهنه إلى الآخرين من أفراد نوعه الغائبين عنه، فإنّه سيكون عاجزًا عن هذه الانتقالات بأيّ نحوٍ من الأنحاء، فالوجودات الخارجيّة والذهنيّة للأشياء لا تفي بهذا الغرض أبدًا.

 

2. مرحلة ما بعد الألفاظ

الإنسان وإن كان بلحاظ المرحلة السابقة قادرًا على تدبير انتقالاته الذهنيّة بين المعاني في حدود خاصّة، ولكنَّه -كما تقدَّم- كان غير قادرٍ على تدبير جميع الانتقالات بين المعاني. فألهم اللهُ سبحانه الإنسانَ وهداه لطريقة سهلة سريعة في التفهيم، وفتح عقلَه على عالمٍ جديدٍ غير عالَمَي الخارج والذهن، ألَا وهو عالم اللغة، وذلك بما منحه من قوَّةٍ على الكلام والنطق بتقاطيع الحروف، ليؤلِّف منها الألفاظ، فأخذ الإنسان يضع لكلِّ معنًى من المعاني لفظًا خاصًّا من الألفاظ يدلّ به عليه، وصار يستعمل هذا اللفظ في هذا المعنى، ويُكرِّر استعمالُه فيه كلَّما أراد تفهيمه للآخر، فما كان من نتيجة هذا الوضع وكثرة الاستعمال إلَّا أن اشتدَّت العلاقة والرابطة بين كلِّ لفظٍ ومعناه الموضوع له أو المستعمل فيه، اشتدادًا بلغ حدًّا كاد يُلامس الاتِّحاد بينهما، فصارا -أيْ اللفظ ومعناه- في ذهنه كأنَّهما شيءٌ واحدٌ، وصار إحضارُه لأحدهما إحضارًا للآخر، فإذا أحضر اللفظ فكأنَّما أحضر المعنى، وإذا أراد استحضار المعنى استحضره بلفظه. وبهذا، صار للأشياء وجود ثالث -سوى الوجود الخارجيّ والذهنيّ- يُعبَّر عنه بـ"الوجود اللفظيّ"، ولكنَّه وجودٌ اعتباريٌّ وليس حقيقيًّا كالوجودَين الخارجيّ والذهنيّ، وهذا واضح، إذ إنَّ الإنسان هو الذي وضع هذا اللفظ لهذا المعنى الخاصّ واعتبره له.

 

وبواسطة هذه الألفاظ التي وضعها لمعانيها، استطاع الإنسان أن يتغلَّب على مشكلة

 

 

78

 


57

الدرس السادس: وجه حاجة المنطقيّ إلى الألفاظ

تفاهمه مع الآخرين بحدودها الواسعة، فلم يعد بحاجة إلى إحضار الأشياء بوجودها الخارجيّ، وصار قادرًا على فهم المعاني كلّها وتفهيمها.

 

ولم يكن للألفاظ تأثيرها الإيجابيّ على هذا المستوى فحسب، بل انعكس تأثيرها -أي الألفاظ- إيجابًا حتَّى على صعيد فكر الإنسان نفسه، فقد وجد الإنسان في الألفاظ أداةً سهلةً للتفكير بينه وبين نفسه، فصار ينتقل بين المعاني في ذهنه بواسطة الألفاظ، بل بلغ به الأمرُ حدًّا قلّما معه ينتقل بين المعاني داخل ذهنه من غير الاستعانة بالألفاظ.

 

وعلى الرغم من هذا التقدُّم وتمكُّن الإنسان من حلّ مشكلته في التفاهم مع الآخرين، بقي يُعاني من مشكلةٍ، ألا وهي كيفيَّة نقل أفكاره إلى الناس الغائبين عنه غير المشافهين، إلى الأجيال اللاحقة مثلًا؟

 

ولكنّ الإنسان استطاع، بالقدرة التي أودعها الله تعالى فيه، أن يتغلَّب على هذه المشكلة أيضًا، فصنع لهذه الألفاظ نقوشًا خطّيَّة، وجعل لها وجودًا كتبيًّا، وصار يُحضِرُ بهذا الوجودِ الكتبيّ اللفظَ، الذي هو بدوره يُحضِرُ المعنى. وهذا "الوجود الكتبيّ" هو وجودٌ اعتباريٌّ أيضًا، وليس بحقيقيّ، إذ إنَّ الإنسان هو الذي وضع نقشًا خطِّيًّا خاصًّا لكلِّ لفظٍ واعتبره له.

 

وبهذا، صارت للأشياء وجودات أربعة:

- وجودان حقيقيَّان، هما: الوجود الخارجيّ، والوجود الذهنيّ.

- ووجودان اعتباريَّان، هما: الوجود اللفظيّ، والوجود الكتبيّ.

 

استنتاج

ممَّا تقدَّم، يتَّضح أنَّ الإنسان وَجد في الألفاظ ضالّته، إذ صارت أداةَ انتقاله بين المعاني، بل غدا غير متمكّنٍ من الانتقال بين المعاني من غير أداة اللفظ.

 

فإذا عرفنا هذا، عرفنا أنَّ عمليَّات الانتقال بين المعاني في ذهن الإنسان تحصل عبر الألفاظ، ومن ثمّ عرفنا أنَّ الفكر هو الانتقال من المعاني المعلومة إلى تلك المجهولة باستخدام الألفاظ.

 

 

79


58

الدرس السادس: وجه حاجة المنطقيّ إلى الألفاظ

ونظرًا إلى أنَّ الألفاظ قد يقع فيها الإبهام والالتباس، فإذا كانت عمليَّة التفكير والانتقال بين المعاني تحصل بواسطتها، فإنَّه -لا محالة- ستكون عمليَّات التفكير هذه معرَّضة للخطأ والزلل نتيجة الالتباس والإبهام الواقع في الألفاظ.

 

ولَمَّا كان المنطقيّ يهدف إلى تصحيح عمليّات التفكير وتجنيبها عن أيِّ خطأٍ أو زلل، كان لزامًا عليه أن يبحث عن أحوال اللفظ من جهةٍ عامَّة، من غير اختصاصٍ بلغةٍ من اللغات.

 

ومن هذا البيان كلّه، يتَّضح أنَّ للمنطقيّ حاجتَين رئيستَين إلى الألفاظ:

1. حاجته إلى الألفاظ من أجل التفاهم مع غيره.

 

2. وحاجته إلى الألفاظ من أجل نفسه، وذلك لتجنُّب وقوع الخطأ في عمليَّات تفكيره، وهي لحاجةٌ أعظم وأشدّ من حاجته الأولى.

 

ومن هنا، يتَّضح أنَّ المنطقيّ وإنْ لم يتعلَّق غرضُه الأصليّ إلَّا بنفس المعاني، ولكنَّه لا يستغني عن البحث عن أحوال الألفاظ، توصُّلًا إلى المعاني. ولأجل ذلك جرت سيرة المناطقة على تصدير مباحثهم المنطقيَّة بمباحث مقدِّماتيَّة في شؤون الألفاظ، وأحوالها، وأنواعها، وكيفيَّة دلالتها على معانيها ومدلولاتها الخارجيّة.

 

 

80

 


59

الدرس السادس: وجه حاجة المنطقيّ إلى الألفاظ

المفاهيم الرئيسة

- لا شكَّ أنَّ المنطقيّ لا يتعلَّق غرضه الأصليّ إلَّا بنفس المعاني.

 

- الإنسان قبل اكتشافه الألفاظ، لم يكن له من سبيل في الانتقال بين المعاني داخل ذهنه هو إلَّا بالوجودات الذهنيّة للأشياء، ولم يكن قادرًا على التفاهم مع الآخرين إلَّا بإحضار الوجودات الخارجيّة للأشياء.

 

- طريقة إحضار الوجودات الخارجيّة للأشياء لم تكن وافية للإنسان بتمام غرضه في التفاهم مع الآخرين، وذلك نظرًا إلى أنَّ بعض الأشياء لا وجودات خارجيّة لها، وبعضها ممَّا له وجود خارجيّ يصعب إحضاره.

 

- الإنسان، باكتشافه للألفاظ، حلَّ مشكلة التفاهم مع الآخرين من أفراد نوعه، بحيث صار قادرًا على فهم جميع أفكار الآخرين وتفهيمهم جميع أفكاره، بل لشدَّة ارتباط الألفاظ بمعانيها الخاصَّة بها نتيجة الوضع وكثرة استعمالها فيها، وجد الإنسان نفسه قلّما ينتقل بين المعاني في ذهنه من دون الاستعانة بالألفاظ.

 

- كذلك حلَّ الإنسان، بالوجود الكتبيّ للألفاظ، مشكلتَه في التفاهم مع الآخرين من أفراد نوعه الغائبين عنه غير المشافهين.

 

- لَمَّا كانت الألفاظ، بوجودَيها الشفويّ والكتبيّ، صارت أداةَ الانتقالات الذهنيّة بين المعاني، ولَمَّا كانت الألفاظ في معرض الإبهام والالتباس، كانت هذه الانتقالات الذهنيّة في معرض الخطأ والزلل.

 

- ولَمَّا كانت مَهمَّة المنطقيّ تصحيح عمليَّات التفكير وتجنيبها أن تكون عرضةً للخطأ والزلل، كان لزامًا عليه أن يبحث أحوال اللفظ من جهةٍ عامَّة، من غير اختصاص بلغةٍ من اللغات. ولأجل هذا جرت سيرة المناطقة على تصدير كتبهم المنطقيَّة بمباحث مقدِّماتيَّة في أحوال الألفاظ، وشؤونها، وأنواعها، ودلالتها على معانيها ومدلولاتها.

 

 

81


60

الدرس السادس: وجه حاجة المنطقيّ إلى الألفاظ

تمارين

أجب بصحّ (√) أو خطأ (x):

1. تواصل الإنسان مع أبناء نوعه يحتاج إلى نقل أفكاره لغيره، وفهم أفكارهم.     □

2. اللغة عبارة عن ألفاظ وكلمات قد لا تدلّ على مقاصد.  □

3. تواصل الإنسان مع أبناء نوعه لا يمكن إلّا باللغة.         □

4. التواصل السهل والممكن اضطرّ الإنسان إلى جعل لفظٍ خاصٍّ لكلّ معنى.     □

5. الارتباط القويّ بين اللفظ والمعنى هو سبب جعل اللفظ للمعنى.     □

6. لا بدّ لتصوّر أيّ معنى في الذهن، من أن يَحضر لفظُه معه.          □

7. خطأ الإنسان في الألفاظ، حتّى في ذهنه، يؤثّر على أفكاره ومعلوماته.         □

8. سبب العلاقة الذهنيّة التي تنشأ في الذهن هو العلم بوضع اللفظ للمعنى.       □

 

أسئلة حول الدرس

1. ما هو الهدف من البحث عن أحوال الألفاظ في المنطق؟

2. ما هي أنحاء الوجود الأربعة؟

4. ما الفرق بين الوجود الحقيقيّ والوجود الاعتباريّ؟

3. كيف تُفسّر منشأ العلاقة بين اللفظ والمعنى؟

 

82

 

 


61

الدرس السادس: وجه حاجة المنطقيّ إلى الألفاظ

للتوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان، انظر:

1. خير الدين، القواعد المنطقيَّة دروس بيانيَّة في شرح المنطق وتطبيقاته، ص75-80.

2. العابديّ، لُباب المنطق، ص31.

3. العلَّامة الحلِّيّ، الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد، ص7-8.

4. كاشف الغطاء، نقد الآراء المنطقيَّة وحلّ مشكلاتها، ج1، ص115-117.

5. المظفَّر، المنطق، ص31-34.

 

 

83


62

الدرس السابع: الدلالة (1)

 

الدرس السابع

الدلالة (1)

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يعرف سبب تعرُّض المنطقيّ إلى بحث الدلالة.

2. يفهم المراد من الدلالة وشروطها.

3. يعدِّد أقسام الدلالة.

 

84


63

الدرس السابع: الدلالة (1)

تمهيد

تقدَّم في الدرس السابق أنَّ غرض المنطقيّ إنَّما هو المعاني، لا الألفاظ، وإنَّما اضطرّ المنطقيّ للبحث عن الألفاظ نظرًا إلى أنَّ انتقالاته الذهنيّة بين المعاني إنَّما تحصل بواسط الألفاظ، ولأنَّ تفاهمه مع الآخرين متوقِّف على الألفاظ، وهذه الألفاظ قد يقع فيها الوهم والالتباس، ما قد يؤدِّي إلى وقوع الخطأ في عمليّات التفكير، وهذا ما يسعى المنطقيّ إلى تجنُّبه وعصمة ذهنه عن الوقوع فيه.

 

وأُولى مباحث المنطقيّ عن الألفاظ هي في دراسة علاقة الألفاظ بمعانيها، وكيفيَّة دلالتها عليها، وأنحاء هذه الدلالة.

 

من هنا، كان لا بدَّ للمنطقيّ من التعرُّض إلى بحث الدلالة. ولكن ما يهمّ المنطقيّ في بحث الدلالة، هو خصوص دلالة الألفاظ الموضوعة على معانيها، لا جميع أنواع الدلالات، وإنَّما درس المنطقيّ فكرة الدلالة بنحو عامّ، وتعرَّض لبيان أقسامها من باب التمهيد للوصول إلى بحث الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة موضع اهتمامه.

 

تعريف الدلالة

المراد من الدلالة هو الكاشفيَّة، أي كاشفيَّة شيءٍ عن شيء. فإذا كان العلم بشيءٍ يؤدِّي إلى العلم بشيءٍ آخر، كان الأوَّل كاشفًا ودالًّا، وكان الثاني مُنكشفًا ومدلولًا، والانتقال من الشيء الأوَّل (الكاشف) إلى الثاني (المنكشف) هو معنى الكاشفيَّة، وهو معنى الدلالة، ككاشفيَّة وجود النار ودلالته على الحرارة.

 

 

86

 


64

الدرس السابع: الدلالة (1)

شرطا حصول الدلالة

إنَّ الانتقال من الدالّ إلى المدلول يتوقَّف على أمرَين:

- الأمر الأوَّل: وجود التلازم الخارجيّ[1] بين الدالّ والمدلول، والعلم بهذا التلازم: فإنَّ وجود الملازمة في الخارج بين النار والحرارة -بحيث إنَّه كلَّما وُجِدَت النار وُجِدَت الحرارة- لا يكفي للانتقال من العلم بوجود النار إلى العلم بوجود الحرارة، ما لم يكن الإنسان عالِمًا بهذه الملازمة.

 

- الأمر الثاني: العلم بوجود الملزوم (الدالّ): فمضافًا إلى العلم بالملازمة بين النار والحرارة، لا يكفي وجود النار خارجًا للانتقال منها إلى الحرارة، بل لا بدَّ من العلم بوجود النار، لأنَّ العلم بوجود الحرارة ليس مسبَّبًا عن وجود النار، وإنَّما هو مسبَّبٌ عن العلم بوجودها (الملزوم).

 

لذا، عرَّفوا الدلالة بأنَّها: "كون الشيء بحالة إذا علمتَ بوجوده، انتقل ذهنك إلى وجود شيءٍ آخر".

 

أقسام الدلالة بحسب منشأ العلاقة بين الدالّ والمدلول، وسببها

إذا كانت الدلالة متقوِّمة بالعلم بالملازمة بين الدالّ والمدلول خارج الذهن، فإنّ هذه الملازمة لا بدَّ لها من سبب، وهذا السبب إمَّا أن يكون واقعيًّا تكوينيًّا، أو أن يكون بحسب ما يقتضيه طبع الإنسان، أو أن يكون بوضعِ واضعٍ. ولأجل هذا، قُسِّمت الدلالة - بحسب منشئها ومبدئها - إلى أقسام ثلاثة[2]: عقليَّة، وطبعيَّة، ووضعيَّة.

 

1. الدلالة العقليَّة

وتُسمَّى الذاتيَّة أيضًا، وهي فيما إذا كان بين الدالّ والمدلول ملازمة ذاتيَّة في وجودهما الخارجيّ، من دون حاجةٍ إلى وضعٍ من واضعٍ، أو إلى طبعٍ يُصحِّح الملازمة بين أحدهما


 


[1]  سيأتي الحديث عن أنواع هذه الملازمة وسببها.

[2] تجدر الإشارة إلى أنَّ انقسام الدلالة إلى الأقسام الثلاثة استقرائيٌّ، أي ناشئ من الاستقراء والتتبُّع، ولذلك لا يمكن الجزم بانحصار أقسام الدلالة في الأقسام الثلاثة، فيمكن أن تكون ثمَّة دلالة ليست داخلة تحت الأقسام الثلاثة، ولكنّ الحال أنَّنا لم نجد ذلك بعد التتبُّع.

 

 

87


65

الدرس السابع: الدلالة (1)

والآخر، وذلك لأنَّهما متلازمان في وجودهما الخارجيّ التكوينيّ.

 

فإذا علم الإنسان -مثلًا- أنّ ضوء الصباح أثرٌ لطلوع قرص الشمس، ورأى الضوء على الجدار، عندها ينتقل ذهنُه إلى طلوع الشمس قطعًا، فيكون ضوء الصبح دالًّا على الشمس دلالةً عقليَّة. ومثله إذا سمعنا صوت متكلّم من وراء جدار، فعلمنا بوجود متكلِّمٍ ما.

 

وتسمية هذه الدلالة بـ"العقليَّة" لا يعني أبدًا أنَّ الانتقال فيها من الدالّ إلى المدلول يحصل بالعقل، وأنَّ الانتقال في غيرها يحصل بغير العقل، بل في الدلالات الثلاث (العقليَّة والطبعيَّة والوضعيَّة) إنَّما يكون الانتقال من الدالّ إلى المدلول بالعقل. ولذا، رأى بعضُهم أنَّ الأَولى في هذه الدلالة تسميتها بـ"الذاتيَّة" بدلًا من "العقليَّة"[1].

 

2. الدلالة الطّبْعِيَّة

وهي المستندة إلى الطبع، وهو الغريزة التي طُبِع الخلقُ عليها، إذ تصدر عنهم من غير قصد، وذلك كاقتضاء طبع بعض الناس أن يقول (آخ) عند التألُّم، و(أُفّ) عند التأسّف والتضجّر، وكاقتضاء طبع بعض الناس أن يُفرقع أصابعه أو يتمطّى عند الضجر والسأم، أو يعبث بما يحمل من أشياء أو بلحيته أو يتثاءب عند النعاس، أو يحمرّ وجهه عند الخجل، وغير ذلك من الطباع الإنسانيّة.

 

فإذا علم الإنسان بهذه الملازمات، فإنّ ذهنه ينتقل من أحد المتلازمَين إلى الآخر، فبسماعه للفظة (آخ) ينتقل ذهنُه إلى أنَّ هناك مَن يحسّ بالألم، وإذا رأى شخصًا يعبث بمسبحته أو لحيته يعلم بأنّه يُفكِّر، وهكذا.

 

في الفرق بين الدلالة العقليَّة والدلالة الطبعيَّة:

تجدر الإشارة إلى أمرٍ أساس هو محلّ فرقٍ واختلافٍ بين الدلالة العقليَّة والدلالة الطبعيَّة:

ففي الدلالة الطبعيَّة، قد يكون طبع إنسانٍ أن يمشي في الغرفة مشيًا سريعًا، ذهابًا وإيابًا، عند التوتُّر، وقد يكون طبع إنسانٍ آخر أن يجلس ويهزّ قدمَيه بقوَّة عند التوتُّر،

 

 


 


[1] فلا يكون تسميتها بـ"العقليّة" خطأ، وإنّما الأَولَى تسميتها بـ"الذاتيّة".

 

88


66

المقدّمة

وهذا ما يُعبِّرون عنه بأنَّ الدلالة الطبعيَّة قد تختلف من شخصٍ إلى آخر، فليس جميع الناس على طبع واحدٍ.

 

وقد يتحمَّل شخصٌ في بعض المرَّات آلامه وأوجاعه، فلا يُصدِر ما يكشف عن أنَّه متألِّم، وقد لا يتحمَّل هو نفسه في مرَّات أخرى الألم والوجع، فيصرخ عاليًا (آخ). وعليه، فإنَّ الدالّ والمدلول في الدلالة الطبعيَّة قد ينفكَّا. وهذا ما يُعبِّرون عنه بأنَّ الدلالة الطبعيَّة قد تتخلَّف، فقد يحصل أحدهما ولا يحصل الآخر، وليس دائمًا كلَّما حصل أحدُهما حصل الآخر، فقد يحصل الألم ولا يحصل الصراخ، وما ذلك إلَّا لأنَّ العلاقة بينهما ليست ذاتيَّة.

 

وإذا كانت الدلالة الطبعيَّة تختلف وتتخلَّف بالمعنى الذي بيَّنّاه، فإنَّ الدلالة العقليَّة بخلافها تمامًا، فهي لا تختلف ولا تتخلَّف، وما ذلك إلَّا لأنَّ العلاقة بين الدالّ والمدلول علاقة ذاتيَّة، فكلَّما حصل أحدُهما حصل الآخر بالضرورة.

 

3. الدلالة الوَضْعِيَّة

وهي فيما إذا كان السبب في رسوخ العلاقة بين الدالّ والمدلول في الذهن هو الوضع، أي وضع الناس أحدَ الشيئَين للدلالة على شيءٍ آخر، واتِّفاقهم فيما بينهم على أن يكون وجود أحدهما دليلًا على وجود الآخر، كالألفاظ التي وُضِعَت وجُعِلَت دليلًا على مقاصد النفس، وكالخطوط التي اصطُلِح واتُّفِق على أن تكون دليلًا على الألفاظ، ومنها أيضًا إشارات البُكمِ، وإشارات البرق واللاسلكيّ، والرموز الحسابيّة والهندسيّة، ورموز سائر العلوم الأخرى.

 

فإذا علم الإنسان بهذا الوضع، وعلم بوجود الدالّ، ينتقل ذهنُه إلى الشيء المدلول.

 

89

 

 


67

الدرس السابع: الدلالة (1)

المفاهيم الرئيسة

- الدلالة هي: كون الشيء بحالة إذا علمتَ بوجوده، انتقل ذهنُك إلى العلم بوجود شيءٍ آخر.

- شرطا حصول الدلالة والانتقال من الدالّ إلى المدلول هما: العلم بوجود الدالّ، والعلم بالملازمة بينه وبين المدلول.

 

- تنقسم الدلالة - بحسب منشأ العلاقة بين الدالّ والمدلول، وسببها - إلى أقسام ثلاثة:

•         الدلالة العقليَّة الذاتيَّة: وهي فيما إذا كان بين الدالّ والمدلول ملازمة ذاتيّة في وجودهما الخارجيّ، كالأثر والمؤثِّر.

 

•         الدلالة الطبعيَّة: وهي فيما إذا كانت الملازمة بين الشيئَين ملازمة طَبْعِيَّة، أي التي يقتضيها طبع الإنسان.

 

•         الدلالة الوضعيَّة: وهي فيما إذا كانت الملازمة بين الشيئَين تنشأ من التواضع والاصطلاح على أنّ وجود أحدهما يكون دليلًا على وجود الثاني.

 

 

 

90

 

 


68

الدرس السابع: الدلالة (1)

أسئلة حول الدرس

1. ماذا نعني بالدلالة؟ اذكر أمثلة.

2. اذكر أقسام الدلالة، واذكر مثالًا لكلِّ قسم منها.

 

للتوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان، انظر:

1. بخيت، علم المنطق المفاهيم والمصطلحات، قسم التصوُّرات، مصدر سابق، ج1، ص135-139.

2. جبر وآخرون، موسوعة مصطلحات علم المنطق عند العرب، ص367-371.

3. خير الدين، علم المنطق، مصدر سابق، ص21-23.

4. خير الدين، القواعد المنطقيَّة دروس بيانيَّة في شرح المنطق وتطبيقاته، مصدر سابق، ص81-84.

5. الفضليّ، مذكّرة المنطق، مصدر سابق، ص36-39.

6. المظفَّر، المنطق، مصدر سابق، ص35-36.

7. اليزديّ، حاشية على التهذيب، مصدر سابق، ص38-39.

 

 

92

 


69

الدرس الثامن: الدلالة (2): أقسام الدلالة الوضعيَّة

الدرس الثامن

الدلالة (2):

أقسام الدلالة الوضعيَّة

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يعرف أنَّ الدلالة محلَّ اهتمام المنطقيّ هي خصوص الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة.

2. يعدِّد أقسام الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة.

3. يفهم النسب والتلازمات بين الأقسام الثلاثة للدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة.

4. يدرك هدف المنطقيّ من بحث الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة.

 

 

94


70

الدرس الثامن: الدلالة (2): أقسام الدلالة الوضعيَّة

تمهيد

بعد بيان الأقسام الثلاثة للدلالة بنحو عامّ (الدلالة العقليَّة، والدلالة الطبعيَّة، والدلالة الوضعيَّة)، تجدر الإشارة إلى أنَّ كلّ قسمٍ من هذه الأقسام ينقسم بدوره إلى قسمَين: لفظيَّة وغير لفظيَّة، وذلك بحسب طبيعة الدالّ في كلٍّ منها، فإن كان الدالّ لفظًا من الألفاظ أو صوتًا من الأصوات كانت الدلالة "لفظيَّةً"، وإن كان الدالّ من غير سنخ الأصوات والألفاظ كانت الدلالة "غير لفظيَّة"، فيصبح مجموع الأقسام ستَّة: دلالة عقليَّة لفظيَّة[1]، ودلالة عقليَّة غير لفظيَّة[2]، ودلالة طبعيَّة لفظيَّة[3]، ودلالة طبعيَّة غير لفظيَّة[4]، ودلالة وضعيَّة لفظيَّة[5]، ودلالة وضعيَّة غير لفظيَّة[6].

 

ولكن لَمَّا كان غرض المنطقيّ هو تصحيح عمليَّة الانتقال بين المعاني الذهنيّة، ولَمَّا كانت الانتقالات الذهنيّة بين المعاني إنَّما تحصل بواسطة الألفاظ التي وضعها الإنسان للدلالة على معانيها، كانت الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة هي محلّ اهتمام المنطقيّ، دون غيرها من الدلالات، ولذلك اهتمّ المنطقيّ واعتنت أغلب كتب المنطق بتقسيم الدلالة الوضعيَّة إلى لفظيَّة وغير لفظيَّة، وبيان أقسام اللفظيَّة منها، ولم تهتمّ بتقسيم الدلالتَين العقليَّة والطبعيَّة إلى لفظيَّة وغير لفظيَّة وتفصيل الكلام فيهما.

 

 


[1] كدلالة سماع صوت متكلِّم خارج الدار على وجود شخصٍ ما، ودلالة سماع ألفاظ خارج الدار على وجود لافظ.

[2] كدلالة ضوء الصباح على طلوع الشمس، ودلالة رؤية الدخان على وجود النار.

[3] كدلالة لفظ (آخ) على تألُّم لافظه، ودلالة لفظ (أفّ) على تأسُّف لافظه أو تضجُّره.

[4] كدلالة التثاؤب على النعاس، ودلالة احمرار الوجه على الخجل.

[5] دلالة الألفاظ على معانيها.

[6] كدلالة إشارة السير الحمراء على لزوم التوقُّف وعدم متابعة السير، ودلالة الأعلام السوداء على الحزن.

 

96


71

الدرس الثامن: الدلالة (2): أقسام الدلالة الوضعيَّة

وجريًا على عادة كتب المنطق، نُفصِّل الكلام في الدلالة الوضعيَّة، ونكتفي في الدلالتَين العقليَّة والطبعيَّة بما تقدَّم من الإشارة إلى أصل انقسامهما إلى لفظيَّة وغير لفظيَّة.

 

أقسام الدلالة الوضعيَّة

تنقسم الدلالة الوضعيَّة، أوَّلًا، إلى قسمَين:

1. الدلالة الوضعيَّة غير اللفظيّة: إذا كان الدالّ الموضوع غير لفظٍ، كالإشارات والخطوط والنقوش، وما يتّصل بها من رموز العلوم، واللوحات المنصوبة في الطرق لتقدير المسافات، أو لتعيين اتّجاه الطريق إلى محلٍّ أو بلدة، ونحو ذلك.

 

2. الدلالة الوضعيَّة اللفظيّة: إذا كان الدالّ الموضوع لفظًا من الألفاظ، إذ بسبب وضع الإنسان ألفاظًا خاصَّة لمعانٍ معيَّنة وكثرة استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى، نشأت علاقة قويَّة جدًّا بين اللفظ والمعنى، كادت تبلغ حدّ الاتِّحاد -كما تقدَّم سابقًا- عند العالِم بالوضع والاستعمال، بحيث صار كلَّما سمع اللفظ انتقل ذهنه مباشرة إلى معناه، ولولا هذا الوضع والعلم بالوضع، لَمَا دلَّ اللفظ على المعنى، ولأجل ذلك عرَّفوا الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة بأنّها: "كون اللفظ بحالةٍ ينشأ من العلم بصدوره من المتكلّم العلمُ بالمعنى المقصود به".

 

أقسام الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة

تقدَّم أنَّ الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة هي دلالة اللفظ على المعنى،ولكن ينبغي التفريق بين مقامَين: بين مقام الوضع ومقام الاستعمال. وبعبارة ثانية: ينبغي التفريق بين المعنى الموضوع له اللفظ من قِبل الواضع في أوَّل وضعه، وبين المعنى المستعمل فيه اللفظ، فإنَّ اللفظ عند استعماله قد يُستَعمل في معنى مطابق للمعنى الذي وُضِع له اللفظ في أوَّل الأمر، وقد يُستَعمل في جزء المعنى الموضوع له، لا في تمامه، وقد يُستَعمل في معنى خارجٍ عن المعنى الموضوع له، بحيث يكون بين المعنى الموضوع له والمعنى الخارج المستعمَل فيه علاقة وملازمة.

 

97

 

 


72

الدرس الثامن: الدلالة (2): أقسام الدلالة الوضعيَّة

ولأجل ذلك، قسَّموا الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة إلى: مطابقيَّة، وتضمُّنيَّة، والتزاميَّة.

 

1. الدلالة اللفظيَّة المطابقيَّة: وهي فيما إذا كان اللفظ في مقام الاستعمال دالًّا على تمام المعنى الموضوع له ومطابقًا له، كدلالة لفظ الكتاب على تمام معناه، فيدخل فيه جميع أوراقه وما فيه من نقوش وغلاف، وكدلالة لفظ البيت على تمام معناه الموضوع له فيدخل فيه غرفه جميعها، وكدلالة لفظ الإنسان على تمام معناه الموضوع له، وهو "الحيوان الناطق".

 

2. الدلالة اللفظيَّة التضمُّنيَّة: وهي فيما إذا كان اللفظ في مقام الاستعمال دالًّا على جزء معناه الموضوع له، كدلالة لفظ الكتاب على أوراقه فقط، أو غلافه فقط، أو كدلالة لفظ البيت على غرفة الضيوف منه.

 

فلو بعتَ البيت مثلًا، يفهم منك المشتري دخول غرفة الضيوف في البيت، لذلك، لو أردت بعد عمليّة البيع، أن تستثني هذه الغرفةَ من البيع، لَمَا قَبِلَ المشتري، ولاحتجّ عليك بدلالة لفظ "البيت" على دخول غرفة الضيوف فيه.

 

3. الدلالة اللفظيَّة الالتزاميَّة: وهي فيما إذا كان اللفظ في مقام الاستعمال دالًّا على ما هو خارج عن المعنى الموضوع له، لازم له، يستتبعه استتباع الرفيق اللازم الخارج عن ذاته، كدلالة لفظ السقف على الحائط، ودلالة لفظ الدواة على القلم.

 

فلو طلب منك أحدٌ أن تأتيه بدواةٍ ولم ينصّ على القلم، فجئته بالدواة وحدها، لعاتبك على ذلك، محتجًّا بأنَّ طلب الدواة كافٍ في الدلالة على طلب القلم.

 

شروط حصول الدلالة الالتزاميَّة

تجدر الإشارة إلى أنَّه مضافًا إلى الشرطَين الرئيسَين في حصول أيِّ دلالة - وهما: العلم بوجود الدالّ، والعلم بالملازمة بين الدالّ والمدلول وعدم كفاية التلازم الخارجيّ - يُشترَط في حصول الدلالة الالتزاميَّة كون التلازم بين اللفظ والمعنى الخارج اللازم بحيث إنَّ الذهن إذا تصوَّر معنى اللفظ ينتقل إلى لازمه من دون حاجةٍ إلى توسُّط شيءٍ آخر، وهذا ما يُعبَّر عنه بكون التلازم بيِّنًا بالمعنى الأخصّ، كالانتقال إلى معنى الزوجيَّة عند تصوُّر معنى لفظ

 

 

98

 


73

الدرس الثامن: الدلالة (2): أقسام الدلالة الوضعيَّة

 اثنَين، فإنَّ الذهن لا يحتاج في هذا الانتقال إلى توسُّط أيّ شيءٍ بين اللفظ (اثنَين) والمعنى اللازم له الخارج عنه (الزوجيَّة)، بخلاف الانتقال من الاثنَين إلى كونها ربع الثمانية، فإنَّك إذا تصوَّرت الاثنين قد تغفل عن أنَّها ربع الثمانية.

 

استنتاجات في النسب والتلازمات بين الأقسام الثلاثة للدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة

ممَّا تقدَّم في بيان أقسام الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة، يُستنتَج أنَّ:

- الدلالة المطابقيَّة لا تستلزم الدلالة التضمُّنيَّة، فقد توجد الدلالة المطابقيَّة ولا توجد الدلالة التضمُّنيَّة، وذلك فيما إذا كان المعنى الذي وُضِع له اللفظ بسيطًا غير مركَّب، كواجب الوجود مثلًا، فلا أجزاء له حتَّى يدلّ اللفظ على جزء معناه الموضوع له.

 

- الدلالة المطابقيَّة لا تستلزم أيضًا الدلالة الالتزاميَّة، فقد توجد الدلالة المطابقيَّة ولا توجد الدلالة الالتزاميَّة، وذلك لأنَّ شرط حصول الدلالة الالتزاميَّة هو كون اللزوم بين اللفظ والمعنى الخارج عنه اللازم له لزومًا بيِّنًا بالمعنى الأخصّ، وقد لا يتحقَّق هذا الشرط، فلا يوجد هذا التلازم.

 

- كلًّا من الدلالتَين "التضمُّنيَّة" و"الالتزاميَّة" تستلزمان المطابقيَّة، فإذا وجدت إحداهما قطعًا كانت الدلالة المطابقيَّة موجودة، ولا يمكن حصول إحداهما ولا تحصل الدلالة المطابقيَّة، وذلك لأنَّهما فرع عنها وتابعان لها، والفرع من حيث هو فرع يكون بعد الأصل. أمَّا الوجه في كونهما فرعَين عنها وتابعَين لها، هو أنَّ دلالة اللفظ على جزء المعنى في الدلالة التضمُّنيَّة يكون بعد دلالته على تمام المعنى، ودلالة اللفظ على المعنى الخارج عنه اللازم له في الدلالة الالتزاميَّة يكون بعد دلالته على تمام المعنى، إذ ينتقل الذهن أوَّلًا من اللفظ إلى تمام المعنى الموضوع له، ومن ثمَّ بسبب وجود التلازم البيِّن بين تمام المعنى الموضوع له اللفظ والمعنى الخارج عنه اللازم له، ينتقل الذهن ثانيًا من تمام المعنى الموضوع له إلى المعنى الخارج عنه اللازم له.

 

 

99

 


74

الدرس الثامن: الدلالة (2): أقسام الدلالة الوضعيَّة

هدف المنطقيّ من مبحث الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة

يهدف علماء المنطق من بحث الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة، بأقسامها الثلاثة، بيان كيفيَّة دلالة الألفاظ على معانيها، لِما لذلك من أثرٍ على عمليَّة التفكير لدى كلٍّ من المتكلِّم والمخاطَب.

 

والقاعدة هنا للمتكلِّم، هي أنَّه:

1. إذا أراد من اللفظ معناه التضمُّنيّ، فلا بدّ له من نصب قرينةٍ على ذلك.

 

2. وكذلك إذا أراد من اللفظ المعنى الالتزاميّ، لا بدَّ له من نصب قرينةٍ أيضًا على مراده.

 

3. أمَّا إذا أراد منه معناه المطابقيّ، فله استعماله مجرَّدًا عن القرينة، وذلك لأنَّ الأصل في اللفظ أن يُحمَل على معناه الموضوع له، وهو المعنى المطابقيّ.

 

 

100


75

الدرس الثامن: الدلالة (2): أقسام الدلالة الوضعيَّة

أمَّا القاعدة للمخاطَب، فهي أنَّه:

أ. إذا كان اللفظ مقرونًا بقرينةٍ تدلّ على نوع الدلالة، مطابقةً أو تضمُّنًا أو التزامًا، يحمله عندها على المعنى الذي تدلّ عليه القرينة.

 

ب. أمَّا إذا كان مجرَّدًا عن القرينة، فإنَّ عليه أن يحمله على معناه المطابقيّ، لأنَّه الأصل، بمعنى أنَّ الأصل في اللفظ أن يُوضَع للمعنى المطابقيّ.

 

ج. في حالة الشكّ في المعنى المقصود للمتكلِّم، إمَّا لعدم نصب قرينة على مقصوده، أو لغموض القرينة التي اعتمدها، عندها عليه أن يرجع إلى الأصل، والأصل هنا -كما أصبح واضحًا- حملُ اللفظ على معناه المطابقيّ.

 

 

101


76

الدرس الثامن: الدلالة (2): أقسام الدلالة الوضعيَّة

المفاهيم الرئيسة

- تنقسم كلّ واحدة من الدلالات الثلاث (العقليَّة، والطبعيَّة، والوضعيَّة) إلى لفظيَّة وغير لفظيَّة.

 

- الدلالة التي تقع موضع اهتمام المنطقيّ هي خصوص الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة.

 

- الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة هي: كون اللفظ بحالةٍ ينشأ من العلم بصدوره من المتكلّم العلم بالمعنى المقصود به.

 

- السبب في دلالة اللفظ على المعنى هو تلك العلقة الراسخة في الذهن بين اللفظ والمعنى، وتنشأ هذه العلقة من الملازمة الوضعيَّة بين اللفظ والمعنى عند من يعلم بالملازمة.

 

- تنقسم الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة إلى أقسام ثلاثة:

•         الدلالة المطابقيَّة: فيما إذا كان اللفظ في مقام الاستعمال دالًّا على تمام المعنى الموضوع له، كدلالة لفظ البيت على غرفه جميعًا.

 

•         الدلالة التضمُّنيَّة: فيما إذا كان اللفظ في مقام الاستعمال دالًّا على جزء المعنى الموضوع له، كدلالة لفظ البيت على غرفة الضيوف.

 

•         الدلالة الالتزاميَّة: فيما إذا كان اللفظ في مقام الاستعمال دالًّا على معنًى خارج عن المعنى الموضوع له لازم له، كدلالة لفظ القلم على الدواة.

 

- يُشتَرط في حصول أيّ دلالة من الدلالات -سواء أكانت عقليَّة أو طبعيَّة أو وضعيَّة (لفظيَّة، أم غير لفظيَّة)- أمران: العلم بوجود الدال، العلم بالتلازم الذهنيّ بين الدال والمدلول فضلًا عن وجود التلازم في الخارج.

 

أمَّا خصوص الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة الالتزاميَّة فإنَّه يُشتَرط في حصولها، مضافًا إلى هذَين الشرطَين، كون التلازم بين اللفظ والمعنى اللازم له الخارج عنه تلازمًا ذهنيّا بيِّنًا بالمعنى الأخصّ.

 

- الدلالة المطابقيَّة لا تستلزم أيًّا من الدلالتَين التضمُّنيَّة ولا الالتزاميَّة، ولكن كلّ واحدة منهما تستلزم المطابقيَّة.

 

102


77

المقدّمة

- تكمن أهمِّيَّة بحث المنطقيّ للدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة في تحديد قواعد لكلٍّ من المتكلِّم والمخاطَب في مقام استعمال دلالة اللفظ على معناه بإحدى الدلالات الثلاث، أو مقام فهمها، سواء في مقام التعريف أم في مقام الاستدلال.

 

•         والقاعدة للمتكلِّم هي:

o جواز استعمال اللفظ مجرَّدًا عن القرينة فيما إذا أراد معناه المطابقيّ، وذلك لأنَّ الأصل في اللفظ دلالته على معناه المطابقيّ.

 

o وضرورة نصب القرينة فيما إذا أراد معناه التضمُّنيّ أو الالتزاميّ.

 

•         أمَّا القاعدة للمخاطَب، فهي:

o وجوب حمل اللفظ على معناه المطابقيّ فيما إذا استُعمِل مجرَّدًا عن القرينة، أو فيما إذا شُكَّ في المعنى المراد.

o جواز حمل اللفظ على معناه التضمُّنيّ أو الالتزاميّ عند وجود قرينة على أحدهما.

 

 

 

103

 

                                       


78

الدرس الثامن: الدلالة (2): أقسام الدلالة الوضعيَّة

تمارين

1. أكمل شجرة الدلالة:

 

 

 

 

2. حدّد نوع الدلالة اللفظيَّة في الأمثلة الآتية بوضع علامة (×) في المربع الصحيح:

 

 

 

                             

المثال

مطابقيَّة

تضمُّنيَّة

التزاميَّة

أ. دلالة لفظ السقف على الأعمدة

 

 

 

ب. دلالة لفظ الشجرة على ثمرتها

 

 

 

ج. دلالة لفظ السيارة على محرّكها

 

 

 

د. دلالة لفظ البيت على البيت بجميع أجزائه، من سقف وجدران وأعمدة

 

 

 

ه. دلالة لفظ النخلة على الطريق إليها، عند بيعها

 

 

 

و. دلالة لفظ الكلمة على (القول المفرد)

 

 

104

 


79

الدرس الثامن: الدلالة (2): أقسام الدلالة الوضعيَّة

تمارين

1. أكمل شجرة الدلالة:

 

 

 

 

2. حدّد نوع الدلالة اللفظيَّة في الأمثلة الآتية بوضع علامة (×) في المربع الصحيح:

 

 

 

                             

المثال

مطابقيَّة

تضمُّنيَّة

التزاميَّة

أ. دلالة لفظ السقف على الأعمدة

 

 

 

ب. دلالة لفظ الشجرة على ثمرتها

 

 

 

ج. دلالة لفظ السيارة على محرّكها

 

 

 

د. دلالة لفظ البيت على البيت بجميع أجزائه، من سقف وجدران وأعمدة

 

 

 

ه. دلالة لفظ النخلة على الطريق إليها، عند بيعها

 

 

 

و. دلالة لفظ الكلمة على (القول المفرد)

 

 

104

 


80

الدرس الثامن: الدلالة (2): أقسام الدلالة الوضعيَّة

أسئلة حول الدرس

1. بيِّن السبب في كون الدلالة التي تقع محلّ اهتمام المنطقيّ هي خصوص الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة.

 

2. عرِّف الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة.

 

3. عدِّد أقسام الدلالة الوضعيَّة اللفظيَّة، واذكر مثالًا على كلِّ قسم.

 

4. بيِّن الوجه في كون الدلالتَين التضمُّنيَّة والالتزاميَّة تستلزمان الدلالة المطابقيَّة.

 

5. اشرح قواعد استعمال اللفظ أو فهمه في التعريف أو الاستدلال، لكلٍّ من المتكلِّم والمخاطَب.

 

 

106


81

الدرس الثامن: الدلالة (2): أقسام الدلالة الوضعيَّة

 

التوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان، انظر:

1. بخيت، علم المنطق المفاهيم والمصطلحات، مصدر سابق، قسم التصوُّرات، ج1، ص139-147.

2. خير الدين، علم المنطق، مصدر سابق، ص23-24.

3. خير الدين، القواعد المنطقيَّة دروس بيانيَّة في شرح المنطق وتطبيقاته، مصدر سابق، ص84-87.

4. الفضليّ، مذكّرة المنطق، مصدر سابق، ص39-42.

5. المظفَّر، المنطق، مصدر سابق، ص36-38.

6. اليزديّ، حاشية على التهذيب، مصدر سابق، ص40-42.

 

 

107

 

 


82

الدرس التاسع: تقسيمات اللفظ (1): أقسام اللفظ بما هو واحد

الدرس التاسع

تقسيمات اللفظ (1): أقسام اللفظ بما هو واحد

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرَّف نوع اللفظ الذي وقع مقسَمًا في تقسيمات المنطقيّ للألفاظ.

2. يدرك اللحاظات المتعدِّدة لتقسيمات المنطقيّ للألفاظ.

3. يعدِّد أقسام اللفظ الواحد بلحاظ كونه واحدًا.

4. يتبيَّن المراد من المختصّ والمشترك والمنقول، والحقيقة والمجاز.

 

 

108


83

الدرس التاسع: تقسيمات اللفظ (1): أقسام اللفظ بما هو واحد

تمهيد

من مباحث الألفاظ التي وجد المنطقيّ لزامًا عليه أن يبحثها، لِما لها من أثرٍ على غرضه -وهو تصحيح عمليَّة التفكير- هو مبحث تقسيمات الألفاظ.

 

واللفظ في اللغة: صوتٌ مشتملٌ على بعض الحروف الهجائيَّة، ويُقسَّم إلى قسمَين: لفظ مهمل، ولفظ مستعمل، والأوَّل مثل ديز، والثاني مثل زيد.

 

و"اللفظ المستعمَل" هو ما كان موضوعًا، بحسب لغةٍ ما، لمعنى من المعاني بعينه، و"الوضع" هو جعل اللفظ بإزاء المعنى.

ونظرًا إلى ما تقدَّم في الدرس السابق -من أنَّ كلّ لفظٍ موضوعٍ لمعنى يدلّ أوَّلًا على معناه المطابقيّ، وإذا دلّ على معنىً تضمُّنيٍّ أو التزاميٍّ فإنَّه يدلّ عليه بعد دلالته على المعنى المطابقيّ، ومن أنَّ كلّ ما يثبت للّفظ من حيث دلالته التضمُّنيَّة أو الالتزاميَّة، - يثبت له من حيث دلالته المطابقيَّة، لا العكس- اقتصر المناطقة على بيان تقسيمات خصوص الألفاظ الموضوعة لمعنى، والدالَّة عليه بنحو الدلالة المطابقيَّة.

 

وقد قسَّم المناطقة اللفظ الدالّ بالمطابقة:

- تارةً من حيث هو لفظٌ واحد.

- وتارةً من حيث هو لفظٌ متعدِّد.

- وتارةً أخرى من حيث هو لفظٌ مطلقًا، بغضّ النظر عن كونه واحدًا أو متعدِّدًا.

 

110


84

الدرس التاسع: تقسيمات اللفظ (1): أقسام اللفظ بما هو واحد

أقسام اللفظ بما هو لفظٌ واحد

للَّفظ الواحد بما هو واحد، تقسيمان:

1. التقسيم الأوَّل: تقسيمه من حيث وحدة وضعه أو تعدُّده إلى[1]:

أ. مختصّ: وهو اللفظ الذي لا يدلّ إلَّا على معنًى واحدٍ فقط، كلفظ الجلالة (الله)، لأنَّه لم يُوضَع إلَّا لذلك المعنى.

 

ب. مشترك: وهو اللفظ الذي يدلّ على أكثر من معنى، لتعدُّد وضعه، كأن يُوضَع أوَّلًا لمعنى، ثمَّ يُوضَع ثانيًّا لمعنى آخر، وثالثًا لمعنى ثالث، وهكذا، فتصبح له معانٍ متعدِّدة نتيجة أوضاعٍ متعدِّدة.

 

ولكنّ هذا التعدُّد في الوضع في المشترك:

- تارةً يكون بدون أيّة مناسبة بين المعاني المتعدِّدة الموضوع لها هذا اللفظ، كأنْ يُوضَع اللفظ بوضعٍ أوَّلٍ لمعنى، ويُوضَع بوضعٍ ثانٍ مستقلٍّ لمعنى ثانٍ، ولكن من دون أن تُلحَظ أيّة مناسبة بين المعنى الموضوع بالوضع الثاني والمعنى الموضوع بالوضع الأوَّل. وهو ما خصُّوه باسم "المشترك"، كلفظ "العين" الموضوعة للباصرة والنابعة والذهب، ولفظ "جون" الموضوع للأبيض والأسود.

 

- وتارةً يكون مع وجود مناسبةٍ بينها، كأنْ يُوضَع اللفظ لمعنى أوَّلًا، ثمّ يُوضَع لمعنى آخر غيره يختلف عنه ولكن بينه وبين المعنى الأوَّل مناسبة ما. وهو ما خصُّوه باسم "المنقول"، كلفظ "الصلاة" الموضوع أوَّلًا للدعاء ثمّ نُقِل في الشرع الإسلاميّ للأفعال المخصوصة من قيامٍ وركوعٍ وسجود ونحوها. ومن المنقول أيضًا، تلك الألفاظ التي تُنقَل من معناها اللغويّ أو العرفيّ الذي يكون مشهورًا بين الناس، إلى معنًى خاصّ بعلمٍ معيَّن، والذي تُعُورِف مؤخَّرًا عند أرباب العلوم تسميته بـ"المعنى الاصطلاحيّ".


 


[1]  في هذا التقسيم للَّفظ الواحد بما هو واحد باعتبار وحدة وضعه وتعدُّده، ذُكِرَت له أقسام ثلاثة: (المختصّ، والمشترك، والمنقول)، ولكنَّ بعضهم أضاف قسمًا رابعًا، وهو (المرتجل)، وجعله كالمنقول بلا فرق إلَّا أنَّه لم تُلحَظ فيه المناسبة بين المعنيَين. ولكن يبدو أنَّ المشترك هو الذي لم تُلحَظ فيه المناسبة بين المعاني المتعدِّدة الموضوعة بأوضاعٍ متعدِّدة للَّفظ الواحد، وبهذا يندرج المرتجل تحت المشترك، وهذا ما جرى عليه بعض المناطقة، فأدخل المرتجل في ضمن المشترك، وعليه جرينا في هذا الكتاب.

 

111


85

الدرس التاسع: تقسيمات اللفظ (1): أقسام اللفظ بما هو واحد

2. التقسيم الثاني: وهو في الواقع تقسيمٌ لاستعمال اللفظ، وليس للَّفظ نفسه، ولكنَّه يُنسَب إلى اللفظ مسامحةً، وهو تقسيمه إلى:

أ. حقيقيّ: وهو استعمال اللفظ في ما وُضِع له من معنى، كاستعمال لفظ "الأسد" في الحيوان المفترس.

 

ب. مجازيّ: وهو استعمال اللفظ في غير ما وُضِع له من معنى، كاستعمال لفظ "الأسد" في الرجل الشجاع.

 

شرطا صحَّة الاستعمال المجازيّ

أمَّا صحَّة هذا الاستعمال المجازيّ، فمشروطة بأمرَين:

- الأوَّل: وجود علاقةٍ ما بين المعنى الموضوع له اللفظ والمعنى المستعمَل فيه، تُصحِّح هذا الاستعمال من دون أن يبلغ حدّ الوضع في هذا المعنى الثاني المستعمَل فيه.

 

- والثاني: أن تنضمّ إلى اللفظ عند الاستعمال، قرينةٌ تحفّ به، تصرفه عن المعنى الحقيقيّ إلى المجازيّ، وذلك لأنَّ شِدَّة استحكام التلازم بين اللفظ ومعناه الحقيقيّ في الذهن تجعله هو المتبادَر إلى الذهن، فيُحتاج لفهم المعنى المجازيّ منه إلى قرينةٍ تصرفه عن معناه الحقيقيّ المتبادَر، إلى معناه المجازيّ. فلو قال قائلٌ: رأيتُ أسدًا، لفُهِمَ أنَّه رأى حيوانًا مفترسًا، لكن لو قال: رأيتُ أسدًا يرمي، لَفُهِمَ عندها إرادته للمعنى المجازيّ، وأنَّه يقصد من قوله (أسدًا) الرجل الشجاع، وما ذلك إلَّا لوجود القرينة (يرمي) الصارفة عن المعنى الحقيقيّ.

 

تنبيهات

التنبيه الأوَّل:

نظرًا إلى أنَّ كلًّا من المشترَك اللفظيّ والمنقول له معانٍ متعدِّدة موضوع لها، ونظرًا إلى أنَّ المجاز هو استعمال اللفظ في غير المعنى الموضوع له، فإنَّه لا يصحّ استعمال جميعها في الحدود (التعريفات) والبراهين إلّا مع نصب القرينة على إرادة المعنى المقصود.

 

 

112


86

الدرس التاسع: تقسيمات اللفظ (1): أقسام اللفظ بما هو واحد

التنبيه الثاني:

بما يرتبط بخصوص المنقول، فإنَّه إذا هُجِرَت المعاني الأخرى الموضوعة له، وبقي له معنى واحد فقط، صحّ عندها استعماله في الحدود والبراهين، وذلك لأنَّ هجرانَ المعاني الأخرى نفسَه يكون قرينةً على المعنى الباقي.

 

التنبيه الثالث:

في الأساليب العلميَّة، يحسن اجتناب المجاز حتَّى مع القرينة.

 

 

113

 


87

الدرس التاسع: تقسيمات اللفظ (1): أقسام اللفظ بما هو واحد

المفاهيم الرئيسة

قسَّم المناطقة اللفظ الموضوع لمعنى، الدالّ عليه بالمطابقة، بلحاظ كونه لفظًا واحدًا، إلى:

- المختصّ: وهو اللفظ الموضوع لمعنى واحد اختصّ به، نحو: لفظ الجلالة (الله).

 

- المشترك: هو اللفظ الموضوع لعدَّة معانٍ من دون وجود مناسبة بينها، نحو: لفظة (عين) الموضوعة للباصرة، والنابعة، والجاسوس، وغيرها.

 

- المنقول: وهو اللفظ الموضوع لعدَّة معانٍ، مع وجود مناسبة بينها، نحو: لفظ (الحجّ) الموضوع لمطلق القصد، ولخصوص قصد الكعبة المشرَّفة، وذلك لمناسبة القصد بينهما.

 

- الحقيقة: وهو اللفظ المستعمَل في المعنى الموضوع له، نحو: استعمال لفظ (الأسد) في الحيوان المفترس.

 

- المجاز: وهو اللفظ المستعمَل في معنى غير المعنى الموضوع له، نحو: استعمال لفظ (الأسد) في الرجل الشجاع.

 

ويُشترَط في الاستعمال المجازيّ - مضافًا إلى وجود علاقةٍ بين المعنى الموضوع له اللفظ والمعنى المجازيّ المستعمَل فيه - نصب قرينة تصرف اللفظ عن المعنى الحقيقيّ المتبادَر، إلى المعنى المجازيّ المراد.

 

 

114

 


88

الدرس التاسع: تقسيمات اللفظ (1): أقسام اللفظ بما هو واحد

تمارين

1. حدّد القسم الذي تنتمي إليه الألفاظ الآتية، المختصّ أم المشترك، ذاكرًا -بمساعدة المعجم اللغويّ- بعض معاني المشترك منها.

 

قرآن، مولى، نحاس، الله، قرء، ياقوت، يقين، قنوت، يمين

مختصّ

مشترك

 

 

         

2. مستعينًا بمعلوماتك أو بالمعاجم، اذكر ثلاثة أمثلة لألفاظ منقولة، محدِّدًا في كلِّ لفظٍ منها المعاني الموضوع لها، ووجه المناسبة بينها، ومحدِّدًا كذلك الناقل في كلٍّ منها، فيما إذا كان الشرع أو العرف أو أهل علمٍ خاصّ.

 

 

3. حدِّد نوع الاستعمال في الأمثلة الآتية، هل هو استعمال حقيقيّ أم مجازيّ؟

                   

المثال

حقيقيّ

مجازيّ

استعمال لفظ البحر في العالِم غزير العلم

 

 

استعمال لفظ البحر في مكان وجود الماء المالحة

 

 

استعمال لفظ الذهب في المعدن الأصفر غالي الثمن

 

115

 

 


89

الدرس التاسع: تقسيمات اللفظ (1): أقسام اللفظ بما هو واحد

4. الكلمتان اللتان تحتهما خطّ استُعمِلَتا مرَّةً استعمالًا حقيقيًّا، ومرّةً استعمالًا مجازيًّا، بيّن المجازيّ منها، مع ذكر وجه المشابهة بين المعنيَين:

قال ابن الفارض:

قامت تُظلّلني من الشمس     نفسٌ أحبُّ إليَّ مِن نفسي

قامت تُظلّلني ومن عجب      شمسٌ تُظلّلني من الشمس

 

 

5. استعمِل الكلمات الآتية استعمالًا حقيقيًّا مرّةً، ومجازيًّا مرَّةً أخرى:

 

116


90

المقدّمة

أسئلة حول الدرس

1. عدِّد أقسام اللفظ الواحد باعتبار وحدة وضعه أو تعدُّد وضعه، وأعطِ مثالًا على كلّ قسم.

 

2. بيِّن المائز الدقيق بين اللفظ المشترك واللفظ المنقول.

 

3. عدِّد أقسام اللفظ في مقام استعماله، واعطِ مثالًا على كلِّ قسم.

 

 

للتوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان، انظر:

1. بخيت، علم المنطق المفاهيم والمصطلحات، قسم التصوُّرات، مصدر سابق، ج1، ص153-154.

2. خير الدين، علم المنطق، مصدر سابق، ص31.

3. خير الدين، القواعد المنطقيَّة دروس بيانيَّة في شرح المنطق وتطبيقاته، مصدر سابق، ص91-96.

4. الفضليّ، مذكّرة المنطق، مصدر سابق، ص43-45.

5. المظفَّر، المنطق، مصدر سابق، ص41-44.

6. اليزديّ، حاشية على التهذيب، مصدر سابق، ص49-51.

 

117


91

الدرس العاشر: تقسيمات اللفظ (2): أقسام اللفظ بما هو متعدِّد

الدرس العاشر

تقسيمات اللفظ (2): أقسام اللفظ بما هو متعدِّد

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرَّف أقسام اللفظ بلحاظ كونه متعدِّدًا.

2. يحدِّد المراد من الترادف والتباين.

3. يتعرَّف المراد من التماثل والتخالف والتقابُل.

4. يتبيَّن أنحاء التقابُل الأربعة.

 

118


92

الدرس العاشر: تقسيمات اللفظ (2): أقسام اللفظ بما هو متعدِّد

تمهيد

تقدَّم في الدرس السابق أنَّ المنطقيَّ إنَّما قسَّم اللفظ بلحاظات مختلفة، فقسَّمه تارةً بلحاظ كونه واحدًا، وتارةً بلحاظ كونه متعدِّدًا، وتارةً أخرى مطلقًا عن اللحاظ، سواء لحاظ الوحدة أم لحاظ التعدُّد. وبعد أن قسَّمنا في الدرس السابق اللفظ باللحاظ الأوَّل، أي لحاظ كونه واحدًا، حان الكلام عن أقسام اللفظ باللحاظ الثاني، أي بلحاظ كونه متعدِّدًا.

 

أقسام اللفظ بلحاظ كونه متعدِّدًا

إنَّ الألفاظ المتعدِّدة إذا قِيسَت إلى بعضها من حيث دلالة كلّ لفظٍ منها على معناه، فهي على نحوَين:

1. مترادفة: فيما إذا دل َّكلُّ لفظٍ منها على المعنى نفسه الذي يدلّ عليه اللفظ الآخر. وبعبارة ثانية: فيما إذا دلَّت جميعها على معنى واحد، مثل: (إنسان، وبشر)، و(هرَّة، وقطَّة، وسِنَّوْرَة).

 

2. متباينة: فيما إذا دلَّ كلُّ لفظٍ منها على معنى مغاير للمعنى الذي يدلّ عليه اللفظ الآخر، مثل: أرض، سماء، حائط، باب، سفينة، سيَّارة، طائرة.

 

وإذا كان التباين بين الألفاظ عبارة عن دلالتها على معانٍ متغايرة، فإنَّ التغايُر بين المعاني على أقسامٍ ثلاثة:

أ. التماثل: هو التغايُر مع الاشتراك في حقيقة واحدة، وقد لُوحِظ هذا الاشتراك، نحو: (عليّ، وجعفر، وعبَّاس، وفاطمة، وزينب، ومليكة)، فإنّ كلّ اسم من هذه الأسماء يدلّ

 

 

120

 


93

الدرس العاشر: تقسيمات اللفظ (2): أقسام اللفظ بما هو متعدِّد

على شخصٍ غير الآخر، أي على معنى غير الآخر، ولكنّ هذه المعاني المتغايرة تشترك جميعها في حقيقة واحدة، هي الإنسانيَّة. ونحو: (الأسد، والغراب، والفَرَس، والثعبان)، فإنَّ كلّ لفظٍ من هذه الألفاظ يدلّ على معنى مغاير للذي يدلّ عليه الآخر، ولكنّ هذه المعاني المتغايرة تشترك في حقيقة واحدة، هي الحيوانيَّة.

 

والمتماثلان إذا كانا من الذوات، فلا يجتمعان أبدًا ببديهة العقل، نحو (زيد) و(جعفر)، فهاتان ذاتان مشتركتان في الإنسانيَّة، ولكن لا يجتمعان أبدًا، فلا يمكن أن يوجد شخص واحد هو جعفر وزيد معًا.

 

أمَّا إذا كانا من الصفات، فلا مانع من اجتماعهما، كـ(السواد) و(الحلاوة)، فإنَّ معنى السواد يغاير معنى الحلاوة، ولكنَّهما يشتركان في أنَّهما "كيف"، فالسواد كيفٌ مُبصِر، والحلاوة كيفٌ مذوق، وهما يجتمعان في التمرة مثلًا.

 

ب. التخالف: وهو التغايُر بين المعاني مع وجود اشتراك في حقيقة واحدة، ولكن من دون أن تُلحَظ جهة الاشتراك هذه. والتخالف:

 

- قد يكون في الشخص، مثل: (محمّد وجعفر)، وإن كانا مشتركَين نوعًا في الإنسانية، ولكن لم يُلحَظ هذا الاشتراك.

 

- وقد يكون في النوع، مثل: (الإنسان والفرس)، وإن كانا مشتركَين في الجنس، وهو الحيوان، ولكن لم يُلحَظ الاشتراك.

 

- وقد يكون في الجنس، مثل: (القطن والثلج)، وإن كانا مشتركَين في وصفهما العارض عليهما -كوصف الأبيض في المثال- إلّا أنّه لم يُلحَظ ذلك.

 

وعليه، فالفرق بين "التماثل" و"التخالف" يكمن في لحاظ الاشتراك في حقيقة واحدة في الأوَّل، وعدم لحاظه في الثاني.

والمتخالفان كالمتماثلَين من حيث استحالة اجتماعهما فيما إذا كانا من الذوات، وعدم امتناع اجتماعهما فيما إذا كانا من الصفات.

 

ج. التقابُل: وهو التغايُر بين المعاني تغايرًا يبلغ حدّ التنافر، بحيث لا يجتمعان في محلٍّ

 

 

121

 


94

الدرس العاشر: تقسيمات اللفظ (2): أقسام اللفظ بما هو متعدِّد

واحدٍ، من جهةٍ واحدة، في زمانٍ واحد.

 

والتقابُل بهذا المعنى على أقسامٍ أيضًا:

- تقابُل النقيضَين: وهو التقابُل بين معنيَين: أحدهما وجوديّ، والآخر عدم ذلك الوجود، مثل: (إنسان، ولا إنسان)، (نور، ولا نور).

 

والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ببديهة العقل، بل إنَّ قضيَّة استحالة اجتماعهما واستحالة ارتفاعهما هي أمّ قضايا العقل النظريّ[1].

 

- تقابُل المَلَكة والعدم: ويُراد بـ"المَلَكة" هنا: الوجود، وبـ"العدم": عدم ذلك الوجود الخاصّ، لا عدمه مطلقًا. والمقصود من (عدم ذلك الوجود الخاصّ) أي عدمه فيمَن مِن شأنه أن يكون متوفِّرًا عليه، كـ(البصر والعمى)، فإنَّ البصر هو الوجود أو المَلَكة، والعمى هو عدمه، ولكنّ هذا العدم ليس عدمًا للبصر مطلقًا، بل عدم البصر الخاصّ، وهو عدمه فيمَن مِن شأنه أن يكون بصيرًا.

 

والمَلَكة والعدم أيضًا لا يجتمعان، ولكن يجوز أن يرتفعا عمَّن لا شأنيَّة ولا قابليَّة فيه للمَلَكة، فالحجر -مثلًا- لا يُقال له أعمى ولا بصير، لأنّ الحجر ليس من شأنه أن يكون بصيرًا.

 

- تقابُل الضدَّين: والضدَّان: هما الوصفان الوجوديَّان المتعاقبان على موضوع واحد، اللذان لا يجتمعان فيه، ولكن يجوز أن يرتفعا عنه معًا، وذلك كـ(السواد والبياض)، و(الحرارة والبرودة).

 

- تقابُل المتضايفَين: وهما كالضدَّين، وصفان وجوديَّان لا يجتمعان في محلٍّ واحد، ويجوز أن يرتفعا عنه معًا، ولكن مع فارق إضافيّ، وهو أنَّ المتضايفَين إنَّما يُتصوَّران ويُتعقّلان معًا، فلا يمكن تعقُّل أحدهما دون الآخر، كـ(الأبوَّة والبنوَّة)، فلا يمكن تعقُّل معنى


 


[1] العقل النظريّ في مقابل العقل العمليّ. وتقسيم العقل إلى نظريّ وعمليّ هو في الحقيقة تقسيم لمُدْرَكَاتِه، فهناك مدركات نظريَّة وهناك مدركات عمليَّة. والمقصود بالمدركات النظريَّة: المدركات التي تكون من نوع ما ينبغي أن يُعلَم أو لا يُعلَم، والمقصود من المدركات العمليَّة: المدركات التي تكون من نوع ما ينبغي أن يُعمَل أو لا يُعمَل. والمقصود من كون قضيَّة استحالة اجتماع النقيضَين واستحالة ارتفاعهما هي أمَّ قضايا العقل النظريّ، هو: أنَّ هذه القضيَّة هي القضيَّة الأوَّليَّة للمدركات النظريَّة كلّها، والقضيَّة التي تبتني عليها وترجع إليها المدركات النظريَّةكلّها.

 

 

122


95

الدرس العاشر: تقسيمات اللفظ (2): أقسام اللفظ بما هو متعدِّد

(الأبوَّة) دون تعقُّل معنى (البنوَّة)، إذ ليس الأب إلَّا مَن له ابن، وليس الابن إلَّا مَن له أب. وذلك بخلاف الضدَّين، فإنَّه يمكن تعقُّل أحدهما من غير تعقُّل الآخر، فيمكن تعقُّل (البياض) من غير تعقُّل (السوادّ).

 

ثمَّ إنَّ المتضايفَين لا يجتمعان في محلٍّ واحد من جهةٍ واحدة، فقد يكون شخصٌ أبًا لشخصٍ وابنًا لآخر، ولكن لا يصحّ أن يكون أبًا وابنًا لشخصٍ واحد.

 

 

123


96

الدرس العاشر: تقسيمات اللفظ (2): أقسام اللفظ بما هو متعدِّد

المفاهيم الرئيسة

تنقسم الألفاظ المتعدِّدة، فيما إذا قِيسَت إلى بعضها من حيث دلالتها على معانيها، إلى:

1. مترادفة: وهي الألفاظ المتعدِّدة المشتركة في معنى واحد، نحو: (إنسان وبشر).

 

2. متباينة: وهي الألفاظ المتعدِّدة معانيها بعددها، نحو: (سماء، أرض، حيوان، قلم، جماد، إنسان،...)

 

وتنقسم الألفاظ المتباينة بدورها إلى:

أ. متماثلة: وهي المشتركة بحقيقة واحدة بما هي مشتركة، نحو: (زيد وجعفر) المشتركان في الإنسانيَّة، و(إنسان وفرس) المشتركان في الحيوانيَّة. والمتماثلان لا يجتمعان، ببديهة العقل، إذا كانا من الذوات، ويمكن اجتماعهما فيما إذا كانا من الصفات.

 

ب. متخالفة: وهي المتغايرة من حيث هي متغايرة، نحو (زيد وجعفر) فيما إذا لم يُلحَظ اشتراكهما في الإنسانيَّة، و(إنسان وفرس) فيما إذا لم يُلحَظ اشتراكهما في الحيوانيَّة.

 

والمتخالفان كالمتماثلَين، يمتنع اجتماعهما إذا كانا من الذوات، ويمكن اجتماعهما فيما إذا كانا من الصفات.

 

ج. متباينة: وهي المتغايرة حدّ التنافر، بحيث لا يمكن اجتماعها في محلٍّ واحدٍ، من جهةٍ واحدةٍ، في زمانٍ واحد. والتقابُل على أقسام:

 

- تقابُل النقيضَين: والنقيضان أمران: أحدهما وجوديّ، والآخر عدمٌ لذلك الوجود، وهما لا يجتمعان ولا يرتفعان، ولا واسطة بينهما ببديهة العقل، نحو: (إنسان ولا إنسان).

 

- تقابُل المَلَكة وعدمها: وهما أمران: وجوديّ وعدميّ، لا يجتمعان، ويجوز أن يرتفعا في موضعٍ لا تصحّ فيه المَلَكة، نحو: (البصر والعمى)، و(الزواج والعزوبة).

 

- تقابُل الضدَّين: وهما أمران وجوديّان متعاقبان على محلٍّ واحد، ولا يُتَصوَّر اجتماعهما فيه، ويمكن تعقُّل أحدهما دون تعقُّل الآخر، نحو: (الحرارة والبرودة)، و(السواد والبياض).

 

 

124

 


97

الدرس العاشر: تقسيمات اللفظ (2): أقسام اللفظ بما هو متعدِّد

- تقابُل المتضايفَين: وهما أمران وجوديَّان يُتعقَّلان معًا، ولا يجتمعان في موضوعٍ واحدٍ من جهةٍ واحدة، ويجوز أن يرتفعا، نحو: الأبوَّة والبنوَّة.

 

 

125


98

الدرس العاشر: تقسيمات اللفظ (2): أقسام اللفظ بما هو متعدِّد

أسئلة حول الدرس

1. هل يمكن أن يَصدُق على شيئَين أنّهما متخالفان ومتماثلان؟ بيّن ذلك عبر مثالٍ تذكره.

2. عرّف أقسام التقابُل، مع ذكر مثال لم يرد في الدرس والتمارين لكلِّ قسم.

3. ما الفرق بين التناقض والتضادّ؟

 

للتوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان، انظر:

1. خير الدين، علم المنطق، مصدر سابق، ص33-36.

2. خير الدين، القواعد المنطقيَّة دروس بيانيَّة في شرح المنطق وتطبيقاته، مصدر سابق، ص97-106.

3. الصدر، دروس في علم المنطق، مصدر سابق، ص44-47.

4. الفضليّ، مذكّرة المنطق، مصدر سابق، ص46-48.

5. المظفَّر، المنطق، مصدر سابق، ص45-50.

6. الوائليّ، معالم المنطق، مصدر سابق، ص79-82.

 

 

128


99

الدرس الحادي عشر: تقسيمات اللفظ (3): أقسام اللفظ مطلقًا

الدرس الحادي عشر

تقسيمات اللفظ (3): أقسام اللفظ مطلقًا

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرَّف أقسام اللفظ بمعزل عن لحاظ الوحدة أو التعدُّد.

2. يتعرَّف أقسام المركَّب من حيث التمام والنقصان.

3. يتبيَّن أقسام المركَّب التامّ.

4. يدرك السرّ في صحَّة وصف الخبر بالصدق والكذب،بخلاف الإنشاء.

 

129

 


100

الدرس الحادي عشر: تقسيمات اللفظ (3): أقسام اللفظ مطلقًا

تمهيد

تقدَّم أنَّ المنطقيَّ إنَّما قسَّم اللفظ بلحاظاتٍ مختلفة، فقسَّمه تارةً بلحاظ كونه واحدًا، وتارةً بلحاظ كونه متعدِّدًا، وتارةً أخرى مطلقًا عن اللحاظ، سواء لحاظ الوحدة أم لحاظ التعدُّد. وبعد أن قسَّمنا في الدرسَين السابقين، اللفظَ باللحاظ الأوَّل، أي لحاظ كونه واحدًا، وباللحاظ الثاني، أي بلحاظ كونه متعدِّدًا، نُبيِّن في ما يأتي أقسام اللفظ مطلقًا عن لحاظ الوحدة أو التعدُّد.

 

أقسام اللفظ مطلقًا عن قيد الوحدة أو التعدُّد

ينقسم اللفظ مطلقًا إلى قسمَين:

1. مفرد:

وهو الذي لا يدلّ جزؤه على جزءِ معناه حين هو جزءٌ له[1]. والمفرد بهذا المعنى يشمل ما ليس له جزء أصلًا (مثل: (الباء) من قولك: كتبتُ بالقلم، و(قِ) فعل الأمر من وقى، يقي)، ويشمل أيضًا ما له جزءٌ ولكنّ جزأه لا يدلّ على جزءِ المعنى حين هو جزءٌ له (مثل: لفظة (إنسان)، فمعناها (حيوان ناطق)، ولكن لو جزَّأنا هذه اللفظة إلى جزأَين، مثلًا: (إنْ - سان) وجدناهما لا يدلَّان على جزءِ المعنى، فلا الجزء (إنْ) يدلّ على (الحيوان) مثلًا، ولا الجزء (سان) يدلّ على الناطق مثلًا).


 


[1] المراد من قيد (حين هو جزء له) أي حين يكون هذا الجزء جزءًا لهذا اللفظ، فهو (الجزء) حين هو جزء لهذا اللفظ لا يدلّ على جزء المعنى، وإن كان له معنى مستقلّ فيما لو أُخِذ هذا الجزء مستقلًّا ولم يكن جزءًا من هذا اللفظ، كالجزء (إن) من لفظ (إنسان)، فهو حين كونه جزءًا من هذا اللفظ ليس له معنى، ولا يدلّ على جزء من معنى إنسان، ولكن لو أخذنا (إن) لوحدها من دون أن تكون جزءًا من لفظ إنسان، فهي تدلّ على معنى الشرط.

 

 

130


101

الدرس الحادي عشر: تقسيمات اللفظ (3): أقسام اللفظ مطلقًا

أقسام المفرد:

ثمَّ إنَّ المفرد ينقسم بدوره -باعتبار دلالته على المعنى- إلى ثلاثة أقسام، لأنَّه:

أ. إمَّا أن يكون مستقلًّا في الدلالة على معناه، وهذا النوع على قسمَين أيضًا، لأنَّه:

إمَّا أن يدلّ على معناه فقط مجرَّدًا عن دلالته على زمان وقوع هذا المعنى، وهو "الاسم" في اصطلاح المناطقة، نحو: محمَّد، عيسى، كاتب، قائم.

 

- وإمَّا مع دلالته على معناه يدلّ أيضًا على وقوع هذا المعنى في أحد الأزمنة الثلاثة، وهو (الكلمة([1]) في اصطلاح المناطقة. نحو: (ضرب، يضرب، اضرب).

 

وبملاحظة هذه الكلمات الثلاث (ضرب، يضرب، اضرب)، يتَّضح أنَّها جميعها تدلّ على معنى واحدٍ مشتركٍ، وهو (الضرب)، وذلك بفضل مادَّتها المؤلَّفة منها، وهي الأحرف الثلاثة المشتركة بينها (ض، ر، ب)، في حين تدلّ كلّ واحدة منها على نسبة ذلك المعنى المشترك إلى فاعلٍ ما غير معيَّن، ولكن في زمان معيَّن من الأزمنة، وذلك بفضل هيئتها[2]، فـ(ضرب) تدلّ على وقوع الضرب من فاعلٍ ما في زمنٍ مضى، و(يضرب) تدلّ على تجدُّد الضرب من فاعل ما في زمن الحال أو الاستقبال، و(اضرب) تدلّ على نسبة طلب الضرب من فاعلٍ ما في المستقبل.

 

وهذا بخلاف "الاسم"، فإنَّه يدلّ على المعنى فقط، ولا يدلّ على الزمان، وإن دلّ على زمانٍ، دلّ عليه بمادَّته، لا بهيئته، كلفظة: (الصباح، والمساء، والليل، والنهار)، فإنَّما تدلّ على الزمان بمادّتها، لا بهيئتها.

 

وعليه، يمكن تعريف الاسم بأنَّه: اللفظ المفرد الدالّ على معنى مستقلّ في نفسه، غير مشتملٍ على هيئةٍ تدلّ على نسبةٍ تامَّة زمانيَّة.

 

والكلمة: بأنَّها اللفظ المفرد الدالّ بمادّته على معنى مستقلّ في نفسه، وبهيئته على نسبة ذلك المعنى إلى فاعلٍ، لا بعينه، نسبةً تامَّةً زمانيَّة.


 


[1] وقد تقدَّم أنَّ "الكلمة" عند المناطقة هي "الفعل" عند النحاة.

[2] أي الصورة التي يكون عليها اللفظ، أي الميزان الصرفيّ.

 

 

131


102

الدرس الحادي عشر: تقسيمات اللفظ (3): أقسام اللفظ مطلقًا

ب. وإمَّا أن لا يكون مستقلًّا في الدلالة على المعنى، بل يحتاج إلى ألفاظٍ أخرى تُظهِر معناه، وهو (الأداة)[1] في اصطلاح المناطقة، نحو: (في، على، مِن، إلى، هل). فـ(مِن) و(إلى) لا يدلَّان بنفسهما على معنى مستقلّ، ولكن يظهر معناهما بفضل غيرهما، فيظهر معنى (من) في الدلالة على الابتداء، ومعنى (إلى) في الدلالة على الانتهاء، فيما لو قلت مثلًا: غسلتُ يدي مِن المرفق إلى الأصابع.

 

وعليه، يمكن تعريف الأداة بأنَّها: اللفظ المفرد الدالّ على معنى غير مستقلّ في نفسه.

فهذه أقسام ثلاثة للمفرد (اسم، وكلمة، وأداة).

 

2. مركَّب:

وهو اللفظ الذي له جزء يدلّ على جزءِ معناه حين هو جزءٌ، نحو: (زيدٌ عالِمٌ)، فإنَّ جزء اللفظ (زيد) يدلّ على جزء المعنى، وهو ذات الشخص المسمَّى بزيد، والجزء الآخر (عالِم) يدلّ على جزء المعنى، وهو العلم، فكلٌّ من الجزأين يدلّ على جزءِ معنى المركَّب.

 

وقبل بيان أقسام المركَّب، نُعطي مثالًا يوضح الفرق بين المفرد والمركَّب:

لفظ (عبد الله) إذا كان اسمًا لشخص، فمعناه ذات الشخص المسمَّى بهذا الاسم، وعليه، فهو مفرد، لأنَّ جزأءه (عبد) أو جزأه الآخر (الله) لا يدلّ على رأس هذا الشخص المسمَّى بهذا الاسم، أو على عضو آخر من أعضائه.

 

أمَّا إذا كان (عبد الله) نعتًا لشخصٍ ووصفًا له، فيكون مركَّبًا، لأنَّ معناه وصفُه بأنَّه يعبد الله، وفي هذه الحالة، فإنَّ كلَّ جزءٍ من أجزاء اللفظ يدلّ على جزءٍ من المعنى، فـ(عبد) تدلّ على العبوديَّة، و(الله) تدلّ على الذات المستجمِعة لصفات الكمال.

 

ملاحظة: يختلف نظر كلٍّ من المناطقة والنحاة في تقسيم اللفظ إلى مفرد ومركَّب، فـ(عبد الله) عند النحاة، سواء أكان اسمًا لشخصٍ أم نعتًا له، فهو مركّب، وليس مفردًا، وذلك لأنَّ الجهة المعتبَرة لهم في هذه التسمية تختلف عن الجهة المعتبَرة عند المناطقة، إذ النحْويّ ينظر إلى الإعراب والبناء، فما كان له إعراب أو بناءٌ واحد فهو مفرد، وإلّا فمركّب،

 

 


[1] وقد تقدَّم أنَّ "الأداة" عند المناطقة هي "الحرف" عند النحاة.

 

 

132


103

الدرس الحادي عشر: تقسيمات اللفظ (3): أقسام اللفظ مطلقًا

فإنّ (عبد) له إعراب، و(الله) له إعراب، أمّا المنطقيّ فإنّما ينظر إلى المعنى فقط.

 

ثمَّ إنَّ المركَّب يُقسَّم أوَّلًا إلى قسمَين:

أ. ناقص[1]: وهو ما لا يحسن سكوت المتكلِّم عليه، بل يبقى السامع ينتظر منه تتمَّةً حتّى تتمّ فائدة الكلام عنده، نحو: (إن تعدّوا نعمة الله)، و(قيمة كلّ امرئ).

 

ب. تامّ: وهو ما يفيد فائدة تامّة، بحيث يصحّ السكوت عليه، ولا يبقى السامع ينتظر تتمَّةً للكلام حتَّى يتمّ المعنى عنده، نحو (إن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها)، و(قيمة كلِّ امرئٍ ما يحسنه).

 

ثمَّ إنَّ المركَّب التامّ ينقسم بدوره إلى قسمَين:

- مركَّب تامّ خبريّ: وهو المركَّب التامّ الذي يصحّ وصفُه بالصدق والكذب، نحو: (الشمس مشرقة).

 

- مركَّب تامّ إنشائيّ: وهو المركَّب التامّ الذي لا يصحّ وصفُه بالصدق أو الكذب، ومنه[2]: الأمر، والنهي، والاستفهام، والتمنِّي والترجِّي، والعرض، والتحضيض، والتعجب، والقَسَم، والعقد، والإيقاع.

 

السرّ في صحَّة وصف المركَّب التامّ الخبريّ بالصدق أو الكذب، وعدم صحَّة وصف الإنشائيّ منه بأيٍّ منهما

والسرّ في كون المركَّب التامّ الخبريّ قابلًا للوصف بالصدق أو الكذب، وعدم قابليَّة المركَّب التامّ الإنشائيّ لذلك، هو أنَّ كلّ مركَّب تامّ له نسبة قائمة بين أجزائه، تُسمَّى "النسبة التامَّة".

 

وهذه النسبة في الخبر لها حقيقة ثابتة في الواقع، بغضّ النظر عن اللفظ، فسواء جِيءَ باللفظ أم لم يُؤتَ به، فإنّ هذه النسبة موجودة في الواقع فعلًا، ولكن حين يُؤتَى بهذا اللفظ للإخبار به عن هذه النسبة الموجودة في الواقع فعلًا، فإنَّ هذا اللفظ الخبريّ قد


 


[1] تقدَّم بيان بعض أنواع المركبَّات الناقصة (كالمضاف والمضاف إليه، والشبيه بالمضاف، والموضوف وصفته، وأجزاء الجملة الشرطيَّة،...) مع أمثلة عليها، وذلك في الدرس الرابع عند الكلام عن موارد التصوُّر، فراجِع.

[2] تقدَّم بيان أنواع الإنشاءات مع تعريفاتها وذكر أمثلة عليها، وذلك في الدرس الرابع عند الكلام عن موارد التصوُّر، فراجِع.

 

 

133


104

الدرس الحادي عشر: تقسيمات اللفظ (3): أقسام اللفظ مطلقًا

يُطابِق النسبة فيكون صادقًا، وقد لا يُطابقها فيكون كاذبًا.

 

أمَّا في الإنشاء، فلا وجود لنسبةٍ وراء اللفظ، بل اللفظ هو الذي يوجِد النسبة ويُنشئها. وبعبارة ثانية: لولا اللفظ لا تحقُّق للنسبة. وإذا كان لا وجود لنسبة وراء اللفظ، فلا مجال للحديث عن مطابقة اللفظ للنسبة وعدم مطابقته، إذ لا نسبة لولا الكلام، ومن ثمّ لا مجال لوصف الصدق أو الكذب.

 

 

134


105

الدرس الحادي عشر: تقسيمات اللفظ (3): أقسام اللفظ مطلقًا

المفاهيم الرئيسة

ينقسم اللفظ مطلقًا، من غير لحاظ الوحدة ولا التعدُّد، إلى:

1. مفرد: وهو الذي ليس له جزءٌ يدلّ على جزءِ معناه حين هو جزءٌ له، سواء لم يكن له جزء أصلًا، كالحرف الواحد، أو كان له جزءٌ ولكنّ جزأه لا يدلّ على جزءِ المعنى، نحو: (عبد الله) إذا كان اسمًا لشخص.

 

ويُقسَّم المفرد إلى:

أ. اسم: وهو اللفظ المفرد الدالّ على معنى مستقلّ في نفسه، غير مشتمل على هيئة تدلّ على نسبة تامَّة زمنيَّة، نحو: محمَّد، إنسان، كاتب.

 

ب. كلمة: وهي اللفظ المفرد الدالّ بمادَّته على معنى مستقلٍ في نفسه، وبهيئته على نسبة ذلك المعنى إلى فاعل لا بعينه، نسبة تامَّة زمنيَّة، نحو: ضرب، يضرب، اضرب.

 

ج. أداة: وهي اللفظ المفرد الدالّ على معنى غير مستقلّ في نفسه.

 

2. مركَّب: وهو اللفظ الذي له جزء يدلّ على جزءِ معناه حين هو جزءٌ له، نحو: (عبد الله) إذا كان نعتًا لشخص.

ويُقسَّم المركَّب إلى:

أ. ناقص: وهو المركَّب الذي لا يحسن السكوت عليه، نحو: قيمة كلِّ امرئ.

ب. تامّ: وهو المركَّب الذي يحسن السكوت عليه، نحو: قيمة كلّ امرئ ما يُحسنه.

 

ويُقسَّم التامّ إلى:

- خبر: وهو المركَّب التامّ الذي يصحّ وصفه بالصدق أو الكذب، نحو: الشمس مشرقة.

- إنشاء: وهو المركَّب التامّ الذي لا يصحّ وصفه بالصدق أو الكذب، نحو: بعتك القلم.

 

 

135

 


106

الدرس الحادي عشر: تقسيمات اللفظ (3): أقسام اللفظ مطلقًا

أسئلة حول الدرس

1. لِمَ كان المُركّب الناقص لا يحسن السكوت عليه؟

2. بيّن المراد من الهيئة والمادّة في الكلمة.

3. بيِّن الوجه في قبول الخبر للوصف بالصدق أو الكذب، وعدم قبول الإنشاء لذلك.

3. إدراك الإنشاء من التصوُّر أم من التصديق؟ علّل الإجابة.

 

للتوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان، انظر:

1. بخيت، علم المنطق المفاهيم والمصطلحات، قسم التصوُّرات، مصدر سابق، ج1، ص149-152.

2. خير الدين، علم المنطق، مصدر سابق، ص26-29.

3. خير الدين، القواعد المنطقيَّة دروس بيانيَّة في شرح المنطق وتطبيقاته، مصدر سابق، ص107-108.

4. الفضليّ، مذكّرة المنطق، مصدر سابق، ص49-53.

5. المطهَّري، المنطق، مصدر سابق، ص51-54.

6. المظفَّر، المنطق، مصدر سابق، ص51-55.

7. اليزديّ، حاشية على التهذيب، مصدر سابق، ص42-48.

 

 

138

 


107

الدرس الثاني عشر: تقسيمات المعنى: المفهوم وامصداق الجزئيّ والكلِّيّ، المتواطئ والمشكِّك

الدرس الثاني عشر

تقسيمات المعنى: المفهوم والمصداق

الجزئيّ والكلِّيّ، المتواطئ والمشكِّك

 

 

1. يتعرَّف انقسام المعنى إلى مفهوم ومصداق، والمراد منهما.

2. يتبيَّن انقسام المفهوم إلى الجزئيّ والكلِّيّ.

3. يدرك أنَّ موضع اهتمام المنطقيّ هو خصوص المفهوم الكلِّيّ.

4. يتعرَّف أقسام المفهوم الكلِّيّ باعتبار كيفيَّة انطباقه على مصاديقه.

 

 

139


108

الدرس الثاني عشر: تقسيمات المعنى: المفهوم وامصداق الجزئيّ والكلِّيّ، المتواطئ والمشكِّك

تمهيد

تقدَّمت في الدرس السابق تقسيمات الألفاظ، وقلنا إنَّ المنطقيّ لم يكن همّه الألفاظ بما هي ألفاظ بل همُّه الأوَّل والأخير هو المعنى، وإنَّما درس الألفاظ وأحوالها وتقسيماتها لِما لها من تأثير على المعنى، إنْ لناحية انتقالاته الذهنيّة هو نفسه، وإنْ لناحية تفاهمه مع الآخرين، فالمقصود أوَّلًا وبالذات هو المعنى.

 

ولَمَّا كان المعنى هو المقصود للمنطقيّ أوَّلًا وبالذات، كان من الطبيعيّ أن يبحث المنطقيّ في المعنى وأقسامه وأنواعه، ليرتِّب على أساسه الانتقالات الذهنيّة الصحيحة بين المعاني، ويتجنَّب الخاطئة منها.

 

أقسام المعنى باعتبار وجوده: المفهوم والمصداق

 

ينقسم المعنى باعتبار وجوده إلى قسمَين: المفهوم والمصداق.

 

1. المفهوم:

وهو المعنى الموجود في الذهن. وبعبارة ثانية: المفهوم هو نفسه الصورة الذهنيّة المنتزَعة من حقائق الأشياء.

 

وتسميته "مفهومًا" تدلّ على ذلك، إذ هو اسم مفعول من الفهم، والفهم مصدر، معناه: تصوُّر الشيء وإداركه، تقول: فَهِمَ زيدٌ الشيء، فالشيءُ مفهومٌ.

 

2. المصداق:

وهو المعنى الموجود في الخارج. وبعبارة ثانية: المصداق هو حقيقة الشيء الذي تُنتَزَع منه الصورة الذهنيّة.

 

 

140

 


109

الدرس الثاني عشر: تقسيمات المعنى: المفهوم وامصداق الجزئيّ والكلِّيّ، المتواطئ والمشكِّك

ويعني المناطقة بـ(الخارج): خارج الذهن، ويُعبِّرون عنه بالعالَم الخارجيّ.

 

وكلمة (مصداق) أُخِذَت بطريق النحت اللغويّ عن عبارة (ما صَدَقَ) و (مَنْ صَدَقَ).

 

ولإيضاح هذا نقول: معنى (حيوان ناطق) يصدق على (زيد) الموجود في الخارج، لأنَّه (إنسان)، فزَيدٌ -على هذا- يكون هو (مَنْ صَدَقَ) عليه المعنى، أي انطبق عليه بصدق[1].

 

ولأجل أن نستوضح معنى المفهوم والمصداق أكثر، نأخذ مثالًا: (الإنسان).

إنَّ أفراد الإنسان الموجودين في الخارج (مثل: محمَّد وعليّ وجعفر وعبَّاس وفاطمة وزينب)، كلّ واحد هو مصداق.

 

والمعنى الموجود في أذهاننا الذي نحمله للإنسان ونُعرِّفه به (وهو الحيوان الناطق) هو المفهوم.

 

وعليه، فالعلاقة بين المفهوم والمصداق هي علاقة انطباق المفهوم على مصداقه.

 

أقسام المفهوم باعتبار انطباقه على مصاديقه

قسَّم المناطقة المفهوم، بلحاظ كمِّيَّة المصاديق التي يقبل الانطباق عليها، إلى قسمَين:

1. المفهوم الجزئيّ:

وهو المفهوم الذي لا يقبل الانطباق والصدق إلَّا على مصداق واحدٍ فقط، وبتعبير المناطقة: هو المفهوم الذي يمتنع صدقُه على أكثر من مصداقٍ واحد، نحو: زيدٌ المشار إليه، هذا القلم، هذا الكتاب، هذه الوردة.

 

والمقصود من عدم قابليَّة المفهوم الجزئيّ للانطباق على أكثر من مصداقٍ واحد، ليس أنَّ المفهوم الجزئيّ ليس له إلَّا مصداق واحد في الخارج فعلًا ولا ينطبق على غيره، بل المقصود هو أنَّ المفهوم الجزئيّ ليس له شأنيَّة الانطباق على أكثر من مصداق واحد.

 

ولذا، فالأدقّ تعريف الجزئيّ بأنَّه: المفهوم الذي يمتنع صدقه على كثيرين ولو بالفرض.

 


[1] اختصارًا، غُلِّبَت (ما) لغير العاقل على (مَنْ) التي هي للعاقل، فصار يُقال: (ما صدق)، ثمّ أُدخِلَت عليه الألف واللام للتعريف، فقيل: (الماصَدَق)، ثمَّ وبطريق النحت اللغويّ قيل: (المصداق)، أي ما يصدق عليه المفهوم، بمعنى ينطبق عليه بصدق.

 

 

141


110

الدرس الثاني عشر: تقسيمات المعنى: المفهوم وامصداق الجزئيّ والكلِّيّ، المتواطئ والمشكِّك

ويعني المناطقة بـ(الخارج): خارج الذهن، ويُعبِّرون عنه بالعالَم الخارجيّ.

 

وكلمة (مصداق) أُخِذَت بطريق النحت اللغويّ عن عبارة (ما صَدَقَ) و (مَنْ صَدَقَ).

 

ولإيضاح هذا نقول: معنى (حيوان ناطق) يصدق على (زيد) الموجود في الخارج، لأنَّه (إنسان)، فزَيدٌ -على هذا- يكون هو (مَنْ صَدَقَ) عليه المعنى، أي انطبق عليه بصدق[1].

 

ولأجل أن نستوضح معنى المفهوم والمصداق أكثر، نأخذ مثالًا: (الإنسان).

إنَّ أفراد الإنسان الموجودين في الخارج (مثل: محمَّد وعليّ وجعفر وعبَّاس وفاطمة وزينب)، كلّ واحد هو مصداق.

 

والمعنى الموجود في أذهاننا الذي نحمله للإنسان ونُعرِّفه به (وهو الحيوان الناطق) هو المفهوم.

 

وعليه، فالعلاقة بين المفهوم والمصداق هي علاقة انطباق المفهوم على مصداقه.

 

أقسام المفهوم باعتبار انطباقه على مصاديقه

قسَّم المناطقة المفهوم، بلحاظ كمِّيَّة المصاديق التي يقبل الانطباق عليها، إلى قسمَين:

1. المفهوم الجزئيّ:

وهو المفهوم الذي لا يقبل الانطباق والصدق إلَّا على مصداق واحدٍ فقط، وبتعبير المناطقة: هو المفهوم الذي يمتنع صدقُه على أكثر من مصداقٍ واحد، نحو: زيدٌ المشار إليه، هذا القلم، هذا الكتاب، هذه الوردة.

 

والمقصود من عدم قابليَّة المفهوم الجزئيّ للانطباق على أكثر من مصداقٍ واحد، ليس أنَّ المفهوم الجزئيّ ليس له إلَّا مصداق واحد في الخارج فعلًا ولا ينطبق على غيره، بل المقصود هو أنَّ المفهوم الجزئيّ ليس له شأنيَّة الانطباق على أكثر من مصداق واحد.

 

ولذا، فالأدقّ تعريف الجزئيّ بأنَّه: المفهوم الذي يمتنع صدقه على كثيرين ولو بالفرض.

 


[1] اختصارًا، غُلِّبَت (ما) لغير العاقل على (مَنْ) التي هي للعاقل، فصار يُقال: (ما صدق)، ثمّ أُدخِلَت عليه الألف واللام للتعريف، فقيل: (الماصَدَق)، ثمَّ وبطريق النحت اللغويّ قيل: (المصداق)، أي ما يصدق عليه المفهوم، بمعنى ينطبق عليه بصدق.

 

 

141


110

الدرس الثاني عشر: تقسيمات المعنى: المفهوم وامصداق الجزئيّ والكلِّيّ، المتواطئ والمشكِّك

2. المفهوم الكلّيّ:

وهو المفهوم الذي يقبل الصدق على أكثر من مصداق، وبتعبير المناطقة: هو المفهوم الذي لا يمتنع صدقه على كثيرين[1]، نحو: مفهوم إنسان، حيوان، معدن، نبات، تفّاحة، أبيض، حجر، عالِم، جاهل، جالس في الدار، معترف بذنبه.

 

والمقصود من قابليَّة الصدق على كثيرين وعدم امتناعه، هو أن يكون للمعنى المتصوَّر شأنيَّة الانطباق على كثيرين، وهذا لا يستلزم أن يكون للمعنى أفراد كثيرة فعلًا. وعليه، فالكلِّيّ:

- قد يكون له في الخارج أفراد كثيرة فعلًا ينطبق ويصدق عليها، نحو: مفهوم إنسان، حيوان، نبات، عالم، جاهل.

 

- وقد لا يكون له إلَّا فرد واحد في الخارج فعلًا، نحو: مفهوم (واجب الوجود) فإنَّه ليس له إلَّا فرد واحد في الخارج، لقيام البرهان على ذلك، ولكنَّ العقل لا يمنع من فرض أفراد لو وجدت لَصَدَقَ عليها هذا المفهوم، ولأجل ذلك نحتاج بعد إثبات واجب الوجود، إلى الاستدلال على وحدانيَّته.

 

- وقد لا يكون له أيّ فرد أصلًا، نحو: مفهوم (العنقاء) وهو مفهوم مخترَع مِن قِبَل الذهن، لطائرٍ لا وجود له في الخارج أصلًا. ومن ذلك أيضًا، المفاهيم العدميَّة أو التي يستحيل تحقُّق مصداقٍ لها في الخارج، مثل: مفهوم (اجتماع النقيضَين).

 

فهذه المفاهيم -سواء التي لها أفراد كثيرة في الخارج فعلًا، أم التي ليس ليس لها إلَّا فردٌ واحدٌ في الخارج فعلًا، أم التي ليس لها أفراد في الخارج أصلًا- جميعها مفاهيم كلِّيَّة، وذلك لأنَّ الضابط في كونه المفهوم كلِّيًّا هو قابليَّته للانطباق على مصاديق كثيرة، والقابليَّة لا تساوق التحقُّق والفعليَّة.

 

وعليه، فالأدقّ تعريف الكلِّيّ بأنَّه: "المفهوم الذي لا يمتنع صدقه على كثيرين ولو بالفرض".

 


[1] قسمة المفهوم إلى كلِّيّ وجزئيّ هي قسمة حاصرة تدور بين النفي والإثبات، إذ لا يوجد مفهوم لا هو كلِّيّ ولا هو جزئيّ، وإلَّا لزم ارتفاع النقيضَين، لأنَّ النسبة بين امتناع الصدق وعدم امتناع الصدق هي نسبة التناقض.

 

 

142


111

المقدّمة

الجزئيّ الإضافيّ

المفهوم الجزئيّ الذي تقدَّم تعريفه هو المصطلح عليه بـ"الجزئيّ الحقيقيّ"، ولكن ثمَّة اصطلاح آخر للجزئيّ، يُقال له: "الجزئيّ الإضافيّ"، وهو غير "الجزئيّ الحقيقيّ". فـ"الجزئيّ الإضافيّ" هو كلّ مفهوم أُضِيفَ إلى مفهومٍ آخر أوسع منه دائرة، ولذلك فإنَّ "الجزئيّ الإضافيّ":

1. قد يكون نفسُه "جزئيًّا حقيقيًّا"، نحو: مفهوم (زيد المشار إليه) فيما إذا أُضيفَ إلى مفهوم (الإنسان)، فإنَّ (زيدًا)نفسَه "جزئيٌّ حقيقيٌّ" باعتبار أنَّه مشير إلى شخصٍ بعينِه غير قابل للانطباق على غيره، وهو "جزئيّ إضافيّ" باعتبار كونه مضافًا إلى ما هو أوسع منه، وهو مفهوم (الإنسان).

 

2. وقد يكون نفسُه "كلِّيًّا"، نحو: مفهوم (الإنسان) فيما إذا أُضيفَ إلى مفهوم (الحيوان)، فإنَّ مفهوم (الإنسان) نفسه مفهوم "كلِّيٌّ" باعتبار صدقه على (محمَّد وعليّ وزيد وجعفر وخالد وفاطمة وزينب وغيرهم من أفراد الإنسان)، وهو -أي مفهوم (الإنسان)-"جزئيّ إضافيّ" أيضًا باعتبار كونه مضافًا إلى مفهوم هو أوسع منه دائرة، وهو مفهوم (الحيوان).

 

وكذلك مفهوم (الحيوان) فيما لو أُضيفَ إلى مفهوم (الجسم النامي)، فهو "كلِّي" في نفسه، و"جزئيّ إضافيّ" لإضافته إلى ما هو أوسع منه.

 

تنبيهان

التنبيه الأوَّل:

ينبغي الالتفات إلى لزوم عدم الخلط بين (الجزئيّ والكلِّيّ) من جهة و(الجزء والكلّ) من جهةٍ أخرى،

فـ"الكلّ" ما تركَّب من أقسامٍ وأجزاءٍ مختلفة، كالسيَّارة مثلًا، فهي "كلّ"، وأيّ قطعة من قطعها المتعدِّدة "جزء". فحينما نقول: (السيارة كلّ)، فنحن نشير بهذا إلى (المصداق الخارجيّ للسيارة). وعليه، فـ"الكلّ" وصفٌ يرتبط بالأمور الخارجيّة المركَّبة من أجزاء.

 

أمَّا "الكلّيّ"، فهو وصفٌ للمفاهيم والتصوُّرات، فحينما نقول: (الإنسان كلِّيّ)، فإنَّنا

 

143

 


112

الدرس الثاني عشر: تقسيمات المعنى: المفهوم وامصداق الجزئيّ والكلِّيّ، المتواطئ والمشكِّك

نقصد من ذلك (مفهوم الإنسان). و"الكلِّيّ" هو الذي يصدق على كثيرين، فعلاقته بأفراده علاقة الصدق والانطباق، لا علاقة التركُّب والتألُّف منها.

 

التنبيه الثاني:

إنَّ موضع اهتمام المنطقيّ هو "المفهوم الكلِّيّ" وليس "المفهوم الجزئيّ"، وإنَّ "المفهوم الكلّيّ" هو المقصود من وضع علم المنطق، وذلك لِمَا تَقدَّم من أنَّ الغرض من وضع علم المنطق هو معرفة كيفيَّة تحصيل العلم بالمجهولات التصوُّريَّة والتصديقيَّة عن طريق المعلومات التصوُّريَّة والتصديقيَّة، وذلك لأنَّ الجزئيَّات (كزيد، وعمرو، وهذا الكتاب، وهذا القلم) لا تسعى العلوم إلى تعريفها، ولا تعرِّف بها، وكذلك لا تُبرهن بها ولا عليها، فلا تقع محلًّا للبحث في العلوم، لا تصوُّرًا ولا تصديقًا. أمَّا الكلِّيَّات فبخلافها، إذ هي مادَّة التعاريف والأقيسة في العلوم، وإذا كان هدف المنطقيّ هو تصحيح عمليَّات التفكير -بنوعَيها: التعريف والاستدلال- فإنَّ ذلك لا يتحقَّق إلَّا بمعرفة "الكلِّيّ" وضبط أقسامه.

 

أقسام الكلِّيّ باعتبار كيفيَّة انطباقه على مصاديقه

تقدَّم أنَّ المفهوم الكلّيّ هو الذي لا يمتنع صدقه على كثيرين، ولو بالفرض. والسؤال هنا: هل المفاهيم الكلِّيَّة جميعها تنطبق على مصاديقها بنحوٍ واحد، أم إنَّ بعض المفاهيم تنطبق على مصاديقها بنحوٍ يختلف عن نحوِ انطباق المفاهيم الأخرى على مصاديقها؟

لاحَظَ المناطقة أنَّ المفاهيم الكلِّيَّة، بهذا الاعتبار، هي على قسمَين:

1. متواطئة:

وهي المفاهيم التي تنطبق على مصاديقها جميعًا بالدرجة نفسها، دون أيّ تفاوت (من حيث الشدَّة والضعف، أو الزيادة والنقصان، أو الكثرة والقلَّة، أو الأولويَّة وعدمها، أو التقدُّم والتأخُّر، أو العلِّيَّة وعدمها)، وذلك نحو: مفهوم (الحياة)، فإنَّ(زيدًا) يصدق عليه أنَّه (حيّ) بمعنى أنَّه (نامٍ وحسّاس متحرِّك بالإرادة) بالدرجة نفسها التي يصدق بها على (محمَّد وجعفر وعلي وفاطمة وزينب وأفراد الإنسان جميعًا) بأنَّهم (أحياء)، فليست

 

 

144

 


113

الدرس الثاني عشر: تقسيمات المعنى: المفهوم وامصداق الجزئيّ والكلِّيّ، المتواطئ والمشكِّك

نقصد من ذلك (مفهوم الإنسان). و"الكلِّيّ" هو الذي يصدق على كثيرين، فعلاقته بأفراده علاقة الصدق والانطباق، لا علاقة التركُّب والتألُّف منها.

 

التنبيه الثاني:

إنَّ موضع اهتمام المنطقيّ هو "المفهوم الكلِّيّ" وليس "المفهوم الجزئيّ"، وإنَّ "المفهوم الكلّيّ" هو المقصود من وضع علم المنطق، وذلك لِمَا تَقدَّم من أنَّ الغرض من وضع علم المنطق هو معرفة كيفيَّة تحصيل العلم بالمجهولات التصوُّريَّة والتصديقيَّة عن طريق المعلومات التصوُّريَّة والتصديقيَّة، وذلك لأنَّ الجزئيَّات (كزيد، وعمرو، وهذا الكتاب، وهذا القلم) لا تسعى العلوم إلى تعريفها، ولا تعرِّف بها، وكذلك لا تُبرهن بها ولا عليها، فلا تقع محلًّا للبحث في العلوم، لا تصوُّرًا ولا تصديقًا. أمَّا الكلِّيَّات فبخلافها، إذ هي مادَّة التعاريف والأقيسة في العلوم، وإذا كان هدف المنطقيّ هو تصحيح عمليَّات التفكير -بنوعَيها: التعريف والاستدلال- فإنَّ ذلك لا يتحقَّق إلَّا بمعرفة "الكلِّيّ" وضبط أقسامه.

 

أقسام الكلِّيّ باعتبار كيفيَّة انطباقه على مصاديقه

تقدَّم أنَّ المفهوم الكلّيّ هو الذي لا يمتنع صدقه على كثيرين، ولو بالفرض. والسؤال هنا: هل المفاهيم الكلِّيَّة جميعها تنطبق على مصاديقها بنحوٍ واحد، أم إنَّ بعض المفاهيم تنطبق على مصاديقها بنحوٍ يختلف عن نحوِ انطباق المفاهيم الأخرى على مصاديقها؟

لاحَظَ المناطقة أنَّ المفاهيم الكلِّيَّة، بهذا الاعتبار، هي على قسمَين:

1. متواطئة:

وهي المفاهيم التي تنطبق على مصاديقها جميعًا بالدرجة نفسها، دون أيّ تفاوت (من حيث الشدَّة والضعف، أو الزيادة والنقصان، أو الكثرة والقلَّة، أو الأولويَّة وعدمها، أو التقدُّم والتأخُّر، أو العلِّيَّة وعدمها)، وذلك نحو: مفهوم (الحياة)، فإنَّ(زيدًا) يصدق عليه أنَّه (حيّ) بمعنى أنَّه (نامٍ وحسّاس متحرِّك بالإرادة) بالدرجة نفسها التي يصدق بها على (محمَّد وجعفر وعلي وفاطمة وزينب وأفراد الإنسان جميعًا) بأنَّهم (أحياء)، فليست

 

 

145

 


114

الدرس الثاني عشر: تقسيمات المعنى: المفهوم وامصداق الجزئيّ والكلِّيّ، المتواطئ والمشكِّك

المفاهيم الرئيسة

- ينقسم المعنى، باعتبار وجوده، إلى قسمَين:

•         المفهوم: وهو المعنى الموجود في الذهن، نحو: مفهوم الإنسان.

•         المصداق: وهو المعنى الموجود في الخارج، نحو: زيد الموجود في الخارج.

 

- العلاقة بين المفهوم والمصداق هي علاقة انطباق المفهوم على مصاديقه.

 

- ينقسم المفهوم، باعتبار كمِّيَّة المصاديق التي ينطبق عليها، إلى:

•         جزئيّ: وهو المفهوم الذي يمتنع انطباقه على أكثر من مصداقٍ واحدٍ ولو بالفرض، نحو: زيد المشار إليه، هذا القلم.

 

•         كلِّيّ: وهو المفهوم الذي لا يمتنع انطباقه على أكثر من مصداق واحد ولو بالفرض، نحو: مفهوم (الإنسان)، ومفهوم (الحيوان).

 

- المفهوم الكلِّيّ هو موضع اهتمام المنطقيّ، إذ هو مادَّة التعريف والاستدلال، بخلاف المفهوم الجزئيّ، فلا حاجة للمنطقيّ به.

 

- ينقسم المفهوم الكلِّيّ، باعتبار كيفيَّة انطباقه على مصاديقه، إلى:

•         متواطئ: وهو المفهوم الكلّيّ الذي ينطبق على مصاديقه بدرجة واحدة دون تفاوت، نحو: مفهوم (الإنسان)، ومفهوم (الحياة).

 

•         مشكِّك: وهو المفهوم الكلِّيّ الذي ينطبق على مصاديقه بتفاوت، نحو: مفهوم (البياض)، ومفهوم (النور).

 

 

146

 


115

الدرس الثاني عشر: تقسيمات المعنى: المفهوم وامصداق الجزئيّ والكلِّيّ، المتواطئ والمشكِّك

تمارين

1. أجب بصحّ (√)أو خطأ (x)، معلِّلًا الإجابة:

أ. إذا قُلتَ لصديقك "أعطني الكتاب"، وكان في يده كتاب، يستطيع إعطاءك أيَّ كتاب، لأنّ مفهوم الكتاب كلّيّ□         

ب. إذا قُلتَ لصاحب الدار "أعطني قاموسًا"، يستطيع إعطاءَك أيَّ قاموس بأيِّ لغة كان.   □

 

ج. إذا قال البائع: "بعتُك صندوقًا من التفاح"، فالمبيع هنا جزئيّ.       □

 

د. مفهوم اسم الجلالة "الله" كلّيّ، لأنّه ينطبق على أكثر من مصداق ولو بالفرض. □

 

2. عيّن الجزئيّ من الكلّيّ في الأمثلة الآتية:

لبنان، العالم العربيّ، الكرة الأرضيَّة، الكتاب، شاعر، علماء لبنان، سيِّد الشهداء، المسجد الكبير، العنقاء، جبل النور، غار حراء، الفرزدق، أشعار الفرزدق، الشيطان، إبليس، الشمس، الإمام عليّ c، بيروت، رجل، حجر، كتاب المنطق، هاتف، هذا الشارع.

 

147


116

الدرس الثاني عشر: تقسيمات المعنى: المفهوم وامصداق الجزئيّ والكلِّيّ، المتواطئ والمشكِّك

أسئلة حول الدرس

1. ما الفرق بين المفهوم والمصداق؟ أوضح ذلك من خلال مثالٍ تختاره.

2. ما الفرق بين الكلّيّ والجزئيّ؟ أعطِ ثلاثة أمثلة لم تَرِدْ في الدرس والتمارين لكلّ قِسم.

3. كيف يكون مفهوم (الغول) كلِّيًّا مع أنّه شيءٌ متخيَّل لا حقيقة له؟

4. هل يمكن أن لا يكون للكلِّيّ أفراد في الخارج أو أن يكون له فردٌ واحدٌ فقط؟ وضِّح ذلك.

 

للتوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان، انظر:

1. بخيت، معلم المنطق المفاهيم والمصطلحات، ط1، قسم التصوُّرات، مصدر سابق، ج1، ص154-157.

2. خير الدين، علم المنطق، مصدر سابق، ص30-31، 37-38.

3. خير الدين، القواعد المنطقيَّة دروس بيانيَّة في شرح المنطق وتطبيقاته، مصدر سابق، ص115-128.

4. الفضليّ، مذكّرة المنطق، مصدر سابق، ص54-58.

5. المطهَّري، المنطق، مصدر سابق، ص33-34.

6. المظفَّر، المنطق، مصدر سابق، ص59-64.

7. اليزديّ، حاشية على التهذيب، مصدر سابق، ص48-49، 51-53.

 

149


117

الدرس الثالث عشر: النسب الأربع

الدرس الثالث عشر

النسب الأربع

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرَّف على النسب بين المفاهيم الكلِّيَّة من حيث المصاديق.

2. يدرك الفرق بين نسبة التباين في مبحث قسمة الألفاظ ومبحث النسب الأربع.

3. يتبيَّن الفائدة من مبحث النسب الأربع.

 

151

 


118

الدرس الثاني عشر: تقسيمات المعنى: المفهوم وامصداق الجزئيّ والكلِّيّ، المتواطئ والمشكِّك

تمهيد

بعد أن عرفنا المراد من المفهوم، وأنَّه ينقسم إلى جزئيّ وكلِّيّ، وأنَّ الكلِّيّ منه هو ما لا يمتنع صدقه على كثيرين ولو بالفرض، صار بالإمكان الكلام عن النسبة بين المفاهيم الكلِّيَّة من حيث اجتماعها في المصاديق أو عدم اجتماعها، فإنَّا إذا أخذنا مفهومَين من المفاهيم، ودرسناهما من حيث المصاديق التي يصدق عليها كلُّ مفهوم، وقارنّا بين مصاديق المفهوم الأوَّل ومصاديق المفهوم الثاني، فإنَّ الأمر لا يخلو عن أربع حالات.

 

النسب الأربع بين المفاهيم الكلِّيَّة

1. التساوي:

إمَّا أن يجتمعا في جميع المصاديق، فيصدق كلٌّ منهما على جميع ما يصدق عليه الآخر، وبعبارة ثانية: يتساويان في المصاديق، وتُسمَّى النسبة المنطقيَّة بين هذَين المفهومين بـ"نسبة التساوي".

 

نحو: مفهوم (الإنسان) ومفهوم (الناطق)، فكلّ ما يصدق عليه أنَّه إنسان يصدق عليه أيضًا أنَّه ناطق، وكلّ ما يصدق عليه أنَّه ناطق يصدق عليه أيضًا أنَّه إنسان. وبعبارة مختصرة: كلّ إنسانٍ ناطق، وكلّ ناطقٍ إنسان.

 

ويمكن تقريب المفهومَين المتساويَين إلى الفهم، بتشبيههما بالخطَّين المتساويَين اللذَين ينطبق أحدُهما على الآخر تمام الانطباق. ويمكن وضع نسبة التساوي على هذه الصورة: ب = ح.

 

152

 


119

الدرس الثالث عشر: النسب الأربع

2. وإمَّا أن يجتمعا في بعض المصاديق، وهذا له صورتان:

أ. العموم والخصوص المطلق:

أن يجتمعا في بعض المصاديق وتبقى لأحد المفهومَين مصاديق زائدة على مصاديق المفهوم الآخر، وبعبارة ثانية: يعمّ أحدُ المفهومَين جميعَ مصاديق المفهوم الآخر ومصاديق أخرى أيضًا. وتُسمَّى النسبة المنطقيَّة بينهما بـ"نسبة العموم والخصوص المطلق"، ويُسمَّى المفهوم الذي يعمّ مصاديق المفهوم الآخر ومصاديق أخرى بـ"الأعمّ مطلقًا"، ويُسمَّى المفهوم الآخر بـ"الأخصّ مطلقًا".

 

نحو: مفهوم (الحيوان) ومفهوم (الطير)، فإنَّ مفهوم الحيوان ينطبق على جميع مصاديق الطير (الدجاجة، والحمامة، والبلبل، والكنار، والهدهد، و...) وينطبق على مصاديق أخرى أيضًا (كالإنسان، والفرس، والبقر، والسمك). وبعبارة ثانية: كلّ طيرٍ حيوان، ولكن ليس كلُّ حيوانٍ طيرٌ، بل بعضُ الحيوانِ طيرٌ، وبعضُ الحيوانِ ليس بطيرٍ.

 

ونُقرّبهما إلى الفهم بتشبيههما بالخطَّين غير المتساويَين اللذَين ينطبق الأكبرُ منهما على تمام الأصغر ويزيد عليه. ويُستَخدَم رمز الأكبر والأصغر في الرياضيَّات للتعبير عن هذه النسبة، نحو: (الحيوان > الإنسان)، أيْ الحيوان أعمّ مطلقًا من الإنسان، أو (الإنسان < الحيوان)، أي الإنسان أخصّ مطلقًا من الحيوان. ويمكن وضع هذه النسبة على الصورة الآتية: (ب > ح) أو (ح < ب).

 

ب. العموم والخصوص من وجه:

أن يجتمعا في بعض المصاديق، ولكن تبقى لكلٍّ من المفهومَين مصاديق خاصَّة تخصّه. وتُسمَّى النسبة المنطقيَّة بينهما بـ"العموم والخصوص من وجه".

 

نحو: مفهوم (الطير) ومفهوم (الأسود)، فإنَّهما يجتمعان ويلتقيان في الغراب، فهو طيرٌ وأسود، في حين يفترق الطير عن الأسود بما هو طير وليس بأسود، كالحمامة البيضاء

 

153


120

الدرس الثالث عشر: النسب الأربع

مثلًا، ويفترق الأسود عن الطير بما هو أسود وليس بطير، كالقميص الأسود مثلًا. وبعبارة منطقيَّة: بعضُ الطير أسود، وبعضُ الأسود طير، وبعضُ الطير ليس بأسود، وبعضُ الأسود ليس بطير.

 

ونُقرّبهما إلى الفهم بتشبيههما بالخطَّين المتقاطَعين، هكذا "×"، واللذَين يلتقيان في نقطة مشتركة، ويفترق كلٌّ منهما عن الآخر في نقاط تخصّه. ويمكن وضع هذه النسبة على الصورة الآتية: (ب × ح).

 

3. التبايُن:

وإمَّا أن لا يجتمعا في أيِّ مصداقٍ من المصاديق أبدًا، بل تكون مصاديق كلٍّ منهما مغايرة تمامًا لمصاديق الآخر. وتُسمَّى النسبة المنطقيَّة بينهما بـ"التبايُن"نحو: مفهوم (الإنسان) ومفهوم (الحجر)، فإنَّ مصاديق مفهوم الإنسان مغايرة تمامًا ومباينة لمصاديق مفهوم الحجر، والعكس صحيح. وبعبارة منطقيَّة: لا شيء من الإنسان بحجر، ولا شيء من الحجر بإنسان.

 

ونشبّههما بالخطَّين المتوازيَين اللذَين لا يلتقيان أبدًا مهما امتدّا. ويمكن وضع التبايُن على الصورة الآتية:(ب // ح)، فنقول: (الإنسان // الحجر).

 

 

154

 


121

الدرس الثالث عشر: النسب الأربع

تنبيهات

التنبيه الأوَّل:

تجدر الإشارة إلى ضرورة عدم الخلط بين المراد من نسبة (التبايُن) هنا في النسب الأربع، والمراد من نسبة (التبايُن) المتقدِّمة في النسبة بين الألفاظ المتعدِّدة.

 

فهناك في مبحث الألفاظ المتعدِّدة، كان "التبايُن" وصفًا للألفاظ باعتبار اختلاف معانيها، وإن كانت المفاهيم الذهنيّة لهذه المعاني تجتمع في المصاديق، كلًّا أو بعضًا، كالتباين بين الإنسان والناطق، فمعنى الإنسان غير معنى الناطق، ولكن من حيث اجتماعهما في المصاديق فهما متساويان، إذ كلّ إنسان ناطق، وكلّ ناطق إنسان. وعليه، فهما متساويان بحسب الاجتماع في المصاديق، ومتباينان بحسب المعنى المفهوم من كلٍّ منهما.

 

أمَّا هنا في مبحث النسب الأربع، فنبحث عن العلاقة بين الألفاظ المتباينة من حيث الاجتماع في المصاديق وعدمه، فتكون عندنا أربعُ نسب، إحداها "التبايُن".

 

التنبيه الثاني:

إنَّ النسب الأربع المتقدِّمة لا يمكن الحديث عنها بين المفاهيم الجزئيَّة، بل هي نسبٌ بين المفاهيم الكلِّيَّة فقط، وذلك لأنَّ الجزئيَّة ليس لها إلَّا مصداق واحد لا تنطبق على غيره، فلا مجال فيها للحديث عن اجتماع مفهومَين جزئيَّين في المصاديق، كلًّا أو بعضًا، أو عدم اجتماعهما.

 

التنبيه الثالث:

إنّ حصر النسب بين المفاهيم الكلِّيَّة بأربعٍ هو حصرٌ عقليّ وليس استقرائيًّا، بمعنى أنَّه يمتنع عقلًا وجود نسبة خامسة.

 

فائدة بحث النسب

سيتّضح فيما يأتي معنا من أبحاث، الفائدة من بحث النسب، ولا سيّما في باب التعريفات.

 

 

155

 


122

الدرس الثالث عشر: النسب الأربع

المفاهيم الرئيسة

- النسب بين المفاهيم الكلِّيَّة، من حيث اجتماعها في المصاديق وعدمه، أربع:

•         نسبة "التساوي": وتكون بين المفهومَين اللذَين يشتركان في تمام أفرادهما، نحو: الإنسان والناطق.

 

•         نسبة "العموم والخصوص المطلق": وتكون بين المفهومَين اللذَين يصدق أحدهما على جميع ما يصدق عليه الآخر وعلى غيره، نحو: الحيوان والإنسان.

 

•         نسبة "العموم والخصوص من وجه": وتكون بين المفهومَين اللذَين يجتمعان في بعض مصاديقهما، ويفترق كلٌّ منهما عن الآخر في مصاديق تخصُّه، نحو الطير والأسود.

 

•         نسبة "التبايُن": وتكون بين المفهومَين اللذَين لا يجتمع أحدهما مع الآخر في فردٍ من الأفراد أبدًا، نحو: الإنسان والحجر.

 

- نسبة التباين في مبحث الألفاظ المتعدِّدة تختلف عن نسبة التباين في مبحث النسب الأربع، ففي المبحث الأوَّل، الملحوظ هو الاختلاف والتغايُر بين معاني الألفاظ وإن اجتمعت في المصاديق، وفي المبحث الثاني، الملحوظ هو عدم الاجتماع في المصاديق.

 

- حصر النسب بالأربع عقليٌّ وليس استقرائيًّا.

 

156

 


123

الدرس الثالث عشر: النسب الأربع

أسئلة حول الدرس

1. اشرح كلًّا من النسب الأربع، وأعطِ مثالًا لم يرد في الدرس والتمارين لكلّ نسبة.

2. برأيك، لِـمَ كانت النسب بين الكلّيَّين أربعًا، لا خمسًا أو ستًّا مثلًا؟

3. هل يمكن تصوُّر النسب الأربع بين جزئيَّين؟ لماذا؟

4. اذكر الفرق بين التبايُن في مبحث الألفاظ والتباين في مبحث الكلّيّ.

 

للتوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان، انظر:

1. بخيت، علم المنطق المفاهيم والمصطلحات، قسم التصوُّرات، مصدر سابق، ج1، ص170-172.

2. خَنْدان، المنطق التطبيقيّ منهج جديد في توظيف أصول علم المنطق، مصدر سابق، ص52-56.

3. خير الدين، علم المنطق، مصدر سابق، ص46-48.

4. الفضليّ، مذكّرة المنطق، مصدر سابق، ص62-64.

5. المطهَّري، المنطق، مصدر سابق، ص34-36.

6. المظفَّر، المنطق، مصدر سابق، ص66-71.

7. اليزديّ، حاشية على التهذيب، مصدر سابق، ص55-61.

 

158

 


124

الدرس الرابع عشر: الكلّيّات الخمسة (1)

الدرس الرابع عشر

الكلّيّات الخمسة (1):

(الكلِّيَّات الذاتيَّة: النوع، الجنس، والفصل)

 

1. يفهم الوجه في مقدِّميَّة مبحث الكلِّيَّات الخمسة لمبحث التعريف.

2. يستدلّ على وجه انحصار الكلِّيَّات بالخمسة.

3. يتعرَّف المراد من الذاتيّ والعرضيّ.

4. يميِّز أيًّا من الكليَّات الخمسة هي كلِّيَّات ذاتيَّة وأيّها عرضيَّة.

 

 

159


125

الدرس الرابع عشر: الكلّيّات الخمسة (1)

تمهيد

تقدَّم أنَّ علم المنطق إنَّما يبحث عن كيفيَّة الوصول إلى المجهول التصوُّريّ والمجهول التصديقيّ بواسطة المعلوم التصوُّريّ والمعلوم التصديقيّ.

 

وعلى هذا الأساس، كان لِعِلمِ المنطق موضوعان، وقُسِّمَت مباحثُه إلى قسمَين رئيسَين: قسم التصوُّرات وقسم التصديقات.

 

ولكلٍّ من هذَين القسمَين مقدِّمات ومقصد، فمقصد مبحث التصوُّرات هو التعريف، ومقصد مبحث التصديقات هو الحجَّة.

 

ولكن ما هي مقدِّمات مبحث التصوُّرات؟

إنَّ كلّ ما تقدَّم إلى الآن، يُعَدّ من مقدِّمات مبحث التعريف، وليست من صميم مباحث التعريف أبدًا، وإنَّما وجد المنطقيّ نفسه مضطرًّا لبحثها والخوض فيها باعتبار أنَّها مقدِّمات ووسيلة موصِلة إلى مقصده من مبحث التصوُّرات، ألا وهو التعريف.

 

ومن مقدِّمات مبحث التصوُّرات أيضًا، ما يبحثه المناطقة بعنوان "الكلِّيَّات الخمسة".

 

ووجه كون بحث "الكلِّيَّات الخمسة" مقدِّمة للتعريف هو أنَّ التعريف عبارة عمَّا يقع جوابًا عن سؤال ما هو؟ أو أيّ شيءٍ هو؟ فتقول - مثلًا - للوقوف على تعريف الإنسان: ما هو الإنسان؟ حيوان ناطق.

 

وكِلا هذَين المفهومَين الكلّيَّين (حيوان وناطق) هما من المفاهيم الكلّيّة المنضوية تحت

 

161

 


126

الدرس الرابع عشر: الكلّيّات الخمسة (1)

عنوان:[1] "الكلّيّات الخمسة"، والتي لها دورٌ في تعريف الأشياء.

 

ومن هنا، وجد المنطقيّ نفسه مضطرًّا لمعرفة هذه الأقسام الخمسة للمفهوم الكلّيّ، ليعرف الدور الذي تؤدّيه في معرفة ماهيّات الأشياء.

 

وجه انحصار الكلِّيَّات بالخمسة

إنَّ حصر الكلِّيَّات في المقام بالخمسة حصرٌ عقليٌّ، وذلك لأنَّ الكلِّيّ المحمول إذا نُسِب إلى أفراده:

1. فإمَّا أن يكون عين حقيقة تلك الأفراد، وهو "النوع".

 

2. وإمَّا أن يكون جزءَ حقيقتها، وما كان جزء الحقيقة:

أ. إمَّا أن يكون أعَمّ منها بحيث يكون مشتركًا بينها وبين غيرها من الحقائق، وهو "الجنس".

ب. وإمَّا أن يكون مساويًا لها مختصًّا بها، وهو "الفصل".

 

3. وإمَّا أن يكون خارجًا عنها، وما كان خارجًا عنها:

أ. إمَّا أن يكون خاصًّا بها، وهو "الخاصَّة".


 


[1] المشهور والمعروف أنَّ "فُرفوريوس الصوريّ" هو أوَّل مَن كتب في "الكلِّيَّات الخمسة" وألَّف فيها، إذ وجد أنّ هذه الكلِّيَّات قد دخلت في ما كتبه "أرسطو" في بحث التعريف، وأنَّها ركنٌ أساس في فهمه. فكتب عندها مدخلًا إلى مقولات أرسطو، أوضح فيه هذه الكلّيّات وأقسامها والتمييز بينها، حتّى يدخل الطالب في بحث التعريف على بيّنةٍ ووضوح، وسمَّى مدخله هذا باسم "إيساغوجي"، الذي ترجمه العرب إلى "الكلِّيَّات الخمسة"، وصار هذا المبحث يُعرَف بمبحث "الكلِّيَّات الخمسة".

أمَّا حياة فُرفوريوس وسيرته فيكتنفها كثيرٌ من الغموض، بحيث يصبح من العسير، باسم البحث العلميّ، الجزم بوقائع شتَّى من سيرته، وترجع العلَّة في ذلك إلى أنَّ أحدًا من تلاميذه أو أصدقائه أو معاصريه لم يكتب عنه، على الرغم من أنَّه كان صاحب الفضل في تدوين سيرة أستاذه "أفلوطين"، التي لولاه لظلَّت معرفتنا بـ"أفلوطين" يسيرة غامضة. وتُعَدُّ سيرة "أفلوطين" التي دوَّنها "فُرفوريوس" مرجعًا كذلك لحياة "فُرفوريوس"، يمكن استخلاص بعض الأمور منها ممَّا يتعلَّق بحياة "فرفريوس" نفسه، ومن ذلك أنَّه وُلِد عام 232 أو 233 بعد الميلاد في "البَثَنِيَّة"، وهي قرية بالقرب من دمشق يُقال بأنَّ عامَّة حكماء اليونانيَّة كانوا منها، ومنها ذهب إلى صُور، فأصبح يُنسَب إليها، وبعدها انتقل إلى أثينا، وفيها درس عند "أفلوطين"، وصار من خاصَّة تلامذة "أفلوطين"، وخاصَّة أصدقائه، فعهد إليه تصحيح كتاباته. وقد عرَّف العرب "فُرفوريوس" وترجموا كتاباته. أمَّا تاريخ وفاته فيذهب بعض المؤرِّخين إلى أنَّه توفّي بعد عام 298، من دون تحديد سنة الوفاة بالدقَّة، في حين حدَّدها "بِرييه" في كتابه "تاريخ الفلسفة" بعام 305، وتابعه في ذلك يوسف كرم في "تاريخ الفلسفة اليونانيَّة". (انظر: الأهواني، أحمد فؤاد: إيساغوجي لفرفريوس الصوريّ نقل أبي عثمان الدمشقيّ، لا.ط، القاهرة، دار إحياء الكتب العربيَّة عيسى البابيّ الحلبيّ وشركاه، 1371هـ.ق/1952م، ص7-24).

 

 

162


127

الدرس الرابع عشر: الكلّيّات الخمسة (1)

ب. وإمَّا أن يكون عامًّا يشملها ويشمل غيرها من الحقائق، وهو "العَرَض العامّ".

 

وعليه، فإنَّ الكلِّيّ المحمول على الماهيَّات لا يخرج عن أحد هذه الأقسام الخمسة: النوع، والجنس، والفصل، والخاصَّة، والعرض العامّ.

 

الذاتيّ والعرضيّ

يُلاحَظ أنَّ الكلِّيَّات الثلاثة الأولى، بحسب التقسيم المتقدِّم (النوع، والجنس، والفصل)، يجمعها أنَّها داخلة في الماهيَّة، ومقوِّمة لها بحيث إذا انتفت هذه الكلِّيَّات انتفت الماهيَّة، وذلك لأنَّها إمَّا عين الحقيقة، أو جزؤها، وعين الحقيقة هي الحقيقة لا غير، وجزؤها الداخل فيها مقوِّمٌ لها بحيث إذا انتفى انتفت الذات. وتُسمَّى هذه الكلِّيَّات بـ"الذاتيَّة".

 

وعليه، فـ"الكلِّيّ الذاتيّ" هو: الكلِّيّ المحمول الذي تتقوَّم ذاتُ الموضوع به، غير خارج عنها، وهو على ثلاثة أقسام: نوع، وجنس، وفصل.

 

وأمَّا الكلّيَّان الأخيران (الخاصَّة، والعرض العامّ) فيجمعهما أنَّهما خارجان عن الذات، يعرضان عليها بعد تقوُّمها بجميع ذاتيَّاتها. وتُسمَّى هذه الكلّيَّات بـ"العرضيَّة".

 

وعليه، فـ"الكلِّيّ العرضيّ" هو: الكلِّيّ المحمول الخارج عن ذات الموضوع، اللاحق له بعد تقوُّمه بجميع ذاتيَّاته، وهو على قسمَين: خاصَّة، وعَرَض عامّ.

 

تفصيل الكلام في أقسام الذاتيّ

بعد أن عرفنا المراد من الذاتيّ وأنَّه على أقسام ثلاثة (النوع والجنس والفصل)، والمراد من العرضيّ وأنَّه على قسمَين (الخاصَّة والعَرَض العامّ)، نُفصِّل الكلام في كلِّ واحدٍ من الذاتيَّات الثلاثة، ونترك التفصيل في العَرَضيَّين إلى الدرس اللاحق، إن شاء الله تعالى.

 

النوع

لو سألنا عن:

- جزئيَّات كثيرة ولكن متّفقة في الحقيقة، كأنْ سألنا عن (زيد وعمرو وخالد) بـ(ما هي؟) بهدف معرفة حقيقتها، فإنَّ الجواب إنَّما يكون ببيان تمام الحقيقة المشتركة بينها،

 

 

163

 


128

الدرس الرابع عشر: الكلّيّات الخمسة (1)

فتقول في الجواب: (إنسان).

 

هذا الكلِّيّ الذي يُقال في الجواب عن سؤال (ما هو؟ أو ما هي؟) لجزئيَّات متعدِّدة متَّفقة في الحقيقة، يُقال له: "النوع".

 

وعلى هذا، فالنوع هو: "تمام الحقيقة المشتركة بين الجزئيَّات المتكثِّرة بالعدد فقط، المقولة في جواب (ما هو؟)".

 

الجنس

أمَّا لو سألنا عن:

- جزئيَّات كثيرة، ولكن مختلفة في الحقيقة، كأنْ سألنا عن (زيد، وعمرو، وخالد، وهذا الفرس، وهذا الأسد) بـ(ماهي؟) بهدف معرفة حقيقتها.

 

- أو سألنا عن كلِّيَّات كثيرة (أنواع) مختلفة في الحقيقة، كأنْ سألنا عن (الإنسان، والفرس، والقرد، والأسد) بـ(ما هي؟) بهدف معرفة حقيقتها، فإنَّ الجواب عن السؤالَين إنَّما يكون ببيان تمام الحقيقة المشتركة بينها، فتقول في الجواب: (حيوان).

 

هذا الكلِّيّ الذي يُقال في الجواب عن سؤال (ما هو؟ أو ما هي؟) لجزئيَّات مختلفة في الحقيقة أو كلِّيَّات مختلفة في الحقيقة هي أنواع له، يُقال له: "الجنس".

 

وعلى هذا، فالجنس هو: "تمام الحقيقة المشتركة بين الجزئيَّات أو الكلِّيَّات المتكثِّرة بالحقيقة[1]، المقولة في جواب (ما هو؟)".

 

وينقسم الجنس إلى:

- "جنسٍ قريبٍ"، وهو: أقرب جنس إلى نوعه، مثل: (الحيوان) بالنسبة إلى (الإنسان).

- و"جنسٍ بعيدٍ"، وهو: ما يقع بعد الجنس القريب، مثل: (الجسم الحيّ) بالنسبة إلى (الإنسان)، فإنّه يقع بعد (الحيوان)،فإنّه جنسٌ له حيث نقول: (الحيوان: جسم حيّ...).


 


[1] إذا كانت الجزئيَّات أو الكلّيَّات متكثِّرة بالحقيقة، فهي متكثِّرة بالعدد قطعًا.

 

164


129

الدرس الرابع عشر: الكلّيّات الخمسة (1)

الفصل

بعد أن عرفنا الحقيقة المشتركة بين الكلِّيات المتكثِّرة بالحقيقة، وأردنا أن نُميِّز كلِّيًّا واحدًا بينها تمييزًا ذاتيًّا من سائر الكلِّيَّات الأخرى المشاركة له في هذه الحقيقة، فعلينا أن نسأل بـ(أيّ)، فنقول في السؤال: (أيّ شيءٍ هو في ذاته؟)، ويكون المقصود بـ(شيء) في هذا السؤال هو "الجنس"، لأنَّ "الجنس" في المقام هو الذي يُمثِّل الحقيقة المشتركة بين هذه الكلِّيَّات. فلو أردنا -مثلًا- أن نُميِّز (الإنسان) تمييزًا ذاتيًّا من سائر الحقائق (الأنواع) المشتركة معه في الجنس نفسه (الحيوان)، فإنَّنا نقول في السؤال: (أيُّ حيوانٍ هو في ذاته؟)، وحقّ الجواب يكون ببيان الخصوصيَّة المميِّزة له من مشارِكاته في الحقيقة (أيْ في الحيوانيَّة)، فيُقال في الجواب: (ناطق).

 

هذا الكلِّيّ الذي يُمثِّل الخصوصيَّة المميِّزة للنوع من الأنواع الأخرى المشارِكة له في الحقيقة (الجنس)، يُقال له: "الفصل".

ومن هذا، يُعلَم أنَّ كُلًّا من "الجنس" و"الفصل" هو جزء الماهيَّة، ولكنَّ "الجنس" جزؤها المشترك الذي يكون أيضًا جزءًا للماهيَّات الأخرى، و"الفصل" جزؤها المختصّ بها الذي يُميِّزها من جميع ما عداها.

 

وعليه، يمكن تعريف الفصل بأنَّه: "جزء الماهيَّة المختصّ بها، المقول في جواب (أيُّ شيءٍ هو في ذاته؟)".

 

وينقسم الفصل أيضًا إلى:

- "فصلٍ قريبٍ"، وهو: أقرب فصل إلى نوعه، مثل: (الناطق) بالنسبة إلى (الإنسان).

 

- و"فصلٍ بعيدٍ"، وهو: ما يقع بعد الفصل القريب، مثل: (الحسَّاس المتحرِّك بالإرادة)، الذي هو فصلٌ (للحيوان) الذي هو جنسٌ (للإنسان).

 

 

165

 


130

الدرس الرابع عشر: الكلّيّات الخمسة (1)

المفاهيم الرئيسة

- تعريف الأشياء إنَّما يكون بمفاهيم كلِّيَّة تُحمَل عليها، وهذه المفاهيم الكلِّيَّة المحمولة على ماهيَّاتها هي على أقسام خمسة، باتت تُعرَف بــ"الكلّيَّات الخمسة".

 

- باعتبار أنَّ القسم الأوَّل من علم المنطق يهتمّ بالتعريف، اضطرّ المنطقيّ إلى بحث الكلِّيَّات الخمسة باعتبارها كلِّيَّات محمولة على موضوعاتها في مقام تعريفها. وعليه، بحثُ المنطقيِّ الكلِّيَّاتِ الخمسةَ مقدِّمةٌ للتعريف.

 

- حصر الكلِّيَّات بالخمسة هو حصرٌ عقليّ.

 

- الكلِّيّ الذاتيّ هو الكلِّي المحمول الذي تتقوَّم به ذات الموضوع، غير خارجٍ عنها، وهو يشمل الكلِّيَّات الثلاثة (الجنس، والنوع، والفصل).

 

- الكلِّيّ العَرَضيّ هو الكلِّيّ المحمول الخارج عن ذات الموضوع، اللاحق له بعد تقوُّمه بجميع ذاتيَّاته، ويشمل (الخاصَّة، والعَرَض العامّ).

 

- النوع هو: تمام الحقيقة المشتركة بين جزئيَّات متكثّرة بالعدد فقط، المقولة في جواب (ما هو؟).

 

- الجنس هو: تمام الحقيقة المشتركة بين الجزئيَّات أو الكلِّيَّات المتكثِّرة بالحقيقة، المقولة في جواب (ما هو؟). وينقسم الجنس إلى: قريبٍ وبعيد.

 

- الفصل هو: جزء الماهيَّة المختصّ بها، المقول في جواب (أيّ شيءٍ هو في ذاته؟). وينقسم الفصل كذلك إلى: قريبٍ وبعيد.

 

 

166

 


131

الدرس الرابع عشر: الكلّيّات الخمسة (1)

أسئلة حول الدرس

1. عرّف كلَّ واحد من أقسام الذاتيّ، وأعطِ مثالًا.

2. بماذا يُسأَل لمعرفةِ كلٍّ من النوع والجنس والفصل؟ أوضِح بمثال.

3. بيّن أقسام الجنس والفصل، وأعطِ أمثلة.

 

 

169


132

الدرس الخامس عشر: الكلِّيَّات الخمسة (2)

الدرس الخامس عشر

الكلِّيَّات الخمسة (2):

(الكلِّيَّات العَرَضيَّة: الخاصَّة، والعرض العامّ)

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرَّف أقسام الكلِّيّ العرضيّ المحمول على موضوعه.

2. يعدِّد أقسام العرضيّ باعتبار لزومه لموضوعه ومفارقته له.

3. يتعرَّف أقسام العرضيّ اللازم باعتبار الوضوح والخفاء.

4. يميِّز أقسام العرضيّ المفارق باعتبار الدوام أو سرعة الزوال أو بطئه.

 

 

171


133

الدرس الخامس عشر: الكلِّيَّات الخمسة (2)

تمهيد

بعد تفصيل الكلام في الكلّيَّات الذاتيَّة الثلاثة (النوع، والجنس، والفصل)، نأتي هنا لنفصِّل الكلام في الكلِّيَّين العَرَضيَّين (الخاصَّة والعَرَض العامّ).

 

تذكير بالعَرَضيّ

حينما نسأل عن أشياء ونطلب تعريفها، فإن كان الجواب بأمورٍ تتقوَّم بها ذاتُ الموضوعِ المسؤولِ عنه، بمعنى أنَّ ماهيَّة الموضوع لا تتحقَّق إلَّا به، كان الجواب -إذًا- بـ"الذاتيّات"، وإن كان الجواب بأمورٍ خارجةٍ عن الذات تعرض عليها وتُحمَل عليها بعد تمام الذات، كان الجواب -حينئذٍ- بـ"العرضيَّات".

 

فلو سألنا مثلًا: ما هو الإنسان؟

فإن كان الجواب مثلًا: (ضاحك)، فإنّ هذا الجواب (ضاحك) لا يصحّ إلّا بعد تمام الذات، إذ (الضاحك) ليس قوام (الإنسان)، وغيرُ داخل في حقيقته، لذلك لا يُعَدّ من الذاتيّات، بل هو ممَّا يعرض على الإنسان ويلحق له بعد تقوُّمه بذاتيَّاته -أيْ بعد تقوُّمه بالحيوانيَّة والناطقيَّة-، ولذلك يكون (الضاحك)، بوصفه كلِّيًّا محمولًا على الإنسان، عَرَضيًّا له.

وعليه، فالعَرَضيّ -كما تقدّم- هو: "الكلِّيُّ المحمولُ الخارجُ عن ذاتِ الموضوع، اللاحقُ له بعد تقوُّمِه بجميع ذاتيّاته"، كـ(الضاحك) اللاحق للـ(إنسان) بعد تقوُّمه بـ(الحيوانيَّة والناطقيَّة).

 

ويُقسّم العَرَضيّ إلى قِسمَين، هما: الخاصَّة، والعَرَض العامّ.

 

 

173

 


134

الدرس الخامس عشر: الكلِّيَّات الخمسة (2)

الخاصَّة أو العَرَض الخاصّ

وهو: "الكلّيُّ الخارجُ المحمولُ الخاصُّ بموضوعه"، أي يختصّ بحقيقةٍ واحدة، ولا يُحمَل على غيرها.

 

مثاله: (الضاحك) بالنسبة إلى (الإنسان)، فإنَّه خارجٌ عن الذات، ولكنّه خاصٌّ بموضوعه (وهو الإنسان)، فلا يُحمَل (الضاحك) على (الفرس) ولا على (الأسد)، وإنّما هو مختصٌّ بـ(الإنسان)، فلذلك سُمِّي بـ"العَرَضيّ الخاصّ"، أو بـ"الخاصّة".

 

العَرَضيّ العامّ

وهو: "الكلِّيُّ الخارجُ المحمولُ على موضوعه وعلى غيره".

 

فهو لا يفترق عن الخاصّة إلّا في مسألة واحدة، وهي أنّه غير مختصّ بموضوعه، بل يعمّ موضوعَه وغيره، أي يُحمَل ويعرض على موضوعه وعلى غيره من الماهيّات، كـ(الماشي)، فإنّه يُحمَل على (الإنسان)، لكنَّه غير مختصٍّ به، بل يُحمَل على (الفرس) وعلى (الأسد) وعلى غيرهما أيضًا.

 

ملاحظة

العَرَضيّ نسبيٌّ، فقد يكون العرضيُّ "عَرَضيًّا عامًّا" لموضوع، ولكنّه "عرضيٌّ خاصٌّ" لموضوعٍ آخر، فـ(الماشي)-مثلًا- بالنسبة إلى (الإنسان) عرضيٌّ عامّ، لكنَّه بالنسبة إلى (الحيوان) فهو خاصّة له.

 

أقسام العَرَضيّ باعتبار لزومه لموضوعه ومفارقته له

ينقسم العَرَضيّ -بكِلا قسمَيه: الخاصَّة والعَرَض العامّ- باعتبار لزومه لموضوعه وعدم لزومهله، إلى:

1. لازم: وهو ما يمتنع انفكاكُه -عقلًا- عن ملزومه، كوصف (الفرد) للثلاثة، و(الزوج) للأربعة.

 

والعَرَضيّ اللازم ينقسم بدوره، باعتبار الوضوح والخفاء، إلى:

أ. بَيِّن: وهو ما كان لزومه لموضوعه بديهيًّا لا يحتاج إلى إقامة الدليل عليه. وهو الآخر على قِسمَين:

 

 

174

 


135

الدرس الخامس عشر: الكلِّيَّات الخمسة (2)

- اللازم البيِّن بالمعنى الأخصّ: وهو ما يلزم من تصوُّر ملزومِه تصوُّرُه، بلا حاجةٍ إلى توسُّط شيءٍ آخر، فتصوُّر (الأربعة) -مثلًا- كافٍ بنفسه لتصوُّر لازمها، وهو (الزوج)، ولا يُحتاج إلى توسُّط شيءٍ آخر لتصوُّر الزوج.

 

- اللازم البيِّن بالمعنى الأعمّ: هو ما يلزم من تصوُّره وتصوُّر الملزوم وتصوُّر النسبة بينهما، الجزمُ بالملازمة، مثل: (الاثنان نصف الأربعة أو ربع الثمانية)، فإنَّك إذا تصوَّرت (الاثنَين)، قد تغفل عن أنَّها (نصف الأربعة أو ربع الثمانية)، ولكن إذا تصوَّرت أيضًا (الثمانية) مثلًا، وتصوَّرت (النسبة بينهما)، تجزم أنَّها (ربعها)، وكذا إذا تصوَّرت (الأربعة) و(النسبة بينهما)، تجزم أنَّها (نصفها).

 

ب. وغير بيِّن: وهو ما يقابل البيِّن مطلقًا، بأن يكون لزومُه لموضوعه نظريًّا، فلا يكفي فيه، للتصديق والجزم بالملازمة، تصوُّرُ الطرفَين والنسبة بينهما، بل يحتاج إثباتُ الملازمةِ -مضافًا إليهما- إلى إقامة الدليل عليه، مثل الحُكم بأنَّ (مجموع زوايا المثلَّث تساوي مجموع زاويتين قائمتين)، فإنَّ الجزم بهذه الملازمة يتوقَّف على البرهان الهندسيّ، ولا يكفي تصوُّر زوايا المثلَّث، وتصوُّر القائمتَين، وتصوُّر النسبة للحُكم بالتساوي.

 

2. مفارِق: وهوما لا يمتنع انفكاكُه -عقلًا- عن موضوعه، وإن كان لا ينفكّ أبدًا، فإنَّك ترى أنَّ وصف (العين) بـ(الزرقاء) لا ينفكّ غالبًا عن وجود العين، ولكنَّه مع ذلك، يُعَدّ عَرَضيًّا مفارقًا، لأنَّه لو أمكنت حيلة لإزالة الزرقة، لَما امتنع ذلك، وتبقى العين عينًا، في حين لو قُدِّرَت حيلةٌ لسلخ وصف (الفرد) عن (الثلاثة)، لَمَا أمكن أن تبقى الثلاثة ثلاثة.

 

والمفارِق ينقسم أيضًا -بدوره- إلى قسمَين:

أ. دائم: والمقصود من الدائم هنا هو الدائم ما دامت الذات، ابتداءً وانتهاءً، كوصف الشمس بالمتحرِّكة، ووصف العين بالزرقاء.

 

ب. زائل: والزائل على قسمَين:

- سريع الزوال: كحمرة الخجل، وصفرة الخوف.

 

- بطيء الزوال: كالشباب للإنسان.

 

 

175

 


136

الدرس الخامس عشر: الكلِّيَّات الخمسة (2)

الصنف

قد يسأل سائلٌ، بأنَّه قد تأتي كلِّيَّات بين النوع وأفراده، ككُلِّيّ العالِم والجاهل حينما نُقسِّم (الإنسان) إلى (عالِمٍ وجاهل)، فإنَّ الإنسان ينقسم إلى عالِمٍ وجاهل، وكلٌّ منهما تحته أفراد، وكتقسيم (الإنسان) إلى (شرقيّ وغربيّ)، وكلٌّ من الشرقيّ والغربيّ تحته أفراد، فماذا نُسمِّي هذا النوع من الكلِّيَّات الذي يكون بين النوع وأفراده؟ وهل هو كلِّيّ سادس، فتكون الكلِّيَّات ستَّة بدلًا من خمسة؟ وهل هو من الذاتيَّات أم من العرضيَّات؟

 

الجواب:

إنَّ هذا الكلِّيَّ يُسَمَّى بـ"الصنف"، فالصنف هو كلُّ كلِّيّ أخَصُّ من النوع.

 

أمَّا أنَّه من الذاتيَّات فغير صحيح، لأنَّ العلم أو الجهل -مثلًا- من العوارض التي تعرض على الإنسان بعد تقوُّمه بذاتيَّاته، ولا تدخل في قوامه، فإنَّه إذا انتفى العلم لا تنتفي ذات الإنسان، وإذا انتفى الجهل لا تنتفي ذات الإنسان، وذات الإنسان لا تتحقَّق بهما أو بأحدهما حتَّى يكون ذاتيًّا له.

 

وحيث إنَّ الكلِّيّ المحمول لا يخرج عن كونه ذاتيًّا أو عَرَضيًّا، فإذا لم يكن ذاتيًّا -كما تقدَّم- فهو قطعًا عَرَضيّ.

 

ولكن، هل هو عَرَضيّ من قِسم الخاصَّة مثلًا، أو من قِسم العَرَضيّ العامّ؟

 

قطعًا هو من قسم الخاصّة. ولكن حيث إنَّ الخاصَّة إمّا أن تكون مساويةً لموضوعها أو أخَصّ منه، فإنَّ هذا العَرَضيّ هو من الخاصّة الأخَصّ، ويُسَمّى "الصنف".

 

ولذا، عرَّفوا "الصنف" بأنَّه: "كلُّ كلِّيٍّ أخَصُّ من النوع، يشترك مع باقي أصناف النوع في تمام الحقيقة، ويمتاز منها بأمرٍ عارضٍ خارجٍ عن الحقيقة".

 

 

176

 


137

المقدّمة

المفاهيم الرئيسة

- العَرَضيّ هو: الكلِّيّ المحمول الخارج عن ذات الموضوع، اللاحق له بعد تقوُّمه بجميع ذاتيّاته.

- الكلِّيّ العرضيّ إمَّا خاصَّة، وإمَّا عَرَض عامّ.

- الخاصَّة: هي الكلّيّ الخارج المحمول الخاصّ بموضوعه.

- العَرَض العامّ هو: الكلّيّ الخارج المحمول على موضوعه وعلى غيره.

 

- العَرَضيّ -بقسمَيه: الخاصَّة أو العَرَضيّ العامّ- ينقسم إلى:

•         لازم: وهو ما يمتنع انفكاكه -عقلًا- عن ملزومه.

•         ومفارق: ما لا يمتنع انفكاكه -عقلًا- عن موضوعه.

 

- العَرَضيّ اللازم ينقسم بدوره إلى:

•         بيِّن: وهو ما كان لزومُه لموضوعه بديهيًّا لا يحتاج إلى إقامة الدليل عليه.

•         غير بيِّن: وهو ما يُقابل البيِّن مطلقًا، بأن يكون لزومُه لموضوعه نظريًّا.

 

- للعَرَضيّ اللازم البيِّن معنيان، أحدهما أعَمّ من الآخر:

•         اللازم البيِّن بالمعنى الأخصّ: وهو ما يلزم من تصوُّر ملزومه تصوُّره، بلا حاجةٍ إلى توسُّط شيءٍ آخر، ككفاية تصوُّر الأربعة لتصوُّر الزوجيَّة.

 

•         واللازم البيِّن بالمعنى الأعَمّ: هو ما يلزم من تصوُّره وتصوُّر الملزوم وتصوُّر النسبة بينهما، الجزمُ بالملازمة. كتصوُّر الاثنين وتصوُّر الأربعة وتصوُّر نسبة النصف، لإدراك كون الاثنين نصف الأربعة.

 

- العَرَضيّ المفارق ينقسم إلى:

•         دائم: كوصف الشمس بالمتحرِّكة، ووصف العين بالزرقاء.

•         زائل: والزائل على قسمَين:

 

o سريع الزوال: كحمرة الخجل، وصفرة الخوف.

 

 

177

 


138

المقدّمة

o بطيء الزوال: كالشباب للإنسان.

 

- الصنف: كلُّ كلِّيّ أخَصّ من النوع، يشترك مع باقي أصناف النوع في تمام الحقيقة، ويمتاز منها بأمرٍ عارضٍ خارجٍ عن الحقيقة.

 

 

177


139

الدرس السادس عشر: الحمل وتقسيماته

أسئلة حول الدرس

1. بيِّن الفرق بين الخاصَّة والعَرَض العامّ، وأعطِ مثالًا على كلٍّ منهما.

2. هل يمكن أن يكون شيءٌ واحدٌ خاصّةً وعَرَضًا عامًّا؟

3. بيِّن أقسام العَرَضيّ من حيث اللزوم ومفارقته لموضوعه، وأعطِ مثالًا على كلٍّ منها.

4. بيِّن أقسام العَرَضيّ اللازم من حيث الوضوح والخفاء، وأعطِ مثالًا على كلّ قسم.

 

 

للتوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان والعنوان السابق، انظر:

1. بخيت، علم المنطق المفاهيم والمصطلحات، قسم التصوُّرات، مصدر سابق، ج1، ص161-164، 179-211.

2. خير الدين، علم المنطق، مصدر سابق، ص39-45.

3. خير الدين، القواعد المنطقيَّة دروس بيانيَّة في شرح المنطق وتطبيقاته، مصدر سابق، ص129-143.

4. العبُّود، رسالة منطقيَّة في الكلِّيَّات الخمس.

5. الفضليّ، مذكّرة المنطق، مصدر سابق، ص59-61.

6. المطهَّري، المنطق، مصدر سابق، ص37-39.

7. المظفَّر، المنطق، مصدر سابق، ص73-88.

8. اليزديّ، حاشية على التهذيب، مصدر سابق، ص64-88.

 

181


140

الدرس السادس عشر: الحمل وتقسيماته

الدرس السادس عشر

الحمل وتقسيماته

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرَّف معنى الحمل وشروطه.

2. يتبيَّن انقسام الحمل باعتبار إلى ذاتيّ أوَّليّ وشائع صناعيّ.

3. يتعرَّف انقسام الحمل باعتبارٍ ثانٍ إلى طبعيّ ووضعيّ، وثالثٍ إلى مواطاة واشتقاق.

4. يحدِّد نوع الحمل بالنسبة إلى الكلِّيَّات الخمسة.

 

 

183


141

الدرس السادس عشر: الحمل وتقسيماته

تمهيد

تقدَّم أنَّ المقصد من القسم الأوَّل من علم المنطق (قسم التصوُّرات) هو التعريف.

 

وتقدَّم أنَّ العلوم إنَّما تُعرِّف الكلِّيَّات وبالكلِّيَّات، ولا تُعرِّف الجزئيَّات ولا تعرِّف بها.

 

وعمليَّة التعريف لَمَّا كانت الغاية منها هي بيان حقيقة المفاهيم المراد تعريفها وتمييزها من المفاهيم الأخرى، كانت آليَّة التعريف وطريقتها بحمل هذه المفاهيم المعرِّفة (الكلِّيَّات الخمسة) على المفاهيم المعرَّفة.

 

ولكن هل التعريف يكون بحمل الكلِّيَّات الخمسة على موضوعاتها كيفما اتَّفق حملُها عليها؟ ثمَّ إنَّه ما هي حقيقة الحمل حتَّى تكون هي آليَّة التعريف؟

 

هذه الأسئلة أوجبت على المنطقيّ -الذي يهدف إلى تصحيح عمليَّات التعريف وإعطاء القواعد العامَّة للتفكير الصحيح- أن يبحث مسألة الحمل، ليقف على حقيقة الحمل أوَّلًا، وأنواع الحمل ثانيًا، ومن ثمّ يُحدِّد نوع الحمل في حمل الكلِّيَّات الخمسة على موضوعاتها في مقام التعريف، ليتجنَّب بذلك الوقوع في الخطأ في تعريف المفاهيم، ويصل بذلك إلى غايته التي يُنشدها.

 

معنى الحمل

الحمل هو "نسبةُ شيءٍ إلى شيءٍ آخر".

 

وسُمِّي حملًا لأنَّه يقع بين الموضوع (المسند إليه) والمحمول (المسند)، ويكون بحمل المحمول على الموضوع، أي بنسبته وإسناده إليه، فالحمل هو الوصف والإخبار والإسناد لغةً.

 

 

185


142

المقدّمة

وهو بمعنى الإيجاب والاتِّحاد اصطلاحًا، ومعناه أنَّ هذا هو ذاك، أو ما صحَّ أن يُقال عليه الموضوع صحّ أن يُقال عليه المحمول، فإذا قلنا: (أ) يُحمَل على (ب)، فمعناه أنَّ بين (أ) و(ب) اتِّحادًا، وأنَّ (أ) هو (ب)، وأنَّ ما يُقال عليه (أ) يُقال عليه (ب). وليس المراد من الحمل بالضرورة اتِّحاد معنى الموضوع والمحمول، وإلَّا لَما صحَّ الحملُ إلَّا بين الأسماء المترادفة.

 

فنسبة القيام وإسناده إلى زيد في قولنا "زيد قائم" هي حملٌ للقيام على زيد، ومعناه أنَّ مصداق (زيد) هو مصداق (قائم).

 

عناصر الحمل

تبيّن من تعريف الحمل، أنَّه يتقوّم بعناصر ثلاثة:

1. الموضوع: وهو المسنَد إليه والمحمول عليه، وبعبارة ثانية: هو المحكوم عليه. ويُعبَّر عنه بالموضوع، لأنَّه موضِع الحمل، أي مكانه ومحلّه، ومثاله: (زيد) في المثال المتقدِّم.

 

2. المحمول: وهو المسنَد، والمحكوم به على الموضوع. ويُعبَّر عنه بالمحمول، لأنَّه حُمِل على شيءٍ آخر، وهو (قائم) في مثالنا.

 

3. الحمل: وهو نسبة المحمول إلى الموضوع، وفي مثالنا: نسبة القيام إلى زيد.

 

شروط صحّة الحمل

يُشترط، لكي يقع الحمل صحيحًا، الشرطان الآتيان:

1. وجود جهة اتِّحادٍ بين الموضوع والمحمول، إذ لو كانا متغايرَين تمام التغايُر، وليس بينهما أيُّ اتِّحاد، لَمَا صحّت نسبة المحمول إلى الموضوع وإسناده إليه، لعدم وجود علاقة بينهما تُصحِّح هذا الإسناد.

 

2. وجود جهة تغايُر بينهما، إذ لو كانا متَّحدَين تمام الاتِّحاد من جميع الجهات، لكانا شيئًا واحدًا، ولَمَا كانا شيئَين، والحمل إنّما هو اتّحادٌ بين شيئَين.

 

لذلك، لا يصحّ الحمل بين المفهومَين المتباينَين، إذ لا اتِّحاد بينهما، ولا يصحّ حمل الشيء على نفسه، إذ الشيء لا يُغاير نفسَه.

 

 

186

 


143

الدرس السادس عشر: الحمل وتقسيماته

تقسيمات الحمل

للحمل تقسيمات مختلفة باختلاف الاعتبارات، نقف في ما يأتي على أهمّها في البحث المنطقيّ وأشهرها، وهي:

1. تقسيمه إلى ذاتيّ أوَّليّ وشائع صناعيّ[1]

 

يُقسَّم الحمل، باعتبار طبيعة الاتِّحاد والتغايُر بين الموضوع والمحمول، إلى قسمَين:

أ. حمل ذاتيّ أوَّليّ: وهو ما كان الاتِّحاد فيه بين الموضوع والمحمول في المفهوم، والتغايُر بينهما اعتباريّ.

 

فإنَّه إذا كان الاتِّحاد بينهما في المفهوم، فلا مجال لوجود مغايرة حقيقيَّة بينهما، لأنَّ الاتِّحاد بينهما في المفهوم يقتضي الاتِّحاد بينهما في المصاديق أيضًا. وعليه، فالمغايرة لا بدّ أن تكون اعتباريَّة وليست حقيقيَّة، كأن تكون المغايرة بينهما في التفصيل والإجمال مثلًا، وذلك كحمل (الحيوان الناطق) على (الإنسان) في قولنا: (الإنسان: حيوان ناطق)، فهما متَّحدان مفهومًا، ومن ثمّ متَّحدان مصداقًا، والمغايرة بينهما في التفصيل والإجمال.

 

أمَّا السبب في تسميته بـ"الذاتيّ الأوَّليّ"، فلقد سُمّي "ذاتيًّا" لأنَّ مفهوم الموضوع هو ذات مفهوم المحمول نفسه، وسُمّي "أوَّليًّا" لأنَّه من الضروريَّات الأوَّليَّة التي لا يتوقَّف التصديق بها على أزيَد من تصوُّر الموضوع والمحمول، أو لأنَّه يرتبط بذات الشيء وحقيقته، والذات سابقة على غيرها.

 

ب. وحمل شائع صناعيّ: وهو ما كان الاتِّحاد فيه بين الموضوع والمحمول في المصداق، والتغايُر بينهما في المفهوم.

 

والمقصود من الحمل الشائع الصناعيّ، حينئذٍ، ليس كالمقصود من الحمل الذاتيّ الأوَّليّ -من أنَّ مفهوم الموضوع هو بعينه نفس مفهوم المحمول وماهيَّته- وإنَّما يكون المقصود


 


[1] تجدر الإشارة إلى أنَّ اصطلاحَي "الحمل الذاتيّ الأوَّلي" و"الحمل الشائع الصناعيّ" لهما معنيان يختلف أحدهما عن الآخر، فتارةً يكونان وصفَين للحمل نفسه - وهو ما ذكرناه في المتن -، وتارةً يكونان وصفَين للموضوع. وللوقوف على الفرق بينهما، انظر: الحيدريّ، رائد: المقرَّر في شرح منطق المظفَّر، ط1، بيروت، دار المحجَّة البيضاء، 1422هـ.ق/2001م، هامش ص103-104.

 

 

187


144

الدرس السادس عشر: الحمل وتقسيماته

تقسيمات الحمل

للحمل تقسيمات مختلفة باختلاف الاعتبارات، نقف في ما يأتي على أهمّها في البحث المنطقيّ وأشهرها، وهي:

1. تقسيمه إلى ذاتيّ أوَّليّ وشائع صناعيّ[1]

 

يُقسَّم الحمل، باعتبار طبيعة الاتِّحاد والتغايُر بين الموضوع والمحمول، إلى قسمَين:

أ. حمل ذاتيّ أوَّليّ: وهو ما كان الاتِّحاد فيه بين الموضوع والمحمول في المفهوم، والتغايُر بينهما اعتباريّ.

 

فإنَّه إذا كان الاتِّحاد بينهما في المفهوم، فلا مجال لوجود مغايرة حقيقيَّة بينهما، لأنَّ الاتِّحاد بينهما في المفهوم يقتضي الاتِّحاد بينهما في المصاديق أيضًا. وعليه، فالمغايرة لا بدّ أن تكون اعتباريَّة وليست حقيقيَّة، كأن تكون المغايرة بينهما في التفصيل والإجمال مثلًا، وذلك كحمل (الحيوان الناطق) على (الإنسان) في قولنا: (الإنسان: حيوان ناطق)، فهما متَّحدان مفهومًا، ومن ثمّ متَّحدان مصداقًا، والمغايرة بينهما في التفصيل والإجمال.

 

أمَّا السبب في تسميته بـ"الذاتيّ الأوَّليّ"، فلقد سُمّي "ذاتيًّا" لأنَّ مفهوم الموضوع هو ذات مفهوم المحمول نفسه، وسُمّي "أوَّليًّا" لأنَّه من الضروريَّات الأوَّليَّة التي لا يتوقَّف التصديق بها على أزيَد من تصوُّر الموضوع والمحمول، أو لأنَّه يرتبط بذات الشيء وحقيقته، والذات سابقة على غيرها.

 

ب. وحمل شائع صناعيّ: وهو ما كان الاتِّحاد فيه بين الموضوع والمحمول في المصداق، والتغايُر بينهما في المفهوم.

 

والمقصود من الحمل الشائع الصناعيّ، حينئذٍ، ليس كالمقصود من الحمل الذاتيّ الأوَّليّ -من أنَّ مفهوم الموضوع هو بعينه نفس مفهوم المحمول وماهيَّته- وإنَّما يكون المقصود


 


[1] تجدر الإشارة إلى أنَّ اصطلاحَي "الحمل الذاتيّ الأوَّلي" و"الحمل الشائع الصناعيّ" لهما معنيان يختلف أحدهما عن الآخر، فتارةً يكونان وصفَين للحمل نفسه - وهو ما ذكرناه في المتن -، وتارةً يكونان وصفَين للموضوع. وللوقوف على الفرق بينهما، انظر: الحيدريّ، رائد: المقرَّر في شرح منطق المظفَّر، ط1، بيروت، دار المحجَّة البيضاء، 1422هـ.ق/2001م، هامش ص103-104.

 

 

187


144

الدرس السادس عشر: الحمل وتقسيماته

منه هو أنَّ الموضوع من أفراد مفهوم المحمول ومصاديقه، وذلك كما في حملِنا (الحيوان) على (الإنسان) في قولنا: (الإنسان حيوان)، فهو حملٌ شائعٌ صناعيّ، وذلك لاتِّحادهما في المصداق وتغايرهما في المفهوم. والمقصود من هذا الحمل هو بيان أنَّ كلَّ ما صدق عليه الموضوع صدق عليه المحمول، وفي المثال أنَّ كلّ ما صدق عليه أنَّه (إنسان) فهو من أفراد مفهوم (الحيوان) ومصاديقه.

 

وقد سُمِّي "شائعًا صناعيًّا"، لأنَّه هو الشائع في المحاورات، والمعروف والمستعمَل في الصناعات والعلوم، ولهذا يُطلَق عليه أيضًا: "الحمل المتعارف".

 

2. تقسيمه إلى طبعيّ ووضعيّ

يُقسَّم الحمل، باعتبار الأعَمِّيَّة والأخَصِّيَّة بين مفهوم الموضوع ومفهوم المحمول، إلى:

1. حمل طبعيّ: وهو حمل الأعَمّ مفهومًا على الأخَصّ مفهومًا.

 

وذلك كحمل (الناطق) على (الإنسان) في قولك: (الإنسان ناطق)، لأنَّ الناطق -بحسب المفهوم- هو شيءٌ ثبت له النطق، أعمّ من كَون هذا الشيء إنسانًا أو ليس بإنسان.

 

ويُسمَّى هذا الحمل "طبعيًّا"، لأنَّه ممَّا يقتضيه طبع الإنسان ولا يأباه، فحمل الأعَمِّ مفهومًا على الأخصّ هو الأوفق بمقتضى الطبع.

 

2. حمل وضعيّ: وهو حمل الأخَصّ مفهومًا على الأعَمّ مفهومًا.

 

وذلك كحمل (الإنسان) على (الناطق) في قولك: (الناطق إنسان).

 

ويُسمَّى هذا الحمل "وضعيًّا" أو "جعليًّا"، لأنَّه ليس وفق طبع الإنسان، وإنَّما بجعلٍ ووضعٍ، وكان ممَّا يأباه الطبع لا ممَّا يقتضيه.

 

3. تقسيمه إلى مواطاة واشتقاق

يُقسَّم الحمل، باعتبار الحاجة إلى وسيلة مصحِّحة له وعدمها، إلى:

1. حمل مواطاة: وهو ما كان حملُ المحمول على الموضوع على وجهِ الحقيقة، وبلا احتياجٍ إلى وسيلةٍ.

 

وذلك كحمل (العالِـم) أو (الناطق) -مثلًا- على (الإنسان)، فتقول: (الإنسان عالِـم) أو (الإنسان ناطق).

 

 

188

 


145

الدرس السادس عشر: الحمل وتقسيماته

والمواطاة معناها الاتِّفاق، والمقصود من حمل المواطاة أنَّ ذات الموضوع نفس المحمول، بمعنى أنَّ هذا هو ذاك[1]، ولذا، يُسمَّى أيضًا: "حَمْل هُوَ هُوَ".

 

2. حمل اشتقاق: وهو ما كان حملُ المحمول على الموضوع بحاجةٍ إلى وسيلةٍ مصحِّحةٍ له.

 

وهذه الوسيلة هي إمّا الاشتقاق، بأن يُشتَقّ منه لفظٌ آخر يكون قابلًا للحمل على الموضوع على وجه الحقيقة وبلا واسطة، وإمّا تكون الوسيلة عبارة عن إضافة لفظٍ آخر، كإضافة (ذو).

 

فإنَّ العلم أو النطق -مثلًا- لا يُحمَلان على الإنسان، إذ لا يصحّ أن تقول: (الإنسانُ عِلْمٌ) أو (الإنسانُ نُطقٌ)، بل يحتاجان في حملِهما عليه إلى وسيلةٍ مصحِّحة لهذا الحمل، هي إمَّا الاشتقاق منهما، كاشتقاق اسم (العالِم) أو (الناطق)، فتقول: (الإنسانُ عالِمٌ) و(الإنسانُ ناطقٌ)، فيُسمَّى هذا الحمل بـ"حمل الاشتقاق"، أو أن تُضيف (ذو)، فتقول: (الإنسانُ ذو علمٍ، وذو نُطقٍ)، ويُسمَّى هذا الحمل بـ"حَمْل هُوَ ذُو هُوَ".

 

نوع الحمل المقصود في مبحث الكلِّيَّات الخمسة

بعد تعرُّف معنى الحمل وتقسيماته، تجدر الإشارة إلى أنَّ الحمل المقصود في مبحث الكلِّيَّات الخمسة هو الحمل الشائع الصناعيّ وليس الذاتيّ الأوَّليّ، والحمل الطبعيّ وليس الوضعيّ، وحمل المواطاة وليس الاشتقاق.

 

وبعبارة ثانية: إنَّ الكلِّيَّات الخمسة التي تُحمَل على موضوعاتها في مقام تعريفها، إنَّما هي ما كانت محمولةً عليها بالحمل الشائع الصناعيّ والطبعيّ والمواطاة.


 


[1] لا أنَّ ثمَّة اتّحادًا مفهوميًّا بين الموضوع والمحمول.

 

 

189


146

الدرس السادس عشر: الحمل وتقسيماته

المفاهيم الرئيسة

- المراد من حملِ شيءٍ على شيءٍ هو: "الاتّحاد بينهما بنحوٍ ما".

- يتقوّم الحمل بثلاثة عناصر: الموضوع، والمحمول، والحمل.

 

- يُشتَرط، لكي يقع الحمل صحيحًا، الشرطان الآتيان:

· الاتّحاد بين الموضوع والمحمول من جهة.

· التغايُر بينهما من جهة أخرى.

 

- ينقسم الحمل، باعتبار طبيعة الاتِّحاد والتغايُر بين الموضوع والمحمول، إلى قسمَين:

· حمل ذاتيّ أوَّليّ: وهو ما كان الاتِّحاد فيه بين الموضوع والمحمول في المفهوم، والتغايُر اعتباريّ.

· وحمل شائع صناعيّ: وهو ما كان الاتِّحاد فيه بين الموضوع والمحمول في المصداق، والتغايُر بحسب المفهوم.

 

- ينقسم الحمل، باعتبار الأعَمِّيَّة والأخَصِّيَّة بين مفهوم الموضوع ومفهوم المحمول، إلى قسمَين:

· حمل طبعيّ: وهو حمل الأعَمّ مفهومًا على الأخَصّ مفهومًا.

· حمل وضعيّ: وهو حمل الأخَصّ مفهومًا على الأعَمّ مفهومًا.

 

- ينقسم الحمل، باعتبار الحاجة إلى وسيلة مصحِّحة له وعدمها، إلى قسمَين:

· حمل مواطاة: وهو ما كان حملُ المحمول على الموضوع على وجه الحقيقة، وبلا احتياجٍ إلى وسيلةٍ.

· حمل اشتقاق: وهو ما كان حملُ المحمول على الموضوع بحاجةٍ إلى وسيلةٍ مصحِّحة له.

 

- الكلِّيَّات الخمسة إنَّما تُحمَل على موضوعاتها بالحمل الشائع الصناعيّ والطبعيّ والمواطاة.

 

 

190

 


147

الدرس السادس عشر: الحمل وتقسيماته

تمارين

1. اختر الإجابة الصحيحة:

أ. حملُ شيء على شيء هو:

□        الاتّحاد بينهما

□        التغايُر بينهما

□        الاتّحاد من جهة والتغايُر من جهة

 

ب. الاتّحاد المفهوميّ والتغايُر الاعتباريّ معناه:

□        الاتّحاد في المصداق، والتغايُر في المفهوم

□        الاتّحاد في المفهوم، والتغايُر في المصداق

□        الاتّحاد في المفهوم والمصداق، والتغايُر في الإجمال والتفصيل

 

ج. التغايُر الحقيقيّ معناه:

□        التغايُر في المفهوم

□        التغايُر في المصداق

□        التغايُر في الإجمال والتفصيل

 

د. ينقسم الحمل إلى:

□        ذاتيّ أوّليّ وذاتيّ صناعيّ

□        شايع أوّليّ وذاتيّ صناعيّ

□        ذاتيّ أوّليّ وشايع صناعيّ

 

 

191

 


148

الدرس السادس عشر: الحمل وتقسيماته

أسئلة حول الدرس

1. ما الفرق بين الحمل الذاتيّ الأوَّليّ والحمل الشائع الصناعيَّ؟ اذكر مثالًا.

 

2. بيّن أنحاء الاتّحاد والاختلاف بين الموضوع والمحمول، موضحًا بالمثال.

 

3. اشرح المصطلحات الآتية، موضحًا بالمثال:

أ. الاتّحاد الحقيقيّ:

............................................................................

............................................................................

 

ب. الاتّحاد المصداقيّ:

............................................................................

............................................................................

 

ج. التغايُر الاعتباريّ:

............................................................................

............................................................................

 

 

195


149

المقدّمة

للتوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان، انظر:

1. خير الدين، القواعد المنطقيَّة دروس بيانيَّة في شرح المنطق وتطبيقاته، مصدر سابق، ص147-152.

2. العابديّ، فلاح، لُباب المنطق، ومضات للترجمة والنشر، لا.ب، 2018م، لا.ط، ص63-71.

3. العبُّود، رسالة منطقيَّة في الكلِّيَّات الخمس، مصدر سابق، ص101-107.

4. الفضليّ، مذكّرة المنطق، مصدر سابق، ص65-67.

5. المظفَّر، المنطق، مصدر سابق، ص81-85.

6. الوائليّ، معالم المنطق، مصدر سابق، ص90-93.

 

 

196


150

الدرس السابع عشر: أصول المطالب

الدرس السابع عشر

أصول المطالب

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرَّف أصول المطالب وفروعها، والفرق بينها.

2. يتعرَّف وجه اهتمام المنطقيّ بأصول المطالب دون فروعها.

3. يحدِّد ما يُطلَب بكلِّ واحدةٍ من هذه الأصول.

4. يحدِّد مَهمَّة علم المنطق تجاه أصول المطالب.

 

197

 


151

الدرس السابع عشر: أصول المطالب

الدرس السابع عشر

أصول المطالب

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرَّف أصول المطالب وفروعها، والفرق بينها.

2. يتعرَّف وجه اهتمام المنطقيّ بأصول المطالب دون فروعها.

3. يحدِّد ما يُطلَب بكلِّ واحدةٍ من هذه الأصول.

4. يحدِّد مَهمَّة علم المنطق تجاه أصول المطالب.

 

197

 


152

الدرس السابع عشر: أصول المطالب

تمهيد

يسعى الإنسان في حياته ليكتشف هذا الكون والعالَم من حوله، محوِّلًا مجهولاته التصوُّريَّة والتصديقيَّة إلى معلومات. ولكنّ مجهولات الإنسان كثيرة، وجِهات جهله أيضًا متنوِّعة ومتعدِّدة، فقد يجهل شيئًا واحدًا من أكثر من جهة، ولأجل ذلك، تنوَّعَت العلوم واختلفت لدرجة أن اشتركت علومٌ متعدِّدة في موضوع واحد، ولكن كلٌّ يبحثه من جهةٍ، فالإنسان -مثلًا- شكَّل موضوعًا لأكثر من علم، كعلم الطبّ الذي اختصّ بجهة الصحَّة الجسميَّة والمرض، وعلم النفس الذي اختصّ بالنفس الإنسانيَّة، وعلم الاجتماع الذي بحث الإنسان من جهة حياته الاجتماعيَّة، وهكذا، والكلمة أيضًا شكَّلت موضوعًا لِعِلْمَي النحو والصرف، كلٌّ منهما بحث الكلمة من جهةٍ.

 

ونتيجة تعدُّد جهات جهل الإنسان، تنوَّعت أسئلته واختلفت، فإنَّ السؤال هو الذي يكشف عن جهل الإنسان، فيدعوه إلى طلب المعرفة ورفع هذا الجهل.

 

ولَمَّا كانت مَهمَّة علم المنطق هي تصحيح عمليَّات تفكير الإنسان، كان من شأنه أن يُعطي القواعد العامَّة لطُرق الإجابة الصحيحة عن هذه الأسئلة المتنوِّعة والمختلفة، لا أن يُعطي الإجابات الصحيحة، وإنَّما يُعلِّم الإنسان كيفيَّة الإجابة الصحيحة عن الأسئلة.

 

من هنا، اهتمَّ علم المنطق بدراسة أسئلة الإنسان وأنواعها، ليُحدِّد له قواعد للإجابة الصحيحة عنها.

 

وهذا ما سنقف عليه في هذا الدرس من دراسة أسئلة الإنسان ومطالبه، وتحديد أصولها من فروعها، وأيٌّ منها يُطلَب بها رفع المجهول التصديقيّ، وأيٌّ منها يُطلَب بها رفع المجهول التصوُّريّ، وذلك تمهيدًا لمبحث التعريف ومقدِّمةً له.

 

 

199


153

الدرس السابع عشر: أصول المطالب

أصول المطالب وفروعها

تقدَّم أنَّ الإنسان تتعدَّد مجهولاته، بل تتعدَّد جهات جهله حتَّى في الموضوع الواحد، فقد يجهل أصل وجود الشيء وعدمه، فيسأل بـ"هل" قائلًا: (هل هو موجود؟)، وقد يجهل حقيقته وماهيَّته، فيسأل طلبًا لها بـ"ما"، وقد يجهل السبب في وجوده أو اتِّصافه بصفةٍ من الصفات، فيسأل عن السبب بـ"لـِمَ"، وقد يجهل زمانه ووقته، فيسأل بـ"متى"، وقد يجهل مكانه، فيسأل بـ"أين"، وقد يجهل كمَّه، فيسأل بـ"كم"، وقد يجهل كيفَه، فيسأل بـ"كيف". وهكذا يمكن أن نُعدِّد من أسئلة الإنسان واستفهاماته الأسئلة الآتية: ما، هل، لـِمَ، أيّ، مَنْ، أين، متى، كم، كيف.

 

ولقد قسَّم المناطقة هذه الأسئلة إلى قسمَين: أصول وفروع.

1. الأصول: وهي ثلاثة: ما، وهل، ولـِمَ.

ولقد أضاف إليها الشيخ المظفَّر في كتابه المنطق، مطلب "أيّ" واعتبرها أربعًا بدلًا من ثلاثة.

 

2. وأمَّا الفروع: فهي سائر الأدوات الأخرى.

 

والوجه في جعلهم هذه الثلاثةَ أو الأربعةَ أصولَ المطالب وتلك فروعها، يرجع إلى أمرَين:

- إنَّ هذه الثلاثة أو الأربعة تصلح للسؤال بها عن كلِّ شيء، ويُبحَث عنها في جميع العلوم، فهي مطالب كلِّيَّة، بخلاف سائر المطالب الأخرى، فهي مطالب جزئيَّة لا يصلح السؤال بها عن كلِّ شيء، ولا تدخل في جميع العلوم، فما لا زمان له لا يُسأل عنه بـ"متى"، وما لا مكان له لا يُسأل عنه بـ"أين"، وما لا كيف له لا يُسأل عنه بـ"كيف"، وهكذا، فالله تعالى -مثلًا- لا يمكن السؤال عنه بـ"أين" ولا "كيف"، فهو مؤيِّنُ الأينِ، ومُكيِّفُ الكيفِ.

 

- ثمَّ إنَّه مضافًا إلى أنَّ أصول المطالب هي المطالب الكلّيَّة التي تدخل في جميع العلوم، وفروع المطالب هي مطالب جزئيَّة، فإنَّ هذه الفروع أيضًا يمكن الاستغناء عنها غالبًا،

 

200

 

 


154

الدرس السابع عشر: أصول المطالب

والسؤال عنها بـ"هل المركَّبة"، فبدلًا من أن تقول: (كيف لون ورق الكتاب؟ وأين هو؟ ومتى طُبِع؟)، تقول: (هل ورق الكتاب أبيض؟ وهل هو في المكتبة؟ وهل طُبِع هذا العام؟)، وهكذا.

 

فإلى هذَين السببَين يرجع الوجه في تقسيم المناطقة المطالب إلى هذَين القسمَين، وإطلاق اسم "الأصول" على المجموعة الأولى منها، وتسمية الأخرى بـ"الفروع".

 

ولأنَّ المنطق همُّه بيان القواعد العامَّة للتفكير الصحيح في جميع العلوم، اهتمّ المناطقة بأصول المطالب، وتركوا الفروع.

 

والمنطق -كما تقدَّم- ليست مَهمَّته الإجابة عن أصول المطالب في جميع العلوم، بل مَهمَّته تكمن في تعليم الإنسان كيفيَّة الإجابة عن هذه المطالب في جميع العلوم، وإعطائه القواعد العامَّة للإجابة الصحيحة.

 

وفي ما يأتي، نقف على أصول المطالب، أصلًا أصلًا، لنعرف عمَّا يُسأل بكلّ واحدةٍ منها، وما يُطلَب رفعُه بها، تمهيدًا لتعلُّم كيفيَّة الإجابة الصحيحة عنها.

 

السؤال بـ"ما"

قد يُسأل بـ"ما" لتحصيل أكثر من جواب:

- فتارةً يُسأل بـ"ما" ويُطلَب بها تصوُّر معنى اللفظ تصوُّرًا إجماليًّا، فإذا كنتَ لا تعرف لفظ (غضنفر) لأيِّ معنى من المعاني قد وُضِع، فتسأل (ما غضنفر؟)، فيُجاب: أسد. وهذا الجواب يُسَمَّى بـ"التعريف اللفظيّ".

 

وهذا النوع من السؤال والجواب لا علاقة لعلم المنطق به، إنَّما تتكفَّله القواميس والمعاجم اللغويَّة.

 

- وتارةً يُسأل بـ"ما" ويُطلب بها تصوُّر ماهيَّة المعنى، أي يُطلَب تفصيل ما دلّ عليه الاسم إجمالًا، لتمييزه من غيره في الذهن تمييزًا تامًا، فتقول -مثلًا- لمعرفة ماهيَّة الإنسان وحقيقته: (ما هو الإنسان؟).

 

وهذه "ما" التي يُطلَب بها معرفة حقيقة الشيء وماهيّته، على نحوَين:

 

 

201

 


155

الدرس السابع عشر: أصول المطالب

· لأنَّه تارةً يُطلَب بها معرفة حقيقة الشيء وماهيَّته، ولكن قبل إحراز العلم بوجوده، وتُسمَّى "ما" هذه "ما الشارحة"، لأنَّه يُسأل بها عن شرح معنى اللفظ، ويُسمَّى الجواب عنها بـ"التعريف الاسميّ".

 

· وتارةً يُطلَب بها معرفة حقيقة الشيء وماهيَّته، ولكن بعد إحراز العلم بوجوده، كأنْ تسأل أوَّلًا عن وجود الشيء أو عدمه، فتقول: (هل هو موجود؟)، وبعد أن تُحرِز وجودَه، تنزع نفسك لمعرفة حقيقته وماهيّته، فتسأل عنه بـ"ما". وهذه "ما" التي يُطلَب بها معرفة حقيقة الشيء بعد إحراز وجوده، تُسمَّى "ما الحقيقيَّة"، ويُسمَّى الجواب عنها بـ"التعريف الحقيقيّ".

 

السؤال بـ"أيّ"

يكون السؤال بـ"أيّ" بعد السؤال بـ"ما" التي يُطلَب بها تصوُّر حقيقية الشيء وماهيّته وتمييزه من غيره تمييزًا تامًّا، وتحديدًا يُسأل بـ"أي" فيما إذا لم يكن الجواب الذي أُجيب به عن "ما" كافيًا في تمييز المسؤول عنه من غيره تمييزًا تامًّا، فيُسأل بـ"أيّ" طلبًا لتحصيل التمييز التامّ.

 

كما لو سألتَ عن النخلة بـ"ما"، طالِبًا الوقوف على حقيقتها وماهيّتها، فقلتَ: (ما النخلة؟)، وكان الجواب: (شجرة)، ثمَّ أردتَ أن تعرّفها تعريفًا تامًّا بحيث تُميِّزها من غيرها من الأشجار، فتسأل عندها بـ"أيّ"، وتقول: (أيُّ شجرةٍ هي في ذاتها؟) فيما إذا أردتَ تمييزها من غيرها من الأنواع الأخرى المشاركة لها في الجنس تمييزًا ذاتيًّا، أو تقول: (أيُّ شجرةٍ هي في خاصّتها؟) فيما إذا أردتَ تمييزها من غيرها من الأنواع المشاركة لها في الجنس تمييزًا عَرَضيًّا، ويكون الجواب عن الأوَّل بـ"الفصل" وحده (مثمرة التمر)، وعن الثاني بـ"الخاصَّة" (ذات السعف) مثلًا.

 

فالسؤال بـ"أيّ" يقع بعد معرفة "الجنس"، ويكون الجواب عنها بـ"الفصل" أو بـ"الخاصَّة".

 

 

202

 


156

الدرس السابع عشر: أصول المطالب

السؤال بـ"هل"

"هل" يُسأل بها لطلب التصديق بوجود شيء، وهي على نحوَين:

- لأنَّه تارةً يُطلَب بها التصديقُ بأصل وجود الشيء، فتقول: (هل هو موجود؟)، وتُسمَّى "هل" هذه بـ"هل البسيطة".

- وتارةً يُطلب بها التصديق بثبوت صفةٍ أو حالٍ للشيء، بعد فرض وجوده، وتُسمَّى "هل" هذه بـ"هل المركَّبة". فبعد السؤال بـ"هل البسيطة" وإحراز أصل وجود الشيء، تسأل عن ثبوتِ صفةٍ له أو حالةٍ ما بـ"هل المركَّبة"، فتقول: (هل هذا الشيء الموجود له هذه الصفة، أو له هذه الحالة؟)، كأنْ تسأل عن ثبوت الإرادة لله تعالى، بعد العلم بوجوده، فتقول: (هل الله سبحانه الموجود مريد؟).

 

السؤال بـ"لـِمَ"

يُسأل بـ"لـِمَ" لطلب التصديق بالعلَّة. فبعد أن تُحرز أصل وجود الشيء بجواب "هل البسيطة"، قد تسأل عن العلَّة في ذلك، فتسأل بـ"لـِمَ"، فتقول: (لـِمَ كان موجودًا؟) أو (لـِمَ هو موجود؟)، أو بعد أن تُحرز ثبوت صفةٍ له بجواب "هل المركَّبة"، قد تسأل عن السبب في ثبوت هذه الصفة له، فتقول مثلًا: (لـِمَ كان الله تعالى مريدًا؟)، وهكذا. وهذه "لـِمَ" التي يُسأل بها لطلب التصديق بالعلَّة، على نحوَين:

 

- لأنَّه تارةً يُطلَب بها التصديق بعلَّة الحُكم فقط، أي البرهان على ما حكم به المسؤول في الجواب عن "هل" -سواء البسيطة أم المركَّبة- فيكفي عندها في الجواب بيان العلَّة التي يقتنع بها السائل للتصديق بالحُكم، وإن لم تكن هي العلَّة الخارجيّة في ثبوت المحمول للموضوع. وتُسمَّى "لـِمَ" هذه بـ"لِمَ الإثباتيَّة"، وتُسمَّى العلَّة فيها بـ"الواسطة في الإثبات".

 

- وتارةً يُطلَب بها التصديق بعلَّة الحُكم والوجود معًا، أي يُطلَب بها تحصيل العلَّة الخارجيّة الحقيقيَّة، وهنا لا بدَّ في الجواب من الإتيان بالعلَّة الحقيقيَّة. وتُسمَّى "لـِمَ" هذه بـ"لِمَ الثبوتيَّة"، وتُسمَّى العلَّة فيها بـ"الواسطة في الثبوت".

 

 

 

 

203

 


157

الدرس السابع عشر: أصول المطالب

استنتاج

يُستَنتَج ممَّا تقدَّم، أنَّ أصول المطالب تنقسم إلى قسمَين:

- ما يُسأل بها لطلب التصوُّر، أيْ يُسأل بها لرفع المجهول التصوُّريّ، وهما: "ما"، و"أيّ".

 

- وما يُسأل بها لطلب التصديق، أيْ يُسأل بها لرفع المجهول التصديقيّ، وهما: "هل" (البسيطة والمركَّبة)، ولـِمَ (الثبوتيَّة والإثباتيَّة).

 

ولأنَّ علم المنطق يهدف إلى رفع المجهولات التصوُّريَّة للإنسان بتحويلها إلى معلومات تصوُّريَّة، وكذلك رفع المجهولات التصديقيَّة للإنسان بتحويلها إلى معلومات تصديقيَّة، فإنَّه يهتمَّ بالإجابة عن هذه الأسئلة والمطالب، فيُجيب في القسم الأوَّل منه (التصوُّرات) عن الأسئلة بـ"ما" و"أيّ"، وفي القسم الثاني منه (التصديقات) عن الأسئلة بـ"هل" و"لـِمَ".

 

وبالدقَّة، علمُ المنطق لا يُجيب عن هذه الأسئلة فعلًا، بل يُعلِّم الإنسان طرق الإجابة الصحيحة عنها.

 

ولأنَّنا في هذا القسم الأوَّل من علم المنطق قسم التصوُّرات، فإنَّ هذا القسم يُعلِّم الإنسان كيفيَّة الإجابة الصحيحة عن الأسئلة بـ"ما" و"أيّ".

 

وحيث إنَّ الجواب عن "ما" بالتعريف الاسميّ أو الحقيقيّ، كان القسمُ الأوَّلُ من علم المنطق مهتمًّا ببيان الطرق الصحيحة للتعريف، وهذا ما يستدعي معرفة معنى "التعريف" والوقوف على حقيقته، والغرض والغاية منه، ومعرفة أنواعه، وشروطه حتَّى يكون صحيحًا، وهو ما سنقف عليه في الدرسَين القادمَين، إن شاء الله تعالى.

 

 

204


158

الدرس السابع عشر: أصول المطالب

المفاهيم الرئيسة

- تتنوَّع أسئلة الإنسان وتختلف باختلاف مجهولاته واختلاف جِهات جَهلِه أيضًا.

 

- قسَّم المناطقةُ أسئلة الإنسان إلى قسمَين: أصول المطالب (ما، وأيّ، وهل، ولـِمَ) باعتبارها مطالب كلِّيّة تُبحَث في جميع العلوم، وإلى فروع المطالب (مَنْ، أين، متى، كم، كيف) باعتبارها أسئلة جزئيَّة لا تصلح للسؤال بها عن كلِّ شيء، ولا تُبحَث في جميع العلوم.

 

- علم المنطق يهتمّ بأصول المطالب، باعتبار أنَّه يهتمّ ببيان القواعد العامَّة للتفكير الصحيح، والتي تدخل في جميع العلوم.

 

- "ما" يُسأل بها لطلب التصوُّر، ولكن تارةً لتصوُّر معنى اللفظ تصوُّرًا إجماليًّا، وتارةً لتصوُّر حقيقة الشيء وماهيَّته. و"ما" إمَّا أن يُطلَب بها ذلك قبل إحراز وجود الشيء، فتسمَّى "ما الشارحة"، ويُسمَّى الجواب عنها بـ"التعريف الاسميّ"، وإمَّا أن يُطلَب بها ذلك بعد إحراز وجود الشيء، فتُسمَّى عندها بـ"ما الحقيقيَّة"، ويُسمَّى الجواب عنها بـ"التعريف الحقيقيّ".

 

- "أيّ" يُسأل بها لطلب تمييز الشيء المسؤولِ عنه تمييزًا تامًّا عن غيره. ويكون الجواب عن "أيّ" بـ"الفصل" فيما إذا أُريدَ تمييزه من غيره تمييزًا ذاتيًّا، وبـ"الخاصَّة" فيما إذا أُريدَ تمييزه من غيره تمييزًا عرضيًّا.

 

- "هل" يُسأل بها عن التصديق بالوجود، إمَّا أصل وجود الشيء، وتُسمَّى عندها "هل البسيطة"، وإمَّا ثبوت صفةٍ أو حالةٍ له بعد إحراز أصل وجوده، وتُسمَّى عندها "هل المركَّبة".

 

- "لـِمَ" يُسأل بها لطلب التصديق بالعلَّة، سواء علَّة الحُكم، وتُسمَّى "لـِمَ الإثباتيَّة"، أم علَّة الحُكم والوجود معًا، وتُسمَّى "لـِمَ الثبوتيَّة".

 

- علم المنطق يتكفَّل بيان طُرُق الإجابة الصحيحة عن هذه الأسئلة.

 

 

 

205

 


159

الدرس السابع عشر: أصول المطالب

تمارين

1. إذا أردنا معرفة الفصل أو الخاصّة لتمييز النوع بعد تحديد جنسه، فأيّة أداة نستعمل؟

............................................................................

............................................................................

............................................................................

 

 

2. حدّد ما يُراد معرفته من طبيعة الأسئلة الآتية:

أ. هل العنقاء موجودة؟

............................................................................

............................................................................

 

ب. هل الله سبحانه مشخَّص؟

............................................................................

............................................................................

 

ج. لِمَ كانت النار محرقة؟

............................................................................

............................................................................

 

د. أيّ حيوانٍ هو في ذاته؟

............................................................................

............................................................................

 

3. أعطِ مثالًا لكلٍّ من الأدوات الآتية:

أيّ:      ............................................................................

لِمَ:        ............................................................................

هل المركَّبة: ............................................................................

 

 

206

 


160

الدرس السابع عشر: أصول المطالب

أسئلة حول الدرس

1. ما الفائدة المرجوّة من التعريف؟

2. ما الفرق بين ما الشارحة وما الحقيقيّة؟

3. ما الفرق بين هل البسيطة وهل المركّبة؟

 

للتوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان، انظر:

1. خير الدين، القواعد المنطقيَّة دروس بيانيَّة في شرح المنطق وتطبيقاته، مصدر سابق، ص172-173.

2. علي، محمد صنقور، أساسيَّات المنطق، دار جواد الأئمة عليهم السلام، ص177-182.

3. المطهَّري، المنطق، مصدر سابق، ص43-46.

4. المطهَّري، مرتضى، دروس فلسفيَّة في شرح المنظومة، ترجمة: الشيخ مالك وهبي، دار الهادي، لا.ت، لا.ط، مج2، ج4، ص144-151.

5. المظفَّر، المنطق، مصدر سابق، ص93-96.

 

 

 

207


161

الدرس الثامن عشر: المعرِّف (القول الشارح)

الدرس الثامن عشر

المعرِّف (القول الشارح)

 

 

أهداف الدرس

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يحدِّد مكانةَ مبحث المعرِّف من علم المنطق، وأهمِّيّتَه.

2. يتبيَّن معنى المعرِّف والغرض منه.

3. يعدِّد أقسام المعرِّف.

 

 

 

208


162

الدرس الثامن عشر: المعرِّف (القول الشارح)

تمهيد

جميع الدروس التي تقدَّمَت كانت تمهيدًا لهذا البحث (بحث المعرِّف)، وهي أيضًا تُعَدّ تمهيدًا للقسم الثاني من علم المنطق (وهو قسم التصديقات)، وذلك لأنَّه لا بدَّ للمشتغِل بالقضايا والمستدِلّ بها أن يكون عارفًا بالألفاظ التي يستعملها في القضيَّة، وبالتحديد أن يكون عارفًا بمعانيها الحقيقيَّة، وذلك لا يكون إلَّا بالوقوف على حدودها (تعريفاتها) الحقيقيَّة، وإلَّا لوقع الخلل والاضطراب في استدلاله، ووقع التشوُّش وعدم الفهم عند متلقِّي الاستدلال.

 

ويتَّضح ممّا تقدَّم، أنَّ مبحث المعرِّف هو من صميم علم المنطق، وبحثٌ أساس فيه، وينطوي على الدراسة والبحث في كيفيَّة تعريف المفاهيم الفكريَّة والمصطلحات العلميَّة وكافَّة الأشياء الأخرى ممَّا نتعامل معه في هذه الحياة من محسوسات ومعقولات، مادِّيَّات ومعنويَّات.

 

وليس هناك علم من العلوم يخلو من المفاهيم والمصطلحات العلميَّة، أو أنَّ ما فيه من مفاهيم ومصطلحات علميَّة لا يحتاج إلى التعريف بالكشف عن حقيقته، أو على الأقلّ ببيان معناه ولو بوجهٍ من الوجوه.

 

ولهذا، ولئلّا يقع الاضطّراب وتعمّ الفوضى في تحديد المفاهيم والمصطلحات العلميَّة، كانت الحاجة ماسَّةً لوضع نظامٍ للتعريف ينطوي على قواعد وشرائط إنْ اتَّبعناها ابتعدنا عن الخطأ والاضطراب والفوضى.

 

 

210


163

الدرس الثامن عشر: المعرِّف (القول الشارح)

وكان هذا النظام هو علم المنطق في بابه هذا، الموسوم بمبحث "المعرِّف"[1] أو "التعريف" أو "القول الشارح"[2] أو "الحدّ"[3] أو "كاسب التصوُّر"[4]، فكلّها أسماء تُشير إلى مسمّى واحد.

 

ما هو "المعرِّف"؟

المعرِّف: هو ما يُكتَسَب به التصوُّر، ويُتعرَّف بواسطته على معاني الأشياء التفصيليَّة، أو ما يُميِّزها عن غيرها بنحوٍ صحيح.

 

ومنه يُعلَم أنَّ للتعريف غرضَين:

- الغرض الأوَّل: تصوُّر المعرَّف بحقيقته، لتتكوَّن له في النفس صورة تفصيليَّة واضحة.

 

- الغرض الثاني: تمييزه، في الذهن، من غيره تمييزًا تامًّا.

 

وتحقُّق الغرض الثاني أمرٌ لا بدّ منه، سواء أتحقَّق الغرض الأوَّل أم لم يتحقّق، وإلَّا لبقي احتمال اختلاط المفهوم بغيره قائمًا، ومن ثمّ وقوع الاضطراب والخطأ ممكنًا.

 

أقسام المعرِّف

سبق أن ذكرنا التعريف اللفظيّ، ولا يهمّنا البحث عنه في هذا العلم، لأنَّه لا ينفع إلَّا لمعرفة وضع اللفظ لمعناه، فلا يستحقّ اسم التعريف إلَّا من باب المجاز والتوسُّع. وإنَّما غرض المنطقيّ من "التعريف" هو المعلوم التصوُّريّ الموصِل إلى المجهول التصوُّريّ الواقع جوابًا عن "ما" الشارحة أو الحقيقيّة. ويُقسَّم إلى حدٍّ ورسْم[5]، وكلّ منهما ينقسم إلى تامّ وناقص.


 


[1] على صيغة اسم الفاعل، لأنَّه يُصوِّر الشيء ويُعرِّفه.

[2] لأنَّه يشرح ماهيَّة الشيء إذا كان حَدًّا، ويُميِّزه بذكر صفاته حتّى لا يلتبس بغيره إذا كان رسمًا.

[3] لأنَّ "الحدّ" في اللغة معناه المنع، ومنه سُمِّي السجَّان حدَّادًا، وسُمِّيت العقوبات حدودًا، وذلك لأنَّ السجَّان يمنع المجرم من الخروج من السجن، والعقوبات تمنع المجرم من العود إلى الإجرام، والمعرِّف للشيء يمنع أفراد المحدود من الخروج عن ماهيّته، كما يمنع ما ليس منه من الدخول في ماهيّته، ولهذا اشترطوا في الحدّ -كما سيأتي- أن يكون جامعًا مانعًا، بحيث يكون جامعًا لجميع أفراد المحدود، ومانعًا غيرها من الدخول فيه.

[4] لأنَّ به يُكتَسَب التصوُّر.

[5] "الرسم" في اللغة هو الأثر، ورسم الدار: ما كان من آثارها لاصقًا بالأرض. وقد أخذ المناطقةُ هذا اللفظَ ووضعوه للتعريف الذي يتكوَّن من لوازم الشيء وآثاره، فكان "الرسم" في اصطلاحهم عبارة عن: قولٍ مؤلَّفٍ من عوارض الشيء وخواصّه فقط، أو مع بعض ذاتيَّاته، يُراد به تعريف ذلك الشيء.

 

 

211


164

الدرس الثامن عشر: المعرِّف (القول الشارح)

1. الحدّ التامّ

هو التعريف بجميع ذاتيّات المعرَّف، ويقع بالجنس والفصل القريبَين، لاشتمالهما على جميع ذاتيّات المعرَّف.

 

فإذا قيل: ما الإنسان؟

فيجوز أن تُجيب -أوَّلًا- بأنّه(حيوان ناطق). وهذا حدّ تامّ فيه تفصيل ما أجمله اسم (الإنسان)، ويشتمل على جميع ذاتيَّاته، لأنَّ مفهوم (الحيوان) ينطوي فيه أجزاء الإنسان وذاتيّاته كلّها.

 

ويجوز أن تُجيب -ثانيًا- بأنَّه(جسمٌ نامٍ حسّاسٌ متحرِّكٌ بالإرادة، ناطق)، وهذا حدٌّ تامٌّ أيضًا للإنسان، وهو عينُ الأوَّل في المفهوم، إلّا أنّه أكثر تفصيلًا، لأنّك وضعتَ مكان كلمة(حيوان) حدَّه التامّ.

 

ويجوز أن تُجيب -ثالثًا- بأنَّه (جوهرٌ قابِلٌ للأبعاد الثلاثة نامٍ حسّاسٌ متحرِّكٌ بالإرادةِ، ناطقٌ)، فتضع مكان كلمة (جسم) حدَّه التامّ.

 

ظهر من هذا البيان:

1. أنَّ الجنس والفصل القريبَين تنطوي فيهما جميع ذاتيّات المعرَّف، لا يشذّ منها جزء أبدًا، ولذا سُمِّي الحدُّ بهما "تامًّا".

2. أن لا فرق في المفهوم بين الحدود التامّة المطوَّلة والمختصَرة، إلّا أنّ المطوّلة أكثر تفصيلًا، فيكون التعريف بها واجبًا تارةً، وفضولًا أخرى.

 

3. أنَّ الحدَّ التامّ يساوي المحدود في المفهوم -كالمترادفَين-، فيقوم مقام الاسم بأنْ يُفيدَ فائدته ويدلّ على ما يدلّ عليه الاسم إجمالًا.

 

4. أنّ الحدّ التامّ يدلّ على المحدود بالمطابقة.

 

2. الحدّ الناقص

وهو التعريف ببعض ذاتيّات المعرَّف، ولا بدّ من أن يشتمل على الفصل القريب على الأقلّ، ولذا سُمِّي "ناقصًا".

 

 

212


165

الدرس الثامن عشر: المعرِّف (القول الشارح)

وهو يقع تارةً بالجنس البعيد والفصل القريب، وأخرى بالفصل وحده.

 

- مثال الأوَّل: تقول لتحديد الإنسان: (جسمٌ نامٍ... ناطق). فقد نقّصتَ من الحدّ التامّ المذكور في الجواب الثاني المتقدّم صفة (حسَّاس متحرِّك بالإرادة)، وهي فصل الحيوان، وقد وقع النقص مكان النقط بين (جسم نام) و(ناطق)، فلم يكمل فيه مفهوم الإنسان.

 

- ومثال الثاني: تقول لتحديد الإنسان أيضًا: (ناطق). فقد نقّصتَ من الحدّ التام الجنسَ القريب كلّه، فهو أكثر نقصانًا من الأوَّل.

 

ظهر من هذا البيان:

1. أنَّ الحدَّ الناقص لا يساوي المحدود في المفهوم، لأنّه يشتمل على بعض أجزاء مفهومه، ولكنّه يساويه في المصداق.

 

2. أنّ الحدّ الناقص لا يُعطي للنفس صورةً ذهنيّةً كاملة للمحدود مطابِقةً له، كما كان الحدّ التامّ، فلا يكون تصوُّرُه تصوُّرًا للمحدود بحقيقته، بل أكثر ما يُفيد هو تمييزُه من جميع ما عداه تمييزًا ذاتيًّا فحسب.

 

3. أنّه لا يدلّ على المحدود بالمطابقة، بل بالالتزام، لأنَّه من باب دلالة الجزء المختصّ على الكلّ.

 

3. الرسم التامّ

وهو التعريف بالجنس والخاصّة.

 

كتعريف الإنسان بأنّه (حيوان ضاحك)، فاشتمل على الذاتيّ والعرضيّ، ولذا سُمِّي "تامًّا".

 

4. الرسم الناقص

وهو التعريف بالخاصّة وحدها[1].

 

كتعريف الإنسان بأنه (ضاحك)، فاشتمل على العرضيّ فقط، فكان "ناقصًا".


 


[1] وقيل بأنّ التعريف بالجنسِ البعيد والخاصَّة من الرسم الناقص كذلك.

 

 

213


166

المقدّمة

ظهر من هذا البيان:

أنَّ الرسم مطلقًا -سواء التامّ أم الناقص- كالحدّ الناقص، لا يُفيد إلّا تمييز المعرَّف من جميع ما عداه فحسب، إلَّا أنَّه يُميِّزه تمييزًا عرضيًّا، ولا يساويه إلَّا في المصداق، لا في المفهوم، ولا يدلّ عليه إلَّا بالالتزام.

 

استنتاج

يُستَنتَج ممَّا تقدَّم:

1. أنَّ الذي يُحقِّق غرضَي التعريف معًا هو الحدّ التامّ، وأنَّ الحدّ الناقص والرسم -بقسميه- إنَّما يتحقَّق بها الغرض الثاني فقط، وهو تمييز المعرَّف ممَّا عداه تمييزًا تامًّا.

 

2. أنَّ الحدَّ الناقص إنَّما يُميِّز المعرَّف من غيره تمييزًا ذاتيًّا، وأنَّ الرسم -بقسميه- يُميِّزه تمييزًا عَرَضيًّا.

 

3. أنَّ الحدّ التامّ أكملُ التعاريف، ثمَّ يليه الحدُّ الناقص، ثمّ الرسمُ التامّ، ثمّ الرسم الناقص.

 

ولكنَّ المعروف عند العلماء أنّ الاطّلاع على حقائق الأشياء وفصولها من الأمور المستحيلة أو المتعذّرة، وكلّ ما يُذكَر من الفصول إنّما هو خواصّ لازمةٌ تكشف عن الفصول الحقيقيّة.

 

فالتعاريف الموجودة بين أيدينا، أكثرها أو كلّها، رسومٌ تشبه الحدود. فعلى مَن أراد التعريف أن يختار الخاصَّة اللازمة البيِّنة، لأنَّها أدلَّ على حقيقة المعرَّف، وأشبه بالفصل، وهذا أنفع الرسوم في تعريف الأشياء.

 

التعريف بالمثال

التعريف بالمثال يكون بذكر مصداقٍ من مصاديق المعرَّف (كقولنا في تعريف الإنسان: مثلُ محمَّد وخالد وعبد الله).

 

والتعريف بالمثال هو أقرب إلى عقول المبتدئين في فهم الأشياء وتمييزها. وهو ليس قسمًا خامسًا للتعريف، بل هو من التعريف بالخاصّة، لأنّ المثال ممّا يختصّ بذلك المفهوم، فيرجع إلى "الرسم الناقص". وعليه، يجوز أن يُكتَفى به في التعريف إذا كان المثال وافيًا بخصوصيّات الممثَّل له.

 

 

214

 


167

الدرس الثامن عشر: المعرِّف (القول الشارح)

التعريف بالطريقة الاستقرائيَّة

ومن نوع التعريف بالمثال: "التعريف بالطريقة الاستقرائيَّة" المعروفة في هذا العصر، التي يدعو لها علماء التربية لتفهيم الناشئة وترسيخ القواعد والمعاني الكلِّيَّة في أفكارهم. وهي: أن يُكثر المؤلِّف أو المدرِّس -قبل بيان التعريف أو القاعدة- من ذكر الأمثلة والتمرينات، ليستنبط الطالب بنفسه المفهوم الكلّيّ أو القاعدة. وبعدئذٍ، تُعطى له النتيجة بعبارةٍ واضحة، ليُطابِق بين ما يستنبطه هو وبين ما يُعطَى له آخِرًا من نتيجة.

 

التعريف بالتشبيه

ويُلحَق بالتعريف بالمثال: "التعريفُ بالتشبيه"، ويدخل في الرسم الناقص أيضًا:

وهو أن يُشبَّه الشيء المقصود تعريفه بشيءٍ آخر، لجهةِ شَبَهٍ بينهما، شرطَ أن يكون المشبَّه به معلومًا عند المخاطَب بأنَّ له جِهةَ الشبهِ هذه. ومثاله تشبيه الوجود بالنور، وجِهة الشبهِ بينهما أنّ كلًّا منهما ظاهرٌ بنفسه مُظهِرٌ لغيره.

 

 

 

215


168

الدرس السابع عشر: أصول المطالب

المفاهيم الرئيسة

- يُعَدّ مبحث المعرِّف المطلب الأساس والأهمّ في علم المنطق، وتحديدًا في القسم الأوَّل منه (التصوُّرات)، وكلّ ما تقدَّم من دروس كان مقدِّمة له.

 

- المعرِّف هو ما يُكتَسَب به التصوُّر، وتُتَعَرَّف بواسطته معاني الأشياء التفصيليَّة، أو ما يُميِّزها من غيرها بنحوٍ صحيح.

- للتعريف غرضان:

· الغرض الأوَّل: تصوُّرُ المعرَّف بحقيقته، لتتكوَّن له في النفس صورة تفصيليَّة واضحة

· الغرض الثاني: تمييزُه في الذهن من غيره تمييزًا تامًّا.

 

- أقسام التعريف:

· الحدّ التامّ: وهو التعريف بجميع ذاتيَّات المعرَّف، ويقع بالجنس والفصل القريبَين.

 

· الحدّ الناقص: وهو التعريف ببعض ذاتيَّات المعرَّف، ولا بدّ من أن يشتمل على الفصل القريب على الأقلّ.

 

· الرسم التامّ: وهو التعريف بالجنس والخاصّة.

 

· الرسم الناقص: وهو التعريف بالخاصّة وحدها.

 

- الحدّ التامّ هو أكملُ التعاريف، ثمّ يليه الحدّ الناقص، ثمّ الرسم التامّ، ثمّ الرسم الناقص.

 

- إنّ الاطّلاع على حقائق الأشياء وفصولها من الأمور المستحيلة أو المتعذّرة، وكلّ ما يُذكَر من الفصول إنّما هو خواصّ لازمة تكشف عن الفصول الحقيقيّة.

 

- التعاريف الموجودة بين أيدينا، أكثرها أو كلّها، رسومٌ تُشبِهُ الحدود.

 

- التعريف بالمثال: هو الاستعانة على تعريف الشيء بذكر أحد أفراده ومصاديقه، وهو من التعريف بالخاصَّة.

 

- التعريف بالطريقة الاستقرائية: هو الإكثار من ذكر الأمثلة، بما يُتَمَكَّن معه من استنباط المفهوم الكلّيّ أو القاعدة.

 

- التعريف بالتشبيه: وهو أن يُشبّه الشيء المقصود تعريفه بشيءٍ آخر، لجِهةِ شَبَهٍ بينهما.

 

 

 

216


169

الدرس الثامن عشر: المعرِّف (القول الشارح)

تمارين

1. صِلْ بين أقسام التعريف وما يُناسبها:

الحدّ التامّ •         • الجنس والخاصّة

الحدّ الناقص•       • الخاصّة وحدها

الرسم التامّ •        • ذكر مصداق من مصاديق الشيء المعرَّف

التعريف بالمثال •    • استنباط المفهوم من الأمثلة

الرسم الناقص •     • ذكر ما يشبه الشيء المعرَّف

التعريف بالتشبيه •  • الجنس والفصل القريبان

التعريف بالاستقراء •          • الجنس البعيد والفصل القريب

 

2. إلى أيّ قسم من أقسام التعريف ينتمي كلّ مثال من الأمثلة الآتية؟

أ. الحيوان: جسم حسّاس

............................................................................

 

ب. الحيوان: ماشٍ

............................................................................

 

ج. الكلمة: قول مفرد

............................................................................

 

د. الدرّ: يشبه البلّور

............................................................................

 

 

 

217


170

الدرس الثامن عشر: المعرِّف (القول الشارح)

ه. الخبر: قولٌ يحتمل الصدق والكذب

............................................................................

 

و. العبادة: مثل الصلاة والصوم والحجّ

............................................................................

 

ز. الطهارة: الوضوء والغسل والتيمّم

............................................................................

 

ح. الحصان: صاهل

............................................................................

 

 

218


171

الدرس الثامن عشر: المعرِّف (القول الشارح)

أسئلة حول الدرس

1. اشرح الأقسام الأربعة للتعريف، وأعطِ مثالًا لكلّ قسم.

2. لِمَ صار التعريف المشتمل على الجنس والفصل القريبَين تامًّا؟

3. ما الفرق بين التعريف بالمثال والتعريف بالاستقراء؟

 

للتوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان، انظر:

1. بخيت، علم المنطق المفاهيم والمصطلحات، مصدر سابق، قسم التصوُّرات، ج1، ص221-235، 243-251.

 

2. خير الدين، علم المنطق، مصدر سابق، ص49-53.

 

3. خير الدين، القواعد المنطقيَّة دروس بيانيَّة في شرح المنطق وتطبيقاته، مصدر سابق، ص169-171، 174-176.

 

4. صليبا، جميل، عيَّاد، كامل، المنطق وطرائق العلم العامَّة، دمشق، مكتبة العلوم والآداب لصاحَبيها طواحني وهاشمي، 1367ه/1948م، لا.ط، ص70-72، 73-74.

 

5. الفضليّ، مذكّرة المنطق، مصدر سابق، ص77-79.

 

6. المطهَّري، المنطق، مصدر سابق، ص46-47.

 

7. المظفَّر، المنطق، مصدر سابق، ص97-103.

 

 

 

219

 


172

الدرس التاسع عشر: شروط المعرِّف

الدرس التاسع عشر

شروط المعرِّف

 

 

أهداف الدرس

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتبيَّن شروط التعريف الصحيح.

2. يحدِّد ما لا يصحّ التعريف به.

 

 

220


173

الدرس الثامن عشر: المعرِّف (القول الشارح)

تمهيد

بعد أن بيَّنّا، في الدرس السابق، أهمِّيَّة مبحث المعرِّف ومكانته في علم المنطق، والغرض منه وأقسامه، يصل بنا الكلام إلى الحديث عن شروطه، تلك الشروط التي إذا لم تُراعَ لم يكن التعريف صحيحًا، ولَمَا حصل الغرض منه، ولَمَا تميَّز المعرَّف من غيره، ولَظَلَّ اختلاطُه بغيره من المفاهيم قائمًا، والوقوع في الخطأ والاضطراب محتمَلًا جدًّا.

 

شروط المعرِّف

1. الشرط الأوَّل: أن يكون المعرِّف مساويًا للمعرَّف في الصدق، أي يجب أن يكون المعرِّف جامعًا مانعًا.

ومعنى كونه "مانعًا" أنَّه لا يشمل إلّا أفراد المعرَّف، فيمنع من دخول أفراد غيره فيه.

 

ومعنى كونه "جامعًا" أنّه يشمل أفراد المعرَّف جميعًا، لا يشذّ منها فرد واحد.

 

وبناءً على هذا الشرط، نستنتج أنَّه لا يجوز التعريف:

- بالأعَمّ: لأنّ الأعَمّ لا يكون مانعًا، كتعريف الإنسان بأنّه (حيوان يمشي على رِجلَين)، فإنّ عددًا كبيرًا من الحيوانات يمشي على رِجلين، فهل كلُّ ما يمشي على رِجلَين إنسان؟

 

- بالأخَصّ: لأنَّ الأخَصَّ لا يكون جامعًا، كتعريف الإنسان بأنَّه (حيوان متعلِّم)، فإنّه ليس كلُّ ما صَدَق عليه (الإنسان) هو (متعلِّم)، فبعضُ الإنسان متعلِّم وبعضه غير متعلِّم.

 

- بالمبايِن: مثل تعريف الإنسان بأنّه: (حيوان صاهل)، وذلك لأنّ المتباينَين لا يصحّ حَمْلُ أحدهما على الآخر، ولا يتصادقان أبدًا، فلا يكون التعريف بالمباين جامعًا ولا مانعًا.

 

 

221


174

الدرس التاسع عشر: شروط المعرِّف

2. الشرط الثاني: أن يكون المعرِّف أجلى مفهومًا وأعرف عند المخاطَب من المعرَّف، وإلَّا فلا يتمّ الغرض من شرح مفهومه.

 

وعليه، فلا يجوز التعريف:

- بالمساوي في الظهور والخفاء: كتعريف الفرد بأنّه (عددٌ ينقص عن الزوج بواحد)، فإنّ الزوج ليس أوضح من الفرد ولا أخفى، بل هما متساويان في المعرفة. وكتعريف أحد المتضايفَين بالآخر، والإنسانُ إنّما يفهم المتضايفَين معًا، لا أنّ أحدهما قبل الآخر، كتعريف الأب بأنّه (والد الابن)، وكتعريف الفوق بأنّه (مقابل تحت).

 

- بالأخفى معرفة: كتعريف النور بأنَّه (قوَّة تشبه الوجود).

3. الشرط الثالث: ألّا يكون المعرِّفُ عينَ المعرَّفِ في المفهوم، كتعريف الحركة بـ(الانتقال)، والإنسان بـ(البشر) تعريفًا حقيقيًّا غير لفظيّ، بل يجب تغايرهما إمّا بالإجمال والتفصيل كما في الحدّ التامّ، أو بالمفهوم كما في التعريف بغيره.

 

ولو صحّ التعريف بعين المعرَّف، لوجب أن يكون معلومًا قبل أن يكون معلومًا، ولَلَزِم أن يتوقّف الشيءُ على نفسه، وهذا محال. ويُسمّون مثل هذا بـ"نتيجة الدور"، والذي سيأتي بيانه.

 

4. الشرط الرابع: أن يكون خاليًا من الدور:

وصورة الدور في التعريف: أن يكون المعرِّف مجهولًا في نفسه، ولا يُعرَف إلّا بالمعرَّف، فبينما أنّ المقصود من التعريف هو تفهيم المعرَّف بواسطة المعرِّف، وإذ بالمعرِّف في الوقت نفسه، إنّما يُفهَم بواسطة المعرَّف، فينقلب المعرَّف معرِّفًا. وهذا محال، لأنَّه يَؤُول إلى أن يكون الشيء معلومًا قبل أن يكون معلومًا، أو إلى أن يتوقّف الشيءُ على نفسه.

 

والدور يقع تارةً بمرتبةٍ واحدةٍ، ويُسمّى "دورًا مصرَّحًا"، ويقع أخرى بمرتبتَين أو أكثر، ويُسمّى "دورًا مُضمَرًا".

 

- الدور المصرَّح: مثل تعريف الشمس بأنّها (كوكب يطلع في النهار)، والنهار لا يُعرَّف إلَّا بالشمس، إذ يُقال في تعريفه: (النهار: زمان تطلع فيه الشمس)، فتوقّفَت معرفةُ

 

 

222


175

الدرس التاسع عشر: شروط المعرِّف

الشمس على معرفة النهار، ومعرفةُ النهار - حسب الفرض - متوقِّفةٌ على معرفة الشمس، والمتوقِّفُ على المتوقِّفِ على شيءٍ متوقِّفٌ على ذلك الشيء، فينتهي الأمر آخِرًا إلى أن تكون مَعرفةُ الشمسِ متوقِّفةٌ على معرفةِ الشمس.

 

الشمسُ كوكبٌ يطلُعُ في النهارِ.

 

النهارُ زمانٌ تطلُعُ فيه الشمسُ.

 

- الدور المُضمَر: مثل تعريف الاثنَين بأنّهما (زوج أوّل)، والزوج يُعرَّف بأنّه (منقسمٌ بمتساويَين)، والمتساويان يُعرّفان بأنّهما (شيئان أحدُهما يُطابق الآخر)، والشيئان يُعرَّفان بأنّهما (اثنان)، فرجع الأمر آخِرًا إلى تعريف الاثنين بـ(الاثنين).

 

وهذا دورٌ مُضمَرٌ في ثلاث مراتب، لأنَّ تعدُّدَ المراتب باعتبار تعدُّد الوسائط، حتّى تنتهي الدورة إلى المعرَّف الأوَّل نفسه.

 

والوسائط في هذا المثال ثلاثٌ: الزوج، المتساويان، الشيئان.

الاثنان زوج أوَّل.

 

الزوج منقسم بمتساويَين.

 

المتساويان شيئان أحدهما يطابق الآخر.

 

الشيئان اثنان.

 

5. الشرط الخامس: أن تكون الألفاظ المستعمَلَة في التعريف ناصعةً واضحةً لا إبهام فيها، فلا يصحّ استعمال الألفاظ الوحشيَّة والغريبة، ولا الغامضة، ولا المشتركة، ولا المجازات بدون القرينة، أمّا مع القرينة فلا بأس، كما قدّمنا ذلك في بحث المشترَك والمجاز، وإن كان يحسن -على كلّ حال- اجتناب المجاز في التعاريف والأساليب العلميَّة.

 

وهذا الشرط -كما هو واضح- مختَصٌّ بمقام إيصال التعريف إلى الغير، ولا يرتبط بمقام وصولِ الشخصِ نفسِه بفكره إلى المجهول التصوُّريّ بواسطة المعلوم التصوُّريّ.

 

 

 

223


176

الدرس التاسع عشر: شروط المعرِّف

المفاهيم الرئيسة

 

- شروط المعرِّف:

•         الأوَّل: أن يكون المعرِّف مساويًا للمعرَّف في الصدق، أي يجب أن يكون المعرِّف جامعًا مانعًا. وعليه، لا يصحّ التعريف بالأعَمّ ولا بالأخَصّ ولا بالمبايِن.

 

•         الثاني: أن يكون المعرِّف أجلى مفهومًا وأَعرَفَ عند المخاطَب من المعرَّف. وعليه، لا يصحّ التعريف بما هو مساوٍ للمعرَّف في الظهور والخفاء، ولا بما هو أخفى منه.

 

•         الثالث: ألّا يكون المعرِّف عينَ المعرَّف في المفهوم.

 

•         الرابع: أن يكون خاليًا من الدور.

 

وصورة الدور في التعريف: أن يكون المعرِّف مجهولًا في نفسه، ولا يُعرَف إلّا بالمعرَّف.

 

والدور يقع تارةً بمرتبةٍ واحدةٍ، ويُسمّى "دورًا مصرّحًا"، ويقع أخرى بمرتبتَين أو أكثر، ويُسمّى "دورًا مُضمَرًا".

 

•         الخامس: أن تكون الألفاظ المستعملة في التعريف ناصعةً واضحةً لا إبهام فيها، وعليه، لا يصحّ التعريف بالألفاظ الوحشيَّة، ولا الغريبة، ولا المشتركات اللفظيَّة أو المجازات من دون قرينة.

 

 

 

224


177

الدرس التاسع عشر: شروط المعرِّف

تمارين

1. بيِّن الخطأ في التعاريف الآتية:

الطائر: حيوان يبيض

............................................................................

 

الماء: سائل مفيد

............................................................................

 

اللبن: طعام مغذٍّ

............................................................................

 

التحت: الذي فوقه شيء

............................................................................

 

الوجود: الثابت العين

............................................................................

 

العلم: عدم الجهل

............................................................................

 

 

225


178

الدرس التاسع عشر: شروط المعرِّف

أسئلة حول الدرس

1. اذكر شروط التعريف.

2. لماذا لا يصحّ التعريف بـ: الأعَمّ، الأخَصّ، المبايِن؟

3. عرِّف الدور، وبيّن الفرق بين قسمَيه (المصرَّح والمضمَر).

 

للتوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان، انظر:

1. بخيت، علم المنطق المفاهيم والمصطلحات، قسم التصوُّرات، مصدر سابق، ج1، ص236-243.

2. خَنْدان، المنطق التطبيقيّ منهج جديد في توظيف أصول علم المنطق، مصدر سابق، ص86-117.

3. خير الدين، علم المنطق، مصدر سابق، ص53-55.

4. خير الدين، القواعد المنطقيَّة دروس بيانيَّة في شرح المنطق وتطبيقاته، مصدر سابق، ص176-177، 180.

5. الفضليّ، مذكّرة المنطق، مصدر سابق، ص79-80.

6. المظفَّر، المنطق، مصدر سابق، ص103-105.

7. الوائليّ، معالم المنطق، مصدر سابق، ص84-87.

 

 

226


179

الدرس العشرون: القِسمة (1): أساس القِسمة وأصولُها

الدرس العشرون

القِسمة (1):

 

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلم مه نهاية هذا الدرس أن:

أساس القِسمة وأصولُها

1. يحدِّد المراد من القِسمة.

2. يتعرَّف فوائد القِسمة.

3. يحدِّد فائدة القِسمة للمنطقيّ.

4. يفهم أصول القِسمة الصحيحة وقواعدها.

 

 

227


180

الدرس العشرون: القِسمة (1): أساس القِسمة وأصولُها

تمهيد

انتهينا في الدروس السابقة إلى أنّ التعريف قد يكون بالحدود، وقد يكون بالرسوم، والغرض من التعريف هو تحصيل التصوُّر للشيء المعرَّف. ولَمَّا كان تحصيل التصوُّر لا يكون إلّا بالوقوف على حقيقة الشيء وكنهه، أو تمييزه ممّا عداه من الأشياء، فمن المناسب أن نبحث عن الطُرُق التي يُستَعان بها لتحقيق هذا الغرض، وتُعَدّ القِسمة من أهمّ وسائل الوصول لهذا الغرض.

 

تعريف القِسمة

ما هو التعريف الحقيقيّ لـ "القِسمة"؟

 

تجدر الإشارة إلى أنَّه ليس للقِسمة تعريفٌ حقيقيّ، بل كلّ ما يُذكَر من تعاريف لها إنَّما يدخل في التعريف اللفظيّ الذي من شأنه أن يُبيِّن معنى اللفظ لا أكثر. ومن التعاريف اللفظيَّة للقسمة، تعريفها بأنَّها: "تجزئة الشيء وتفريقه إلى أمورٍ متباينة".

 

وأمَّا الوجه في عدم وجود تعريف حقيقيّ لـ"القِسمة"، فلأنَّ القِسمة من المفاهيم البديهيَّة الغنيَّة عن التعريف، وما يحتاج إلى التعاريف الحقيقيَّة هي خصوص التصوُّرات النظريَّة التي يُحتاج إلى كسبٍ ونظرٍ وفكرٍ لتصوُّرها، لا المفاهيم والتصوُّرات الضروريَّة البديهيَّة، فهي مستغنية عن التعريف لحصولها بالبداهة، ومنها مفهوم القِسمة.

 

أركان القِسمة

يُسمَّى الشيء الذي يُراد تقسيمُه: "مَقْسَمًا".

وكلُّ واحد من الأمور التي انقسَم إليها يُسَمّى بالقياس إلى المقسم نفسه: "قِسْمًا"،

 

 

228

 


181

الدرس العشرون: القِسمة (1): أساس القِسمة وأصولُها

وبالقياس إلى غيره من الأقسام يُسمّى: "قَسِيمًا".

 

فإذا قسَّمْنا (العلم) إلى (تصوُّرٍ وتصديق) مثلًا، فالعلم: مَقْسَم، والتصوُّر: قِسْمٌ من العلم وقسيمٌ للتصديق، وهكذا التصديق قِسْمٌ وقسيمٌ.

 

فائدة القِسمة

يمكن ذكر أكثر من فائدة للقسمة، منها:

1. في تحصيل الحدود والرسوم: فقد تأسَّسَت حياة الإنسان كلّها على القِسمة، وهي من الأمور الفطريَّة التي نشأت معه على الأرض، فأخذ في تقسيم (الأشياء) إلى (سماويَّة وأرضيَّة)، و(الموجودات الأرضيَّة) إلى (حيواناتٍ وأشجارٍ وأنهارٍ وأحجارٍ وجبالٍ ورمالٍ وغيرها). وهكذا ظلَّ يُقسِّم ويُقسِّم، ويُميِّز معنى من معنى، ونوعًا عن نوع، حتّى تحصل له مجموعة من المعاني والمفاهيم. وما زال البشر على ذلك حتّى استطاع أن يضع لكلِّ واحدٍ من المعاني التي توصَّل إليها في التقسيم، لفظًا من الألفاظ، ولولا القِسمة لَمَا تكثَّرَت عنده المعاني ولا الألفاظ.

 

ثمّ استعان بالعلوم والفنون على تدقيق تلك الأنواع وتمييزها تمييزًا ذاتيًّا. ولا يزال العلم عند الإنسان يكشف له كثيرًا من الخطأ في تقسيماته وتنويعاته، فيُعدّلها، ويكشف له أنواعًا لم يكن قد عرفها في الموجودات الطبيعيّة، أو الأمور التي يخترعها منها ويؤلِّفها، أو مسائل العلوم والفنون. وسيأتي كيف نستعين بالقِسمة على تحصيل الحدود والرسوم وكسبِها، بل كلّ حدٍّ إنّما هو مؤسَّسٌ من أوّل الأمر على القِسمة، وهذا أهمُّ فوائد القِسمة.

 

2. في تدوين العلوم: وتنفع القِسمة في تدوين العلوم والفنون، لتجعلها أبوابًا وفصولًا ومسائل متميّزة، ليستطيع الباحث أن يلحق ما يعرض عليه من القضايا في بابها، بل العلم لا يكون علمًا ذا أبوابٍ ومسائل وأحكام إلّا بالقِسمة. فمدوِّن علم النحو -مثلًا- لا بدَّ من أن يُقسِّم (الكلمة) أوَّلًا، ثمَّ يُقسِّم (الاسم) -مثلًا- إلى (نكرة ومعرفة)، و(المعرفة) إلى أقسامها، ويُقسِّم (الفعل) إلى (ماضٍ ومضارع وأمر)، وكذلك (الحروف) وأقسام كلّ واحد منها، ويذكر لكلّ قِسمٍ حُكمَه المختصّ به... وهكذا في جميع العلوم.

 

229


182

الدرس العشرون: القِسمة (1): أساس القِسمة وأصولُها

3. في الجانب الاقتصاديّ والاجتماعيّ من حياة الإنسان: فالتاجر أيضًا يلتجىء إلى القِسمة في تسجيل دفتره وتصنيف أمواله، ليسهل عليه استخراج حساباته ومعرفة ربحه وخسارته. وكذلك باني البيت، ومركّب الأدوات الدقيقة يستعين على إتقان عمله بالقِسمة. والناس من القديم قسَّموا الزمن إلى قرون وسنين وأشهر وأيّام وساعات ودقائق، لينتفعوا بأوقاتهم ويعرفوا أعمارهم وتاريخهم.

 

4. في المجال التعليميّ والتربويّ: فبواسطة القِسمة، استعان علماء التربية على توجيه طلّاب العلوم، فقسَّموا (المدارس) إلى (ابتدائيّة وثانويّة وعالية)، ثمّ كلّ مدرسة إلى صفوف، ليضعوا لكلّ صفّ ومدرسة منهاجًا يُناسبه من التعليم.

 

وهكذا تدخل القِسمة في كلِّ شأنٍ من شؤون حياتنا العلميَّة والاعتياديَّة، ولا يستغني عنها إنسان. ومَهَمَّتنا منها هنا أن نعرف كيف نستعين بها على تحصيل الحدود والرسوم.

 

أصول القِسمة

والقِسمة الحقيقيّة والمفيدة لا بدّ من أن تقوم على أُسُسٍ وأصول، ولا تُعَدُّ صحيحةً كيفما فُرِضَت، لذلك نحن ذاكرون هنا أصول القِسمة على النحو الآتي:

 

1. لا بدّ من ثمرة: لا تحسن القِسمة إلّا إذا كان للتقسيم ثمرة نافعة في غرض المقسِّم، بأن تختلف الأقسام في الميزات، والأحكام المقصودة في موضع القِسمة. فإذا قسّم النحويّ الفعل إلى أقسامه الثلاثة، فلأنّ لكلّ قسم حُكمًا يختصّ به. أمّا إذا أراد أن يُقسِّم الفعل الماضي إلى مضموم العين ومفتوحها ومكسورها، فلا يحسن منه ذلك، لأنّ الأقسام كلّها لها حُكم واحد في علم النحو، هو البناء، فيكون التقسيم عبثًا ولغوًا، بخلاف مدوِّن علم الصرف، فإنّه يصحّ له مثل هذا التقسيم، لانتفاعه به في غرضه من تصريف الكلمة.

 

2. لا بدّ من تبايُن الأقسام: ولا تصحّ القِسمة إلّا إذا كانت الأقسام متباينة غير متداخلة، لا يصدق أحدُها على ما صدق عليه الآخر. ويشير إلى هذا الأصل تعريف القِسمة نفسه[1]، فإذا قسّمتَ (المنصوب من الأسماء) إلى: (مفعولٍ، وحالٍ، وتمييزٍ، وظرفٍ)،

 


[1] حيث تقدّم أنّ قِسمة الشيء تجزئته وتفريقه إلى أمور متباينة.

 

 

230

 


183

الدرس العشرون: القِسمة (1): أساس القِسمة وأصولُها

فهذا التقسيم باطل، لأنّ (الظرف) من أقسام (المفعول)، فلا يكون قسيمًا له. ومثل هذا ما يقولون عنه: "يلزم منه أن يكون قِسمُ الشيء قسيمًا له"، وبطلانه من البديهيَّات. ومثل هذا لو قسَّمنا (سكّان لبنان) إلى (علماء وجهلاء، وأغنياء وفقراء، ومرضى وأصحّاء)، فإنَّها متداخلة في ما بينها، ولم تتباين الأقسام.

 

ويتفرّع من هذا الأصل أمور:

أ. أنّه لا يجوز أن تجعل قِسمَ الشيءِ قسيمًا له -كما تقدّم-، مثل أن تجعل (الظرف) قسيمًا لـ(لمفعول).

 

ب. ولا يجوز أن تجعل قسيم الشيء قِسمًا منه، مثل أن تجعل (الحال) قِسمًا من (المفعول).

 

ج. ولا يجوز أن تُقسِّم الشيء إلى نفسه وإلى غيره.

 

د. لا بدَّ من أساسٍ واحد للقِسمة: فيجب أن يُلاحَظ في المقسَم جهةٌ واحدة، وباعتبارها يكون التقسيم، فإذا قسّمنا كتب المكتبة، فلا بدّ من أن نؤسّس تقسيمها: إمّا على أساس العلوم والفنون، وإمَّا على أسماء المؤلّفين، وإمَّا على أسماء الكتب، أمّا إذا خلطنا بينها، فالأقسام تتداخل، ويختلّ نظام الكتب، مثل ما إذا خلطنا بين أسماء الكتب والمؤلّفين، فنُلاحظ في حرف الألف -مثلًا- اسم الكتاب تارةً، واسم المؤلِّف أخرى.

 

ه. أن تكون جامعة مانعة: ويجب في القِسمة أن يكون مجموع الأقسام مساويًا للمَقسَم، فتكون جامعة مانعة: جامعة لجميع ما يمكن أن يدخل فيه من الأقسام -أي حاصرة لها، لا يشذّ منها شيء-، ومانعة من دخول غير أقسامه فيه.

ولا تكون جامعة مانعة إلّا إذا دارت عمليَّة التقسيم بين النفي والإثبات، وتُسمَّى "القِسمة العقليَّة".

 

 

231

 


184

الدرس العشرون: القِسمة (1): أساس القِسمة وأصولُها

المفاهيم الرئيسة

- قِسمة الشيء عبارة عن تجزئته وتفريقه إلى أمور متباينة. وهي من المعاني البديهيَّة الغنيّة عن التعريف.

 

- يُسمَّى الشيء موضع القِسمة -أي الذي تجري تجزئته وتفريقه إلى أمور متباينة-: "مَقْسمًا"، وكلّ واحد من الأمور التي انقسم إليها يُسمَّى -بالقياس إلى الْمَقسَم نفسه: "قِسْمًا"، وبالقياس إلى غيره من الأقسام: "قَسِيْمًا".

 

- يمكن القول إنَّه لا يخلو شأن من شؤون حياة الإنسان إلَّا ودخلته القِسمة وكان لها دور أساس وبارز فيه. ولكن ما يهمّنا من القِسمة في علم المنطق، هو كيفيَّة تحصيل الحدود والرسوم منها.

 

- للقِسمة أصولٌ لا بدّ من مراعاتها، وهي:

· الأصل الأوَّل: لا بدّ من ثمرة نافعة في غرض المقسِّم، بأن تختلف الأقسام في الميزات والأحكام المقصودة في موضع القِسمة.

 

· الأصل الثاني: لا بدّ من تبايُن الأقسام، بأن لا يَصدُق أحدُها على ما صدق عليه الآخر.

 

ويتفرَّع من هذا الأصل أمور:

o أنَّه لا يجوز أن يُجعَل قِسمُ الشيء قسيمًا له.

o ولا يجوز أن يُجعَل قَسيمُ الشيء قِسمًا منه.

o ولا يجوز أن يُقسَّم الشيءُ إلى نفسه وإلى غيره.

· الأصل الثالث: اعتماد أساس واحد للقسمة يكون التقسيم باعتباره.

· الأصل الرابع: أن تكون القِسمة جامعة مانعة، بأن يكون مجموع الأقسام مساويًا للمَقْسَم.

 

 

232

 


185

الدرس العشرون: القِسمة (1): أساس القِسمة وأصولُها

تمارين

1. عيّن القِسم والمقسَم في الكلمات الآتية:

أ. الصفات الذاتيَّة، الخالقيَّة، العِلْم، الصفات الفعليَّة، الرازقيَّة، القدرة، الحياة، التكلُّم.

 

ب. واجب، مستحبّ، الحُكم الشرعيّ، مكروه، حرام، مباح.

 

ج. الاسم، الفعل، الحرف، الكلمة.

 

د. الظاهر، المؤوَّل، اللفظ القرآنيّ، المجمل، المتشابه، النصّ.

 

          المَقسَم                                                    الأقسام

أ.        .............                           .......................................

ب.      .............                           .......................................

ج.       .............                           .......................................

د.        .............                           .......................................

 

2. علِّل السبب في كون التقسيمات الآتية تقسيمات خاطئة، ذاكرًا الأصل الذي وقع فيه الخلل:

أ. تقسيم أفراد المجتمع إلى: تلامذة المدارس، وطلبة الجامعات، والخرِّيجين.

..............................................................................

..............................................................................

..............................................................................

 

ب. تقسيم أفراد المجتمع إلى: أمِّيّ، ومتعلِّم، ومكتبات.

..............................................................................

..............................................................................

..............................................................................

 

 

 

233


186

الدرس العشرون: القِسمة (1): أساس القِسمة وأصولُها

تقسيم أفراد المجتمع إلى: تلامذة المدارس، وطلبة الجامعات، والعازفين عن الدراسة، والخرِّيجين، ومعلِّمي المدارس، وأساتذة الجامعات.

..............................................................................

..............................................................................

..............................................................................

 

 

د. تقسيم أفراد المجتمع إلى: متعلِّمين، وأمِّيِّين، ومَن لم يتعلَّم.

..............................................................................

..............................................................................

..............................................................................

 

 

ه. تقسيم أفراد المجتمع إلى: متعلِّمين، وأمِّيِّين، ومعلِّمين.

..............................................................................

..............................................................................

..............................................................................

 

 

و. تقسيم أفراد المجتمع إلى: متعلِّمين، وأمِّيِّين، ومتسوِّلين.

..............................................................................

..............................................................................

..............................................................................

 

 

 

ز. تقسيم أفراد المجتمع إلى: ما لا تحتوي أسماؤهم على نقط، وما تحتوي أسماؤهم على نقطة واحدة، وما تحتوي أسماؤهم على نقطتَين، وما تحتوي أسماؤهم على أكثر من نقطتين.

..............................................................................

..............................................................................

..............................................................................

 

234

 


187

الدرس العشرون: القِسمة (1): أساس القِسمة وأصولُها

أسئلة حول الدرس

1. عرّف القِسمة.

2. ما هي الفائدة المرجوّة من القِسمة؟

3. بيّن أصول القِسمة.

 

 

236


188

الدرس الحادي والعشرون: القِسمة (2)

الدرس الحادي والعشرون

القِسمة (2):

أنواع القِسمة وأساليبها

 

 

أهداف الدرس

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرَّف أنواع القِسمة، والفرق بينها.

2. يعدِّد أنحاء القِسمة المنطقيَّة.

3. يتبيَّن أسلوبَي القِسمة الصحيحة.

4. يدرك الوجه في صحَّة التعريف بالقِسمة.

 

237

 

 


189

الدرس الحادي والعشرون: القِسمة (2)

تمهيد

عرضنا في الدرس السابق، المراد من القِسمة، وأهمِّيّتها في حياة الإنسان، ودخولها في كلِّ شأنٍ من شؤون حياته، وحدَّدنا فائدة المنطقيّ منها، ألَا وهي تحصيل الحدود والرسوم، ووقفنا على أصول القِسمة الصحيحة وقواعدها. وفي ما يأتي، نستعرض أنواع القِسمة، لنعرف النافعة منها في تحصيل الحدود والرسوم وغير النافعة، وصولًا إلى الحديث عن كيفيَّة استفادة التعريف.

 

أنواع القِسمة

تارةً تكون القِسمة للشيء المركَّب من أجزاء، وتارةً تكون للشيء الكلِّيّ الذي يصدق على كثيرين، ويُعبَّر عن النحو الأوَّل من القِسمة بـ"القِسمة الطبيعيَّة"، ويُعبَّر عن النحو الثاني بـ"القِسمة المنطقيَّة".

 

1. القِسمة الطبيعيَّة، أو قسمة الكلّ إلى أجزائه:

هي ما يكون المَقسَم فيها واحدًا من المركّبات الخارجيّة أو العقليَّة، على أن يكون لحاظ التقسيم هو تعداد ما يتركَّب منه ذلك المَقسَم من عناصر وأجزاء.

 

والقِسمة الطبيعيَّة على أنواعٍ أيضًا، بحسب نوع التحليل:

أ. فتارةً يكون تقسيم الكلّ إلى أجزائه بحسب التحليل العقليّ، كتقسيم (الإنسان) إلى جزأَيه العقليَّين: (الحيوان والناطق)، فإنَّ هذا التقسيم هو نتيجة تحليل العقل مفهوم الإنسان إلى مفهومَين: مفهوم الجنس الذي يشترك معه به غيره، ومفهوم الفصل الذي

 

238


190

الدرس الحادي والعشرون: القِسمة (2)

ويتميَّز به من غيره من الأنواع. وتُسَمَّى الأجزاء في هذه القِسمة بـ"الأجزاء العقليَّة".

 

ب. وتارةً يكون تقسيم الكلّ إلى أجزائه بحسب التحليل الطبيعيّ، كقسمة (الماء) إلى عنصرَين: (الأوكسجين والهيدروجين). ومن ذلك أيضًا قسمة كلّ موجود إلى عناصره الأوَّليَّة البسيطة التي يتركَّب منها. وتُسمَّى الأجزاء في هذا التقسيم بـ"الأجزاء الطبيعيَّة أو العنصريَّة".

 

ج. وتارةً يكون تقسيم الكلّ إلى أجزائه بحسب التحليل الخارجيّ، كقسمة (السرير) إلى (الخشب والمسامير)، وقسمة (البيت) إلى (الآجر والجصّ والخشب والحديد)، وهكذا. وتُسمَّى الأجزاء، حينئذٍ، بـ"الأجزاء الخارجيّة".

 

2. القِسمة المنطقيَّة، أو قسمة الكلّيّ إلى جزئيّاته:

وهي تقسيم الكلِّيّ -لا الكلّ- إلى مصاديقه، أي إلى ما ينطبق عليه من أشياء. فالمَقسَم في القِسمة المنطقيَّة هو الكلِّيّ الذي يعني المفهوم القابل للصدق على كثيرين. وليس الغرض في القِسمة المنطقيَّة تحليل مكوِّنات الكلِّيّ -كما هو الحال في القِسمة الطبيعيَّة- وإنَّما الغرض هو تحديد ما ينطبق عليه الكلِّيّ من أفراد ومصاديق، وذلك كقسمة (المفرد) -مثلًا- إلى (اسمٍ وكلمةٍ وأداة)، وكقسمة (الحيوان) إلى (الإنسان والسباع والطيور)، فالحيوان لا يتكوَّن من هذه الثلاثة، وإنَّما ينطبق ويصدق عليها.

 

فوارق بين القِسمة الطبيعيَّة والقِسمة المنطقيَّة

من خلال تعريفهما والتعمُّق في حقيقة كلٍّ من القِسمَتَين، تبرز فوارق واضحة بينهما، منها:

الفارق الأوَّل: ويُستَنتَج من تعريفهما، وهو أنَّ التقسيم في القِسمة الطبيعيَّة يكون بمعنى التحليل لمكوِّنات المركَّب وأجزائه،المعبَّر عنه بـ"الكلّ"، وأمَّا التقسيم في القِسمة المنطقيَّة فهو بمعنى تعداد ما ينطبق عليه الكلِّيّ من أفراد ومصاديق.

 

الفارق الثاني: ويُستَنتَج من تعريفهما أيضًا، وهو أنَّ المَقسَم في القِسمة الطبيعيَّة لا بدَّ

 

239

 


191

الدرس الحادي والعشرون: القِسمة (2)

يكون مركَّبًا، وإن لم يكن كلِّيًّا، وأمَّا المَقسَم في القِسمة المنطقيَّة فلا بدَّ أن يكون كلِّيًّا، وإن كان بسيطًا غير مركَّبٍ من أجزاء.

 

الفارق الثالث: هو أنَّ المَقسَم في القِسمة المنطقيَّة يجوز حملُه على الأقسام، فتقول مثلًا: الاسم مفرد. أمَّا في القِسمة الطبيعيَّة فلا يجوز حَملُ المَقسَم على الأقسام، إلَّا ما كان منها بحسب التحليل العقليّ، فلا يجوز أن تقول مثلًا: الجدار بيت.

أنحاء القِسمة المنطقيَّة

لا بدَّ في القِسمة المنطقية من فرضِ جهةِ وحدةٍ جامعةٍ في المَقسَم، تشترك فيها الأقسام، وهذه الجهة الجامعة إمّا أن تكون مقوِّمةً للأقسام -بأن كانت جنسًا أو نوعًا لها- وإمّا أن تكون خارجة عنها.

 

1. فإن كانت مقوِّمةً للأقسام، فلها ثلاث صور:

أ. أن يكون المَقسَم جنسًا، ويكون تقسيمُه باعتبار الفصول المقوِّمة للأقسام، وحينئذٍ، يتعيَّن في الأقسام أن تكون أنواعًا، كقسمة (المفرد) إلى (الاسم والكلمة والأداة). ويُسمَّى هذا التقسيم بـ"التنويع".

 

ب. أن يكون المَقسَم جنسًا أو نوعًا، ويكون تقسيمُه باعتبار العوارض العامّة اللاحقة للمَقسَم، وذلك كتقسيم (الإنسان) إلى (عالمٍ وجاهلٍ)، فالعالِميَّة والجاهِليَّة عوارض عامّة تلحق الإنسان دون أن تكون مقوِّمةً له. ويُسمَّى هذا التقسيم بـ"التصنيف".

 

ج. أن يكون المَقسَم جنسًا أو نوعًا أو صنفًا، ويكون التقسيم بلحاظ العوارض الشخصيَّة التي تلحق الأقسام، وتكون الأقسام عندها أفرادًا، لأنَّ العوارض الشخصيَّة توجب التفريد. ويُسمّى التقسيم -حينئذٍ-"تفريدًا"، ومثاله: تقسيم (الإنسان) إلى (محمَّد وعليّ وجعفر وفاطمة وزينب).

 

2. وإن لم تكن مقوِّمة للأقسام، بل خارجةً عنها، فحينئذٍ يتعيَّن كونها صفة عامَّة ومشتركة تقبل الصدق على أشياء متعدِّدة، فتكون هذه الأشياء مصاديق لتلك الصفة أو الجهة

 

 

240


192

الدرس الحادي والعشرون: القِسمة (2)

العامَّة. كـ(السواد) مثلًا، فإنَّه مَقسَمٌ لأشياء متعدِّدة، كـ(التمر والغراب والفحم). وكـ(البياض) مثلًا، فإنَّه مَقسَم لأشياء متعدِّدة، كـ(الثلج والقطن وغيرهما).

 

أساليب القِسمة الصحيحة

لأجل أن نُقسِّم الشيء قسمةً صحيحةً، لا بدَّ من استيفاء جميع ما له من الأقسام -كما تقدّم في الأصل الرابع- بمعنى أن تكون القِسمة حاصرة لجميع جزئيَّاته أو أجزائه. ولذلك أسلوبان:

1. القِسمة الثنائيَّة: وهي طريقة الترديد بين النفي والإثبات. والنفي والإثبات -وهما نقيضان- لا يرتفعان (أي لا يكون لهما قسم ثالث) ولا يجتمعان (أي لا يكونان قسمًا واحدًا)، فلا محالة تكون هذه القِسمة ثنائيَّة، أي ليس لها أكثر من قِسمَين، وتكون حاصرة جامعة مانعة.

 

- مثال1: كتقسيم (الحيوان) إلى (ناطق وغير ناطق)، و(غير الناطق) يدخل فيه كلّ ما يُفرَض من باقي أنواع الحيوان غير الإنسان، لا يشذّ عنه نوع.

 

- أمثلة أخرى: كتقسيم (الطيور) إلى (جارحة وغير جارحة)، و(الإنسان) إلى (عربيّ وغير عربيّ)، و(العالِم) إلى (فقيه وغير فقيه)، وهكذا.

 

وهذه القِسمة الثنائيَّة إنَّما تنفع على الأكثر في الشيء الذي لا تنحصر أقسامه وإن كانت مطوَّلة، لأنَّك تستطيع بها أن تحصر كلّ ما يمكن أن يُفرَض من الأنواع أو الأصناف بكلمة "غَيرِه".

 

وتنفع هذه القِسمة - أيضًا - فيما إذا أُريدَ حصرُ الأقسام حصرًا عقليًّا -كما يأتي- وتنفع -أيضًا- في تحصيل الحدّ والرسم، وسيأتي بيان ذلك.

 

2. القِسمة التفصيليَّة: وذلك بأن تُقسِّم الشيء -ابتداءً- إلى جميع أقسامه المحصورة، كما لو أردتَ أن تُقسِّم (الكلّيّ) مباشرةً إلى (نوع وجنس وفصل وخاصّة وعَرَض عامّ).[1]


 


[1] في بيان القِسمة العقليّة التفصيليّة.

 

241


193

الدرس الحادي والعشرون: القِسمة (2)

والقِسمة التفصيليّة نوعان: عقليَّة واستقرائيَّة:

أ. العقليَّة: وهي التي يمنع العقلُ أن يكون لها قِسم آخر، وذلك كتقسيم (الكلمة) -مثلًا- إلى (ما دلّ على الذات، أو لا)، ثمَّ تقسيم طرف النفي إلى (ما دلّ على الزمان، أو لا). فتحصل بذلك ثلاثة أقسام: (ما دلّ على الذّات وهو الاسم، وما دلّ على الزمان وهو الفعل، وما لم يدلّ على الذات ولا الزمان وهو الحرف).

 

ولا تكون القِسمة عقليّة إلّا إذا بُنِيَت على أساس النفي والإثبات (أي على أساس القِسمة الثنائيّة)، فلأجل إثبات أنّ القِسمة التفصيليَّة عقليَّة، لا بدّ من إرجاعها إلى القِسمة الثنائيّة الدائرة بين النفي والإثبات.

 

ب. الاستقرائيَّة: وهي التي لا يمنع العقل من فرض قِسمٍ آخر لها، وإنّما تُذكَر الأقسام الواقعة التي عُلِمَت بالاستقراء والتتبُّع، كتقسيم (الأديان السماويَّة) إلى (اليهوديَّة، والنصرانيَّة، والإسلاميَّة)، فلا مانع عقلًا من وجود أديانٍ سماويَّة أخرى، ولكن ما وجدناه -بحسب التتبُّع والاستقراء- هو هذه الثلاثة فقط.

 

التعريف بالقِسمة

المقصود من التعريف بالقِسمة هو: التوسُّل بتعداد الأقسام أو بيانها لغرض التعريف بحقيقة المَقسَم، أو لغرض تمييزه ممَّا عداه.

 

فحينما نريد تعريف الحيوان بالقِسمة، يمكن أن نقول مثلًا: إنَّ الحيوان هو الذي ينقسم إلى إنسان وغير إنسان، أو نقول مثلًا: هو الذي ينقسم إلى إنسان وسباع وطيور وهكذا، إلى أن نُحصي أقسام الحيوان جميعًا. وبهذا، يحصل التصوُّر لمفهوم الحيوان (المَقسَم) بواسطة تعداد أقسامه، وذلك لأنَّ الانقسام إلى هذه الأقسام بمثابة الخاصَّة للمَقسَم، إذ إنَّه لا يوجد شيء غير هذا المَقسَم ينقسم إلى هذه الأقسام، وإلَّا لَمَا كانت القِسمة صحيحة.

 

وعليه، يجوز تعريف المَقسَم بقِسمته إلى أقسامه، ويكون من باب تعريف الشيء بخاصَّته، الذي هو من التعريف بالرسم الناقص.

 

 

242

 


194

الدرس الحادي والعشرون: القِسمة (2)

المفاهيم الرئيسة

- للقسمة نوعان:

· القِسمة الطبيعيَّة (قِسمة الكلّ إلى أجزائه): وقد تكون بحسب التحليل العقليّ، أو بحسب التحليل الطبيعيّ، أو بحسب التحليل الخارجيّ.

 

· القِسمة المنطقيَّة (قِسمة الكلِّيّ إلى جزئيَّاته): وهي تقسيم الكلِّيّ إلى مصاديقه.

 

- تبرز بين القِسمة الطبيعيَّة والمنطقيَّة فوارق واضحة:

· الفارق الأوَّل: إنَّ التقسيم في القِسمة الطبيعيَّة يكون بمعنى التحليل، وفي القِسمة المنطقيَّة بمعنى التعداد.

 

· الفارق الثاني: إنَّ المَقسَم في القِسمة الطبيعيَّة لا بدَّ أن يكون مركَّبًا، وأمَّا المَقسَم في القِسمة المنطقيَّة فلا بدَّ أن يكون كلِّيًّا.

 

· الفارق الثالث: إنَّ المَقسَم في القِسمة المنطقيَّة يجوز حَملُه على الأقسام، أمَّا في القِسمة الطبيعيَّة فلا يجوز حَملُ المَقسَم على الأقسام، إلَّا ما كان منها بحسب التحليل العقليّ.

 

- للقسمة المنطقيَّة نحوان باختلاف طبيعة المَقسَم بالنسبة إلى أقسامه:

· النحو الأوَّل: أن يكون المَقسَم مقوِّمًا لأقسامه، ولهذا النحو ثلاثة فروض:

o أن يكون المَقسَم جنسًا، والأقسام أنواعًا له، ويُسمَّى هذا التقسيم بـ"التنويع".

o أن يكون المَقسَم جنسًا أو نوعًا، والأقسام أصنافًا له، ويُسمَّى هذا التقسيم بـ"التصنيف".

o أن يكون المَقسَم جنسًا أو نوعًا أو صنفًا، والأقسام أفرادًا له، ويُسمَّى هذا التقسيم بـ"التفريد".

 

· النحو الثاني: أن لا يكون المَقسَم مقوِّمًا لأقسامه، بل خارجًا عن حقيقتها.

 

- للقسمة الصحيحة الجامعة لجميع جزئيَّات المَقسَم أو أجزائه، أسلوبان:

· القِسمة الثنائيَّة: وهي طريقة الترديد بين النفي والإثبات.

· القِسمة التفصيليَّة: وذلك بأن تُقسِّم الشيء -ابتداءً- إلى جميع أقسامه المحصورة.

 

243

 


195

الدرس الحادي والعشرون: القِسمة (2)

والقِسمة التفصيليّة نوعان: عقليَّة واستقرائيَّة:

o العقليَّة: وهي التي يمنع العقل أن يكون لها قسم آخر. ولا تكون القِسمة عقليّة إلّا إذا بُنِيَت على أساس النفي والإثبات.

 

- الاستقرائيَّة: وهي التي لا يمنع العقل من فرضِ قِسمٍ آخر لها، وإنّما تُذكَر الأقسام الواقعة التي عُلِمَت بالاستقراء والتتبُّع.

 

- يجوز تعريف المَقسَم بقِسمته إلى أقسامه، ويكون من باب تعريف الشيء بخاصَّته، الذي هو التعريف بالرسم الناقص.

 

 

244


196

الدرس الحادي والعشرون: القِسمة (2)

أسئلة حول الدرس

1. ما الفرق بين القِسمة الطبيعيَّة والقِسمة المنطقيَّة؟ أعطِ مثالًا.

2. ميّز بالمثال بين القِسمة الثنائيَّة والقِسمة التفصيليَّة.

3. تحت أيّ نوع من أنواع التعاريف يندرج التعريف بالقِسمة بشتّى أنواعها؟ علّل ذلك.

 

للتوسع في المصادر والمراجع

لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان والعنوان السابق، انظر:

1. بخيت، علم المنطق المفاهيم والمصطلحات، قسم التصوُّرات، مصدر سابق، ج1، ص253-268.

2. خير الدين، علم المنطق، مصدر سابق، ص56-61.

3. خير الدين، القواعد المنطقيَّة دروس بيانيَّة في شرح المنطق وتطبيقاته، مصدر سابق، ص183-196.

4. الفضليّ، مذكّرة المنطق، مصدر سابق، ص83-88.

5. المظفَّر، المنطق، مصدر سابق، ص106-116.

 

246

 


197

الدرس الثاني والعشرون: تحصيل المجهول التصوُّريّ بالقِسمة

الدرس الثاني والعشرون

تحصيل المجهول التصوُّريّ بالقِسمة

 

 

أهداف الدرس

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس:

1. يتعلَّم كيفيَّة تحصيل المجهول التصوُّريّ بطريقة التحليل العقليّ.

2. يتعرَّف كيفيَّة تحصيل المجهول التصوُّريّ بطريقة القِسمة المنطقيَّة الثنائيَّة[1].


 


[1] لمزيدٍ من الاطِّلاع في هذا العنوان، انظر: المظفَّر، المنطق، ص116-121.

 

247


198

الدرس الثاني والعشرون: تحصيل المجهول التصوُّريّ بالقِسمة

تمهيد

تقدَّم أنَّ المعلومَ التصوُّريّ ينقسم إلى ضروريّ ونظريّ، وأنَّ موضع اهتمام المنطقيّ هو خصوص النظريّ منه، وأنَّ معنى النظريّ هو الذي يحتاج إلى كسبٍ ونظرٍ وفكرٍ في تحصيله، وأنَّ الفكر هو حركة العقل بين المعلوم والمجهول، وأنَّ له أدوارًا خمسة يمرّ بها، وأنَّ الفكر في مجال التصوُّر هو التعريف، فتحصيل المعلوم التصوُّريّ يكون بالتعريف، والمعرِّف هو الذي يَلزمُ من تصوُّره تصوُّرُ المعرَّف، وتقدَّم -أيضًا- أنَّ أهمّ وسائل الوصول إلى التعريف هي القِسمة.

 

وتقدَّم -أيضًا- الكلام عن أنواع المعرِّف وشروطه، وكذلك أنواع القِسمة وأصولها وأساليبها، ولكن مَن عَرَفَ هذا كلّه لا يعني أنّه أصبح يعرف كيف يُعرِّف الأشياء والمفاهيم، وأنَّه أصبح قادرًا على تعريفها، تمامًا كما أنَّه ليس الغنيّ مَن يعرف معنى النقود وأجزاءها وكيف تتألَّف، بل الغنيّ مَن يعرف طريقة كسبها فيكسبها.

 

ومَهمَّة علم المنطق وغايته من القسم الأوَّل منه، هي تعريف الإنسان كيف يُفكِّر ليُعرِّف الأشياء والمفاهيم تعريفًا صحيحًا، وبعبارة ثانية: يُعلِّمه كيف يُحصِّل الحدود والرسوم. وعليه، فإلى الآن لم تتحقَّق هذه الغاية بعد. وما عُقِدَ هذا الدرس إلَّا لتحقيقها.

 

فهذا الدرس عبارة عن قطف الثمرة من الدروس التي تقدَّمت جميعها، وتحقيق غاية علم المنطق في بيان طريقة التفكير لتحصيل الحدود والرسوم، وذلك ببيان كيفيَّة تحصيل الحدود والرسوم بطريقة القِسمة الطبيعيّة بحسب التحليل العقليّ تارةً، وبطريقة القِسمة المنطقيَّة الثنائيَّة تارةً أخرى، نظرًا إلى ما تقدَّم من أنَّ أهمّ وسائل الوصول إلى التعريف

 

 

248


199

الدرس الثاني والعشرون: تحصيل المجهول التصوُّريّ بالقِسمة

هي القِسمة، وإلى ما تبيَّن من الدرس السابق من أنَّه ثمَّة طريقتان فقط من طُرُق القِسمة ينفعان في تحصيل الحدود والرسوم، هما: طريقة القِسمة الطبيعيَّة بحسب التحليل العقليّ، وطريقة القِسمة المنطقيَّة الثنائيَّة.

 

تحصيل الحدود والرسوم بطريقة التحليل العقليّ

لمعرفة كيفيَّة تحصيل الحدود والرسوم بطريقة التحليل العقليّ، لا بدّ من عرض أدوار التفكير الخمسة، وبيان ما يجب فعله أو التفكير به في كلِّ دورٍ منها، وصولًا إلى تحقيق الغرض المطلوب.

 

ولنُطبِّق ذلك على مثال ليتَّضح الأمر مباشرةً.

 

لو كنَّا نجهل تعريف الماء مثلًا، وطُلِب منَّا تعريفه، فكيف لنا ذلك؟

 

الجواب: للتمكُّن من الحصول على حدِّ الماء أو رسمه، علينا أن نتَّبع الخطوات الآتية:

1. الدور الأوَّل من أدوار العقل: مواجهة المشكل، أي معرفة أنَّ تعريف الماء مجهول لدينا، والمطلوب منَّا تحصيله.

 

2. الدور الثاني: معرفة نوع المشكل، أي معرفة أنَّ هذا الذي نجهل تعريفه (وهو الماء في مثالنا) داخل تحت أيّ جنسٍ من الأجناس القريبة أو البعيدة. كأن نُحدِّد أنَّ الماء -مثلًا- داخلٌ تحت جنس السوائل.

 

وتجدر الإشارة إلى أنَّه كلَّما كان الجنس الذي عرفنا دخول المجهول تحته قريبًا، كان الطريق أقصر لمعرفة الحدّ أو الرسم.

 

3. الدور الثالث: وهو الدور الأوَّل من أدوار الفكر، ويُمثِّل الحركة الذاهبة، أي حركة العقل من المجهول (المشكل) إلى المعلومات المخزونة. ومعنى هذه الحركة بطريقة التحليل المقصود بيانها: هو أن ننظر في الذهن إلى جميع الأفراد الداخلة تحت ذلك الجنس الذي فرضنا المشكلَ داخلًا تحته. وفي المثال، ننظر إلى أفراد السوائل، سواء أكانت ماءً أم غير ماء، باعتبار أنَّ كلَّها سوائل.

 

4. الدور الرابع: ويُمثِّل الحركة الدائريّة، أي حركة العقل بين المعلومات المخزونة. وهو

 

 

249


200

الدرس الثاني والعشرون: تحصيل المجهول التصوُّريّ بالقِسمة

أشقّ الأدوار وأهمّها دائمًا في كلّ تفكير، فإنْ نجح المفكِّر فيه، انتقل إلى الدور الأخير الذي به حصول العلم، وإلَّا بقي في مكانه يدور على نفسه بين المعلومات من غير جدوى.

 

وما يجب فعله في هذا الدور يتمثَّل بالخطوتَين الآتيتَين:

أ. الخطوة الأولى: العمل على فرز الأفراد التي جرى جمعها في الدور الثالث ضمن مجموعات، إحدى هذه المجموعات هي مجموعة الشيء المجهول الذي يهدف إلى تحصيل تعريفه. ففي مثالنا، يفرز الأفراد الداخلة تحت جنس السوائل إلى مجموعات، كأن يفرزها -مثلًا- إلى: (مجموعة الماء، مجموعة اللبن، مجموعة المشروبات الغازيَّة، مجموعة الزيوت)، وهكذا.

 

ب. الخطوة الثانية: ملاحظة هذه المجموعات ملاحظةً دقيقةً، لمعرفة ما تمتاز به مجموعة أفراد المشكل (وهي مجموعة الماء في مثالنا) بحسب ذاتها وحقيقتها عن المجاميع الأخرى، أو بحسب عوارضها الخاصَّة بها.

 

ولا بدّ في هذه الخطوة، من الفحص الدقيق والتجربة والاستعانة بتجارب الناس والعلماء وعلومهم لمعرفة الخصوصيَّة الذاتيَّة أو العَرَضيَّة التي يمتاز بها الماء في مثالنا من غيره من السوائل، فهل يمتاز في لونه وطعمه، أم في وزنه وثقله، أم في أجزائه الطبيعيَّة مثلًا؟

 

فإذا استطاع الفكر أن ينجح في هذا الدور (الحركة الدائريَّة) بأن عرف ما يُميِّز المجهول تمييزًا ذاتيًّا (أي عرف فصله)، أو عرف ما يُميِّزه تمييزًا عَرَضيًّا (أي عرف خاصَّته)، فإنَّ معنى ذلك أنَّه استطاع أن يُحلِّل تحليلًا عقليًّا معنى المجهول إلى جنسٍ وفصل، أو جنسٍ وخاصَّة، فيكمل عنده بذلك الحدّ التامّ أو الرسم التامّ بتأليفه ممَّا انتهى إليه. كما لو عرّف (الماء) في مثالنا بأنَّه (سائلٌ بطبعه لا لون له ولا طعم ولا رائحة)، أو أنَّه (له ثقلٌ نوعيٌّ مخصوص)، أو أنَّه (قوام كلّ شيءٍ حيّ).

 

5. الدور الخامس: وهي الحركة الراجعة، أي حركة العقل من المعلوم الذي تمَّ تأليفه

 

250

 


201

الدرس الثاني والعشرون: تحصيل المجهول التصوُّريّ بالقِسمة

إلى المجهول. فبعد أن اكتمل الحدّ أو الرسم بالدور الرابع، يعود بهذا الحدّ أو الرسم، ويُعطيه للمشكل الذي كان مجهولًا عنده، ويصير بذلك معلومًا، ويحصل بذلك المطلوب.

 

وبهذا، اتَّضح معنى التحليل العقليّ في القِسمة الطبيعيَّة، وهو إنّما يكون باعتبار المتشاركات والمتباينات، أي إنّه بعد ملاحظة المتشاركات بالجنس، يفرزها ويوزّعها مجاميع، أو فقل: أنواعًا، بحسب ما فيها من الميزات المتباينة، فيستخرج من هذه العمليَّة الجنسَ والفصل (أي مفردات الحدّ)، أو الجنس والخاصَّة (أي مفردات الرسم). فيكون بذلك قد حلّل المفهوم المراد تعريفه إلى مفرداته.

 

تحصيل الحدود والرسوم بطريقة القِسمة الثنائيَّة

بعد الانتهاء من الدورَين الأوّلَين (أي دور مواجهة المشكل، ودور معرفة نوعه)، يمكن الاعتماد على طريقةٍ أخرى من التفكير تختلف عن السابقة.

 

فإنَّ السابقة كانت النظرة فيها إلى الأفراد المشترِكة في ذلك الجنس، ثم تمييز بعضها من بعض، لاستخراج ما يُميّز المجهول.

 

أمّا هذه، فيتحرّك الفكر إلى الجنس المعروف، ويقسِّمه بالقِسمة المنطقيَّة الثنائية إلى إثبات ونفي: الإثبات بما يُميِّز المجهول تمييزًا ذاتيًّا أو عرضيًّا، والنفي بما عداه. فنقول في مثال الماء الذي عرفنا أنَّه سائل: (السائل إمَّا عديم اللون، وإمَّا غيره)، فنستخرج بذلك الحدّ التامّ أو الرسم التامّ، وتحصل الحركات الثلاث كلّها.

 

هذا فيما إذا كنتَ تعرف الجنس القريب. أمَّا لو كنتَ تعرف الجنس البعيد، لا القريب، فعليك متابعة القِسمة الثنائيَّة من الجنس البعيد الذي تعرفه، فتُقسِّمه إلى الجنس الذي يندرج تحته وغيره، وصولًا بالقِسمة إلى الجنس القريب، وهكذا تُقسِّم الجنس القريب إلى إثبات ونفي، بحيث تُمثِّل جهة الإثبات ما يُميِّز المجهول تمييزًا ذاتيًّا أو عرضيًّا، وجِهة النفي ما عداه، فتحصل بذلك على الحدّ التامّ أو الرسم، وتصل بذلك إلى مطلوبك.

 

 

251


202

الدرس الثاني والعشرون: تحصيل المجهول التصوُّريّ بالقِسمة

المفاهيم الرئيسة

 

- من أهمّ وسائل تحصيل التعريف (أي تحصيل الحدود والرسوم) هي القِسمة.

 

- ثمَّة طريقتان فقط من طُرُق القِسمة تنفعان في تحصيل الحدود والرسوم، هما: طريقة القِسمة الطبيعيَّة بحسب التحليل العقليّ، وطريقة القِسمة المنطقيَّة الثنائيَّة.

 

- يكون تحصيل الحدود والرسوم بطريقة التحليل العقليّ باتِّباع أدوار العقل الخمسة في عمليَّة التفكير:

· الدور الأوَّل: مواجهة المشكل.

 

· الدور الثاني: تحديد نوع المشكل، أي تحديد تحت أيّ جنس يدخل.

 

· الدور الثالث: ملاحظة الأفراد التي تدخل تحت هذا الجنس.

 

· الدور الرابع: وهو الأهمّ، وله خطوتان:

o الخطوة الأولى: فرز الأفراد إلى مجموعات، إحداها مجموعة المشكل المراد معرفته.

o الخطوة الثانية: ملاحظة هذه المجموعات ملاحظةً دقيقةً، لمعرفة ما تمتاز به مجموعة أفراد المشكل -بحسب ذاتها وحقيقتها- عن المجاميع الأخرى، أو بحسب عوارضها الخاصَّة بها.

 

وبذلك يكون قد تحصَّل عندنا الجنس والفصل (أي الحدّ التامّ)، أو الجنس والخاصَّة (أي الرسم التامّ).

 

· الدور الخامس: العودة بما تمَّ تأليفه إلى المشكل الذي كان مجهولًا، وصيرورته به معلومًا.

 

- يكون تحصيل الحدود والرسوم بطريقة القِسمة المنطقيَّة الثنائيَّة بتقسيم الجنس البعيد الذي عُرِف دخول المشكل تحته، بالقِسمة الثنائيَّة، وصولًا إلى الجنس القريب، ومن ثمَّ تقسيم الجنس القريب إلى إثبات ونفي: الإثبات بما يُميِّز المجهول تمييزًا ذاتيًّا أو عرضيًّا، والنفي بما عداه، وبذلك يكون قد تحصَّل الجنس والفصل (الحدّ التامّ)، أو الجنس والخاصَّة (الرسم التامّ).

 

 

252


203

الدرس الثاني والعشرون: تحصيل المجهول التصوُّريّ بالقِسمة

تمارين

 

أجب بصحّ (√)أو خطأ (x):

1. النظريّ هو الذي نجهل حدَّه أو رسمَه.          □

2. إنّ كسب التعريف يكون عن طريق القِسمة بقسمَيها.    □

3. إنّ تحصيل المجهول بالقِسمة الثنائيَّة يكون بالنظر إلى الأفراد المشتركة في ذلك الجنس، ثمّ تمييزها من بعضها بعضًا، لاستخراج ما يُميّز المجهول.     □

4. القِسمة بالتحليل العقليّ تعني تقسيم الجنس المعروف إلى إثباتٍ ونفي.         □

5. إنّ الدور الأوّل في طريقة التحليل العقليّ هو معرفة الجنس الذي يدخل فيه المجهول.      □

 

 

 

253


204

الدرس الثاني والعشرون: تحصيل المجهول التصوُّريّ بالقِسمة

أسئلة حول الدرس

1. اذكر الأدوار التي تُعتَمد في طريقة التحليل العقليّ لمعرفة المجهول.

2. تحدّث عن الدور الرابع في طريقة التحليل العقليّ.

3. ما المراد من الإثبات والنفي في القِسمة الثنائيّة؟

 

 

 

254


205

المقدّمة

قائمة المصادر والمراجع

 

قائمة تفصيليَّة بالمصادر والمراجع التي أُرجع إليها لمن أراد مزيدًا من الاطِّلاع

1. بخيت، محمَّد حسن مهدي، علم المنطق المفاهيم والمصطلحات (قسم التصوُّرات)، ط1، إربد الأردنيَّة، عالم الكتب الحديث، 2013م.

 

2. جبر وآخرون، موسوعة مصطلحات علم المنطق عند العرب، جمعية المعجمية العربية، تونس، 1995م- 1415ه، لا.ط.

 

3. خَنْدان، علي أصغر، المنطق التطبيقيّ منهج جديد في توظيف أصول علم المنطق، ترجمة: محمد حسن الواسطي وعبد الرزاق سيادت الجابري، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت-لبنان، 2017م، لا.ط.

 

4. خواجه نصير الدين الطوسي، صدر المتألّهين، صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي، الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد ويليه رسالة التصور والتصديق، الشارح العلامة الحلي e توفي في 726 هـ، انتشارات بيدار، لا.ب، 1363ه، لا.ط.

 

5. خير الدين، أحمد عبده، علم المنطق، مصر، المطبعة الرحمانيَّة، 1348هـ.ق/1930م، ط1.

 

6. خير الدين، سمير، القواعد المنطقيَّة دروس بيانيَّة في شرح المنطق وتطبيقاته، بيروت، معهد المعارف الحُكميَّة، 1426هـ.ق/2006م، ط1.

 

7. الرحيمي، محمد علي، محاضرات في المنطق شرحًا لحاشية ملَّا عبد الله،

 

8. الصدر، حسن، دروس في علم المنطق، دار الكاتب العربي.

 

9. صليبا، جميل، عيَّاد، كامل، المنطق وطرائق العلم العامَّة، دمشق، مكتبة العلوم والآداب لصاحبَيها طواحني وهاشمي، 1367هـ.ق/1948م، لا.ط.

 

10. العابديّ، فلاح، لُباب المنطق، ومضات للترجمة والنشر، لا.ب، 2018م، لا.ط.

 

11. العابدي، فلاح، والموسوي، سعد، ميزان الفكر، أكاديمية الحكمة العقلية، 2011م، ط1.

 

12. العبُّود، علي عيد الله، رسالة منطقيَّة في الكلِّيَّات الخمس.

 

13. عليّ، محمد صنقور، أساسيَّات المنطق، دار جواد الأئمة.

 

255


206

الدرس الثاني والعشرون: تحصيل المجهول التصوُّريّ بالقِسمة

13. عليّ، محمد صنقور، أساسيَّات المنطق، دار جواد الأئمة.

 

14. الفضليّ، عبد الهادي، مذكّرة المنطق، قم المقدَّسة، مؤسَّسة دار الكتاب الإسلاميّ، لا.ت، لا.ط.

 

15. كاشف الغطاء، علي، نقد الآراء المنطقيَّة وحلّ مشكلاتها، مؤسسة النعمان، 1991م، لا.ط.

 

16. المطهَّري، الشيخ مرتضى، دروس فلسفيَّة في شرح المنظومة، ترجمة: الشيخ مالك وهبي، دار الهادي، لا.ت، لا.ط.

 

17. المطهَّري، مرتضى، المنطق، ترجمة: حسن عليّ الهاشميّ، مراجعة وإعداد: حسين بلوط، بيروت، دار الولاء، 1432هـ.ق/2011م، ط2.

 

18. المظفَّر، محمَّد رضا، المنطق، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1427هـ.ق/2006م، لا.ط.

 

19. الوائليّ، صالح، معالم المنطق، مؤسسة الدليل للدراسات والبحوث العقدية التابعة للعتبة المقدسة، لا.ت، لا.ط.

 

20. اليزديّ، الملا عبد الله، حاشية على التهذيب، انتشارات دار التفسير، إيران-قم، لا.ت، لا.ط.

 

 

256


207
علم المنطق (الجزء الأول)