في رحاب الأخلاق


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2014-10

النسخة: 2013


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

المقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

 

قال تعالى في كتابه المجيد واصفاً النبيّ الأعظم صلى الله عليه واله في مدحة ما كانت ولن تكون لأحدٍ غيره صلى الله عليه واله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم﴾. ثمّ أمرنا سبحانه وتعالى بطاعته والاقتداء به والأخذ من سيرته والتحلّي بفضائله ومحاسن أخلاقه فقال عزَّ من قائل: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.

 

رسول الله صلى الله عليه واله الّذي يقول: "إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق". هذه المكارم الّتي لا بدّ للمؤمن أن يتحلّى بها، وأن تتجلّى في صفاته الشخصيّة ومعاملاته مع الناس. هذه الأخلاق الّتي تمهّد للفلاح والنجاة ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.

 

وانطلاقاً من هذا كلّه، فلقد دأب مركز نون للتأليف والترجمة في جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة على وضع متون تربويّة تركّز على توعية وتوجيه المؤمنين والمؤمنات لما فيه صلاحهم وفلاحهم بعون الله سبحانه، ومن ضمن هذه المتون كتاب "في رحاب الأخلاق" ضمن سلسلة المعارف الإسلاميّة.

 

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العافية وأن يتقبّل أعمالنا وأن يحشرنا مع محمّد وآل محمّد عليهم السلام.

مركز نون للتأليف والترجمة

10

1

الدرس الاول: اهمية علم الاخلاق

 الدرس الاول:اهمية علم الاخلاق

 
 
أهداف الدرس
 • أن يتبيّن الطالب أهميّة علم الأخلاق.
 • أن يتعرّف إلى ماهيّة علم الأخلاق.
 • أن يعدّد القوى النفسيّة المؤثّرة في الإنسان.
 
13

2

الدرس الاول: اهمية علم الاخلاق

 تمهيد‏

 عندما يتأمّل الإنسان في مجرى أغلب الناس في أمور حياتهم يجد أنّ أغلبهم منهمك في تأمين قوت الأجساد من طعام وشراب، وما يطلبه الجسد من رغبات أخرى، غافلين عن كلّ ما من شأنه أن يغذّي أرواحهم ويقوّي نفوسهم، وقد يؤول الأمر بالبعض إلى أن يُخرج همّ غذاء روحه من فكره نهائيّاً، وحتّى لو أنّ دينه وخُلُقه قد تعرَّضا لهزّات عنيفة لكنّه لا يشعر بها، فينطبق عليه الشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه السلام:
 
 أبنيَّ‏ إنَّ‏ - من الرجال بهيمةً        في صورة الرجُل السميع المبصرِ
 فطنٌ لكلِّ رزيّةٍ في مالِهِ             وإذا أصيبَ بدينهِ لمْ يشعر
  
 نعم، فهذا الصنف من الناس لن يلتفت إلّا إلى دنياه وما أصابها؛ لأنّ الدنيا أمست أكبر همّه، وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همّه، جعل الله تعالى الفقر بين عينيه، وشتّت أمره، ولم ينل من الدنيا إلّا ما قسم الله له، ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همّه، جعل الله الغنى في قلبه، وجمع له أمره".1
________________________________________
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 319.
15

3

الدرس الاول: اهمية علم الاخلاق

 ومن هنا فلا بدّ من أن يتنبّه الإنسان إلى همّ الآخرة، ولا يكون ذلك إلّا بالتصميم على تهذيب النفس؛ لأنّ تهذيبها هو الّذي يحقّق الهدف الأسمى لخلق الإنسان وبعثة الأنبياء "إنّما بُعِثْتُ لأتمّم مكارم الأخلاق"2.

وإنّ أفضل طريقة لبيان أهميّة علم الأخلاق ومعرفتها، الرجوع إلى الآيات القرآنيّة والروايات الصادرة عن المعصومين عليهم السلام.
الأخلاق ومصير الإنسان‏
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم آياته: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾3ويُستفاد من الآيات الشريفة أهميّة الأخلاق، حيث ورد الحديث عنها كجواب للأقسام الّتي أقسم الله تعالى فأتى قوله تعالى ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ جواباً للقسم.
ويشير قوله تعالى ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾4 إلى الحجّة الباطنيّة على الإنسان، فإنّ لله تعالى حجّتين على عباده؛ الأولى حجّة ظاهرية وهي الأنبياء والأئمّة عليهم السلام والعلماء والصالحون، والثانية باطنيّة وهي العقل، فإنّ الإنسان بفطرته يُدرك الحسن والقبيح من الأمور. رُوي عن الإمام الكاظم عليه السلام: "يا هشام، إنّ لله حجّتين، حجّة ظاهرة، وحجّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة، وأمّا الباطنة فالعقول"5.
وقد أكّدت الكثير من الروايات عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه واله وأهل بيته عليهم السلام على
________________________________________
2- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج11، ص187.
3- الشمس:7-10.
4-الشمس:8.
5- الكافي، ج1، ص16.
 
16

4

الدرس الاول: اهمية علم الاخلاق

 أهميّة حُسْنِ الخُلُق فعن رسول الله صلى الله عليه واله: "إنّ أحبّكم إلى الله أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون"6.وعنه صلى الله عليه واله: "إنّ العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وإنّه لضعيف العبادة"7.وعنه صلى الله عليه واله قال: "إنّ أثقل ما يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خُلُقٌ حسن"8.

ما هو علم الأخلاق؟
الأخلاق هي مجموعة الصفات النفسيّة والباطنيّة الّتي يتّصف بها الإنسان، كالتواضع والشجاعة... ويُطلق كذلك على الأعمال الّتي تُعتبر آثاراً لهذه الصفات كالتصدّق على الفقير ومساعدة المحتاج، والصدق وفعل الكرم...، ومن هنا يمكن تقسيم الأخلاق إلى قسمين أساسَيْن هما: صفات نفسيّة وأعمال.
وسيكون كلامنا في البداية في جانب الصفات النفسيّة، ثمّ بعد ذلك في جانب الأعمال.
قوى النفس الإنسانيّة
إنّ المحور الأساس لصفات الإنسان النفسيّة يكمن في قوى أربع تعود إليها جميع الملكات والتوجّهات النفسيّة، وهذه القوى الأربع هي:
1- القوّة العقليّة: هذه القوّة من شأنها أن تُدرك الحسن من القبيح وتميّز الخير من الشر، ثمّ تأمر بفعل الحسن منها وترك القبيح.
2- القوّة الغضبيّة: وهي الّتي يدفع بها الإنسان الشرور والمخاطر والأذى
________________________________________
6- عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج1، ص 100.
7- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج1، ص799.
8- موارد الظمآن، الهيثمي، ص 474.
17

5

الدرس الاول: اهمية علم الاخلاق

 عن نفسه، وبأيّ صورة مشروعة أو غير مشروعة؛ لأنّ هذه القوّة نفسَها لا تميّز بين الحسن والقبيح.

 
3- القوّة الشهويّة: وهي القوّة الّتي يطلب بها الإنسان المنفعة لنفسه، من قبيل المأكل والمشرب والشهوة، من دون أن تلاحظ هذه القوّة فيما تطلبه الحلال من الحرام أم الطاهر من النجس أو الحسن من القبيح؛ لأنّ ذلك ليس من شأنها، بل كلّ ما تراه هو الرغبة الجامحة لهذه الأمور.
 
4- القوّة الوهميّة: ووظيفة هذه القوّة أن تتابع التفاصيل الصغيرة من الأمور لتحلّلها وتستخرج منها الحيل لكي تتوصّل بها إلى تحقيق رغبات القوى الثلاث المتقدّمة، وعلى هذا فلو سُخّرت في خدمة القوّة العقليّة لبرع الإنسان في مجالات العلوم والاختراعات المفيدة، ولو سخّرها في خدمة القوّة البهيميّة لبرع في نصب المكائد لتلبية شهواته، ولو سخّرها في خدمة القوّة الغضبيّة، لبرع في العدوان والطمع والجشع.
 
وبناء على هذا التفصيل فإنّ النفس إذا تبعت القوّة الشهويّة سُمّيت نفساً "بهيميّة" لأنّ البهيمة لا يهمّها سوى علفها وملذّاتها، وإذا تبعت القوّة الغضبيّة سمّيت "سبعيّة" لأنّ فيها طبع السباع الضارية، وإذا تبعت القوّة العقليّة سمّيت "ملكيّة إلهيّة".
 
التوازن في قوى النفس‏
إنّ قوى النفس الّتي سبق الحديث عنها لها حدان متراميان؛ الأوّل حدّ الإفراط والثاني حدّ التفريط. ولا بدّ لسالك درب الأخلاق من أن يلتزم الوسط والاعتدال في القوّة الشهويّة بأن يكون الإنسان عفيفاً عقلاً وشرعاً، لا حدّ 
الإفراط بأن تكون الشهوة شديدة لا ترى أمامها رادعاً في الوصول إلى مآربها، ولا حدّ التفريط في خمودها بحيث تبطل الفائدة منها، فإنّ فائدة شهوة البطن أن يقيم بها الإنسان
 
18

6

الدرس الاول: اهمية علم الاخلاق

 أودَه ويستمرّ في الحياة، والشهوة الجنسيّة لبقاء النسل، فلو كانتا خامدتين لما عُمِّر العالم وانتفت مظاهر الحياة فيه، ولو كانتا متفجّرتين كبركان يجتاح أمامه كلّ ما يمرّ به لذابت الأرض بجرائم أهلها وفسادهم.

  وحدّ الاعتدال في الغضبيّة أن يكون المرء شجاعاً لا يخاف، وحدّ الإفراط في التهوّر والإقدام على المكاره بدون دراسة ونظر، وحدّ التفريط في الجبن والاستسلام والخنوع.
  ومن هنا فعلى الإنسان السالك إلى الله تعالى بتهذيب نفسه أن لا يدع أيّاً من قواه يميل به عن الجادّة الوسط إلى حدّي الإفراط والتفريط؛ لأنّ كلّاً من هذه القوى تسعى لتحقيق رغباتها بغضّ النظر عن مصالح الأخرى، ومن هنا كانت النفس الإنسانيّة ساحةً لأكبر المعارك، وأكبرُ الجهاد أن يجاهد الإنسان هذه القوى الّتي تتصارع يميناً وشمالاً لتخرج من حدّ الوسطيّة والفضيلة، إلى الانحراف والرذيلة، ولذلك ورد في الحديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله أنّه قال لقوم رجعوا من ساحة المعركة: "مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر"9.

خلاصة الدرس
- قوى النفس الإنسانيّة هي:
 1- العقليّة.
 2- الغضبيّة.
 3-الشهويّة.
________________________________________
9- الكافي، الكليني، ج5، ص12.
19

7

الدرس الاول: اهمية علم الاخلاق

 4- الوهميّة.

 
 - إنّ النفس إذا تبعت القوّة الشهويّة سمّيت نفساً "بهيميّة"؛ لأنّ البهيمة لا يهمّها سوى علفها وملذّاتها، وإذا تبعت القوّة الغضبيّة سمّيت "سبعيّة" لأنّ فيها طبع السباع الضارية، وإذا تبعت القوّة العقليّة سمّيت "ملكيّة إلهيّة".
 
 - إنّ قوى النفس الّتي سبق الحديث عنها لها حدّان متراميان الأوّل حدّ الإفراط والثاني حدّ التفريط، ولا بدّ لسالك درب الأخلاق وتهذيب النفس من أن يسلك بين هذين الحدّين، أي في الوسط، ولأنّ كلّاً من هذه القوى تسعى لتحقيق رغباتها بغضّ النظر عن مصالح الأخرى كانت النفس الإنسانيّة ساحة لأكبر المعارك، وكان الجهاد فيها هو الجهاد الأكبر.
 
اسئلة
 
1- ما هو موقع الأخلاق الإنسانيّة في رسالات الأنبياء؟
 2- ما المراد من علم الأخلاق؟
 3- ما هي القوى النفسيّة؟
 4- كيف تتصارع القوى داخل النفس؟
 5- لماذا سمّي جهاد النفس بالجهاد الأكبر؟
 
20

 


8

الدرس الاول: اهمية علم الاخلاق

 للمطالعة

العبادة الحقّة
 
 من مواعظ الإمام الخمينيّ قدس سره في كتاب "الأربعون حديثاً":
 حينما تقول ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾10فهل تراك تعبد الله أم تعبد بطنك وفرجك؟ هل أنت تطلب الله أو الحور العين؟ هل تطلب العون من الله فقط؟
 
 إنّ الشي‏ء الّذي لا يؤخذ بعين الاعتبار في الأعمال هو الله، وأنت إذا ذهبت إلى زيارة بيت الله، فهل إنّ مقصدك ومقصودك هو الله، وإنّ مطلبك ومطلوبك هو صاحب البيت؟ وهل قلبك مترنّم بقول الشاعر:
 
 وما حُبُّ الديار شغفنَ قَلبي        ولكنْ حُبُّ من سكنَ الديارا
 
 أباحثٌ أنت عن الله؟ أتطلب آثار جمال الله وجلاله؟ ألأجل سيّد المظلومين تقيم العزاء؟ ألأجله عليه السلام تلطم رأسَك وصدرك، أم لأجل الوصول إلى آمالك وأمانيك؟ أهي بطنك الّتي تدفعك لإقامة مجالس العزاء، وشهوة الظهور هي الّتي تدفعك للذهاب إلى صلاة الجماعة، وهوى النفس هو الّذي يجرّك للمناسك والعبادة؟.
 
 فيا أيّها الأخ، كن حذراً تجاه مكائد النفس والشيطان، واعلم أنّه لن يدعك -أيّها المسكين - تؤدّي عملاً واحداً بإخلاص، وحتّى هذه الأعمال غير الخالصة الّتي تقبّلها الله تعالى منك بفضله، لا يدعك الشيطان أن تصل بها إلى الهدف فتعمل عملاً تحبط به أعمالك كلّها، وتخسر حتّى هذا النفع بسبب هذا العجب والتدلّل في غير موقعه. وبغضّ النظر عن بُعد الوصول إلى الله ورضاه، فإنّك لن تصل إلى الجنّة ولا إلى الحور العين، بل تخلد في العذاب وتُعذَّب بنار الغضب كذلك.
________________________________________
10- الفاتحة:5.
 
21

9

الدرس الاول: اهمية علم الاخلاق

 أنت تظنّ أنّك بهذه الأعمال المتفسّخة المتعفّنة الهزيلة الممزوجة بالرياء وطلب السمعة وألف مصيبة أخرى الّتي تحول دون قبول العبادات كلّها، تظنّ أنّك بها تستحقّ الأجر من الحقّ تعالى، أو أنّك أصبحت بها من المحبّين والمحبوبين. أيّها المسكين الجاهل! يا سيّئ الحظّ الّذي لم يطّلع على قلوب المحبّين، وعلى لهب شوقها تجاه الحقّ سبحانه، أيّها المسكين الغافل عن حرقة المخلصين ونور أعمالهم! أوَ تظنّ أنّ أعمالهم أيضاً مثل أعمالي وأعمالك؟ أوَ تتوهّم أنّ ميزة صلاة أمير المؤمنين عليه السلام عن صلاتنا أنّه عليه السلام كان يمدّ " الضالّين" أكثر، أو أنّ قراءته أصحّ، أو أنّ سجوده أطول وأذكاره وأوراده أكثر؟ أو أنّ ميزة ذلك الرجل العظيم في أنّه كان يصلّي عدّة مئات من الركعات ليليّاً؟ أوَ تظنّ أنّ مناجاة سيّد الساجدين عليّ بن الحسين هي مثل مناجاتي ومناجاتك؟ وأنّه كان يتحرّق ويتضرّع بتلك الصورة من أجل الحور العين والكمثرى والرمّان من نِعَمِ الجنّة؟.

 
 أقسم به صلوات الله وسلامة عليه ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾11لو أنّ المحبّين كان بعضهم ظهيراً للبعض الآخر، وأرادوا أن يتفوّهوا بكلمة  لا إله إلّا الله  مرّة واحدة بمثل ما كان يقولها أمير المؤمنين عليه السلام لما استطاعوا. فكم أكون تعيساً وشقيّاً أن لا أكون على خطى عليّ عليه السلام وأنا من العارفين لمقام ولاية عليّ؟
 
 أقسم بمقام عليّ بن أبي طالب، لو أنّ الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين - عدا الرسول الخاتم صلى الله عليه واله الّذي يكون مولى عليّ وغيره - أرادوا أن يكبّروا مرّة واحدة، تكبيراً على غرار ما كان يكبّر عليّ، لما استطاعوا. وأمّا الوقوف على قلوبهم فلا يعرف أحد شيئاً إلّا حملة تلك القلوب وأصحابها!. فيا أيّها العزيز! لا تتباهَ بقربك من الله...
________________________________________
11- الواقعة:76.
 
22

10

الدرس الثاني:اقسام النفس في القران

 الدرس الثاني:أقسام النفس في القران




أهداف الدرس
 • أن يتبيّن الطالب أهميّة معرفة النفس.
 • أن يتعرّف إلى أقسامها.
 • أن يدرك أهميّة إصلاح نفسه.
23

11

الدرس الثاني:اقسام النفس في القران

 أهميّة معرفة النفس‏

إنّ الحديث عن نفس الإنسان حديث له عدّة جوانب فمن جهة لابدّ من الحديث عن خصائص هذه النفس، ومن أخرى يمكن الحديث عن قواها الّتي أودعها الله تعالى فيها، وكذا عن سبل إصلاحها. وسنتحدّث عن هذه النقاط الثلاث بشيء من التفصيل إذ إنّ معرفة هذه النقاط الثلاث أمر أساس في علم الأخلاق، ففي الحديث الشريف عن الإمام عليّ عليه السلام: "من عرف نفسه عرف ربّه"1.
 
وفي الحديث عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام في كلام له: "ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه، احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، لا إله إلا هو الكبير المتعال"2، إذ يوضح هذا الحديث أنّ الحجاب الرئيس بين الإنسان والله تعالى هو نفس الإنسان فما دام الإنسان يرى نفسه متصرّفاً وينسب إلى نفسه كلّ أمر يقوم به، وما دامت نفس الإنسان هي مدار الرحى الّتي يبني عليها معتقداته وتصرّفاته، فإنّ هذه النفس ستكون الحجاب الأكبر الّذي لا يسهل اختراقه.
________________________________________
1 ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج3، ص1877.
2- م. ن، ج3، ص1880.
25

12

الدرس الثاني:اقسام النفس في القران

 ولذا كانت النفس وإصلاحها من أهمّ الأمور في علم الأخلاق، بل إنّ علم الأخلاق هو تهذيب النفس بالدرجة الأولى للوصول بها إلى الكمال المرجوّ لها، ولا أدلّ على ذلك من حديث الرسول الأكرم صلى الله عليه واله حين دخل عليه رجل اسمه مجاشع، فقال: "يا رسول الله! كيف الطريق إلى معرفة الحقّ؟ فقال صلى الله عليه واله: معرفة النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق صلى الله عليه واله: مخالفة النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى رضا الحقّ؟ قال صلى الله عليه واله: سخط النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى وصل الحقّ؟ قال صلى الله عليه واله: هجر النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى طاعة الحقّ؟ قال صلى الله عليه واله: عصيان النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى ذكر الحقّ؟ قال صلى الله عليه واله: نسيان النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى قرب الحقّ؟ قال صلى الله عليه واله: التباعد من النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى أنس الحقّ؟ قال صلى الله عليه واله: الوحشة من النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطريق إلى ذلك؟ قال صلى الله عليه واله: الاستعانة بالحقّ على النفس"3.

 
ومن المناسب أن نذكر ههنا سؤالاً استنكاريّاً سأله أمير المؤمنين عليه السلام فقال: "كيف يعرف غيره من يجهل نفسه؟"4.
 
ما هي النفس؟
تتميّز النفس الّتي أكرم الله تعالى بها الإنسان من غيره من المخلوقات بأنّها جمعت العقل مضافاً إلى الغريزة والشهوة، خلافاً للحيوانات الّتي وضع الله فيها الغريزة والشهوة فقط، أو الملائكة الّتي أكرمها الله بعقل بدون غريزة وشهوة ومن هنا فإنّ الإنسان لا بدّ له من أن يستخدم العقلإلى موافقة الحقّ؟ قال 
________________________________________
3- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج3، ص1877.
4- م. ن، ج3، ص 1881.
 
26

13

الدرس الثاني:اقسام النفس في القران

 في تعديل المتطلّبات الّتي تمليها الشهوة والغريزة حتّى يسلك حدّ الاعتدال الّذي أشرنا له فيما سبق، قال الله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ 5.

 
 وعندما نطالع الآيات القرآنيّة الّتي تحدّثت عن النفس نراها قد تحدّثت عن ثلاث حالات من حالات النفس، كما أنّها وصفتها بصفات مختلفة منها:
 النفس الأمّارة
 يقول الله تعالى في محكم بيانه ﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾6، فالنفس الأمّارة بالسوء هي الّتي تتبع هواها بحيث لا ترى أمامها سوى ما تتمنّى الحصول عليه من الشهوات بدون أي التفات إلى الشريعة أو المفاسد الدنيويّة والأخرويّة، ولذا فإنّ اتِّباع النفس الأمّارة بالسوء يجلب الظلم والضلال، يقول الله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَِ﴾7.
 
 النفس اللّوّامة
 يقول الله تعالى في محكم آياته: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة﴾8.
 والمراد بالنفس اللوّامة، نفس الإنسان المؤمن الّتي تلومه في الدنيا على المعصية، والتثافل في أداء الطاعات9.
________________________________________
5- الشمس:7-8.
6- يوسف:53.
7- القصص:50.
8- القيامة:1-2.
9- الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطبطبائي، ج20، ص103.
 
27

14

الدرس الثاني:اقسام النفس في القران

 وقد يُطلق علماء النفس عليها اسم الضمير الّذي يؤنب الإنسان على ما فعله من القبائح.

 
 النفس المطمئنّة
 يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً *فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾10.
 والنفس المطمئنّة، كما وصفها العلّامة الطباطبائي في تفسيره: "هي الّتي تسكن إلى ربّها وترضى بما رضي به فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو وشرّ أو نفع أو ضرّ ويرى الدنيا دار مجاز وما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أيّ نفع وضرّ ابتلاءً وامتحاناً إلهيّاً، فلا يدعوه تواتر النِّعم عليه إلى الطغيان وإكثار الفساد والعلوّ والاستكبار، ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر، بل هو في مستقَرٍّ من العبوديّة لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط...
 
 وتوصيفها بالراضية لأنّ اطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدَّر وقضى تكويناً أو حكم به تشريعاً فلا تسخطها سانحة ولا تزيغها معصية، وإذا رضي العبد من ربّه رضي الربّ منه، إذ لا يسخطه تعالى إلّا خروج العبد من زيِّ العبودية، فإذا لزم طريق العبوديّة استوجب ذلك رضا ربّه ولذا عقب قوله ﴿رَاضِيَةً﴾ بقوله: ﴿مَّرْضِيَّةً﴾ "11.
 
 الحذر من النفس الأمّارة
 بعد أن عرفنا النفس الأمّارة بالسوء وميزتها لا بدّ من مواجهتها وعدم الركون
________________________________________
10- الفجر:27-30.
11- تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج20، ص285.
 
28

15

الدرس الثاني:اقسام النفس في القران

 إليها، إذ إنّ لبّ علم الأخلاق قهر النفس الأمّارة وكبح جماحها؛ لأنّها كما تقدّم لا ترى إلّا ما تريد وتشتهي، ولو خلّفت كلّ شي‏ء خراباً من خلفها، فإذا كانت النفس الأمّارة خطيرة إلى هذه الدرجة فلا بدّ من أن نجد لها علاجاً لإصلاحها وتليين طبعها الشرس، فما هي الطرق الممكنة لإنجاز هذه المهمّة؟

 
إصلاح النفس‏
إنّ المسالك والطرق إلى الله كثيرة، بل هي بعدد أنفاس الخلائق، إلّا أنّها كلّها تبدأ من خلال تهذيب النفس وإصلاحها.
فينبغي بالدرجة الأولى لمن يريد إصلاح نفسه أن يرغِّب نفسه بالأعمال الصالحة، ويكون ذلك من خلال التفكّر في الأعمال وما تستتبع من رضا أوسخط للمولى العزيز، وما يترتّب عليها من آثار في الآخرة، فتطمع النفس بثواب الآخرة، وتخاف من عقاب الأعمال القبيحة.
 
وبما أنّ كثيراً من الناس يميلون إلى الربح السريع ويفضّلون الربح القريب ولو كان قليلاً وتافهاً على الربح البعيد ولو كان كبيراً وعظيماً - وهذه حقيقة في الإنسان قد ذكرها الله تعالى في كتابه حيث يقول جلّ شأنه: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ* وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾12، ﴿وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً﴾13 - فالإنسان يستعجل ما يتصوّره ربحاً في الدنيا ويترك فوز الآخرة، وهذا ما يسبّب للناس الشقاء، وهنا يتّضح دور العقل في السيطرة على الأهواء النفسيّة السيّئة، فلا بدّ من التنبيه الدائم للنفس على الدوام، لما وعد به الله تعالى أهل طاعته، وحذّر منه أهل معصيته؛ لأنّ مجرّد عدم الالتفات إلى الجانب الأخرويّ من الأعمال والاستغراق في أمور الدنيا وتفاصيلها، يُدخل الإنسان في نفق الغفلة المظلم ولا 
________________________________________
12- القيامة:20-21.
13- الإسراء:11.
 
29

16

الدرس الثاني:اقسام النفس في القران

 يستيقظ منه إلّا بعد الموت في الكثير من الأحيان، ولعلّ هذا هو المراد من قول الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"14.

 
 وأمّا كيفيّة التفكّر في أمر الدنيا وزوالها فهو كما يُروى أنّ الإمام الباقر عليه السلام قال لصاحبه جابر في حديث طويل: "... يا جابر: إنّ المؤمنين لم يطمئنّوا إلى الدنيا ببقائهم فيها ولم يأمنوا قدومهم الآخرة، يا جابر الآخرة دار قرار، والدنيا دار فناء وزوال، ولكنّ أهل الدنيا أهل غفلة، وكأنّ المؤمنين هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة لم يصمّهم عن ذكر الله ما سمعوا بآذانهم، ولم يعمهم عن ذكر الله ما رأوا من الزينة، ففازوا بثواب الآخرة كما فازوا بذلك العلم. واعلم يا جابر أنّ أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤنة، وأكثرهم لك معونة تذكر فيعينونك، وإن نسيت ذكّروك، قوّالون بأمر الله، قوّامون على أمر الله. قطعوا محبّتهم بمحبّة ربّهم، ووحشوا الدنيا لطاعة مليكهم، ونظروا إلى الله تعالى وإلى محبّته بقلوبهم، وعلموا أنّ ذلك هو المنظور إليه لعظيم شأنه، فأنزل الدنيا كمنزل نزلتَه ثمّ ارتحلتَ عنه، أو كمال وجدتَه في منامك واستيقظتَ، وليس معك منه شي‏ء"15.
 
 إذاً فإصلاح النفس يبدأ من التذكّر والخروج من نوم الغفلة عن الآخرة بالدرجة الأولى، ولهذا الأسلوب في إصلاح النفس ميّزتان:
 أ- إنّه يصلح ظاهر العمل وباطنه إذ إنّ المراد هو الله تعالى، والمحاسب والمجازي هو الله تعالى أيضاً.
 
 ب- إنّه جزاء دائم لأنَّ‏ ما عند الله خير وأبقى، والقرآن الكريم اعتبر هذا المسلك مسلكاً جيّداً وندب إليه، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ
________________________________________
14- شرح أصول الكافي، المولى محمد صالح المازندراني، ج8، ص379.
15- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج70، ص36.
30

17

الدرس الثاني:اقسام النفس في القران

 الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾16.

وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين: "إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلّا الجنّة فلا تبيعوها إلّا بها"17.

مرتبة الحبّ لله تعالى‏
إنّ علاج النفس تارة يكون بإيجاد المانع فيها من فعل الذنوب كأن يخوّف الإنسان نفسه بالنار وغضب الجبّار، ففي هذه الحالة يكون الدافع إلى الذنب موجوداً في النفس إلّا أنّه هنالك مانع من الوقوع فيه وهو ما ذكرناه من الخوف وغيره من الموانع، وتارة يكون علاجها بإلغاء الدافع أساساً بحيث لا تطلب النفس الذنب إذ لا رغبة لها فيه، والطريقة الأولى هي من خصائص المسالك الأخرى لا مسلك الحبّ الإلهيّ، أمّا الطريقة الثانية - وهي قلع الدوافع من النفس- فهي من مختصّات مسلك الحبّ الإلهيّ، ولهذا المسلك والطريق ركنان أساسان:
 
الأوّل: ركن المعرفة والعلم بأن يصل الإنسان من خلال علمه إلى مرحلة يدرك فيها معنى التوحيد بكلّ أبعاده، ومن خلال هذه المعرفة بالتوحيد لا يبقى أي موضوع لهذه الرذائل، ولن يتوجّه بعد ذلك إلى الناس، ولا يطمع بما في أيديهم؛ لأنّه يعرف حقّ المعرفة أنّ الغنيّ منهم لا يملك ولا يُعطي ولا يمنع إلّا بإذن الله تعالى، فلا يرجو منه. ولا القويّ منهم خارج عن قوّة الله، فلا يخاف منه. وغيرها من المعاني.
________________________________________
16- التوبة،:111.
17- نهج البلاغة، ج4، ص105.
31

18

الدرس الثاني:اقسام النفس في القران

 ولقد كان الإمام الخمينيّ قدس سره من المصاديق البارزة في هذا المضمار من الإيمان إذ لم يخف طواغيت العالم بل خاف مالك الملوك وجبّار الجبابرة فأخاف الله تعالى منه طواغيت الأرض.

 
الثاني: ركن العمل إذ مجرّد العلم لا يكفي في هذا المجال، فبعد أن يتعلّم الإنسان التوحيد يجب أن يكون توحيده عمليّاً لا نظريّاً فحسب، والطريق إلى التوحيد العمليّ حبّ الله تعالى، فإنّ الإنسان إذا أحبّ شيئاً أطاعه وعبده، بل إنّ من آثار الحبّ الطاعة والتسليم.
وخلاصة الأمر أنّ على الإنسان أن يجعل قلبه متعلّقاً بالله تعالى وحده، قال تعالى: ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾18إذ لا يجتمع حبّ الله تعالى وحبّ الدنيا في قلب واحد، وإذا حصلت المحبّة في قلب الإنسان لله أخذ إيمانه في الاشتداد والازدياد وانجذبت نفسه إلى التفكير في ناحية ربّه، واستحضار أسمائه الحسنى، وصفاته الجميلة المنزّهة عن النقص والشَّيْن ولا تزال نفسُه تزيد انجذاباً، وتترقّى مراتبه حتّى صار يعبد الله كأنّه يراه...
 
فيأخذ الحبّ في الاشتداد؛ لأنّ الإنسان مفطور على حبّ الجميل، وقد قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا﴾19، وصار يتّبع الرسول صلى الله عليه واله في جميع حركاته وسكناته؛ لأنّ حبّ الشي‏ء يوجب حبّ آثاره، والرسول من آثاره وآياته كما أنّ العالم أيضاً آثاره وآياته تعالى، ولا يزال هذا الحبّ يشتدُّ ثمّ يشتدُّ حتّى ينقطع إليه من كلّ شي‏ء، ولا يحبّ إلّا ربّه، ولا يخضع قلبه إلّا لوجهه، فإنّ هذا العبد لا يعثَرُ بشي‏ء، ولا يقف على شي‏ء وعنده شي‏ء من الجمال والحسن إلّا وجدَ أنّ ما عنده أنموذج يحكي ما عند الله من كمال لا ينفد، وجمال لا يتناهى، وحسن لا يُحدّ، فله الحسن والجمال والكمال والبهاء، فيستولي سلطان الحبّ على قلبه20.
________________________________________
18- الأحزاب:4.
19- البقرة:165.
20- تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج1، ص373 وما بعدها  ملخّصاً .
 
32

19

الدرس الثاني:اقسام النفس في القران

 خلاصة الدرس

- هناك ثلاث حالات للنفس وردت في القرآن الكريم وهي:
 1- النفس اللوّامة.
 2-النفس الأمّارة بالسوء.
3- النفس المطمئنّة.
 
 - فصّلت الروايات الشريفة ما أجمله القرآن الكريم من أحوال النفس الإنسانيّة فتحدثت بشكل مفصّل عن حالاتها.
 
 - إنّ المسالك والطرق إلى الله كثيرة بعدد أنفاس الخلائق إلّا أنّها كلّها تبدأ من خلال تهذيب النفس وإصلاحها، ومن هذه الطرق:
 1-إصلاح النفس بالغايات الأخرويّة وهذا المسلك هو مسلك أغلب الناس، فبعضهم يغلب على نفسه الخوف وكلّما فكّر فيما أوعد الله الظالمين والّذين ارتكبوا المعاصي والذنوب من أنواع العذاب الّذي أعدّ لهم زاد في نفسه خوفاً، وبعضهم يغلب على نفسه الرجاء وكلّما فكّر فيما وعده الله الّذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعمة والكرامة وحسن العاقبة زاد رجاءً وبالغ في التقوى والتزام الأعمال الصالحات طمعاً في المغفرة والجنّة.
 
 2- إصلاح النفس بالحبّ الإلهيّ، وهو مرتكز على أمرين: ركن العلم والمعرفة، وركن العمل.
 
33

20

الدرس الثاني:اقسام النفس في القران

 اسئلة

1- ما هي النفس الّتي ذُكرت في القرآن الكريم؟
 2- ما هي الطرق الفُضلى لإصلاح النفس؟
 3- تحدّث عن طريق إصلاح النفس بالغايات الأخرويَّة.
 4- ما معنى إصلاح النفس بالحبّ الإلهيّ؟
 5- علامَ يرتكز إصلاح النفس بالحبّ الإلهيّ؟
 
 
للمطالعة
حسن الخلق‏
 
 من مواعظ الإمام الخمينيّ قدس سره في كتاب " الأربعون حديثاً":
 أيّها العزيز؛ انهض من نومك، وتنبّه من غفلتك، واشدد حيازيم الهمّة، واغتنم الفرصة ما دام هناك مجال، وما دام في العمر بقيّة، وما دامت قواك تحت تصرّفك، وشبابك موجوداً، ولم تتغلّب عليك بعدُ الأخلاق الفاسدة، ولم تتأصّل فيك الملكات الرذيلة، فابحث عن العلاج، أعثر على الدواء لإزالة تلك الأخلاق الفاسدة والقبيحة، وتلمّس سبيلاً لإطفاء نائرة الشهوة والغضب.... وأفضل علاج لدفع هذه المفاسد الأخلاقيّة، هو ما ذكره علماء الأخلاق وأهل السلوك، وهو أن تأخذ كلّ واحدة من الملكات القبيحة الّتي تراها في نفسك، وتنهض بعزم على مخالفة النفس إلى أمد، وتعمل عكس ما ترجوه وتطلبه منك تلك الملكة الرذيلة.
 
 وعلى أيّ حال؛ أطلب التوفيق من الله تعالى لإعانتك في هذا الجهاد، ولا شكّ في أنّ هذا الخُلُق القبيح، سيزول بعد فترة وجيزة، ويفرّ الشيطان وجنوده من
34

21

الدرس الثاني:اقسام النفس في القران

 هذا الخندق، وتحلّ محلّهم الجنود الرحمانيّة.

 
 فمثلاً، من الأخلاق الذميمة الّتي تسبّب هلاك الإنسان، وتوجب ضغطة القبر، وتعذّب الإنسان في كلا الدارين، سوء الخُلُق مع أهل الدار والجيران أو الزملاء في العمل أو أهل السوق والمحلّة، وهو وليد الغضب والشهوة، فإذا كان الإنسان المجاهد يفكّر في السموّ والترفع، عليه عندما يعترضه أمر غير مرغوب فيه حيث تتوهّج فيه نار الغضب لتحرق الباطن، وتدعوه إلى الفحش والسيّئ من القول، عليه أن يعمل بخلاف النفس، وأن يتذكّر سوء عاقبة هذا الخُلُق القبيح، ويبدي بالمقابل مرونة، ويلعن الشيطان في الباطن ويستعيذ بالله منه.
 
 إنّي أتعهّد لك بأنّك لو قمت بذلك السلوك، وكرّرته عدّة مرّات، فإنّ الخُلُق السيّئ سيتغيّر كليّاً، وسيحلّ الخُلُق الحسن في عالمك الباطن، ولكنّك إذا عملت وفق هوى النفس، فمن الممكن أن يبيدك في هذا العالم نفسه. وأعوذ بالله تعالى من الغضب الّذي يهلك الإنسان في آن واحد في كلا الدارين فقد يؤدّي ذلك الغضب - لا سمح الله - إلى قتل النفس. ومن الممكن أن يتجرّأ الإنسان في حالة الغضب على النواميس الإِلهيّة. كما رأينا أنّ بعض الناس قد أصبحوا من جرّاء الغضب مرتدّين. وقد قال الحكماء: "إنّ السفينة الّتي تتعرّض لأمواج البحر العاتية وهي بدون قبطان، لهي أقرب إلى النجاة من الإنسان وهو في حالة الغضب".
 
 أو إذا كنت لا سمح الله من أهل الجدل والمراء في المناقشات العلميّة كما عليه بعض طلاب العلوم الدينيّة نحن الطلبة، المبتلين بهذه السريرة القبيحة، فاعمل فترة بخلاف النفس، فإذا دخلت في نقاش مع أحد الأشخاص في مجلس ما، ورأيت أنّه يقول الحقّ فاعترف بخطئك وصدّق قول المقابل، والمأمول أن تزول هذه الرذيلة في زمن قصير.
35

22

الدرس الثالث:ميزان التزكية

الدرس الثالث: ميزان التزكية




أهداف الدرس

 • أن يتبيّن الطالب المنابع الأصيلة للهداية.

 • أن يتعرّف إلى ما ينبغي الحذر منه

 

37

23

الدرس الثالث:ميزان التزكية

 تمهيد

 يقول تعالى: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾1، هذه الآية الكريمة على قصرها تؤكّد حقيقة أنّ الحسنات لا تكون إلّا بما علم الله تعالى وأوحى به لأنبيائه، وأنّ طريق الهداية لا يمكن الاهتداء بها لولا الوحي الّذي رسمَ الله تعالى من خلاله طريق الهداية للناس، فهم إن اتّبعوا ما أُنزِل إليهم عبر الأنبياء اهتدوا، وأمّا إن تركوا مضمون هذا الوحي ليبحثوا عن طرق وصول خلف ذلك معتمدين على أنفسهم فلن يحصدوا إلّا الخيبة، ولن تكون لهم إلّا السيّئة.
 
 على السالك إلى الله سبحانه وتعالى أن يحصر ما يودّ عمله بموارد لا يعتريها الشكّ، كما أنّ عليه الحذر من أمور أخرى، وحينها يكون قد نهل العلم من منابعه الأصيلة الّتي لا يعتريها كدر ولا يشوبها باطل، ولا بدّ من أن يكون هذا الالتزام بالموارد المحدّدة والحذر من الأمور الأخرى:
 
 على صعيد العبادات والأوراد فينبغي التنبّه للصحيح منها وما ثبت شرعاً وما لم يثبت وأن لا يقوم بكلّ عمل سمعه من هنا أو هناك، بل عليه التحقّق من.
________________________________________
1- النساء: 79.
39

24

الدرس الثالث:ميزان التزكية

 حقيقته ومصدره ومنبعه فعن الإمام عليّ عليه السلام: "لو اقتبستم العلم من معدنه، وشربتم الماء بعذوبته، وادّخرتم الخير من موضعه، وأخذتم الطريق من واضحه، وسلكتم من الحقّ نهجه، لنهجت بكم السبل، وبدت لكم الأعلام"2.

 
وسنذكر فيما يلي المنابع الأصيلة وما ينبغي الحذر منه في هذه الطريق الطويلة.

المنابع الأصيلة
1-القرآن الكريم:
فالقرآن الكريم كتاب الهداية الّذي أنزله الله تعالى على رسوله الأكرم محمّد صلى الله عليه واله لكي يكون كتاب هداية للأمّة سواء من خلال التشريع الّذي تضّمنه، أو من خلال الإرشاد والوعظ الموجود فيه، فعن الإمام أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب عليه السلام في صفة القرآن: "جعله الله ريّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء"3.
 
وفي وصيّة الإمام عليّ عليه السلام إلى ابنه الإمام الحسن عليه السلام: "ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق... أن أبتدئك بتعليم كتاب الله عزَّ وجلَّ وتأويله، وشرائع الإسلام وأحكامه، وحلاله وحرامه، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره"4"5.
 
2- الرسول الأكرم صلى الله عليه واله:
إلّا أنّه لسائل أن يسأل: كيف يمكن للإنسان أن يعرف مراد القرآن؟ ولا سيّما 
________________________________________
 2- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج3، ص2108.
3- م. ن، ج3، ص2102.
4- إلى غير القرآن والإسلام.
5- نهج البلاغة، ج3، ص41.
40

25

الدرس الثالث:ميزان التزكية

 أنّ المفسّرين قد يختلفون في تفسيره، وأنّ كلّ الفئات والمذاهب والمسالك تدّعي تمسّكها بالقرآن الّذي يُعتبر الفرقان بين الحقّ والباطل، فكيف لنا أن نعلم مراد الله الحقيقيّ من خلال التفسير على اختلافه بين العلماء؟

 
 ومن هنا لا بدّ من أن نرجع إلى الرسول الأكرم الّذي يُعتبر أولى الناس بشرح معاني القرآن ومراد الله تعالى منه، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾6.
 
 3- أهل البيت عليهم السلام:
 وقد حدّد لنا الرسول الأكرم صلى الله عليه واله منهجاً واضحاً ومعياراً وميزاناً وأمرنا بالتمسّك به حينما قال صلى الله عليه واله: "إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض"7.
 
 في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام قال: لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: "شرّقا وغرّبا لن تجدا علماً صحيحاً إلّا شيئاً يخرج من عندنا أهل البيت"8.وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنّة ماضية، ولا أدري"9.
 
 4- العلماء: 
 ويمكن للسائل أن يسأل من جديد: إنّ ما وصل إلينا من الروايات فيه الصحيح وغيره، فمن أين للإنسان أن يميّز الغثّ من السمين، والصحيح من السقيم؟
________________________________________
6- الحشر: 7.
7- وسائل الشيعة، الحر العاملي،  آل البيت ، ج27، ص34.
8- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج2، ص92.
9- ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج3، ص2103.
41

26

الدرس الثالث:ميزان التزكية

 والجواب أنّه ليس على كلّ إنسان أن يميّز الصحيح من السقيم من هذا الكمّ الهائل من الأحاديث الّتي وردت إلينا، بل إنّ أهل البيت عليهم السلام، قد أرشدونا إلى الطريق لمعرفة ذلك، فعن الإمام العسكريّ عليه السلام: "أما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوامّ أن يقلّدوه"10.

 
فعلماؤنا رضوان الله تعالى عليهم قد بذلوا أعمارهم، وأضنَوْا عيونهم في دراسة ما ورد عن أهل البيت عليهم السلام من روايات ليحدّدوا الصحيح منها من السقيم، ويتلمّسوا المراد من صحيحها، وما عناه أهل البيت عليهم السلام من أسرار العلوم الإلهيّة الحقّة.
 
فالعلماء كما وصفهم الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنّما ورّثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ شيئاً منها فقد أخذ حظّاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"11.
 
وبعد هذا كلّه يتلخّص لدينا أنّ على السائر إلى الله تعالى أن يستقي العلم من القرآن المشروح بلسان الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وأهل البيت عليهم السلام، فيما ورد وقال عنه العلماء بأنّه صحيح ممّا قالوه وشرحوه لنا من أسرار علومهم وما استنبطوه من الأحكام من خلال الأحاديث والآيات القرآنيّة المباركة، فإنّ من أعظم التوفيقات الإلهيّة أن يجد الإنسان المرشد من العلماء الّذين أطاعوا الله تعالى حقّ طاعته، فيكون بمثابة دليل له في هذا الطريق، يحذّره من قطّاعها
________________________________________
10- مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النمازي، ج8، ص576.
11- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج2، ص92.
 
42

27

الدرس الثالث:ميزان التزكية

 ويعرّفه على تفاصيلها ويشدّ عزمه لو أحسّ منه الكسل أو الضجر، ويقوّمه لو رأى منه الزلل.

 
ما ينبغي الحذر منه‏:
1-ما يخالف الشريعة:
قد يتّجه بعض الناس إلى أساليب غير شرعيّة ظنّاً منهم أنّ ذلك سيوصلهم إلى تكامل وروحيّة معيّنة وقد يحصل لبعضهم بعض القوى الروحيّة كالعلم بالضمائر أو القدرة على المشي على النار فيعتبر ذلك كمالاً له، إلّا أنّ ذلك ليس إلّا لأجل الرياضات الّتي روّض نفسه عليها، وليس ذلك من الله بشي‏ء، كما أنّ الحصول على هذه القوى ليس هدفاً للإنسان السالك إلى الله تعالى، بل قد تكون عائقاً في كثير من الأحيان أمام الاستمرار في السلوك لما يتبعها من العُجْب أو الاعتداد الزائد بالنفس، ومن تلك الأساليب غير الشرعيّة الّتي ينبغي الحذر منها:
 
أ- إرهاق الجسد: ويكون ذلك بتعذيبه أشدّ العذاب كالجرح بالآلات الحادّة أو التجويع الّذي يُشارف الإنسان فيه على الموت أو الهلاك وغيرها من الأمور الّتي تحرمها الشريعة من باب عدم جواز أذيّة النفس.
 
ب- السقوط من أعين الناس: وأصحاب هذه الفكرة السقيمة يقومون بارتكاب المحرّمات أمام الملأ ليسقطوا من أعين الناس؛ لأنّ سقوطهم من أعين الناس - بحسب زعمهم - يجعلهم نظيفي النفوس من حبّ الاشتهار الّذي يرجع إلى حبّ النفس، وهذا محرّم شرعاً بما فيه من تحقير للنفس الّتي كرّمها الله، ومن ارتكاب للمحرّمات الّتي تُسقط الإنسان من عين الله قبل أعين الناس.
43

28

الدرس الثالث:ميزان التزكية

 ج- العزلة عن المجتمع: ويتصوّر أصحاب هذه النظريّة أنّ الابتعاد عن الناس يجعل قلب الإنسان صافياً وعبادته خالية من الرياء وغيره من الشوائب، ويكفي رداً عليهم ما جاء به الرسول الأكرم صلى الله عليه واله من منع للرهبانيّة، بل ورد عنه صلى الله عليه واله: "لا رهبانيّة في الإسلام"12.

وفي رواية أخرى عنه صلى الله عليه واله: "من أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس منهم"13.
 
بل إنّه صلى الله عليه واله قد حارب هذه الممارسة منذ أيام الدعوة الأولى وطيلة حياته ففي الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ ثلاث نسوة أتين رسول الله صلى الله عليه واله فقالت إحداهنّ: إنّ زوجي لا يأكل اللحم، وقالت الأخرى: إنّ زوجي لا يشمّ الطيب، وقالت الأخرى: إنّ زوجي لا يقرب النساء، فخرج رسول الله صلى الله عليه واله يجرّ رداءه، حتّى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: ما بال أقوام من أصحابي لا يأكلون اللحم ولا يشمّون الطيب ولا يأتون النساء؟! أما إنّي آكل اللحم وأشمّ الطيب وآتي النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي"14.
 
2- الاختراع:
والاختراع هو أن يبتدع الإنسان من خلال عقله عبادة معينة لم ترد في الكتاب ولم ترد في السنّة المأثورة عن نبيّنا صلى الله عليه واله وأهل بيته، وهذا الاختراع ممّا نهى عنه أهل البيت عليهم السلام، ففي الرواية عن عبد الرحيم القصير قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقلت: جُعلت فداك إنّي اخترعت دعاء قال: "دعني من اختراعك إذا نزل بك أمر فافزع إلى رسول الله صلى الله عليه واله وصلّ ركعتين تهديهما إلى رسول الله صلى الله عليه واله..."15.
________________________________________
12- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج1، ص206.
13- وسائل الشيعة  آل البيت ، الحر العاملي، ج61، ص337.
14- الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص496.
15- الكافي، ج3، ص476.
 
44

29

الدرس الثالث:ميزان التزكية

 3-الهوى:

وهو ما تمنّيه النفس الخياليّة للإنسان من شهوات لتزيله عن مرتبة الإخلاص كالجاه وحبّ الدنيا وغيرها من الشهوات الزائلة، ومنها الكرامة بين الناس وقد روي عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله: "... أمّا اتباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، وطول الأمل يُنسي الآخرة"16.
 
 
خلاصة
- على السالك إلى الله سبحانه وتعالى أن يحصر ما يودّ عمله أو الاعتقاد به بموارد لا يعتريها الشكّ، كما أنّ عليه الحذر من أمور أخرى، وحينها يكون قد نهل العلم من منابعه الأصيلة الّتي لا يعتريها كدر، ولا بدّ من أن يكون هذا الالتزام بالموارد المحدّدة والحذر من الأمور الأخرى.
 
 - على صعيد العبادات والأوراد فينبغي التنبّه للصحيح منها وما ثبت شرعاً وما لم يثبت، وأن لا يقوم بكلّ عمل سمعه من هنا أو هناك.
 
 - المنابع الأصيلة هي: القرآن الكريم الّذي شرحه الرسول صلى الله عليه واله وأهل البيت عليهم السلام، وتولّى العلماء تفسيره لنا.
 
 - ما ينبغي الحذر منه: ما يخالف الشريعة، الاختراع، الهوى
________________________________________
16- منية المريد، الشهيد الثاني، ص146.
45

30

الدرس الثالث:ميزان التزكية

 اسئلة

1- هناك مستويان للذي يريد السلوك إلى الله تعالى من خلال ما يلتزم به، ما هما؟
 2- ما هي المنابع الأصيلة؟
 3- ممَّ ينبغي الحذر؟
 4- ما هو خطر الهوى على الإنسان؟
 5- هل الاختراع طريق سليم؟ لماذا؟
 
للمطالعة
ميزان السلوك‏
 
 من مواعظ الإمام الخميني قدس سره في كتاب "الأربعون حديثاً":
 ومن إبداع الشيطان الموسوس في صدور الناس، الفريد من نوعه هو أنّه مع بيان عذب ومليح، وأعمال مغرية، قد يعلّق البعض بشحمة أذن فاتنة جميلة ويُسوِّغ هذه المعصية الكبيرة بل هذا الشرك لدى العرفاء، بأنّ القلب إذا كان متعلّقاً بشي‏ء واحد استطاع أن يقطع علاقاته بالآخرين بصورة أسرع فيركّز كلّ توجهه أوّلاً على الفتاة الجميلة بحجّة أنّ القلب ينصرف عن غيرها، وأنّه منتبه إلى شي‏ء واحد، ثمّ يقطع هذا الارتباط الوحيد ويركّز قلبه على الحقّ المتعالي.
 
 وقد يدفع الشيطان بإنسان أبله نحو إنسانٍ أبله، بل شيطان قاطع للطريق ويلتجىء في تسويغ هذا الشرك الجليّ إلى أنّ هذا المرشد هو الإنسان الكامل وأنّه لا سبيل للإنسان في الوصول إلى مقام الغيب المطلق إلّا بوساطة الإنسان
 
46

31

الدرس الثالث:ميزان التزكية

 الكامل المتجسّد في المرآة الأحديّة للمرشد، ويلتحق كّل منهما حتّى نهاية عمرهما بعالم الجنّ والشياطين: حيث يفكّر المرشد في جمال معشوقه ومفاتنه، وهذا الإنسان البسيط بتركيز الانتباه على محيّا مرشده البائس المنكوس حتّى آخر حياته فلا تنسلخ العلقة الحيوانيّة عن هذا المرشد، ولا يبلغ الإنسان الأبله الأعمى منشودَه ومبتغاه.

 
 ولا بدّ من معرفة أنّ المؤمن لمّا كان سيره في هذا العالم معتدلاً، وقلبه سويّاً، وتوجّهه نحو الله وصراطه مستقيماً، كان في ذلك العالم أيضاً صراطه مستقيماً وواضحاً، وجسمه معتدلاً وصورته وسيرته وظاهره وباطنه في صورة الإنسان وهيئته. وعند مقارنة قلب المشرك بقلب المؤمن نستطيع أن نفهم موقع قلب المشرك ومصيره، فحيث إنّ قلبه قد خرج عن الفطرة الإلهيّة، وانحرف عن النقطة المركزيّة للكمال، وعن بحبوحة النور والجمال، وابتعد عن التبعيّة للهادي المطلق والوليّ الكامل، وانشغل بأنّيته وأنانيّته بالدنيا وزخارفها، لم يُحشر المشرك في العوالم الأخرى في سيرة الإنسان وصورته المعتدلة، وإنّما يُحشر في صورة حيوان منكوس الرأس؛ لأنّ الهيئة والصورة في ذلك العالم تتبع القلوب، وأنّ الظاهر هناك ظلّ لباطن الإنسان هنا، وأنّ القشر انعكاس للبّ...
 
 فالقلوب الّتي أعرضت عن الحقّ والحقيقة، وخرجت عن فطرتها المستقيمة وأقبلت على الدنيا، ألقت بظلالها على ذلك العالم حيث يخرج أصحابها هناك من الاعتدال ويكونون منكوسين، ومتّجهين نحو عالم الطبيعة والدنيا الّتي تعتبر أسفل السافلين. فمن المحتمل أن يمشي بعض مكباً على وجهه وتكون ساقه نحو الأعلى ويمشي بعض على بطنه، وبعض على يديه ورجليه، كما كان اتجاهه في هذا العالم ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾17فمن
________________________________________
17- الملك: 22.
57

32

الدرس الثالث:ميزان التزكية

 الممكن أنّ هذا الاستعمال المجازي في هذا العالم المجازي، يتحوّل إلى واقعيّة وحقيقة في عالم الحقائق والظهور للروحانيّات والغيبيّات.

 
 لقد فَسّرت الأحاديث الشريفة: ﴿صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾ المذكور في نهاية هذه الآية المباركة بالإمام أمير المؤمنين عليه السلام والأئمّة المعصومين:
 عن الكافي بإسناده عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: "قُلْتُ: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾؟ قالَ: إنَّ‏َ الله ضَرَبَ مَثَلاً، من حَادَ عَنْ وِلاَيَةِ عَلِيّ‏ٍ عليه السلام كَمَنْ يَمْشي عَلى وَجْهِهِ لا يَهْتَدِي لأَمْرِهِ، وَجَعَلَ مَنْ تَبِعَهُ سَوِيّاً عَلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَالصِّراطُ الْمُسْتَقِيمُ أميرُ الْمُؤْمِنين".
 
48

33

الدرس الرابع:برنامج التزكية

 الدرس الرابع: برنامج التزكية

أهداف الدرس
 • أن يتعرّف الطالب إلى حقيقة العقل.
 • أن يتبيّن دور العقل في التزكية.
 • أن يستحضر معركة الجهاد الأكبر بين الجنود الرحمانيّة والجنود الشيطانيّة.
 
47

34

الدرس الرابع:برنامج التزكية

 تمهيد

 هناك معركة كبيرة تدور داخل نفس الإنسان بين عقله وشهواته، وسنتحدّث في هذا الدرس عن هذه المعركة وحقيقة أطرافها بشي‏ء من التفصيل، إذ لا بدّ من التعرّف على هذا الأمر؛ لأنّ المشرف على المعركة هو نفس الإنسان، فلا بدّ له أن يعلم بأطرافها ومدى قوّتهم ومكامن الضعف لديهم، ليعرف كيف يديرها بحيث تصبّ في مصلحته.
 
 أمّا أطراف المعركة فالطرف الأوّل هو قوى النفس: الشهويّة والغضبيّة والوهميّة، الّتي تقوم بدور الطاغي الشرير الّذي لا يحبّ سوى أن يقوم بملذّاته غير عابئ بما يخلّف وراءه من الخراب والدمار. والطرف الآخر هو العقل الّذي يمثّل الخير والمبادئ الصالحة. ولكلّ من هذين الطرفين جنود، فجنود الأهواء النفسيّة تُسمّى جنود الجهل أو جنود الشيطان، والعقل تُسمَّى جنوده بجنود العقل أو الرحمن.
 
 وسنشرح معنى العقل والجهل قبل أن نخوض في المعركة ونقيّم النتائج فيما لو تغلّب أحدهما على الآخر.
 
51

35

الدرس الرابع:برنامج التزكية

 ما هو العقل؟

أجاب الإمام الصادق عليه السلام عن هذا السؤال بقوله: "ما عُبِدَ به الرحمن واكتُسب به الجِنان، فقيل له: فالّذي كان في معاوية؟ فقال عليه السلام: تلك النكراء! تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل"1.
ويُستفاد من الرواية أنّ العقل هو الّذي يُنتج الخير ويأمر به، وأمّا الّذي يتمادى في الشرّ ويخترع الحيل وأساليب المكر فإنّه ليس من العقل بل من الشيطان أي من القوّة الواهمة الّتي توجد في نفس الإنسان حينما يسخّرها لأجل تنفيذ أهوائه وشهواته، وقد سمّاها الإمام عليه السلام بالشيطنة.
ولذا ورد في رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام: "من كان عاقلاً كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنّة"2.
وبما أنّ العقل على هذا القدر من الصلاح إذ يوصل الإنسان إلى معرفة الدين ومعرفة ربّ العالمين، فمن الطبيعيّ أن يكون متّصلاً بسائر الأخلاق، ففي الرواية عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: "هبط جبرئيل على آدم عليه السلام فقال: يا آدم إنّي أُمرت أن أخيّرك واحدة من ثلاث فاختر واحدة ودع اثنتين، فقال له: وما تلك الثلاث؟ قال: العقل والحياء والدين، فقال آدم عليه السلام: فإنّي قد اخترت العقل، فقال جبرئيل عليه السلام للحياء والدين: انصرفا ودعاه، فقالا: يا جبرائيل إنّا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما. وعرج"3.
لذلك كان العقل محلّاً للتكريم الإلهيّ، ففي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام 
________________________________________
1-الكافي، الشيخ الكليني، ج1، ص11.
2- وسائل الشيعة  آل البيت ، الحر العاملي، ج51، ص206.
3- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4، ص417.
52

36

الدرس الرابع:برنامج التزكية

  قال: "لمّا خلق الله العقل استنطقه ثمّ قال له: أقبل، فأقبل، ثمّ قال له: أدبر، فأدبر، ثمّ قال: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك، ولا أكملتك إلّا فيمن أحبّ، أما إنّي إيّاك آمر، وإيّاك أنهى وإيّاك أعاقب، وإيّاك أثيب"4.

وأمّا الجهل فهو عدم التعقّل، ففي الرواية عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا، قال سُماعة: فقلت: جُعلت فداك لا نعرف إلّا ما عرّفتنا، فقال أبو عبد الله: إنّ الله عزَّ وجلَّ خلق العقل وهو أوّل خلق من الروحانيّين عن يمين العرش من نوره فقال له: أدبر فأدبر، ثمّ قال له: أقبل فأقبل، فقال الله تبارك وتعالى: خلقتك خَلقاً عظيماً وكرّمتك على جميع خلقي، قال: ثمّ خلق الجهل من البحر الأُجاج ظلمانيّاً، فقال له: أدبر فأدبر، ثمّ قال له: أقبل فلم يُقبل، فقال له: استكبرت. فلعنه"5.
دور العقل‏
إنّ للعقل دوراً مهمّاً، يمكن تلخيصه بالنقاط التالية:
1- توجيه الميول والغرائز الإنسانيّة: حينما تكلّمنا عن قوى النفس، ولا سيّما القوّة الغضبيّة والشهويّة قلنا إنّ العقل هو الّذي يحاول أن يضع حدّاً للتمرّد الّذي تقوم به هذه الغرائز، ويجعلها خاضعة لقانون المصالح العامّة، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين عليه السلام: "النفوس طلقة، لكنّ أيدي العقول تمسك أعنّتها عن النحوس"6.
أي عن ارتكاب المخالفات الّتي تدمّر المجتمع.
2- الأمر بالخير: فإنّ العقل يأمر بكثير من الأمور الأخلاقيّة الأساس،
________________________________________
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج1، ص10.
5- م. ن، ج1، ص21.
6- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج3، ص2039.
 
53

37

الدرس الرابع:برنامج التزكية

 كحسن الصدق والوفاء، وقبح الكذب والخداع، وإلى هذا المعنى أشارت الكثير من الروايات، منها ما رُوي عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "لو كنّا لا نرجو جنّة ولا نخشى ناراً ولا ثواباً ولا عقاباً، لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق، فإنّها ممّا يدلُّ على سبيل النجاح"7.

وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "استرشدوا العقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا"8.
 
3- الصلاح الاجتماعيّ: إنّ تجاهل الإنسان لنداء العقل الداعي إلى الخير، والناهي عن الشرور والطغيان يؤدّي بالمجتمعات إلى التحلّل ومن ثَمَّ الانهيار، وخير دليل وشاهد على صحّة هذا القول ما نراه في الدول الكبرى الّتي نقمت على الدين واعتبرته كابتاً لحاجات الإنسان، وشرّعت الإباحيّة، فها هي اليوم تعاني الأمرّين من جرّاء ضياع النسل وتفكّك الأسر وانقراض الحياة العائليّة الأسريّة، ولو حاولنا أن نجد السبب الرئيس لهذه المشاكل لوجدنا الإجابة في أنّهم لم يُصغوا لنداء العقل، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "فُضِّل العقل على الهوى؛ لأنّ العقل يملّكك الزمان، والهوى يستعبدك للزمان"9.

الجهاد الأكبر
بعد أن عرفنا حقيقة العقل والجهل في الإنسان وأنّهما متصارعان على الدوام، سنتحدّث فيما يلي، عن هذا الصراع العنيف الّذي يجري داخل النفس بين جنودهما، وهنا يكون الجهاد الحقيقيّ، يقول الإمام الخميني: وفيها 
________________________________________
7- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج11، ص193.
8- م.ن، ج2، ص286.
9- راجع كتاب الأفكار والميول، الأستاذ محمد تقي فلسفي، ج1، ص 160 وما بعدها.
54

38

الدرس الرابع:برنامج التزكية

  أي في مملكة الباطن عند الإنسان  تكون جنود النفس أكثر ممّا في مملكة الظاهر وأهمّ، والصراع والنزاع فيها بين الجنود الرحمانيّة والشيطانيّة أعظم والغلبة والانتصار فيها أشدّ وأهمّ...

 
وجهاد النفس في هذا المقام مهمّ للغاية عند المشايخ العظام من أهل السلوك والأخلاق، بل ويمكن اعتبار هذا المقام منبع جميع السعادات والتعاسات، والدرجات والدركات10.
 
نموذج عن معركة
من المناسب أن نذكر نموذجاً من المعارك الّتي تجري في باطن الإنسان بين جنود العقل والجهل حتّى تتبيّن لنا كيفيّة هذا الصراع بشكل أوضح.
فمن النماذج الّتي سلّط التاريخ عليها ضوءاً، نموذج عمر بن سعد حين وعده الخليفة الظالم يزيد بن معاوية  لعنه الله ، بإمارة الريّ، ولكنّه طلب منه مقابل منحه لإمارة الريّ، أن يقتل الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام وابن السيّدة الزهراء وحفيد رسول الله صلى الله عليه واله، فهنا اصطفّت الجنود للمعركة في نفس عمر بن سعد، فجعل يتخيّر بين قتل الحسين عليه السلام والّذي تأمره به النفس الأمّارة وحبّ الجاه والمنصب لينال إمارة الريّ، وبين العقل الّذي يمنعه عن ذلك من خلال جند الرحمن الّذين يحذّرونه من عاقبة قتل إمام زمانه المظلوم، وكان يقول في ليله:

أأتركُ ملكَ الريِّ والريُّ منيتي        أم أرجعُ مأثوماً بقتلِ حسين‏ِ؟
ففي مثلِهِ النارُ الّتي ليس دونها        حجابٌ ومُلكُ الريِّ قرّةُ عيني
________________________________________
10- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، حديث جهاد النفس.
 
55

39

الدرس الرابع:برنامج التزكية

 فهنا يتجلّى ويحتدم الصراع لاحتلال النفس، ولكن في هذه المعركة تغلّبت جند الشيطان على عقل عمر بن سعد فرضخ لحبّ الجاه، وقتل الإمام العادل حفيد الرسول صلى الله عليه واله.

 
ونموذج آخر ينقله لنا التاريخ وهو موقف الحرّ بن يزيد الرياحيّ، الّذي كان في جيش ابن زياد وقد خيّر نفسه بين الجنّة الّتي يلقاها بالاستشهاد من أجل الهدف النبيل في الدفاع عن الإسلام الحقيقيّ المتمثّل بالإمام الحسين عليه السلام، وبين النار الّتي تتمثّل في دعم الطغيان الّذي يمثّله يزيد بن معاوية، فاختار الجنّة وعاد تائباً إلى معسكر الإمام الحسين عليه السلام.
 
تقييم لنتائج المعركة
إنّ الهزيمة الّتي تتعرّض لها الجيوش في المعارك الّتي تجري بين المتحاربين في الدنيا، قد تكون هزيمة محدودة في كثير من الأحيان، وقد يستطيع الجيش أن يلملم صفوفه مرّة أخرى ليعاود شنّ الهجوم على الأعداء، ولكن في معركة جنود العقل والجهل قد يكون هذا ممكناً في أوّل الأمر، إلّا أنّ الأمر يختلف فيما لو انتصر جنود الجهل نصراً ساحقاً، فيجب على الإنسان الالتفات كثيراً إلى نفسه في هذا الجهاد، فمن الممكن - لا سمح الله - أن تُسفر هزيمة الجنود الرحمانيّة في تلك المملكة وتركها خالية للغاصبين والمحتلّين من جنود الشيطان، عن الهلاك الدائم للإنسان بالصورة الّتي يستحيل معها تلافي الخسارة ولا تشمله شفاعة الشافعين، وينظر إليه أرحم الراحمين أيضاً بعين الغضب والسخط، نعوذ بالله من ذلك، بل ويصبح شفعاؤه خصماءَه، وويل لمن كان شفيعه خصمه.
 
ويعلم الله أيّ عذاب وظلمات وشدائد وتعاسات تلي هذا الغضب الإلهيّ، وتعقب معاداة أولياء الله حيث تكون كلّ نيران جهنّم وكلّ الزقُّوم والأفاعي والعقارب لا شي‏ء أمام هزيمة جنود الرحمان من قِبَلِ جنود الشيطان الّتي تترتّب عليها
56

40

الدرس الرابع:برنامج التزكية

 عقوبات تفوق جميع نيران جهنّم والزقّوم والأفاعي. والعياذ بالله من أن يصبّ على رؤوسنا، نحن الضعفاء والمساكين، ذلك العذاب الّذي يُخبر عنه الحكماء والعرفاء وأهل الرياضة والسلوك، فإنّ جميع أشكال العذاب الّتي تتصوّرونها، يسيرة وسهلة في مقابله، وجميع النيران الّتي سمعتموها، جنّة ورحمة في قباله وبالنسبة إلى ذلك العذاب.

خلاصة الدرس
- إنّ هناك طرفين للمعركة الّتي تحدث داخل النفس الإنسانيّة؛ الطرف الأوّل هو قوى النفس: الشهويّة والغضبيّة والوهميّة، الّتي تقوم بدور الطاغي الشرير الّذي لا يحبّ سوى أن يقوم بملذّاته غير عابى‏ء بما يخلّف وراءه من الخراب والدمار، والطرف الآخر هو العقل الّذي يمثّل الخير والمبادئ الصالحة، ولكلّ من هذين الطرفين جنود، فجنود الأهواء النفسيّة تسمّى جنود الجهل أو جنود الشيطان، والعقل تسمّى جنوده بجنود العقل أو الرحمن.
 
 - إنّ العقل هو الّذي يدرك الخير ويأمر به، وأمّا الّذي يتمادى في الشرّ ويخترع الحيل وأساليب المكر فإنّه ليس من العقل، بل من الشيطان، أي من القوّة الواهمة الّتي توجد في نفس الإنسان حينما يسخّرها لأجل تنفيذ أهوائه وشهواته، وتسمّى حينئذ بالشيطنة.
 
 - لو انتصر جنود الجهل في المعركة على جنود العقل قد يكون تدارك الهزيمة ممكناً في أوّل الأمر، إلّا أنّ الأمر يختلف فيما لو سحق جنودُ الجهل جنودَ العقل، فيجب على الإنسان الالتفات كثيراً إلى نفسه في هذا الجهاد، فمن الممكن - لا سمح الله - أن تُسفر هزيمة الجنود الرحمانيّة في تلك المملكة وتركها خالية للغاصبين والمحتلّين من جنود الشيطان، عن الهلاك الدائم للإنسان بالصورة الّتي يستحيل معها تلافي الخسارة.
57

41

الدرس الرابع:برنامج التزكية

 اسئلة

1- ما هو العقل؟
 2- ما هو الجهل؟
 3- كيف يتصارع جنود العقل والجهل؟
 4- كيف يمكن لجنود العقل أن تهزم جنود الجهل؟
5- قيِّم نتائج المعركة فيما لو انتصر أيّ من الفريقين
 
للمطالعة
حبُّ الله تعالى‏
 
 من مواعظ الإمام الخمينيّ قدس سره في كتاب "الأربعون حديثاً":
 اعلم أنّ ما تناله النفس من حظّ في هذه الدنيا، يترك أثراً في القلب، وهو من تأثير الملك والطبيعة، وهو السبب في تعلّقه بالدنيا. وكلّما ازداد التلذّذ بالدنيا، اشتدّ تأثّر القلب وتعلّقه بها وحبّه لها، إلى أن يتّجه القلب كُلّياً نحو الدنيا وزخارفها، وهذا يبعث على الكثير من المفاسد. إنّ جميع خطايا الإنسان وابتلاءه بالمعاصي والسيّئات سببها هذا الحبّ للدنيا والتعلّق بها، كما ورد في الحديث الّذي أوردناه من كتاب أصول الكافي قبل قليل.
 
 وإنّ من المفاسد الكبيرة لحبّ الدنيا - كما كان يقول شيخنا العارف روحي فداه - هو أنّه إذا انطبع حبّ الدنيا على صفحة قلب الإنسان، واشتدّ الأنس بها، انكشف له عند الموت أنّ الحقّ المتعال يفصل بينه وبين محبوبه، ويفرّق بينه وبين مطلوبه، فيغادر الدنيا ساخطاً مغتاظاً على وليّ نعمته. إنّ هذا القول القاصم للظهر يجب أن يوقظ الإنسان أيّما إيقاظ للحفاظ على قلبه. فالعياذ
 
58

42

الدرس الرابع:برنامج التزكية

 بالله من إنسان يسخط على وليّ نعمته، مالك الملوك الحقّ، إذ ليس أحد يعرف صورة هذا السخط والعداء، غير الله تعالى.

 
 ويقول أيضاً شيخنا المعظّم{ نقلاً عن أبيه المعظّم، إنّه كان في أواخر عمره خائفاً بسبب المحبّة الّتي كان يكنّها لأحد أولاده، ولكنّه بعد الانهماك بالريّاضات النفسيّة تخلّص من ذلك الخوف، وانتقل إلى دار السرور مسروراً، رضوان الله عليه.
 
 جاء في "الكافي" بإسناده عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "مَثَلُ الدُّنيا كَمَثَلِ ماء البحرِ كُلَّما شَرِبَ مِنْهُ العطشانُ ازدادَ عَطَشاً حَتَّى يقتله".
 
 إنّ حبّ الدنيا ينتهي بالإنسان إلى الهلاك الأبديّ، وهو أصل البلايا والسيّئات الباطنيّة والظاهريّة، وقد نقل عن رسول الله صلى الله عليه واله قوله: "إِنَّ الدِّرْهَمَ وَالدِّينَارَ أَهْلَكَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَهُمَا مُهْلِكَاكُمْ".
 
 وعلى فرض أنّ الإنسان لم يرتكب معاصي أخرى، على الرغم من أنّ هذا الفرض بعيد، أو من المستحيل عادة، فإنّ التعلّق بالدنيا نفسه معصية، بل إنّ مقياس طول بقاء الإنسان في عالم القبر والبرزخ هو أمثال هذه التعلّقات. فكلّما كان التعلّق بالدنيا أقلّ كان البرزخ وقبر الإنسان أكثر نوراً وأوسع، ومكثه فيه أقصر. لذلك فقد ورد في بعض الروايات أنّ عالم القبر لأولياء الله لا يزيد عن ثلاثة أيام، وإنّما كان هذا لأجل التعلّق الطبيعيّ والعلاقة الجِبِلّية لأولياء الله تجاه العالم.
 
 وإنّ من مفاسد حبّ الدنيا والتعلّق بها هو أنّه يجعل الإنسان يخاف الموت. وهذا الخوف الناشئ من حبّ الدنيا، والتعلّق القلبيّ بها المذموم جدّاً، غير الخوف من المرجع - مآل الإنسان بعد الموت - المعدود من صفات المؤمنين.
59

43

الدرس الرابع:برنامج التزكية

 إنّ أهمّ صعوبة في الموت هي الخوف من الموت. يقول المحقّق المدقّق الإسلاميّ البارع، السيّد العظيم الشأن، الداماد كرّم الله وجهه في كتابه "القبسات" الّذي يُعَدُّ من الكتب النادرة: "لاَ يُخيِفنّك الموتُ، فإنَّ مَرارَته في خوفه".

 
 
60

44

الدرس الخامس:اسس تهذيب النفس

 الدرس الخامس:أسس تهذيب النفس


أهداف الدرس
 • أن يتعرّف الطالب على البرنامج اليوميّ لتهذيب النفس.
 • أن يتبيّن أهميّة ترك المحاسبة والمراقبة للنفس وخطورتها.
 • أن يلتزم بمعاتبة نفسه ومعاقبتها عند المخالفة ضمن الموازين الشرعيّة.
 
 
61

45

الدرس الخامس:اسس تهذيب النفس

 تمهيد

 إنّ الإنسان ما دام حيّاً في هذه الدنيا تتوفّر لديه فرصة الارتقاء في مدارج الكمال، فإن كان مبتلى بعيوب فعليه أن يتخلّص منها ويُصلح نفسه، وإن كان موفّقاً بالتحلّي بصفات نفس جيّدة وأعمال جوارح حسنة، فعليه أن يسعى نحو الأحسن، فالإصلاح وتهذيب النفس لا يأتيان صدفة، وإنّما هما نتيجة سعي الإنسان ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾1، فما هو البرنامج الّذي يساعده على ذلك؟
 
 إنّ البرنامج قد وضعه لنا الله تبارك وتعالى وأرسله مع الأنبياء عليهم السلام وأنزله في كتابه العزيز: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾2 فالبرنامج متوفّر ومعروف، ولكنّ السؤال الحقيقيّ: كيف يُمكن أن نلزم أنفسنا بهذا البرنامج؟ يمكن ذلك من خلال محاسبة النفس ومساءلتها، كما في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من تعاهد نفسه بالمحاسبة أمن فيها المداهنة"3.
 
 وذلك باتِّباع الخطوات الآتية:
 أوّلاً: يشارط نفسه على ما تفعله وتتركه.
________________________________________
1- النجم:39.
2- الإنسان:3.
3- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج12، ص153.
 
63

46

الدرس الخامس:اسس تهذيب النفس

 ثانياً: يراقبها دائما وأبداً وفي جميع الحالات ليمنعها من أيّ انحراف محتمل.

ثالثاً: يحاسبها ليرى مدى التزامها بما اشترطه عليها.
رابعاً: يعاتبها لو تبيّن له عدم التزامها بما اشترطه عليها.
خامساً: له أن يعاقبها بعد إدانتها، فيمنعها من تحقيق شهواتها سيّما في موارد تقصيرها.
 
هذه الخطوات الخمس هي البرنامج اليوميّ الّذي يجب أن يلتزم به الإنسان.
هذا على نحو الإجمال وسنتحدّث عن هذه المراحل بشي‏ء من التفصيل.

المشارطة 
فالمشارطة هي أن يشارط الإنسان نفسه في أوّل يومه على أن لا يرتكب فيه أيّ عمل يخالف أوامر الله، ويتّخذ قراراً بذلك ويعزم عليه، وأمّا العزم فيكون عند كلّ شخص بحسبه، فمن كان تاركاً لبعض الواجبات فعليه أن يعزم على أن لا يترك واجباً، ومن كان فاعلا للمحرّمات - والعياذ بالله - فعليه أن يعزم على تركها، وأمّا من كان قد ترفّع عن هذين الأمرين بحيث كان يفعل الواجب ويترك المحرّم فعليه أن يعزم على الثبات، وواضح أنّ ترك ما يُخالف أوامر الله تعالى ليوم واحد أمر يسير للغاية، ويمكن للإنسان بكلّ سهولة أن يلتزم به، وإن اختلفت درجات يسره من شخص لآخر إلّا أنّه في النهاية أمر يسير، فاعزم وشارط نفسك وجرّب، وانظر كيف أنّ الأمر سهل يسير، فإنّ الله تعالى إذا رأى من العبد سعياً للتقرّب إليه أخذ بيده ويسّر له أمره ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾4، ومن الممكن أن يصوّر لك إبليس اللعين وجنده أنّ الأمر صعب وعسير. فاعلم أنّ هذه هي من تلبيسات هذا اللعين، فالعنه قلباً وعملاً، وأخرج الأوهام الباطلة من
________________________________________
4- الليل:7.
64

47

الدرس الخامس:اسس تهذيب النفس

 قلبك، وجرّب ليوم واحد، فعند ذلك ستصدّق هذا الأمر.

 
 وينبغي الالتفات هنا أن لا يثقل الإنسان على نفسه، كما ورد في الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام: "إنّ الله عزَّ وجلَّ وضع الإيمان على سبعة أسهم؛ على البرّ والصدق واليقين والرضا والوفاء والعلم والحلم، ثمّ قسم ذلك بين الناس، فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كامل، محتمِل، وقسّم لبعض الناس السهم ولبعض السهمين ولبعض الثلاثة حتّى انتهوا إلى سبعة، ثمّ قال: لا تحملوا على صاحب السهم سهمين ولا على صاحب السهمين ثلاثة فتبهضوهم5..."6.
 
 المراقبة
 وبعد هذه المشارطة عليك أن تنتقل إلى "المراقبة"، وهي أن تنتبه طوال اليوم إلى عملك، وإذا حصل لا سمح الله حديث لنفسك بأن ترتكب عملاً مخالفاً لأمر الله - وهذا أمر ممكن الحصول؛ لأنّ الشيطان وجنده لن يدعوك تهزمهم بهذه السهولة، فهم يريدونك أن تتراجع عمّا اشترطته على نفسك - فالعنهم واستعذ بالله من شرّهم، وأخرج تلك الوساوس الباطلة من قلبك، وقل للشيطان: "إنّي اشترطت على نفسي أن لا أقوم في هذا اليوم، وهو يوم واحد، بأيّ عمل يخالف أمر الله تعالى، وهو وليّ نعمتي طول عمري، فقد أنعم وتلطّف عليَّ بالصحّة والسلامة والأمن وألطاف أخرى، ولو أنّي بقيت في خدمته إلى الأبد لما أدّيت حقِّ واحدة منها، وعليه فليس من اللائق أن لا أفي بشرط بسيط كهذا"، والمراقبة لا تتعارض مع أيّ من أعمالك كالكسب والسفر والدراسة، فكن على هذه الحال إلى الليل ريثما يحين وقت المحاسبة7.
________________________________________
5-تبهضوهم: أي تثقلوا عليهم وتوقعوهم في الشدّة.
6- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص42.
7- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني(قدس سره)، الحديث الأوّل بتلخيص وتصرّف.
65

48

الدرس الخامس:اسس تهذيب النفس

 المحاسبة

 وأمّا "المحاسبة" فهي أن تحاسب نفسك لترى: هل أدّيت ما اشترطت على نفسك مع الله، ولم تخن وليّ نعمتك في هذه المعاملة الصغيرة؟ وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا ووازنوها قبل أن توازَنوا، حاسبوا أنفسكم بأعمالها وطالبوها بأداء المفروض عليها والأخذ من فنائها لبقائها"8وعنه عليه السلام: "ما أحقّ الإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله شاغل، يحاسب فيها نفسه فينظر فيما اكتسب له وعليها، في ليلها ونهارها"9، وإذا كنت قد وفيت حقّاً فاشكر الله على هذا التوفيق، وإن شاء الله ييسّر لك سبحانه التقدّم في أمور دنياك وآخرتك، وسيكون عمل الغد أيسر عليك من سابقه؛ لأنّ النفس مطواعة لعقل الإنسان كالشمع في يديه لا كالحديد إذ من الصعب أن يُلوى، فعلى الإنسان أن يطوّع نفسه على الأمور الحسنة ولو كانت للشر أميل منها للخير، فالإنسان نفسه هو الّذي أوصلها إلى هذه الحالة، كما أنّ النفس في صغر العمر أسهل إصلاحاً من الكبر، ولذا اشتهر القول "العلم في الصغر كالنقش في الحجر"، فعلى الإنسان المهتمّ بإصلاح النفس أن يجهد في شبابه لاقتلاع الملكات الرديئة الّتي يصعب قلعها في الكبر، وهذا ما حثّت عليه الروايات، منها قول الرسول الأكرم صلى الله عليه واله لأبي ذرّ الغفاريّ رضوان الله تعالى عليه: "يا أبا ذرّ، اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك..."10.
 
 وعلى كلّ حال فإن كنت مهتمّاً بإصلاح نفسك، فواظب على هذا العمل فترة، والمأمول أن يتحوّل إلى مَلَكَة فيك بحيث يصبح يسيراً للغاية، وستشعر عندها باللذّة والأنس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه.
________________________________________
8- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج12، ص 153.
9- م. ن، ج12، ص 154.
10- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص114.
 
66

49

الدرس الخامس:اسس تهذيب النفس

 وإذا حدث - لا سمح الله - في أثناء المحاسبة تهاون وفتور تجاه ما اشترطت على نفسك، فاستغفر الله واطلب العفو منه، واعزم على الوفاء بكلّ شجاعة بالمشارطة غداً، وكن على هذا الحال كي يفتح الله تعالى أمامك أبواب التوفيق والسعادة، ويوصلك إلى الصراط المستقيم للإنسانيّة.


المعاتبة والمعاقبة
بعد أن يشترط الإنسان على نفسه ويراقبها ويحاسبها فإن تبيّن له أنّها ارتكبت ما يخالف الشرط الّذي اشترطه عليها، فلا بدّ له من أن يعاتبها ثمّ يعاقبها من أجل أن تتمّ صفقته ويجني ثمارها، وإلّا فإنّه يجد نفسه قد أهدر عمره وقد خسر رأس ماله في صفقة خاسرة لم يتدارك الخسارة فيها من أوّلها، وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "حقّ على كلّ مسلم يعرفنا أن يعرف عمله في كلّ يوم وليلة على نفسه، فيكون محاسب نفسه، فإن رأى حسنة استزاد منها وإن رأى سيّئة استغفر منها، لئلّا يُخزى يوم القيامة11يقول الفيض الكاشاني: والعجب أنّك تعاقب عبدك وأمتك وأهلك وولدك على ما يصدر عنهم من سوء خلق وتقصير في أمر، وتخاف أنّك لو تجاوزت عنهم خرج أمرهم من يدك وبغوا عليك، ثمّ تهمل نفسك وهي أعظم عداوة لك وضراوة، وأشدّ طغياناً عليك، وضررك من طغيانها أعظم من طغيان أهلك، فإنّ غرضهم أن يشوّشوا عليك معيشة الدنيا، ولو عقلت لعلمت أنّ العيش عيش الآخرة، وأنّ نعيم الجنّة هو النعيم المقيم الّذي لا آخر له، ونفسك هي الّتي تنغّص عليك عيش الآخرة فهي أولى بالمعاقبة من غيرها12.
 
العقوبة على قدر المخالفة
كان علماؤنا العظام، قدّس الله تعالى أسرارهم، يشارطون ويعاهدون الله
________________________________________
11- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج12، ص 153.
12- المحجّة البيضاء، الفيض الكاشاني، ج8، ص 169.
67

50

الدرس الخامس:اسس تهذيب النفس

 تعالى على فعل ما أو ترك أمر ما وينذرون الصيام لأوقات محدّدة لو خالفوا ما شرطوه على أنفسهم، وبذلك يكون مثل هذا النذر مانعاً لهم عن مخالفة الشرط لأنّ ثقل العقاب يشكّل رادعاً عن ارتكاب الجريمة.

 
 ومن المناسب أن يلتفت الإنسان إلى أنّ العقوبة يحسن أن تكون من صنف الخيانة الّتي قام بها الإنسان لشرطه، فلو كانت الخيانة مرتبطة بالطعام والشراب فليكن العقاب بالمنع عنهما كالصوم، ولو كانت من صنف شهوة النساء فيكون العقاب للنفس بمنعها عن هذه الشهوة لمدّة يحصل بها الغرض من العقاب، ولو كانت بسبب كثرة الكلام، فليعاقب نفسه بالصمت لفترة، وهكذا.
 
 العقاب ضمن الموازين الشرعيّة
 إنّ إيجابيّة أن يعاقب الإنسان نفسه لا تعني أن يعاقبها بأيّ عقاب، كما قد يفعل بعض الناس كأن يعذّبوا أنفسهم بشكل مؤذٍ وخطير، وإنّ الإنسان المؤمن بالله واليوم الآخر عليه أن يلتفت إلى حدود الشريعة في هذا المورد كما في سائر الموارد وكما هو معروف "لا يطاع الله من حيث يُعصى"، ولعلّ الصوم من أفضل الأمور الّتي يُستعان بها على النفس لقوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾13والمقصود من الصبر الصيام، كما تؤكّد الرواية عن الإمام الصادق14.
________________________________________
13- البقرة: 45.
14- الكافي، الكليني، ج4، ص63.
68

51

الدرس الخامس:اسس تهذيب النفس

 خلاصة الدرس

- على الإنسان المكلّف أن يحاسب نفسه في كلّ يوم، فيبدأ بالمشارطة فيشارط نفسه في أوّل يومه على أن لا يرتكب فيه أيّ عمل يخالف أوامر الله، ويتّخذ قراراً بذلك ويعزم عليه.
 
 - إذا حصل - لا سمح الله - حديث للنفس بأن ترتكب عملاً مخالفاً لأمر الله، فاعلم بأنّه وسوسة الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء، فخالفهما واستعذ بالله من شرّهما.
 
 - حاسب نفسك آخر اليوم لترى: هل أدّيت ما اشترطت على نفسك مع الله، ولم تخن وليّ نعمتك في هذه المعاملة الصغيرة؟ فإذا كنت قد وفيت حقّاً فاشكر الله على هذا التوفيق، وإن شاء الله ييسّر لك - سبحانه - التقدّم في أمور دنياك وآخرتك، وسيكون عمل الغد أيسر عليك من سابقه.
 
 - بعد أن يشترط الإنسان على نفسه ويراقبها ويحاسبها فإن تبيّن له أنّها ارتكبت ما يخالف الشرط الّذي اشترطه عليها، فلا بدّ من أن يعاتبها ثمّ يعاقبها من أجل أن تتمّ صفقته ويجني ثمارها، وإلّا فإنّه سيجد نفسه قد أهدر عمره وقد خسر رأس ماله في صفقة خاسرة، لم يتدارك الخسارة فيها من أوّلها.
 
 - إنّ إيجابيّة أن يعاقب الإنسان نفسه لا تعني أن يعاقبها بأيّ عقاب، كأن يعذّب نفسه بشكل مؤذ وخطير، فإنّ الإنسان المؤمن بالله واليوم الآخر عليه أن يلتفت إلى حدود الشريعة في هذا المورد، وكما هو معروف "لا يطاع الله من حيث يُعصى".
 
69

52

الدرس الخامس:اسس تهذيب النفس

 اسئلة

1. ما معنى المراقبة؟ وما هي أهمّيتها وكيفيّتها؟
 2. لماذا لا بدّ من المشارطة؟ وما هي كيفيّتها؟
 3. كيف تكون المحاسبة؟
 4. تحدّث عن المعاتبة والمعاقبة.
 5. هل هناك من ميزان شرعيّ للمعاقبة؟

للمطالعة
من عبادة الإمام السجّاد زين العابدين عليه السلام 15
 
 قال طاووس الفقيه: رأَيت الإمام زين العبدين عليه السلام يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبّد، فلمّا لم ير أحداً رمق السماء بطرفه، وقال: إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتّحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدِّي محمّد صلى الله عليه واله في عرصات القيامة، ثمَّ بكى وقال: وعزَّتك وجلالك، ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكٌّ، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض، ولكن سوّلت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخى به عليّ، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عنّي؟
 
 فوا سوأتاه غداً من الوقوف بين يديك، إذا قيل للمخفّين جُوزوا، وللمثقلين حطّوا، أمع المخفّين أجوز؟ أم مع المثقلين أحطّ؟ ويلي! كلّما طال عمري كثرت
________________________________________
15- الصحيفة السجّادية  أبطحي ، ص176.
 
70

53

الدرس الخامس:اسس تهذيب النفس

 خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن أستحي من ربّي؟! ثمّ بكى وأنشأ يقول:

 
 أتحرقني بالنار يا غاية المنى      فأين رجائي ثمّ أين محبّتي؟‏
 أتيت بأعمال قباح رديّة           وما في الورى خلقٌ جنى كجنايتي‏
 
 ثمَّ بكى وقال: سبحانك تُعصى كأنّك لا تُرى وتحلم كأنّك لم تُعص تتودّد إلى خلقك بحسن الصنيع كأنّ بك الحاجة إليهم، وأنت يا سيّدي الغنيُّ‏ عنهم. ثمَّ‏ خرَّ إلى الأَرض ساجداً. قال: فدنوت منه ورفعت رأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتّى جرت دموعي على خدِّه، فاستوى جالساً وقال: من الّذي شغلني عن ذكر ربّي؟ فقلت: أنا طاوس يا بن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون، أبوك الحسين بن عليّ وأُمّك فاطمة الزهراء، وجدُّك رسول الله صلى الله عليه واله ؟! قال: فالتفت إليَّ وقال: هيهات هيهات يا طاووس، دع عنّي حديث أبي وأُمّي وجدِّي، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن، ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً، أما سمعت قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ﴾16والله لا ينفعك غداً إلاّ تقدمة تقدِّمها من عمل صالح.
________________________________________
16- المؤمنون:101.
71

54

الدرس السادس:الزهد والرغبة

 الدرس السادس:الزهد والرغبة

أهداف الدرس
 • أن يتعرّف الطالب إلى معنى الزهد وفضله.
 • أن يتبيّن كيفيّة اكتساب الزهد.
 • أن يتبيّن بعضاً من آثار الرغبة في الدنيا.
 
73

55

الدرس السادس:الزهد والرغبة

 فضل الزهد

حثّت الروايات الكثيرة على الزهد وذكرت فضله عند الله تعالى وما له من الأثر في الدنيا والآخرة، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "جُعل الخير كلّه في بيت وجُعل مفتاحه الزهد في الدنيا"، ثمّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله: "لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتّى لا يبالي من أكل الدنيا" ثمّ قال عليه السلام: "حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتّى تزهد في الدنيا"1.
 
وفي رواية أخرى عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا"2.

ما هو الزهد؟
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الزهد بين كلمتين من القرآن، قال الله تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾3ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد استكمل الزهد بطرفيه"4. وهذه الرواية تشرح أمرين:
________________________________________
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص128.
2- م. ن.
3- الحديد:23.
 
75

56

الدرس السادس:الزهد والرغبة

 أوّلاً: ليس الزهد أن لا تحصل على شي‏ء أو أن ترفض نِعَم الدنيا وتبتعد عنها وتعيش حياة الفقراء والمساكين، فالآية الكريمة تقول: ﴿وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾5فالله تعالى ينعم على الإنسان المؤمن وسيستفيد هذا المؤمن من النعمة "آتاكم" ولم يطلب الله تعالى من الزاهد أن يرفض النعم، وهذا واضح من شرح أمير المؤمنين عليه السلام فهو عليه السلام يؤكّد أنّ النعم سيحصل عليها الزاهد أيضاً "لم يفرح بالآتي". وهذا ما تشير له العديد من الروايات عن أهل البيت عليهم السلام، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال ولا تحريم الحلال، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله عزَّ وجلَّ"6.

 
ثانياً: الزهد هو صفة راسخة في نفس الإنسان تكون نتيجتها أمرين: لا يفرح بالدنيا المقبلة ولا يحزن على الدنيا المدبّرة. ليصل إلى مرحلة لو أصاب فيها حظّاً وافراً لم يفرح فرح المنتصرين، ولو أصيب بمصيبة لم يجزع جزع الحريصين. فالزاهد هو الّذي يستفيد من الدنيا دون أن يكون أسيراً لها.
 
كيف يُكتسب الزهد؟
يحصل الزهد في قلب الإنسان من خلال أمور، منها:
 
1- ذكر الموت‏
فإنّ ذكر الموت، الّذي هو عبارة عن تسخيف كلّ ما هو من متاع الدنيا؛ لأنّ ما بها من نعم كالمال فإنّه إمّا زائل أو منتقل للورثة، والأزواج إمّا أن تموت قبلنا أو نموت قبلها فتتزوّج من غيرنا لتستمّر الحياة، وهكذا كلّ متاع الدنيا فهو متروك من الإنسان عند الموت، والموت -كما سمّاه أمير المؤمنين عليه السلام هادم اللذّات 
________________________________________
4- وسائل الشيعة  آل البيت ، الحر العاملي، ج16، ص19.
5-الحديد:23.
6- الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص70.
76

57

الدرس السادس:الزهد والرغبة

 -من الأمور الّتي تجعل الدنيا حقيرة في نفس الإنسان، وبالتالي يخرج حبّها من القلب عند تذكّره باستمرار، وفي الروايات الشريفة ما يدلّ على هذا المعنى، فقد قال أبو عبيدة للإمام الباقر عليه السلام: حدّثني بما أنتفع به فقال: "يا أبا عبيدة أكثر ذكر الموت، فإنّه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلّا زهد في الدنيا"7.

 
 2- التفكّر
 فالتفكّر في حال الدنيا والآخرة، وما فيهما من الباقي والفاني، وإجراء بعض الحسابات النفسيّة لما يدّعيه الإنسان من محبّة الله تعالى، يجعلانه يصل إلى النتيجة المطلوبة وهي الزهد، ففي الراوية عن جابر قال: دخلت على الإمام الباقر عليه السلام فقال: "يا جابر والله إنّي لمحزون، وإنّي لمشغول القلب، قلت: جعلت فداك وما شغلك؟ وما حزن قلبك؟ فقال: يا جابر إنّه من دخل قلبه صافي خالص دين الله شُغل قلبه عمّا سواه، يا جابر ما الدنيا وما عسى أن تكون الدنيا هل هي إلا طعام أكلته أو ثوب لبسته أو امرأة أصبتها؟!. يا جابر إنّ المؤمنين لم يطمئنّوا إلى الدنيا، ببقائهم فيها ولم يأمنوا قدومهم الآخرة، يا جابر الآخرة دار قرار، والدنيا دار فناء وزوال ولكنّ أهل الدنيا أهل غفلة، وكأنّ المؤمنين هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة، لم يصمّهم عن ذكر الله جلّ اسمه ما سمعوا بآذانهم، ولم يعمهم عن ذكر الله ما رأوا من الزينة بأعينهم ففازوا بثواب الآخرة، كما فازوا بذلك العلم. 
 
 واعلم يا جابر أنّ أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة وأكثرهم لك معونة، تذكر فيعينونك وإن نسيت ذكروك، قوّالون بأمر الله قوّامون على أمر الله، قطعوا محبّتهم بمحبّة ربّهم ووحشوا الدنيا لطاعة مليكهم ونظروا إلى الله عزَّ وجلَّ وإلى محبّته بقلوبهم وعلموا أنّ ذلك هو المنظور إليه، لعظيم شأنه، فأنزل الدنيا كمنزلٍ نزلتَه ثمّ ارتحلت عنه، أو كمال وجدته في منامك
________________________________________
7- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص131.
77

58

الدرس السادس:الزهد والرغبة

 فاستيقظت وليس معك منه شي‏ء، إنّي  إنّما  ضربت لك هذا مثلاً، لأنّها عند أهل اللبّ والعلم بالله كفي‏ء الظلال، يا جابر، فاحفظ ما استرعاك الله عزَّ وجلَّ‏ من دينه وحكمته ولا تسألنّ عمّا لك عنده إلّا ما له عند نفسك..."8.


الحرص والرغبة في الدنيا
في مقابل الزهد هناك الرغبة في الدنيا الّتي تحدّثت عنها الروايات الكثيرة، وقد عدّت حبّها رأس كلّ خطيئة، ووصفتها روايات أخرى بالأفعى، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّ في كتاب الإمام عليّ عليه السلام: "إنّما مثل الدنيا كمثل الحيّة ما ألين مسّها، وفي جوفها السمّ الناقع، يحذرها الرجل العاقل، ويهوى إليها الصبيّ الجاهل"9.
 
ولحبّ الدنيا والحرص عليها والرغبة بها آثار كثيرة، منها:
1- الكآبة:
فالإنسان الحريص على الدنيا تراه كئيباً مشغولاً فكره من الصباح إلى المساء بها بحيث لا يجد لنفسه ساعة من الراحة إلّا حين ينام بعد القلق الّذي يتعبه في اليقظة، وتراه إذا فقد منها أمراً أو أصيب بضائقة، سيّئ الطباع تعيس الحال، فمثله كما عبرت عنه الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز، كلّما ازدادت على نفسها لفّاً كان أبعد لها من الخروج حتّى تموت غمّاً"10.
 
2- البعد عن الآخرة:
فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه واله: "إنّ في طلب الدنيا إضراراً بالآخرة، وفي
________________________________________
8- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص132.
9- وسائل الشيعة  آل البيت ، الحر العاملي، ج16، ص17.
10- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص134.
78

 


59

الدرس السادس:الزهد والرغبة

 طلب الآخرة إضراراً بالدنيا، فأضرّوا بالدنيا فإنّها أولى بالإضرار"11.

 والطلب بمعنى جعلها الهدف الأساس لحركة الإنسان، فيجب أن يكون للإنسان هدفٌ أساسٌ واحدٌ يسعى إليه، تكون له الأولويّة عند تعارضه مع غيره.
 
 ومثاله ما لو وقع الإنسان العاطل عن العمل بين خيارين؛ بين أن يعصي الله تعالى من خلال كسبٍ فيه شبهات أو محرّم واضح، وبين الانتظار إلى أن يجد عملاً حلالاً ولا شبهة فيه، فإن كان هدفه الأساس هو الدنيا فسيعمل بهذا المكسب المحرّم ويكون حبّ الدنيا قد استولى على قلبه، أمّا إن كان هدفه الآخرة فإنّه سيستبعد الأمر ويصبر حتّى يُهيّى‏ء الله تعالى له رزقاً حلالاً، وهذا هو الزاهد.
 
خلاصة الدرس
- الزاهد هو الذي يستفيد من الدنيا دون أن يكون أسيراً لها.
 - يحصل الزهد في قلب الإنسان من خلال أمور منها: ذكر الموت، التفكّر في فناء العالم.
 - من آثار الحرص على الدنيا: الكآبة، البعد عن الاخرة.
________________________________________
11- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص131.
 
79 
 

60

الدرس السادس:الزهد والرغبة

 اسئلة

1- ما المقصود من الزهد؟
 2- ما المقصود من الرغبة؟
 3- كيف يحصل الزهد في قلب الإنسان؟
 4- لماذا يتسبّب عدم الزهد بالبعد عن الآخرة؟
 5- ما هي آثار الحرص على الدنيا؟

 للمطالعة
صحّة الروح‏
 
 من مواعظ الإمام الخمينيقدس سره في كتاب "الأربعون حديثاً":
 اعلم أيّها العزيز أنّه مثلما يكون لهذا الجسد صحّة ومرض، وعلاج ومعالج، فإنّ للنفس الإنسانيّة أيضاً صحّة ومرضاً، وسقماً وسلامة، وعلاجاً ومعالجاً. إنّ صحّة النفس وسلامتها هي الاعتدال في طريق الإنسانيّة، ومرضها وسقمها هو الاعوجاج والانحراف عن طريق الإنسانيّة، وإنّ الأمراض النفسيّة أشدّ فتكاً آلاف المرّات من الأمراض الجسميّة؛ وذلك لأنّ هذه الأمراض إنّما تصل إلى غايتها بحلول الموت. فما إن يحلّ الموت، وتفارق الروح البدن، حتّى تزول جميع الأمراض الجسميّة والاختلافات الماديّة، ولا يبقى أثر للآلام أو الأسقام في الجسد. ولكنّه إذا كان ذا أمراض روحيّة وأسقام نفسيّة - لا سمح الله - فإنّه ما إن تفارق الروح البدن، وتتوجّه إلى ملكوتها الخاصّ، حتّى تظهر آلامها وأسقامها.
 
 إنّ مَثَل التوجّه إلى الدنيا والتعلّق بها، كمثل المخدّر الّذي يسلب الإنسان شعوره
 
80

61

الدرس السادس:الزهد والرغبة

 بنفسه. فعندما يزول ارتباط الروح بدنيا البدن، يرجع إليها الشعور بذاتها، ومن ثَمّ الإحساس بالآلام والأسقام الّتي كانت في باطنها، فتظهر مهاجمة لها بعد أن كانت مختفية كالنار تحت الرماد. وتلك الآلام والأسقام إمّا أن تكون ملازمة لها  للروح  ولا تزول عنها أبداً، وإمّا أن تكون قابلة للزوال. وفي هذه الحال يقتضيها أن تبقى آلاف السنين تحت الضغط والعناء والنار والاحتراق قبل أن تزول، إذ إنّ آخر الدواء الكيّ. قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾12.

 
 إنّ الأنبياء هم بمنزلة الأطبّاء المشفقين، الّذين جاءوا بكلّ لطف ومحبّة لمعالجة المرضى، بأنواع العلاج المناسب لحالهم، وقاموا بهدايتهم إلى طريق الرشاد "إنّنا أطبّاء وتلاميذ الحقّ" وإنّ الأعمال الروحيّة القلبيّة والظاهريّة والبدنيّة هي بمثابة الدواء للمرض كما أنّ التقوى، في كلّ مرتبة من مراتبها، بمثابة الوقاية من الأمور المضرّة للأمراض ومن دون الحميّة لا يمكن أن ينفع العلاج، ولا أن يتبدّل المرض إلى صحّة.
 
 قد يغلب الدواء والطبيعة على المرض في الأمراض الجسميّة حتّى مع عدم الحمية جزئيّاً. وذلك لأنّ الطبيعة هي نفسها حافظة للصحّة ودواء لها. ولكنّ الأمر في الأمراض النفسيّة صعب؛ وذلك لأنّ الطبيعة قد تغلّبت على النفس منذ البداية، فتوجّهت هذه نحو الفساد والانتكاس: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾، وعليه، فإنّ من يتهاون في الحمية تصرعه الأمراض، وتجد مناطق للنفوذ إليه، حتّى تقضي على صحّته قضاء مبرماً.
 
 إذاً، فالإنسان الراغب في صحّة النفس، والمترفّق بحاله إذا تنبّه إلى أنّ وسيلة الخلاص من العذاب تنحصر في أمرين:
________________________________________
12- التوبة:35.
 
81

62

الدرس السادس:الزهد والرغبة

 الأوّل: الإتيان بما يصلح النفس ويجعلها سليمة.

 والآخر: هو الامتناع عن كلّ ما يضرّها ويؤلمها.
 
 ومن المعلوم أنّ ضرّر المحرّمات أكثر تأثيراً في النفس من أيّ شي‏ءٍ آخر، ولهذا كانت محرّمة، كما أنّ الواجبات لها أكبر الأثر في مصلحة الأمور، ولهذا كانت واجبة وأفضل من أيّ شي‏ء، ومقدّمة على كلّ هدف، وممهّدة للتطوّر إلى ما هو أحسن.
 
82

63

الدرس السابع:آثار الذنوب الدنيويّة

 الدرس السابع:آثار الذنوب الدنيويّة

 
أهداف الدرس
 • أن يتعرّف الطالب إلى معنى الذنب.
 • أن يتبيّن آثار الذنوب الدنيويّة.
 
 
83

64

الدرس السابع:آثار الذنوب الدنيويّة

 تمهيد

1- الذنب لغة: الإثم والجرم والمعصية.
2- اصطلاحاً: ترك المأمور به من الله، وفعل المنهيّ عنه، وبعبارة أخرى أن يراك الله حيث نهاك، وأن يفتقدك حيث أمرك.
والمأمور به من قبل الله عزّ وجلّ إمّا أن يكون واجباً أو مستحبّاً، والمنهيّ عنه من قبله أيضاً إمّا أن يكون محرّماً أو مكروهاً، والمراد منهما في مقام الذنب، هو ترك الواجب وفعل المحرّم، وهذا في حدّه الأدنى مرتبة العوامّ، وأمّا الذنب الذي يُنسب إلى الأنبياء عليهم السلام والأولياء سواء في القرآن الكريم أو الروايات الشريفة أو الأدعية، فهو مرتبة أخرى أحدُ تفاسيرها ترك الأولى، لأنّهم يعتبرون أيّ التفاتٍ عن معبودهم وساحة قدسه ذنباً يستغفرون الله منه.
 
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ المعصومين مخلصون من قبل الله عزّ وجلّ، وقد حصّنهم بملكة نفسانيّة قويّة تمنعهم باختيارهم من ارتكاب المعصية، بل والتفكير بها أيضاً لعلمهم بقبحها ومدى خطورتها وتأثيرها.
 
ورغم ابتلاء الإنسان بالشيطان الّذي أقسم ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ 

85

65

الدرس السابع:آثار الذنوب الدنيويّة

 أَجْمَعِين﴾1، إلّا أنّ الحقّ تعالى أجابه بأن لا سبيل لك على من تقرّب إليّ، واعتصم بي، ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾2، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾3.

 
آثار الذنوب
إنّ من يلاحظ القرآن الكريم والروايات الشريفة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام يجد بوضوح آثاراً مهلكةً وخطيرةً للذنوب والمعاصي، في العوالم الثلاثة:عالم الدنيا، وعالم البرزخ، وعالم الآخرة.
 
وقبل الإشارة إلى بعضها لا بدّ من التذكير بأنّ الذنب بمثابة السمّ القاتل أو دون ذلك، والخطير في هذا المجال هو عدم ارتباط التأثير والهلاك بمسألة العلم والجهل، ولذا فإنّ من يرتكب الذنب يترتّب عليه الأثر الوضعيّ والتكوينيّ، ويؤثّر ذلك في قلبه وجسمه وماله وولده وغير ذلك، حتّى لو كان جاهلاً بأثر الذنب، تماماً كمن يجهل بأثر السمّ، وهذا ما يدعونا للابتعاد عن المعصية والحذر من آثارها.

أ - الآثار الدنيويـّة
إنّ عالم الدنيا هو عالم الابتلاء والتكليف لعباد الله، الّذي يعدّ أحد أهداف خلق الإنسان ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾4، ولا يخلو حال الإنسان غير المعصوم عن الطاعة والمعصية، وقد وعدنا الله وتوعّدنا، بأنّ لكلٍّ منهما آثاره الخاصّة في الدنيا، فللطاعة آثارها وبركاتها العظيمة، الّتي تبعث الأمل في نفوس المؤمنين، وترغّبهم في العمل الصالح والإكثار منه. وفي 
________________________________________
1- ص: 82.
2- النحل: 128.
3- الحج: 38.
4- الملك: 2.
86

66

الدرس السابع:آثار الذنوب الدنيويّة

مقابل ذلك فإنّ للمعصية والذنوب آثارها المهلكة أيضاً في الدنيا، لعلّ المطّلع عليها يحذر منها ويخاف من تبعاتها، فيحجم عنها ولا يقدم عليها.
 
وقد أحصى علماء الأخلاق أكثر من ستّين أثراً مهلكاً وخطيراً للذنوب في الدنيا، من جملتها:
1- غضب الله:
وهذا من الآثار المهلكة في الدنيا والآخرة كما سيأتي، والغضب هنا بمعنى عقاب الله وعذابه، كما ورد في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام عندما سأله عمرو بن عبيد عن قوله تعالى: ﴿وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾5 "ما ذلك الغضب؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: هو العقاب"6.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "مجاهرة الله بالمعاصي تعجّل النقم"7.
 
2- الدخول في ولاية الطاغوت:
فإنّ عصيان الله وإطاعة الشيطان توجب دخول العبد العاصي في ولايته وخروجه من ولاية الله، وقد يودي به إلى خروجه من الإيمان وإلى الكفر بالله عزّ وجلّ. ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾8.
 
3- قسوة القلب:
والمراد بالقلب ذلك الجوهر الّذي تتقوّم به إنسانيّة الإنسان، وقد أودعه الله فينا مفطوراً على التوحيد والعبوديّة والطاعة، طاهراً أبيضَ سليماً رقيقاً شفّافاً ليس فيه أيّ نقصٍ وفسادٍ، لكن بارتكاب المعاصي والذنوب والابتعاد عن الله
________________________________________
5-طه: 81.
6- الكافي، ج1، ص110.
7- غرر الحكم، ص100.
8- الحجر: 42.
87

67

الدرس السابع:آثار الذنوب الدنيويّة

 يقسو شيئاً فشيئاً، حتّى يصبح أشدّ قسوة من الحجارة: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾9.

 
ويتحوّل إلى قلب أسود لا يفلح بعدها أبداً، ففي الخبر عن الإمام الباقر عليه السلام قال: ما من عبدٍ إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادَ في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطّي البياض، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خيرٍ أبداً، وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون﴾10، "وما من شيء أفسد للقلب من الخطيئة"11.و"ما قست القلوب إلّا لكثرة الذنوب"12كما ورد في الأخبار عن المعصومين عليهم السلام.
 
4- حرمان الرزق:
قد يكون الرزق معنويّاً كالتسديد والحفظ والتأييد والشهادة في سبيل الله. وقد يكون ماديّاً -كما هو المتبادر عند عامّة الناس -كالمال والطعام وغير ذلك.
 
يقول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾13.
وفي الخبر: "إنّ الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه"14.
وورد أيضاً: "إنّ العبد ليذنب الذنب فيزوي عنه الرزق"15.
________________________________________
9- البقرة: 74.
10- الكافي، الكليني، ج2، ص273.
11- الأمالي للطوسي، ص438.
12- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج16، ص45.
13- العنكبوت: 17.
14- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج5، ص178.
15- الكافي، ج2، ص270.
 
88

68

الدرس السابع:آثار الذنوب الدنيويّة

 والظاهر أنّه حرمان الزيادة في الرزق؛ لأنّ بعض الرزق مضمونٌ من قبل الله لكلّ مخلوق حيّ حتّى الفسّاق والكفرة والعصاة، ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا﴾16، لا حرمان أصل الرزق لهؤلاء لأنّه يعني قطع أصل الحياة وقبض أرواحهم.

وقد يكون الحرمان في رفع البركة من أرزاقهم وأموالهم وطعامهم، كما ورد في رواية الزهراء عليها السلام: "ويرفع الله البركة من رزقه"17.
 
5- نقصان العمر:
إنّ رأسمال الحياة الدنيا عند أهلها هو العمر الطويل والرزق الوفير، ولذا نرى أنّ غايتهم في هذا الزمان هي المحافظة على أبدانهم وصحّتهم ومأكلهم ومشربهم، ظنّاً في إطالة أعمارهم. أليست الأعمار والأرزاق بيد الله عزّ وجلّ؟! وقد دلّنا - سبحانه - على ما يوجب زيادة العمر والرزق ونقصانهما وعدم البركة فيهما، نحو برّ الوالدين وعقوقهما، وصلة الرحم وقطيعتها....
 
ففي الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام: "مَن يموت بالذنوب أكثر ممّن يموت بالآجال"18.
ويخبرنا الله عزّ وجلّ في القرآن الكريم عن هلاك الأمم السابقة، الذين ظلموا أنفسهم وعصوا الله، وطغوا في الأرض وقتلوا أنبياء الله: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾19.
________________________________________
16- هود: 6.
17- بحار الأنوار، المجلسي، ج80، ص22.
18- م. ن، ج5، ص140.
19- يونس: 13.
89

 


69

الدرس السابع:آثار الذنوب الدنيويّة

 6- زوال النِّعَم وحلول النِّقَم:

يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾20.
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "ما أنعم الله على عبد نعمةً فسلبه إيّاها حتّى يذنب ذنباً يستحقّ بذلك السلب"21.

7- المرض:
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "أما إنّه ليس من عرقٍ يضرب ولا نكبةٍ ولا صداعٍ ولا مرضٍ إلّا بذنبٍ، وذلك قول الله عزّ وجلّ في كتابه ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾22 ثمّ قال عليه السلام: وما يعفو الله أكثر ممّا يؤاخذ به"23.
 
8- نسيان العلم:
وهو آفّة كبرى تعيد الإنسان إلى الجهل والغفلة، بعد أن كان عالماً ذاكراً، وما ذلك إلّا لذنب ارتكبه، فقد روي عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه واله أنّه قال: "اتقوا الذنوب فإنّها ممحقة للخيرات، إنّ العبد ليذنب الذنب فينسى به العلم الذي كان قد علمه..."24.

9- عدم استجابة الدعاء:
الذنب من موانع استجابة الدعاء، فقد ورد في بعض الروايات أنّه لا يُسمع
________________________________________
20- الأعراف: 96.
21- الكافي، الكليني، ج2، ص274.
22- الشورى: 30.
23- الكافي، ج2، ص269.
24- بحار الأنوار، المجلسي، ج70، ص377.
90

70

الدرس السابع:آثار الذنوب الدنيويّة

 ولا تُستجاب الحاجة، فعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ العبد يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب، أو إلى وقت بطيء، فيذنب العبد ذنباً، فيقول الله تبارك وتعالى للملك لا تقضِ حاجته، واحرمه إيّاها؛ فإنّه تعرّض لسخطي واستوجب الحرمان منّي"25.


10- عدم التوفيق للعبادة:
قد يُحرَم المذنب من ثواب العبادة وبركاتها، سيّما تكفير السيّئات، وتضاف سيّئته إلى سجل أعماله، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ الرجل ليذنب الذنب فيُحرم صلاة الليل، وإنّ العمل السيّئ أسرع في صاحبه من السكّين في اللَّحم"26.

11- فوات الغرض:
وقد يجترئ البعضُ على الله فيسعى نحو المعصية ويهمّ بها، لكنّه لا يقدر على ذلك، ولا ينال مبتغاه، قيل إنّ رجلاً كتب إلى الإمام الحسين عليه السلام قائلاً له: "عِظني بحرفين، فكتب إليه: من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوتَ لما يرجو، وأسرع لمجيء ما يحذر"27.
________________________________________
25- الكافي، الكليني، ج2، ص271.
26- م. ن، ص272.
27- وسائل الشيعة، المجلسي، ج16، ص153.
91

71

الدرس السابع:آثار الذنوب الدنيويّة

 خلاصة الدرس

 
- المراد من الذنب: ترك الواجب وفعل الحرام.
 - إنّ لارتكاب الذنوب، آثاراً هي بمثابة السمّ القاتل، والحاجز المانع للوصول إلى الله تعالى.
 - إنّ عالم الدنيا هو عالم الابتلاء والتكليف لعباد الله، فالإنسان إمّا أن يكون مطيعاً لله، وهذا له آثاره وبركاته في بعث الأمل في نفوس المؤمنين، وإمّا يكون عاصياً لله، وهذا له أيضاً آثاره المهلكة، في الدنيا والآخرة.
 - من الآثار العامّة الّتي تترتّب على فعل الذنب، قسوة القلب، والدخول في ولاية الطاغوت، وحرمان الرزق ونقصان العمر وغيرها.
 
اسئلة
 
1. بيّن معنى الذنب اللغويّ والاصطلاحيّ.
 2. عدِّد خمسة من الآثار الدنيويّة للذنوب وتحدّث عن واحدٍ منها.
92

72

الدرس السابع:آثار الذنوب الدنيويّة

 للمطالعة


سبع خصال للشهيد 
 
 قال رسول الله صلى الله عليه واله: "للشهيد سبع خصال من الله:
 أوّل قطرة من دمه مغفورٌ له كلّ ذنب.
 والثانية: يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين، وتمسحان الغبار عن وجهه وتقولان مرحباً بك، ويقول هو مثل ذلك لهما.
 والثالثة: يُكسى من كسوة الجنّة.
 والرابعة: يبتدره خزنة الجنّة بكلّ ريحٍ طيّبة، أيّهم يأخذه معه.
 والخامسة: أن يرى منزلته.
 والسادسة: يُقال لروحه: اسرح في الجنّة حيث شئت.
 والسابعة: أن ينظر في وجه الله، وإنّها لراحة لكلّ نبيّ وشهيد"28.
________________________________________
28- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج15، ص16.
93

73

الدرس الثامن:آثار الذنوب البرزخيّة والأخرويّة

 الدرس الثامن:آثار الذنوب البرزخيّة والأخرويّة


أهداف الدرس
 • أن يتبيّن الطالب آثار الذنوب البرزخيّة.
 • أن يتبيّن آثار الذنوب الأخرويّة.
 
95

74

الدرس الثامن:آثار الذنوب البرزخيّة والأخرويّة

 ب - الآثار البرزخيـّة

﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾1.
تقدّم، في الدرس السابق، ذكر أحد عشر أثراً دنيويّاً للذنوب، وفي هذا الدرس نتعرّض للآثار البرزخيّة والأخرويّة لها.
 
ما هو البرزخ؟
البرزخ هو الحاجز والحدّ الفاصل بين الشيئين، قال تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ *بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾2 فقد فُسّرت هذه الآية بأنّه الحاجز بين الماء المالح والماء العذب.
 
وقيل إنّ البرزخ هو الحدّ الفاصل بين الدنيا والآخرة، أو بين الموت والبعث، قال تعالى: ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾3، وفي تفسير هذه الآية قال الإمام السجّاد عليه السلام: "هو القبر، وإنّ لهم فيه لمعيشة ضنكاً، والله إنّ القبر لروضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حفر النار..."4.
________________________________________
1- يس: 12.
2- الرحمن: 19 -20.
3- المؤمنون: 100.
4- بحار الأنوار، المجلسي، ج6، ص159.
97

75

الدرس الثامن:آثار الذنوب البرزخيّة والأخرويّة

 وقيل إنّه الحاجز لهم من الرجوع إلى الدنيا والإمهال إلى يوم القيامة، وكلّ هذه المعاني متقاربة ترجع إلى معنى واحد ظاهراً.


وقد تحدّثت الروايات الواردة عن رسول الله صلى الله عليه واله والأئمّة الهداة عليهم السلام عن أحوال البرزخ وأهوال القبر وسوف نشير إلى أهمّها:
1- ضغطة القبر:
حيث لا ينجو منها إلّا القليل القليل من عباد الله المؤمنين الصالحين. يروي أبو بصير قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أيفلت من ضغطة القبر أحد؟ قال: فقال عليه السلام: نعوذ بالله منها، ما أقلّ ما يفلت من ضغطة القبر... وإنّ رسول الله صلى الله عليه واله خرج في جنازة سعد وقد شيّعه سبعون ألف ملك، فرفع رسول الله صلى الله عليه واله رأسه إلى السماء، ثمّ قال: مثل سعدٍ يضمّ!..."5.
 
وورد في وصف شدّتها أنّ الأرض تضمّ الميت ضمّة تفري اللحم، وتطحن الدماغ، وتذيب الدهون، وتخلط الأضلاع، غير أنّ الشدّة والضعف فيها يدورانِ مدار قوّة الإيمان وضعفه أو عدمه عند الميت.
 
روي عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال، قال رسول الله صلى الله عليه واله: "ضغطة القبر للمؤمن كفّارة لما كان منه من تضييع النعم"6.
ومن أهمّ أسباب هذه الضغطة سوء الخلق مع الأهل، كما ورد في الخبر المتقدّم عن سبب ضغطة سعد، والنميمة وكثرة الكلام والتهاون في الطهارة.وهذه الضغطة لا تنحصر بالأرض فقط، بل ورد أنّ الهواء له ضغطة، والماء له ضغطة أيضاً.
________________________________________
5- الكافي، الكليني، ج3، ص236.
6- بحار الأنوار، المجلسي، ج6، ص221.
98

76

الدرس الثامن:آثار الذنوب البرزخيّة والأخرويّة

 2- سوء العذاب في القبر:

قال الله تعالى:(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾7،ويروى في تفسيرها عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "وإنّ المعيشة الضنك الّتي حذّر الله منها عدوّه عذاب القبر..."8.
 
وهذا العذاب يختصّ بغير المؤمنين المقرّبين؛ لأنّ قبر المؤمن روضة من رياض الجنّة، وأمّا الكافر فهو الذي قبره حفرة من حفر النيران، ينال فيه سوء العذاب. روي عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ *فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾، قال في قبره، ﴿وَجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾، قال في الآخرة، ﴿وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ﴾، في القبر ﴿وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾، في الآخرة9.
 
3- قرين السوء:
وهو العمل السيّئ الّذي يرافق الإنسان العاصي في قبره، ويكون معه إلى يوم حشره وحسابه.
يروى عن قيس بن عاصم أنّه قدم على رسول الله صلى الله عليه واله فقال له صلى الله عليه واله: "... يا قيس، لا بدّ لك من قرين يدفن معك وهو حيّ، وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك وإن كان لئيماً أسلمك، ثمّ لا يحشر إلّا معك، ولا تحشر إلّا معه، ولا تسأل إلّا عنه، ولا تبعث إلّا معه، فلا تجعله إلّا صالحاً، فإنّه إن كان صالحاً لم تأنس إلّا به، وإن كان فاحشاً لم تستوحش إلّا منه، وهو عملك..."10.
________________________________________
7- طه: 124.
8- بحار الأنوار، المجلسي، ج6، ص218.
9- م. ن، ج6، ص217.
10- م. ن، ج74، ص177.
99

77

الدرس الثامن:آثار الذنوب البرزخيّة والأخرويّة

 وروي عن الزهراء عليها السلام عن أبيها صلى الله عليه واله في رواية التهاون في الصلاة أنّ من آثارها في القبر ثلاثة: "وأمّا اللواتي تصيبه في قبره فأولاهنّ يوكل الله به ملكاً يزعجه في قبره، والثانية يضيّق عليه في قبره، والثالثة تكون الظلمة في قبره"11.

 
4- الندم وطلب الرجوع:
ويا لها من حسرة ما بعدها حسرة، أن يستيقظ الإنسان من نومته وغفلته، فيرى نفسه ميتاً قد أُخذ إلى قبره "الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا"12.
 
فيتحسّر على ما فرّط في جنب الله، ويسأل الله الرجعة إلى الدنيا: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾13.
 
قال في إرشاد القلوب: "إنّه يقول هذه الكلمة لما شاهده من شدّة سكرات الموت، وأهوال ما عاينه من عذاب القبر وهول المطّلع، ومن هول سؤال منكر ونكير، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون﴾14"15.
 
لمَ القيامة؟
وقبل الحديث عن آثار الذنوب الأخروية، لا بأس بالحديث عن الآخرة ويوم القيامة، وما أدراك ما يوم القيامة ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾16، ويحشرون في ساحتها، وهو يوم عظيم مهول، بشّر الله فيه المؤمنين الصالحين بالأمن
________________________________________
11- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج3، ص23.
12- بحار الأنوار، المجلسي، ج4، ص43.
13- المؤمنون: 99 -100.
14- الأنعام: 28.
15- إرشاد القلوب، الديلمي، ج1، ص56.
16- المطففين: 6.
100

78

الدرس الثامن:آثار الذنوب البرزخيّة والأخرويّة

 والأمان، وتوعّد الظالمين المجرمين سوء الحساب، يوم ﴿يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾17، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾18.

 
لقد شدّد الله عزّ وجلّ في القرآن الكريم على مسألة المعاد في عشرات السور القرآنيّة، حتّى قيل إنّ ثلث القرآن يرتبط بأحوال الآخرة وما بعدها...
 
نذكر بعضاً ممّا قاله في كتابه الكريم: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾19، ﴿قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ *لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾20.
 
وخلاصة الكلام أنّّه بعد طيّ منازل الآخرة وعقباتها وصراطها، فإنّ المصير إمّا إلى الجنّة أو إلى النار، وبيد الإنسان تحديد المصير، ﴿مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾21.
 
ج - الآثار الأخرويـّة
لقد أشار الله في القرآن الكريم وأهل البيت عليهم السلام إلى آثار كثيرة للكفر والعصيان والطغيان والذنوب في الآخرة، تحذيراً لنا من مغبّة الوقوع فيها، لعلّنا نرشد أو نعقل، فلا نكون من أصحاب السعير، سنقتصر على ذكر أهمّها:
 
1-الافتضاح:
إنّ الله يستر برحمته على المذنب في الدنيا، لعلّه يتوب ويرجع إلى ربّه، ولكنّ 
________________________________________
17- المزمل: 17.
18- الحج: 1 -2.
19- المؤمنون: 115.
20- الواقعة: 49 -50.
21- الروم: 44.
101

79

الدرس الثامن:آثار الذنوب البرزخيّة والأخرويّة

 الفضيحة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وأمام الخلق أجمعين، سيّما أمام معارفه وأقربائه، ورد في مناجاة أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إلهي قد سترت عليّ ذنوباً في الدنيا وأنا أحوج إلى سترها عليّ منك في الآخرة، إلهي قد أحسنت إذ لم تظهرها لأحدٍ من عبادك الصالحين فلا تفضحني يوم القيامة على رؤوس الأشهاد..."22.

 
يقول العلّامة المجلسي: "وفي قوله سبحانه ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ شاهد، وهم الذين يشهدون بالحقّ للمؤمنين وعلى المبطلين والكافرين يوم القيامة، وفي ذلك سرور للمحقّ وفضيحة للمبطل في ذلك الجمع العظيم..."23.
 
ولذا ينبغي على العاقل أن يخاف هذا اليوم، وأن يخاف الفضيحة أمام الله عزّ وجلّ وأمام الأنبياء والأئمّة والأولياء عليهم السلام، وأمام الناس أجمعين، روي عن رسول الله صلى الله عليه واله أنّه قال: "وأمّا علامة الموقف فستّة:

أيقن بالله حقّاً فآمن به.
وأيقن بأنّ الموت حقّ فحذره.
وأيقن بأنّ البعث حقّ فخاف الفضيحة.
وأيقن بأنّ الجنّة حقّ فاشتاق إليها.
وأيقن بأنّ النار حقّ فظهر سعيه للنجاة منها.
وأيقن بأنّ الحساب حقّ فحاسب نفسه"24.

2- المذلّة:
﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ 
________________________________________
22- مقطع من المناجاة الشعبانيّة.
23- بحار الأنوار، المجلسي، ج7، ص162.
102

80

الدرس الثامن:آثار الذنوب البرزخيّة والأخرويّة

 قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِين﴾25.

بدءاً بأخذ أرواحهم: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾26.
 
إلى الوقوف في المحشر أذلّاء، سكارى غارقين في الحياء، يتصبّب العرق من وجوههم، ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾27و﴿َرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾28، ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾29. 
 
إلى دخول النار: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيم﴾30، ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ﴾31

3- الحسرة والندامة:
يتحسّر الظالم على الفترة والمهلة الّتي أعطيت له في الدنيا ولم يغتنمها، بل أعرض وتولّى وكذّب بآيات ربّه ورسله واليوم الآخر، وها هو اليوم أيقن به عين اليقين ولات حين مناص، فيقول: ﴿يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ﴾32. ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا *لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾33.
________________________________________
24- تحف العقول، الحراني، ص18.
25- النحل: 27.
26- محمد: 27.
27- عبس: 40.
28- عبس: 41.
29- المعارج: 44.
30- الدخان: 49.
31- فصلت: 16.
32- الزمر: 56.
33- الفرقان: 27 -29.
103

81

الدرس الثامن:آثار الذنوب البرزخيّة والأخرويّة

 4- نسيان الله له:

﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾34،فلم تتذكّر أوامر الله ونواهيه، بل ونسيت وغفلت عن لقائه ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾35.

5- عدم التشرّف بلقاء الله:
حيث إنّ الآيات والروايات تشير إلى تشرف المؤمن يوم القيامة بلقاء الله، ومحاسبة الله الرحيم بنفسه لعبده المؤمن، وأمّا غير المؤمنين من الكفّار والعاصين، فإنّ الله لا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ويوكل بهم ملائكة ﴿غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون﴾36.
 
ومن الآثار الأخرويّة أيضاً: غضب الله، اللعنة، سوء الحساب، طول الوقوف في المحشر، العذاب الأليم، تجسيم الأعمال، الحشر بصور قبيحة بشعة، دخول النار، الخلود في النار، مضافاً إلى صور ومشاهد وحالات العذاب في جهنّم الّتي يعجز عن وصفها الفكر البشريّ.
 
المحكمة الإلهيّة وشهود الآخرة
هناك محاكم عديدة تحاكم الإنسان في الدنيا، بدءاً بمحكمة النفس أو الضمير، ثمّ محكمة القانون ومحكمة المجتمع، ومحكمة التاريخ، إلّا أنّ الإنسان الطاغية والداهية الماكر باستطاعته التملّص والتخلّص منها جميعاً، بأساليبه الخدّاعة والمال والرشوة وشراء الشهود وتزوير الوقائع وإخفاء الأدلّة وغير ذلك....
 
لكن يقدّم في الآخرة ليحاكم أمام الله سبحانه، في محكمة العدل الإلهيّ،
________________________________________
34- طه: 126.
35- الجاثية: 34.
36- التحريم: 6.
104

82

الدرس الثامن:آثار الذنوب البرزخيّة والأخرويّة

  حيث يكون القاضي والحاكم هو الله، والشهود كثر، والأدلّة حاضرة  تجسّم الأعمال ، والحاجة إلى الشهود والأدلّة والجواب عند إنكار الطغاة والعصاة، وأمّا المؤمن فلا يحتاج إلى ذلك؛ لأنّه يعترف أمام ربّه ويقرّ له، فيقول له ربّه: يا عبدي فعلت كذا. فيقول المؤمن: نعم يا ربّ، ويتكرّر منه الاعتراف حتّى يقول له الله قد غفرتها لك، وينقلب إلى أهله مسروراً.

 
وأمّا غير المؤمن فإنّ له سوء الحساب: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾37.
________________________________________
37-الكهف: 49.
105

83

الدرس الثامن:آثار الذنوب البرزخيّة والأخرويّة

 خلاصة الدرس

 
إنّ عالم البرزخ هو الحدّ الفاصل بين الدنيا والآخرة، وهو عالم فيه آثار لذنوبنا، منها:
 - ضغطة القبر وسوء العذاب فيه.
 - قرين السوء  العمل السيِّئ .
 - الندم والحسرة.
 وإنّ عالم الآخرة هو يوم الحساب والميزان، وهول الموقف، وهو عالم أيضاً فيه آثار لذنوبنا، منها:
 - افتضاح ذنوب المذنبين بعد سترها في الدنيا.
 - المذلّة والحسرة.
 - ينساه الله بعدما نسي العبد ربّه في الدنيا.
 
 اسئلة
 
1. ما معنى البرزخ؟
 2. عدِّد بعضاً من الآثار البرزخيّة للذنوب، وتحدّث عن أثر منها.
 3. عدِّد بعضاً من الآثار الأخرويّة للذنوب، وتحدّث عن أثر منها.
 
106

84

الدرس الثامن:آثار الذنوب البرزخيّة والأخرويّة

 للمطالعة


المبادرة إلى صالح الأعمال
 
 من خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام في المبادرة إلى صالح الأعمال قال: "فاتقوا الله عباد الله وبادروا آجالكم بأعمالكم، وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم، وترحّلوا فقد جدّ بكم، واستعدّوا للموت فقد أظلّكم، وكونوا قوماً صيح بهم فانتبهوا، وعلموا أنّ الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا، فإنّ الله سبحانه لم يخلقكم عبثاً ولم يترككم سدى، وما بين أحدكم وبين الجنّة أو النار إلّا الموت أن ينزل به، وإن غايةً تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة لجديرة بقصر المدّة، وإنّ غائباً يحدوه الجديدان، الليل والنهار، لحريّ بسرعة الأوبة، وإنّ قادماً يقدم بالفوز أو الشقوة، لمستحقّ لأفضل العدّة، فتزوّدوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غداً، فاتقى عبدٌ ربه، نَصَحَ نفسه وقدّم توبته وغلب شهوته، فإنّ أجله مستورٌ عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكل به، يزيّن له المعصية ليركبها، ويمنّيه بالتوبة ليسوّفها، إذا هجمت منيّته عليه أغفل ما يكون عنها، فيا لها حسرة على كلّ ذي غفلة، أن يكون عمره عليه حجّة، وأن تؤدّيه أيّامه إلى الشقوة. نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإيّاكم ممّن لا تبطره نعمة، ولا تقصّر به عن طاعة ربّه غاية، ولا تحلّ به بعد الموت ندامةٌ، ولا كآبة"38.
________________________________________
38- نهج البلاغة، الخطبة 64، ص95.
107

85

الدرس التاسع:تهذيب اللسان (الغِيبة)

الدرس التاسع:تهذيب اللسان  الغِيبة 

أهداف الدرس
 • أن يتعرّف الطالب إلى مقامي الظاهر والباطن في النفس الإنسانيّة.
 • أن يتبيّن وظيفته الإيمانيّة في أدب جوارحه، ومنها اللسان.
 • أن يتبيّن خطر اللسان وكيفيّة التحكّم به.
 • أن يتبيّن خطر الغِيبة وأثرها.
109


86

الدرس التاسع:تهذيب اللسان (الغِيبة)

 مقامات النفس الإنسانيّة

 إنّ للنفس الإنسانيّة في جهاد النفس مقامين، مقام الظاهر ومقام الباطن، والجهاد في كلا المقامين مختلف عن الآخر، ولتوضيح ذلك لا بدّ من أن نتعرّف - ولو إجمالاً - على معنى هذين المقامين وما يتميّزان به من بعضهما البعض.
 
 المقام الأوّل "الباطن"
 وهو المقام الّذي ينبغي التنبّه له جيّداً، وهو الّذي أشار إليه الإمام الخمينيّ قدس سره في "الأربعون حديثاً" بقوله: "اعلم أنّ للنفس الإنسانيّة مملكة ومقاماً آخر، وهي مملكتها الباطنيّة ونشأتها الملكوتيّة، وفيها تكون جنود النفس أكثر وأهمّ ممّا في مملكة الظاهر، والصراع والنزاع فيها بين الجنود الرحمانية والشيطانية أعظم والغلبة والانتصار فيها أشدّ وأهمّ، بل وإنّ كلّ ما في مملكة الظاهر قد تنزَّل من هناك وتظهّر في عالم المُلك، وإذا تغلّب أيّ من الجند الرحمانيّ أو الشيطانيّ في تلك المملكة، يتغلّب أيضاً في هذه المملكة. وجهاد النفس في هذا المقام مهمّ للغاية عند المشايخ العظام من أهل السلوك والأخلاق، بل ويمكن اعتبار هذا المقام منبع جميع السعادات والتعاسات، والدرجات والدركات"1.
________________________________________
1- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني ، جهاد النفس، المقام الثاني.
111

87

الدرس التاسع:تهذيب اللسان (الغِيبة)

 إنّ ظاهر الإنسان يمكن إصلاحه بالتوبة والندم عن سوء العمل، إلا أنّ الباطن وسوء السريرة قد يصلانِ بالإنسان إلى مرحلة تجعله غير قابل لنزول الرحمة الإلهيّة عليه من قبيل الشفاعة أو الصفح الإلهيّ، فيصبح مصداق الآية الشريفة: ﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾2.

 
 فرحمة الله تعالى كالشمس المشرقة على العالم، فبإمكان كلّ من أراد أن يستقبل نورها بقدر ما يزيل من المعوّقات من أمامها، ورحمة الله تعالى كذلك مشرقة على كلّ المخلوقات إلا أنّ كلّ فرد بإمكانه الاستفادة منها بحسبه وبقدر ما يرفع من الموانع، أي الحجب النفسيّة الّتي تخلّفها المعاصي وحبُّ الدنيا وحبُّ الأنا.
 
 وقد تقدّم معنا الحديث في درس سابق عن المعركة الكبرى فإنّ ما أردناه منها هو المعركة الّتي تحصل في مقام الباطن.
 
 المقام الثاني "الظاهر"
 يقول الإمام الخمينيّ قدس سره عن هذا المقام في كتابه الأربعون حديثاً ما ملخّصه:اعلم أنّ مقام النفس الأوّل ومنزلها الأدنى والأسفل، هو منزل الملك والظاهر وعالمهما، فتكون ساحة معركة النفس وجهادها نفس هذا الجسد، وجنودها هي قواه الظاهريّة السبع وهي: "الأذن والعين واللسان والبطن والفرج واليد والرجل". وتكون جميع هذه القوى تحت تصرّف النفس في مقام الوهم، فإذا تحكَّم الوهم بتلك القوى، سواء بذاته مستقلّاً أو بتدخّل الشيطان، جعلها -أي تلك القوى -جنوداً للشيطان، وبذلك يجعل هذه المملكة تحت سلطان الشيطان،
________________________________________
2- البقرة:81.
112

88

الدرس التاسع:تهذيب اللسان (الغِيبة)

 وتنهزم عندها جنود الرحمن والعقل، وتتوارى وتخرج من نشأة الملك  أي المادّة  وعالم الإنسان وتهاجر عنه، وتصبح هذه المملكة خاصّة بالشيطان.

 
 وأمّا إذا خضع الوهم لحكم العقل والشرع، وكانت حركاته وسكناته مقيّدة بنظام العقل والشرع، فقد أصبحت هذه المملكة مملكة روحانيّة وعقلانيّة، ولم يجد الشيطان وجنوده محطّ قدمٍ لهم فيها.
 
 إذاً، يكون جهاد النفس في هذا المقام عبارة عن انتصار الإنسان على قواه الظاهريّة، وجعلها مؤتمرة بأمر الخالق، وعن تطهير المملكة من دنس وجود قوى الشيطان وجنوده.
 
 وبناء على هذا، فعلى المؤمن السالك إلى الله تعالى، في هذا المقام أي مقام الظاهر، أن يلتفت بكلّ ما أوتي من حكمة ودراية للأحكام الإلهيّة الّتي تتعلّق بقواه الّتي أودعها الله تعالى فيه، وهذا ما يسمّى بأدب الجوارح وسيأتي الحديث عنه.
 
 أدب الجوارح‏
 إنّ وظيفة المرء في هذا المقام تكون بحمل الظاهر على التأدّب بأدب الشريعة من التنزيه لهذه الجوارح عمّا يخالف الأوامر الإلهيّة، وتحليتها بالخصال الحسنة والمحمودة وسنتطرّق في هذا الدرس إلى الجارحة الأولى وما ينبغي أن تنزّه عنه وتحلّى به، وهو اللسان.
 
 اللسان‏ طريقٌ إلى الله
 إنّ اللسان، وهو القطعة اللحميّة الصغيرة الحجم، سبب رئيس في دخول جلّ أهل النار إليها وكذا جلّ أهل الجنّة إليها؛ لأنّ اللسان وإن كان صغير الحجم إلّا أنّه كما قال بعض الحكماء "صغير الحجم كبير الجرم"، وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ هذا اللسان مفتاح كلّ خير وشرّ،
113

89

الدرس التاسع:تهذيب اللسان (الغِيبة)

 فينبغي للمؤمن أن يختم على لسانه كما يختم على ذهبه وفضّته"3.

 
إنّ اللِّسان من النعم العظيمة الّتي منَّ الله تعالى بها على الإنسان، قال عزَّ وجلَّ: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾4، وفي الحديث عن الإمام عليّ ابن الحسين زين العابدين أنّه سئل عن الكلام والسكوت أيّهما أفضل؟ فقال: "لكلّ واحد منهما آفّات فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت، قيل: وكيف ذاك يا بن رسول الله؟
 
فقال: لأنّ الله عزَّ وجلَّ ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنّما بعثهم بالكلام، ولا استُحقّت الجنّة بالسكوت، ولا استُوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا وُقيت النار بالسكوت، ولا تُجُنّب سخطُ الله بالسكوت، إنّما ذلك كلّه بالكلام، ما كنت لأعدل القمر بالشمس، إنّك لتصف فضل السكوت بالكلام، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت"5.
 
ومن وصيّة الإمام عليّ عليه السلام لابنه محمّد بن الحنفيّة:"وما خلق الله عزَّ وجلَّ شيئاً أحسن من الكلام ولا أقبح منه، بالكلام ابيضّت الوجوه، وبالكلام اسودّت الوجوه، واعلم أنّ الكلام في وثاقك ما لم تتكلّم به فإذا تكلّمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك، فإنّ اللسان كلب عقور فإن أنت خلّيته عقر، وربّ كلمة سلبت نعمة..."6.

خطر اللسان في الروايات‏
وفي المقابل حذّرت الكثير من الروايات من الخطر الكبير الّذي يسبّبه
________________________________________
3- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج4، ص2777.
4- البلد:8-9.
5- وسائل الشيعة  آل البيت ، الحر العاملي، ج12، ص188.
6- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4، ص387.
114

90

الدرس التاسع:تهذيب اللسان (الغِيبة)

 اللسان لصاحبه إذا لم يجعله مطواعاً لعقله، ففي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "زلّة اللسان أشدّ هلاك"7وفي رواية أخرى عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "إنّ أكثر خطايا ابن آدم في لسانه8"، ولذا نرى الكثير من الروايات الّتي تحبّذ الصمت حين لا يكون هناك أيّ داع للكلام، فكما أنّ الكلام في مورده جميل ومطلوب فإنّ الصمت في مورده جميل ومطلوب أيضاً، بل دعت إليه الروايات الكثيرة منها:

 
ما ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "أمسك لسانك، فإنّها صدقة تصدّق بها على نفسك"9.
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "احبس لسانك قبل أن يُطيلَ حبسك ويردي نفسك، فلا شي‏ء أولى بطول سجن من لسان يعدل عن الصواب ويتسرّع إلى الجواب"10.
 
وفي رواية أخرى عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "لا يعرف عبد حقيقة الإيمان حتّى يخزن من لسانه"11.

الميزان‏ في التحكّم باللسان
بعد أن عرفنا مخاطر اللسان ومنافعه، لا بدّ من أن نبحث عن الضابطة الّتي تحدّد لنا كيفيّة التحكّم بهذا اللسان، وليس لنا في ذلك إلّا أن نرجع إلى أئمَّة الهدى ومصابيح الدجى الّذين أناروا لنا الدروب المظلمة، ودلّونا على الحيل الّتي ينتهجها الشيطان بغية إزالتنا عن الصراط المستقيم، وقد أشار أهل البيت عليهم السلام في هذا المضمار إلى أمرين أساسين:
________________________________________
7- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج4، ص2779.
8- م.ن، ج4، ص2781.
9- م.ن، ج4، ص2780.
10- م.ن، ج4، ص2780.
11- م.ن، ج4، ص2781.
115

91

الدرس التاسع:تهذيب اللسان (الغِيبة)

 1- أن يأتمر اللسان بأوامر العقل الّذي جعله الله تعالى نبيّاً باطنيّاً في الإنسان، فحينما يحكّم الإنسان العقل في هذه الجارحة يكفّ بذاك أذاها ويمنعها من رداها، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "اللسان معيار أرجحه العقل وأطاشه الجهل"12.

 
2- أن يتأدّب اللسان بما أمر الله تعالى به الإنسان من الأوامر، وينتهي عمّا نهاه الله تعالى من المحرّمات، ولا أفضل من قول الإمام السجاد عليه السلام في رسالة الحقوق: "حقُّ‏ اللسان إكرامه عن الخنا، وتعويده الخير، وترك الفضول الّتي لا فائدة لها، والبِرّ بالناس، وحسن القول فيهم"13. فهذه مفاهيمُ أساس سلَّط الإمام السجّاد عليه السلام عليها الضوء مريداً منها أن يرشدنا إلى حقّ اللسان بأن نؤدّبه بما أمرنا به الله تعالى، وأمّا تفصيل هذه المفاهيم فيأتي في الدرس اللاحق إن شاء الله تعالى، والحمد لله ربّ العالمين.
 
الغِيبة
الغِيبة هي ذكر عيوب الإنسان في غَيبته للانتقاص منه. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه واله في خطبة حجّة الوداع: "أيّها الناس إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، إنّ الله حرّم الغِيبة كما حرّم المال والدم"14.
 
إنّ تأكيد الرسول الأكرم صلى الله عليه واله على حرمة الغِيبة في حجّة الوداع الّتي تضمّنت أهمّ التعاليم الأخلاقيّة، يدلّل بشكل كبير على مدى خطورتها على الأخلاق الإنسانيّة، ولو تأمّلنا ما جاء من الأحاديث الشريفة الّتي تتحدّث عنها لعلمنا مدى خطر هذه السيّئة الكبيرة، ومن هذه الروايات ما ورد عن أمير
________________________________________
12- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج4، ص2776.
13- م. ن، ج4، ص2778.
14- م. ن، ج3، ص2328.
116

92

الدرس التاسع:تهذيب اللسان (الغِيبة)

 المؤمنين عليه السلام: "الغِيبة آية المنافق"15، وعنه عليه السلام أيضاً: "الغِيبة شرّ الإفك"16، وعنه عليه السلام أيضاً: "من أقبح اللؤم غِيبة الأخيار"17.

 
وتكون الغِيبة أخطر حينما تحمل فتنة بين المؤمنين، وكما في الرواية الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام: قال رجل لعليّ بن الحسين: إنّ فلانا ينسبك إلى أنّك ضالّ مبتدع، فقال له عليه السلام: "ما رعيت حقّ مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أدّيت حقّي حيث أبلغتني عن أخي ما لست أعلمه!... إيّاك والغيبة فإنّها إدام كلاب النار، واعلم أنّ من أكثر من ذكر عيوب الناس شهد عليه الإكثار أنّه إنّما يطلبها بقدر ما فيه"18.
 
 خلاصة الدرس
 
- إنّ تأكيد الرسول الأكرم صلى الله عليه واله على حرمة الغِيبة في حجّة الوداع الّتي تضمّنت أهمّ التعاليم الأخلاقيّة، يُدلّل بشكل كبير على مدى خطورتها على الأخلاق الإنسانيّة.
 - إنّ للنفس الإنسانيّة في جهاد النفس مقامين، مقام الظاهر ومقام الباطن، والجهاد في كلا المقامين مختلف عن الآخر.
 - الكلام في الجوارح وأدبها هو كلام في مقام الظاهر؛ لأنّ جنود مقام الظاهر سبعة وهي: "الأذن والعين واللسان والبطن والفرج واليد والرجل".
 - جوارح الإنسان، وإن كانت مؤتمرة بأمر العقل والشهوة أو غيرهما من قوى النفس إلّا أنّها هي الفاعلة، وينسب إليها العمل في مقام الظاهر.
________________________________________
15- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج3، ص2328.
16- م. ن.
17- م. ن.
18- م.ن، ص2329.
 
 
117

93

الدرس التاسع:تهذيب اللسان (الغِيبة)

 إنّ وظيفة المرء في هذا المقام تكون بحمل الظاهر على التأدّب بأدب الشريعة من التنزيه لهذه الجوارح عمّا يخالف الأوامر الإلهيّة، وتحليتها بالخصال الحسنة والمحمودة.

 - حذّرت الكثير من الروايات من الخطر الكبير الّذي يسبّبه اللسان لصاحبه إذا لم يجعله مطواعاً لعقله.
 
 - لقد أشار أهل البيت عليهم السلام إلى كيفيّة التحكّم باللسان من خلال أمرين أساسين:
 1- أن يأتمر اللسان بأوامر العقل الّذي جعله الله تعالى نبيّاً باطنيّاً في الإنسان.
 2- أن يتأدّب اللسان بما أمر الله تعالى به الإنسان من الأوامر وينتهي عمّا نهاه الله تعالى من المحرّمات.
 - لا بدّ للمؤمن من أن ينزّه لسانه عن الغيبة لحرمتها ولما تشكّله من خطر على الحياة الإنسانيّة.
 
اسئلة
 
1- ما هي مقامات النفس؟
 2- ما الفرق بين مقامات النفس؟
 3- تحت أيّ من مقامات النفس يندرج أدب الجوارح؟
 4- ما هو الميزان في استخدام اللسان؟
 5- ما هي الغِيبة وأين مكمن الخطر فيها؟
 
118

94

الدرس التاسع:تهذيب اللسان (الغِيبة)

 للمطالعة


مكر الشيطان في الغِيبة
 
 من كلام الشهيد الثاني رضوان الله عليه:"ومن أضرّ أنواع الغِيبة، غِيبة المتّسمين بالفهم والعلم المرائين فإنّهم يفهمون المقصود إلى صفة أهل الصلاح والتقوى ليظهروا من أنفسهم التعفّف عن الغِيبة، ويفهمون المقصود ولا يدرون بجهلهم أنّهم جمعوا بين فاحشتين الرياء والغِيبة، وذلك مثل أن يذكر عنده إنسان فيقول الحمد لله الّذي لم يَبْتَلِنَا بحبّ الريّاسة أو حبّ الدنيا أو بالتكيف بالكيفيّة الفلانيّة، أو يقول نعوذ بالله من قلّة الحياء أو من سوء التوفيق، أو نسأل الله أن يعصمنا من كذا، بل مجرّد الحمد على شي‏ء إذا علم منه اتصاف المحدّث عنه بما ينافيه ونحو ذلك فإنّه يغتابه بلفظ الدعاء وسَمْتِ أهل الصلاح، وإنّما قصده أن يذكر عيبه بضرب من الكلام المشتمل على الغِيبة والرياء، ودعوى الخلاص من الرذائل، وهو عنوان الوقوع فيها، بل في أفحشها، ومن ذلك أنّه قد يُقدّم مدح من يريد غِيبته فيقول ما أحسن أحوال فلان ما كان يقصّر في العبادات، ولكن قد اعتراه فتور وابتُلي بما يُبتلى به كلّنا وهو قلّة الصبر فيذكر نفسه بالذمّ، ومقصوده أن يذمّ غيره، وأن يمدح نفسه بالتشبّه بالصالحين في ذمّ أنفسهم فيكون مغتاباً مرائياً، مزكّياً نفسه، فيجمع بين ثلاث فواحش، وهو يظنّ بجهله أنّه من الصالحين المتعفّفين عن الغِيبة، هكذا يلعب الشيطان بأهل الجهل إذا اشتغلوا بالعلم والعمل من غير أن يتقنوا الطريق فيتبعهم ويحبط بمكائده عملهم ويضحك عليهم ويسخر منهم.
 
 ومن ذلك أن يذكر ذاكر عيب إنسان فلا ينتبه له بعض الحاضرين فيقول
 
119

95

الدرس التاسع:تهذيب اللسان (الغِيبة)

 سبحان الله ما أعجب هذا! حتّى يُصغي الغافل إلى المغتاب ويعلم ما يقوله، فيذكر الله سبحانه، ويستعمل اسمه آلة في تحقيق خبثه وباطله وهو يمنّ على الله بذكره جهلاً وغروراً، ومن ذلك أن يقول جرى من فلان كذا وابتلي بكذا، بل يقول جرى لصاحبنا أو صديقنا كذا، تاب الله عليه وعلينا، يظهر الدعاء له والتألّم والصداقة والصحبة والله مطّلع على خبث سريرته وفساد ضميره، وهو بجهله لا يدري أنّه قد تعرّض لمقت أعظم ممّا يتعرّض له الجهّال إذا جاهروا بالغِيبة.

 
 ومن أقسامها الخفيّة الإصغاء إلى الغِيبة على سبيل التعجّب فإنّه إنّما يُظهر التعجّب ليزيد نشاط المغتاب في الغِيبة، فيزيد فيها، فكأنّه يستخرج منه الغِيبة بهذا الطريق، فيقول عجبت ممّا ذكرته، ما كنت أعلم بذلك، إلى الآن ما كنت أعرف من فلان ذلك، يريد بذلك تصديق المغتاب، واستدعاء الزيادة منه باللطف، والتصديق لها غِيبة، بل الإصغاء إليها، بل السكوت عند سماعها". انتهى كلامه رفع مقامه.
120

96

الدرس العاشر:تهذيب اللسان (النميمة -الكذب -الفحش)

 الدرس العاشر:تهذيب اللسان  النميمة -الكذب -الفحش 


أهداف الدرس
 • أن يتعرّف الطالب إلى معنى النميمة ومخاطرها.
 • أن يعدّد آثار الكذب.
 • أن يتبيّن أوصاف الإنسان الفاحش.
 
121

97

الدرس العاشر:تهذيب اللسان (النميمة -الكذب -الفحش)

 النميمة وآثارها

قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ*هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ *مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ *  عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾1.
النميمة مرض نفسيّ لسانيّ قاتل وخطير، وهي تعني: "نقل قول الغير إلى المقول فيه سواء بالتكلّم أو الكتابة أو الإشارة أو الرمز"2.
 
وهي المصداق البارز لإشاعة الفاحشة في المجتمع المؤمن، لما فيها من الفساد والإفساد.
عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "من قال في مؤمنٍ ما رأته عيناه وسمعته أذناه، فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ 3"4.
 
وعنه عليه السلام قال: "وإنّ من أكبر السحر النميمة، يفرّق بها بين المتحابّين، ويجلب العداوة على المتصافين، ويسفك بها الدماء، ويهدم بها الدور ويكشف
________________________________________
1- القلم: 10- 13.
2- مجمع البحرين، الطريحي، ج6، ص180.
3- النور: 19.
4- الكافي، الكليني، ج2، ص357.
123

98

الدرس العاشر:تهذيب اللسان (النميمة -الكذب -الفحش)

 بها الستور، والنمّام أشرّ من وطى‏ء الأرض بقدمٍ"5.

 
وينبغي لكلّ من حُملت إليه النميمة:
1- عدم التصديق: وذلك لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ *هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ﴾6.
2- التبيّن قبل ترتيب الأثر لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾7.
3- أن ينهاه عن ذلك لقوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾8.
4- أن يبغضَه في الله‏ إذا علم منه معرفته بعمله وإصراره على فعله؛ لأنّه ملعون بعيدٌ عن الله. ورد في الخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إيّاك والنميمة فإنّها تزرع الضغينة وتبعد عن الله"9.
5 - أن لا تظنّ بأخيك السوء:  ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾10.
6 - أن لا يحملك القول فيك على التجسّس ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾11.
7 - أن لا ترضى لنفسك ما نُهيت عنه، فتقع فيما وقع فيه غيرك.
 
ومن الجميل أن نتعلّم من أهل البيت عليهم السلام كيفيّة التعاطي مع النمّام.
حيث روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه أتاه رجل يسعى إليه برجلٍ، فقال له عليه السلام: "يا فلان نحن نسأل عمّا قلت، فإن كنت صادقاً مقتناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك، قال: أقلني يا أمير المؤمنين"12.
________________________________________
5- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج9، ص151.
6- القلم: 10 و11.
7- الحجرات: 6.
8- لقمان: 17.
9- غرر الحكم، الآمدي، ص222.
10- الحجرات: 12.
11- الحجرات: 12.
12- بحار الأنوار، ج72، ص270.
124

99

الدرس العاشر:تهذيب اللسان (النميمة -الكذب -الفحش)

 آثار النميمة الدنيويـّة والأخرويـّة

 1- الحقد والضغينة:
 عن الإمام عليّ عليه السلام: "إيّاك والنميمة فإنّها تزرع الضغينة"13.
 وعن الإمام جعفر عليه السلام: "إيّاك والنميمة فإنّها تزرع الشحناء في قلوب الرجال"14.
 
 2- غضب الله وهتك الستر:
 من كتاب الصادق عليه السلام إلى عبد الله النجاشي والي الأهواز، قال له: "إيّاك والسعاة وأهل النمائم، فلا يلتزقن بك أحدٌ منهم، ولا يراك الله يوماً وليلة وأنت تقبل منهم صرفاً ولا عدلاً، فيسخط الله عليك ويهتك سترك"15.
 
 3- شرار خلق الله‏:
 عن رسول الله صلى الله عليه واله، قال: "ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه واله: المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباغون للبراء العيب"16.
 
 4- عذاب القبر:
 عن الإمام عليّ عليه السلام قال: "عذاب القبر يكون من النميمة"17.
 
 5- عدم دخول الجنّة:
 عن النبيّ صلى الله عليه واله: "لا يدخل الجنّة نمّام"18.
________________________________________
13- غرر الحكم، الآمدي، ص222.
14- بحار الأنوار، المجلسي، ج75، ص202.
15- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج17، ص207.
16- بحار الأنوار، المجلسي، ج72، ص212.
17- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص339.
18- بحار الأنوار، المجلسي، ج72، ص268.
 
125 
 

100

الدرس العاشر:تهذيب اللسان (النميمة -الكذب -الفحش)

 عبدٌ نمـّام‏

باع أحدهم عبداً وقال للمشتري ما فيه عيب إلّا النميمة قال رضيت به.
فمكث الغلام أيّاماً ثمّ قال لزوجة مولاه: إنّ زوجك لا يحبّك ويريد أن يتسرّى19 عليك فخذي بعض الشعر منه لأسحره لك.
ثمّ قال للزوج: إنّ امرأتك اتخذت خليلاً، وتريد أن تقتلك فتناوم20 لها حتى تعرف.
فتناوم فجاءته امرأته تحمل سكّيناً فظن أنّها تقتله فقتلها، وجاء أهل المرأة فقتلوا الزوج، ووقع القتال بين القبيلتين.
 
نزّه لسانك عن الكذب‏
الكذب من أسوأ الذنوب الّتي يمكن للعبد أن يرتكبها، والكذّاب يفقد ثقة الناس به لأنّ العلاقات الاجتماعيّة السليمة الّتي يبتغيها الناس هي العلاقات القائمة على الصدق، وقد كثرت الآيات والروايات الّتي تحذّر من الكذب مبيّنة مبغوضيّته عند الله تعالى، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾21، وهذا ما أكّدته الرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "إيّاكم والكذب، فإنّ الكذب مجانب للإيمان"22.
 
وفي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه واله: "أعظم الخطايا اللسان الكذوب"23.
وعنه صلى الله عليه واله: "إذا كذب العبد تباعد الملك عنه ميلا من نتن ما جاء به"24.
________________________________________
19- يتسرى: أي السرية وهي الزوجة الجارية مقابل الزوجة الحرة.
20- فتناوم: تصنع النوم.
21- النحل:105.
22- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج3، ص2674.
23- م. ن، ج3، ص2672.
24- م. ن، ج3، ص2673.
126

101

الدرس العاشر:تهذيب اللسان (النميمة -الكذب -الفحش)

 وعن الإمام عليّ عليه السلام: "الكذب شَيْن الأخلاق"25.

 
 الاستخفاف بالكذب‏
 هناك نماذج من الكذب قد يستخفّ بها الإنسان ويعتبرها غير سيّئة وقد يعطيها تسميات لتخفيفها كاسم كذبة بيضاء أو كذبة أوّل نيسان... وقد أكّد الإسلام على رفض ذلك وعدم استسهال الكذب بجميع مسمّياته، وفي رواية عن عبد الله بن عامر قال: دعتني أمّي يوماً ورسول الله صلى الله عليه واله قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه واله: ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه واله: "أما إنّك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة"26.
 
 حتّى إنّ الروايات الشريفة أكّدت على أن يكون الإنسان حريصاً فيما ينقل من الكلام الّذي يسمعه من الآخرين، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "حسبك من الكذب أن تحدّث بكلّ ما سمعت"27، وفي رواية أخرى عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله لمّا سألته أسماء بنت يزيد: إن قالت إحدانا لشي‏ء تشتهيه: لا أشتهيه، يعدّ ذلك كذباً؟ قال صلى الله عليه واله: "إنّ الكذب يكتب كذباً حتّى تكتب الكُذَيْبة كُذَيْبَة"28.
 
 آثار الكذب‏
 إنّ للكذب آثاراً على الإنسان المسلم، منها:
 1- الحرمان من الهداية: فإنّ الكذب يحرمه من نعمة الهداية كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ 
________________________________________
25- ميزان الحكمة، ج3، ص2673.
26- م. ن، ج3، ص2675.
27- م. ن، ج3، ص2676.
28- م. ن، ج3، ص2675.
127

102

الدرس العاشر:تهذيب اللسان (النميمة -الكذب -الفحش)

 كَفَّارٌ﴾29، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾30.

 
2- ينبت النفاق: يقول الله تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾31.
 
3- المهانة في الدنيا والآخرة: فعن الإمام عليّ عليه السلام: "ثمرة الكذب المهانة في الدنيا والعذاب في الآخرة"32، وأمّا سبب العذاب في الآخرة فلأنّ الكذّاب سيظهر كذبه أمام الملأ، وسيجرّ إلى جهنّم كما وعده الله تعالى، وأمّا المهانة في الدنيا فلأنَّ الكذب يذهب بهيبة الإنسان وبهائه، إذ إنّ الكاذب منبوذ بين الناس ويشيرون إليه بالأصابع لعدم ثقتهم به، وعن الإمام عليّ عليه السلام: "من عُرف بالكذب قلّت الثقة به، من تجنّب الكذب صدقت أقواله"33.
 
4- قلّة التوفيق من الله تعالى لأداء السنن: ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الرجل ليكذب الكذبة فيحرم بها صلاة الليل"34.
 
5- نقصان الرزق: فعن رسول الله صلى الله عليه واله: "الكذب ينقص الرزق"35، وعن الإمام عليّ عليه السلام: "اعتياد الكذب يورث الفقر"36.
 
نزّه لسانك عن الفحش من القول‏
من العادات القبيحة الّتي لا ينبغي أن تكون في الإنسان المؤمن: الفحش وبذاءة اللسان، والفحش 
________________________________________
29- الزمر:3.
30- غافر: 28
31- التوبة:77.
32- عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص 209.
33- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج3، ص2677.
34- م. ن، ج3، ص2678.
35- م. ن.
36- م. ن.
128

 


103

الدرس العاشر:تهذيب اللسان (النميمة -الكذب -الفحش)

 هو أن يستعمل الإنسان الألفاظ القبيحة في السبّ والشتم وغيرها من المقالات السيّئة، وقد ذمّ الله تعالى هذا الصنف من الناس في كتابه العزيز حيث قال: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾37، ومعنى الآية الشريفة كما روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "هو الفاحش اللئيم"38.

 
وقد وصفت الروايات الشريفة الإنسان الفاحش بأوصاف كثيرة منها:
أ- أنّه مبغوض لدى الله تعالى، ففي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ الله يبغض الفاحش المتفحّش"39.
ب- السفيه، ففي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "أسفه السفهاء المتبجّح بفحش الكلام"40.
ج- من أهل النار، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من خاف الناس لسانه فهو في النار"41.
د- من شرّ الناس، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "إنّ من شرّ الناس من تركه الناس اتقاء فحشه"42.
 
إلى أوصاف أخرى تدلّل على مدى قبح هذه الصفة، نسأل الله تعالى أن ينزّهنا عن النقائص والعيوب، إنّه نعم الموفّق والمعين.
________________________________________
37- القلم:13.
38- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج3، ص2377.
39- م.ن، ج3، ص2376.
40- م. ن.
41- م. ن.
42- م. ن.
129

 


104

الدرس العاشر:تهذيب اللسان (النميمة -الكذب -الفحش)

 خلاصة الدرس

 
- إنّ للسان أمراضاً عديدة، منها مرض  النميمة  ذو الآثار الفاسدة والمفسدة في المجتمع.
 - إنّ من آثار النميمة في الدنيا شيوع الفاحشة، وتنامي الحقد والضغينة بين المؤمنين، أما في الآخرة فلا يدخل النمّام الجنّة.
 - إنّ الكذب من أخطر الذنوب، حتّى إنّ ما يعد به الإنسان أطفاله ولا يأتيهم به يعدُّ كذباً.
 - من آثار الكذب: الحرمان من الهداية، ينبت النفاق، المهانة في الدنيا والآخرة، ينقص الرزق.
 - من قبائح اللسان الفحش والبذاءة، والفحش هو أن يستعمل الإنسان الألفاظ القبيحة في السبّ والشتم وغيرها من الألفاظ القبيحة، وقد ذمّ الله تعالى هذا الصنف من الناس.
 
 اسئلة
 
1- ما هي آثار النميمة؟
 2- هل هناك كذب أبيض وكذب أسود؟
 3- ما هي آثار الكذب؟
 4- ما المقصود من الفحش؟
 5- بماذا وُصف الفاحش في الروايات؟
 
130

105

الدرس العاشر:تهذيب اللسان (النميمة -الكذب -الفحش)

 للمطالعة

أسر الشهوات‏
 
 من مواعظ الإمام الخمينيّ قدس سره في كتاب "الأربعون حديثاً":
 إنّ الإنسان العاقل الروؤف بنفسه لا بدّ له من السعي واللجوء إلى كلّ سبيل لإنقاذ نفسه من الأسر، والنهوض أمام النفس الأمّارة والشيطان الباطنيّ، ما دامت الفرصة سانحة، وقواه الجسديّة سالمة، وما دام على قيد الحياة وفي صحّة موفورة وفتوّة موجودة، ثمّ يراقب حياته فترة من الوقت، ويتأمّل في أحوال نفسه وأحوال الماضين، ويتمعّن في سوء عاقبة بعضهم ويُفهم نفسه أنّ هذه الأيّام القليلة تبلى، ويوقظ قلبه ويفهمه الحقيقة التالية المنقولة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله حيث خاطبنا قائلاً: "الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الآخِرَةِ" فلو أنّنا لم نزرع في هذه الأيّام المعدودة، ولم نعمل عملاً صالحاً، لفاتتنا الفرصة، وإذا غشينا الموت، وحلّ العالم الآخر، لانقطعت أعمالنا جميعاً وذهبت آمالنا نهائيّاً، وإذا جاء ملك الموت ونحن لا نزال عبيد الشهوات وأسارى قيود أهواء النفس المتشعّبة - والعياذ بالله - لكان من الممكن للشيطان أن يسرق إيماننا الّذي هو غايته القصوى وأن يحتال ويتراءى أمام قلبنا بصورة نخرج من الدنيا ونحن أعداء الحقّ المتعالي والأنبياء والأولياء، والله سبحانه أعلم ماذا وراء هذا الحجاب من الشقاوات والظلمات والوحشة؟.
 
 فيا أيّتها النفس الدنيئة ويا أيّها القلب الساهي، استيقظا وانهضا أمام هذا العدوّ الّذي ألجمكما منذ سنين، وربطكما بأغلال الأسر وقادكما إلى كلّ جهة حيث يريد، ودفع بكما إلى كلّ عمل قبيح وسلوك بشع وأجبركما عليه، وحطِّما هذه القيود، وكسِّرا هذه السلاسل.
131

106

الدرس العاشر:تهذيب اللسان (النميمة -الكذب -الفحش)

وكن أيّها الإنسان حرّاً، وادفع عن نفسك الذلّ والهوان، وضع في رقبتك طوق العبوديّة للحقّ جلّ جلاله حتّى تتحرّر من كلّ عبوديّة وترقى إلى السلطة الإلهيّة في العالمين.
 
أيّها العزيز، على الرغم من أنّ هذا العالم ليس بدار الجزاء والمكافأة وليس بمحلّ لظهور سلطة الحقّ المتعالي، وإنّما هو سجن المؤمن، فلو تحرّرت من أسر النفس، وأصبحت عبداً للحقّ المتعالي، وجعلت القلب موحّداً وأجليت مرآة روحك من غبار النفاق والإثنينيّة، وأرسلت قلبك إلى النقطة المركزيّة للكمال المطلق لشاهدت بعينك آثار ذلك في هذا العالم ولتوسّع قلبك بقدر يغدو محلّاً لظهور السلطنة التامّة الإلهيّة حيث تصير مساحتها أوسع من جميع العوالم "لا يَسعُني أَرْضِي وَلاَ سَمَائِي وَلكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِي المُؤْمِن" ولشعرت غنى واضحاً في النفس، حيث لم تعبأ بكلّ العوالم الغيبيّة والماديّة، ولأصبحت إرادتك قويّة حيث لم تفكّر في عالَمَيِ المُلك والملكوت ولم تجد لهما اللياقة لاحتضانك...
 
132

107

الدرس الحادي عشر:تهذيب العين (النظر الحرام)

 الدرس الحادي عشر:تهذيب العين  النظر الحرام 


أهداف الدرس
 • أن يتبيّن الطالب أهميّة العين وعلاقتها بالقلب.
 • أن يتبيّن آثار النظر المحرّم على قلبه وعمله.
 • أن يتعرّف إلى كيفيّة معالجة آفّة النظر الحرام.
 
 
133

108

الدرس الحادي عشر:تهذيب العين (النظر الحرام)

 العين هي نعمة إلهيّة كبرى للإنسان، إذ يبصر بها ما حوله من المخلوقات والأشياء فيستثمرها، وبها يقرأ الكتب ويرى الآخرين ويرى جمال الكون وعجائبه، إلا أنّها ومع كلّ هذا فقد تكون وبالاً على الإنسان في آخرته إذا لم يحسن استخدامها ضمن الحدود الّتي وضعها الله تعالى لها، فعن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "كم من نظرة جلبت حسرة"1.

 
 ارتباط العين بالقلب‏
 إنّ كلّ ما تمعن به العين النظر لا بدّ وأن تنطبع صورته في عقل الإنسان وقلبه، ويترك آثاراً في روحيّته ونفسيّته، حتّى لو نسيه في فترات معيّنه، إلّا أنّ آثاره الباطنيّة قد تبقى لتؤثّر بشكل غير مباشر، أو لتتفعّل في أوقات وظروف معيّنة، ولذا فإنّ هذا الأمر خطير على الإنسان، فالعين هي من أبواب حصن النفس، وفتح هذا الباب ليدخل منه كلّ صالح وطالح إلى النفس النظيفة سيتسبّب بتلوّثها، ولذا ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "العيون طلائع القلوب2"ويقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ
________________________________________
1- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج4، ص3289.
2- م. ن، ج4، ص3288.
135

109

الدرس الحادي عشر:تهذيب العين (النظر الحرام)

 إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ*وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾3.

النظر المحرَّم‏
وقد أكّدت الكثير من الروايات الشريفة على خطورة هذا النظر على روح الإنسان المؤمن وقلبه، لدرجة أنّها تفسد الإيمان وتنسي الآخرة والحساب، ففي الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام: "إذا أبصرت العين الشهوة عمي القلب عن العاقبة"4.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ عيسى بن مريم عليه السلام قال لأصحابه: إيّاكم والنظرة فإنّها تزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره في قلبه ولم يجعل بصره في عينه"5.
 
عواقب النظر المحرّم‏
إنّ جزاء النظر المحرّم عند الله تعالى شديد جدّاً بحيث إنّ بعض الروايات عبّرت عن صور عجيبة للّذي يملأ عينيه من النظر الحرام ومن هذه العواقب:
1- يملأ عينيه ناراً: ففي الرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "من ملأ عينه من حرام ملأ الله عينه يوم القيامة من النار، إلّا أن يتوب ويرجع"6.
 
2- الحسرة يوم القيامة: فعن الإمام عليّ عليه السلام: "كم من نظرة جلبت حسرة"7، والله أعلم بمقدار هذه الحسرة والندامة الّتي ستعتري الإنسان يوم القيامة حين يرى النعيم ويُمنع منه لأجل نظرة إلى حرام،
________________________________________
3- النور:30-31.
4- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج4، ص3288.
5- م. ن.
6- م. ن، ج4، ص3291.
7- م. ن، ج4، ص3289.
136

110

الدرس الحادي عشر:تهذيب العين (النظر الحرام)

يقول تعالى: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾8.
 
 3- الغضب الإلهيّ: فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "اشتدّ غضب الله عزَّ وجلَّ على امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها أو غير ذي محرم منها"9.
 
 آثار غضّ البصر
 كما أنّ للنظر إلى الحرام عواقب قد ذكرنا بعضاً منها فإنّ لغضّ البصر عن محارم الله تعالى آثاراً حميدة في الدنيا والآخرة، ومن هذه الآثار:
 1- حلاوة العبادة: فإنَّ الشيطان يسعى جاهداً ليوقع الإنسان في المحرّمات، الّتي يسهل الوقوع بها تحت ضغط الشهوات، كالنظر المحرّم، فعندما ينتصر الإنسان على شيطانه بعد جهاد النفس يجد حلاوة الانتصار من جهة ويزداد إيمانه رسوخاً وقلبه نوراً من جهة أخرى، كما يحصل للجيوش الّتي أنهكها التعب بعد انتصارها، وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه واله: "ما من مسلم ينظر امرأة أوّل رمقة ثمّ يغضّ بصره إلّا أحدث الله تعالى له عبادةً يجد حلاوتها في قلبه"10.
 
 2- راحة القلب: ففي الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام: "من غضّ طرفه أراح قلبه"11، ولعلّ راحة القلب تأتي بسبب التخلّص من هذا المرض القاتل للحسنات والذي يجرّ صاحبه إلى النار.
 
 3- الحصانة: وهي تحفظ الإنسان من الوقوع في الذنوب، ففي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما اعتصم أحد بمثل ما اعتصم بغضّ البصر،
________________________________________
8- مريم: 39.
9 ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج4، ص3291.
10- م. ن، ج4، ص3292.
137

111

الدرس الحادي عشر:تهذيب العين (النظر الحرام)

 فإنّ البصر لا يغضّ عن محارم الله إلّا وقد سبق إلى قلبه مشاهدة العظمة والجلال"12.

 
كيف تعالج آفة النظر؟
إنّ الذي يحفظ الإنسان ويمنعه من الوقوع في النظرة الحرام، ويعيده إلى الصواب، إذا وقع - لا سمح الله - في الانحراف، هما أمران أساسان:
 
أ- تقوى الله: إنّ الارتباط بالله تعالى وتقوى الله تعالى هما الأمر الأساس في حفظ الإنسان وابتعاده عن المحرّمات، وقد تمّ التأكيد على تقوى الله في موضوع النظر وأمراضه، وعن أمير المؤمنين عليه السلام حينما سُئل: بِمَ يُستعان على غمض البصر؟ فقال: "بالخمود تحت سلطان المطّلع على سرِّك"13، فإن كنّا عباداً لله تعالى فعلينا أن نقوم بواجبات العبوديّة من إطاعة أوامر الله تعالى والتجنّب عمّا نهى عنه ومن ذلك غضّ البصر، وإن كنّا عباداً لرغباتنا وشهواتنا ومتطلّباتها -والعياذ بالله من أن نكون كذلك - فقد خرجنا من دائرة العبوديّة لله تعالى إلى عبوديّة الشيطان وجنوده! ويصدق حينئذٍ قول إبليس: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾14.
 
ب- الحياء: فالحياء حاجز آخر يقف أمام انحراف الإنسان، وفي رواية عن رسول الله صلى الله عليه واله: "الحياء شعبة من الإيمان"15، وعنه صلى الله عليه واله: "إذا لم تستح فافعل ما شئت"16.
________________________________________
11- م. ن، ج4، ص3289.
12- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج4، ص3293.
13- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج101، ص41.
14- ص: 82 -83.
15- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 8، ص466.
16- م. ن.
138

112

الدرس الحادي عشر:تهذيب العين (النظر الحرام)

 خلاصة الدرس


- تعتبر العين نعمةً إلهيّة كبرى للإنسان إذ يبصر بها ما حوله من المخلوقات والأشياء فيستثمرها، إلّا أنّها قد تكون وبالاً عليه في آخرته إذا لم يحسن استخدامها ضمن الحدود الّتي وضعها الله تعالى لها.
 - لا بدّ من تأديب العين بتنزيهها عمّا يخالف الشريعة، وتأديبها بما يصلح لها في الآخرة، ومن الأمور الّتي أكّد الشرع الأقدس على تنزيه العين عنه، النظر المحرّم بجميع أشكاله وصوره.
 
 - إنّ جزاء النظر المحرّم عند الله تعالى شديد جدّاً، وله عواقب وخيمة، ومن هذه العواقب:
 1- أن يملأ الله عينيه ناراً.
 2- الحسرة يوم القيامة.
 3- أن يغضب الله تعالى عليه.
 
 - من آثار غضّ الطرف عن محارم الله تعالى:
 1- حلاوة العبادة.
 2- راحة القلب.
 3- الحصانة.
 
 - يمكن معالجة آفة النظر من خلال أمرين:
 أ - تقوى الله تعالى.
 ب - الحياء.
 
139

113

الدرس الحادي عشر:تهذيب العين (النظر الحرام)

 اسئلة

 
1- ما هي علاقة العين بالقلب؟
 2- ما هي الأمور الّتي يحرم النظر إليها؟
 3- ما هي آثار النظر المحرّم؟
 4- ما هي آثار غضّ البصر عن محارم الله تعالى؟
 5- ما هو علاج آفة النظر؟
 
للمطالعة

الوسوسة
 
 من مواعظ الإمام الخمينيّ قدس سره في كتاب "الأربعون حديثاً":
 ... ويجب على كلّ من يشكّ في حصول الوسوسة عنده، أن يكون مثل الناس العوامّ، في عرض عمله على العلماء والفقهاء، والاستفهام منهم بأنّه هل ابتلي عمله بمرض الوسوسة أم لا؟ لأنه كثيراً ما يكون الإنسان الوسواسيّ غافلاً عن حاله ومعتقداً بأنّه معتدل وأنّ الآخرين غير مكترثين بالدين ولكنّه إذا فكّر قليلاً لوجد أنّ مصدر هذا الاعتقاد هو الشيطان وإلقاءاته الخبيثة، لأنّه يرى بأنّ العلماء والفقهاء الكبار ومن الّذين يؤمن بعلمهم وعملهم بل ويكونون مراجع المسلمين في أخذ مسائل الحلال والحرام منهم يعملون بما يُغاير عمله ولا يستطيع القول بأنّ الملتزمين غالباً والعلماء والفقهاء لا يحفلون بدين الله وأنّ الإنسان الوسواسيّ وحده يتقيّد بالدين.
 
 وعندما يدرك ضرورة إصلاح العمل يدخلُ مرحلة العمل، والعمدة في هذه المرحلة عدم الاهتمام بالوساوس الشيطانيّة والأوهام الّتي تلقى عليه، فمثلاً
140

114

الدرس الحادي عشر:تهذيب العين (النظر الحرام)

 إذا كان مجتهداً ومبتلَى بالوسوسة في الوضوء فليتوضّأ مع غَرفة واحدة رغم وسوسة الشيطان، إنّ الشيطان يوسوس ويقول بأنّ هذا العمل ليس بصحيح ولكن يواجهه بأنّ عملي لو لم يكن صحيحاً؛ لوجب أن لا يكون عمل رسول الله صلى الله عليه واله والأئمّة الطاهرين عليهم السلام والفقهاء جميعاً صحيحاً لأنّ رسول الله صلى الله عليه واله والأئمّة الطاهرين قد توضّأوا في فترة طويلة تقرب من ثلاثمائة سنة، وكانت كيفيّة وضوء جميعهم واحدة فإذا كان عملهم باطلاً، فليكن عملي باطلاً أيضاً وإذا كنت مقلّداً لمجتهد فأجب الشيطان بأنّني أعمل على ضوء فتوى المجتهد، فإذا كان وضوئي باطلاً فلا يؤاخذني ربّي عليه، ولا تكون عليّ حجّته.

 
 وإذا أوقعك الشيطان الملعون في الشكّ قائلاً بأنّ المجتهد لم يقل هكذا فافتح رسالته العمليّة وتأكّد من صحّة العمل، فإذا لم تعبأْ بإلقاءاته عدّة مرات وعملت على خلاف رأيه غدا آيساً منك، ونرجو أن تكون المعالجة النهائيّة لمرضك كما ورد هذا المعنى في الأحاديث الشريفة:
 فعن الكافي بإسناده عن زرارة وأبي بصير قالا: "قُلْنَا لَهُ: الرَّجُلُ يَشُكُ كَثيراً في صَلاَتِهِ حَتَّى لا يَدْري كَمْ صَلّى وَلاَ مَا بِقِيَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: يُعيدُ. قُلْنَا لَهُ: فَإِنَّهُ يَكْثُر عَلَيْهِ ذلِكَ، كُلَّمَا أَعَادَ شَكّ. قَالَ: يَمْضِي فِي شَكِّهِ، ثُمّ قال: لاَ تُعَوِّدُوا الخَبِيثَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ بِنَقْضِ الصّلاةِ فَتُطْمِعوهُ فَإِنّ‏َ الشَّيْطَانَ خَبِيثٌ يَعْتَادُ لِمَا عُوِّدَ، فَلْيَمْضِ أَحَدُكُمْ فِي الوَهْمِ وَلاَ يُكْثِرَنّ‏َ نَقْضَ الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذلِكَ مَرّاتٍ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ الشَّكّ. قَالَ زُرَارَةُ: ثُمّ قَالَ: إِنَّمَا يُريدُ الخَبيثُ أَنْ يُطاعَ فَإِذَا عُصِيَ لمْ يَعُدْ إِلَى أَحَدِكُمْ".
 
 وبإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قالَ: "إذا كَثُرَ عَلَيْكَ السَّهْوُ فَامْضِ فِي صَلاَتِكَ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَدَعَكَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ".
 ومن الوضوح بمكان أنّك إذا خالفت الشيطان فترة من الزمان، ولم تُلْقِ بالاً
141

115

الدرس الحادي عشر:تهذيب العين (النظر الحرام)

 ًلوساوسه لانقطع طمعه عنك وعادت الطمأنينة والسكون إلى نفسك، ولكن في غضون أيّام تصدّيك للشيطان تضرّع إلى ساحة الحقّ المتعالي والتجئ إلى ذاته المقدّس من شرّ ذاك الملعون وشرّ النفس، واستعذ بالله منه وهو يعينك عليه...

 
142

116

الدرس الثاني عشر:تهذيب السمع

 الدرس الثاني عشر:تهذيب السمع


أهداف الدرس
 • أن يتبيّن الطالب أهميّة الأذن وتأثيرها في القلب.
 • أن يتعرّف إلى حقّ السمع.
 • أن يتبيّن حرمة الغناء.
 
 
143

117

الدرس الثاني عشر:تهذيب السمع

 حقّ السمع

 عن الإمام السجّاد عليه السلام: "وأمّا حقّ السمع، فتنزيهه عن أن تجعله طريقاً إلى قلبك، إلّا لفوهة كريمة تُحدِث في قلبك خيراً أو تُكسب خُلقاً كريماً، فإنّه باب الكلام إلى القلب يؤدّي إليه ضروب المعاني، على ما فيها من خير أو شرّ، ولا قوّة إلّا بالله"1.
 
 يختصر الإمام السجّاد عليه السلام في رسالة الحقوق وفي كلمات قليلة حقّ السمع الّذي لا بدّ وأن نراعيه ولكنّه يشير في أوّل كلامه عليه السلام إلى تأثير السمع في القلب، ومعرفة هذا التأثير يعتبرها الإمام عليه السلام من أوّل الحقوق.
 
 فهذا السمع في الحقيقة ما هو إلّا باب إلى قلب الإنسان وعقله، وإنّ نفس العضو المختصّ بالسمع أي الأذن لا يملك مصفاة تصفّي ما يصلح سماعه أم لا، بل إنّها تستقبل أيّ شي‏ء سواء كان حسناً أم قبيحاً.
 
 ومن هنا يأتي دور الإنسان، فعليه أن يتحكّم بما يسمعه من خلال وجوده في الأماكن الّتي لا يضطرّ فيها لسماع أمر غير مرغوب فيه، أو على الأقلّ عدم الإصغاء إليه.
________________________________________
1- تحف العقول، الحرّاني، ص257.
145

118

الدرس الثاني عشر:تهذيب السمع

 فما هو المطلوب أن ننزّه أسماعنا عنه؟ هناك الكثير من الضوابط الشرعيّة الّتي ينبغي مراعاتها، والكثير من الانحرافات الّتي ينبغي تنزيه الأذن عن سماعها، ولكن سنشير إلى أمر يُعتبر من أخطر المحرّمات على الأذن، وهو استماع الغناء.

 
نزّه سمعك عن الغناء
والغناء هو ترجيع الصوت على الوجه المناسب لمجالس اللهو، وهو من المعاصي ويحرم على المغنّي والمستمع، وأمّا الموسيقى فهي العزف على آلاتها، فإن كانت بالشكل المتعارف في مجالس اللهو والعصيان فهي محرّمة على عازفها وعلى مستمعها أيضاً2.
 
فالغناء من المحرمات الّتي جاء بها الكتاب يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾3، وفي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "الغناء ممّا وعد الله عليه النار"، وتلا هذه الآية4.
 
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الغناء يورث النفاق، ويعقب الفقر"5.
 
وكما يُحرم الاستماع للغناء فإنّه لا يجوز الحضور في مجلس الغناء والموسيقى المطربة اللهويّة المناسبة لمجالس اللهو والعصيان إذا أدّى ذلك للاستماع إليها أو إلى تأييدها6.
________________________________________
2- أجوبة الإستفتاءات، السيد علي الخامنئي، ج2، ص23.
3- لقمان:6.
4- وسائل الشيعة  آل البيت ، الحر العاملي، ج17، ص305.
5- م. ن، ج12، ص230.
6- أجوبة الإستفتاءات، السيد علي الخامنئي، ج2، ص119.
146

119

الدرس الثاني عشر:تهذيب السمع

 أثر الغناء في القلب‏

إنّ لكلّ عمل يقوم به الإنسان أثراً في قلبه، ويتبع الأثر في حُسنه أو قبحه طبيعة العمل، فإن كان العمل طاعة لله تعالى كان الأثر إيجابيّاً وحسناً ويجلب توفيقاً من الله تعالى، ولكنّ الطامّة الكبرى في أثر الأعمال الناشئة من حبّ الدنيا الّذي يُعتبر أساس كلّ المعاصي ومنه الغناء، يقول الإمام الخمينيّ: "اعلم أنّ ما تناله النفس من حظّ في هذه الدنيا، يترك أثراً في القلب، وهو من تأثير الملك والطبيعة، وهو السبب في تعلّقه بالدنيا. وكلّما ازداد التلذّذ بالدنيا، اشتدّ تأثّر القلب وتعلّقه بها وحبّه لها، إلى أن يتّجه القلب كُلّيّاً نحو الدنيا وزخارفها، وهذا يبعث على الكثير من المفاسد. إنّ جميع خطايا الإنسان وابتلاءه بالمعاصي والسيّئات سببها هذا الحبّ للدنيا والتعلّق بها"، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "حُبّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلّ خَطِيئَةٍ"7.

وللاستماع إلى الغناء أثر كبير في القلب الّذي يهمّ السالكين إلى الله تعالى أن يبقى أبيضَ ناصعاً غير ملوّث بأكدار المعاصي، فمن آثاره:
1-يورث النفاق:
عن الإمام الصادق عليه السلام: "استماع اللهو والغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرع"8.

2-مجلس الغناء محلّ غضب الله:
مجلس الغناء محلُّ غضب الله، فقد قال الإمام الصادق عليه السلام: "لا تدخلوا بيوتاً الله مُعْرِضٌ عن أهلها"9.
________________________________________
7- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني ، الحديث السادس.
8- م. ن.
9- م. ن.
147

120

الدرس الثاني عشر:تهذيب السمع

 وعنه عليه السلام: "بيت الغناء لا يُؤمَن فيه الفجيعة، ولا يُجاب فيه الدعوة، ولا يدخله الملائكة"10.

 
 3- يعذّب مستمعه بأنواع من العذاب:
 روي عن رسول الله صلى الله عليه واله: "يُحشر صاحب الغناء من قبره أعمى وأخرس وأبكم"11.
 وعن رسول الله صلى الله عليه واله: "خمسة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة.. إلى أن قال: والمغنّي"12.
 
 4- قد يؤدّي إلى الزنا:
 الغناء سبب ومقدِّمة للوقوع في الزنا، فعن رسول الله صلى الله عليه واله: "الغناء رَقيَّة الزنا"13.
 وحيث إنَّ الغناء هو صوت لهويّ ينبع من الشهوة واللذّة الحيوانيّة، فإنَّ من آثاره السيِّئة تحريك شهوة المغنِّي والمستمع، فيغفلان عن ذكر الله والآخرة بنحو يهيّئهما لارتكاب الفحشاء.
 
 تحذير من رسول الله صلى الله عليه واله 
 ولذلك جاء تحذير رسول الله صلى الله عليه واله من عواقب الغناء فعنه صلى الله عليه واله: "يظهر في أمّتي الخسف والقذف. قالوا: متى ذلك؟ قال صلى الله عليه واله: إذا ظهرت المعازف والقينات وشربت الخمور. والله ليبيتنّ أناس من أمّتي على أشر وبطر ولعب فيصبحون قردة وخنازير لاستحلالهم الحرام، واتخاذهم القينات، وشربهم
________________________________________
10- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج17، ص 303.
11- مستند الشيعة، المحقّق النراقي، ج14، ص132.
12- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج13، ص 213.
13- بحار الأنوار، المجلسي، ج76، ص 247.
148

 


121

الدرس الثاني عشر:تهذيب السمع

 الخمور، وأكلهم الربا، ولبسهم الحرير"14.


ثواب من نزّه نفسه عن الغناء
ما ورد كان لمن لم ينزِّه نفسه عن الغناء، فماذا ينتظر من نزّه نفسه عنه؟
عن الإمام الرضا عليه السلام: "من نزّه نفسه عن الغناء فإنَّ في الجنة شجرة يأمر الله عزَّ وجلَّ الرياح أن تحرّكها، فيسمع منها صوتاً لم يسمع مثله، ومن لم يتنزّه عنه لم يسمعه"15.
 
خلاصة الكلام
إنَّ مستعمري العالم يخافون دائماً من وعي الشعوب، وخاصّة الشباب، ولذلك فإنّ جانباً من برامجهم الواسعة لاستمرار الاستعمار وإدامته هو إغراق المجتمعات بالغفلة والجهل والضلال، وتوسعة وسائل اللهو المفسدة.
ونشر الغناء والموسيقى هو من أهمّ الوسائل الّتي يصرّ عليها المستعمرون لتخدير أفكار الناس، وإضعاف إرادتهم في المقاومة.
 
خلاصة الدرس
 
- السمع باب إلى قلب الإنسان وعقله، وإنّ العضو المختصّ بالسمع أي الأذن لا يملك مصفاة تصفّي ما يصلح سماعه أم لا، بل إنّها تستقبل أيّ شي‏ء سواء كان حسنا أم قبيحاً.
 - إنّ لكلّ عمل يقوم به الإنسان أثراً في قلبه، ويتبع الأثر في حسنه أو قبحه طبيعة العمل، فإن كان العمل طاعة لله تعالى كان الأثر إيجابيّاً وحسناً ويجلب
________________________________________
14- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج17، ص 311.
15- م. ن، ص‏ 317.
149

122

الدرس الثاني عشر:تهذيب السمع

 توفيقاً من الله تعالى، ولكن الطامّة الكبرى في أثر الأعمال الناشئة من حبّ الدنيا الّذي يعتبر أساس كلّ المعاصي ومنه الغناء.

 - الاشتغال بالملاهي والغناء من الكبائر ومن لهو الحديث ومن قول الزور ومن اللغو، وهو يورث النفاق ويبعد الملائكة ويؤدّي إلى الزنا والفواحش، ويبعد عن ذكر الله، وهو إحدى وسائل الاستعمار لإضعاف المسلمين وإرادتهم ومقاومتهم.
 
اسئلة
1- ما هي العلاقة بين السمع والقلب؟
 2- لماذا ينبغي تنزيه السمع عن الغناء؟
 3- ما هو أثر الغناء في النفس الإنسانيّة؟
 
150

123

الدرس الثاني عشر:تهذيب السمع

 للمطالعة


من قصص العلماء
 
 جاء في كتاب  دار السلام  للمحقّق النوريّ: عن السيّد حسن بن السيّد عليّ الأصفهانيّ أنّه قال: كنت مشغولاً بطلب العلم في النجف الأشرف حين مات أبي، وتعهّد بأعمال أبي بعض أخوتي، ولم يكن لي علم بتفاصيلها، وبعد مضيّ سبعة أشهُر من وفاته توفّيت أمّي في أصفهان، وحملوا جنازتها إلى النجف الأشرف، وفي ليلة من تلك الليالي رأيت والدي في المنام فقلت له: إنّك توفّيت في أصفهان وأنت الآن في النجف الأشرف، فقال بلى. بعد وفاتي نقلوني إلى هذا المكان. فسألته عن والدتي قريبة منك؟ فقال: هي في النجف ولكن في مكان آخر، وعلمت أنّها ليست بدرجة أبي فسألته عن حاله فقال: 
 
 كنت في الضيق والشدّة والآن ارتحت منهما فتعجّبت وقلت: هل مثلك من يعذب؟ فقال: نعم، إنّ الحاجّ رضا كان له عليّ دين وكان يطالبني به، لذا كنت في شدّة.
 
 يقول السيّد حسن الأصفهانيّ: فاستيقظت فزعاً، وكتبت رؤياي لأخي الّذي كان وصيّاً لوالدي وطلبت منه التحقيق في ذلك، فكتب لي في الجواب: إنّني فتشت في دفاتر ديون والدي فلم أجد اسم حاجّ رضا، فكتبت إليه: إجهد أن تعرف ذلك الشخص ثمّ تسأله ما إذا كان يطلب والدي.
 
 فكتب لي في الجواب: سألته: فقال: نعم كنت أطلب والدك ولم يكن يعلم بذلك أحد إلّا الله وقد سألتك بعد وفاته: هل يوجد اسمي في سجلّ الدائنين؟ فقلت لا، ولم يكن لديّ سند استند إليه في ذلك الدين، ولم يكن لي طريق لإثباته.
 لمّا سمعت ذلك أردت أن أدفع له ذلك المبلغ فلم يقبل، وقال قد أبرأت ذمّته.
151

124

الدرس الثاني عشر:تهذيب السمع

 تأمّل أيّها المؤمن في هذا الحديث: عن الإمام الباقر عليه السلام:"الظلم ثلاثة، ظلم يغفره الله، وظلم لا يغفره، وظلم لا يدعه الله، فأمّا الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، وأمّا الظلم الذي يغفره الله فظلم الرجل فيما بينه وبين الله، وأمّا الظلم الذي لا يدعه فالمداينة بين العباد"16.

________________________________________
16- الذنوب الكبيرة، دستغيب، ج‏2، ص‏22.
 
 
152

125

الدرس الثالث عشر:تهذيب البطن

 الدرس الثالث عشر:تهذيب البطن‏


أهداف الدرس
 • أن يتبيّن الطالب أهميّة البطن وتأثيرها على روحيّة الإنسان.
 • أن يتعرّف إلى حقّ البطن.
 • أن يدرك خطر أكل الحرام وأثره.
 
153

126

الدرس الثالث عشر:تهذيب البطن

 الطعام في الأصل هو ضرورة حياتيّة للإنسان، وقد جعل الله تعالى في الإنسان شهوة الطعام الّتي تدفع الإنسان نحو الأكل وبالتالي يتمّ تأمين حاجة البدن من الطعام بشكل يضمن بقاءه حيّاً.

 
 ولكن عندما يذهب الإنسان بعيداً في إشباع الغريزة الّتي تدعوه لتناول الأطعمة ويصبح الأكل الهمّ الأكبر لديه، فهنا ينحرف الإنسان عن الخطّ الّذي أراده الله تعالى له، فيتحوّل من إنسان أراده الله تعالى للعبادة الّتي تحقّق السعادة، إلى بهيمة هائمة لا ترى إلّا علفها، ومن هنا جاء الإسلام ليحافظ على إنسانيّة الإنسان من خلال التشريعات الّتي تقنّن عليه بعض الأنواع من الطعام الّتي ليس فيها صلاح له، ولتأديبه بآداب تخلص نتيجتها إلى أن يأكل الإنسان ليعيش لا أن يعيش ليأكل.
 
 نزّه بطنك عن الحرام‏
 إنّ الّذي يتأمّل فيما ورد عن الأئمّة عليهم السلام، من الأحاديث يجد حرصاً كبيراً على حلِّيَّة، ما يدخل في جوف الإنسان المؤمن، ففي الحديث عن الإمام السجّاد عليه السلام: "وأمّا حقّ بطنك، فأن لا تجعله وعاءً لقليل من الحرام ولا لكثير، وأن تقتصر له في الحلال، ولا تخرجه من حدّ التقوية إلى حدّ التهوين وذهاب المروّة،
155

127

الدرس الثالث عشر:تهذيب البطن

 وضبطه إذا هَمَّ بالجوع والظمأ، فإنّ الشبع المنتهي بصاحبه إلى التخم مكسلة ومثبطة ومقطعة عن كلّ برّ وكرم، وإنّ الريّ المنتهي بصاحبه إلى السكر، مسخفة ومجهلة ومذهبة للمروّة"1.

 
 إذاً، هناك العديد من الأمور الّتي أمرنا الله تعالى أن ننزّه أنفسنا عنها، ومنها:
 
 الخمر
 يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾2.
 فالخمرة هي أمّ الخبائث، وهي من المحرّمات الكبار الّتي تذهب بعقل الإنسان فيخسر دنياه، وتعرّضه لسخط الجبّار فيخسر الآخرة؛ وهذا هو الخسران المبين، ولقد وردت الروايات الكثيرة الّتي تنهى الإنسان عن تناول هذه المسكرات، وممّا يُفهم من بعض هذه الروايات أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه واله، تشدّد في عزل شارب الخمر اجتماعيّاً فأمر بمقاطعته فلا يزوّج ولا يؤتمن، ففي الرواية عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه واله: "من ائتمن شارب الخمر على أمانة بعد علمه فليس له على الله ضمان ولا أجر له ولا خلف"3.
 
 وفي رواية أخرى عنه صلى الله عليه واله: "شارب الخمر لا يزوّج إذا خطب"4.
 ومن جهة أخرى فقد صوّرت الروايات شارب الخمر في يوم القيامة بصور مرعبة ومقزّزة، ففي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "يأتي شارب الخمر يوم القيامة مسودّاً وجهه مدلعاً لسانه، يسيل لعابه على صدره، وحقّ على الله أن
________________________________________
1- تحف العقول، الحرّاني، ص258.
2- المائدة:90.
3- وسائل الشيعة  آل البيت  - الحر العاملي، ج 19، ص83.
4- م. ن، ج20، ص79.
156

128

الدرس الثالث عشر:تهذيب البطن

 يسقيه من  بئر خبال  قال: قلت: وما بئر خبال؟ قال: بئر يسيل فيها صديد الزناة"5.

 
 وفي رواية أخرى عن إمامنا الصادق: شارب الخمر يأتي يوم القيامة مسودا وجهه مائلاً شفته مدلعاً لسانه، ينادي العطش العطش6.
 
 الربا
 ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾7. الربا في القرض هو الإقراض مع اشتراط الفائدة، وقد حارب الإسلام الربا وعدّه من المكاسب المحرّمة، فمال الربا مال حرام وآكله آكل للمال الحرام، والسالك إلى الله تعالى لا بدّ له من أن يحرص على أن لا يشوب لحمه ودمه المال الحرام، فإنّ ذلك من الموانع الّتي تقف في طريق الإنسان للوصول إلى الله تبارك وتعالى وعن رسول الله صلى الله عليه واله: "شرّ المكاسب كسب الربا"8.
 
 المال الحرام
 المقصود به كلّ مال أخذ من غير ما أحلّه الله، كالمال الّذي يجنيه بائع المحرّمات كأشرطة الغناء والخمر، وكأكل أموال اليتامى ظلماً، يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾9.
 
 ومن المال الحرام أيضاً غشّ الناس في التجارات والبيع يقول الله تعالى:
________________________________________
5- وسائل الشيعة، ج25، ص297.
6- م. ن.
7- البقرة:275.
8- الوجيز في الفقه الإسلامي، ص57.
9- النساء:10.
 
157

129

الدرس الثالث عشر:تهذيب البطن

 ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾10.

 
ويقول في آية أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾11.
 
فيا أيّها السالك إلى الله تعالى احذر كلّ الحذر من المال الحرام أن يدخل إلى بطنك أو يمتزج بلحمك ودمك لأنّ ذلك يزيد من الحُجُب بينك وبين ربّك، ويجعلك تسير إلى أودية جهنّم لا إلى الله تعالى، وستكون من الأخسرين أعمالاً والعياذ بالله: ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾12.

القمار
من الذنوب الكبيرة القمار، وقد عبِّر عنه في القرآن الكريم بالميسِر، قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾13.
والميسِر يشمل كلَّ أنواع القِمار، وهو مأخوذ من كلمة "اليسر"، ذلك أنّ القمار ببساطة وبدون مشاقِّ الكسب والعمل يجعل أموال الآخرين في قبضة الإنسان. والتعبير في الآية الكريمة بالإثم الكبير، إشارة واضحة إلى كون القمار من الكبائر.
 
ومن الدلائل على أنَّ القمار من الذنوب الكبيرة قرنه في القرآن الكريم دائماً بالخمر وعبادة الأصنام، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ 
________________________________________
10- البقرة: 188.
11- النساء: 29.
12- الكهف:104.
13- البقرة: 216.
159

130

الدرس الثالث عشر:تهذيب البطن

 وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾14.

فهو يشترك مع الخمر في الكثير من المفاسد.
 
من مفاسد القمار
1- العداوة والبغضاء:
يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾15.
نلاحظ في الآية الكريمة جعل العداوة والبغضاء من آثار الخمر والميسر فالمقامر إمّا أن يربح أو يخسر، فإذا ربح فلا شكّ أنَّ البغض والحقد سيملأ قلب صاحبه الخاسر، حيث يرى أمواله التي حصل عليها بمشقّة وجهد، وكان متعلّقاً بها خرجت من يده بدون أيِّ عوض، وإن لم يستطع أن يتداركها في المجلس نفسه فإنَّه سيأخذ الحقد بدلها إلى آخر عمره ويتحيَّن الفرص للانقضاض على من كان سبباً في خسارته.
 
أمَّا إذا خسر فمعلوم أنّه سيعوّض عن خسارته بالحقد على صاحبه، وقد ينتهي مجلس القمار إلى الغضب والسبّ والشتم وهتك الأعراض والضرب وحتّى الجريمة الكبرى، القتل.
 
2- القمار يؤدّي إلى الفساد والتشرُّد:
والموضوع الآخر هو أنَّ المقامر إذا ربح فإنّه سيتّجه للتفكير بالفساد واللهو، وارتياد الحانات ومراكز الفحشاء والمنكرات والملاهي، لأنّه قد كسب هذا المال من دون جهد ولا تعب، وكما يقول المثل: "مال جاءت به الريح تذهب به
________________________________________
14- المائدة: 90.
15- المائدة: 91.
160

131

الدرس الثالث عشر:تهذيب البطن

 الريح"، وسوف يذهب المال هدراً وإسرافاً وتبذيراً بعد قليل من الزمان.

 
وعلى إثر الربح تشتدّ علاقته بالقمار، وتموت عنده روح النشاط والعمل والجدّ في طلب الرزق الحلال، وفي النتيجة يصبح إنساناً عاطلاً بطّالاً كسولاً خاملاً، شهوانيّاً، متحلّلاً، ويكون سعيه وهمُّه الوصول إلى مجالس القمار لعلّه يظفر بنصيب أكبر.
 
أمّا إذا خسر فإنَّه سوف تسيطر عليه الأعصاب الهائجة، ويهيج عنده الحسّ الانتقاميّ المتوحّش، لأجل تحصيل ما خسره من المال، وهنا سيحاول جهده تحصيل المال من أيّ طريق، وهنا أيضاً سيوصل نفسه مرّة أخرى إلى نوادي القمار.
 
3- الابتعاد عن ذكر الله والصلاة
ومن جملة المفاسد العظيمة للقمار، الغفلة عن ذكر الله والابتعاد عن طاعته، كما ذكرت الآية أعلاه: ﴿وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ﴾.
فحال الإنسان المقامر، في مجالس القمار والّتي تتضمَّن عادة شرب الخمر وسماع الأغاني والمفاسد ومصاحبة الفاسدين، أنّه يمضي عليه وقت الصلاة وهو مشغول بسكره وقماره ولهوه.
161

132

الدرس الثالث عشر:تهذيب البطن

 خلاصة الدرس

 
- الطعام في الأصل هو ضرورة حياتيّة للإنسان، وقد جعل الله تعالى في الإنسان شهوة الطعام الّتي تدفع الإنسان نحو الأكل، وبالتالي يتمّ تأمين حاجة البدن من الطعام بشكل يضمن بقاءه حيّاً، ولكن عندما يذهب الإنسان بعيداً في إشباع الغريزة الّتي تدعوه لتناول الأطعمة ويصبح الأكل الهمَّ الأكبر لديه، فهنا ينحرف الإنسان عن الخطّ الّذي أراده الله تعالى له، فيتحوّل من إنسان أراده الله تعالى للعبادة الّتي تحقّق السعادة إلى بهيمة هائمة لا ترى إلّا علفها.
 - يجب تنزيه البطن عن عدّة أمور: الخمر، الربا، المال الحرام.
 - من الكبائر القمار وله مفاسد كثيرة منها: إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس والابتعاد عن ذكر الله والصلاة.
 
 اسئلة
 
1- عمَّ ينبغي تنزيه بطن الإنسان؟
 2- أعطِ مثالاً عن المال الحرام.
 3- ما هو أثر الخمر في الحياة الإنسانيّة والمجتمعات؟
 4- ما هو أثر القمار في المجتمع وفي الفرد؟
 
162

133

الدرس الثالث عشر:تهذيب البطن

 للمطالعة


الآثار المهلكة للخمر والقمار
 
 لقد أثبت العلماء عدَّة مفاسد للخمر منها:
 أ- تأثيره في عمر الإنسان.
 ب- تأثيره في النسل.
 ج- أثره في الأخلاق العاطفيّة العائليّة، ممّا يقلِّل من انشداد المدمِن نحو زوجته وأولاده، حتّى قد يؤدّي إلى قتلهم، كما هو مشاهَدٌ في بعض الحالات.
 د- أضرار الكحول الاجتماعيّة: من ضرب وسرقة واحتيال وقتل وانتحار.
 هـ- الأضرار الاقتصاديّة: يقول أحد علماء النفس المشهورين: من المؤسف أنَّ الحكومات تحسب ما تدرّ عليها المشروبات الكحوليّة من ضرائب، ولا تحسب الميزانيّة الضخمة التي تنفق لترميم مفاسد هذه المشروبات. فلو حسبت الحكومات الأضرار الناتجة من المشروبات الكحوليّة، مثل زيادة الأمراض الجسميّة والروحيّة، وإهدار الوقت والاصطدامات الناتجة من السكر وفساد الجيل وانتشار روح التقاعس والتحلّل، والتخلّف الثقافيّ، والمشاكل الّتي تواجه رجال الشرطة ودور الحضانة المخصّصة لرعاية أبناء المخمورين، وما تحتاج إليه جرائم المخمورين من مستشفيات وأجهزة قضائيّة وسجون وغيرها من الخسائر والأضرار الناتجة من تعاطي الخمور، وقارنت هذه الخسائر بما تحصل عليه من ضرائب على هذه المشروبات لوجدت أنَّ الأرباح تكاد تكون تافهة أمام الخسائر...16.
 
 أمّا عن المضارّ الجسميّة للكحول فحدِّث ولا حرج:
________________________________________
16- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج‏2، ص‏117.
163

134

الدرس الثالث عشر:تهذيب البطن

1 - أثره في الدماغ

 2- أثره في الإدراك
 3- أثره في المعدة
 4- أثره في الكبد
 5- أثره في جهاز التنفس
 6- أثره في الكلية
 7- أثره في القلب
 8- أثره في القوّة العاقلة
 9- أثره في دوران الدم
 10- أثره في النسل إلى غير ذلك...17.
 
 أمّا بالنسبة إلى القمار فإليك إحصائيّة من الدوائر الإحصائيّة الأمريكيّة:
 إنّ القمار كان السبب المباشر في 30% من الجرائم، وفي إحصائيّة أخرى نرى وللأسف الشديد أنّ 90% من جرائم السرقة و50% من الجرائم الجنسيّة و10%من فساد الأخلاق و30% من الطلاق و40% من الضرب والجرح و5% من حوادث الانتحار إنّما هي بسبب القمار18.
________________________________________
17- انظر تفصيل ذلك: الذنوب الكبيرة، دستغيب، ج‏1، ص‏240.
18- الأمثل، ج‏4، ص‏144.
164

135

الدرس الرابع عشر:تهذيب اليد

 الدرس الرابع عشر:تهذيب اليد


أهداف الدرس
 • أن يتبيّن الطالب أهميّة اليد في طريقه إلى الآخرة.
 • أن يتعرّف إلى بعض ما ينبغي عمله بوساطة اليد.
 • أن يتعرّف إلى بعض ما ينبغي اجتناب ارتكابه بوساطة اليد.
 
166

136

الدرس الرابع عشر:تهذيب اليد

تمهيد

روي عن الإمام السجّاد زين العابدين عليه السلام: "... وأمّا حقّ يدك، فأن لا تبسطها إلى ما لا يحلّ لك بما تبسطها إليه من العقوبة في الآجل، ومن الناس بلسان اللائمة في العاجل، ولا تقبضها ممّا افترض الله عليها، ولكن توقّرها بقبضها عن كثير ممّا لا يحلّ لها، وتبسطها إلى كثير ممّا ليس عليها، فإذا هي قد عقلت وشرفت في العاجل، وجب لها حسن الثواب من الله في الآجل"1.

 

إنّ اليد كغيرها من الجوارح خلقها الله تعالى لما فيه فائدة الإنسان، فباليد يسعى الإنسان للعمل، وبها يجاهد في سبيل الله ويحمي نفسه وأرضه وعرضه، وباليد يتناول الأشياء... إلى الكثير من الفوائد الأخرى.

 

إلّا أنّ اليد كما يمكن الاستفادة منها في الأمور الّتي تصبّ في صالح الإنسان، فإنّه يمكن أن تكون سبباً لدخوله في حلقة العاصين المتعرّضين لسخط الملك الجبّار، من هنا فلا بدّ من الالتفات إلى اليد وتهذيبها حتّى تكون بكلّ أعمالها وحركاتها وسكناتها لله ربّ العالمين.

________________________________________

1- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج11، ص156.

168


137

الدرس الرابع عشر:تهذيب اليد

 عن ماذا ننزّه اليد؟

لقد حرّم الشارع المقدّس على يد الإنسان أموراً وأوعد عليها النار، لما لهذه الأمور من أثر سلبيّ في النفس وفي المحيط والمجتمع، ومن هذه الأمور الّتي حرّمها الشارع:
1- السرقة: وقد أشار الإمام الرضا عليه السلام إلى سبب تحريمها حيث قال: "حرّم الله السرقة لما من فساد الأموال وقتل النفس لو كانت مباحة، ولما يأتي في التغاصب من القتل والتنازع والتحاسد، وما يدعو إلى ترك التجارات والصناعات في المكاسب، واقتناء الأموال إذا كان الشي‏ء المقتنى لا يكون أحد أحقّ به من أحد"2.
 
والسرقة لا تتوقّف عند مدّ اليد إلى المال الموجود عند الآخرين وأخذه بل يشمل كلّ حقّ في مال الإنسان لا يُخرجه، ومن هذه الحقوق ما أشارت إليه الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "السرّاق ثلاثة: مانع الزكاة، ومستحلّ مهور النساء، وكذلك من استدان ولم ينوِ قضاءه"3.
 
2- الاعتداء على الغير: لم يترك الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وأهل البيت مناسبة إلّا وتحدّثوا فيها عن العلاقات الطيّبة بين الأخوة في الدين لكيلا يتحوّل المجتمع الإسلاميّ الأخلاقيّ المنسجم المترابط إلى حلبة للمصارعة والتضارب بين كلّ غاصب أو ذي قوّة متسلّط يستعرض بين الناس قوّته وبطشه، ففي الرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "... ألا ومن لطم خدّ امرئ مسلم أو وجهه بدّد الله عظامه يوم القيامة، وحُشر مغلولاً حتّى يدخل جهنّم إلّا أن يتوب"4.
________________________________________
2- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج2، ص1298.
3- م.ن، ج2، ص1299.
4- مكاتيب الرسول، الأحمدي الميانجي، ج2، ص149.
169

138

الدرس الرابع عشر:تهذيب اليد

 3- الإضرار بالآخرين: عن الإمام الرضا عليه السلام عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه واله: "ليس منّا من غشّ مسلماً أو ضرّه أو ماكره"5.

 
4- اللمس المحرّم: أي لمس الأجنبيّة بالمصافحة أو غيرها، وقد ورد في الرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "من صافح امرأة تحرم عليه، باء بسخط من الله"6.

اليد طريق للآخرة
بعد أن تحدّثنا عن بعض الأمور الّتي ينبغي تهذيب النفس عنها، نشير إلى الأمور الّتي يربح فيها المؤمن في آخرته من خلال يده، ومن هذه الأمور:
1- الجهاد في سبيل الله: يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾7حيث إنّ الله علّق حصول الفلاح على الجهاد.
 
وكذلك أكّدت روايات المعصومين عليهم الصلاة والسلام على أهميّته ففي الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: "فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه، وهو درع الله الحصينة وجنّته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذلّ وشمله البلاء"8.
 
2- الصدقة: والصدقة من المستحبّات الأكيدة، ولها أجر كبير عند الله تعالى إذا كانت بإخلاص له عزَّ وجلَّ، ومن آثار الصدقة أنّها:
أ- تظلّ المؤمن من حرّ يوم القيامة، ففي الحديث عن الرسول الأكرم
________________________________________
5- مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النمازي، ج6، ص457.
6- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص515.
7- المائدة:35.
8- نهج البلاغة، ج1، الخطبة27.
170

139

الدرس الرابع عشر:تهذيب اليد

 صلى الله عليه واله: "أرض القيامة نار، ما خلا ظلّ المؤمن فإنّ صدقته تظلّه"9.

 
ب- تدفع البلاء: ففي الحديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "الصدقة تدفع البلاء، وهي أنجح دواء، وتدفع القضاء وقد أبرم إبراماً، ولا يذهب بالأدواء إلّا الدعاء والصدقة"10.
 
ج- تخلف البركة: ففي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "الصدقة تقضي الدين وتخلف بالبركة"11.
 
يبقى أن نشير إلى أنّ أفضل الصدقات هي ما تستبطن الإيثار، ومثلنا الأعلى في ذلك أئمّتنا الأطهار عليهم السلام، فقد أنزل الله تعالى في مدحهم سورة الدهر حيث قال عزَّ من قائل: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا *إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا﴾12.
 
وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ صاحب الكثير يهون عليه ذلك، وقد مدح الله عزَّ وجلَّ صاحب القليل فقال: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾"13.
________________________________________
9- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج2، ص1594.
10- م. ن، ج2، ص1595.
11- م. ن، ج2، ص1597.
12- الدهر/ الإنسان:8-9.
13- الحشر:9.
171

140

الدرس الرابع عشر:تهذيب اليد

 خلاصة الدرس

 
-إنّ اليد كغيرها من الجوارح خلقها الله تعالى لما فيه فائدة الإنسان، فباليد يسعى الإنسان للعمل وبها يجاهد في سبيل الله ويحمي نفسه وأرضه وعرضه وباليد يتناول الأشياء... إلى الكثير من الفوائد الأخرى.
 -كما يمكن الاستفادة من اليد في الأمور الّتي تصبّ في صالح الإنسان، فإنّه يمكن أن تكون سبباً لدخوله في حلقة العاصين المتعرّضين لسخط الملك الجبّار.
 -ينبغي تنزيه اليد عن أمور، مثل: السرقة، الاعتداء على الغير، الإضرار بالمؤمنين، اللمس المحرّم.
 -من الأمور الّتي يكتسب فيها المؤمن آخرته من خلال يده: الجهاد، والصدقة.
 
اسئلة
 
1. كيف يمكن أن تسبّب اليد دخولَ صاحبها إلى النار؟
 2. اذكر بعض الأمور الّتي ينبغي أن يكتسب بها الإنسان آخرته من خلال يده.
 3. ما هي الآثار المترتّبة على الصدقة؟
 
172

141

الدرس الرابع عشر:تهذيب اليد

 للمطالعة


الرجاء والغرور
 
 من مواعظ الإمام الخمينيّ قدس سره في كتاب "الأربعون حديثاً":
 ولكن أيّها العزيز، كن على حذر، لئلّا تخلط بين الرجاء والغرور. فقد تكون مغتراً وتحسب نفسك من أهل الرجاء. إنّ من السهل التمييز بين الحالين في مباديهما، أنظر إلى هذه الحال الّتي فيك والّتي تظنّ نفسك بها بأنّك من أهل الرجاء، فهي إمّا أن تكون ناشئة من التهاون في أوامر الحقّ - سبحانه - والتقليل منها، وإمّا أن تكون ناجمة عن الاعتقاد بسعة رحمة الله وعظمة ذاته المقدّسة. وإذا عسر عليك التمييز بينهما أيضاً، أمكنك التمييز من خلال الآثار فإذا كان الإحساس بعظمة الله في القلب وكان قلب المؤمن محاطاً برحمة ذاته المقدّسة وعطاياه، لقام القلب بواجب العبوديّة والطاعة؛ لأنّ تعظيم العظيم المُنعم وعبادته من الأمور الفطريّة الّتي لا خلاف فيها.
 
 وإذا لم تكن في أداء واجبات العبوديّة، وفي بذل الجُهد والجدّ في الطاعة والعبادة معتمداً على أعمالك، ولم تحسب لها حساباً، وكنت آملاً رحمة الله وفضله وعطاءه، ووجدت نفسك مستحقّاً للّوم والذمّ والسخط والغضب بسبب أعمالك ولم تعتمد إلاّ على رحمة الجواد المطلق فأنت من أهل الرجاء فاشكر الله تبارك وتعالى، واطلب من ذاته المقدّسة أن يثبّت ذلك في قلبك، ويمنحك أعلى منه مقاماً.
 
 أمّا إذا كنت - لا سمح الله - متهاوناً في أوامر الحقّ تعالى ومستحقراً ومستهيناً بتعاليمه، فاعلم أنّه الغرور الحاصل في قلبك وأنّه من مكائد الشيطان، ومن نفسك الأمّارة بالسوء فلو آمنت بسعة الله ورحمته وعظمته لظهر أثر ذلك
 
173

142

الدرس الرابع عشر:تهذيب اليد

 فيك. إنّ المدّعي الّذي يخالف عمله دعواه يكذّب نفسه بنفسه والشواهد على هذا في الأحاديث المعتبرة كثيرة.

 
 ففي الكافي بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِالله قالَ: "قُلْتُ لَهُ: قَوْمٌ يَعْمَلُونَ بِالمَعَاصِي وَيَقولُونَ نَرْجُو فَلاَ يَزَالونَ كَذلِكَ حَتّى يَأْتِيَهُمُ المَوْتُ. فقَالَ: هؤُلاَء قَوْمٌ يَتَرَجَّحُونَ فِي الأَمَانِيّ. كَذَّبُوا لَيْسُوا بِرَاجِينَ، إِنّ‏َ مَنْ رَجَا شَيْئاً طَلَبَهُ وَمَنْ خَافَ مِنْ شَيْ‏ءٍ هَرَبَ مِنْهُ".
 
174

143

الدرس الخامس عشر:تهذيب القدم

الدرس الخامس عشر:تهذيب القدم


أهداف الدرس

 • أن يتبيّن الطالب أهميّة القدم في سيره إلى الآخرة.

 • أن يتعرّف إلى بعض ما ينبغي اجتنابه في مسيره.

 • أن يتعرّف إلى بعض ما ينبغي الإقدام عليه في مسيره إلى الله.

 

176

144

الدرس الخامس عشر:تهذيب القدم

 تمهيد

 إنّ القدمين اللتين أنعم الله تعالى بهما على الإنسان، واللّتين تحملان الإنسان إلى مقاصده، فيسير بهما في أرض الله باحثاً عن الرزق أو ساعياً في قضاء الحوائج، كغيرها من الجوارح الّتي تحدّثنا عنها كاللسان والعين، فإنّهما مثلها لا بدّ من أن يكونا تحت سيطرة العقل الّذي أدرك لزوم طاعة الله، واتباع الرسالة الإلهيّة. وما لم تكن كذلك فإنّ هذه القدم ستورد صاحبها النار، أو تعرّضه لسخط الجبّار، نعوذ بلطفه من غضبه، كما يمكن لها أن تورده الجنّة لو التزمت بما أملاه الشرع عليها من الحدود، فما هي الحدود الشرعيّة لهذه الجارحة؟ وما هي المحذورات الّتي ينبغي التنبّه لها والابتعاد عنها؟
 
 القدم والمعاصي‏
 هناك الكثير من النواهي المتعلِّقة باستخدام الإنسان للقدم، تعرّضت لها الشريعة، ومن هذه الأمور:
 1- المشي في خدمة الظَلَمة: إنّ تكثير أنصار الظالم هو تقوية له ومشاركة في ظلمه الّذي يرتكبه بحقّ الناس، ولذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه واله أنّه قال: "من مشى مع ظالم فقد أجرم"1.
________________________________________
1- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج13، ص125.
 
 
178

145

الدرس الخامس عشر:تهذيب القدم

 2- المشي لأصحاب البدع: لأنّ المشي إليهم هو دعم وتقوية لهم على المستوى العامّ، وهو يؤثّر في الفرد أيضاً ويمكن أن يتسبّب بانحرافه، لما يأتونه من أفكار ومشاريع لا تنسجم مع الدين، والأخلاقيّات، ومن هنا جاء في الرواية عن أبي عبد الله، عن أبيه، عن عليّ عليه السلام قال: "من مشى إلى صاحب بدعة فوقّره فقد مشى في هدم الإسلام"2.

 
القدم والطاعات‏
القدم أيضاً هي نعمة إلهيّة خلقها الله تعالى لتكون أداة إضافيّة يستفيد منها الإنسان ويعمر آخرته، فكيف تكون القدم أداة عمار الآخرة؟
يكون ذلك من خلال أمور كثيرة نشير إلى بعضها:
1- المشي إلى المساجد: إنّ للمسجد دوراً أساساً ومحوريّاً في حياة الإنسان المؤمن، ومعلَم ومنطلق لحياة المجتمع الإسلاميّ، حتّى نسبها الله تعالى إليه، يقول سبحانه: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾3من هنا كان التأكيد على المشي إلى المساجد، ومن الروايات الّتي تتحدّث عن فضله ما ورد عن الإمام أبي عبد الله الصادق، حيث قال: "عليكم بإتيان المساجد فإنّها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهّراً طهّره الله من ذنوبه وكُتب من زوّاره فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء"4.
 
2- المشي لقضاء حاجة المؤمن: والمشي في قضاء حوائج المؤمنين من أعظم العبادات وفضلها عظيم عند الله تعالى، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "من مشى مع أخيه المسلم في حاجته كتب الله له ألف 
________________________________________
2- وسائل الشيعة  آل البيت ، الحر العاملي، ج16، ص268.
3- الجن:18.
4- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج80، ص384.
179

146

الدرس الخامس عشر:تهذيب القدم

 ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيّئة، ورفع له ألف ألف درجة"5.وفي رواية أخرى عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه واله، قال: "من مشى إلى أخيه بدين ليقضيه إيّاه فله به صدقة"6.

 
 3- المشي لزيارة المراقد المطهّرة: وقد وردت فيها الروايات الكثيرة منها ما عن الإمام الرضا عليه السلام: "ما زارني أحد من أوليائي عارفاً بحقّي إلّا تشفّعت له يوم القيامة"7.
 وعنه عليه السلام: "من أتى قبر الحسين عليه السلام ماشياً كتب الله له بكلّ خطوة ألف حسنة، ومحى عنه ألف سيّئة ورفع له ألف درجة..."8.
 
 4- المشي في الجنائز: عن الإمام أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام: "من مشى مع جنازة حتّى يصلّى عليها كان له قيراط من الأجر فإذا مشى معها حتّى تدفن كان له قيراطان، والقيراط مثل جبل أحد"9.
 
 من مات ماشياً في طاعة الله تعالى‏
 ليس للموت موعد مسبّق وهو الّذي يدهم الناس فجأة بدون إذن، فما مصير من أدركه الموت وهو يمشي في طاعة من طاعات الله سبحانه وتعالى؟
 
 يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ضمنت لستّة الجنّة: رجل خرج بصدقة فمات فله الجنّة، ورجل خرج يعود مريضاً فمات فله الجنّة ورجل خرج مجاهداً في سبيل الله فمات فله الجنّة، ورجل خرج حاجّاً فمات فله الجنّة ورجل خرج إلى
________________________________________
5- مختلف الشيعة، العلامة الحلي، ج4، ص197.
6- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج7، ص263.
7- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج2، ص1199.
8- وسائل الشيعة  آل البيت ، الحر العاملي، ج14، ص440.
9- المعتبر، المحقّق الحلي، ج1، ص333.
180

147

الدرس الخامس عشر:تهذيب القدم

 الجمعة فمات فله الجنّة ورجل خرج في جنازة فمات فله الجنّة"10.ولكنّ المصيبة بل كلّ المصيبة أن يدركنا الموت ونحن على معصية الله تعالى، والعياذ بالله، نسأله تعالى حسن العاقبة وحسن الخاتمة.

خلاصة الدرس
 
- إنّ القدمين اللتين أنعم الله تعالى بهما على الإنسان لا بدّ من أن تكونا تحت سيطرة العقل الّذي أدرك لزوم طاعة الله، واتّباع الرسالة الإلهيّة. وما لم تكن كذلك فإنّ هذه القدم ستورد صاحبها النار أو تعرّضه لسخط الجبّار.
 - من الأمور الّتي ينبغي تنزيه القدم عنها: المشي في خدمة الظَّلَمة، المشي لأصحاب البدع.
 - من الأمور الّتي ينبغي المشي فيها: المشي إلى المساجد، المشي في الجنائز، المشي في قضاء حوائج المؤمنين، المشي إلى زيارة المراقد المطهّرة.
 
 اسئلة
 
1. ما هي الأمور الّتي ينبغي تنزيه القدم عنها؟
 2. اذكر بعض الأمثلة عن المشي العباديّ.
________________________________________
10- وسائل الشيعة  الإسلامية ، الحر العاملي، ج8، ص251.
 
 
181

148

الدرس الخامس عشر:تهذيب القدم

 للمطالعة


اليقظة من الغفلة
 
 من مواعظ الإمام الخمينيّ قدس سره في كتاب "الأربعون حديثاً":
 اعلم إذاً، أيّها العزيز، أنّ أمامك رحلة خطرة لا مناص لك منها، وأنّ ما يلزمها من عدّة وعدد وزاد وراحلة هو العلم والعمل الصالح. وهي رحلة ليس لها موعد معيّن، فقد يكون الوقت ضيّقاً جدّاً، فتفوتك الفرصة. إن الإنسان لا يعلم متى يُقرَع ناقوس الرحيل للانطلاق فوراً. إنّ طول الأمل المعشعش عندي وعندك الناجم من حبّ النفس ومكائد الشيطان الملعون ومغرياته، تمنعنا من الاهتمام بعالم الآخرة ومن القيام بما يجب علينا. وإذا كانت هناك مخاطر وعوائق في الطريق، فلا نسعى لإزالتها بالتوبة والإنابة والرجوع إلى طريق الله، ولا نعمل على تهيئة زاد وراحلة، حتّى إذا ما أزف الوعد الموعود اضطررنا إلى الرحيل دون زاد ولا راحلة، ومن دون العمل الصالح، والعلم النافع، الّلذين تدور عليهما مؤونة ذلك العالم، ولم نهيّى‏ء لأنفسنا شيئاً منهما. حتّى لو كنا قد عملنا عملاً صالحاً، فإنّه لم يكن خالصاً بل مشوباً بالغشّ، ومع آلاف من موانع القبول وإذا كنّا قد نلنا بعض العلم، فقد كان علماً بلا نتيجة وهذا العلم إمّا أنْ يكون لغواً وباطلاً، وإمّا أنّه من الموانع الكبيرة في طريق الآخرة. ولو كان ذلك العلم والعمل صالحين، لكان لهما تأثير حتميّ وواضح فينا نحن الّذين صرفنا عليهما سنوات طوالاً، ولغيّرا من أخلاقنا وحالاتنا. فما الّذي حصل حتّى كان لعملنا وعلمنا مدّة أربعين أو خمسين سنة تأثير معكوس بحيث أصبحت قلوبنا أصلب من الصخر القاسي؟ ما الذي جنيناه من الصلاة الّتي هي معراج المؤمنين؟ أين ذلك الخوف وتلك الخشية الملازمة للعلم؟ لو أنّنا أُجبرنا على الرحيل
 
182

149

الدرس الخامس عشر:تهذيب القدم

 ونحن على هذه الحال - لا سمح الله - لكان علينا أن نتحمّل الكثير من الحسرات والخسائر العظيمة في الطريق، ممّا لا يمكن إزالته!.

 
 إذاً، فنسيان الآخرة من الأمور الّتي يخافها علينا وليّ الله الأعظم، الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ويخاف علينا من الباعث لهذا النسيان وهو طول الأمل؛ لأنّه يعرف مدى خطورة هذه الرحلة، ويعلم ماذا يجري على الإنسان الّذي يجب أن لا يهدأ لحظة واحدة عن التهيُّؤ وإعداد الزاد والراحلة؛ عندما ينسى العالم الآخر، ويستهويه النوم والغفلة من دون أنّ يعلم أن هناك عالماً آخر، وأنّ عليه أن يسير إليه حثيثاً. وماذا سيحصل له وما هي المشاكل الّتي يواجهها؟
 
 يحسن بنا أن نفكّر قليلاً في سيرة أمير المؤمنين والنبيّ الكريم صلى الله عليه واله، وهما من أشرف خلق الله ومن المعصومين عن الخطأ والنسيان والزلل والطغيان، لكي نقارن بين حالنا وحالهما. إنّ معرفتهما بطول السفر ومخاطره قد سلبت الراحة منهما، وإنّ جهلنا أوجد النسيان والغفلة فينا.
 
 إنّ نبيّنا صلى الله عليه واله قد روّض نفسه كثيراً في عبادة الله، وقام على قدميه في طاعة الله حتّى ورمت رجلاه، فنزلت الآية الكريمة تقول له: ﴿طه* مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾11. وعبادات عليّ عليه السلام وتهجّده وخوفه من الحقّ المتعال معروفة للجميع.
 
 إذاً، اعلم أنّ الرحلة كثيرة المخاطر، وإنّما هذا النسيان الموجود فينا ليس إلاّ من مكائد النفس والشيطان، وما هذه الآمال الطوال إلاّ من أحابيل إبليس ومكائده. فتيقّظ أيّها النائم من هذا السبات وتنبّه، واعلم أنّك مسافر ولك مقصد، وهو عالم آخر، وأنّك راحل عن هذه الدنيا، شئت أم أبيت. فإذا تهيّأت للرحيل بالزاد والراحلة لم يصبك شي‏ء من عناء السفر، ولم تُصَبْ بالتعاسة
________________________________________
11- طه:2.
183

150

الدرس الخامس عشر:تهذيب القدم

 في طريقك، وإلاّ أصبحت فقيراً مسكيناً سائراً نحو شقاء لا سعادة فيه، وذلّة لا عزّة فيها وفقر لا غنى معه وعذاب لا راحة منه. إنّها النار الّتي لا تنطفئ والضغط الّذي لا يخفّف، والحزن الّذي لا يتبعه سرور، والندامة الّتي لا تنتهي أبداً.

 
 
 
184

151

الدرس السادس عشر:الحُضور في مواضع التهم

 الدرس السادس عشر:الحُضور في مواضع التهم


أهداف الدرس
 • أن يتبيّن الطالب خطورة الحُضور في مواضع التهم.
 • أن يتعرّف إلى آثار الحُضور في مواضع التهم.
 • أن يتعرّف إلى بعض من مصاديق مواضع التهم.
 
186

152

الدرس السادس عشر:الحُضور في مواضع التهم

 تمهيد

إذا كانت المستحبّات سياجاً للواجبات، بحيث إنّ الإنسان المؤمن إذا حافظ عليها، وأتى بها مهتمّاً بالقيام بما استطاع منها، فإنّه بطريق أولى لن يقصّر في أداء الواجبات، كذلك فإنّ المكروهات سياج المحرّمات، وبالتالي إذا هتك الإنسان المؤمن ستر المكروه، ولم يبالِ بفعله فلربّما تزلّ قدمه أحياناً، فيبادر إلى ارتكاب بعض المحرّمات.
 
ومن المسائل الخطيرة والابتلائيّة عند بعض المؤمنين، كما هو مشاهد في زماننا الحاضر، حضورُهم ووضع أنفسهم في مواضع وأماكن وحالات لا ينبغي لهم الحضور فيها، تارةً من ناحية شخصيّة، وأخرى بما يحمله من عنوانٍ ومسؤوليّة، وقد عبّرت الروايات الشريفة عنها بمواضع التهمة، وها هو أمير المؤمنين عليه السلام يوصي ولده الإمام الحسن عليه السلام بقوله: "إيّاك ومواطن التهمة والمجلس المظنون به السوء"1، وربّما يعود السبب في توقّي مواضع الشبهة والتهمة إلى أمور منها:
________________________________________
1- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج12، ص37.
188

153

الدرس السادس عشر:الحُضور في مواضع التهم

 1-الانجرار للمعصية:

 إنّ هذه الأماكن قد تدفع هذا الإنسان، بسبب وجود الشبهات والمحرّمات أحياناً، إلى الوقوع فيما لا يُحمد عقباه، وبالتالي فلا يلومنّ إلّا نفسه.
 
 2- اتهامه بالمعصية:
 أنّها مدعاة لاتهامه من قبل من يراه وشيوع ذلك بين الناس، وحينئذٍ لن ينفع التسويغ والاعتذار.
 فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "اتقوا مواقف الريب، ولا يقض أحدكم مع أمّه في الطريق؛ فإنّه ليس كلّ أحدٍ يعرفها"2.
 وما ذلك إلّا لدفع التهمة والقيل والقال، فيرحم نفسه ويرحم غيره، بعدم استغابته والإساءة إليه وفضحه.
 وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه واله قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفنّ مواقف التهمة"3.
 
 3- سوء الظنّ به:
 إنّ هذا الحضور سيؤدّي إلى إساءة الظّن به، ولو من الناحية القلبيّة فقط، من دون أن يبرز إلى الخارج بالكلام، ولا سيّما الغِيبة وغيرها.
 عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومنّ من أساء الظنّ به"4.
 
 وهنا لا بدّ من الإشارة، إلى أنّ الإنسان المؤمن العاقل، لا بدّ له من أن يصبغ
________________________________________
2- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج12، ص37.
3- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج8، ص340.
4- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج12، ص37.
189

154

الدرس السادس عشر:الحُضور في مواضع التهم

 كلّ أفعاله وأعماله بالصبغة الإلهيّة، أي أن تكون كلّ أحواله الظاهريّة والباطنيّة، موافقة للشرع المقدّس، وما أمر به الله عزّ وجلّ ورسوله وأولي الأمر سلام الله عليهم.

 
وبعبارة أخرى أن تكون أفعاله نابعة من التقوى، الّتي تحمي الإنسان وتحصّنه من الوقوع في الشبهات؛ لأنّه إذا نظر من منظار التقوى، فسوف يقيس كلّ فعلٍ أو عملٍ ينوي القيام به بميزان رضا الله وغضبه، ومن ثَمَّ يقدم أو لا يقدم عليه.
 
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إنّ من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المَثلات حجزته التقوى عن تقحّم الشبهات"5، والشرط الأساس لحصول مثل هذه التقوى، هو التفقّه في الدين، وتعلّم أحكام الحلال والحرام، وسلوك طريق الإحتياط، فإنّ به النجاة.
 
مواضع التهمة
نشير ههنا إلى بعض مواضع التهمة الّتي ينبغي الحذر منها أو الدخول فيها، وهي:
1- الأماكن المحرّمة:
وهي من أوضح مصاديق التهمة للأخ المؤمن إذا وُجد فيها، كنوادي السهر وأماكن الدعارة والمسابح المختلطة، الّتي لا يُتورّع فيها عن ارتكاب الحرام...

2- الأماكن المختلطة:
كالأعراس الّتي لا يُراعى فيها حرمة الاستماع إلى الغناء، والموسيقى، والنظر المحرّم.
________________________________________
5- نهج البلاغة، ج1، ص47.
 
 
190

155

الدرس السادس عشر:الحُضور في مواضع التهم

 3-الجلوس في الطرقات:

 وهي من العادات القبيحة عند بعض الأفراد، وقد تلازم النظر المحرّم إلى الفتيات، وتسبّب الحرج لبعض الأخوات بالمرور من ذلك الطريق.
 وقد نهانا أهل البيت عليهم السلام عن الجلوس في الطرقات، كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قبيل وفاته أنّه قال عليه السلام: "إيّاك والجلوس في الطرقات"6.
 
 وروي عن رسول الله صلى الله عليه واله أنّه قال لأصحابه: "إيّاكم والجلوس في الطرقات، فقالوا يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بدّ؛ نتحدّث فيها، فقال صلى الله عليه واله: إذا أبيتم إلّا المجلس فأعطوا الطريق حقّها.
 قالوا: وما حقّ الطريق يا رسول الله؟
 قال صلى الله عليه واله: "غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..."7.
 
 4- زيارة الأشخاص المشبوهين:
 الّذين تدور حولهم بعض علامات الاستفهام، لا سيّما مع انفلات الوضع الأمنيّ ووجود شبكات العملاء والمخبرين.
 
 5- صحبة الأشرار والفسّاق:
 ولا سيّما شارب الخمر ومتعاطي المخدّرات.
 عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "صحبة الأشرار تكسب الشرّ، كالريح إذا مرّت بالنتن حملت نتناً"8.
________________________________________
6- بحار الأنوار، المجلسي، ج72، ص465.
7- نيل الأوطار، ج6، ص59.
8- غرر الحكم، الآمدي، ص431.
191

156

الدرس السادس عشر:الحُضور في مواضع التهم

 وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "لا تصحب الفاجر فإنّه يعلّمك من فجوره"9.

 
الخلوة بالأجنبيّة
من أوضح المصاديق البارزة لمواضع التهمة وجلب إساءة الظنّ بالأخ المؤمن، وما يؤدّي به للوقوع بالحرام أمران:
أ- الخلوة بالأجنبيّة:
أي الجلوس مع إمرأة محرّمة عليه في مكان مشبوه، وقد ورد النهي المؤكّد عن ذلك في أقوال الأئمة عليهم السلام والعلماء، لما في ذلك من المفاسد ولا أقلّها النظر المحرّم وفوران الشهوة والتلذّذ.
 
ففي دعائم الإسلام: "عن رسول الله صلى الله عليه واله أنّه نهى عن محادثة النساء يعني غير ذوات الأرحام وقال: "لا يخلونّ رجل بإمرأة، فما من رجلٍ خلا بإمرأة إلّا كان الشيطان ثالثهما".
 
وعن جعفر بن محمّد عليه السلام قال: "حديث النساء من مصائد الشيطان".
 
ب -العقد على المشهورة بالزنا:
وهذه من المصائب الّتي قد يُبتلَى بها البعض، ولها مفاسد أخلاقيّة وصحيّة واجتماعيّة.
إذ إنّ بعض الشباب يسعى وراء شهوته فيفتّش عن هذه وتلك، ويسأل عن هذه وتلك، فيقع في النظر المحرّم والسؤال المحرّم المستتبع للأذى. وقد تصل به الحال إلى إرضاء شهوته مع أوسخ النساء وأحقرهنّ وأرذلهنّ، وهي المشهورة
________________________________________
9- بحار الأنوار، المجلسي، ج71، ص191.
192

157

الدرس السادس عشر:الحُضور في مواضع التهم

 بالزنا. وقد يؤدّي به إلى الوقوع في الزنا المحرّم والعياذ بالله، وهذا ما يسيء إلى المذهب وإلى الخطّ والنهج. سيّما إذا كان هذا الإنسان المؤمن يشكّل رمزاً أو شعاراً للخطّ أو للمذهب، أو يحمل مسؤوليّة، وبذلك يسيء إلى أهل البيت عليهم السلام ويجلب لهم الشنعة، والعياذ بالله.

خلاصة الدرس
 
- إنّ من صفات المؤمن عدم وضع نفسه في مواضع الشبهة والتهمة وما شابه.
 - لقد نبّه الإسلام العزيز إلى تجنّب مواضع الشبهة والتهمة، وذلك لعدّة أسباب:
 أ- إنّ مثل هذه المواضع قد يدفع بالإنسان للوقوع في الحرمة والمنكر.
 ب- تكوّن انطباعاً سيّئاً عند الناس حول حضور الإنسان في هكذا مواضع، فضلاً عن إساءة الظنّ به.
 - من مصاديق مواضع التهمة والشبهة، أماكن ارتكاب المحرّمات والمنكر وعدم مراعاة الضوابط الشرعيّة، فضلاً عن الجلوس في الطرقات وصحبة الأشرار، ومن أبرزها الخلوة بالأجنبيّة.
 
 اسئلة
 
 1. بيّن خطورة الجلوس في مواضع التهم.
 2. عدّد بعضاً من مصاديق مواضع التهم.
 3. عدّد بعضاً من مصاديق آثار الحضور في مواضع التهم.
 
193

 


158

الدرس السادس عشر:الحُضور في مواضع التهم

 للمطالعة


الزهد في الدنيا
 
 من خطبة لأمير المؤمنين يعظ فيها ويزهّد في الدنيا، قال عليه السلام: "نحمده على ما أخذ وأعطى وعلى ما أبلى وابتلى. الباطن لكلّ خفيّة، والحاضر لكلّ سريرةٍ، العالِم بما تكِنّ الصدور وما تخون العيون ونشهد أن لا إله غيره وأنّ محمّداً صلى الله عليه واله نجيبه وبعيثه. شهادةً يوافق فيها السّر الإعلانَ والقلب اللسانَ...
 
 فإنّه والله الجِدّ لا اللعب والحقّ لا الكذب، وما هو إلّا الموت أسمع داعيه وأعجل حاويه، فلا يغرنّك سواد الناس من نفسك، وقد رأيت من كان قبلك ممّن جمع المال، وحذر الإقلال، وأمِن العواقب، طول أمل واستبعاد أجل، كيف نزل به الموت فأزعجه عن وطنه وأخذه من مأمنه محمولاً على أعواد المنايا يتعاطى به الرجال الرجالَ، حملاً على المناكب وإمساكاً بالأنامل، أما رأيتم الّذين يأملون بعيداً ويبنون مشيداً ويجمعون كثيراً كيف أصبحت بيوتهم قبوراً وما جمعوا بوراً وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقومٍ آخرين، لا في حسنة فيزيدون، ولا من سيّئة يستعتبون. فمن أشعر التقوى قلبه برز مهله  أي التقدّم في الخير  وفاز عمله، فاهتبلوا هبلها  أي اطلبوا خيرها  واعملوا للجنّة عملها، فإنّ الدنيا لم تخلق لكم دار مقام بل خلقت لكم مجازاً لتزوّدوا منها الأعمال إلى دار القرار، فكونوا منها على أوفازٍ  أي كونوا منها على استعجال  وقرّبوا الظهور لِلزيالِ  أي فراق الدنيا "10.
________________________________________
10- نهج البلاغة، الخطبة 132، ص189.
194

 


159

الدرس السابع عشر:تهذيب الشهوة

 الدرس السابع عشر:تهذيب الشهوة


أهداف الدرس
 • أن يتبيّن الطالب خطر الشهوة.
 • أن يُدرك أهميّة الزواج في السيطرة على الشهوة.
 • أن يتعرّف إلى بعض المحرّمات الّتي قد تجرّنا الشهوة إليها.
 
196

160

الدرس السابع عشر:تهذيب الشهوة

أودع الله سبحانه وتعالى في الإنسان غريزة الشهوة نفعاً للعباد، إذ إنّه من خلال هذه الرغبة والغريزة يسعى الذكر والأنثى للزواج ومن ثَمَّ الإنجاب مساهمَيْن في ذلك باستمرار الوجود البشريّ على وجه الأرض، فلولا ما أودعه الله تعالى من الرغبة بين الذكر والأنثى لم نكن اليوم موجودين في هذه الحياة.

 

 هذه الحكمة الّتي أرادها الله تعالى من خلق الغريزة لدى الإنسان، قد تنحرف لتذهب في جهة الإفراط أو التفريط، بينما أراد لها الله تعالى أن تكون نافعة دون إفراط أو تفريط.

 

 كبت الشهوة

 لقد ذهبت بعض الأديان الموجودة إلى قمع هذه الغريزة واعتبرتها أمراً ثانويّاً بحيث لو أمكن اجتنابُها عنها قدر الإمكان أو أمكن الاستغناء عنها بشكل كامل لكان ذلك أفضل، يقول "بولس" في أحد ردوده على أسئلة وردت إليه: "أمّا بشأن ما كتبتموه لي فخير للرجل أن لا يلمس المرأة، ولكن تجنباً من الزنا على كلّ رجل أن يحتفظ بزوجته... لذا أقول للعزّاب والنساء الأرامل من الخير لهم أن يبقوا مثلي"1 أي أعزبَ طوال العمر. ويعلّق أحد الفلاسفة

________________________________________

1- الأفكار والميول، الأستاذ تقي فلسفي ج2، ص 169.

 

 

198
 

161

الدرس السابع عشر:تهذيب الشهوة

 الغربيّين "راسل" على ذلك قائلاً: إنّ بولس لم يُشر إلى مسألة الأولاد وكأنّه غاب عن نظره الهدف البيولوجيّ من الزواج، ويعقّب قائلاً: "لا يسعني القول إلّا أنّها إفرازات عقل مريض"2.

 
 تحرير الشهوة
 في المقابل ذهب بعض الفلاسفة إلى جهة النقيض، حيث حبَّذوا أن تُعطَى الحريّة الكاملة للإنسان في تلبية الغرائز لديه بدون أيّ رقابة أو منع حتّى لا يحصل هناك كبت أو أيّة عُقَد أخرى، بل اعتبرها بعضهم أمثال فرويد بأنّها أساس التمدّن والثقافة وجميع الأفكار الإنسانيّة، والتغيّرات الاجتماعيّة3.
 
 الحلّ الوسط
 ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾4.
 إنّ الدين الإسلاميّ العظيم الّذي وضعه الله تعالى ليوفّر السعادة للإنسان، تعاطى مع هذه الغريزة بالوسطيّة، حيث لم يذهب إلى كبتها كبتاً شديداً يولّد الإضرار بالفرد، ويخلق لديه ردّة فعل عكسيّة، كما حصل بعد انهيار الكنيسة في أوروبا، وكذلك لم يحرّر الإنسان من كلّ القيود، كما ذهب إلى ذلك فرويد وأتباعه، بل سلك المنهج الوسط، فدعا إلى تلبية ندائها من خلال الزواج الشرعيّ الّذي يُعتبر الإطار الطبيعيّ لتلبية الرغبات الإنسانيّة، ففي الرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "النكاح من سنّتي، فمن رغب عنه فقد رغب عن سنّتي"5.
________________________________________
2- الأفكار والميول، الأستاذ تقي فلسفي, ج2، ص 169.
3- م. ن، ج2، ص175.
4- البقرة:143.
5- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري ج14، ص153.
199

162

الدرس السابع عشر:تهذيب الشهوة

 وعنه صلى الله عليه واله أيضاً: "ما بني بناء في الإسلام أحبّ إلى الله من التزويج"6. وقد أكّد الرسول الأكرم صلى الله عليه واله نبيّ الإسلام وخاتم الأنبياء عليهم السلام على الزواج وخاصّة جيل الشباب؛ لأنّه في هذا العمر أي عمر الشباب تكون الغريزة في أعلى مستوياتها، فالتحصين بالزواج الشرعيّ يعصم الشباب من الوقوع في الزلل ويمنعهم من سلوك دروب الانحراف، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباه فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فليصم، فإنّ الصوم له وجاء"7.

 
 ما وراء الزواج 
 إنّ تهذيب النفس يبدأ بتهذيب الجوارح، وبالتالي الغرائز الّتي تقف من ورائها، وقد حصر الإسلام السبيل لإفراغ هذه الغريزة، عبر الحياة الزوجيّة بالشروط الشرعيّة، واعتبر كلّ علاقة أو عمل آخر من خارج هذا الإطار عملاً محرّماً يُعاقب الله تعالى عليه، ومن الأمور الّتي أكّد الإسلام على تحريمها:
 
 أ- الزنا: 
 يقول الله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾8.
 
 لقد شدّد الإسلام على حرمة الزنا، وهذا ما يتجلّى في الآية الكريمة الّتي أمرت أن يعاقب مرتكب هذه الفاحشة أمام الناس بالجلد، لكي يحصل الاعتبار وينتهي الناس عن هذه الرذيلة الّتي تُضيّع الأنساب وتزرع الفساد في المجتمعات، ففي الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام: "حُرّم الزنا لما فيه من الفساد من قتل 
________________________________________
6- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري ج14، ص153.
7- م. ن.
8- النور:2.
 
200

163

الدرس السابع عشر:تهذيب الشهوة

 الأنفس وذهاب الأنساب وترك التربية للأطفال وفساد المواريث، وما أشبه ذلك من وجوه الفساد"9.

 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إيّاكم والزنا فإنّ فيه ستّ خصال، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، فأمّا اللواتي في الدنيا، فيذهب بالبهاء ويقطع الرزق الحلال ويعجّل الفناء إلى النار، وأمّا اللواتي في الآخرة فسوء الحساب وسخط الرحمان والخلود في النار"10.
 
كما أنّ الزنا من أكبر الكبائر كما ورد في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام: في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾11، قال: "معصية ﴿وَمَقْتًا﴾ فإنّ الله يمقته ويبغضه، قال: ﴿وَسَاء سَبِيلاً﴾ هو أشدّ الناس عذاباً، والزنا من أكبر الكبائر"12.
 
ب- العلاقة بين المثليّين:
فقد ورد في الحديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "إنّ أخوف ما أخاف على أمّتي من عمل قوم لوط"13.
وقد أمر الله تعالى أن يُعاقب فاعل هذا العمل في الدنيا بعذاب شديد ففي الرواية أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لشخص أراد أن يُقيم عليه الحدّ: "يا هذا إنّ رسول الله صلى الله عليه واله حكم في مثلك بثلاثة أشياء فاختر أيّهنّ شئت، قال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: ضربة بالسيف في عنقك بالغة ما بلغت، أو دهداه من جبل مشدود اليدين والرجلين، أو إحراق بالنار"14.
________________________________________
9- علل الشرائع، الشيخ الصدوق, ج2، ص479.
10- م. ن.
11- الإسراء:32.
12- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري, ج4، ص1160.
13- م. ن، ج4، ص2806.
14- جواهر الكلام، الشيخ الجواهري, ج41، ص376.
201

164

الدرس السابع عشر:تهذيب الشهوة

 وفي رواية أنّ إحدى النساء سألت الإمام الصادق عليه السلام: أخبرني عن الّلواتي مع الّلواتي، ما حدّ ما هنّ فيه؟ قال عليه السلام: "حدّ الزانية، إذا كان يوم القيامة يؤتى بهنَّ‏ قد أُلبسن مقطّعات من النار، وقُنّعن بمقانع من نار، وسُربلن من نار، وأُدخل في أجوافهنّ إلى رؤوسهنّ أعمدة من نار، وقُذف بهنَّ في النار، أيّتها المرأة! أوّل من عمل هذا العمل قوم لوط، فاستغنى الرجال بالرجال، وبقي النساء بغير رجال، ففعلن كما فعل رجالهنّ"

15.
 
ج- الإشباع الذاتيّ:
أي أن يُشبع الإنسان رغبة الغريزة من دون العلاقة بالطرف الآخر وهو المسمّى بالاستمناء، وقد حرّم الإسلام هذا النوع من العمل بكلّ أشكاله وصوره، ففي الرواية أنّ الإمام الصادق عليه السلام سُئل، عن الخضخضة فقال: "إثمٌ عظيم قد نهى الله تعالى عنه في كتابه.... ولو علمت من يفعل ما أكلت معه، فقال السائل: فبيّن لي يا بن رسول الله، من كتاب الله نهيه"، فقال: قول الله: ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾16وهو ما وراء ذلك، فقال الرجل: أيّهما أكبر الزنا أو هي؟ قال: "ذنب عظيم. ثمّ قال للقائل: بعض الذنوب أهون من بعض، والذنوب كلّها عظيمة عند الله لأنّها معاص"17...
 
العلاج
لقد أرشدنا الأئمّة عليهم السلام إلى حلّ لمن لا يقدر على الزواج لكي يخفّف من الضغط الحاصل له إزاء فوران هذه الغريزة، وذلك من خلال نفي الأسباب الّتي تؤدّي إلى ثورانها وذلك ضِمْنَ عدّة أمور ذكرها الإمام السجّاد زين 
________________________________________
15- الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص552.
16- المؤمنون:7.
17- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري ج14، ص355.
202

165

الدرس السابع عشر:تهذيب الشهوة

 العابدين عليه السلام في رسالة الحقوق فقال: "... والاستعانة عليه بغضّ البصر، فإنّه من أعون الأعوان، وكثرة ذكر الموت، والتهدّد لنفسك بالله، والتخويف لها به، وبالله العصمة والتأييد، ولا حول ولا قوّة إلّا به"18.

 
فذكر الموت يزهّد الإنسان في الدنيا ويجعلها أمراً تافهاً في نظره، وأمّا التخويف فلأنّه يجعل في قلب الإنسان منبّهاً إلى العاقبة الّتي تنتظره لو اقترف الفعل الخاطى‏ء، والدعاء إلى الله تعالى بأن يرفع الهمّ، فالاعتصام بالله تعالى وطلب العون منه يجعلان الإرادة لدى الإنسان السالك إلى الله تعالى إرادة حديديّة؛ لأنّ الله يعطيه بالدعاء توفيقاً خفيّاً وقوّة لم يشعر بها من قبل، وبذلك يعصم النفس الأمّارة من الانقياد وراء الشهوات بتوفيق الله تعالى وسعيه لطاعته.
 
خلاصة الدرس
- خلق الله تعالى في الإنسان غريزة الشهوة الّتي أودعها الله تعالى لحكمته ولنفع العباد، إذ إنّه من خلال هذه الرغبة والغريزة يسعى الذكر والأنثى للزواج ومن ثَمَّ الإنجاب مساهمين في ذلك باستمرار الوجود البشريّ على وجه الأرض.
 - لقد ذهبت بعض الأديان الموجودة إلى قمع هذه الغريزة واعتبرتها أمراً ثانويّاً بحيث إنّهم اعتبروا لو أمكن الاجتناب عنها قدر الإمكان أو أمكن الاستغناء عنها بشكل كامل لكان ذلك أفضل.
 - في المقابل ذهب بعض الفلاسفة إلى جهة النقيض، حيث حبَّذوا أن تُعطَى الحرية الكاملة للإنسان في تلبية الغرائز لديه بدون أيّة رقابة أو منع.
 - سلك الدين الإسلاميّ المنهج الوسط فدعا إلى تلبية ندائها من خلال الزواج
________________________________________
18- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري ج14، ص157.
203

166

الدرس السابع عشر:تهذيب الشهوة

 الشرعيّ الّذي يعتبر الإطار الطبيعيّ لتلبية الرغبات الإنسانيّة.

 
 - إنّ تهذيب النفس يبدأ بتهذيب الجوارح وبالتالي الغرائز الّتي تقف من ورائها، وقد حصر الإسلام السبيل لإفراغ هذه الغريزة، عبر الحياة الزوجيّة بالشروط الشرعيّة، واعتبر كلّ علاقة أو عمل آخر من خارج هذا الإطار عملاً محرّماً يعاقب الله تعالى عليه، ومن الأمور الّتي أكّد الإسلام على تحريمها:
 1- الزنا.
 2- علاقة المثليّين.
 3- الإشباع الذاتيّ.
 - لقد أرشدنا الأئمّة عليهم السلام إلى حلّ لمن لا يقدر على الزواج لكي يخفّف من الضغط الحاصل له إزاء فوران هذه الغريزة، وذلك من خلال نفي الأسباب الّتي تؤدّي إلى ثورانها.
 
اسئلة
 
1. ما هو الهدف الإلهيّ لخلق الشهوة في الإنسان؟
 2. ما هي نظرة بولس إلى الزواج، وكيف تردّ عليها؟
 3. ما هي نظرة فرويد إلى الشهوة، وكيف نردّ عليه؟
 4. أوضح النظرة الإسلاميّة الوسطيّة لإشباع الرغبات.
 5. كيف يحِدّ الإنسان المسلم من فوران الغريزة؟
 
204

167

الدرس السابع عشر:تهذيب الشهوة

 للمطالعة


حقيقة التوحيد
 
 من مواعظ الإمام الخمينيّ قدس سره في كتاب "الأربعون حديثا":
 يا من تدّعي الإِيمان وخضوع القلب في حضرة الله ذي الجلال، إذا كنت تؤمن بكلمة التوحيد، ولا يعبد قلبك غير الواحد، ولا يطلب غيره، ولا ترى الألوهيّة تُستحقّ إِلاّ لذاته المقدّسة، وإذا كان ظاهرك وباطنك يتّفقان فيما تدّعي، فلماذا نجدك وقد خضع قلبك لأهل الدنيا كلّ هذا الخضوع؟ لماذا تعبدهم؟ أليس ذلك لأنّك ترى لهم تأثيراً في هذا العالم، وترى أنّ إرادتهم هي النافذة، وترى أنّ المال والقوّة هما الطاقة المؤثّرة والفاعلة؟ وأنّ ما لا تراه فاعلاً في هذا العالم هو إرادة الحقّ تعالى، فتخضع لجميع الأسباب الظاهريّة، وتغفل عن المؤثّر الحقيقيّ وعن مسبّب جميع الأسباب؟ ومع كلّ ذلك تدّعي الإِيمان بكلمة التوحيد. إذاً، فأنت أيضاً خارج عن زمرة المؤمنين، وداخل في زمرة المنافقين ومحشور مع أصحاب اللسانَيْن.
 
 وأنت يا من تدّعي الزهد والإِخلاص، إذا كنت مخلصاً حقّاً، وأنّك لأجل الله ولأجل دار كرامته تزهد عن مشتهيات الدنيا، فما الذي يحملك على أن تفرح بمدح الناس لك والثناء عليك بقولهم إنّك من أهل الصلاح والسداد؟ فيملأ السرور قلبك، ولماذا لا تبخل بشي‏ء في سبيل مجالسة أهل الدنيا وفي سبيل زخارفها، وتفرّ من الفقراء والمساكين؟
 
 فاعلم أنّ زهدك وإخلاصك ليسا حقيقيّين، بل إنّ زهدك في الدنيا هو من أجل الدنيا، وإنّ قلبك ليس خالصاً لوجه الله، وإنّك كاذب في دعواك، وإنّك من المتلوّنين المنافقين...
205

168

الدرس السابع عشر:تهذيب الشهوة

 وأنت يا من تدّعي امتلاك الحكمة الإِلهيّة، والعلم بحقائق المبدأ والمعاد، إذا كنتَ عالماً بالحقائق في الأسباب والمسبّبات، وإذا كنت حقّاً عالماً بالصور البرزخيّة وأحوال الجنّة والنار، فلا بُدّ من أن لا يقرّ لك قرار، وعليك أن تصرف كلّ وقتك في إعمار عالم البقاء، وأن تهرب من هذه الدنيا ومغرياتها، فأنت عالم بما هنالك من مصائب وظلام وعذاب لا يُطاق. إذاً، لماذا لا تتقدّم ولو خطوة واحدة خارج حجب الكلمات والألفاظ والمفاهيم، ولم تؤثّر في قلبك البراهين الفلسفيّة قدر جناح ذبابة؟ إذاً، أنت خارج عن زمرة المؤمنين والحكماء، ومحشور في زمرة المنافقين، وويل للّذي يقضي عمره وسعيه في علوم ما وراء الطبيعة، دون أن يسمح له انتشاؤه بخمر الطبيعة ولو بدخول حقيقة واحدة إلى قلبه.

 
 وأنت يا من تدّعي المعرفة والانجذاب والسلوك والمحبّة والفناء، إذا كنت حقّاً من أهل الله ومن أصحاب القلوب، ومن ذوي السابقة الحسنة، فهنيئاً لك. ولكنّ كلّ هذه الشطحات وهذا التلوّن وتلك الادّعاءات اللّامسؤولة الّتي تكشف عن حبّ الذات ووسوسة الشيطان، تتعارض مع المحبّة والانجذاب "إنّ‏َ أَوْلِيَائِي تَحْتَ قِبَابِي لاَ يَعْرِفُهُمْ غَيْرِي". فأنت إذا كنت من أولياء الله المنجذبين إليه ومحبّيه، فإنّ الله يعلم بذلك، فلا تظهر للناس مدى مقامك ومنزلتك بهذه الصورة، ولا تسعَ لتلفت قلوب عباد الله الضعيفة من وجهة خالقها إلى وجهة المخلوق ولا تغتصب بيت الله. واعلم أنّ عباد الله أعزّاء وقلوبهم ثمينة ويجب أن تشتغل في محبّة الله، فلا تتلاعب إلى هذا الحدّ ببيت الله، ولا تتعرّض لحرماته "فَإنّ‏َ لِلْبَيْتِ رَبّاً" فإذا لم تكن صادقاً في دعاواك، فأنت في زمرة أهل النفاق ومن ذوي الوجهين.
 
206

169

الدرس الثامن عشر:دواء القلوب

الدرس الثامن عشر:دواء القلوب


أهداف الدرس

 • أن يتبيّن الطالب كيفيّة العلاج من الأمراض القلبيّة.

 • أن يتعرّف إلى جملة من أدوية القلب.

 

208

170

الدرس الثامن عشر:دواء القلوب

 تمهيد

 بعد أن تعرّفنا على بعض من أمراض الذنوب وآثارها المهلكة، لا بدّ من أن نتعرّف أيضاً على الدواء والعلاج المناسب لها؛ لأنّ لكلّ داء دواء، كما ورد في الخبر، لكنّ الأهمّ من معرفة الداء هو معرفة الدواء وكيفيّة العلاج، وقد أرشدنا الله عزّ وجلّ في محكم كتابه وكذلك أهل البيت عليهم السلام في الروايات الشريفة إلى ذلك، وما علينا إلّا وضع الأمور في مواضعها والاستفادة منها.
 
 ومقدّمة لا بدّ للإنسان من أنْ يعرف أنّ له بُعداً مادّياً وهو الجسم، وبعداً معنويّاً وهو الروح، وكما يهتمّ كلّ واحد منّا بجسمه فإنّ عليه أن يهتمّ بروحه أيضاً؛ لأنّ كلّاً منهما له حقّ لا بدّ من أدائه.
 
 لذا، وكما تهتمّ بصحّتك وأكلك وشربك، وتسعى جاهداً من أجل المحافظة على جسمك، فتسارع إلى مداواته عند المرض وحلول السقم خوفاً من الموت والهلاك، كذلك لا بدّ - وبطريق أولى - من الاهتمام بقلبك وروحك، وغذائهما، لئلّا تمرض أيضاً، فيقسو قلبك ويختم عليه، فتعجز حينئذٍ عن علاجه، وبالتالي يؤدّي إلى الهلاك الدنيويّ والأخرويّ.
 
 ويا للعجب! من أقوامٍ يهتمّون بأبدانهم، وهذه الأبدان زائلة فانية يأكلها الدود
 
210

171

الدرس الثامن عشر:دواء القلوب

 وتصبح رميماً وتراباً، ولا يهتمّون بأرواحهم الخالدة الباقية، إمّا في الجنّة أو في النار.

 
 عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "عجبت لأقوامٍ يحتمون الطعام مخافة الأذى، كيف لا يحتمون الذنوب مخافة النار!"1.
 
 كيف نعالج أمراضنا الأخلاقيـّة؟
 لنفترض أنّنا أصبنا بأيّ مرضٍ أخلاقيّ، كالكذب والغِيبة والسرقة وغيرها.
 
 فالخطوة الأولى: في طريق العلاج والشفاء، هي التشخيص الصحيح لنوع المرض، ومدى تجذّره في قلوبنا.
 
 الثانية: لا بدّ من معرفة سبب المرض؛ لأنّ العلاج قد يكون بعلاج السَّبب فيزول المسبَّب عنه. مثلاً لماذا أكذب؟ هل هو لنقصٍ في شخصيّتي، أم لأجل مصلحة دنيويّة أم لأجل؟.. الخ. ولماذا أغتاب؟ ولماذا أسرق؟...
 
 الثالثة: استعمال الدواء بشكل صحيح ومتابعة العلاج.
 
 والرابعة: التفقّه في الدين، والمراد منه ها هنا اطّلاع الإنسان على خطورة الذنب وآثاره الدنيويّة والأخرويّة. فإذا التفت إلى خطورة الكذب مثلاً، وأنّه باب الكبائر، وأنّه ينسلخ عن الإيمان حين كذبه، وأنّه سيعاقب عليه، فأيّ عاقلٍ سيقدم بعدها على الكذب، والعياذ بالله؟!
 
 علاج آخر للذنوب
 وهذا العلاج ينقسم إلى شقّين: أحدهما العلاج العلميّ، والثاني هو العلاج العمليّ.
________________________________________
1- بحار الأنوار، المجلسي، ج75، ص46.
 
211 
 

172

الدرس الثامن عشر:دواء القلوب

 أ- العلاج العلميّ

 
وقد نصطلح عليه بالعلاج النفسيّ ويقوم على عدّة أمور: التفكّر والتذكّر والعزم.
1- التفكّر:
يقول الإمام الخمينيّ في هذا المجال: "والتفكّر في هذا المقام، هو أن يفكّر الإنسان بعض الوقت، في أنّ مولاه الّذي خَلقه في هذه الدنيا، وهيّأ له كلّ أسباب الدعة والراحة، ووهبه جسماً سليماً... ومن جهة أخرى أرسل جميع هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وأنزل كلّ الكتب والرسالات... فما هو واجبنا تجاه هذا المولى مالك الملوك؟..

هل إنّ وجود جميع هذه النعم هو فقط لأجل هذه الحياة الحيوانيّة وإشباع الشهوات؟.. أم أنّ هناك هدفاً وغاية أخرى؟.. إنّ الإنسان إذا فكّر للحظةٍ واحدةٍ عرف أنّ الهدف من هذه النعم هو شيء آخر، وأنّ الغاية من هذا الخلق أسمى وأعظم، وأنّ هذه الحياة الحيوانيّة ليست هي الغاية بحدّ ذاتها"2.
 
وبعبارةٍ أخرى لا بدّ من أن تجلس مع نفسك، تتأمّل في وضعك وحياتك، ودنياك وآخرتك، وأن تقوم بجردة حسابيّة لمسير حياتك: أين كنت؟، وإلى أين أسير؟، وكيف أسير؟، هل أنا راضٍ عن حياتي وعلاقتي بربِّي؟، وهل أنا أسير من الحسن إلى الأحسن أم إلى الأسوأ؟، هل أنا إن متُّ الآن إلى الجنّة أذهب، أم إلى النار الّتي سجّرها جبّارها لغضبه؟، كلّ هذه الأسئلة سوف تؤدّي إلى جوابٍ، يدعو هذا الإنسان إلى الاستئناف، وإعادة فتح حسابٍ جديدٍ مع ربّه وخالقه.
 
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "رحم الله امرأً نظر فتفكّر، وتفكّر فاعتبر،
________________________________________
2- الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، ص23.
212

173

الدرس الثامن عشر:دواء القلوب

 واعتبر فأبصر، وأبصر فأقصر، فقد أبصر أقوام ولم يُقصِروا، ثمّ هلكوا فلم يدركوا ما طلبوا، ولا رجعوا إلى ما فارقوا..."3.

 
2- العزم:
والمراد به ها هنا هو "أن يوطّن الإنسان نفسه، ويتّخذ قراراً بترك المعاصي وبأداء الواجبات، وتدارك ما فاته في أيّام حياته"4. 
وبعبارة ثانية: لا بدّ لك من أن تقرّر وتريد السير نحو الله وإطاعته، وترك إطاعة الشيطان، والسعي في سبيل ذلك والتحرّك إليه، ببدء المسير من يومك هذا؛ لأنّ الغدَ قد لا يأتي.
 
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إنّما الدنيا ثلاثة أيّام: فيومٌ مضى بما فيه فليس بعائد، ويومٌ أنت فيه يحقّ عليك اغتنامه، ويوم لا تدري هل أنت من أهله ولعلك راحلٌ فيه... وإن يك يومك هذا آنسك بقدومه، فقد كان طويل الغِيبة عنك، وهو سريع الرحلة عنك، فتزوّد منه وأحسن وداعه، خذ بالبقيّة في العمل وإيّاك والاغترار بالأمل..."5.

3- التذكّر:
أ- تذكّر خَلقنا ووجودنا، والنعم الّتي أنعمها الله علينا فيما نستعملها.
 
ب- تذكّر العقاب الدنيويّ، وحلول سخط الله علينا في أبداننا وأموالنا وأولادنا، وقلّة المطر ونقصان الرزق والعمر، وتسلّط الأشرار علينا...
 
ج- تذكّر العقاب الأخرويّ: ووقوفنا بين يدي الله عزّ وجلّ وافتضاحنا، ودخول النار وأليم عذابها وشدّته 
________________________________________
3- شرح نهج البلاغة، ابن أبي حديد، ج5، ص147.
4- الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، ص25.
5- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج12، ص149.
213

174

الدرس الثامن عشر:دواء القلوب

 وطول مدّته...

 
د- الشعور بالرقابة الإلهيـّة: يقول الله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾6، فإذا فكّر الإنسان وتيقّظ من غفلته، وعلم أنّ الله معه أينما كان، سواء في السرّ أو في العلن، في الليل أو في النهار، فلعلّه يستحي من اطِّلاع ربّه عليه، ونظره إليه فيرعوي ويقلع عن ارتكاب ما يسخطه ويغضبه.
 
يقول الإمام الخمينيّ: "العالم محضر الله، فلا تعص الله في محضر الله".
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "يا إسحاق  أحد أصحاب الإمام عليه السلام  خفِ الله كأنّك تراه، وإن كنت لا تراه فإنّه يراك، فإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنّه يراك ثمّ برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين عليك"7.
 
وروي أنّ الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام جاءه رجلٌ فقال له: "أنا رجل عاصٍ ولا أصبر على المعصية، فعظني بموعظة، فقال عليه السلام: إفعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت:

فأوّل ذلك: لا تأكل رزق الله، وأذنب ما شئت.
والثاني: أخرج من ولاية الله، وأذنب ما شئت.
والثالث: أطلب موضعاً لا يراك الله، وأذنب ما شئت.
والرابع: إذا جاء ملك الموت ليقبض روحك، فادفعه عن نفسك، وأذنب ما شئت.
________________________________________
6- الأنعام: 94.
7- الكافي، الكليني، ج2، ص67.
214

175

الدرس الثامن عشر:دواء القلوب

 والخامس: إذا أدخلك مالكٌ في النار، فلا تدخل في النار، وأذنب ما شئت"8.

 
ب - العلاج العمليّ:
وهذا العلاج ينقسم إلى علاج عامّ وعلاج خاصّ.
العلاج العامّ: هو لكلّ الذنوب والأمراض، وذلك بمعرفة سبب الابتلاء بها، والوقوع فيها، وهو إمّا الجهل أو الغفلة أو ضعف الإرادة، وحينئذٍ لا بدّ من المبادرة إلى رفع الجهل بالعلم والتفقّه، ورفع الغفلة بالاستيقاظ والتذكّر، وعلاج ضعف الإرادة أمام الشهوات بتقوية العزم وبذل الجهد في مقاومة الذنوب وتركها.

العلاج الخاصّ: وهو أن يبادر الإنسان عمليّاً إلى معالجة الذنب الّذي وقع فيه، فإذا التفت مثلاً إلى أنّه وقع في الغِيبة، فيتوقّف ويستغفر ربّه، ويسعى للتحلّل من صاحبها، ويترك الغِيبة مدّة من الزمن، ولا يجلس في مجلس الغِيبة، ولا يشارك أحداً في غِيبة ولو بسكوته، وليتعوّد على لجم لسانه والتفكير قبل كلامه..
 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في كيفيّة علاج المفاسد الأخلاقيّة:
"ابحث عن العلاج واعثر على الدواء، لإزالة تلك الأخلاق الفاسدة والقبيحة... وأفضل علاج... هو ما ذكره علماء الأخلاق وأهل السلوك، وهو أن تأخذ كلّ واحدة من الملكات القبيحة الّتي تراها في نفسك، وتنهض بعزمٍ على مخالفة النفس إلى أمدٍ، وتعمل عكس ما ترجوه وتتطلّبه منك تلك الملكة الرذيلة. وعلى أي حال اطلب التوفيق من الله تعالى لإعانتك في هذا الجهاد، ولا شكّ في أنّ الخُلُقَ القبيح سيزول بعد فترة وجيزة..."9.
________________________________________
8- بحار الأنوار، المجلسي، ج75، ص126.
9- الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، ص39.
215

176

الدرس الثامن عشر:دواء القلوب

 جلاء القلوب

من نعم الله علينا بعد أن خلقنا وابتلانا، وهو أعلم بما صنع، وقد علم أنّ بعضنا سيفسد في الأرض ويطغى، فينحرف عن صراطه المستقيم، فتنكّس القلوب وتقسو وتمرض، أرشدنا إلى الدواء في كتابه وعن طريق رسوله وأهل بيته عليهم السلام، وسوف نشير ها هنا إلى جملة من أدوية القلب:
 
1- ذكر الله:
يقول الله عزّ وجلّ في محكم كتابه الكريم ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾10.
ويروى عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لأحد أصحابه: "يا أبا أسامة إرعوا قلوبكم بذكر الله عزّ وجلّ، واحذروا النكت"11.
ومن كلام لأمير المؤمنين عليه السلام عند تلاوته: ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ﴾12 قال: "إنّ الله سبحانه جعل الذكر جلاء القلوب"13.
 
قال الشاعر الورّاق14:
وإذا مرضتَ من الذنوب فداوها        بالذكر إنّ الذكر خير دواء
والسقم في الأبدان ليس بضائرٍ         والسقم في الأرواحِ شرّ بلاء

2- الاستغفار:
عن رسول الله صلى الله عليه واله قال: "ألا أنبّئكم بدائكم من دوائكم؟: داؤكم الذنوب ودواؤكم الاستغفار"15.
________________________________________
10- الرعد: 28.
11- الكافي، الكليني، ج8، ص167.
12-النور: 37.
13- بحار الأنوار، المجلسي، ج66، ص325.
14- شرح نهج البلاغة، ج7، ص81.
15- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج12، ص123.
216

177

الدرس الثامن عشر:دواء القلوب

 3- قراءة القرآن:

وهو دواء وشفاء للقلوب والأبدان.
يقول الله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾16.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل فما جلاؤها؟ قال: تلاوة القرآن وذكر الموت"17.
وعنه عليه السلام قال: "إنّ الله سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن، فإنّه حبل الله المتين وسببه الأمين, وفيه ربيع القلب وينابيع العلم, وما للقلب جلاء غيره..."18.
 
4- قلّة الأكل:
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "وليس شيء أضرّ لقلب المؤمن من كثرة الأكل, وهي مورثة لشيئين: قسوة القلب وهيجان الشهوة".
وقال عيسى روح الله عليه السلام: "ما مرض قلب بأشدّ من القسوة"19.

5-استماع الموعظة:
عن الإمام عليّ عليه السلام قال: "المواعظ صقال النفوس وجلاء القلوب"20.
وقيل: "الموعظة حرز من الخطأ، وأمنٌ من الأذى وجلاءٌ للقلوب من الصدأ".
________________________________________
16- يونس: 57.
17- شرح نهج البلاغة، ج10، ص144.
18- م. ن، ص31.
19- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج12، ص94.
20- غرر الحكم ودرر الكلم، ص224.
217

178

الدرس الثامن عشر:دواء القلوب

 6- الحديث:

عن النبيّ صلى الله عليه واله قال: "تذاكروا وتلاقوا وتحدّثوا؛ فإنّ الحديث جلاء القلوب"21.
 
7- قيام الليل:
وعنه صلى الله عليه واله قال: "عليكم بقيام الليل فإنّه دأب الصالحين، وإنّ قيام الليل قربة إلى الله وتكفير السيّئات، ومنهاة عن الإثم ومطردة الداء عن أجسادكم..."22.
 
 
خلاصة الدرس
- كما يهتمّ الإنسان بصحّته وطعامه ومشربه، والمسارعة إلى مداواة الأمراض الّتي يتعرّض لها جسده. كذلك لا بدّ وبطريق أولى، من أن يهتمّ الإنسان بغذاء الروح، وعلاج أمراض القلب المعنويّة.
 - ينقسم علاج أمراض الروح والقلب إلى قسمين:
 أ- العلاج النفسيّ، ويتضمّن ثلاث خطوات:
 - التفكّر في عظمة مخلوقات الله.
 - العزم على ترك المعاصي وأداء الواجبات.
 - تذكّر العقاب الإلهيّ واستشعار رقابته لنا.
 
 ب- العلاج العمليّ، ويتضمّن خطوتين:
 - علاج عام لكلّ الذنوب والأمراض، كمعرفة أسباب ارتكابها جهلاً أو غفلة... الخ.
________________________________________
21 -بحار الأنوار، المجلسي، ج2، ص152.
22- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج6، ص331.
218

179

الدرس الثامن عشر:دواء القلوب

 علاج خاصّ لكلّ ذنب، بشكل مستقلّ كعلاج ذنب الغِيبة فقط، وهكذا.

 - وصفات تربويّة لعلاج أمراض القلوب:
 - ذكر الله تعالى واستغفاره.
 - قراءة القرآن الكريم.
 - التقليل من الطعام والشراب والنوم.
 - الاستماع للموعظة وأحاديث أهل البيت عليهم السلام.
 - أداء صلاة الليل، فهي دأب الصالحين.
 
اسئلة
 
1. تحدّث عن خطوات العلاج الأربع من الذنوب.
 2. تحدّث عن العلاج العلميّ  النفسيّ .
 3. تحدّث عن العلاج العمليّ بشقيه العامّ والخاصّ  باختصار .
 
219

180

الدرس الثامن عشر:دواء القلوب

 للمطالعة


صلاة الزهراء عليها السلام
 
 قال رسول الله صلى الله عليه واله: "وأمّا ابنتي فاطمة فإنّها سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة منّي، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي الّتي بين جنبيّ، وهي الحوراء الإنسيّة، متى قامت في محرابها بين يدي ربّها جلّ جلاله زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله عزّ وجلّ لملائكته: يا ملائكتي انظروا إلى أمَتي فاطمة سيّدة إمائي قائمة بين يديّ ترتعد فرائصها من خيفتي وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أشهدكم أنّي قد آمنت شيعتها من النار"23.
________________________________________
23- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 28، ص 38.
 
220

181
في رحاب الأخلاق