المقدمة
المقدمة
إن العلاقة مع الله تبارك وتعالى إنما تبنى على أساس العبودية لله عز اسمه التي تتجلَّى بالعمل الصالح الخالي من الشرك وهي الطريق الموصل إلى لقاء الله عزَّ وجلَّ كما أشار المولى الكريم في سورة الكهف إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿...فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ .
والعمل الصالح يشكل رافعةً لعقيدة العامل الى الله ﴿...إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه... ﴾
وبفضل من الله تعالى ولطف منه هدانا إلى حبله الذي انزله من السماء ليشكل صراط العبودية القويم الذي لا ضلال فيه، وكيف يحصل الضلال للسائر عليه الآخذ بمصباح الهدى المضيء ليكون مع الحبل أحد ثقلي الهداية اللذين قال فيهما المصطفى الهادي صلى الله عليه وأله وسلم :
"إني تارك فيكم الثقلان كتاب الله، وعترتي أهل بيتي..." واصفأ كتاب الله تعالى بأنه:
"حبل ممدود من السماء إلى الأرض..."
ومن هنا يتضح أن حقيقة العبودية إنما تتحقق بالتمسك
5
1
المقدمة
بكتاب الله عزَّ وجلَّ والعترة الطاهرة عليهم السلام .
وللقرآن الكريم ظاهر وباطن. كما للإنسان ظاهر وباطن، فظاهره يمسّ ظاهر القرآن أي بحواسه الطاهرة. ولهذا المس بمختلف الحواس الخمس آداب مذكورة في محلّه.
ولباطنه آدابٌ إنما تمسّ وتدرك فيما لو تطهّر هذا الباطن وتحقق بالآداب والوظائف المناسبة، يقول الإمام قدس سره:
"فكما أن غير المطهّر الظاهري ممنوع عن ظاهر هذا الكتاب ومسّه في العالم الظاهر تشريعاً وتكليفاً، كذلك ممنوع من معارفه ومواعظه وباطنه وسرّه من كان قلبه متلوثاً بأرجاس التعلّقات الدنيوية"
.
وهذا ما سوف نبحر فيه بهذا المختصر لنغوص في الاشراقات النورية للإمام روح الله الموسوي الخميني مقتبسة من آدابه المعنوية للصلاة، وهي على شكل أبواب وفصول اختصرنا منها ما يفيد القارئ العاشق والطالب الصادق، حاذفين ما يصعب من عباراته الشريفة، من دون التصرّف بصياغة النص في غير العناوين.
وهي:
1- تعظيم القرآن.
6
2
المقدمة
- فهم مقاصد القرآن.
3- رفع الحجب.
4- حضور القلب.
5- التفكر.
6- التطبيق.
7- الاستعاذة.
يسرُّ جمعية المعارف الإسلامية الثقافية في إطار سعيها الدائم لنشر معارف الإسلام المحمدي الأصيل أن تقدم إلى القرّاء الكرام سلسلة جديدة من إصداراتها تحت عنوان هكذا... سائلين العلي القدير أن يوفقنا لمزيد من العطاء في سبيل توفير أفضل الوسائل التعليمية الممكنة للباحثين عن الحق والحقيقة.
جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
7
3
اداب تلاوة القران
الأدب الأول: تعظيم القرآن
من أحد الآداب المهمة لقراءة الكتاب الإلهي الذي يشترك فيه العارف والعامّي وتحصل منه النتائج الحسنة ويوجب نورانية القلب والحياة الباطنية هو التعظيم، وهذا المعنى وإن كان بحسب الحقيقة خارجاً عن نطاق البيان وزائداً على طاقة البشر لأنّ فهم عظمة كلّ شيء بفهم حقيقته، وحقيقة القرآن الشريف قبل تنزله إلى المنازل الخلْقية، ... لا تحصل ... إلا بالمكاشفة التامّة الإلهية لذات النبي الخاتم المباركة صلى الله عليه وآله في محفل انس وقاب قوسين بل في خلوة سرّ مقام أو أدنى، وأيدي آمال العائلة البشرية قاصرة عنها إلا الخلّص من أولياء الله.
ما هي حقيقة التعظيم؟
اعلم أيها العزيز أن عظمة كل كلام وكل كتاب أما بعظمة متكلمه وكاتبه وأما بعظمة المرسل إليه وحامله، وأمّا بعظمة حافظه وحارسه، وأما بعظمة شارحه ومبيّنه، وأما بعظمة
9
4
اداب تلاوة القران
وقت ارساله وكيفية ارساله.
1- أما عظمة متكلمه ومنشئه وصاحبه فهو العظيم المطلق الذي جميع أنواع العظمة المتصورة في الملك والملكوت وجميع أنواع القدرة النازلة في الغيب والشهادة رشحة من تجليات عظمة فعل تلك الذات المقدسة ولا يمكن أن يتجلى الحق تعالى بالعظمة لأحد وإنما يتجلى بها من وراء آلاف الحجب والسرادقات, كما في الحديث:
"إنّ لله تبارك وتعالى سبعين ألف حجاب من نورٍ وظلمة لو كُشِفَت لأحرقت سُبحات وجهه ما دونه".
2- وأما عظمة رسول الوحي وواسطة الايصال فهو جبرائيل الأمين والروح الأعظم الذي يتصل بذاك الروح الأعظم الرسول الأكرم صلى الله عليه وأله وسلم بعد خروجه عن الجلباب البشري وتوجيه شطر قلبه إلى حضرة الجبروت . وهو ملك موكل للعلم والحكمة وصاحب الأرزاق المعنوية والأطعمة الروحانية، ويستفاد من كتاب الله والأحاديث الشريفة تعظيم جبرائيل وتقديمه على سائر الملائكة.
3- وأما عظمة المرسل إليه ومتحمّله، فهو القلب التقي النقي الأحمدي الأحدي الجمعي المحمدي الذي تجلى له الحق تعالى بجميع الشؤون الذاتية والصفاتية والاسمائية والافعالية وهو صاحب النبوة الختمية والولاية المطلقة
10
5
اداب تلاوة القران
وهو أكرم البرية وأعظم الخليقة وخلاصة الكون وجوهرة الوجود وعصارة دار التحقق واللّبنة الأخيرة وصاحب البرزخية الكبرى والخلافة العظمى.
4- وأما حافظه وحارسه فهو ذات الحق جلّ جلاله، كما قال في الآية الكريمة المباركة: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.
5- وأما شارحه ومبينه فالذوات المطهرة المعصومون من رسول الله إلى حجّة العصر عجّل الله فرجه الذين هم مفاتيح الوجود ومخازن الكبرياء ومعادن الحكمة والوحي وأصول المعارف والعوارف وأصحاب مقام الجمع والتفصيل.
6- وأمّا وقت نزوله فليلة القدر أعظم الليالي وخير من ألف شهر وأنور الأزمنة، وهي في الحقيقة وقت وصول الوليّ المطلق والرسول الخاتم صلى الله عليه وأله وسلم.
11
6
اداب تلاوة القران
الأدب الثاني: فهم مقاصد القرآن
اعلم أن هذا الكتاب الشريف كما صرّح هو به كتاب الهداية وهادي سلوك الإنسانية ومربّي النفوس وشافي الأمراض القلبية ومنير طريق السير إلى الله.
وبالجملة، فإن الله تبارك وتعالى لسعة رحمته إلى عباده أنزل هذا الكتاب الشريف من مقام قربه وقدسه وتنزل به على حسب تناسب العوالم حتى وصل إلى هذا العالم الظلماني وسجن الطبيعة وصار على كسوة الألفاظ وصورة الحروف لاستخلاص المسجونين في سجن الدنيا المظلم وخلاص المغلولين بأغلال الآمال والأماني، وايصالهم من حضيض النفس والضعف والحيوانية إلى أوج الكمال والقوة الإنسانية، ومن مجاورة الشيطان إلى مرافقة الملكوتيين بل الوصول إلى مقام القرب وحصول مرتبة لقاء الله التي هي أعظم مقاصد أهل الله ومطالبهم، فمن هذه الجهة أن هذا
12
7
اداب تلاوة القران
الكتاب هو كتاب الدعوة إلى الحق والسعادة.
1- أحد مقاصده المهمّة: الدعوة إلى معرفة الله وبيان المعارف الإلهية من الشؤون الذاتية والاسمائية والصفاتية والافعالية وأكثرها في هذا المقصود هو توحيد الذات والأسماء والأفعال.
وليعلم أن المعارف من معرفة الذات إلى معرفة الأفعال قد ذكرت في هذا الكتاب الجامع الإلهي على نحو تدركه كل طبقة على قدر استعدادها.
2- ومن مقاصده الأخر ومطالبه: الدعوة إلى تهذيب النفوس وتطهير البواطن من أرجاس الطبيعة، وتحصيل السعادة.
وبالجملة، كيفية السير والسلوك إلى الله. وهذا المطلب منقسم إلى شعبتين مهمتين.
إحداهما: التقوى بجميع مراتبها المندرجة فيها التقوى عن غير الحق والإعراض المطلق عما سوى الله.
وثانيهما: الإيمان بتمام المراتب والشؤون المندرج فيه الاقبال إلى الحق، والرجوع والانابة إلى ذاته المقدسة، وهذا من المقاصد المهمة لهذا الكتاب الشريف.
13
8
اداب تلاوة القران
3- ومن مقاصد هذه الصحيفة الإلهية: قصص الأنبياء والأولياء والحكماء وكيفية تربية الحق إيّاهم، وتربيتهم الخلق. فإن في تلك القصص فوائد لا تحصى وتعليمات كثيرة. ومن المعارف الإلهية والتعليمات وأنواع التربية الربوبية المذكورة والمرموزة فيها ما يحيّر العقل.
فيا سبحان الله، وله الحمد والمنّة، ففي قصة خلق آدم عليه السلام والأمر بسجود الملائكة وتعليمه الأسماء وقضايا إبليس وآدم التي كرّر ذكرها في كتاب الله في التعليم والتربية والمعارف والمعالم لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ما يحيّر الإنسان. ولأجل هذه النكتة كرّرت القصص القرآنية كقصة آدم وموسى وإبراهيم وسائر الأنبياء فليس هذا الكتاب كتاب قصة وتاريخ بل هو كتاب السير والسلوك إلى الله، وكتاب التوحيد والمعارف والمواعظ والحكم. والمطلوب في هذه الأمور هو التكرار كي يؤثّر في القلوب القاسية وتأخذ منها موعظته.
ففي هذا الكتاب الشريف حلاوة اتفاق القضايا على نحو لا يوجب تكرارها الكسالة في الإنسان بل هو في كل دفعة يكرّر أصل المطلب، يذكر فيه خصوصيات ولواحق ليست في غيره.
14
9
اداب تلاوة القران
وبالجملة، ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام وكيفية سيرهم وسلوكهم من أعظم أبواب المعارف والحكم، قد فتحها الحق تعالى وجلّ مجده على عباده، فمثلاً أهل المعرفة يدركون من الكريمة الشريفة ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا﴾ كيفية سلوك إبراهيم عليه السلام ، وسيره المعنوي، ويعلمون طريق السلوك إلى الله والسير إلى جنابه وحقيقة سير الأنفس والسلوك المعنوي من منتهى ظلمة الطبيعة التي عبّر عنها في ذلك المسلك بـ جنَّ عليه الليل إلى إلقاء مطلق الأنيّة والأنانية وترك النفسانية وعبادة النفس والوصول إلى مقام القدس والدخول في محفل الإنس، ووجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض. والسائرون يدركون منها السير الآفاقي وكيفية تربية خليل الرحمن أمّته وتعليمه إيّاهم. وعلى هذا المنوال سائر القصص والحكايات، مثل قصة آدم وإبراهيم وموسى ويوسف وعيسى وعلامات موسى مع الخضر، فإن استفادات أهل المعارف والرياضات والمجاهدات مع غيرهم متفاوتة.
4- ومن مطالب هذه الصحيفة النورانية: أحوال الكفار والجاحدين والمخالفين للحق والحقيقة والمعاندين للأنبياء والأولياء عليهم السلام وبيان كيفية عواقب أمورهم
15
10
اداب تلاوة القران
وكيفية بوارهم وهلاكهم كقضايا فرعون وقارون ونمرود وشدّاد وأصحاب الفيل وغيرهم من الكفرة والفجرة، ففي كل واحدة منها مواعظ وحكم بل معارف لأهله، وداخل في هذه القسمة أو أنها قسمة مستقلة قضايا غزوات رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم فإن فيها أيضاً مطالب شريفة مذكورة، منها كيفية مجاهدات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم لإيقاظ المسلمين من نوم الغفلة وبعثهم للمجاهدة في سبيل الله وتنفيذ كلمة الحق وإماتة الباطل.
5- ومن مطالب القرآن الشريف: بيان قوانين ظاهر الشريعة والآداب والسنن الإلهية، وقد ذكرت كلّيّاتها ومهماتها في هذا الكتاب النوراني والعمدة في هذا القسم الدعوة إلى أصول المطالب وضوابطها مثل باب الصلاة والزكاة والخمس والحج والصوم والجهاد والنكاح والإرث والقصاص والحدود والتجارة وأمثالها.
6- ومن مطالب القرآن الشريف: أحوال المعاد والبراهين لاثباته وكيفية العذاب والعقاب والجزاء والثواب وتفاصيل الجنة والنار والتعذيب والتنعيم. وقد ذكرت في هذه القسمة حالات أهل السعادة ودرجاتهم من أهل المعرفة والمقرّبين ومن أهل الرياضة والسالكين
16
11
اداب تلاوة القران
ومن أهل العبادة والناسكين. وكذلك حالات أهل الشقاوة ودرجاتهم من الكفار والمحجوبين والمنافقين والجاحدين وأهل المعصية والفاسقين. ولكن ما كان أكثر فائدة لحال العامة كان أكثر ذكراً وبصراحة اللهجة وما كان مفيداً لطبقة خاصة فقد ذكر بطريق الرمز والإشارة مثل رضوان الله الأكبر، وآيات لقاء الله لتلك الطائفة، ومثل: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُون﴾ للطائفة الأخرى. وقد ذكر هذا القسم أي في قسم تفصيل المعاد والرجوع إلى الله معارف لا تحصى وأسراراً صعبة مستصعبة لا يمكن الاطّلاع على كيفيّتها إلا بالسلوك البرهاني أو النور العرفاني.
7- ومن مطالب هذه الصحيفة الإلهية: كيفية الاحتجاجات والبراهين التي أقامتها الذات المقدسة الحق تعالى بنفسه لاثبات المطالب الحقة والمعارف الإلهية مثل الاحتجاج على اثبات الحق والتوحيد والتنزيه والعلم والقدرة وسائر الأوصاف الكمالية، وقد توجد في هذه القسمة براهين دقيقة يستفيد أهل المعرفة منها استفادة كاملة مثل: ﴿ شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو﴾.
17
12
اداب تلاوة القران
مقاصد القرآن وطريق الاستفادة منه
فإذا علمت الآن مقاصد هذه الصحيفة الإلهية ومطالبها فلا بد لك أن تلفت النظر إلى مطلب مهم يكشف لك بالتوجّه إليه طريق الاستفادة من الكتاب الشريف، وتنفتح على قلبك أبواب المعارف والحكم وهو أن يكون نظرك إلى الكتاب الشريف الإلهي نظر التعليم، وتراه كتاب التعليم والافادة وترى نفسك موظفة على التعلّم والاستفادة، وليس مقصودنا من التعليم والتعلم والافادة والاستفادة أن تتعلم منه الجهات الأدبية والنحو والصرف أو تأخذ منه الفصاحة والبلاغة والنكات البيانية والبديعية، أو تنظر في قصصه وحكاياته بالنظر التاريخي والاطّلاع على الأمم السالفة، فإنه ليس شيء من هذه داخلاً في مقاصد القرآن، وهو بعيد عن المنظور الأصلي للكتاب الإلهي بمراحل، والذي أوجب أن تكون استفادتنا من هذا الكتاب العظيم أقلّ من القليل
18
13
اداب تلاوة القران
هو هذا المعنى. فقد لا ننظر إليه نظر التعليم والتعلّم كما هو الغالب علينا، ونقرأ القرآن للثواب والأجر فقط، ولهذا لا نعتني بغير جهة تجويده، ونريد أن نقرأه صحيحاً حتى يعطي لنا الثواب، ونحن واقفون في هذا الحد وقانعون بهذا الأمر، ولذا نقرأ القرآن أربعين سنة ولا تحصل الاستفادة منه بوجه إلا الأجر وثواب القراءة.
وبالجملة، كتاب الله هو كتاب المعرفة والأخلاق والدعوة إلى السعادة والكمال، فلا بد لنا أن نأخذ المقصود من تنزيل هذا الكتاب من نفس هذا الكتاب مع قطع النظر عن الجهات العقلية البرهانية التي تفهمنا المقصد، فمصنف الكتاب أعرف بمقصده. فالآن إذا نظرنا إلى ما قال هذا المصنف فيما يرجع إلى شؤون القرآن، نرى أنه يقول ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين﴾. فعرّف هذا الكتاب بأنه كتاب الهداية، نرى أنه في سورة قصيرة كرّر مرّات عديدة ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر﴾. نرى أنه يقول ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون﴾. ونرى أنه يقول ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة التي يطول ذكرها.
19
14
اداب تلاوة القران
الأدب الثالث: رفع الحجب
اللازم على المتعلم والمستفيد من كتاب الله أن يجري أدباً آخر من الآداب المهمة حتى تحصل الاستفادة وهو رفع موانع الاستفادة، وهذه الحجب كثيرة نشير إلى بعضها:
1 ـ من الحجب العظيمة حجاب رؤية النفس: فيرى المتعلم نفسه بواسطة هذا الحجاب مستغنية أو غير محتاجة للاستفادة، وهذا من المكائد الأصيلة المهمة للشيطان حيث إنه يزيّن للإنسان دائماً الكمالات الموهومة ويرضي الإنسان، ويقنعه بما فيه، ويسقط من عينه كل شيء سوى ما عنده، مثلاً يقنع أهل التجويد بذاك العلم الجزئي، ويرضي أصحاب الأدب بتلك الصورة بلا لبّ، ويشغل أهل التفاسير المتعارفة بوجوه القراءات والآراء المختلفة لأرباب اللغة ووقت النزول وشأن النزول وكون الآيات مكية أو مدنية.
20
15
اداب تلاوة القران
والإشارة إلى هذا المعنى كثيرة في القصص القرآنية، فموسى الكليم مع ما له من المقام العظيم في النبوّة ما اقتنع بذلك المقام وما توقف في مقام علمه الشامخ، وبمجرد أن لاقى شخصاً كاملاً كالخضر قال له بكل تواضع وخضوع: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ وصار ملازماً لخدمته حتى أخذ منه العلوم التي لا بد من أخذها.
2 ـ ومن الحجب: حجاب الآراء الفاسدة والمسالك والمذاهب الباطلة، وهذا قد يكون من سوء استعداد الشخص، والأغلب أنه يوجد من التبعية والتقليد. وهذا من الحجب التي حجبتنا بالأخص عن معارف القرآن. مثلاً إذا رسخ في قلوبنا اعتقاد بمجرّد الاستماع من الأب أو الأم أو من بعض جهلة أهل المنبر تكون هذه العقيدة حاجبة بيننا وبين الآيات الشريفة الإلهية.
وقد وردت الآيات الكثيرة الراجعة إلى لقاء الله ومعرفة الله، ووردت روايات كثيرة في هذا الموضوع مع كثير من الإشارات والكنايات والصراحات في الأدعية والمناجاة للأئمة عليهم السلام. فبمجرّد ما نشأت عقيدة في هذا الميدان من العوام وانتشرت بأن طريق معرفة الله مسدودة بالكلّية
21
16
اداب تلاوة القران
فيقيسون باب معرفة الله ومشاهدة جماله على باب التفكر في الذات على الوجه الممنوع بل الممتنع.
إن مهجورية القرآن لها مراتب كثيرة ومنازل لا تحصى، ولعلنا متصفون بالعمدة منها. أترى أننا إذا جلّدنا هذه الصحيفة الإلهية جلداً نظيفاً وقيّماً وعند قراءتها أو الاستخارة بها قبّلناها ووضعناها على أعيننا ما اتخذناه مهجوراً؟! أترى إذا صرفنا غالب عمرنا في تجويده وجهاته اللغوية والبيانية والبديعية قد أخرجنا هذا الكتاب الشريف عن المهجورية؟! هل إننا إذا تعلّمنا القراءات المختلفة وأمثالها قد تخلّصنا من عار هجران القرآن؟! إن القرآن كتاب إلهي وفيه الشؤون الإلهية. القرآن هو الحبل المتصل بين الخالق والمخلوق ولا بد أن يوجد الربط المعنوي والارتباط الغيبي بتعليماته بين عباد الله ومربّيهم، ولا بد أن يحصل من القرآن العلوم الإلهية والمعارف اللدنيّة، إن رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم قال حسب ما رواه الكافي " إنما العلم ثلاثة: آية محكمة وفريضة عادلة وسنّة قائمة ". فالقرآن الشريف حامل لهذه العلوم، فإن تعلمنا من القرآن هذه العلوم فما اتّخذناه مهجوراً، وإذا قبلنا دعوات القرآن وأخذنا التعليمات من قصص الأنبياء عليهم السلام المشحونة بالمواعظ والمعارف
22
17
اداب تلاوة القران
والحكم، إذا اتعظنا نحن من مواعظ الله تعالى ومواعظ الأنبياء والحكماء المذكورة في القرآن فما اتّخذناه مهجوراً، وإلا فالغور في الصورة الظاهرية للقرآن أيضاً إخلاد إلى الأرض ومن وساوس الشيطان ولا بد من الاستعاذة بالله منها.
3 ـ ومن الحجب المانعة من الاستفادة من هذه الصحيفة النورانية: الاعتقاد بأنه ليس لأحد حق الاستفادة من القرآن الشريف إلا بما كتبه المفسّرون أو فهموه. وقد اشتبه على الناس التفكر والتدبّر في الآيات الشريفة بالتفسير بالرأي الممنوع، وبواسطة هذا الرأي الفاسد والعقيدة الباطلة جعلوا القرآن عارياً من جميع فنون الاستفادة واتخذوه مهجوراً بالكلية في حال أن الاستفادات الأخلاقية والإيمانية والعرفانية لا ربط لها بالتفسير، فمثلاً إذا استفاد أحد من كيفية مذاكرات موسى عليه السلام مع الخضر عليه السلام وكيفية معاشرتهما وشدّ موسى عليه السلام رحاله إليه ــ مع ما له من عظمة مقام النبوّة لأخذ العلم الذي ليس موجوداً عنده وكيفية عرض حاجته إلى الخضر كما ذكرت في الكريمة الشريفة: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ ، وكيفية جواب
23
18
اداب تلاوة القران
الخضر عليه السلام والاعتذارات التي وقعت من موسى ــ عظمة مقام العلم وآداب سلوك المتعلم مع المعلّم ولعلها تبلغ من الآيات المذكورة إلى عشرين أدباً فأي ربط لهذه الاستفادات بالتفسير فضلاً من أن تكون تفسيراً بالرأي والاستفادة من هذا القبيل في القرآن كثيرة، ففي المعارف مثلاً إذا استفاد أحد من قوله تعالى ﴿ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الذي حصر جميع المحامد بالله، وقال بأنه يستفاد من الآية الشريفة أن كل كمال وجمال وكلّ عزّة وجلال الموجودة في العالم وتنسبها العين الحولاء والقلب المحجوب إلى الموجودات من
الحق تعالى، فأيّ ربط لهذا إلى التفسير حتى يسمّى بالتفسير بالرأي أو لا يسمى؟
4 ـ ومن الحجب المانعة من فهم القرآن الشريف: حجاب المعاصي والكدورات الحاصلة من الطغيان والعصيان بالنسبة إلى ساحة رب العالمين المقدسة، فتحجب القلب عن إدراك الحقائق.
وليعلم كما أن لكل عمل من الأعمال الصالحة أو السيئة صورة في عالم الملكوت تتناسب معه، فله صورة أيضاً في ملكوت النفس، فتحصل بواسطتها في ملكوت النفس: إمّا
24
19
اداب تلاوة القران
النورانية ويكون القلب مطهّراً ومنوّراً، وفي هذه الحالة تكون النفس كالمرآة المصقولة صافية، ويليق للتجليات الغيبية وظهور الحقائق والمعارف فيه، وإما أن يصير ملكوت النفس به ظلمانياً وخبيثاً، وفي هذه الصورة يكون القلب كالمرآة المريّنة والمدنّسة لا تنعكس فيها المعارف الإلهية ولا الحقائق الغيبية، وحيث إن القلب في هذه الحالة يقع بالتدريج تحت سلطة الشيطان ويكون المتصرف في مملكة الروح ابليس، فيقع السمع والبصر وسائر القوى أيضاً في تصرف ذاك الخبيث، وينسد السمع بالكلية عن المعارف والمواعظ الإلهية، ولا ترى العين الآيات الباهرة الإلهية وتعمى عن الحق وآثاره وآياته، ولا يتفقّه القلب في الدين، ويحرم من التفكر في الآيات والبيّنات وتذكّر الحق والأسماء والصفات، كما قال الحق تعالى ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ﴾.
5 ـ ومن الحجب الغليظة التي هي ستر صفيق بيننا وبين معارف القرآن ومواعظه: حجاب حبّ الدنيا، فيصرف القلب بواسطته تمام همّته في الدنيا وتكون وجهة القلب تماماً إلى الدنيا ويغفل القلب بواسطة هذه المحبة عن
25
20
اداب تلاوة القران
ذكر الله، ويعرض عن الذكر والمذكور، وكلما ازدادت العلاقة بالدنيا وأوضاعها ازداد حجاب القلب وساتره ضخامة، وربما تغلب هذه العلاقة على القلب ويتسلّط سلطان حب الجاه والشرف على القلب بحيث يطفئ نور فطرة الله بالكلّية وتغلق أبواب السعادة على الإنسان، ولعل المراد من اقفال القلوب المذكورة في الآية الشريفة ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ . هذه الأقفال واغلال العلائق الدنيوية، ومن أراد أن يستفيد من القرآن ويأخذ نصيبه من المواعظ الإلهية لا بدّ وأن يطهّر القلب من هذه الأرجاس، ويزيل لوث المعاصي القلبية وهي الاشتغال بالغير عن القلب لأن غير المطهّر ليس محرماً لهذه الأسرار قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾. فكما أن غير المطهّر الظاهري ممنوع عن ظاهر هذا الكتاب ومسّه في العالم الظاهر تشريعاً وتكليفاً، كذلك ممنوع من معارفه ومواعظه وباطنه وسرّه من كان قلبه متلوثاً بأرجاس التعلّقات الدنيوية، قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾.
نختم بذكر آية شريفة إلهية تكفي لأهل اليقظة بشرط
26
21
اداب تلاوة القران
التدبّر، قال تبارك وتعالى: ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾.
27
22
اداب تلاوة القران
الأدب الرابع: حضور القلب
من الآداب القلبية حضور القلب الذي يكون كثير من الآداب مقدمة له والعبادة بدونه ليس لها روح وهو بنفسه مفتاح قفل الكمالات وباب أبواب السعادات وقلّ ما ذكر في الأحاديث الشريفة شيء بهذه المثابة، وقلّ ما اهتمّ بشيء من الآداب كهذا الأدب.
28
23
اداب تلاوة القران
الأدب الخامس: التفكّر
من آداب قراءة القرآن المهمة : التفكر، والمقصود من التفكر أن يتجسس من الآيات الشريفة المقصد والمقصود، وحيث إن مقصد القرآن كما تقوله نفس الصحيفة النورانية هو الهداية إلى سبل السلام والخروج من جميع مراتب الظلمات إلى عالم النور، والهداية إلى طريق مستقيم فلا بد أن يحصّل الإنسان بالتفكر في الآيات الشريفة مراتب السلامة من المرتبة الدانية والراجعة إلى القوى الملكية إلى منتهى النهاية فيها وهي حقيقة القلب السليم على ما ورد تفسيره عن أهل البيت عليهم السلام وهو أن يلاقي الحق وليس فيه غيره وتكون سلامة القوى الملكية والملكوتية ضالة قارئ القرآن.
وقد كثرت الدعوة إلى التفكر وتمجيده وتحسينه في القرآن الشريف قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
29
24
اداب تلاوة القران
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
وفي هذه الآية مدح عظيم للتفكر، وقال تعالى في الآية الأخرى: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ .
والآيات من هذا القبيل أو ما يقرب منه كثيرة والروايات أيضاً في التفكر كثيرة. فقد نقل عن الرسول الخاتم صلى الله عليه وأله وسلم أنه لما نزلت الآية الشريفة ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ﴾... . قال صلى الله عليه وأله وسلم: "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ".
والعمدة في هذا الباب أن يفهم الإنسان ما هو التفكر الممدوح، وإلا لا شك في أن التفكر ممدوح في القرآن والحديث، فأحسن التعبير فيه ما عبّر به الخواجة عبد الله الأنصاري قال: اعلم أن التفكّر تلمّس البصيرة لاستدراك البغية، يعني أن التفكر هو تجسّس البصيرة وهي بصر القلب للوصول إلى المقصود، والمقصود هو السعادة المطلقة التي تحصل بالكمال العلمي أو العملي.
إذا وجد القارئ المقصد وتبصّر في تحصيله، وانفتح له طريق الاستفادة من القرآن الشريف، وفتحت له أبواب رحمة الحق فإنه لا يصرف عمره القصير العزيز ورأس مال تحصيل سعادته على أمور ليست مقصودة لرسالة الرسول
30
25
اداب تلاوة القران
صلى الله عليه وأله وسلم ويكف عن فضول البحث وفضول الكلام، في مثل هذا الأمر المهم فإذا أشخص بصيرته مدّة إلى هذا المقصود وصرف نظره عن سائر الأمور تتبصّر عين قلبه ويكون بصره حديداً، ويكون التفكر في القرآن للنفس أمراً عادياً وتنفتح طرق الاستفادة، وتفتح له أبواب ليست مفتوحة له إلى الآن، ويستفيد مطالب ومعارف من القرآن ما كان يستفيدها إلى الآن بوجه، فحين ذاك يفهم كون القرآن شفاء للأمراض القلبية، ويدرك مفاد الآية الشريفة ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّخَسَارًا﴾ ومعنى قول أمير المؤمنين صلوات الله عليه "وتعلموا القرآن فإنه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور " ولا يطلب من القرآن شفاء الأمراض الجسمانية فقط بل يجعل عمدة المقصد شفاء الأمراض الروحانية الذي هو مقصد القرآن بل القرآن ما نزل لشفاء الأمراض الجسمانية وإن كان يحصل به كما أن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا للشفاء الجسماني وإن كانوا يشفون فهم أطباء النفوس والشافين للقلوب والأرواح.
31
26
اداب تلاوة القران
الأدب السادس: التطبيق
من الآداب المهمة لقراءة القرآن التي تنيل الإنسان النتائج الكثيرة والاستفادات غير المعدودة هو التطبيق.
وكيفيّته أنه حينما يتفكر في كل آية من الآيات الشريفة يطبق مفادها في حاله ويرفع نقصانه بواسطة هذا التطبيق ويشفي أمراضه به، مثلاً في قصة آدم عليه السلام الشريفة يتفكر أنّ مطرودية الشّيطان عن جناب القدس مع تلك السّجدات والعبادات الطويلة لماذا؟ فيطهّر نفسه منه لأن مقام القرب الإلهي مقام المطهّرين، فمع الأوصاف والأخلاق الشيطانية لا يمكن القدوم إلى ذلك الجناب الرفيع. ويستفاد من الآيات الشريفة أن مبدأ عدم سجود إبليس هو رؤية النفس والعجب فطبّل أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.. فهذا العجب صار سبباً لحب النفس والاستكبار، وصار سبباً للاستقلال والاستكبار وعصيان الأمر فصار مطروداً عن الجناب.
32
27
اداب تلاوة القران
ونحن خطبنا الشيطان من أول عمرنا ملعوناً ومطروداً واتصفنا بأوصافه الخبيثة ولم نتفكر في أن ما هو سبب المطرودية عن جناب القدس إذا كان موجوداً في أي شخص، فهو مطرود وليس للشيطان خصوصية، فما كان سبباً لطرده عن جناب القدس يكون مانعاً من أن نتطرّق إليه، وأنا أخاف من أن نكون شركاء ابليس في اللعن الذي نلعنه.
وبالجملة، من أراد أن يأخذ من القرآن الشريف الحظ الوافر والنصيب الكافي فلا بد له أن يطبّق كل آية شريفة من الآيات على حالات نفسه حتى يستفيد استفادة كاملة، مثلاً يقول الله تعالى في سورة الأنفال في الآية الشريفة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾.
فلا بد للسالك من أن يلاحظ هل هذه الأوصاف الثلاثة منطبقة عليه، وهل قلبه يجِلُ إذا ذكر الله ويخاف؟
وإذا تليت عليه الآيات الشريفة الإلهية يزداد نور الإيمان في قلبه؟ وهل اعتماده وتوكله على الحق تعالى؟ أو أنه في كل من هذه المراحل راحل
ومن كل هذه الخواص محروم؟ فإن أراد أن يفهم أنه من الحق تعالى خائف وقلبه من خوفه وجل فلينظر
33
28
اداب تلاوة القران
إلى أعماله.
الإنسان الخائف لا يتجاسر في محضر الكبرياء إلى مقامه المقدس ولا يهتك الحرمات الإلهية في حضور الحق، وإذا قوي الإيمان بتلاوة الآيات الإلهية يسري نور الإيمان إلى المملكة الظاهرية أيضاً، فغير ممكن أن يكون القلب نورانياً ولا يكون اللسان والكلام والعين والنظر والسمع والاستماع نورانياً. كما أنه إذا توكل أحد على الله تعالى واعتمد عليه فيقطع الطمع عمّا في أيدي سائر الخلق، ويحط رحل حاجته وفقره إلى باب الغنيّ المطلق، ولا يرى سائر الذين هم مثله فقراء ومساكين حلاّلين لمشاكله. فوظيفة السالك إلى الله هي أن يعرض نفسه على القرآن الشريف، فكما أن الميزان في صحة الحديث وعدم صحته واعتباره وعدم اعتباره أن يعرض على كتاب الله فما خالف كتاب الله فهو باطل وزخرف. كذلك الميزان في الاستقامة والاعوجاج والشقاوة والسعادة هو أن يكون مستقيماً وصحيحاً في ميزان كتاب الله، وكما أن خلق رسول الله هو القرآن فاللّازم له أن يجعل خلقه موافقاً للقرآن حتى يكون مطابقاً لخلق الوليّ الكامل أيضاً، والخلق الذي يكون مخالفاً لكتاب الله فهو زخرف وباطل.
34
29
اداب تلاوة القران
وكذلك جميع المعارف وأحوال قلبه وأعمال الباطن والظاهر له لا بد أن يطبّقها على كتاب الله ويعرضها عليه حتى يتحقق بحقيقة القرآن ويكون القرآن له صورة باطنية.
وأنت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر
ففي الكافي الشريف بإسناده إلى سعد الخفّاف عن أبي جعفر عليه السلام قال: "يا سعد، تعلّموا القرآن، فإن القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق والناس صفوف عشرون ومائة ألف صف ثمانون ألف صفّ أمّة محمد وأربعون ألف صف من سائر الأمم، فيأتي على صف المسلمين في صورة رجل فيسلّم فينظرون إليه ثم يقولون لا إله إلا الله الحليم الكريم، إن هذا الرجل من المسلمين نعرفه بنعته وصفته غير أنه كان أشدّ اجتهاداً منا في القرآن فمن هناك أعطي من البهاء والجمال والنور ما لم نُعطَه، ثم يجاوز حتى يأتي على صف الشهداء فينظرون إليه ثم يقولون: لا إله إلا الله الرب الرحيم إن هذا الرجل من الشهداء نعرفه بسمته وصفته غير أنه من شهداء البحر فمن هناك أعطي من البهاء والفضل
ما لم نُعطه. قال: فيتجاوز حتى يأتي صف شهداء البحر في صورة شهيد..
35
30
اداب تلاوة القران
ثم ذكر الحديث اتيانه صفوف النبيين والمرسلين إلى أن يعرّفه رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم " الحديث بطوله.
وقال أبو عبد الله عليه السلام:
"إذا جمع الله عزَّ وجلَّ الأولين والآخرين إذا هم بشخص قد أقبل لم ير قطّ أحسن صورة منه فإذا نظر إليه المؤمنون ـ وهو القرآن ـ قالوا هذا منّا هذا أحسن شيء رأينا، فإذا انتهى إليهم جازهم " إلى آخر الحديث.
والأحاديث بهذا المضمون كثيرة وهي دليل واضح على ما يقوله أهل المعرفة بأن الموجودات في هذا العالم لها صور أخروية، ومن أحاديث هذا الباب يستفاد أن للأعمال أيضاً صوراً أخروية.
وفي الكافي الشريف بإسناده إلى باقر العلوم عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم:
"أنا أول وافد على العزيز الجبّار يوم القيامة وكتابه وأهل بيتي ثم أمّتي ثم أسألهم ما فعلتم بكتاب الله وبأهل بيتي ".
36
31
اداب تلاوة القران
الأدب السابع: الاستعاذة
قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُون﴾.
من الآداب المهمة للقراءة وخصوصاً القراءة في الصلاة التي هي السفر الروحاني إلى الله والمعراج الحقيقي ومرقاة وصول أهل الله، الاستعاذة من الشيطان الرجيم الذي هو شوكة طريق المعرفة ومانع السير والسلوك إلى الله، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن قوله في السورة المباركة الأعراف حيث قال: ﴿فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم﴾، ولا يحصل الأمان من شرّه من دون الاعاذة إلى حصن الألوهية الحصين، ولا تتحقق هذه الاستعاذة بلقلقة اللّسان، والصورة بلا روح، والدنيا بلا آخرة، كما هو مشهود
37
32
اداب تلاوة القران
في أشخاص قالوا بهذا القول منذ أربعين أو خمسين سنة وما نجوا من شرّ هذا القاطع للطريق ويتبعون الشيطان في الأخلاق والأعمال بل في العقائد القلبية، ولو كنّا مستعيذين من شرّ هذا الخبيث بالذّات المقدّسة للحقّ تعالى وهو الفيّاض المطلق وصاحب الرحمة الواسعة والقدرة الكاملة والعلم المحيط والكرم البسيط لأعاذنا الله ولصلح إيماننا وأخلاقنا وأعمالنا.
الاخلاص طريق الاستعاذة
1 ـ فمن مهمّات آداب الاستعاذة الخلوص كما نقله سبحانه عن الشيطان أنه قال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ " وهذا الاخلاص كما يظهر من الكريمة الشريفة أعلى من الاخلاص العملي وأعم من العمل الجوانحي أو العمل الجوارحي، لأنّ المُخلَص بصيغة المفعول، ولو كان المنظور هو الإخلاص العملي لكان التعبير بصيغة الفاعل المُخلِص ، فالمقصود من هذا الإخلاص هو خلوص الهويّة الإنسانية بجميع شؤونها الغيبية والظاهرية والإخلاص العملي من رشحاته، وهذه الحقيقة واللّطيفة الإلهيّة وإن كانت لا تحصل للعامّة في ابتداء السّلوك إلا بالرّياضات العمليّة الشّديدة وخصوصاً
38
33
اداب تلاوة القران
الرّياضات القلبية التي هي أصلها كما أشير إليه في الحديث المشهور:
"من أخلص لله أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه "
فمن أخلص أربعين صباحاً ـ بمقدار تخمير طينة آدم عليه السلام، وكان أربعين صباحاً، والرّبط بينهما معلوم عند أهل المعرفة وأصحاب القلوب ـ نفسه لله وأخلص أعماله القلبية والقالبية للحقّ تعالى يكون قلبه إلهياً ولا ينفجر من القلب الإلهي سوى عيون الحكمة، فيكون لسانه الذي هو أكبر ترجمان للقلب ناطقاً بالحكمة.
أركان الإستعاذة
الركن الأول: في المستعيذ
الركن الثاني: في المستعاذ منه
الركن الثالث: في المستعاذ به
الركن الرابع: في المستعاذ له
39
34
اداب تلاوة القران
الركن الأول: في المستعيذ
وهو الحقيقة الإنسانية من أول منزل السلوك إلى الله إلى منتهى النهاية للفناء الذاتي.
وتفصيل هذا الاجمال أن الإنسان ما دام مقيماً في بيت النفس والطبيعة ولم يشتغل بالسفر الروحاني والسلوك إلى الله وهو تحت السلطنة الشيطانية بجميع شؤونها ومراتبها لم يتلبس بحقيقة الاستعاذة ولقلقلة اللسان بلا فائدة، بل هي تثبيت وتحكيم للسلطنة الشيطانية إلا بالتفضل والعناية الإلهية.
والإنسان مستعيذ حال السلوك إلى الله، وهو يستعيذ من أشواك الوصول التي قعدت على الصراط المستقيم للإنسانية كما حكى سبحانه من قول الشيطان: "فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم ".
الركن الثاني: في المستعاذ منه:
وهو إبليس والشيطان الرجيم الذي يمنع الإنسان بحبائله المتنوعة. وإلا فنفس إبليس هي حقيقة ذات تجرّد مثالي وذات حقيقة إبليسية كلّية، هي رئيس الأبالسة وإبليس الكل أيضاً.
40
35
اداب تلاوة القران
وبالجملة، ما كان في هذا السلوك الإلهي والسير إلى الله مانعاً من السير وشوكاً في الطريق فهو الشيطان أو مظاهره التي أعمالها أيضاً عمل الشيطان، وحالاتها المختلفة حجاباً لجمال المحبوب سواء أكان من العوالم الملكية الدنيوية كالفقر والغنى والصحة والمرض والقدرة والعجز والعلم والجهل والآفات والعاهات وغيرها، أو كان من العوالم الغيبية التجردية والمثالية كالجنة وجهنم، والعلم المتعلق بها حتى العلوم العقلية البرهانية الراجعة إلى توحيد الحق وتقديسه كل ذلك من حبائل ابليس التي تمنع الإنسان عن الحق والانس به والخلوة معه وتشغله بذلك، حتى الاشتغال بالمقامات المعنوية والوقوف في المدارج الروحانية الذي ظاهره الوقوف في الصّراط الإنساني وباطنه الوقوف في صراط الحق الذي هو جسر روحاني لجنهم الفراق والبعد وينتهي إلى جنة اللقاء. وهذا الجسر مخصوص لطائفة قليلة من أهل المعرفة وأصحاب القلوب، وهذا الاشتغال من الحبائل العظيمة لإبليس الأبالسة ولا بد من الاستعاذة منه إلى ذات الحق المقدسة جلّ شأنه.
وبالجملة، ما منعك عن الحق وحجبك عن جمال المحبوب الجميل فهو شيطانك سواء أكان في صورة الإنسان أو الجن.
41
36
اداب تلاوة القران
الركن الثالث: في المستعاذ به
اعلم أن حقيقة الاستعاذة حيث إنها متحققة في السالك إلى الله ومتحصلة في السير والسلوك إلى الحق، بمعنى أن الاستعاذة تختص بالسّالك في مراتب السلوك فتختلف الاستعاذة والمستعيذ والمستعاذ منه والمستعاذ به على حسب مقامات السائرين ومدارجهم ومنازل سالكي الحقيقة، ويمكن أن تكون إشارة إلى ذلك السالك السورة الشريفة النّاس، حيث يقول تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ﴾ .
الركن الرابع: في المستعاذ له، غاية الاستعاذة
اعلم أن ما هو المطلوب بالذات للإنسان المستعيذ فهو من نوع الكمال والسّعادة والخير، ويتفاوت ذلك على حسب مراتب السالكين ومقاماتهم تفاوتاً كثيراً. فالسّالك ما دام في بيت النفس وحجاب الطبيعة تكون غاية سيره حصول الكمالات النفسانية والسعادات الخسيسة الطبيعية وهذا في مبادئ السلوك، فإذا خرج من بيت النفس وذاق شيئاً من المقامات الروحانية والكمالات التجردية فيصير مقصده أعلى ومقصوده أكمل فيُلقي المقامات النفسانية وراء ظهره
42
37
اداب تلاوة القران
وتكون قبلة مقصوده حصول الكمالات القلبية والسعادات الباطنية فإذا أُلفِتَ عنان السير عن هذا المقام أيضاً ووصل إلى منزل السر الروحي فتبرز في باطنه مبادئ التجليات الإلهية ويكون لسان روحه في بادئ الأمر وجّهت وجهي لوجه الله ثم بعد ذلك وجهت وجهي لأسماء الله أو لله ثم بعد ذلك وجهت وجهي له.
وبالجملة، فالسالك غايته الحقيقية في كل مقام حصول الكمال والسعادة بالذات، وحيث إن مع السعادات والكمالات في كل مقام شيطانها هو لها قرين وحبالة من حبائله مانعة للحصول فلا بد للسالك أن يستعيذ بالحق تعالى من ذلك الشيطان وشروره وحبائله للوصول إلى المقصود الأصلي والمنظور الذاتي، ففي الحقيقة غاية الاستعاذة للسالك حصول ذلك الكمال المترقب والسعادة المطلوبة والحق تعالى جلت عظمته غاية الغايات ومنتهى الطلبات، والاستعاذة من الشيطان تقع بالتبع.
والحمد لله أولاً وآخراً.
43
38