المصيبة الراتبة
المقدِّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ الّذي مَنَّ علينا بنعمةِ الموالاةِ لنبيِّهِ (صلى الله عليه وآله) وآلِه الأطهارِ (عليهم السلام)، وقد جعَلَهُم الشُّموسَ الطَّالعةَ، والأقمارَ المُنيرةَ، والأنجُمَ الزاهرةَ، وأعلامَ الدِّينِ وقواعِدَ العلمِ، صالحاً بعدَ صالحٍ، وصادِقاً بعدَ صادِقٍ، وسبيلاً بعدَ سبيلٍ.
الحمدُ للهِ الّذي مَنَّ علينا بسفينةِ النَّجاةِ، ومِصباحِ الهُدى، الإمامِ الحسينِ بْنِ عليٍّ(عليهما السلام)، فأَمَرَنا بإحياءِ ذِكْرِهِ وإقامةِ أمرِهِ، تعظيماً لحقِّهِ.
إنَّ يومَ العاشرِ منَ المحرّمِ، لهوَ اليومُ الأكثرُ ألماً، والأشدُّ حزناً منْ بينِ المصائبِ والرَّزايا الّتي حلَّتْ بأهلِ البيتِ (عليهم السلام)، عنِ الإمامِ الرِّضا (عليه السلام): «إنَّ يومَ الحسينِ أقرحَ جفونَنا، وأسبلَ دموعَنا، وأذلَّ عزيزَنا، بأرضِ كربٍ وبلاءٍ، أورثَتْنا الكربَ والبلاءَ إلى يومِ الانقضاءِ، فعلى مثلِ الحسينِ فَلْيبكِ الباكونَ، فإنَّ البكاءَ يحطُّ الذُّنوبَ العظامَ»[1].
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص190.
7
1
المصيبة الراتبة
وإنَّ المحبّينَ والموالينَ لهم (عليهم السلام) يُحيونَ أمرَهُم في هذا اليومِ الأليمِ، بذكرِ مُصابِ أبي عبدِ اللهِ الحسينِ (عليه السلام)، وما جرى عليهِ وعلى أهلِ بيتِهِ وأصحابِهِ (عليهم السلام)، فيقرؤونَ المقتلَ الشَّريفَ في يومِ عاشوراء.
لقدْ أُعِدَّ هذا المقتلُ بإشرافِ أهلِ الاختصاصِ، وأُعيدَت صياغتُهُ مراراً، وفقاً للملاحظاتِ الواردةِ منَ العلماءِ والخطباءِ الحسينيّينَ، معَ توخّي الدِّقّةِ في النقلِ، والاعتمادِ على مصادرَ معتبرةٍ منْ كتبِ التَّاريخِ والمقاتلِ، قديماً وحديثاً: تاريخُ الطَّبريّ، الإرشادُ، مقتلُ الخوارزميّ، مناقبُ ابن شهر آشوب، اللّهوفُ، أنسابُ الأشراف، الكاملُ في التَّاريخ، تاريخُ اليعقوبيّ، مثيرُ الأحزان، تسليةُ المجالس، مقتلُ الحسين (عليه السلام) للسَّيّد بحر العلوم، مقتلُ الحسين (عليه السلام) للسَّيّد المقرّم، وغيرُها.
يتميّزُ إصدارُ هذا العامِ ببعضِ التَّعديلاتِ المهمّةِ، إذ قامَ مركزُ المعارفِ للتَّأليفِ والتَّحقيقِ بالتَّعاونِ معَ مركزِ سيّدِ الشُّهداءِ (عليه السلام) للبحوثِ الحسينيّةِ بمراجعتِهِ كاملاً، وإضافةِ بعضِ الأحداثِ وحذفِ بعضِها الآخر، بما يتناسبُ والوقتَ المُتاح، محافظينَ على السِّياقِ التَّاريخيِّ، والتَّرابطِ بينَ الوقائعِ، والمؤثّريّةِ العاطفيِّةِ، والتَّفاعلِ معَ وقائعِ اليومِ العاشرِ.
أعظمَ اللهُ أجورَكُم، وأحسنَ لكمُ العزاءَ، ونسألُهُ تعالى أن يحشرَنا وإيّاكُم مع الحسينِ وأصحابِهِ (عليهم السلام)، وأنْ يجعلَ أعمالَنا خالصةً لوجهِهِ تعالى، إنّهُ سميعٌ مُجيبُ الدُّعاءِ.
مركز المعارف للتأليف والتحقيق
8
2
المصيبة الراتبة
القصيدة[1]
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على خيرِ خلقِهِ أجمعينَ، محمّدٍ وآلهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهرينَ المظلومين.
أعظمَ اللهُ أجورَنا بمُصابِنا بأبي عبدِ اللهِ الحسينِ (عليه السلام)، وجعَلَنا منَ الطَّالبينَ بثارِهِ معَ إمامٍ مهديٍّ منصورٍ من آلِ محمَّد.
أحسنَ اللهُ لكُمُ العَزاءَ يا أهلَ العزاءِ!
سيّدي يا رسولَ اللهِ، سيّدي يا أميرَ المؤمنينَ، سيّدتي يا فاطمةُ الزَّهراءُ، سيّدي يا أبا مُحمّدٍ المجتبى، سيّدي يا صاحبَ الزمانِ، أعظمَ اللهُ أجورَكُم بمصابِ أبي عبدِ اللهِ!
صلَّى اللهُ عليكَ يا سيّدي ويا مولايَ، يا أبا عبدِ اللهِ، يا صريعَ الدَّمعةِ السَّاكبةِ، وصاحبَ المصيبةِ الرَّاتبةِ، بأبي أنتَ وأمِّي ونفسي، سيّدي يا حسين، لعنَ اللهُ الظالمينَ لكُم، يا ليتَنا كنّا معكُم، فنفوزَ فوزاً عظيماً.
[1] الشاعر ابن المعصوم، من شعراء العصر العثمانيّ.
9
3
المصيبة الراتبة
أَلَيلَةُ الحَشرِ لا بَلْ يَومُ عاشورِ
وَنَفخَةُ الصُّورِ لا بلْ نَفْثُ مَصدورِ
يَومٌ بِه اِهتَزَّ عَرشُ اللهِ من حَزَنٍ
على دَمٍ لِرَسولِ اللهِ مَهدورِ
يَومٌ بهِ ذهبَت أَبناءُ فاطِمَةٍ
للبَينِ ما بينَ مَقتولٍ ومأسورِ
فأَيُّ دَمعٍ عليهِ غَيرُ مُنهمِلٍ
وأَيُّ قَلبٍ عليهِ غَيرُ مَفطورِ
يا وَقعَةَ الطَفِّ خلَّدْتِ القلوبَ أَسىً
كأَنَّما كُلُّ يَومٍ يومُ عاشورِ
يا وَقعةَ الطفِّ أَبكيْتِ الجفونَ دماً
ورُعتِ كلَّ فؤادٍ غيرِ مذْعورِ
يا وقعةَ الطفِّ كَم أَضرَمْتِ نارَ جوىً
في كُلِّ قَلبٍ منَ الأَحزانِ مَسجورِ
مَهما نَسِيتُ فَلا أَنسى الحسينَ لُقىً
تَحنو عليهِ رُبى الآكامِ والقورِ
10
4
المصيبة الراتبة
معفَّراً في مَوامي البيدِ مُنجدِلاً
يَزورُه الوَحشُ منْ سَيْدٍ وَيَعفورِ
تَبكي عليهِ السَماواتُ العُلى حَزَناً
وَالأَرضُ تكسوهُ ثوباً غيرَ مَزرورِ
فأَينَ عينُ رَسولِ اللهِ ترمُقُهُ
لُقىً على جانبٍ للبَينِ مَهجورِ
وأَينَ عَينُ عليٍّ منهُ تَلحَظُهُ
مَقهورَ كلِّ شقيِّ الجدِّ مَقهورِ
وأَينَ فاطمةُ الزَهراءُ تنظرُهُ
وأَهلَهُ بينَ مَذبوحٍ وَمَنحورِ
11
5
المصيبة الراتبة
يومُ عاشوراء
لمّا أَصبحَ الحسينُ (عليه السلام) يومَ عاشوراءَ، وصلَّى بأصحابِهِ صلاةَ الصُّبحِ، قامَ خطيباً فيهِم، فحَمِدَ اللهَ وأَثْنى عليهِ، ثُمَّ قالَ: «إنَّ اللهَ تعالى قدْ أذِنَ في قتلِكُم وقَتْلِي في هذا اليومِ، فَعليكُمْ بِالصَّبرِ والقِتالِ».
ثمَّ صَفَّهُم للحربِ، وكانوا اثنينِ وسَبعينَ ما بينَ فارسٍ وراجلٍ.
فجعلَ زُهيرَ بنَ القَيْنِ في المَيْمَنةِ، وحبيبَ بنَ مُظاهِرٍ في الميسَرةِ، وثَبَتَ هوَ (عليه السلام) معَ أهلِ بيتِهِ في القلبِ، وأعطَى رايتَهُ أخاهُ العبَّاسَ (عليه السلام)، وجعَلُوا البيوتَ في ظُهُورِهِم. وكانَ قدْ أَمَرَ (عليه السلام) بِحَطَبٍ وَقَصَبٍ أَنْ يُجعلَ في خندَقٍ كانُوا حَفَرُوهُ في ساعةٍ منَ الليلِ، وَأَنْ تُضْرَمَ بِهِ النَّارُ إذا قاتَلَهُمُ العدوُّ...
وأقبلَ عُمَرُ بْنُ سعدٍ نحوَ الحسينِ (عليه السلام) في ثلاثينَ ألفاً، فجعلَ عَمْرَو بْنَ الحجَّاجِ على المَيْمَنةِ، وشمرَ بنَ ذِي الجوشَنِ على الميسَرةِ، وعلى الخَيلِ عَزْرَةَ بنَ قَيسٍ، وعلى الرَّجَّالةِ شِبثَ بنَ رِبْعي، وأَعطَى رايتَهُ ذُويداً مولاهُ.
وأقبلَ القَومُ يجولونَ حولَ مُعسكرِ الحسينِ (عليه السلام)، وينظرونَ إلى النَّارِ تَضْطَرِمُ في الخندَقِ... فنادَى شمرٌ بأعلى صوتِهِ: يا حسينُ، تَعَجَّلْتَ
12
6
المصيبة الراتبة
النَّارَ قَبلَ يومِ القِيامةِ، فقالَ الحسينُ (عليه السلام): «مَنْ هذا؟ كَأَنَّهُ شمرُ بنُ ذي الجَوْشَنِ»، قيلَ: نَعم، فقال: «أنتَ أوْلَى بِهَا صِلِيّاً».
ورامَ مُسلمُ بنُ عوسجةَ أنْ يَرميَهُ بِسهمٍ، فَمَنعهُ الحُسينُ (عليه السلام)، وقال: «أكرهُ أنْ أبدَأَهُم بِقتالٍ».
ولمَّا نظرَ الحسينُ (عليه السلام) إلى جَمعِهِم، كأنَّهُ السَّيلُ المُنْحَدِرُ، رَفَعَ يَديهِ بالدُّعاءِ، وقالَ: «اللهُمَّ أنتَ ثِقَتي في كلِّ كَرْبٍ، ورَجَائِي في كُلِّ شِدَّةٍ، وأنتَ لي في كُلِّ أَمرٍ نَزَلَ بي ثِقةٌ وعُدَّةٌ، كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضعُفُ فيهِ الفُؤادُ، وتَقِلُّ فيهِ الحِيلةُ، ويَخذُلُ فيهِ الصَّديقُ، ويَشمَتُ فيهِ العدوُّ، أنزلتُهُ بِكَ، وشكوتُهُ إليكَ، رَغبةً منِّي إليكَ عمَّن سِواكَ، ففرَّجتَهُ وكَشفتَهُ، فأنتَ وليُّ كُلِّ نِعمةٍ، وصاحبُ كُلِّ حَسَنةٍ، ومُنتهَى كلِّ رَغبةٍ».
13
7
المصيبة الراتبة
خطبةُ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام) الأُولى
ثمَّ دعا الحسينُ (عليه السلام) براحلتِهِ فركِبَها، وتقدَّمَ نحوَ القومِ، ونادَى بصوتٍ يسمعُهُ جُلُّهم: «أيُّها النَّاسُ، اسمعوا قَولي، ولا تعجَلُوا حتَّى أعِظَكُم بما هوَ حقٌّ لكمْ عليَّ، وحتَّى أعتذرَ إليكُم مِن مَقدَمي عليكُم، فإنْ قَبِلتُم عُذري، وصدَّقتُم قَولي، وأَعطَيتُموني النَّصَفَ[1] من أنفسِكُم، كُنتمْ بِذلكَ أسْعدَ، ولَم يكنْ لكمْ عليَّ سبيلٌ، وإنْ لمْ تَقبَلوا مِنِّي العُذرَ، ولمْ تُعطوني النَّصَفَ منْ أنفسِكُم ﴿فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّة[2] ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ﴾[3]، ﴿إِنَّ وَلِـِّۧيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡكِتَٰبَۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّٰلِحِينَ﴾[4]».
ثُمّ حَمِدَ اللهَ وأَثنَى عليهِ، وصلَّى على النَّبيِّ محمّدٍ وآلهِ، وعلى الملائكةِ والأنبياءِ، فَذَكَرَ مِن ذلكَ ما لا يُحصى ذِكْرُهُ، ولَم يُسمَعْ متكلِّمٌ قبلَهُ ولا بعدَهُ أبلغُ منهُ في مَنطِقِهِ، ثمَّ قالَ: «عبادَ اللهِ، اتَّقوا اللهَ، وكونُوا منَ الدُّنيا على حذرٍ، فإنَّ الدُّنيا لَو بَقيَتْ على أحدٍ أو بقيَ عليها
[1] النَّصَفَ والنَّصَفة: اسم الإنصاف، وهو أن يعطي من نفسه النّصف من الحقّ.
[2] غُمَّة: يوم غَمٌّ وليلة غَمَّة، وهو في غُمّة من أمره، وهي ما غطّاك من شيء.
[3] سورة يونس، الآية 71.
[4] سورة الأعراف، الآية 196.
14
8
المصيبة الراتبة
أحدٌ لَكَانَ الأنبياءُ أحقَّ بالبقاءِ وأوْلَى بالرِّضا، غيرَ أنَّ اللهَ خلقَ الدُّنيا للفَنَاء، فَجدِيدُها بَالٍ، ونعيمُها مُضْمَحِلّ[1]، وسُرورُها مُكفَهِرٌّ[2]...».
وقال: «أيُّها النَّاسُ، إنَّ اللهَ تعالى خَلقَ الدُّنيا فَجعَلَها دارَ فَناءٍ وزوالٍ، متصرِّفةً بأهلِهَا حالاً بعدَ حالٍ. فالمغرورُ مَن غَرَّتْهُ، والشَّقيُّ مَن فَتَنَتْهُ، فَلا تَغرَّنَّكُمْ هذهِ الحياةُ الدُّنيا، وأراكُم قدِ اجتمعتُم على أمرٍ قدْ أَسخَطتُمُ اللهَ فيهِ عَليكُم، وأعرَضَ بوجهِهِ الكريمِ عنكُم، وأحلَّ بِكُم نِقْمتَهُ، وجَنَّبَكُم رحمَتَهُ، فنِعْمَ الرَّبُّ ربُّنا، وبئَسَ العَبيدُ أنتُم، أَقْررتُم بالطَّاعةِ، وآمنتُم بالرَّسولِ محمَّدٍ(صلى الله عليه وآله)، ثمَّ إنَّكُم زَحَفتُم إلى ذرِّيَّتِهِ وعِترتِهِ، تريدونَ قَتْلَهُم، لقدِ استَحوذَ عَليكُمُ الشَّيطانُ، فأنْساكُم ذِكرَ اللهِ العَظيمِ؛ فتبّاً لكُم ولِما تُريدونَ. إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجعونَ، هؤلاءِ قومٌ كَفَروا بعدَ إيمانِهِم، فبُعداً للقومِ الظَّالمينَ».
فقالَ عُمَرُ بْنُ سعدٍ: ويلَكُم! كلِّموهُ، فإنَّهُ ابنُ أبيهِ. واللهِ، لَو وَقَفَ فيكُم هكذا يوماً جَديداً، لَمَا انقطَعَ ولَمَا حُصِرَ...
فتَقَدَّمَ إليهِ شمرٌ، فقالَ: يا حسينُ، مَا هذا الّذي تقولُ؟ أَفْهِمْنَا حتَّى نَفْهَمَ.
فلمْ يَلتفتْ إليهِ، ثمَّ قالَ (عليه السلام): «أمَّا بعدُ، فانسِبُوني وانظُروا مَنْ أنَا، ثمَّ ارجِعُوا إلى أنفسِكُم فعاتِبُوها، وانظُروا هلْ يحِلُّ لكُم قَتلي وانتهاكُ حُرْمَتي؟ أَلَستُ ابْنَ بنتِ نبيِّكُم، وابْنَ وصيِّهِ وابنِ عمِّهِ، وأوَّلِ المؤمنينَ باللهِ والمصدِّقِ لرسولِهِ بِما جاءَ بِهِ مِن عندِ رَبِّه؟ أَوَلَيسَ حَمزةُ سيّدُ
[1] مُضمحِلّ: اِضمحلَّ الشيء إذا ذهب.
[2] مُكفهِرّ: الكفهَر: الرجل إذا عبس.
15
9
المصيبة الراتبة
الشُّهداءِ عَمَّ أَبي؟! أَوَليسَ جَعفرٌ الشَّهيدُ الطَّيَّارُ ذو الجَناحَينِ عمِّي؟! أَوَلَم يَبلُغْكُم قولُ رَسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لي ولأَخِي: هَذانِ سَيِّدا شَبابِ أهلِ الجنَّةِ؟! فَإِنْ صَدَّقْتُموني بِما أَقولُ، وَهُوَ الحقُّ، فَوَاللهِ ما تَعمَّدْتُ كَذِباً منذُ علِمتُ أنَّ اللهَ يَمقُتُ علَيهِ أَهلَهُ، ويَضُرُّ بهِ مَنِ اختلقَهُ. وإنْ كَذَّبْتُموني، فإنَّ فيكُم مَن إنْ سألْتُموهُ عَن ذلكَ أَخبرَكُم، سَلُوا جَابرَ بنَ عبدِ اللهِ الأَنصاريَّ، وأَبا سعيدٍ الخِدْريَّ، وسَهلَ بنَ سعدٍ السَّاعِدِيَّ، وزَيْدَ بنَ أرقمَ، وأنَسَ بنَ مالكٍ، يُخْبرُوكُم أنَّهُم سَمِعُوا هذهِ المقالةَ مِنْ رَسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لي ولأَخِي. أَمَا في هذا حاجزٌ لكُم عنْ سَفكِ دَمي؟!».
ثمَّ قالَ (عليه السلام): «فِإنْ كنتُم فِي شكٍّ مِن ذلكَ، أفَتَشُكُّونَ أنّي ابنُ بنتِ نبيِّكُم؟! فواللهِ، ما بينَ المشرقِ والمغربِ ابنُ بنتِ نبيٍّ غَيري فيكُم ولا في غَيرِكُم، أَنَا ابنُ بنتِ نبيِّكُم خاصّةً. وَيْحَكُم! أفتطلِبُونَني بقتيلٍ منكُم قَتلْتُهُ، أَو مالٍ لكُمُ اسْتَهلكْتُهُ، أو بقِصاصٍ من جِراحةٍ؟!».
فأخذُوا لا يكلِّمونَهُ، فنَادَى (عليه السلام): «يا شِبثُ بنَ رِبعيّ، ويا حَجَّارُ بنَ أبْجَرَ، ويا قَيسُ بنَ الأشْعَثِ، ويا يَزيدُ بنَ الْحارِثِ، أَلَم تكتُبُوا إليَّ: أنْ قَدْ أينعَتِ الثِّمارُ، واخضرَّ الجَنَابُ[1]، وإنَّما تُقدِمُ على جُندٍ لكَ مُجنَّدَةٍ؟!».
فقالوا: لَمْ نَفْعَلْ ذلكَ.
قالَ (عليه السلام): «سبحانَ اللهِ! بَلى واللهِ، لَقَدْ فَعَلتُمْ».
ثمَّ قالَ: «أيُّها النَّاسُ، إذا كرِهْتُمُوني، فَدَعُوني أنصرِفْ عَنكُم إِلى مأْمَنٍ منَ الأرضِ».
[1] الجناب بالفتح: الفناء وما قرب من محلّة القوم.
16
10
المصيبة الراتبة
فقالَ لهُ قَيسُ بنُ الأَشْعثِ: ما نَدرِي ما تقولُ، ولكنِ انزِلْ عَلَى حُكمِ بني عَمِّكَ، فإنَّهم لَن يُرُوْكَ إلَّا مَا تُحِبُّ، ولَن يصِلَ إليكَ منهُم مَكروهٌ.
فقالَ لهُ الحسينُ (عليه السلام): «أنتَ أخُو أخِيكَ، أَتريدُ أَنْ يطلِبَكَ بنُو هاشمٍ بأكثَرِ مِنْ دمِ مُسلمِ بنِ عقيلٍ؟! لا واللهِ، لا أُعطيكُمْ بيدي إعطاءَ الذَّليلِ، ولا أفرُّ فِرارَ العَبيدِ. عبادَ اللهِ، إنّي عُذْتُ بِربّي وربِّكُم أنْ تَرجُمُونِ، أعوذُ بِرَبّي وربِّكُم من كلِّ متكبِّرٍ لا يؤمنُ بِيومِ الحِسابِ».
ثمَّ أَنَاخَ راحِلَتَهُ، وَأَمَرَ عُقبَةَ بنَ سَمعانَ فَعَقلَها[1].
وَأَقْبَلَ القومُ نَحوَ مخيَّمِ الحسينِ(عليه السلام)... فخرجَ إليهِم زُهيرُ بنُ القَينِ على فرسٍ ذَنوبٍ شاكٍّ في السِّلاحِ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ الناسَ... فَسبُّوهُ، وأثْنَوْا على عُبيدِ اللهِ بنِ زيادٍ ودعَوْا لهُ... فناداهُ رَجلٌ، فقالَ لَه: إنَّ أبا عبدِ اللهِ(عليه السلام) يقولُ لكَ: «أقبِلْ، فلَعَمْري لَئِن كانَ مؤمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ نصَحَ لقومِهِ وأبلَغَ في الدُّعاءِ، لقَدْ نصحْتَ لهؤلاءِ وأبلغْتَ لو نَفَعَ النُّصْحُ والإبلاغُ».
[1] عَقَلْتُ البعير: شددت يده، والعِقال: الحبل.
17
11
المصيبة الراتبة
خطبةُ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام) الثانيةُ
ثمَّ رَكِبَ (عليه السلام) فَرَسَهُ، وخرجَ إلى النَّاسِ، فاستنصَتَهُم، فأَبَوا أنْ يُنصِتوا، حتَّى قالَ لهم: «ويْلكُم ما عليكُم أنْ تُنْصِتُوا لِي فَتَسْمَعُوا قَوْلي، وَإنَّما أَدعُوكُم إلى سبيلِ الرَّشادِ؛ فَمَنْ أَطَاعَنِي كانَ مَن المُرشَدينَ، ومَن عَصَانِي كانَ من المُهْلَكِين. وكُلُّكُم عَاصٍ لأَمرِي، غيرُ مُسْتَمِعٍ قَوْلي، فَقَدْ مُلِئَتْ بُطُونُكُم مِنَ الحَرَامِ، وطُبِعَ عَلى قُلُوبِكُم. وَيْلَكُم! أَلَا تَنصِتُون؟! أَلَا تَسْمَعُون؟!».
فَتَلاوَمَ أصحابُ عُمَرَ بنِ سَعْدٍ بَيْنَهم، وقالوا: أَنْصِتُوا لَهُ.
فَحمِدَ اللهَ وأثْنَى عَليهِ، وَذَكَرَهُ بِما هُوَ أَهْلُهُ، وصلَّى على محمَّدٍ وعلى الملائِكةِ والأنبياءِ والرسلِ، وأَبْلَغَ في المَقَالِ، ثمَّ قالَ: «تَبّاً[1] لَكُم أيَّتُها الجماعةُ وتَرَحاً[2]، أَحِينَ اسْتَصْرَختُمُونا[3] والِهينَ[4] فأَصْرَخناكُم مَوْجِفين[5]،
[1] تبّاً: ألزمه هلاكاً وخسراناً.
[2] التَرَح بفتحتين: ضدّ الفرح، وترحاً أي همّاً وحزناً.
[3] الاستصراخ: الاستغاثة.
[4] والهين: الوله ذهاب العقل، قيل: امرأة والهة مولهة.
[5] موجفين: مسرعين.
18
12
المصيبة الراتبة
سَلَلتُم[1] عَلينا سَيفاً لنا في أَيْمانِكُم، وحَشَشْتُم[2] علينا ناراً قْدَحْناها[3] على عدوِّنا وعدوِّكُم، فأصبحْتُم إِلْباً[4] لأعدائِكُم على أوليائِكُم، وَيَداً عليهم لأعدائِكُم، بغيرِ عَدلٍ أفشَوْهُ فيكُم، ولا أمَلٍ أصبحَ لكُم فيهِم، إلَّا الحرامَ منَ الدُّنيا أَنَالُوكُم، وخَسِيسَ عَيْشٍ طَمِعْتُم فيهِ، منْ غيرِ حَدَثٍ كانَ منّا، ولا رأيٍ تَفَيَّلَ[5] لَكُم، فهَلَّا -لكُمُ الوَيلاتُ- إذْ كَرِهتُمونا، تركْتُمونا، والسَّيفُ مَشِيْمٌ[6]، والجأشُ[7] طامِنٌ[8]، والرَّأيُ لَمَّا يُستَحْصَفْ[9]، ولكنْ أسرعْتُم إليها كَطَيرَةِ الدَّبَا[10]، وتهافتُّم عليها كتَهافُتِ الفَرَاشِ، ثمَّ نَقَضْتُموها، فسُحقاً لكُم يا عَبيدَ الأُمَّةِ، وشُذَّاذَ الأحزابِ، ونَبَذَةَ الكِتابِ، ومُحرِّفي الكَلِمِ، ونَفْثَةَ الشَّيطانِ، وعُصْبَةَ الآثامِ، ومُطفِئي السُّننِ، وقَتَلةَ أولادِ الأنبياءِ، ومُبيدي عِترةِ الأوصياءِ، ومُلحِقي العُهَّارِ[11] بالنَّسَبِ، ومُؤذِي المؤمنينَ، وصُرَّاخَ أئمَّةِ المُستهزئينَ، ﴿لَبِئۡسَ مَا قَدَّمَتۡ لَهُمۡ أَنفُسُهُمۡ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ وَفِي ٱلۡعَذَابِ هُمۡ خَٰلِدُونَ﴾[12]، أنتُمُ ابنَ حَربٍ وأشياعَهُ تَعْضُدونَ، وعنّا تخاذَلُونَ. أجَلْ وَاللهِ غَدْرٌ فيكُم
[1] سلّ السيف: شهره وأخرجه من غمده.
[2] حششتم: حششت النار أحشُّها حَشَّاً: أوقدتها.
[3] قدح واقتدح بالزند: حاول إخراج النار منه.
[4] إلباً: ألبت الجيش جمعته.
[5] تفيَّل رأيه: أخطأ وضعف.
[6] مشيم: شام سيفه يشيمه، غمده.
[7] الجأش: رواغ القلب إذا اضطرب عند الفزع، ونَفَس الإنسان.
[8] طامن: ساكن مطمئنّ، والاسم الطمأنينة.
[9] يستحصف: استحصف الشيء: استحكم.
[10] طيرة الدَّبا: فراخ الجراد قبل أن يطير، والواحدة دَبَاة.
[11] العُهَّار: من العُهر، وهو الفجور، وواحده عاهر؛ أي فاجر.
[12] سورة المائدة، الآية 80.
19
13
المصيبة الراتبة
قَديمٌ، وَشَجَتْ[1] عَليهِ أصولُكُم، وتأزَّرَتْ عَليهِ فروعُكُم، وثبتَتْ عليهِ قُلوبُكُم، وغَشِيَتْ صدورُكُم، فكُنتُم أخبَثَ ثَمَرٍ، شَجىً[2] للنَّاظرِ، وأُكْلَةً[3] للغاصِبِ. ألَا لعنةُ اللهِ على النَّاكِثينَ، الّذينَ ينقضُونَ الأَيْمانَ بعدَ توكيدِهَا، وقدْ جعلتُمُ اللهَ عَليكُم كَفيلاً، فأنتُم وَاللهِ هُمْ.
ألَا وإنَّ الدَّعيِّ ابنَ الدَّعيَّ، قدْ رَكَزَ[4] بينَ اثنَتَينِ: بينَ السِّلَّةِ[5] والذِّلَّةِ، وهيهاتَ منّا الذِّلَّةُ! يأبَى اللهُ لَنَا ذلكَ ورَسُولُهُ والمؤمِنونَ، وحُجورٌ طابَتْ وطَهُرتْ، وأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ ونُفُوسٌ أبِيَّةٌ[6]، مِنْ أنْ نؤْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ على مصارِعِ الكِرَامِ. ألَا وَقَدْ أَعْذَرْتُ وأَنْذَرْتُ، ألَا وإنِّي زاحِفٌ بهذِهِ الأُسرةِ على قلَّةِ العَدَدِ، وكَثرةِ العدُوِّ، وخِذلانِ النَّاصِرِ».
ثمَّ وَصَلَ كَلامَهُ بِأَبْيَاتِ فَرْوَةَ بنِ مُسيكٍ المُرَادِيّ، فقالَ:
فَإِنْ نَهْزِمْ فَهَزَّامُونَ قِدْماً
وَإِنْ نُغْلَبْ فَغَيرُ مُغَلَّبِينا
فَقُلْ لِلشَّامِتينَ بِنا أَفِيقُوا
سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينا
[1] وشجت: اشتبكت.
[2] الشجى: ما نشب في الحلق من غُصَّة أو همّ أو نحوه.
[3] الأُكلة: اللقمة.
[4] ركَزَ منّا؛ أي أقامنا بين الأمرين.
[5] السلّة (بالفتح والكسر): استلال السيوف.
[6] أبيّة: أي مرتفعة عن الدنيّة.
20
14
المصيبة الراتبة
ثمَّ قالَ(عليه السلام): «أمَا واللهِ، لا تلبَثونَ بعدَها إلَّا كَرَيْثِ[1] ما يُركَبُ الفَرَسُ، حتَّى تَدُورَ بِكُم دَوَرانَ الرَّحى[2]، وتَقْلَقَ بِكم قَلقَ المِحْوَرِ[3]، عَهدٌ عَهِدَهُ إليَّ أبي عنْ جدِّي رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)،
﴿فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّة ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ﴾[4]، ﴿إِنِّي تَوَكَّلۡتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمۚ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذُۢ بِنَاصِيَتِهَآۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَٰط مُّسۡتَقِيم﴾[5]».
ثمَّ رفعَ يدَيهِ نحوَ السَّماءِ، وقالَ: «اللهُمَّ احبِسْ عنهُم قَطْرَ السَّماءِ، وابعثْ عليهِم سنينَ كسِنِيِّ يوسُفَ، وسلِّطْ عليهِم غُلامَ ثَقيفٍ، يسقِيهِم كأساً مُصَبَّرةً[6]، فإنَّهُم كذَّبونا وخَذَلونا، وأنتَ ربُّنا، عليكَ توكَّلْنا، وإليكَ أَنَبْنَا، وإليكَ المصيرُ».
[1] أي قدر ما يركب.
[2] الرّحى: الّتي تدور فتطحن القمح والشعير ونحوها، الطاحون.
[3] المحور، كمنبر: العود الّذي تدور عليه البكرة، وربّما كان من الحديد.
[4] سورة يونس، الآية 71.
[5] سورة هود، الآية 56.
[6] مصبّرة: أي وضع فيها الصبر، وهو عصارة نبات مرّ المذاق؛ أي كأساً ممزوجة بالصبر؛ أي مرّة.
21
15
المصيبة الراتبة
موقفُ الحرِّ الرِّياحيِّ
ولَمَّا رأى الحرُّ بْنُ يزيدَ الرِّياحيُّ أنَّ القومَ قدْ صمَّمُوا على قتالِ الحسينِ (عليه السلام)، قالَ لعُمَرَ بنِ سعدٍ: أَمُقاتِلٌ أنتَ هذا الرَّجلَ؟
قالَ: إي واللهِ، قِتالاً أيْسَرُهُ أنْ تَسقُطَ فيهِ الرُّؤوسُ وتَطيحَ الأيدي.
فتركَهُ الحرُّ، وأخذَ يدنو منَ الحسينِ (عليه السلام) قليلاً قليلاً، فقالَ لهُ المهاجرُ بنُ أوسٍ: أتريدُ أنْ تَحمِلَ؟ فسكتَ، وأخذَتْه الرَّعْدة[1]!
فقالَ لهُ المهاجرُ: إنَّ أمرَكَ لَمُريبٌ! واللهِ، ما رأيتُ منكَ في موقفٍ قَطُّ مثلَ هذا، وَلَو قيلَ لي: مَن أشجعُ أهلِ الكوفةِ؟ لَمَا عَدَوْتُكَ، فمَا هذا الّذي أرَى مِنك؟!
فقالَ الحرُّ: إنِّي وَاللهِ أُخيِّرُ نفسي بينَ الجنَّةِ والنَّارِ، ولا أختارُ على الجنَّةِ شيئاً، وَلَو قُطِّعتُ وحُرِّقتُ.
ثمَّ ضربَ فَرَسَهُ، قاصِداً الحسينَ (عليه السلام)، مُنكِّساً رُمحَهُ، قالباً تِرسَهُ، مُطأطِئاً رأسَهُ، حياءً منْ آلِ الرَّسولِ، وهوَ يقولُ: اللهُمَّ إليك أُنيبُ، فتُبْ عليَّ، فقدْ أرعبْتُ قُلوبَ أوليائِكَ وأولادِ بنتِ نبيِّك!
[1] الرَّعدة: الرعشة.
22
16
المصيبة الراتبة
ثمَّ قالَ: جَعَلنِيَ اللهُ فِداكَ يابنَ رسولِ اللهِ... أنا صاحِبُكَ الّذي حبَسْتُكَ عنِ الرُّجوعِ، وسايَرْتُكَ في الطَّريقِ، وجعْجَعْتُ[1] بكَ في هذا المكانِ... وإنِّي قدْ جئتُكَ تائباً ممَّا كانَ منِّي إلى ربّي، ومُواسِياً لكَ بنفسي، حتَّى أموتَ بينَ يديْكَ، فهَلْ لي مِنْ تَوبةٍ؟
فقالَ (عليه السلام): «نعَمْ، يَتُوبُ اللهُ عليكَ ويغَفِرُ لكَ...».
[1] الجعجعة: المنع والحبس.
23
17
المصيبة الراتبة
شهادةُ أصحابِ الحسينِ (عليه السلام)
وتقدّمَ عُمَرُ بنُ سعدٍ نحوَ عسكرِ الحسينِ (عليه السلام)، فوضعَ سَهماً في كَبِدِ قَوسِهِ ورمى، وقالَ: اشهدوا لي عندَ الأميرِ أنِّي أوَّلُ مَن رَمى، ثمَّ رَمى النَّاسُ، وأقبلَتِ السِّهامُ منَ القومِ كأنَّها المطرُ، فلمْ يبقَ منْ أصحابِ الحسينِ (عليه السلام) أحدٌ إلَّا أصابَهُ منْ سهامِهِم.
فقالُ الحسينُ (عليه السلام) لأصحابِه: «قوموا -رحِمَكُمُ اللهُ- إلى الموتِ الّذي لا بُدَّ مِنهُ، فإنَّ هذهِ السِّهامَ رُسُلُ القومِ إليكُم».
فصارَ يبرُزُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ، ويستأذنونَ الحسينَ (عليه السلام)، ويقاتِلونَ ثمَّ يُقتَلونَ، فخَرجَ منْ عسكرِ ابْنِ سعدٍ يَسارٌ مولى زيادٍ، وسالمٌ مولى ابْنِ زيادٍ، فَطَلبا المبارزةَ، فوَثَبَ حبيبٌ وبُرَيرٌ، فلمْ يأذنْ لهُما الحسينُ (عليه السلام).
فقامَ عبدُ اللهِ بنُ عُمَيرٍ الكلبيّ، واستأذنَ الحسينَ (عليه السلام) في البِرازِ، فنظرَ إليهِ الحسينُ (عليه السلام)، وقالَ: «إنِّي أَحسَبُهُ لِلأَقرانَ[1] قتَّالاً».
فبرزَ إليهِما، وقاتلَهُما حتَّى قتَلَهُما مَعاً، وقدْ قُطِعَتْ أصابعُ كفِّهِ اليُسرى، فأخذَتْ أمُّ وَهبٍ امرأتُهُ عموداً، ثمَّ أقبلَتْ نحوَ زوجِها، تقولُ
[1] الأقران، واحده قِرن: الّذي يقاومك في بطشٍ أو قتال.
24
18
المصيبة الراتبة
لهُ: فداكَ أبي وأمّي! قاتِلْ دونَ الطَّيِّبينَ ذُرِّيَّةِ محمَّدٍ، فأقبلَ إليها يَردُّها نحوَ النِّساءِ، فأخذَتْ تُجاذبُ ثوبَهُ، ثمَّ قالَتْ: إنِّي لنْ أدعَكَ دونَ أنْ أموتَ معَكَ، فناداها الحسينُ (عليه السلام)، فقالَ: «جُزيتُم مِنْ أهلِ بيتٍ خَيراً، اِرجِعِي -رَحمكِ اللهُ- إلى النِّساءِ، فاجْلسِي معَهُنَّ، فإنَّهُ ليسَ على النِّساءِ قِتالٌ»، فانصرفَتْ إليهُنَّ.
ولَمّا حمَلَ الشّمرُ اللعينُ في جماعةٍ منْ أصحابِهِ على أصحابِ الحسينِ (عليه السلام)، فثَبتُوا لهُم وكَشَفوهُم، قاتَلَ عبدُ اللهِ بنُ عُمَيرٍ قِتالاً شَديداً، حتّى قُتِلَ (رِضوانُ اللهِ عليهِ).
وخرجَتِ امرأتُهُ، تمشي إلى مصرعِهِ، وجلسَتْ عندَ رأسِهِ، تمسَحُ الدَّمَ والتُّرابَ عنْهُ، وتقولُ: هنيئاً لكَ الجنَّةُ، أَسألُ اللهَ الّذي رزقَكَ الجنَّةَ أنْ يَصحَبَني مَعَكَ.
فقالَ الشّمرُ لغلامِهِ (رُستُمَ): اِضرِبْ رأسَها بالعَمودِ، فَضَرَبَ رأسَها بالعَمودِ فشدَخَهُ، فقضَتْ شهيدةً (رِضوانُ اللهِ عليها).
ولَمّا حمَلَ عَمْرُو بنُ الحَجّاجِ فيمَن معَهُ مِن أصحابِهِ على أصحابِ الحسينِ (عليه السلام)، ثَبتُوا لهُ، وجَثَوْا على الرُّكَبِ، وأشرَعُوا الرِّماحَ، فلمْ تُقدِمِ الخيلُ، فلمَّا ذهبتِ الخيلُ لترجعَ، رشَقَهُم أصحابُ الحسينِ (عليه السلام) بالنَّبْلِ، فصَرعُوا منهُم رجالاً، وجَرحُوا آخرينَ.
ثمَّ حمَلَ عَمْرُو بنُ الحَجّاجِ مرّةً أخرى منْ نحوِ الفُراتِ على أصحابِ الحسينِ (عليه السلام)، بعدَ أنْ حرَّضَ النَّاسَ على قِتالهِم، وفي هذهِ الحملةِ قاتلَ مسلمُ بنُ عوسجةَ، فبالَغَ في قِتالِ الأعداءِ، وصَبَرَ على أهوالِ البلاءِ، حتَّى
25
19
المصيبة الراتبة
سقَطَ إلى الأرضِ وبهِ رَمَقٌ، فمَشى إليهِ الحسينُ (عليه السلام)، ومَعَهُ حبيبُ بنُ مُظاهِرٍ، فقالَ لهُ الحسينُ (عليه السلام): «رَحِمَكَ اللهُ يا مُسلمُ!»، وتلا قولَهُ تعالى: ﴿فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلا﴾[1].
ودَنا منهُ حبيبٌ، وقالَ: عَزَّ عليَّ مصرَعُكَ يا مُسلمُ، أَبْشِرْ بالجنَّةِ.
فقالَ لهُ مسلمٌ بصوتٍ ضعيفٍ: بشَّرَكَ اللهُ بخيرٍ.
فقالَ لهُ حبيبٌ: لولا أنِّي أعلمُ أنِّي في الأثَرِ لاحقٌ بكَ، لأَحببْتُ أنْ تُوصيَني بكلِّ ما أَهَمَّكَ.
قالَ مُسلمٌ: أُوصيكَ بهذا -وأشارَ إلى الحسينِ (عليه السلام)- أنْ تموتَ دونَهُ.
قالَ حبيبٌ: أَفعلُ وربِّ الكعبةِ، ولأُنْعِمَنَّكَ عَيْناً.
فَما أَسرعَ ما فاضَتْ نَفْسُه بينهُما، وقَضَى نحبَهُ (رِضوانُ اللهِ عليهِ).
ولَمّا نَظرَ مَن بَقيَ مِن أصحابِ الحسينِ (عليه السلام) إلى كَثرةِ مَنْ قُتِلَ مِنهُم، أخذَوا يستأذِنونَ الحسينَ (عليه السلام) في الذَّبِّ عنهُ، والدَّفعِ عنْ حُرَمِهِ، وكلٌّ يَحمي الآخَرَ منْ كيدِ عدوِّهِ.
وحمَلَ الشّمرُ على فُسطاطِ الحسينِ (عليه السلام)، وطعَنَهُ بالرُّمحِ، وقالَ: عَليَّ بالنَّارِ لِأُحرِقَهُ على أهلِهِ؛ فتَصايَحَتِ النِّساءُ، وخرَجْنَ مِنَ الفُسطاطِ[2]، فناداهُ الحسينُ (عليه السلام): «يابْنَ ذي الجَوْشَنِ، أنتَ تَدعُو بالنَّارِ لتُحرِقَ بيتِي على أهلِي؟! أحرَقَكَ اللهُ بالنَّارِ!».
[1] سورة الأحزاب، الآية 23.
[2] الفُسطاط (بضمّ الفاء وكسرها): ضربٌ من الأبنية.
26
20
المصيبة الراتبة
ثمَّ جاءَ إليهِ شِبثُ بنُ رِبْعيّ، وقالَ لهُ: أَمُرعِباً للنِّساءِ صِرْتَ؟! ما رأيتُ مَقالاً أَسوأَ منْ مَقالَتِكَ! ولا مَوقِفاً أقبحَ منْ مَوقِفِكَ!
فاسْتَحَى الشّمرُ، وهَمَّ بالانصِرافِ، فَحَمَلَ عليهِ وعلى جماعتِهِ زُهيرُ بنُ القَينِ في عَشَرةٍ منْ أصحابِهِ، فكَشفُوهُم عنِ الخِيامِ.
ولَمّا كَثُرَ القَتلُ في أهلِ الكوفةِ، صاحَ عَمْرُو بنُ الحَجّاجِ بأصحابِهِ: وَيحَكُم! أتَدرونَ مَنْ تُقاتِلونَ؟ تُقاتِلونَ فُرسانَ المِصرِ، وأهلَ البصائِرِ، وقوماً مُستَميتينَ، لا يبرُزُ إليهِم أحدٌ منكُم إلَّا قَتلوهُ على قِلَّتِهِم. واللهِ، لَوْ لَم تَرموهُم إلَّا بالحِجارةِ لَقَتلْتُمُوهُم.
فقالَ ابنُ سعدٍ: صَدَقْتَ، الرَّأيُ ما رأيتَ، أرسِلْ في النَّاسِ مَن يَعزِمُ عليهِم أنْ لا يُبارزَهُم رَجُلٌ منهُم، ولَوْ خَرَجتُم إليهِم وُحْداناً لَأتَوا عليكُم مبارَزَةً.
27
21
المصيبة الراتبة
صلاةُ الظَّهيرةِ
واشتدَّ القِتالُ بينَ الفريقَينِ حتَّى الزَّوالِ، فالتفَتَ أبو ثَمامةَ الصَّائديُّ إلى الشَّمسِ قدْ زالَتْ، فقالَ للحسينِ (عليه السلام): نَفسي لكَ الفداءُ، إنِّي أرى هؤلاءِ قدِ اقتربُوا مِنكَ. لا واللهِ، لا تُقتَلُ حتَّى أُقتلَ دونَكَ إنْ شاءَ اللهُ، وأُخضَّبَ بدَمِي، وأُحِبُّ أنْ ألقَى ربِّي، وقدْ صلَّيْتُ معَكَ هذهِ الصَّلاةَ الّتي دَنَا وقتُها.
فرفَعَ الحسينُ (عليه السلام) رأسَهُ إلى السَّماءِ، وقالَ: «ذَكَرْتَ الصَّلاةَ، جَعَلَكَ اللهُ مِنَ المُصلِّينَ الذَّاكِرينَ! نَعَم، هذا أوَّلُ وَقْتِها، سَلُوا القَومَ أنْ يَكُفُّوا عنّا حتَّى نُصلِّيَ».
فقالَ الحُصَينُ بنُ نُمَيرٍ: إنَّها لا تُقبَلُ.
فقالَ له حبيبُ بنُ مُظاهِرٍ: زَعَمْتَ أنَّها لا تُقبَلُ من آلِ الرَّسولِ، وتُقْبَلُ مِنك؟!
فحَمَلَ عليهِ الحُصَينُ، فضرَبَ حبيبٌ وجهَ فرسِهِ بالسَّيفِ، فشبَّتْ بهِ الفرسُ، ووقَعَ عنها، وحمَلَهُ أصحابُهُ، واستَنقَذوهُ.
ثمَّ خَرَجَ حَبيبُ بنُ مُظاهِرٍ، وقاتَلَ قِتالاً شَديداً، فقَتلَ مِنهُم عدداً كبيراً. وبينما هوَ يُقاتِلُ، حمَلَ عليهِ بَديلُ بنُ صُرَيمٍ، فضرَبهُ حبيبٌ
28
22
المصيبة الراتبة
بالسَّيفِ على رأسِهِ فقَتَلَهُ، وحمَلَ على حبيبٍ رجلٌ آخرُ منْ تميمٍ، فطَعَنهُ بالرُّمحِ، فسَقطَ حبيبٌ إلى الأرضِ، فذَهَبَ لِيقومَ، وإذا الحُصَينُ يَضرِبُهُ بالسَّيفِ على رأسِهِ، فسَقطَ لِوجهِهِ يَخورُ مُضرَّجاً بدمهِ، ونَزلَ التَّميميُّ فاحْتَزَّ رأسَهُ، فآلَمَ مقتلُهُ الحسينَ (عليه السلام)، واستَرجعَ كثيراً، وقالَ: «عِندَ اللهِ أَحتَسِبُ نفسي وحُماةَ أصحابي!».
ولمّا قُتِلَ حبيبٌ، أخَذَ الحرُّ يقاتِلُ، فحمَلَ على القومِ معَ زُهيرِ بنِ القَيْنِ، فكانَ إذا شَدَّ أحدُهُما فاستلْحَمَ، شدَّ الآخَرُ واستَنقذَهُ، ففعَلا ذلكَ ساعةً.
فبَيْنا النَّاسُ يتجاوَلُونَ ويقْتتِلُونَ، والحُرُّ يَحْمِلُ على القومِ مُقْدِماً... يضرِبُهُمْ بسيفِهِ، إذ تكاثَرَ عليهِ الرَّجَّالةُ حتَّى أردَوْهُ صَريعاً، فحمَلَهُ الأصحابُ، ووضعُوهُ بينْ يَدَي الإمامِ الحسينِ (عليه السلام)، وبهِ رَمَقٌ، فجعَلَ يمسَحُ وجهَهُ، ويقولُ: «أنتَ الحرُّ كما سمَّتْكَ أمُّكَ، وأنتَ الحرُّ في الدُّنيا، وأنتَ الحرُّ في الآخرةِ».
ثمَّ قامَ الحسينَ (عليه السلام) إلى الصَّلاةِ، وقالَ: لزُهيرِ بنِ القَينِ وسعيدِ بنِ عبدِ اللهِ: «تَقدَّما أمامي حتَّى أُصلِّيَ الظُّهرَ».
فتقدَّما أمامَهُ، فصلّى الحسينُ (عليه السلام) بأصحابِهِ، فكلَّما جاءَتِ السِّهامُ نحوَ الحسينِ (عليه السلام) يميناً وشِمالاً، قامَ سعيدٌ بينَ يَدَيهِ، فما زالَ يَتلقّى النَّبلَ بنَحْرِهِ وصَدرِهِ، حتَّى أُثخِنَ بالجِراحِ، وسقطَ إلى الأرضِ، وهُوَ يقولُ: اللهُمَّ العَنْهُم لَعْنَ عادٍ وثمودَ، اللهُمَّ أَبلِغْ نبيَّك عنّي السَّلامَ، وأَبلِغْه ما لَقِيتُ منْ ألمِ الجِراحِ، فإنِّي أردْتُ بذلكَ ثوابَكَ في نُصْرَةِ ذُرِّيَّةِ نبيِّكَ
29
23
المصيبة الراتبة
محمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، ثمَّ التَفَتْ إلى الحسينِ (عليه السلام) -وكانَ قدْ فَرَغَ منْ صَلاتِهِ- وقالَ: أَوَفَيتُ يابْنَ رسولِ اللهِ؟
قالَ الحسينُ (عليه السلام): «نَعَمْ، أنتَ أمامِي في الجنَّةِ»، ثمَّ قضَى نَحبَهُ (رِضوانُ اللهِ عليهِ).
30
24
المصيبة الراتبة
الحملةُ الثانيةُ
ثمَّ قالَ الحسينُ (عليه السلام) لبَقيَّةِ أصحابِهِ: «يا كِرامُ، هذهِ الجنَّةُ فُتِحَتْ أبوابُها، واتَّصلَتْ أنهارُها، وأينَعَتْ ثِمارُها، وهذا رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) والشُّهداءُ الّذينَ قُتِلوا في سبيلِ اللهِ، يَتوقَّعونَ قُدومَكُم، ويتباشرُونَ بكُم، فحامُوا عنْ دينِ اللهِ ودينِ نبيِّهِ (صلى الله عليه وآله)، وذُبُّوا عنْ حُرَمِ الرَّسولِ (صلى الله عليه وآله)».
وخرجَتْ حرائرُ الرِّسالةِ وبناتُ الزَّهراءِ (عليها السلام) منَ الخيمةِ، وصِحْنَ: يا مَعشرَ المسلمينَ، ويا عُصبةَ المؤمنينَ، اِدفَعُوا عنْ حُرَمِ الرسولِ (صلى الله عليه وآله) وعنْ إمامِكُمُ المنافقينَ، لتكونُوا معَنا في جِوارِ جَدِّنا رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله).
فعندَ ذلكَ بكى أصحابُ الحسينِ (عليه السلام)، وقالُوا: نفوسُنا دونَ أنفسِكُم، ودماؤنا دونَ دمائِكُم، وأرواحُنا لكمُ الفداءُ، فواللهِ لا يصِلُ إليكُم أحَدٌ بمكروهٍ وفينا عِرقٌ يَضرِبُ.
ثمَّ خرجَ زهيرُ بنُ القَينِ، فوَضَعَ يدَهُ على مَنكِبِ الحسينِ (عليه السلام)، وقالَ مستأذناً:
أَقـدِمْ فُدِيــتَ هــادِياً مَهدِيّا
فاليَومَ ألقَى جَدَّكَ النَّبِيّا
31
25
المصيبة الراتبة
وحَسَــناً والمُرتضَــى عَلِـــيّا
وذا الجَــناحَينِ الفَـتى الكَمِيّا[1]
وأسَدَ اللهِ الشَّهيدَ الحَيّا
فقالَ الحسينُ (عليه السلام): «وأنا ألْقاهُم على إِثْرِكَ».
فقاتلَ زُهيرٌ حتَّى قَتلَ مَقتلةً عظيمةً، ثمَّ عَطفَ عليه رَجُلانِ فقتلاهُ (رِضوانُ اللهِ عليهِ).
فوقفَ عندَهُ الحسينُ (عليه السلام)، وقالَ: «لا يُبْعِدَنَّكَ اللهُ يا زهيرُ، ولَعَنَ قاتلِيكَ لَعْنَ الّذين مُسِخُوا قِرَدَةً وخَنازيرَ».
ووقفَ عابسُ بنُ أبي شبيبٍ الشَّاكريُّ أمامَ الحسينِ (عليه السلام)، وقالَ: يا أبا عبدِ اللهِ، واللهِ ما أمسَى على ظهرِ الأرضِ قريبٌ ولا بعيدٌ، أعزَّ عليَّ ولا أحبَّ إليَّ منْكَ، ولوْ قَدِرتُ على أنْ أدفعَ عنك الضَّيْمَ والقتلَ بشيءٍ أعزَّ عليَّ منْ نفسِي ودمِي لَفعلْتُ. السَّلامُ عليكَ يا أبا عبدِ اللهِ، أُشْهِدُ اللهَ أَنِّي على هُداكَ وهُدى أبيكَ.
ثمَّ مَشى بالسَّيفِ نحوَهُم، فأخذَ يُنادي: أَلَا رَجلٌ لِرجلٍ؟ فأحْجَموا عنهُ، ونادى أحدُهُم: أيُّها النَّاسُ، هذا أسَدُ الأُسودِ، هذا أشجعُ النَّاسِ، هذا ابنُ أبي شبيبٍ، لا يخرُجَنَّ إليهِ أحدٌ منكُم.
فصاحَ عُمَرُ بنُ سعدٍ: أرضِخُوهُ[2] بالحجارةِ. فرمَوهُ بالحجارةِ مِنْ كلِّ جانبٍ. فلمّا رأى ذلكَ، ألقَى دِرعَهُ ومِغْفَرَهُ، وشدَّ على النَّاسِ، فهَزَمَهُم
[1] الكَميَّا: الشجاع المتكمّي؛ أي المتغطّي بسلاحه.
[2] الرضخ: كسر الرأس، والمراضخة بالسهام: المراماة.
32
26
المصيبة الراتبة
بينَ يدَيهِ. ثمَّ إنَّهم تَعَطَّفُوا عليهِ منْ كلِّ جانبٍ، فقُتِلَ واحتُزَّ رأسُهُ (رِضوانُ اللهِ عليهِ)، وتخاصَمُوا فيهِ؛ كلٌّ يقولُ: أنا قتلتُهُ، فقالَ ابنُ سعدٍ: لا تختصِمُوا، هذا لمْ يَقتلْهُ رجلٌ واحدٌ.
وجَعَلَ نافِعُ بنُ هِلالٍ الجَمَليُّ يرمِيهِم بالسِّهامِ، ولمّا نَفدَتْ سِهامُهُ، جرَّدَ سيفَهُ، فحَمَلَ على القومِ، فأحاطُوا بهِ يَرمُونَه بالحِجارةِ والنِّصالِ، حتَّى كَسَرُوا عَضُدَيهِ، وأخذُوهُ أسيراً، فأمْسَكَهُ شمرٌ وأصحابُهُ يسوقونَهُ إلى ابنِ سعدٍ، والدَّمُ يسيلُ على لحيتِهِ، فقالَ لهُ عُمَرُ: وَيْحَكَ يا نافِعُ! ما حَمَلَكَ على ما صَنَعْتَ بِنفسِكَ؟ قالَ: إنَّ رَبّي يَعلَمُ ما أردْتُ. واللهِ، لقدْ قَتلْتُ منكُم اثنَي عشَرَ، سِوى مَن جَرحْتُ، وما ألومُ نَفْسي، ولَو بَقِيَتْ لي عَضُدٌ وساعِدٌ ما أَسَرتُموني، فقالَ لهُ شمرٌ: اُقتلْهُ أصلحَكَ اللهُ، قالَ: أنتَ جِئتَ بهِ، فإنْ شِئتَ فاقتُلْهُ، فانْتَضى[1] شمرٌ سيفَهُ، فقالَ لهُ نافِعٌ: أما واللهِ لَو كُنتَ مِنَ المسلمينَ، لَعَظُمَ عليكَ أنْ تَلْقى اللهَ بدِمائِنا! فالحمدُ للهِ الّذي جعلَ مَنايانا على يَدِ شِرارِ خَلقِهِ، فقَتَلَهُ (رِضوانُ اللهِ عليهِ).
وبَرَزَ بعدَ ذلكَ أَنَسُ بنُ الحَرْثِ الكاهِليُّ، وكانَ شيخاً كبيراً صَحابِيّاً، رأى النَّبيَّ (صلى الله عليه وآله)، وسَمِعَ حديثَهُ، وشَهِدَ معَهُ بَدْراً وحُنَيناً، فاستأذنَ الحسينَ (عليه السلام)، وبرَزَ شادّاً وَسَطَهُ بالعِمامةِ، رافِعاً حاجِبَيْهِ بالعِصابةِ عن عينَيهِ، فلمّا نَظَرَ إليهِ الحسينُ (عليه السلام) بهذهِ الهَيئةِ، بَكى، وقالَ: «شَكَرَ اللهُ سَعيَكَ يا شيخُ».
[1] انتضى سيفَه: استلَّ سيفَه من غمدِه.
33
27
المصيبة الراتبة
فقتَلَ جَمْعاً منهُم، وقُتِلَ (رِضوانُ اللهِ عليهِ).
وجاءَ عَمْرُو بنُ جُنادةَ الأنصاريُّ بعدَ أنْ قُتِلَ أبوهُ، وهوَ ابنُ إحدى عشْرةَ سنةٍ، يَستأذِنُ الحسينَ (عليه السلام)، فأبى أنْ يأذنَ لهُ، وقالَ: «هذا غلامٌ قُتِلَ أبوهُ في المعركةِ، ولَعلَّ أمَّهُ تَكرَهُ خُروجَهُ».
فقالَ الغلامُ: إنَّ أُمِّي هيَ الّتي أمرَتْني بذلكَ؛ فأَذِنَ لهُ الحسينُ (عليه السلام)، فبرزَ، وهُوَ يقولُ:
أميري حُسَـينٌ ونِعْـــمَ الأميرْ
سُرورُ فؤادِ البَشـيرِ النَّذيرْ
عَلِــــيٌّ وفـاطـِــــمَةٌ والِــداهُ
فهَلْ تَعْلَمُونَ لَهُ مـِنْ نَظيرْ
وقاتلَ، فمَا أسرَعَ أنْ قُتلَ (رِضوانُ اللهِ عليهِ)، فاحتُزَّ رأسُهُ، ورُميَ بهِ إلى جِهةِ مُعَسْكَرِ الحسينِ (عليه السلام)، فأَخَذَتْ أُمُّهُ الرَّأسَ، ومَسَحَتِ الدَّمَ عنهُ، وهِيَ تقولُ: أحْسَنتَ يا بُنَيَّ، يا سرورَ قَلبي ويا قُرَّةَ عَيني!
وعادَتْ إلى المخيَّمِ، فأخذَتْ عَمودَ خَيمةٍ، وحمَلَتْ على القومِ، وهِيَ تقولُ:
أنا عَجوزٌ في النِّسا ضَعيفَه
خاوِيـــَــةٌ بالـِـيَةٌ نحيــفَه
أضرِبُكُم بِضربةٍ عنــــيفَه
دونَ بَني فاطِمةَ الشَّريــفَه
34
28
المصيبة الراتبة
وضرَبَتْ رَجُلَينِ بالعَمودِ، فدعا لها الحسينُ (عليه السلام)، وأمرَ بِرَدِّها إلى المخيَّمِ، فرَجَعَتْ.
وكانَ للحسينِ (عليه السلام) غُلامٌ تُرْكِيٌّ، اسْمُهُ سُليمانُ، فاستأذَنَهُ في القِتالِ، فأذِنَ لهُ، فحَمَلَ على القومِ، وقَتلَ جَماعةً كثيرةً، ثمَّ وَقعَ صَريعاً، فاستغاثَ بالحسينِ (عليه السلام)، فأتاهُ واعتنَقَهُ، ففتحَ الغلامُ عينَهُ، ورأى الحسينَ (عليه السلام)، فتبسَّمَ، وأخذَ يفتَخِرُ، ويقولُ: مَنْ مِثلي، وابنُ رسولِ اللهِ واضِعٌ خَدَّهُ على خَدِّي؟! ثمَّ فاضَتْ نفْسُهُ بينَ يَدَي الحسينِ (عليه السلام) (رِضوانُ اللهِ عليهِ).
ولم يزَلْ أصحابُ الحسينِ (عليه السلام) يُسارعونَ إلى القتلِ بينَ يدَيهِ، وكانَ الرَّجلُ بعدَ الرَّجلِ يَأتِي إلى الحسينِ (عليه السلام)، ويقولُ: السَّلامُ عليكَ يابنَ رسولِ اللهِ، فيُجيبُهُ الحسينُ (عليه السلام): «وعَليكَ السَّلامُ، ونَحنُ خَلفَكَ»، ويقرأُ: ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾[1]، حتَّى قُتِلوا بأجمَعِهم (رِضوانُ اللهِ عليهِم).
[1] سورة الأحزاب، الآية 23.
35
29
المصيبة الراتبة
شهادةُ أهلِ بيتِ الحسينِ (عليه السلام)
ولَمّا لمْ يَبقَ معَ الحسينِ (عليه السلام) إلَّا أهلُ بيتِهِ، وهمْ وُلْدُ عليٍّ (عليه السلام)، ووُلْدُ جعفرٍ وعقيلٍ، ووُلْدُ الحسنِ(عليه السلام)، ووُلْدُ الحسينِ(عليه السلام)، اجتمَعُوا وجَعلَ يُوَدِّعُ بعضُهُم بعضاً، وعَزَمُوا على مُلاقاةِ الحُتوفِ ببأسٍ شديدٍ ونُفوسٍ أبيَّةٍ.
مصرعُ عليٍّ الأكبرِ
وأوَّلُ مَنْ تقدَّمَ عليُّ بنُ الحسينِ الأكبرُ (عليه السلام)، فأقبلَ مستأذناً منْ أبيهِ، ثمَّ حملَ على القومِ، وهوَ يقولُ:
أَنَا عَلِيُّ بْنُ الحُسـَـيْنِ بْـــنِ عَلِــي
نَحْنُ وَبَيْـتِ اللهِ أَوْلَـى بِالنَّبِي
تَاللهِ لَا يَحْكُمُ فِينَا ابـــنُ الدَّعِــي
أَطْـعَنُكُمْ بالرُّمْـحِ حَتَّى يَنْثَـنِي
أَضْرِبُكُمْ بِالسَّيْفِ أَحْمِي عَنْ أَبِي
ضَـرْبَ غُـلَامٍ هَاشِــمِيٍّ عَلَـوِي
36
30
المصيبة الراتبة
ولَمْ يَزَلْ يحمِلُ على المَيمنةِ، ويُعيدُها على المَيسَرةِ، ويغوصُ في الأوساطِ، حتَّى قتلَ مِنهُم مَقتلةً عظيمةً، وضجَّ النَّاسُ منْ كَثرةِ مَن قُتِلَ مِنْهُم.
ولَمّا اشتدَّ بهِ العطشُ، رَجَعَ إلى أبيهِ الحسينِ (عليه السلام) قائلاً: يا أبَهْ، العطشُ قدْ قَتَلَني، وثِقلُ الحديدِ قدْ أجْهدَني، فَهَلْ إلى شُربةِ ماءٍ مِنْ سبيلٍ أتقوَّى بها على الأعداءِ؟!
فأجَابَهُ الحسينُ (عليه السلام): «قاتِلْ قليلاً، فما أسرَعَ ما تلقى جَدَّك رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فيَسقِيكَ بكأسِهِ الأوفى شُربةً لا تَظمأُ بعدَها أبداً».
فرَجَعَ عليٌّ الأكبرُ إلى المَيدانِ، وجعلَ يقاتِلُ أعظمَ القِتالِ، فأكثرَ القَتلَ في صفوفِ الأعداءِ.
فقالَ مُرَّةُ بنُ مُنقِذٍ العَبْديُّ: عَليَّ آثامُ العربِ إنْ لم أُثكِلْ بهِ أباهُ، فطعنَهُ بالرُّمحِ في ظهرِهِ، وضربَهُ بالسَّيفِ على رأسِهِ، ففَلَقَ هامَتَهُ، فاعتنقَ فرسَهُ، فاحتمَلَهُ إلى مُعسكَرِ الأعداءِ، فجَعَلوا يضرِبونَهُ بأسيافِهِم، فهَوَى إلى الأرضِ مُنادِياً: عليكَ منِّي السَّلامُ يا أبتاهُ! هذا جَدِّي رسولُ اللهِ قدْ سَقاني بكأسِهِ الأَوفى شُربةً لا أظمأُ بعدَها أبداً، وهوَ يقولُ لكَ: العجلَ العجلَ، فإنَّ لكَ كأساً مَذْخورةً.
ثمَّ شَهِقَ شَهقةً كانَت فيها نفْسُهُ، وفارقَتْ روحُهُ الدُّنيا.
فأقبلَ الحسينُ إلى ولدِهِ مُسرعاً، حتَّى وَصَلَ إليهِ، وضعَ خَدَّهُ على خَدِّهِ، وهوَ يقولُ: «قَتَلَ اللهُ قوماً قتلوكَ يا بُنيَّ، ما أَجرَأَهُمْ على الرَّحمنِ، وعلى انتهاكِ حُرْمةِ الرَّسولِ! على الدُّنيا بعدَكَ العَفا! أمَّا أنتَ فقدِ استرحْتَ منْ كُرَبِ الدُّنيا ومِحَنِها، وقدْ صِرْتَ إلى رَوْحٍ ورَيحانٍ، وبَقِيَ أبوكَ، وما أسرَعَ لُحوقَهُ بكَ!».
37
31
المصيبة الراتبة
عنِ الإمامِ الصَّادقِ (عليه السلام) مخاطِباً عليّاً الأكبرَ: «بِأبي أنْتَ وَأُمِّي مِنْ مُقَدَّمٍ بَينَ يَدي أبيكَ، يَحْتَسِبُكَ وَيَبْكي عَلَيْكَ، مُحتَرِقاً عَلَيْكَ قَلْبُهُ، يَرْفَعُ دَمَكَ بِكَفِّهِ إلى أعْنانِ السَّماءِ، لا تَرْجِعُ مِنْهُ قَطْرَةٌ، وَلا تَسْكُنْ عَلَيْكَ مِنْ أبيكَ زَفْرَةٌ».
ثمَّ قالَ لفِتيانِهِ منْ بني هاشمٍ: «اِحْمِلُوا أخاكُم».
فحملُوهُ مِنْ مَصْرَعِهِ، وجاؤوا بهِ إلى الفُسطاطِ الّذي يُقاتِلُونَ أمامَهُ، فخرجَتْ زينبُ بِنْتُ عليٍّ (عليهما السلام) مُسْرِعةً، وخلفَها النِّساءُ والأطفالُ، وهِيَ تُنادِي: يا حبيباه! يابنَ أُخَيَّاه! وانكبَّتْ عليهِ، فبكَى الحسينُ (عليه السلام) رَحْمةً لِبُكَائِها، وقالَ: «إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجعونَ»...
ثمَّ قامَ، وأخذَ بيَدِها، وردَّها إلى الفُسطاط.
مقَاتـلُ آلِ عقيلٍ وأبي طالبٍ
وخرجَ مِنْ بَعْدهِ عبدُ اللهِ بنُ مسلمِ بنِ عقيلٍ، ولمّا قُتِل، حملَ آلُ أبي طالبٍ حَملةً واحدةً، فاعتوَرَهُمُ النَّاسُ، وأَحَاطُوا بهِم، فصاحَ الحسينُ (عليه السلام): «صَبراً على الموتِ يا بَنِي عُمومَتي، لا رَأَيتُم هَوَاناً بعدَ هذا اليومِ».
فَجَعلوا يقاتلونَ أشَدَّ القِتالِ، حتّى قُتِلَ منهُم جماعةٌ (رِضوانُ اللهِ عليهِم).
أولادُ الإمامِ الحسنِ (عليه السلام)
ولمْ يزلْ آلُ أبي طالِبٍ يَتَسَابقونَ إلى القِتالِ، حتَّى وصَلَتِ النَّوبةُ إلى
38
32
المصيبة الراتبة
أولادِ الإمامِ الحسنِ (عليه السلام)، وخرجَ عبدُ اللهِ الأكبرُ بنُ الحسنِ (عليه السلام)، فقاتلَ حتَّى قُتِلَ (رِضوانُ اللهِ عليهِ).
وخرجَ القاسمُ بنُ الحسنِ (عليه السلام)، وهوَ غلامٌ لم يَبلُغِ الحُلُمَ، فأقبلَ إلى عمِّهِ يَستأذنُهُ في القِتالِ، فنَظرَ إليهِ الحسينُ (عليه السلام)، ولمْ يمْلِكْ نفسَهُ دونَ أنْ ضمَّهُ إلى صدرِهِ، وجَعلا يبكيانِ، ثمَّ أذِنَ لهُ، فبرزَ إلى الميَدانِ راجِلاً، وهوَ يقولُ:
إِنْ تُنْكِرُونِي فَأَنَا نَجْلُ الْحَسَنْ
سِبْطِ النَّبِيِّ الْمُصْطَـفَى والْمُؤْتَمَنْ
هَذَا حُسَيْنٌ كَالْأسِيرِ الْمُرْتَهَنْ
بَيْنَ أُنَاسٍ لَا سُقُوا صَوْبَ الْمُزَنْ
فقاتَلَ مُقاتَلةَ الرِّجالِ والأبطالِ. وبَيْنَما هوَ يُقاتِلُ، انقطَعَ شِسْعُ نَعلِهِ اليُسرى، فقالَ عَمْرُو بنُ سعدِ بنِ نُفَيلٍ الأَزْديُّ: واللهِ، لأَشُدَّنَّ عليهِ، فمَا ولّى حتَّى ضربَ رأسَ القاسمِ بالسَّيفِ، فوقعَ لوجهِهِ، وصاحَ: يا عَمّاه!
فأتاهُ الحسينُ (عليه السلام) مُسرِعاً، وقَتَلَ قاتلَهُ، ثمَّ وقفَ عندَ رأسِ القاسمِ، وهُوَ يَفْحَصُ بِرِجْلَيْهِ، فقالَ: «يعِزُّ واللهِ على عمِّكَ أنْ تدعُوَهُ فلا يجيبُكَ، أو يجيبُكَ فلا يُعينُكَ، أو يعينُكَ فلا يُغني عَنكَ، بُعْداً لِقومٍ قتلُوكَ، هذا يَومٌ كَثُرَ واتِرُهُ، وقلَّ ناصِرُه».
ثمَّ حَمَلَهُ، وكانَ صدرُهُ على صَدرِ الحسينِ (عليه السلام)، ورِجلاهُ تخُطَّانِ في الأرضِ، فجاءَ بهِ إلى الخيمةِ، ومدَّدَهُ معَ وَلدِهِ عليٍّ الأكبرِ والقَتْلَى منْ أهلِ بيتِهِ.
39
33
المصيبة الراتبة
شهادةُ العبَّاسِ (عليه السلام)
ولمّا رأى العبَّاسُ بنُ عليٍّ (عليه السلام) كَثرةَ القتلى في أهلِ بيتِهِ، قالَ لإخْوَتهِ الثَّلاثةِ منْ أمِّهِ (أمِّ البنينَ) وأبيهِ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام)، وَهُم عبدُ اللهِ وعُثمَانُ وجعفرٌ: تقدَّمُوا يا بَني أُمِّي، حتَّى أراكُم قدْ نَصَحتُم للهِ ولرسولِهِ.
فقاتَلوا بينَ يَدَي أبي الفَضلِ، وأَبلَوْا بلاءً حَسناً حتَّى قُتلوا بأجمعِهِم (رِضوانُ اللهِ عليهِم).
ثمَّ جاءَ العبَّاسُ إلى أخيهِ الحسينِ (عليه السلام)، يستأذِنُهُ في القِتالِ، فأمرَهُ أنْ يطلُبَ الماءَ للأطفالِ، فرَكِبَ جوادَهُ، وأخذَ سيفَهُ والقِربةَ، وقَصدَ الفُراتَ، فأحاطَ بالعبَّاسِ المُوكَلُونَ بالفراتِ، ورَمَوْهُ بالنِّبالِ، فلَمْ يَعْبَأْ بجَمعِهِم، ولا رَاعَتْهُ كَثرَتُهُم، فكَشَفَهُم عنْ وجهِهِ، وقتلَ عدداً منهُم، ودخلَ الفراتَ مطمَئِنّاً، فذكَرَ عَطشَ أخيهِ الحسينِ (عليه السلام)، ومَلأَ القِربةَ، وَهوَ يَقولُ:
يَا نَفْسُ مِنْ بَعْدِ الْحُسَيْنِ هُونِي
وَبَعْدَهُ لَا كُنْتِ أَنْ تَكُونِي
هَذَا حُسَيْنٌ وَارِدُ الْمَنُونِ
وَتَشْرَبِينَ بَارِدَ الْمَعِينِ
تَاللهِ مَا هَذَا فِعَالُ دِينِي
وَلَا فِعَالُ صَادِقِ الْيَقِينِ
40
34
المصيبة الراتبة
ثمَّ رَكِبَ جوادَهُ، وتوجَّهَ نحوَ المُخَيَّمِ مُسرِعاً، فقَطعَ الأعداءُ عليهِ الطَّريقَ، فجعلَ يصولُ في أوْساطِهِم، ويضرِبُ فيهِمْ بِسيفِهِ، حتَّى أَكثرَ القتلَ فيهِم، وكَشَفَهُم عنِ الطَّريقِ، وهُوَ يقولُ:
لَا أَرْهَبُ الْمَوْتَ إِذَا الْمَـوْتُ زَقَا[1]
حَتَّى أُوَارَى فِي الْمَصَالِيتِ[2] لِقَى
نَفْسِي لِسِبْطِ الْمُصْطَفَى الطُّهْرِ وِقَا
إِنِّي أَنَا الْعَبَّاسُ أَغْدُو بِالسِّقَا
وَلَا أَخَافُ الشَّرَّ يَوْمَ الْمُلْتَقَى
فكَمَنَ لهُ زيدُ بنُ ورقاءَ منْ وراءِ نَخلةٍ، وعاوَنَهُ حكيمُ بنُ الطُّفيلِ، فضرَبَهُ على يمينِهِ بالسَّيفِ، فبَرَاها، فقالَ (عليه السلام):
وَاللهِ إِنْ قَطَعْتُمُ يَمِينِــــي
إِنِّي أُحَامِي أَبَداً عَنْ دِينِي
وَعَنْ إِمَامٍ صَادِقِ الْيَقِينِ
نَجْلِ النَّبِيِّ الطَّــاهِرِ الأَمِينِ
فأخذَ السَّيفَ بِشِمالِهِ، وحَمَلَ على القومِ كالأسدِ الغضبانِ، فكمَنَ لهُ حكيمُ بنُ الطُّفيلِ منْ وراءِ نخلةٍ أخرى، وضربَهُ على شِمالِهِ، فقطَعَها مِنَ الزَّندِ، فقالَ (عليه السلام):
[1] زقا: صاح.
[2] المَصاليت: جمع مصلات: الرجل الماضي في الأمور.
41
35
المصيبة الراتبة
يَا نَفْسُ لَا تَخْشَيْ مِنَ الْكُفَّارِ
وَأَبْشِرِي بِرَحْــمَةِ الْجَبَّارِ
مَعَ النَّبِيِّ الْمُصْطَـفَى الْمُخْــتَارِ
قَدْ قَطَعُوا بِبَغْيِهِمْ يَسَارِي
فَأَصْلِهِمْ يَا رَبِّ حَرَّ النَّارِ
وجَعَلَ يُسرِعُ ليوصِلَ الماءَ إلى المخيَّمِ، فلمّا نظرَ ابنُ سعدٍ إلى شِدّةِ اهتمامِ العبَّاسِ (عليه السلام) بالقِربةِ، صاحَ بالقومِ: ويلَكُم، اِرْشُقوا القِربةَ بالنَّبلِ، فواللهِ إنْ شَرِبَ الحسينُ منْ هذا الماءِ، أفناكُم عنْ آخرِكُم.
فأتَتهُ السِّهامُ كالمطرِ، وأصابتْهُ في صَدرِهِ، وسهمٌ أصابَ إحدى عينَيهِ فأطفأَها، وجَمَدَ الدَّمُ على عينِهِ الأخرى فلم يُبْصِرْ بها، وأصابَ القِرْبةَ سهمٌ فأُريقَ ماؤُها، وضَرَبهُ لَعينٌ بالعمودِ على رأسِهِ فَفَلَقَ هَامتَهُ، وسقطَ على الأرضِ مُنادِياً: عليكَ منّي السَّلامُ أبا عبدِ اللهِ.
أَعظمَ اللهُ لكَ الأجْرَ سيّدي أبا عبدِ اللهِ! الفارسُ إذا وقعَ يتلقّى الأرضَ بيدَيهِ، لكنْ إذا كانَتْ يداهُ مقطوعتَينِ، والسِّهامُ في صدرِهِ، فكيفَ يتلقّى الأرضَ؟!
فأتاهُ الحسينُ (عليه السلام) مُسرِعاً، ففرَّقَ القومَ عنْهُ، وقَتلَ منهُم رجالاً، وجَندلَ فُرساناً، حتَّى إذا وصلَ إليهِ، رآهُ مقطوعَ اليَدينِ، مَفْضوخَ الهامةِ، مُطفأَ العينِ، مُثخَناً بالجراحِ، فأخذَ رأسَهُ الشَّريفَ، ووَضَعَهُ في حِجْرِه، وجعلَ يَمْسَحُ الدَّمَ والتُّرابَ عنهُ، وهوَ يقولُ: «الآنَ انكسَرَ ظَهري، وقلَّتْ حِيلَتي، وَشَمِتَ بي عَدُوِّي».
42
36
المصيبة الراتبة
ثمَّ انْحَنَى عليهِ واعتَنَقَهُ، وجعلَ يُقبِّلُ مَواضعَ السُّيوفِ من وَجههِ ونَحرهِ وصَدرهِ، ثمَّ فاضَتْ نَفْسُ العبَّاسِ الشَّريفةُ، ورأسُهُ في حِجْرِ أخيهِ الحسينِ (عليه السلام)... فتَركَهُ الحسينُ (عليه السلام) في مَكانِهِ، وقامَ عنهُ، ولمْ يحمِلْهُ إلى الفُسطاطِ الّذي كانَ يحمِلُ القَتلَى من أهلِ بيتِهِ وأصحابِهِ إليهِ.
ورَجَعَ إلى المخيّمِ... فأَتتْهُ سُكَينةُ، سألَتْهُ عنْ عمِّها، فأخبرَها بمَقتلِهِ، وسمِعَتْهُ زينبُ (عليها السلام) فصاحَتْ: واأخاه! واعبَّاساه! واضَعَيتَنا بعدَك!
43
37
المصيبة الراتبة
شَهادَةُ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام)
ولمّا قُتِلَ العبَّاسُ (عليه السلام)، التَفَتَ الحُسينُ (عليه السلام)، فَلَمْ يَرَ أَحداً يَنْصُرُه، وَنَظَرَ إلى أهْلِهِ وصَحْبِهِ مُجَزَّرِينَ كالأَضَاحِي، وَهوَ إِذْ ذَاك يَسمعُ عَويلَ الأَيَامَى وصُراخَ الأطفَالِ!
عندَ ذلكَ، نَادَى الحسينُ (عليه السلام): «هَلْ مِنْ ذَابٍّ عَن حُرَمِ رَسُولِ اللهِ؟! هَل مِن مُوَحّدٍ يَخافُ اللهَ فِينا؟! هَل مِن مُغيثٍ يَرجُو اللهَ في إِغَاثَتِنا؟!»؛ فارتَفعَتْ أَصواتُ النِّساءِ بِالبُكاءِ وَالعَويْلِ.
وخرجَ عليُّ بنُ الحسينِ زينُ العابدينَ (عليه السلام)، وكانَ مريضاً، لا يقدرُ على حَملِ سيفِهِ، وأمُّ كلثومٍ تنادي خلفَهُ: يا بُنيَّ، اِرجعْ! فقالَ: «يا عمَّتاه، ذَريني أُقاتِلْ بينَ يدَي ابنِ رسولِ اللهِ».
فقالَ الحسينُ (عليه السلام): «يا أمَّ كلثومٍ، خُذيهِ ورُدّيهِ، لا تبقَ الأرضُ خاليةً منْ نسلِ آلِ محمّدٍ».
الوَداعُ
ولمَّا عَزمَ الحسينُ (عليه السلام) عَلَى مُلاقاةِ الحُتُوفِ، جَاءَ وَوَقَفَ بِبَابِ خَيمةِ النِّساءِ، مُوَدِّعاً لِحُرَمهِ مُخَدَّراتِ الرِّسَالةِ وَعَقائِلِ النُّبُوَّةِ، وَنَادَى: «يَا زَينبُ، ويَا أُمَّ كُلثومٍ، ويَا فَاطِمةُ، ويَا سُكينةُ، عَليكُنَّ مِنِّي السَّلامُ».
44
38
المصيبة الراتبة
فَنَادَتْهُ سُكينةُ: يَا أَبَه، أَسْتسلَمْتَ للِموتِ؟
فَقَالَ (عليه السلام): «كيفَ لا يَستسلِمُ لِلموتِ مَن لا نَاصرَ لَه ولا مُعينَ؟!».
فَقَالَت: رُدَّنا إِلى حَرمِ جَدِّنَا رَسُولِ اللهِ.
فَقَال (عليه السلام): «هَيهَاتَ! لَو تُرِكَ القَطا[1] لَغَفَا وَنَامَ».
فَرفَعَتْ سُكينةُ صَوتَها باِلبُكاءِ وَالنَّحِيبِ، فَضَمَّها الحسينُ (عليه السلام) إِلى صَدرِهِ، وَمَسَحَ دُمُوعَها بِكُمِّهِ، وَكَانَ يُحبُّها حُبَّاً شَدِيدَاً، وَجَعَلَ يقولُ:
سَيَطُولُ بَعْدِيَ يَا سُكَيْنَةُ فَاعْلَمِي
مِنْكِ الْبُكَاءُ إِذَا الْحِمَامُ[2] دَهَانِي
لَا تُحْرِقِي قَلْـبِي بِدَمْـعِكِ حَسْرَةً
مَا دَامَ مِنِّي الرُّوحُ فِي جُثْمَانِي
فَإِذَا قُتِلْـتُ فَأَنْـتِ أَوْلَى بِالَّــذِي
تَبْكِيــنَهُ يَا خِـــيرَةَ النِّسْـوَانِ
مصرعُ عبدِ اللهِ الرَّضيعِ
ثمَّ تَقَدَّمَ الإمامُ الحسينُ (عليه السلام) إِلى بَابِ الخَيمةِ، وَدَعَا بِابنِه عَبدِ اللهِ الرَّضيعِ لِيُوَدِّعَهُ، فأَجلَسَهُ فِي حِجرِهِ، وَأَخذَ يقبِّلُهُ، وَيقُولُ: «وَيلٌ لِهَؤُلاءِ القَومِ إِذَا كَانَ جَدُّكَ المُصطَفَى خَصمَهُم».
[1] القَطَا: طائر معروف في حجم الحمام، وهذا مَثَل يُضرَب لمن حُمِل على مكروه من غير إرادته
[2] الحِمام: المصرع، كناية عن الموت.
45
39
المصيبة الراتبة
فَرَمَاه حَرملَةُ بنُ كاهلِ الأَسَديّ بِسَهْمٍ، فَذَبَحَهُ، وَهُوَ فِي حِجرِ أَبيهِ، فَتَلقَّى الحسينُ (عليه السلام) الدَّمَ بِكَفِّهِ، وَرَمَى بِهِ نَحوَ السَّماءِ.
عَنِ الإِمَامِ البَاقِرِ (عليه السلام): «لَمْ يَسقُطْ مِنْ ذَلِكَ الدَّمِ قَطرةٌ إِلى الأَرضِ».
وجاء فِي زيارةِ النَّاحيةِ المُقدَّسَةِ: «السَّلامُ عَلَى عبدِ اللهِ بنِ الحُسَينِ، الطِّفلِ الرَّضيعِ، المَرمِيِّ الصَّريعِ، المُتشحِّطِ[1] دَمَاً، المُصعَّدِ دَمُهُ فِي السَّماءِ، المَذبوحِ بِالسَّهمِ فِي حِجرِ أَبيهِ».
ثمَّ قَالَ الحسينُ (عليه السلام): «هَوَّنَ مَا نَزَلَ بِي أَنَّهُ بِعينِ اللهِ، اللهُمَّ لا يَكُنْ أَهونَ عَلَيكَ مِن فَصيلِ (ناقَةِ صَالحٍ)».
ثمَّ وَضَعَه مَعَ القَتلَى مِن أَهلِ بَيتِهِ.
ثمَّ إِنَّه (عليه السلام) أَمَرَ عِيَالَهُ بِالسُّكوتِ، وَوَدَّعَهم...
ثمَّ تَقَدَّمَ (عليه السلام) نَحوَ القَومِ مُصْلِتاً سَيفَهُ[2]، عَازِمَاً عَلَى الشَّهادَةِ، فَدَعَا النَّاسَ إِلَى البِرَازِ، فَلَم يَزَلْ يَقْتُلُ كلَّ مَن بَرَزَ إِليهِ، حتَّى قَتَلَ جَمعاً كَثيرَاً.
ثمَّ حَمَلَ عَلَى المَيمَنَةِ، وَهَوَ يقولُ:
الْمَوْتُ أَوْلَى مِنْ رُكُوبِ الْعَارِ
وَالْعَارُ أَوْلَى مِنْ دُخُولِ النَّارِ
[1] تشحّط في دمه؛ أي تلطّخ فيه واضطرب وتمرّغ.
[2] أصلَتَ سيفَه: جرّده من غِمده.
46
40
المصيبة الراتبة
ثمَّ حَمَلَ عَلَى المَيسَرةِ، وَهَوَ يَقولُ:
أَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِـي
آلَيْــــتُ أَنْ لَا أَنْثَـــنِي
أَحْمِي عِيَالَاتِ أَبِـي
أَمْضِي عَلَى دِيـنِ النَّبِي
قَالَ بعضُ مَنْ حَضَرَ المعرَكَةَ: فَوَاللهِ، مَا رأيتُ مَكثورَاً قَطُّ -يَعْنِي مَنْ تَكَاثَرَ عَليهِ النَّاسُ- قَدْ قُتِلَ وُلْدُهُ وَأهلُ بيتِهِ وَصَحبُهُ، أَرْبَطَ جَأْشَاً مِنهُ، وَلا أَمضَى جَنانَاً، وَلا أَجْرأَ مَقدَمَاً، وَلَم أَرَ قَبْلَهُ وَلا بَعدَهُ مِثْلَهُ، وَلقدْ كَانَتِ الرِّجالُ لَتَشُدُّ عَلَيهِ، فَيشُدُّ عَلَيها، فَتَنكشِفُ بينَ يَدَيْهِ...
ولَقَد كَانَ يَحمِلُ فِيهِم، فَينهزِمونَ بينَ يَديهِ كَأنَّهُمُ الجَرَادُ المنتشِرُ، وَلَم يَثْبُتْ لَهُ أَحَدٌ، ثمَّ يَرجِعُ إِلى مَركَزِهِ، وَهَوَ يقولُ: «لا حولَ وَلا قوّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظيمِ»، حتَّى قَتَلَ مِنهُم مَقْتلةً عَظِيمَةً، فعندَ ذلك صاحَ عُمَرُ بنُ سَعدٍ بقومِهِ: الويلُ لكُم، أَتَدْرونَ مَنْ تُقاتِلُون؟ هذا ابنُ الأَنْزَعِ البَطِينِ، هذا ابنُ قتَّالِ العربِ، احْمِلُوا عَليهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
واستدعَى شمرٌ الفُرْسَانَ، فَصَارُوا في ظُهُورِ الرَّجَّالَة، وأَمَرَ الرُّمَاةَ أَنْ يَرْمُوه، فَرَشَقُوهُ بِالسِّهَام...
وجَاءَ الشّمرُ في جَمَاعةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَحَالُوا بَيْنَ الحسينِ (عليه السلام) وبَيْنَ رَحْلِهِ وَعِيَالِهِ.
فَصَاحَ بِهِمُ الحسينُ (عليه السلام): «وَيْحَكُمْ يا شِيعَةَ آلِ أَبِي سُفْيَان، إنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دِينٌ، وَكُنْتُم لا تَخَافُونَ المَعَادَ، فَكونُوا أَحْرَاراً في دُنْياكُم، وارجِعوا إلى أَحسَابِكُم، إنْ كُنتُم عُرُباً كما تزعُمُونَ».
47
41
المصيبة الراتبة
فناداه شمرٌ: ما تقولُ يابنَ فَاطمةَ؟
فقالَ (عليه السلام): «أقولُ: أنَا الّذي أُقَاتِلُكُم وَتُقَاتِلُونَنِي، والنِّساءُ ليسَ عَلِيْهِنَّ جُناحٌ[1]، فَامنَعُوا عُتَاتَكُم وَجُهَّالَكُم عنِ التَّعَرُّضِ لحَرَمِي مَا دُمْتُ حَيّاً».
فقالَ شمرٌ: لكَ ذَلِكَ.
ثمَّ صَاحَ بالقومِ: إِليْكُم عَنْ حَرَمِ الرَّجُلِ، فَاقصُدُوهُ بِنَفسِهِ، فَلَعَمْري لَهُوَ كُفْءٌ كريمٌ. فَقَصَدَهُ القومُ، واشتدَّ القِتَالُ، وجَعَلَ يَحْمِلُ عليهِم ويَحْمِلونَ عليهِ، وقَدْ اشتدَّ بهِ العطَشُ، وكلَّمَا حمَلَ بفرسِهِ على الفُراتِ، حمَلوا عليهِ حتَّى أَجْلَوْهُ عنهُ.
وَداعٌ آخَر
ثمَّ إنَّه (عليه السلام) عادَ إلى الخَيمَةِ، وودَّعَ عِيالَهُ وأهلَ بيتِهِ مرَّةً أخرى، وأمرَهمْ بالصَّبرِ، وقالَ لهُم: «اِستعدُّوا للبلاءِ، واعلمُوا أنَّ اللهَ تعالَى حاميكُمْ وحافِظُكُمْ، وسيُنجيْكُم مِنْ شرِّ الأعداءِ، ويَجْعلُ عاقِبةَ أمرِكُم إلى خَيرٍ، ويعذِّبُ عَدوَّكُم بأنواعِ العذابِ، ويعوّضُكُم منَ البَليَّةِ بأنواعِ النِّعمِ والكرامةِ، فلا تَشُكُّوا، ولا تَقولُوا بأَلسنَتِكُم ما يُنقِصُ مِنْ قَدرِكُم».
فصاحَ عُمَرُ بنُ سعدٍ بقومِهِ: ويحكُم! اِهجمُوا عليهِ ما دامَ مَشغولاً بنفسِهِ وحَرَمِهِ، واللهِ، إنْ فَرَغَ لكُمْ لا تمتازُ مَيمَنَتُكُم منْ مَيْسَرَتِكُم.
[1] جُناح: إثم وتضييق.
48
42
المصيبة الراتبة
فَحَمَلوا عليهِ يَرْمونَهُ بالسِّهامِ، حتَّى تخالَفَتِ السِّهَامُ بينَ أطنابِ المخيَّمِ، وشكَّ سَهمٌ بعضَ أُزُرِ[1] النِّساءِ، فدُهِشْنَ وأُرعِبْنَ وصِحْنَ ودَخلْنَ الخيمةَ، وهنَّ ينظُرْنَ إلى الحسينِ (عليه السلام) كيفَ يصنعُ.
فحَمَلَ على القومِ كاللَّيثِ الغضبانِ، لا يلحَقُ أَحداً إلَّا ضربَهُ بسيفِهِ فقتلَهُ، أو طعنَهُ برمحِهِ فصَرَعَهُ، والسِّهامُ تأخذُهُ منْ كُلِّ جَانِبٍ، وهوَ يتَّقيْهَا بصدرِهِ ونحرِهِ، ويقولُ: «يا أُمَّةَ السُّوءِ، بئسَمَا خلَّفتُمْ محمَّداً في عِترتِهِ، أمَا إنَّكُم لنْ تَقتلُوا بَعدي عَبداً مِنْ عبادِ اللهِ فتهابُوا قتلَهُ، بلْ يهونُ عليكُم ذلكَ عندَ قتلِكُم إيَّايَ. وايمُ اللهِ، إنّي لأَرجو أَن يُكرمَني اللهُ بالشَّهادةِ، ثمَّ ينتقِمَ لي منكُم مِنْ حيثُ لا تَشعُرونَ؛ يُلقِي بَأْسَكُم بَيْنَكُم، ويَسْفِكُ دِمَاءَكُم، ثُمَّ يَصبُّ عَليْكُمُ العَذابَ الألِيمَ»
ورَجَعَ (عليه السلام) إلى مركزِهِ، وهو يُكثِرُ مِنْ قَولِ: «لا حَولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ العليِّ العظيمِ».
فرماهُ أبو الحتوفِ الجُعفيُّ بسَهمٍ وقَعَ في جبهتِهِ الشريفةِ، فنَزَعَهُ، وسالَتِ الدِّماءُ على وجهِهِ وكريمتِهِ، فقالَ: «اللهُمَّ إنَّكَ تَرى مَا أَنَا فيهِ مِن عبادِكَ هؤلاءِ العُصَاةِ، اللهُمَّ أحصِهمْ عَدَداً، واقتُلْهمْ بَدَدَاً، ولا تذَرْ على وجهِ الأرضِ منهُمْ أحَداً، ولا تغفرْ لهُم أبَداً».
ثمَّ لمْ يَزَلْ يُقاتِلُ حتَّى أصابَتْهُ جِراحاتٌ كثيرةٌ... ولمَّا ضعُفَ عنِ القتالِ، وقفَ ليستريحَ هُنَيْهَة، فبينمَا هوَ واقفٌ، إذْ أتاهُ حَجَرٌ فوقعَ في جبهتِهِ الشَّريفةِ، فسَالَتِ الدِّماءُ على وجهِهِ، فأخذَ الثَّوبَ ليمسحَ الدَّمَ عنْ وجهِهِ وعينَيهِ، إذْ أتاهُ سهمٌ محدَّدٌ، لهُ ثَلاثُ شُعَبٍ، فوقعَ على صدرِهِ...
[1] أزر جمع إزار: صنفٌ من الثياب.
49
43
المصيبة الراتبة
فقالَ الحسينُ (عليه السلام): «باسمِ اللهِ، وباللهِ، وعلى ملَّةِ رسولِ اللهِ».
ورفَعَ رأسَهُ إلى السَّماءِ، وقالَ: «إلهي، إنَّكَ تعلمُ أنَّهمْ يَقْتُلونَ رَجُلاً، ليسَ على وجهِ الأرضِ ابنُ (بنت) نبيٍّ غيرُهُ».
ثمَّ أخذَ السَّهمَ فأخرجَهُ... فانبعثَ الدَّمُ كالميزابِ.
فوضَعَ يدَهُ تحتَ الجرحِ، فلمَّا امتلأَتْ دَماً، رمَى بهِ نحوَ السَّماءِ، وقالَ: «هوَّنَ مَا نَزَلَ بي أنَّهُ بعينِ اللهِ»، فلَمْ تَسقُطْ من ذلكَ الدَّمِ قطرةٌ إلى الأرضِ.
ثمَّ وضعَ يدَهُ ثانياً، فلمَّا امتلأَتْ، خضَّبَ بهِ رأسَهُ ووجهَهُ، وقالَ: «هكَذَا أكونُ حتَّى ألقَى اللهَ وجَدِّي رسولَ اللهِ، وأنَا مخضوبٌ بدَمِي، وأقولُ: يَا جدِّي، قتَلَنِي فلانٌ وفلانٌ».
ولمَّا أُثخِنَ بالجراحِ، طَعَنَه صَالحُ بنُ وَهَبٍ في خَاصرتِهِ طَعنةً، فَسَقَطَ عن فَرَسِه إِلى الأَرضِ على خدِّهِ الأيمنِ، وهوَ يقول: «بِسمِ اللهِ، وباللهِ، وعَلَى مِلَّةِ رسولِ اللهِ»...
«السَّلامُ على الشَّيبِ الخَضيبِ، السَّلامُ على الخَدِّ التَّريبِ».
فانتهَى إليهِ مالكُ بنُ النَّسْرِ الكِنْدِيُّ في تلكَ الحالِ، وضربَهُ على رأسِهِ الشَّريفِ بالسَّيفِ، فامتَلأَ البُرنُسُ[1] دَماً...
مصرعُ عبدِ اللهِ بنِ الحسنِ (عليه السلام)
فلبِثوا هُنَيْئَةً، ثمَّ عادُوا إليهِ وأحاطُوا بهِ، فخرجَ عبدُ اللهِ الأصغرُ بنُ الحسَنِ السِّبْطِ (عليه السلام) -وهوَ غلامٌ لمْ يُراهِقْ- يَشْتَدُّ نحوَ عمِّهِ
[1] البُرْنُس: كلّ ثوب رأسُه منه ملتزقٌ به، من دراعة أو جبّة أو نحوهما.
50
44
المصيبة الراتبة
الحسينِ (عليه السلام)، فلحِقتْهُ زينبُ (عليها السلام) لتحبسَهُ، فأبى وامتنعَ امتناعاً شديداً، وقالَ: لا واللهِ، لا أُفارقُ عَمِّي، فأهوى بحرُ بنُ كَعبٍ بالسَّيفِ ليضرِبَ الحسينَ (عليه السلام)، فصاحَ الغلامُ: ويلَكَ يابنَ الخبيثةِ، أتقتلُ عمِّي؟! واتَّقاها الغلامُ بيدِهِ، فأطنَّها[1] إلى الجِلدِ، فإذا هيَ مُعَلَّقةٌ، فصاحَ الغلامُ: يا عمَّاهُ! فأخذَهُ الحسينُ (عليه السلام)، وضمَّهُ إلى صدرِهِ، وقالَ: «يابنَ أخي، اِصبرْ على ما نزَلَ بِكَ، واحتسِبْ في ذلكَ الخيرَ، فإنَّ اللهَ تعالى يُلحِقُكَ بآبائِكَ الصَّالحينَ».
فرماهُ حَرْمَلةُ بنُ كَاهِلٍ الأسَديُّ بسَهمٍ، فذبحَهُ، وهوَ في حِجْرِ عمِّهِ.
فرفعَ الحسينُ (عليه السلام) يدَيهِ إلى السَّماءِ قائلاً: «اللهُمَّ، إنْ متَّعتَهُم إلى حينٍ، ففرِّقهُم فِرَقاً، واجعلْهُم طرائقَ قِدَداً، ولا تُرضِ الوُلاةَ عنهُم أبَداً، فإنَّهُم دَعَوْنَا ليَنصُرُونَا، فعَدَوا علَينا يُقاتِلونَنا».
الحسينُ (عليه السلام) على وجهِ الثرَى
قالوا: ومكَثَ الحسينُ (عليه السلام) طَويلاً من النَّهارِ مَطروحَاً عَلَى وَجهِ الأرضِ، وهوَ مغشيٌّ عليهِ، ولو شَاؤوا أنْ يقتلوهُ لَفعلُوا، إلَّا أنَّ كلَّ قبيلةٍ تتَّكِلُ على الأُخرى، وتكرَهُ الإقدامَ.
فعندَها صاحَ شمرٌ بالنَّاسِ: ويحَكُمْ! مَا وقوفُكُمْ؟! ومَا تنتظرونَ بالرَّجلِ؟! وقدْ أثخنَتْهُ السِّهامُ والرِّماحُ، اِحملُوا عليهِ، اُقتلوهُ، ثكلتْكُمْ أمُّهاتُكُمْ!
[1] أطنّها: قطعها.
51
45
المصيبة الراتبة
فحَمَلُوا عليهِ مِنْ كلِّ جانبٍ، فضَربَهُ لعينٌ على كتِفِهِ الأيسرِ... وضربَهُ آخرُ على عاتقِهِ الشَّريفِ...
وطعنَهُ سِنانٌ بالرُّمحِ في تُرقُوَتِهِ[1]، ثمَّ انتزعَ الرُّمحَ وطعنَهُ في بواني صدرِهِ، ثمَّ رماهُ بسهمٍ وَقَعَ في نحرِهِ...
فَنزعَ السَّهمَ مِن نَحرهِ، وَقَرَنَ كفَّيهِ جَميعَاً، فلمَّا امتلَأَتا مِن دِمائِهِ، خَضَّبَ بِهمَا رأسَهُ ولِحيتَهُ، وهوَ يقولُ: «هكَذَا ألقَى اللهَ، مُخَضَّباً بِدَمي، مَغصُوباً عَليَّ حَقِّي».
قالَ بعضُ مَنْ حضرَ المعركةَ: كنتُ واقفاً نحوَ الحسينِ، وهوَ يجودُ بنفسِهِ، فواللهِ ما رأيتُ قتيلاً قطّ، مُضمَّخاً بدمِهِ، أحسنَ وجهاً ولا أنوَرَ، ولقدْ شَغلَنِي نورُ وجهِهِ عنِ الفِكرةِ في قتلِهِ...
ثمَّ رفعَ الحسينُ (عليه السلام) طَرْفَهُ إلى السَّماءِ، وقالَ: «اللهُمَّ، أنتَ مُتَعالي المكانِ، عظيمُ الجبروتِ، شديدُ المِحالِ[2]، غنيٌّ عَنِ الخلائقِ، عريضُ الكِبْرياءِ، قادرٌ علَى مَا تشاءُ... أدعوكَ مُحتَاجاً، وأرغبُ إليك فَقيراً، وأفزَعُ إليك خائِفاً، وأَبكِي مَكروباً، وأستعينُ بكَ ضَعِيفاً، وأتَوَكَّلُ عَليكَ كَافِياً...
اللهُمَّ، احكُمْ بَينَنَا وبينَ قومِنَا، فإنَّهم غرُّونَا وخَذَلُونَا، وغدَرُوا بِنَا وقَتَلونا، ونحنُ عِترةُ نبيِّكَ... صَبراً على قضائِكَ يا ربِّ، لا إلهَ سِواكَ، يا غياثَ المُستَغيثينَ، ما لي ربٌّ سِواكَ ولا معبودٌ غيرُكَ...».
[1] التُّرْقُوة، بضمّ التّاء وسكون الرّاء وضمّ القاف: وهي العظم المتّصل الممتدّ من ثغرة النحر إلى المنكب، ولكلّ واحد تُرقوتان، إحداهما في طرف اليمين، والأخرى في طرف اليسار.
[2] شديد المِحال: أي شديد العقوبة والنّكال، يُقال: المكر والخديعة، ويُقال: القوّة والشدّة.
52
46
المصيبة الراتبة
وفي زيارةِ النَّاحيةِ المقدَّسةِ: «فَأحْدَقُوا بِكَ مِنْ كِلِّ الْجِهَاتِ، وأثْخَنُوكَ بِالْجِرَاحِ، وَحَالُوا بَيْنَكَ وَبَينَ الرَّوَاحِ، وَلَمْ يَبْقَ لَكَ نَاصِرٌ، وَأنْتَ مُحْتَسِبٌ صَابِرٌ، تَذُبُّ عَنْ نِسْوَتِكَ وَأوْلادِكَ، حَتَّى نَكَّسُوكَ عَنْ جَوَادِكَ، فَهَوَيْتَ إِلَى الأرْضِ جَرِيْحاً، تَطَؤُكَ الْخُيولُ بِحَوَافِرِهَا، وَتَعْلُوكَ الطُّغَاةُ بِبَوَاتِرِها، قَدْ رَشَحَ لِلمَوْتِ جَبِيْنُكَ، واخْتَلَفَت بالاِنْقِبَاضِ والاِنْبِسَاطِ شِمَالُكَ وَيَمِينُكَ، تُدِيرُ طَرَفاً خَفِيّاً إلى رَحْلِكَ وَبَيْتِكَ... وَأَسرَعَ فَرَسُكَ شَارِداً إِلَى خِيَامِكَ، قَاصِداً مُحَمْحِماً بَاكِياً».
فرسُ الحسينِ (عليه السلام)
قالُوا: أقبَلَ فرسُ الحسينِ (عليه السلام) يدورُ حولَهُ، ويُمرِّغُ عُرْفَهُ وناصيَتَهُ[1] بدمِهِ، ويشمُّهُ، ويصهَلُ صهيلاً عالياً، وأقبلَ نحوَ المخيَّمِ: «فلمَّا رَأَيْنَ النِّسَاءُ جوادَكَ مَخزِيَّاً، ونظرْنَ سَرجَهُ عليهِ مَلوِيّاً، برزْنَ منَ الخدورِ... على الخدودِ لاطمَات... وبالعويلِ دَاعيات، وبعدَ العزِّ مُذلَّلات، وإلى مصرعِ الحسينِ مبادِرات».
فخرجَتْ زينبُ (عليها السلام)، ومِنْ خَلفِها النِّساءُ والأرامِلُ واليتامَى إلى أرضِ المعركةِ، وهيَ تنادِي: وامحمَّداهُ، واعليّاهُ، واجعفراهُ، واحمزتاهُ، واسيِّداهُ، هذا حسينٌ بالعراءِ، صريعُ كربلاءِ! ليْتَ السَّماءَ أَطبقَتْ على الأرضِ! وليتَ الجبالَ تدَكدَكَتْ[2] على السَّهلِ!
[1] عُرْف الفرس: شعر عنقه، وناصيته: شعر مقدّم رأسه.
[2] تدكدكت الجبال: أي صارت دكاوات، وهي رواب من طين.
53
47
المصيبة الراتبة
فَوَاحِــدَةٌ تَحْــنُو عَلَـــيْهِ تَضُـــمُّهُ
وَأُخْــرَى عَلَــيْهِ بِالرِّدَاءِ تُظَلِّــلُ
وَأُخْــرَى بِفَيْضِ النَّحْرِ تَصْبَغُ وَجْهَهَا
وَأُخْــرَى تُفَدِّيهِ وَأُخْــرَى تُقَبِّلُ
وَأُخْــرَى عَلَى خَوْفٍ تَلُوذُ بِجَنْبِهِ
وَأُخْــرَى لِمَا قَدْ نَالَهَا لَيْسَ تَعْقِلُ
وانتهَتْ زينبُ بنتُ عليٍّ نحوَ الحسينِ، وهو يجودُ بنفسِهِ، فصاحَتْ بِعُمَرَ بنِ سَعدٍ -وكانَ قدْ دَنا مِنَ الحسينِ (عليه السلام)-: أيْ عُمَرُ، وَيحَكَ! أيُقتَلُ أبو عبدِ اللهِ، وأنتَ تنظرُ إليهِ؟!
فصرَفَ بوجهِهِ عنْها...
عندَ ذلكَ، صاحَتْ زينبُ (عليها السلام): وَيحكُمْ! أَمَا فيكُمْ مسلمٌ؟!
فلمْ يُجِبْهَا أحدٌ.
54
48
المصيبة الراتبة
الفاجعةُ الكبرى
ثمَّ صاحَ ابنُ سعدٍ بالنَّاسِ: ويحَكُمْ! اِنزِلُوا إليهِ، فأريحُوهُ...
فنزَلَ إليهِ شمرُ بنُ ذي الجوشنِ... وجَلَسَ عَلَى صَدرهِ... ثمَّ أخذَ بِكريمتِهِ الشَّريفةِ...
عنْ إِمَامِنا الحُجَّةِ في زيارةِ النَّاحيةِ، يَصفُ هذا المشهدَ:
«وَالشّمرُ جَالسٌ على صَدرِكَ... ومُولِغٌ سَيفَهُ على نَحرِكَ... قَابِضٌ على شَيْبَتِكَ بِيَدِهِ... ذَابِحٌ لكَ بِمُهَنَّدِهِ... قدْ سَكَنَتْ حَواسُّكَ... وَخَفِيَتْ أَنْفَاسُكَ... ورُفِعَ على القَناةِ رَأْسُكَ...».
واإماماهُ! واسيّداهُ! واغريباهُ! واعطشاناهُ! وامظلوماهُ! واحسيناهُ!
55
49