المقدمة
المقدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين، وصلى الله على سيّدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد.
ما زالت العلوم الإسلاميّة تحافظ على أصالتها وحيويّتها، رغم التحديّات العصريّة الكبيرة، ورغم التطوّر العلميّ الهائل الذي شهده القرن الأخير، وما زال طلاب العلوم الإسلاميّة يسعون لدراسة الفكر الإسلاميّ، وهم محتاجون في فهم الشريعة، وفهم القرآن الكريم، وفهم التراث الإسلاميّ إلى عددٍ من العلوم الإسلاميّة، مّا يستدعي أن يبذلوا قصارى جهدهم، وأن يمضوا سنيناً من حياتهم في سبيل هذا الهدف.
وبعد اتساع نطاق هذه العلوم وتشعّبها أصبح من الضروريّ جدّاً وجود ما يقدّم لمحةً كلية عن العلوم الإسلاميّة، بذكر مقدّمات كلّ علم، وتاريخ وأسباب نشوئه، وتطوّره، والمنهج المتّبع فيه، وأهمّ أبحاثه وكتبه والعلماء المؤسّسين له، ومدى الحاجة إليه والاستفادة منه، وقد اصطلح على هذا النحو من المعرفة اسم: مداخل العلوم الإسلاميّة.
ونظراً للحاجة العلمية والتعليمية إلى وجود كتاب مستقل كمدخل لكل علم من العلوم الإسلامية في حوزاتنا ومدارسنا العلمية، تصدّى مركز نون للتأليف والترجمة
9
4
المقدمة
لإعداد هذا الكتاب؛ مدخل إلى علم الكلام. لينضم إلى سلسلة مداخل العلوم التي تضم حتى الآن، الفلسفة والفقه والأصول، العرفان، وعلم الاجتماع. على أمل التوفيق لإكمال هذه السلسلة لتضم ما تبقّى من العلوم الإسلامية. وقد اعتمدنا في الإعداد والتأليف والتحقيق على عددٍ من المصادر والمراجع المتخصِّصة في مجالها. على أمل أن يكون كتابنا هذا قد ملأ فراغاً علمياً وتعليمياً، في ساحتنا الإسلاميّة.
والحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة
10
5
الدرس الاول: ما هو علم الكلام؟
الدرس الاول : ما هو علم الكلام؟
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يذكر التعريف الأنسب لعلم الكلام.
2- يبيّن العلاقة بين علم العقيدة وعلم الكلام.
3- يحدّد أهمية علم الكلام.
13
6
الدرس الاول: ما هو علم الكلام؟
تعريف علم الكلام
لقد جرت العادة في التعرف على أي علم من العلوم، أن يتم تعريف هذا العلم تعريفاً يوضح حقيقة هذا العلم وحدوده. وقد عُرّف علم الكلام بتعريفات عدة، منها:
1- تعريف ابن ميثم البحراني: "العلم المتكفل ببيان أصول الدين"1.
2- تعريف الملا صدرا: في شرحه على أصول على الكافي قال: "علم الكلام هو البحث عن ذات الله وصفاته وأفعاله وعن أحوال المعاد بأدلة ممزوجة من العقل والشرع، بمقدّمات مقبولة عند الجمهور، أو مسلمة عند الخصم"2.
3- وقد أورد الشهيد الثاني تعريفاً له فقال: "واعلم أنه علم إسلامي وضعه المتكلمون لمعرفة الصانع وصفاته العليا، وزعموا أن الطريق منحصر فيه وهو أقرب الطرق"3.
4- ومن التعريفات التي تنقل من طريق أهل السنّة ما عرفه ابن خلدون: "علم الكلام هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة، وسرّ هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد"4.
5- وكذلك عرّفه الجرجانيّ بأنّه: "علمٌ يُبحث فيه عن ذات الله تعالى، وصفاته،
1 ابن ميثم البحراني: قواعد المرام في علم الكلام، ص19–20 (بتصرف يسير)، الحسيني أحمد (تحقيق)، قم، مطبعة الصدر، 1406 هـ، ط2.
2 نقله الشيخ عبد الرسول الغفار في حاشية كتابه (الكليني والكافي) عن الملا صدرا في كتابه شرح أصول الكافي، حاشية: ص316. الغفار، عبد الرسول: الكليني والكافي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1416 هـ، ط1.
3 الشهيد الثاني، زين الدين بن علي: حقائق الإيمان (مع رسالتي الاقتصاد والعدالة)، ص176، الرجائي مهدي (تحقيق)، مطبعة سيد الشهداء، قم، 1409 هـ، ط1.
4 ابن خلدون، عبد الرحمن: تاريخ ابن خلدون، ج1، ص458، دار إحياء التراث، بيروت، ط4.
15
7
الدرس الاول: ما هو علم الكلام؟
وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام". وقد أدخل قيد "قانون الإسلام" لإخراج الفلسفة الإلهيّة من التعريف، فإنّها تبحث عن ذلك معتمدة على القواعد العقليّة الفلسفيّة.
يظهر من التعريفات التي أوردها العلماء لهذا العلم، أنها تدور حول ماهية واحدة له، وإن اختلفت تعبيراتهم والتي ربما يكون اختلافها ناشئاً من تعدد المشارب والاتجاهات الفكرية لهؤلاء العلماء. فعلم الكلام: "هو العلم الذي يبحث فيه عن إثبات أصول الدين الإسلامي بالأدلة المفيدة لليقين بها"1.
ماهية علم الكلام
بناء للتعريف الجامع لعلم الكلام، يمكن أن نقول أن علم الكلام يتوفر على بحث ودراسة مسائل العقيدة الإسلامية الحقّة بإيراد الأدلة وعرض الحجج على إثباتها، ومناقشة الأقوال والآراء المخالفة لها، ومحاكمة أدلة تلكم الأقوال والآراء، وإثبات بطلانها، ونقد الشبهات التي تثار حولها، ودفعها بالحجة والبرهان. فمثلا: إذا أردنا أن نستدل على ثبوت وجود خالق لهذا الكون، وثبوت أنه واحد لا شريك له، نرجع إلى هذا العلم، وعن طريقه نتعرف الأدلة، التي يوردها علماء هذا العلم في هذا المجال.
ذلك أن هذا العلم هو الذي يعرفنا الأدلة والبراهين والحجج العلمية التي باستخدامها نستطيع أن نثبت أصول الدين الإسلامي ونؤمن بها عن يقين. كما أنه هو الذي يعرفنا كيفية الاستدلال بها وكيفية إقامة البراهين الموصلة إلى نتائج يقينية.
وهكذا إذا أردنا أن نعرف وجوب النبوة وصحة نبوة النبي، فإننا نعمد إلى أدلة هذا العلم التي يستدل بها في هذا المجال، وندرسها، ثم نقيمها برهانا على ذلك. وأيضا إذا أردنا أن ننفي شبهة التجسيم عن الذات الإلهية، أو شبهتي التفويض والجبر في أفعال العباد، نرجع إلى هذا العلم، وعن طريقه نستطيع معرفة ما يقال من نقد لإبطالها. ومثلها سائر مسائل وقضايا علم الكلام التي سنأتي على عرضها واستعراضها.
1 خلاصة علم الكلام، العلامة الفضلي، ص2.
16
8
الدرس الاول: ما هو علم الكلام؟
ولا بد في الأدلة التي يستدل بها على إثبات أي أصل من أصول الدين، وأية مسألة أو قضية من مسائل هذا العلم وقضاياه من أن تكون مفيدة لليقين بالأصل أو المسألة أو القضية. فمثلا: لو أقمنا الدليل على ثبوت (المعاد) لا بد في هذا الدليل من أن يؤدي إلى اثبات المعاد بشكل يدعونا إلى الاعتقاد الجازم والإيمان القاطع بثبوت المعاد، أي اليقين بمعاد الناس إلى الله تعالى ببعثهم من القبور وحشرهم في مشهد القيامة، وعرضهم للحساب، ومن بعد مجازاتهم بالثواب أو العقاب. ومن هنا قيد التعريف بـ (المفيدة لليقين بها)، والضمير في عبارة (بها) يعود إلى أصول الدين.
موضوع علم الكلام
من تعريف علم الكلام يتبين لنا موضوع العلم، وهو "أصول الدين": وأصول الدين هي: التوحيد، العدل، النبوة، الإمامة، المعاد1. وهو أيضاً ما يصطلح عليه أغلب علماء الكلام بأن موضوع علم الكلام هو ذات الله وصفاته وأسماؤه وأفعاله، ولقد سمّيت موضوعات هذا العلم المذكورة في أعلاه بأصول الدِّين في مقابل الأحكام القائمة على أساس منها والمبتنية عليها التي تعرف بفروع الدين. وهذا التقسيم للدين إلى أصول وفروع مأخوذ من تقسيمهم الدين إلى معرفة وطاعة. ويعنون بالمعرفة: العقيدة، وبالطاعة: العمل.
ولأن العمل بطبيعته يقوم على المعرفة سميت مفاهيم وأحكام المعرفة بأصول الدين، ومفاهيم وأحكام الطاعة بفروع الدين. ونستطيع أن نتبين فحوى هذا التقسيم من فهمنا للدين بأنه توجيه لسلوك الإنسان في هذه الحياة.
والإنسان كائنٌ يخضع إلى بعدين في حياته: البعد الفطري، والبعد العملي. فأحكام الدين التي شرعت لتوجيه البعد النظري سميت بالمعرفة لأنها عقيدة.
[1] "موضوعات كتب أصول الدين في الأصل هي: إثبات الصانع وصفاته، ومسائل العدل، ثمّ النبوّة والإمامة، والمعاد". المظفر، محمد حسن: دلائل الصدق لنهج الحق، ج1، ص22، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، دمشق، 1422 هـ، ط1.
17
9
الدرس الاول: ما هو علم الكلام؟
والعقيدة معرفة موطنها النظر (الفكر). وتلك التي شرعت لتوجيه البعد العملي سميت بالطاعة، لأنها عمل، والعمل طاعة. عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الإيمان هو الإقرار باللّسان وَعَقْدٌ في القلب وعمل بالأركان"1.
الحاجة إلى علم الكلام
تأتي الحاجة إلى دراسة هذا العلم وأمثاله مما يوصل إلى معرفة أصول الدين من وجوب معرفة أصول الدين على كل إنسان توافرت فيه شروط التكليف الشرعي والإلزام الديني. ووجوب النظر في قواعد العقائد ومعرفتها وجوب عقلي.
وخلاصة الدليل: هو أن يقال: إن الله تعالى منعم على الإنسان بنعمة الخلق والإيجاد. وشكر المنعم واجب عقلا، وذلك لأنّه حسنٌ والعقلاء يمدحون فاعله، وكل فعل يستحق فاعله المدح من قبل العقلاء، ينبغي فعله. وشكره تعالى لا يتحقق إلا بإطاعته بامتثال أوامره ونواهيه. وتقدم أن الطاعة فرع المعرفة، إذن لا بد من المعرفة.
وقد أيدت وأكدت النصوص الشرعية هذا الوجوب، ومنها:
1- قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾2، ويتم الاستدلال بهذه الآية الكريمة بأن يقال: إن قوله تعالى (اعلم) فعل أمر والأمر المجرد من قرائن الاستحباب والجواز دال على الوجوب فـ (اعلم) يدل على وجوب معرفة الألوهية، ومعرفة تفرد الله تعالى بها.
2- قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ﴾3، قال الشيخ الطوسي: "في هذه الآية دلالة على وجوب النظر والفكر، والاعتبار بما يشاهد من الخلق والاستدلال على الله تعالى، ومدح لمن كانت صفته هذه، ورد على من أنكر وجوب ذلك، وزعم أن الايمان لا يكون إلا تقليدا وبالخبر، لأنه تعالى أخبر عما في خلق السماوات
[1] الكافي، ج2، ص27.
[2] سورة محمّد، الآية 19.
[3] سورة آل عمران، الآية 190.
18
10
الدرس الاول: ما هو علم الكلام؟
والأرض، واختلاف الليل والنهار من الدلالات عليه وعلى وحدانيته"1.
وقال الشيخ الطبرسي: "وقد اشتهرت الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه لما نزلت هذه الآيات قال: ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل ما فيها"2.
وفي رواية الفاضل المقداد: "ويل لمن لاكها بين لحييه ثم لم يتدبّرها"، وأوضح الفاضل المقداد الاستدلال على وجوب المعرفة بهذه الرواية، بقوله: "رتّب الذم على تقدير عدم تدبّرها، أي عدم الاستدلال بما تضمّنته الآية من ذكر الأجرام السماوية والأرضية، بما فيها من آثار الصنع والقدرة والعلم بذلك، الدالة على وجود صانعها وقدرته وعلمه، فيكون النظر والاستدلال واجبا، وهو المطلوب"3.
3- قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾4. تشير الآية الكريمة إلى أن الغاية من خلق السماوات والأرض هي: معرفة قدرة الله تعالى، ومعرفة علمه سبحانه. وبديهي أن هذه المعرفة لا تتأتى إلا بالتدبر والتأمل والتفكر فيهما. وإذا كانت الغاية من خلق السماوات والأرض هي معرفة الله تعالى كما تشير الآية، كانت معرفته أول الدين كما يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته: "أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له"5. ومن هنا كان التوحيد هو الأصل والأساس لسائر أصول الدين وجميع فروعه وشؤونه.
[1] الطوسي، محمد بن الحسن: التبيان في تفسير القرآن، ج3، ص79، قصير أحمد (تحقيق)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1409 هـ، ط1.
[2] م.ن، ج2، ص470.
[3] السيوري، المقداد: النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر، ص19، دار الأضواء، بيروت، 1996م، ط2.
[4] سورة الطلاق، الآية 12.
[5] بحار الأنوار، ج4، 247.
19
11
الدرس الاول: ما هو علم الكلام؟
المفاهيم الرئيسة
- علم الكلام هو العلم الذي يبحث فيه عن إثبات أصول الدين الإسلامي بالأدلّة المفيدة لليقين بها.
- إنّ مهمّة علم الكلام تتلخّص في البحث حول مسائل العقيدة الحقّة عبر إيراد الأدلّة والجمع، ومناقشة الآراء المخالفة وإبطالها.
- لا بدّ في الأدلّة التي يستدلّ بها على إثبات أي أصلٍ من أصول الدين أو أي قضية من قضايا هذا العلم أن تكون مفيدة لليقين.
- إنّ موضوع أصول الدين هو: التوحيد، العدل، النبوة، الإمامة، المعاد.
- من الأدلة على وجوب معرفة أصول الدِّين هو دليل شكرِ المنعم.
- من الأدلة القرآنية على وجوب معرفة أصول الدّين، قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾.
أسـئلـة الـدرس
1- ما هو تعريف علم الكلام؟
2- ما هو موضوع علم الكلام؟
3- هل هناك حاجة لعلم الكلام؟ ولماذا؟
4- أعطِ دليلين على وجوب معرفة أصول الدين؟
20
12
الدرس الثاني: أسماء علم الكلام وسبب التسمية
الدرس الثاني: أسماء علم الكلام وسبب التسمية
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعدّد التسميات التي سمي علم الكلام بها.
2- يبيّن الوجه في تسمية هذا العلم بهذه التسميات.
3- يتعرّف إلى خصوصية تسمية هذا العلم بعلم "أصول الدين".
21
13
الدرس الثاني: أسماء علم الكلام وسبب التسمية
تمهيد
لقد ذُكرت لهذا العلم الباحث عن المسائل الاعتقاديّة عدّة أسماء. ونلاحظ أنّ كلّ تسميةٍ كان لها وجهها وسببها. ونحن سنذكُر هذه التسميات مع وجوهها:
علم الكلام
وهو أشهر التسميات المتداولة لهذا العلم. وقد ذُكرت عدّة وجوه في سبب تسمية هذا العلم بعلم الكلام، نذكر منها:
1ـ إنّ العلماء المتقدّمين كانوا يُعَنوِنون فصول أبحاثهم بالكلام, فيقولون: كلامٌ في التوحيد، كلامٌ في القدرة، كلام في النبوّة، كلامٌ في العدل، وهكذا، فلمّا كثر لفظ الكلام في هذا النحو من أبحاثهم سمّي بعلم الكلام.
2ـ إنّ من يدرس هذا العلم، ويتقنه ويستحضر قوانينه وأدلّته، يصبح ماهراً وبارعاً في النقاش والمجادلة وإفحام الخصم، وبعبارةٍ أخرى تصبح عنده قوّةً في الكلام مع الخصم في الأمور الاعتقاديّة والعقليّة والشرعيّة، فيسمّى متكلّماً، لتضلّعه بهذا العلم.
3ـ إنّ قوّة أدلّة هذا العلم ـ مع ملاحظة ما سيأتي في أنّ نشوء هذا العلم في الأوساط الإسلاميّة كان قبل الفلسفة ـ صار كأنّه هو الكلام دون ما عداه من العلوم الأخرى، وتقول العرب للكلام القوي عندما تقارن بين كلامٍ ضعيفٍ وكلامٍ قويٍّ : هذا هو الكلام.
4ـ إنّ أشهر مسألةٍ بحث عنها هذا العلم، واختلفت فيها الآراء - لا سيما في القرن
23
14
الدرس الثاني: أسماء علم الكلام وسبب التسمية
الأوّل الهجريّ - هي معنى الكلام الإلهيّ، وهل أنّ الله متكلّمٌ؟ وهل أنّ كلامه قديمٌ أم حادثٌ؟ واشتدّ النزاع كثيراً في هذه المسائل بالتحديد بين الفرق الإسلاميّة، حتّى كفّر بعضهم بعضاً، وأريقت دماءٌ كثيرة، بما هو معروفٌ في التاريخ باسم (محنة القرآن).
5ـ لأنّ هذا العلم يبتنى على الأدلّة القطعيّة التي تفيد اليقين، فيكون أشدّ تأثيراً في القلب، فكأنّه يجرح القلب ويدميه لشدّة تغلغله به، وعليه تكون هذه التسمية مشتقّةً من الكَلْم ـ بسكون اللام ـ أي الجرح.
6ـ لأنّ مشايخ المعتزلة كانوا أصحاب قرائح خصبة، في نضدّ القريض، وارتجال الخطب الاعتقاديّة والمناظرة فيها، حتّى بلغوا الذروة في الفصاحة والبلاغة، فسمّيت صناعتهم هذه ـ
بسبب أوصافهم وخصوصيّاتهم ـ بالكلام، وسُمُّوا هم بالمتكلّمين.
7ـ هذا العلم أسبق من غيره في المرتبة، فالكلام فيه أسبق من الكلام في غيره، فكان أحقّ بهذا الاسم1.
علم أصول الدين
والمراد بالدين هو مجموعة المفاهيم والأحكام والأخلاق التي تفرضها الشريعة على الإنسان. وهي لا تخلو في الغالب من مشقّةٍ، ومن ترك ملذّة. والالتزام به لا بدّ أن يبتنى على حجّةٍ ودليلٍ قاطعين. وإنّما سمي هذا العلم الذي نحن بصدده بعلم أصول الدين، "لأنّ العلوم الدينيّة من الفقه والحديث والتفسير مبنيّةٌ عليه، لأنّها متوقّفةٌ على صدق الرسول، المتوقّف على ثبوتِ المرسِلِ وصفاته وامتناع القبيح عليه، وهذا العلم يبحث عن ذلك ... فلا جرم كان أصلاً للدين"2.
[1] راجع: الإيجي، عبد الرحمن بن أحمد: المواقف، ص9، دار الباز، مكة المكرّمة0 وشمس الدين، محمّد جعفر: دراسات في العقيدة الإسلاميّة، ص20-21، دار التعارف، بيروت،1406 هـ، ط3. والحلّي: نهاية المرام في علم الكلام، ج1، ص8، عرفان فاضل(تحقيق)، منشورات مؤسّسة الإمام الصادق عليه السلام، قم، 1419هـ، ط1.
[2] الإحسائي، ابن أبي جمهور: كشف البراهين، ص66-67، وجيه بن محمّد المسبّح (تحقيق)، منشورات مؤسّسة أمّ القرى، قم، 2001م، ط1.
24
15
الدرس الثاني: أسماء علم الكلام وسبب التسمية
علم العقائد
وهذه التسمية باعتبار أنّ هذا العلم يبحث عن العقائد التي يعتنقها الإنسان، وقد مرّ معنى العقيدة، فسمّي هذا العلم باعتبار موضوعاته، وما يبحث عنه من مسائل وقضايا ترتبط بالمعتقد، والعلم بهذه القضايا علمٌ بالعقائد، فسُمّي بعلم العقائد.
علم التوحيد والصفات
ومن الجليّ جداً أنّ وجه التسمية بهذا الاسم هو أحد أبرز وأهمّ أبحاثه، وهو البحث عن توحيد الله سبحانه، وعن صفاته تعالى، فكانت التسمية للكلّ باسم الجزء، وهو متعارف جدّاً في لغة العرب.
الفقه الأكبر
الفقه في اللغة هو الفهم والمعرفة. وينبغي على الإنسان أن يعرف بالدرجة الأولى أمرين:
1ـ الأحكام العمليّة الفرعيّة: التي تضبط كلّ أعماله وتصرّفاته، وهي ما يطلق عليها بالاصطلاح (الفقه).
2ـ المسائل الاعتقاديّة: حيث إنّ الأحكام العمليّة تُبتنى على المسائل الاعتقاديّة، فكانت هذه المسائل أهمّ وأشرف. لذلك سمّيت الأحكام بالفقه الأصغر، وسميّت المسائل الاعتقاديّة بالفقه الأكبر.
علم النظر والاستدلال
وقد سمّي هذا العلم بذلك, لأنّ عمدة مسائله، نحو: إثبات الصانع، وحكمته، ووحدانيته، وضرورة بعثة الأنبياء، وغيرها من المسائل، تعتمد على الأدلّة العقليّة، وهي بحاجة إلى نظرٍ وفكرٍ واستدلالٍ.
25
16
الدرس الثاني: أسماء علم الكلام وسبب التسمية
المفاهيم الرئيسة
- إنّ أشهر كلمة متعارفة لهذا العلم (علم العقيدة) هي تسمية "علم الكلام".
- من أهم أسباب تسمية هذا العلم بعلم الكلام، أنّ أشهر مسألة بحث عنها هذا العلم - ولا سيما في القرن الهجري الأوّل – هي مسألة الكلام الإلهي، ولذلك سمّوا هذا العلم بذلك الاسم.
- سمّي هذا العلم بعلم أصول الدّين لأنّ العلوم الدّينية من الفقه والحديث والتفسير مبنيّة عليه.
- وسمّي هذا العلم بعلم العقائد لأنّه علمٌ يبحث عن العقائد الحقّة التي ينبغي أن يعتنقها الإنسان.
- وسمّي هذا العلم بعلم التوحيد والصّفات لأنّ أبرز المسائل التي يبحث فيها هي مسألة ذات الله تعالى ومسألة صفاته.
أسـئلـة الـدرس
1- أذكر بعض أسماء علم الكلام.
2- لماذا سمّي هذا العلم بعلم بالكلام؟
3- ما هو وجه التسميّة بعلم أصول الدين؟
4- لماذا سمي هذا العلم بعلم العقائد؟
26
17
الدرس الثالث: أهمّيّة علم الكلام ومرتبته بين العلوم
الدرس الثالث: أهمّيّة علم الكلام ومرتبته بين العلوم
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن أهميّة علم الكلام.
2- يشرح الوظيفتين البنائية والدفاعية لعلم الكلام.
3- يتبيَّن شرف علم الكلام ومرتبته بين العلوم.
27
18
الدرس الثالث: أهمّيّة علم الكلام ومرتبته بين العلوم
أهميّة علم الكلام
تذكر عادةً في بداية كلّ علمٍ فائدته، لتعرف أهميّة هذا العلم، فلا يغدو البحث فيه ترفاً فكرياً، ولا عبثاً جزافيّاً، ولتزداد الرغبة في تحصيله لكلّ طالبٍ لتلك الفوائد المرجوّة من ذلك العلم.
وقد ذُكرت لعلم الكلام عدّة فوائد، يمكن إرجاعها في الجملة إلى فائدتين أساسيّتين:
1- البنائيّة:
إنّ الاطلاع على علم الكلام، والتعرّف إلى أدلّته، تعطي الإنسان - لا سيما- المسلم فهماً إيمانيّاً عميقاً، وترتقي بمعتقداته - من أن تكون بسيطةً ساذجةً، أو يتخلّلها بعض الشبهات الطارئة - إلى مستوى الفكر والوعي والإدراك الصحيح، ليصبح ملمّاً بالأدلّة القويّة، والحجج البالغة حول إثبات الصانع والتوحيد وصفات الله والنبوّة والإمامة والعدل والمعاد وسائر المسائل الاعتقاديّة. وبالخصوص علم معرفة الله المثيب والمجازي لعباده على فعل الخيرات وارتكاب السيّئات "وكيفيّة آثاره وأفعاله وتكاليفه على الإجمال. وذلك هو سبب السعادة الأبديّة، والخلاص من الشقاء الأبديّ، ولا غاية أهمّ من هذه الغاية"1.
1 الحلّي، العلامة الحسن بن يوسف، نهاية المرام في علم الكلام، ج1، ص13، تحقيق: فاضل عرفان، منشورات مؤسّسة الإمام الصادق عليه السلام، قم ـ إيران، ط. الأولى 1419 هـ .
29
19
الدرس الثالث: أهمّيّة علم الكلام ومرتبته بين العلوم
2- الدفاعيّة:
لعلّ الدفاع عن العقيدة هي الفائدة الأساس المرجوّة من هذا العلم، ولأجلها دوّن علم الكلام، واتسعت مطالبه وما زالت كذلك حتّى عصرنا الحاضر. فنصرة العقيدة، والدفاع عن الدين الإسلاميّ الحنيف، والحفاظ على إيمان ومعتقدات المسلمين، والذود عنها بردّ الشبهات، ورفع الإشكالات، ودفع الاعتراضات، تعتبر من أهم الفوائد والآثار الطبية لعلم الكلام.
فلا يخلو عصرٌ من وجود أشخاصٍ يلقي الشيطان في أفئدتهم، وينفث على ألسنتهم، فيوجّهون الشبهات العويصة حول الدين. ولا تكون هذه الشبهات إلّا فتنةً للذين في قلوبهم مرضٌ، وللقاسية قلوبهم. وأمّا الذين آمنوا فيعلمون الحقّ ويدافعون عنه بردّ هذه الشبهات ونسخ هذه الاعتراضات، حتّى تستحكم آيات الله وحججه. وقد كان علم الكلام أهمّ وأبرز العلوم الإسلاميّة التي أخذت على عاتقها ومسؤوليّتها الدفاع عن الدين، وردّ الشبهات عنه.
3- فوائد أخرى:
يمكن أن تتحقّق من دراسة علم الكلام فوائد أخرى، غير هاتين الفائدتين، وقد ذُكر منها:
أ- مسألة تصحيح النيّة: فمن خلال اطلاع المسلم على علم الكلام يستطيع تصحيح نيّته واعتقاده, إذ بالنيّة يُرجى قبول الأعمال، وبها ينال الفوز في الدارين، وقد ذُكرت مسألة تصحيح النيّة كفائدةٍ مستقلّةٍ لهذا العلم أيضاً.
ب- مسألة تفرّع العلوم الشرعيّة على هذا العلم: وقد اعتبرت فائدة مستقلّة لعلم الكلام، ولما مرّ الكلام أنّ المفاهيم والأحكام والأخلاق تعدّ الفقه الأصغر، ولا يمكن التعويل عليها لولا تأسيس القواعد، والبناء على الفقه الأكبر وهو علم الكلام.
30
20
الدرس الثالث: أهمّيّة علم الكلام ومرتبته بين العلوم
ج- مسألةُ بناء قواعد الدين كفائدةٍ مستقلّةٍ: وهي في الحقيقة متفرّعةٌ على الفائدة الأولى, حيث إنّه من خلال الدفاع عن الدين، وردّ الشبهات، تتبلور القواعد الأساس لهذا الدين، وتتجلّى أسسه وأصوله، التي عليها يبنى، ومن خلالها يتمّ الدفاع، وبها تتمّ الحجّة.
د- مسألة إرشاد المسترشدين: فإنّه بهذا العلم تظهر لهم الحجّة، وتلزم المعاند وتفحمه، وتردّ الشبه، وبذلك يسترشد طالب الهداية، ولا يبقى له عذرٌ أمام الله بأنّه لم يظهر له الحقّ، أو أنّه لم يطّلع على ما يفيده العلم واليقين في المعتقد1.
شرف علم الكلام
من خلال الاطلاع على أهميّة هذا العلم، والفائدة المرجوّة منه، وأهمّ المسائل التي يتعرّض لها بالإثبات بالأدلّة القاطعة، أو بالدفاع عنها بالحجج البالغة، يظهر شرف هذا العلم، وعلوّ شأنه. وقد ذُكرت عدّة وجوهٍ في شرف هذا العلم نذكر منها:
1ـ شرف العلم تابع لشرف المعلوم:
أي شرف المسائل التي يتعرّض لها بالبحث والتنقيب. وقد تقدّم أنّ الغرض الأهم والأساس في هذا العلم هو معرفة العقيدة. وأوّل العقائد معرفة الله سبحانه وتعالى، وصفاته وكيفيّة أفعاله وتأثيراته، ومن ثمّ البحث عن رسله وأوصيائهم، وأحوال النفس والمعاد. وهذه أشرف المطالب فواجب الوجود أشرف الموجودات، فالعلم به أشرف العلوم.
2ـ براهين العلم أوثق البراهين:
"إنّ مقدمات العلوم قد تكون قطعيّةً، وقد تكون ظنيّةً، ويحصل بالأوّل اليقين،
[1] راجع: الإيجي، المواقف، ص8. (ذكر في المقصد الثالث خمس فوائد).
31
21
الدرس الثالث: أهمّيّة علم الكلام ومرتبته بين العلوم
وبالثاني الظنّ، والأوّل أشرف. ومقدّمات هذا الفنّ قطعيّةٌ يقينيّة، إمّا بديهيّة أو كسبيّة راجعةٌ إليها، فتكون براهينه أوثق من غيره، فيكون أشرف"1.
3ـ التعرّف إلى مطالب السعادة:
إنّ الإنسان خُلق لا كغيره من الحيوانات، حيث إنّه جُعل محلاً لخطاب الله جلّ وعلا، وتكليفه بالأوامر والنواهي، وما ذلك إلّا لينال السعادة الأخرويّة والفوز والرضوان، "وهذه أعظم الأمور وأجلّ المطالب، ولا تحصل هذه إلّا من خلال الإيمان بالله تعالى ورسله وأوصيائهم، والإيمان باليوم الآخر، والتعرّف على هذه الأمور لا يكون إلّا عبر هذا العلم، فهو إذاً أشرف العلوم"2.
4ـ احتياج العلوم الدينيّة لهذا العلم:
فإنّ العلوم الدينيّة كلّها متفرّعةٌ على هذا العلم، ولا يمكن البناء عليها لو لم يثبت بدواً الصانع، وقدرته وعلمه، ليصحّ بالتالي التكليف، ويتيسّر للفقيه والمحدّث والمفسّر للكتاب العزيز وغيرهم من أصحاب العلوم الإسلاميّة الخوض في مجالات علومهم. فبقية العلوم إذاً تحتاج إلى هذا العلم، بينما هو لا يحتاج إلى شيءٍ منها، فهو أشرف منها.
5ـ بقاء أثره بعد الموت:
إنّ المعتقد لازم للإنسان، لا يفارقه "ويبقى مع النفس بعد الموت، ويبقى أثره في الآخرة، بل يقوى ويكمل، ويصير يوم القيامة ضروريّاً، فكان أشرف العلوم وأفضلها"3.
[1] العلامة الحلّي، نهاية المرام في علم الكلام، ج1، ص7.
[2] م. ن. (بتصرّف).
[3] الإحسائي، ابن أبي جمهور، كشف البراهين، ص69.
32
22
الدرس الثالث: أهمّيّة علم الكلام ومرتبته بين العلوم
وقد ذكر جلّ هذه الأسباب صاحب المواقف بعبارةٍ مختصرةٍ ووافية1. كما وذكرها العلّامة الحلّي في نهاية المرام2.
مرتبته بين العلوم
بعد أن تبيّنت فائدة هذا العلم، وشرفه، وموضوعه، أصبحت منزلة هذا العلم بين العلوم واضحة جدّاً، وأنّه لا بدّ أن يكون مقدّماً على سائر العلوم، وسابقاً عليها. وقد ذكر العلّامة الحلّي منزلته بما نصّه:
"إنّ مبادئ سائر العلوم إنّما تتبيّن فيه. ومعرفة ذي المبدأ متوقّفةٌ على معرفة المبدأ. فلهذا العلم تقدّم بهذا الاعتبار على غيره من سائر العلوم.
ولأنّ سبب النجاة إنّما هو معرفة هذا العلم، وهذه الغاية أكمل من كلّ غاية، فلهذا العلم تقدّم على غيره بحسب غايته. ولأنّ معلومه أشرف من كلّ معلومٍ وجب تقدّمه على جميع العلوم"3.
[1] الإيجي، المواقف، ص8.
[2] راجع: الحلّي، نهاية المرام في علم الكلام، ج1، ص13.
[3] م. ن.
33
23
الدرس الثالث: أهمّيّة علم الكلام ومرتبته بين العلوم
المفاهيم الرئيسة
- المهمّة الأولى لعلم الكلام هي دفاعية وهي نصرة العقيدة، والدفاع عن الدّين الإسلاميّ الحنيف.
- المهمّة الثانية لعلم الكلام تنويريّة، لأنّ الاطلاع على علم الكلام، والتعرّف إلى أدلّته، يرفعان من مستوى الفهم الإيماني للإنسان المسلم بعيداً عن الاعتقاد الأولي الساذج.
- يظهر شرف علم الكلام من خلال الاطلاع على أهميّة هذا العلم، والفائدة المرجوّة منه، وأهمّ المسائل التي يتعرّض لها بالإثبات بالأدلّة القاطعة، أو بالدفاع عنها بالحجج البالغة.
- من فوائد علم الكلام، تصحيح النية التي هي ركنٌ أساسٌ يرجى بها قبول الأعمال.
- ومن فوائد دراسة علم الكلام أنّه تُبنى عليه باقي المفاهيم والأحكام الشرعية التي تعدّ الفقه الأصغر، مقابل علم الكلام الذي يُعدُّ الفقه الأكبر.
أسـئلـة الـدرس
1- ما هي الغاية من علم الكلام؟
2- عدّد وجوه شرف هذا العلم وتحدّث عن واحد منها.
3- هل تحتاج العلوم الدينيّة لهذا العلم؟ ولماذا؟
4- تحدّث عن مرتبته بين العلوم؟
34
24
الدرس الرابع: ضرورة علم الكلام
الدرس الرابع: ضرورة علم الكلام
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يميّز بين علم الكلام والفلسفة.
2- يشرح شبهة تحريم علم الكلام والرد عليها.
3- يتعرّف إلى ضرورة علم الكلام.
35
25
الدرس الرابع: ضرورة علم الكلام
الفرق بين علم الكلام والفلسفة
بعد ملاحظة تعريف علم الكلام نجد أنّ هناك مجموعةً من العقائد والمباحث الثابتة في الدين، يعتنقها عالم الكلام (المتكلّم)، ويقوم بدور تثبيتها بالأدلّة والدفاع عنها قبال كلّ من يحاول هدمها أو التشكيك فيها. فهناك إذاً مجموعةٌ من الحقائق المقدّسة تكون هي المحور وهي الأساس. وقد جعلت هي المعيار لصحّة أيّ فكرةٍ تطرح. وعلى أساس هذا المعيار يُدخلونها في الدين أو يُخرجونها عنه.
بينما نجد الفيلسوف لا يعتنق أيّ فكرةٍ مسبقة، وليس عنده شيءٌ مقدّسٌ قبل دخوله بالبحث الفلسفيّ. فهو يدخل في البحث مجرّداً عن أيّ مقدّس سابق، وعن أي عقيدةٍ قَبليّةٍ. وليس بيده غير البرهان العقليّ والمنطقيّ الذي يعتمد على المقدّمات اليقينيّة لا الظنيّة. وهذا البرهان هو المعيار والفيلق عنده.
وبعبارةٍ أخرى: إنّ المتكلّم يحاول إخضاع البرهان العقليّ والمنطقيّ لما يعتقد أنّه حقّ، وأنّه مقدّس، أي لعقيدته. فالبرهان متأخرٌ عنده عن العقيدة، بينما الفيلسوف لا يعتقد قبل البرهان، بل يبرهن ثمّ يعتقد، حتّى لو لم تكن نتيجة البرهان متّفقةً مع أهوائه وميوله.
ولعلّ هذا هو الفارق الأساس بين المتكلّم والفيلسوف، ومنه يعرف الفارق بين علم الكلام والفلسفة، فالأوّل عقيدةٌ ثابتةٌ يُبحث عن براهينها، والثاني براهين تثبت عقيدةً1.
[1] راجع: شمس الدين، محمّد جعفر، دراسات في العقيدة الإسلاميّة، ص23.
37
26
الدرس الرابع: ضرورة علم الكلام
قال العلّامة الطباطبائي: "القياسات المأخوذة في الأبحاث الكلاميّة جدليةٌ مركّبةٌ من مقدّمات مسلّمة: (المشهورات والمسلمات)، لكون الاستدلال بها على مسائل مسلّمة، وما أخذ في الأبحاث الفلسفيّة منها قياساتٌ برهانيّةٌ، يراد بها إثبات ما هو الحقّ، لا إثبات ما سُلّم ثبوتها تسليماً"1.
وذكر في نفس البحث قبل أسطرٍ: "إنّ الفلسفة تبحث بحثاً حقيقيّاً، وتبرهن على مسائل مسلّمة، بمقدّماتٍ يقينيّةٍ. والكلام يبحث بحثاً أعمّ من الحقيقيّ والاعتباريّ، ويستدل على مسائل موضوعة مسلّمة بمقدّمات هي أعم من اليقينيّة والمسلّمة، فبين الفنّين أبعد ممّا بين السماء والأرض"2.
شبهة حرمة علم الكلام
لقد جاء في بعض الروايات النهي عن الخوض في المجادلات العقائديّة. وفي بعضها ورد النهي عن الخوض في ذات الله سبحانه وتعالى3. فتمسّك البعض بهذا النوع من الروايات ليتبنّى فكرة حرمة علم الكلام، وأنّه ورد النهي عن الخوض في أهمّ مواضيعه.
عن أبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: سمعته يقول: "لا يخاصم إلّا رجل ليس له ورعٌ أو رجلٌ شاكٌّ"4.
[1] الطباطبائي، محمّد حسين: الميزان في تفسير الميزان، منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلميّة، قم المقدسة، 1985، ط1.
[2] م.ن. ص260.
[3] عن أبي عبد الله عليه السلامقال: "إذا انتهى الكلام إلى الله فامسّكوا، وتكلّموا فيما دون العرش ولا تكلّموا فيما فوق العرش، فإنّ قوماً تكلّموا فيما فوق العرش فتاهت عقولهم، حتّى كان الرجل ينادى من بين يديه فيجيب من خلفه، وينادى من خلفه فيجيب من بين يديه". والتكلّم فيما فوق العرش كنايةٌ عن التفكّر في كنه ذاته وصفاته تعالى. المجلسيّ محمد الباقر: بحار الأنوار،ج3، ص261، إبراهيم الميانجي، محمّد الباقر البهبودي (تحقيق)، منشورات مؤسّسة الوفاء، بيروت،1983م، ط2.
[4] الصدوق، محمد بن علي: التوحيد، ص458، هاشم الحسيني الطهراني(تصحيح وتعليق)، منشورات جماعة المدرّسين في قم المقدّسة، قم، ط1.
38
27
الدرس الرابع: ضرورة علم الكلام
قال الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام: "يهلك أصحاب الكلام، وينجو المسلمون. إنّ المسلمين هم النجباء"1.
والصحيح أنّ فهم هذا النوع من الروايات بأنّها تنهى عن علم الكلام خاطئٌ2، وهو ناتجٌ عن عدم التدبّر فيها، وعن عدم مراجعة سائر كلماتهم عليهم السلام. فإنّ للنهي المذكور وجوهاً واحتمالات يمكن أن يحمل عليها:
1- لطائفةٍ خاصّةٍ:
وهي التي لا تحسن الأسُس المتينة لعلم الكلام، ولا تدرك أصول الدين وأدلّته بشكل محكمٍ وقويّ. فورد النهي خوفاً عليهم من الضلال والانحراف وعدم إظهار الحجج الثابتة للخصم، وحرصاً عليهم، وخشية انحرافهم، وهذا لا يعني حرمة علم الكلام.
فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام "أنّه نهى رجلاً عن الكلام وأمر آخر به، فقال له بعض أصحابه: جعلت فداك، نهيتَ فلاناً عن الكلام وأمرت هذا به؟ فقال: هذا أبصر بالحجج، وأرفق منه"3.
قال الشيخ المفيد في ذيل هذه الرواية: "فثبت أنّ نهي الصادقين عليهما السلام عن الكلام إنّما كان لطائفةٍ بعينها، لا تحسنه ولا تهتدي إلى طرقه، وكان الكلام يفسدها، والأمر لطائفةٍ أخرى به، لأنها تحسنه وتعرف طرقه وسبله"4.
2- النهي كان عن إثبات أصولٍ غير حقّة:
فإنّ الأصول الحقّة عند أهل البيت والعصمة عليهم السلام فحسب. فعن يونس بن يعقوب قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: "جعلتُ فداك, إنّي سمعتُك تنهى عن الكلام وتقول:
[1] م. ن.
[2] الشهيد الثاني، حقائق الإيمان، ص178.
[3] المفيد، محمد بن محمد النعمان، تصحيح اعتقادات الإماميّة، ص71، حسين دركاهي(تحقيق)، منشورات دار المفيد للطباعة والنشر، بيروت، 1414 هـ، ط2.
[4] م. ن.
39
28
الدرس الرابع: ضرورة علم الكلام
ويلٌ لأصحاب الكلام يقولون هذا ينقاد وهذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا نعقله، فقال أبو عبد الله عليه السلام: إنّما قلت: فويلٌ لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يريدون"1.
وفي روايةٍ أخرى: "ثمّ دعا حمران بن أعين ومحمّد بن الطّيار، وهشام بن سالم، وقيس الماصر، فتكلّموا بحضرته، وتكلّم هشام بعدهم. فأثنى عليه ومدحه وقال له: مثلك من يكلم الناس"2.
3- النهي عن تشبيه الله بخلقه وتجسيده:
قال الشيخ المفيد: "فأمّا النهي عن الكلام في الله عزّ وجلّ؛ فإنّما يختصّ بالنهي عن الكلام في تشبيهه بخلقه وتجويره في حكمه. وأمّا الكلام في توحيده ونفي التشبيه عنه والتنزيه له والتقديس، فمأمور به ومرغّب فيه. وقد جاءت بذلك آثارٌ كثيرةٌ وأخبارٌ متظافرةٌ"3.
كيف، وقد حثّ الإمام أمير المؤمنين وسائر الأئمّة عليهم السلام على تحصيل معرفة الله، وكمال المعرفة بالتوحيد والفهم الصحيح للصفات الإلهيّة. ففي نهج البلاغة: "أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه"4.
وجوب معرفة علم الكلام
بعد أن ظهر الردّ على شبهة تحريم علم الكلام، يمكن الدعوى أنّ هذا العلم واجبُ التعلّم، وضروريّ التحصيل، ولو بمقدار معرفة الله من خلال الدليل، لا من خلال التقليد، ومعرفة بعض الصفات، والرسل والرسالة والإمام والمعاد، فإنّ هذه الأمور وغير ذلك من الأمور التي يجب تحصيلها ومعرفتها على كلّ مكلّفٍ، وجوباً عينيّاً، لا
[1] الكليني، الكافي، ج1، ص171.
[2] المفيد، تصحيح اعتقادات الإماميّة، ص71.
[3] م. ن. ص72.
[4] نهج البلاغة ، ج1، الخطبة 1، ص15، عبده محمّد (شرح)، دار الذخائر، قم، 1412 هـ، ط1.
40
29
الدرس الرابع: ضرورة علم الكلام
تكون في الغالب إلّا بهذا العلم. فوجوب هذا العلم ضروريّ لمن يريد المعرفة بهذه الأمور بالدليل البرهان.
قال العلامة الحليّ: "... إنّ معرفة الله تعالى واجبةٌ، وكذا معرفة صفاته، وما يجب له ويستحيل عليه. ولا تتمّ هذه المعرفة إلّا بهذا العلم؛ لأنّه المتكفّل بذلك، وما لا يتمّ الواجب المطلق إلّا به فهو واجب على ما يأتي.
وأيضاً قوله تعالى: ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾1.
وقوله: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾2.
وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ﴾3، إلى غير ذلك من الآيات الدالّة عليه.
وكذا ما ورد من الآيات الدالة على النهي عن التقليد وذمّه. ولا خلاف بين العقلاء في ذلك.
والواجب على قسمين: إمّا على الأعيان أو على الكفاية. ووجوب هذا العلم على الأعيان، للنهي عن التقليد في العقائد.
واعلم أنّ القدر الواجب على الأعيان من هذا العلم، هو معرفة الله تعالى بالدليل، ومعرفة ما يجب معرفته من صفاته الثبوتيّة والسلبيّة، ومعرفة آثاره التي تتوقّف عليها بعثة الرسل، ومعرفة الرسل وصدق الأنبياء، ومعرفة المعاد، والإمام. ولا يجب تتبّع الجواب عن الشبهات، ومقاومة الخصوم على الأعيان، بل ذلك واجبٌ على الكفاية"4.
[1] سورة يونس، الآية 101.
[2] سورة محمّد، الآية 19.
[3] سورة الروم، الآية 8.
[4] الحلّي: نهاية المرام في علم الكلام، ج1، ص15.
.
41
30
الدرس الرابع: ضرورة علم الكلام
المفاهيم الرئيسة
- يفترق علم الكلام عن الفلسفة، بأنّ المتكلِّم يعتقد بدين وفكر سابقين يقوم بدور الدفاع عنهما بالمنطق والبرهان، بينما نجد الفيلسوف لا يعتنق أيّ فكرةٍ مسبقة ويدخل البحث مستعيناً
بالبرهان.
- يحاول المتكلّم إخضاع البرهان العقلي والمنطقي لما يعتقد أنّه حقّ. فالبرهان متأخرٌ رتبةً عن اعتقاده. والفيلسوف على العكس من ذلك.
- إنّ الفارق بين المتكلّم والفيلسوف يمثِّل في جوهره الفارق بين علم الكلام والفلسفة، فالأوّل عقيدة يُبحث به عن براهينها، والثاني براهين تثبت عقيدةً.
- لقد وددت بعض الروايات في النهي عن الخوض في ذات الله سبحانه، فتمسّك بها البعض لتبنّي فكرة حرمة علم الكلام، وهي شبهة ينبغي التدبّر فيها.
- قد يُحمل النهي عن الكلام أنّه موجَّه لطائفة خاصّة من الناس لا تُحسن الخوض فيه وقد يجرّها ذلك إلى الانحراف.
- وقد يُحمل النهي عن الكلام على النهي عن اتّباع غير سبيل الحقّ والعقائد التي يقرِّرها أهل البيت عليهم السلام.
أسـئلـة الـدرس
1- ما الفارق بين الفيلسوف والمتكلّم؟
2- ما الفرق بين الفلسفة وعلم الكلام؟
3- كيف توجّه الروايات الناهية عن علم الكلام؟
4- هل يجب تعلّم علم الكلام؟ ولماذا؟
42
31
الدرس الخامس: نشأة علم الكلام (1)
الدرس الخامس: نشأة علم الكلام (1)
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرَّف إلى وجود عوامل داخلية وخارجية لنشأة علم الكلام.
2- يتبيّن دور العوامل الداخلية لنشأة علم الكلام.
3- يشرح أهمية دور أهل البيت عليهم السلام في نشأة علم الكلام.
43
32
الدرس الخامس: نشأة علم الكلام (1)
نشأة علم الكلام
إنّ علم الكلام كسائر العلوم الإنسانيّة، ظاهرةٌ فكريّةٌ وعلميّةٌ نشأت بين المسلمين لأسبابٍ وظروفٍ وعوامل عدّةٍ، تأتي إن شاء الله تعالى. وما يهمّنا هو علم الكلام الإسلاميّ، وإن كانت ظاهرة هذا العلم موجودةً في الديانات الأخرى، في مدارس الديانة المسيحيّة واليهوديّة، وقد ألّف غير واحدٍ من علماء هذه الديانات كتباً كلاميّةً. لكن ما يهمّنا من هذا البحث خصوص الكلام في مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
عوامل نشأة علم الكلام
يمكن تلخيص عوامل نشأة علم الكلام بين المسلمين في عدّة عواملٍ داخليّةٍ وأخرى خارجيّةٍ. وفي هذا الدرس سوف نتحدث عن العوامل الداخلية والتي نذكر منها:
دور القرآن الكريم
إنّ القرآن المجيد هو المنطلق الأوّل لنشوء علم الكلام ونضجه وارتقائه عند المسلمين، وإليه يرجع كل متكلّم إسلاميّ باحث عن المبدأ وأسمائه وصفاته وأفعاله. وقد تضمّن القرآن إشاراتٍ فلسفيّةً وعقليّةً، قامت على أُسسٍ منطقيّةٍ مذكورةٍ في نفس الآيات، أو معلومةٍ من القرائن. فمن سبر القرآن الكريم فيما يرجع
45
33
الدرس الخامس: نشأة علم الكلام (1)
إلى التوحيد بأنواعه، يجد الحجج الملزمة، والبيّنات المسلّمة، التي لا تدع لباحثٍ الشك فيها. كما أنّه أرفق الدعوة إلى المعاد والحياة الأُخرويّة بالبراهين المشرقة، والدلائل الواضحة التي لا تقبل الخدش.
كذلك فإنّ القصص الواردة في القرآن الكريم تتضمّن احتجاجات الأنبياء عليهم السلام وصراعهم الفكريّ مع الوثنيين والمعاندين من أهل اللجاج، وهي ممّا يستند إليها المتكلّم في آرائه الكلاميّة. كما تتضمن بحوثاً في الإنسان وأفعاله ومسيره ومصيره، وغير ذلك... ممّا جعل القرآن الكريم المنطلق الأوّل لنشأة علم الكلام في الإسلام، والمادة الأولى الخصبة والحيّة التي يرجع إليها المتكلّم في استدلالاته ونقاشاته، والتي كانت سبباً أيضاً لنشوء أسئلةٍ جمّةٍ لدى بعض المسلمين الأوائل.
تأثير السنّة الشريفة
ناظرَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المشركين وأهل الكتاب بمرأىً ومسمعٍ من المسلمين. وهذه احتجاجاته مع نصارى نجران في العام العاشر من الهجرة، حتّى أنّه صلى الله عليه وآله وسلم، بعدما أفحمهم، دعاهم إلى المباهلة. وقد حفل التاريخ وكتب السِيَر والتفسير بما دار بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبطاركة نجران وقساوستهم. وقد استدلّوا على أُلوهيّة المسيح عليه السلام بقولهم: هل رأيت ولداً من غير ذكر؟ فأفحمهم رسولالله صلى الله عليه وآله وسلم بإيحاء من الله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾1. لكنّ النهي عن كتابة الحديث أدّى إلى ضياع الكثير من احتجاجات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومناظراته مع المشركين وأهل الكتاب، فذهبت كذهاب سائر خطبه. ولكن الشيعة اقتداءً بالعترة احتفظت بكثير من هذه المناظرات في كتبهم الحديثية، فمن سبرها يرى فيها بحوثاً ومناظرات تصلح لأن تكون هي المنطلق في الصدر الأوّل لأهل الكلام من الشيعة وغيرهم.
1 سورة آل عمران، الآية 59.
46
34
الدرس الخامس: نشأة علم الكلام (1)
خطب الإمام علي عليه السلام
إنّ خطب الإمام علي عليه السلام ورسائله وكلماته القصار، التي حفظها التاريخ عن العصف والضياع، لأوضح دليل على أنّ الإمام عليه السلامكان هو المؤسّس للأُصول الكلاميّة، خصوصاً فيما يرجع إلى التوحيد والعدل. وبملاحظة نهج البلاغة، الذي جمعه الشريف الرضيّ ممّا وصل إليه من خطبه، يتراءى من الأُصول الكلاميّة ما لا يظهر في غيره، وإلى ذلك يشير السيّد المرتضى في أماليه فيقول: "اعلم أنّ أُصول التوحيد والعدل مأخوذةٌ من كلام أمير المؤمنين عليه السلاموخطبه، فإنّها تتضمّن من ذلك ما لا زيادة عليه ولا غاية وراءه. ومن تأمّل المأثور من كلامه، علم أنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعده في تصنيفه وجمعه إنّما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الأُصول. وروي عن الأئمّة عليهم السلام من أبنائه عليهم السلام في ذلك ما لا يكاد يحاط به كثرة, ومن أحبّ الوقوف عليه فطلبه من مظانّه أصاب منه الكثير الغزير الذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة ولقاح للعقول العقيمة"1.
وقال ابن أبي الحديد: "إنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهيّ، لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف. ومن كلامه عليه السلام اقتُبس، وعنه نُقل، ومنه ابتُدئ وإليه انتُهي. فإنّ المعتزلة، الذين هم أصل التوحيد والعدل وأرباب النظر ومنهم تعلّم الناس هذا الفنّ، تلامذته وأصحابه، لأنّ كبيرهم "واصل بن عطاء" تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمّد بن الحنفية وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه. وأمّا الأشعريّة فإنّهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعريّ وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة فالأشعريّة ينتهون بالآخرة إلى أُستاذ المعتزلة ومعلّمهم، وهو علي بن أبي طالب"2.
[1] المرتضى، علم الهدى: الأمالي، ج1، ص103، النعساني الحلبي محمّد بدر الدين (تصحيح وتعليق)، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، 1325هـ، ط1.
[2] ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج1، ص17، دار إحياء الكتب العربية، بيروت، 1378هـ ش، ط1.
47
35
الدرس الخامس: نشأة علم الكلام (1)
معارف العترة الطاهرة عليها السلام
لقد أُتيحت الفرصة للعترة الطاهرة عليهم السلام في آخر عهد الأمويّين وأوائل حكومة العباسيّين، في شرح المعارف وتوضيح الحقائق وتربية روّاد الفكر، وإرشاد الحكيم إلى دلائل وبراهين لا يقف عليها إلّا الأوحديّ من الناس، والتلميح إلى نكات عرفانيّة، لا يدركها إلّا العارف المتألّه.
ففي أدعية الإمام زين العابدين عليه السلام إشاراتٌ كلاميّة وتلميحاتٌ عرفانيّةٌ. كما أنّ في الأحاديث المرويّة عن الصادقين والكاظمين عليهم السلام كميّةً هائلةً من البحوث الكلاميّة، والمناظرات العلميّة التي أدّت إلى نضوج علم الكلام الإسلاميّ بوجهٍ واضح، وكنموذج نذكر هذه المحاججة: محاججة الإمام الرضا عليه السلام مع أبي قرّة:
فعن صفوان بن يحيى قال: "سألني أبو قرّة المحدّث أن أدخله على أبي الحسن الرضا عليه السلام، فاستأذنته في ذلك فأذن لي، فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام، حتّى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال أبو قرّة للإمام الرضا عليه السلام: إنّا روينا أنّ الله (عزّ وجلّ) قسّم الرؤية والكلام بين اثنين، فقسّم لموسى عليه السلام الكلام، ولمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم الرؤية.
"فقال أبو الحسن عليه السلام: فمن المبلّغ عن الله عزّ وجلّ إلى الثقلين: ﴿الْجِنِّ وَالإِنسِ﴾1. ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾2 ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾3 و﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ﴾4 أليس محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم؟ .
"قال: بلى.
[1] سورة الأنعام، الآية 130.
[2] سورة الأنعام، الآية103.
[3] سورة طـه، الآية110.
[4] سورة الشورى، الآية11.
48
36
الدرس الخامس: نشأة علم الكلام (1)
"قال: فكيف يجيء رجلٌ إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند الله، وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ و﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، ثمّ يقول: أنا رأيته بعيني، وأحطت به علماً، وهو على صورة البشر! أما تستحيون، ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا: أن يكون يأتي عن الله بشيءٍ، ثمّ يأتي بخلافه من وجهٍ آخر"1.
ومن وقف على كتب أهل الحديث والأشاعرة، يقف على أنّ لهم في إثبات الرؤية، صخباً وهياجاً وإصراراً منقطع النظير، وترى كيف أنّ الإمام قطع الطريق على أبي قرّة الذي اغترّ بأحاديث مدسوسةٍ اختلقتها اليهود وأنصارهم وبثّوها بين المسلمين.
[1] الكليني، الكافي، ج1، ص96.
49
37
الدرس الخامس: نشأة علم الكلام (1)
المفاهيم الرئيسة
- هناك نوعان من العوامل التي ساهمت في نشأة علم الكلام: العوامل الداخلية، والعوامل الخارجية.
- المقصود من العوامل الداخلية لنشأة علم الكلام، جملة من العناصر التي ساهمت في تأسيس الدّين الإسلامي، ومنها: القرآن الكريم، السنّة النبوية الشريفة، أهل البيت عليهم السلام.
- إنّ دور القرآن الكريم في شأن علم الكلام يتجلّى في احتوائه على أصول المسائل الاعتقادية التي ينبغي أن ينطلق منها كل باحث، ويعود إليها.
- إنّ دور السنّة النبوية الشريفة يتجلّى في العديد من المناظرات والتأسيسات العقائدية التي أشرف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على بنائها وترسيخها انطلاقاً من القرآن الكريم
والوحي الإلهي.
- لقد قام أمير المؤمنين عليهم السلام بدورٍ هام جدّاً في تنقيح الأصول الكلامية خصوصاً ما هو موجود في نهج البلاغة.
أسـئلـة الـدرس
1- عدّد ثلاثة من الأسباب الداخليّة التي ساعدت على نشوء علم الكلام.
2- اشرح دور القرآن الكريم في نشأة علم الكلام؟
3- بيّن أهمية دور النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نشأة علم الكلام؟
4- اشرح باختصار دور الإمام علي عليه السلام في نشأة علم الكلام؟
50
38
الدرس السادس: نشأة علم الكلام (2)
الدرس السادس: نشأة علم الكلام (2)
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى وجود أسبابٍ خارجية في نشأة علم الكلام.
2- يشرح أثر الاحتكاك الثقافي مع الشعوب الأخرى.
3- يتعرّف إلى بدايات المسائل الكلاميّة في الإسلام.
51
39
الدرس السادس: نشأة علم الكلام (2)
العوامل الخارجية لنشأة علم الكلام
بعد الحديث عن العوامل الداخليّة التي أدّت إلى نشوء علم الكلام نتحدث عن العامل الثاني الذي ساعد على نشوء هذا العلم والمتمثل بالعوامل الخارجيّة.
الاحتكاك الثقافيّ واللقاء الحضاريّ
كان للاحتكاك الثقافيّ واللقاء الحضاريّ دورٌ خاصٌّ في مجال نشوء علم الكلام. فقد دفع عجلة هذا العلم إلى الأمام، وصار سبباً لنموّه ونضوجه بين المسلمين بأقصر مدّةٍ. ولولا هذا الصراع الفكريّ لما نمت تلك البذور الطيّبة الكامنة في الكتاب والسنّة، وما استوت على سوقها. والعاملان (الداخليّ والخارجيّّ) وإن صارا سبباً لنشوء هذا العلم وتكامله إلّا أنّ دور الأوّل، يخالف دور الثاني. فالأوّل يعدّ مصدر علم الكلام ومنبعه ومنشأه، أمّا الثاني، فهو الذي أيقظ المفكرين من المسلمين حتّى ينمّوا ما تعلموه في مدرسة الدين من الأُصول والعقائد.
بيان العامل الخارجيّ
بُعِثَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بدينٍ عالميٍّ، ونبوّة خاتمةٍ، وكتابٍ خاتمٍ للكتب، ومهيمن عليها، وبثّ شريعته الغرّاء في ربوع الجزيرة العربيّة في بضع سنين، إلى أن مضى إلى جوار ربّه، وراية الإسلام خفّاقةٌ عاليةٌ، يدين أهلها بالتوحيد، ويكافحون الثنوية، ويؤمنون بالحياة الأُخرويّة ويعملون بسنن الإسلام وطقوسه.
وقد أحسّ المسلمون بواجبهم بعد رحيله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو نشر الإسلام وبسطه في العالم كلِّهِ ودعوة جميع البشر على مختلف قومياتهم إلى الانضواء تحت راية الإسلام،
53
40
الدرس السادس: نشأة علم الكلام (2)
بالحكمة والموعظة الحسنة، ثم كسر الأصنام والأوثان بالجهاد المتواصل، وبذل النفس والنفيس في سبيله، حتّى تُصْبِح الأجواء صافيةً، والظروف حرّةً، وترتفع العوائق والموانع بغية دخول الناس في دين الله زرافاتٍ ووحداناً عن طوعٍ ورغبةٍ، بلا خوفٍ ولا رهبةٍ من طواغيت العصر. فقامت الدول الإسلامية المتعاقبة بالتوسّع، ونشر الثقافة الإسلاميّة بين الأُمم المتحضّرة والتي كانت تتمتّع ـ وراء الآداب والفنون والعلوم والصناعات ـ بمناهج فلسفيّة، وآراء كلاميّة لا يذعن بها الإسلام.
وقد كان في ذلك الاحتكاك الثقافيّ واللقاء الحضاريّ تأثيرٌ بالغٌ، عاد على الإسلام والمسلمين بالخير الكثير، إلّا أنّ هذا الاحتكاك لم يخلُ عن مضاعفات، وهي انتقال تلك الآراء والأفكار إلى المسلمين، وهم غير متدرّعين تجاه تلك الشبهات والمشاكل.
انتقال الأسر
وأعان على ذلك أمرٌ ثانٍ؛ وهو انتقال عدّة من الأُسَر إلى العواصم الإسلاميّة، فانتقلوا إليها بآرائهم وأفكارهم وعقائدهم المضادّة للإسلام وأُسسه، وكان بين المسلمين من لم يتورّع في أخذ هاتيك العقائد الفاسدة، نظراء: عبد الكريم ابن أبي العوجاء، وحماد بن عجرد، ويحيى بن زياد، ومطيع بن اياس، وعبد الله بن المقفّع إلى غير ذلك بين غير متدرّع أو غير متورّع، فأوجد ذلك قلقاً ووحشةً بين المسلمين.
الترجمات
أضف إلى ذلك أمراً ثالثاً كان له التأثير الحاسم في بسط الإلحاد والزندقة وهو نقل الكتب الرومانيّة واليونانيّة والفارسيّة إلى اللغة العربيّة دون نظارةٍ ورقابةٍ، وجعلها في متناول أيدي الناس، وقد ذكر ابن النديم تاريخ ترجمة تلك الكتب فقال: "كان خالد بن يزيد بن معاوية محِبّاً للعلوم، فأمر بإحضار جماعةٍ من فلاسفة اليونان، ممّن كان ينزل مدينة مصر، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان
.
54
41
الدرس السادس: نشأة علم الكلام (2)
اليونانيّ والقبطيّ إلى العربيّ، وهذا أوّل نقل كان في الإسلام من لغةٍ إلى لغة، ثم نقل الديوان وكان باللغة الفارسيّة إلى العربيّة في أيّام الحجّاج، وكان أمر الترجمة يتقدم ببطء، إلى أن ظهر المأمون في ساحة الخلافة، فراسل ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة، المدّخرة في بلاد الروم، فأجاب إلى ذلك بعد امتناع، فبعث المأمون جماعة، منهم: الحجّاج بن مطر، وابن بطريق، ومحمّد بن أحمد و الحسين بنو شاكر المنجّم، فجاؤوا بطرائف الكتب، وغرائب المصنّفات في الفلسفة والهندسة وغيرهما"1. ثم ذكر ابن النديم أسماء النقلة من اللغات المختلفة إلى اللغة العربيّة، وجاء بأسماء كميّة هائلةٍ، فأخذوا يصبّون ما وجدوه من غثٍّ وسمينٍ في كتب الوثنيّين والمسيحيّين على رؤوس المسلمين، وهم غير متدرّعين وغير واقفين على جذور هذه الشُبَه، مع أنّها كانت تزعزع أركان الإسلام.
موقف المسلمين من الشبه
أثار انتقال هذه الشُبَه والعقائد والآراء إلى أوساط المسلمين ضجّةً كبيرة بينهم، فافترقوا إلى فرقتين:
فرقةٍ اقتصرت في الذب عن حياض الإسلام بتضليلهم وتكفيرهم وتوصيفهم بالزندقة، وتحذير المسلمين من الإلتقاء بهم، وقراءة كتبهم، والاستماع إلى كلامهم، إلى غير ذلك ممّا كان يعدّ مكافحةً سلبيةً لها الأثر القليل في مقابل ذلك السيل الجارف.
وفرقةٍ قد أحسّوا بخطورة الموقف، وأنّ المكافحة السلبيّة لها أثرها المؤقّت، وأنّ ذلك الداء لو لم يعالج بالدواء الناجع سوف يعمّ المجتمع كلّه أو أكثره، فقاموا بمكافحة إيجابيّة عبر الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال الذي يستحسنه الإسلام، فأزالوا شبهاتهم، ونقدوا أفكارهم في ضوء العقل والبرهان. وقد نجحوا في
[1] ابن النديم، أبو الفرج محمد بن أبي يعقوب: فهرست ابن النديم، تحقيق (تجدد رضا)، طهران، ط1.
55
42
الدرس السادس: نشأة علم الكلام (2)
ذلك نجاحاً باهراً. وهؤلاء المناضلون هم الشيعة خرّيجو مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
ففي تلك الأجواء المشحونة بالبحث والجدل استفحل أمر الكلام، أي العلم الباحث عن المبدأ وأسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله لغاية الذبّ عن الإسلام.فكان علم الكلام وليدَ الحاجة، ورهن الصراع الفكريّ مع التيّارات الإلحاديّة المتحدّية للإسلام والمسلمين. ففي هذه الظروف العصيبة قام أهل البيت عليهم السلام بتربية جموعٍ غفيرةٍ من أصحاب المواهب، للذبّ عن الإسلام وأُصوله والذود عن حريم الولاية، في ضوء العقل والبرهان، فصاروا يناظرون كلّ فرقةٍ ونِحلةٍ بأمتن البراهين وأسلمِها. وكان أئمّة أهل البيت عليهم السلام متكفّلين بتدريبهم وتعليمهم كيفيّة مناظرتهم. وقد حفظ التاريخ أسماء لفيفٍ من الرافلين في حلل الفضائل والمعارف. وسوف نتعرّض لأسمائهم إن شاء الله تعالى.
والخلاصة أنّ القرآن والسنّة، وأحاديث العترة الطاهرة، هي المنطلق الحقيقي لنشوء علم الكلام، وأنّ المسلمين بطوائفهم المختلفة كانوا يصدرون عنهما، كما كان للّقاء الحضاري والاحتكاك الثقافي دور في تكامل علم الكلام وكثرة مسائله. فالكتاب والسنّة كانا مرجعين للاهتداء إلى موقف الإسلام. واللّقاء الحضاري كان سبباً لطرح المسائل في الأوساط، وانتقال الأذهان. وبالتالي أصبح الأمران سبباً لنشوء هذا العلم ونضوجه بين المسلمين على نزعاتهم المختلفة.
بدايات المسائل الكلاميّة في القرن الأوّل والثاني
يصرّ كتّاب الملل والنحل على أنّ الاختلاف في الإمامة كان أوّل اختلافٍ دينيٍّ وأعظم خلافٍ بين الأُمّة.
يقول أبو الحسن الأشعريّ: "أوّل ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد وفاة نبيّهم صلى الله عليه وآله وسلم اختلافهم في الإمامة"1.
[1] أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين، ج1، ص34، نشرة محيي الدين عبد الحميد. نقلاً عن السبحاني في مقدمته على نهاية المرام في علم الكلام للعلامة الحلّيّ، ص15.
56
43
الدرس السادس: نشأة علم الكلام (2)
ويقول الشهرستانيّ: "إنّ الاختلاف في الإمامة أعظم خلاف بين الأُمّة، إذ ما سلّ سيفٌ في الإسلام على قاعدةٍ دينيّةٍ مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان"1.
والصحيح أنّ الاختلاف في الإمامة بعد أيام الخلفاء، وإن أصبح اختلافاً كلاميّاً، فذهب أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام إلى أنّها بنصٍّ من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، بينما اختار أتباع مدرسة الخلفاء القول بأنّها بالشورى، ولم يكن يوم ارتحل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اختلافاً في قاعدةٍ دينيّةٍ، وجدالاً في مسألةٍ كلاميّةٍ، بل كان جدالاً سياسياً محضاً، ولا يبتنى على قاعدةٍ دينيّةٍ، لأنّ عليّاً وأهل بيت النبيّ عليهم السلام ولفيفاً من شيعة الإمام عليه السلام كانوا بعيدين عن السقيفة وما جرى فيها، مشغولين بتجهيز النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وأمّا الأنصار فكانوا يرون أنفسهم أولى بإدارة الأُمور لأنّهم آووا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونصروه. وكان المهاجرون يرون أنفسهم أولى بها لأنّهم أصل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعشيرته، من دون أن يبحث أحدٌ من الفئتين عن القاعدة الدينيّة التي ينبغي أن تبنى عليها الإمامة، وأنّها هل هي التنصيص، أو الشورى أو غيرهما، وما هو الملاك فيها؟ بل كانت هذه الأُمور مغفولاً عنها يوم ذاك، وكان الهدف هو تسنّم منصّة الخلافة وتداول كرتها بين أبنائهم وعشيرتهم. حتّى لو لم تكن حكومة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حكومة دينيّة وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قائداً بشريّاً مات عنها، لقام المهاجرون والأنصار بنفس ذلك الجدال، ولسعى كلٌّ إلى جرّ النار إلى قرصه. ولو كان النزاع على أساس دينيّ، لما كان للاختلاف مجالٌ، وكفتهم هتافات الرسول صلى الله عليه وآله وسلمفي بدء الدعوة، ويوم ترك المدينة لغزوة تبوك، ويوم الغدير وغيرها من المواقف بالإضافة إلى الأحاديث التي دلّت على إمامة الأئمّة عليهم السلام من بعده.
[1]الشهرستاني، أبي الفتح محمد بن عبد الكريم: الملل والنحل، ج1، ص24، كيلاني محمد سيد(تحقيق)، دار المعرفة، بيروت، ط1.
57
44
الدرس السادس: نشأة علم الكلام (2)
المفاهيم الرئيسة
- إنّ الاحتكاك الثقافي بين المسلمين وغيرهم، أدّى لظهور صراعٍ فكري بينهم، وساهم هذا الصراع في إيقاظ المفكّرين المسلمين للمساهمة فيه.
- إنّ عالمية الدّين الإسلامي دفعت المسلمين إلى الاستمرار في نشر الإسلام وبسطه في العالم بمختلف قوميّاتهم.
- لعبت ترجمات الكتب الفلسفية والدّينية دوراً في بسطِ الإلحاد والزندقة، مما دفع المسلمين إلى محاولة القضاء عليها بكلّ الوسائل؛ ومنها الصراع الفكري والثقافي.
- اتخذ بعض المسلمين موقفاً حادّاً في مواجهة الإلحاد عبر تكفير الملحدين وتضليلهم وتحذير المسلمين من الالتقاء بهم.
- واتخذ البعض الآخر من المسلمين موقف البحث العلمي والدعوة والموعظة الحسنة في مواجهة المدّ الإلحادي.
أسـئلـة الـدرس
1- ما هو المقصود من العامل الخارجي؟
2- اذكر واحداً من الأسباب الخارجيّة التي ساعدت على نشوء هذا العلم وتحدّث عنه.
3- هل الخلاف حول الإمامة كان أوّل المسائل الكلاميّة؟ وضّح ذلك.
4- كيف واجه المسلمون الآثار السلبية الناتجة عن الترجمات.
58
45
الدرس السابع: نماذج من المسائل الكلاميـّة
الدرس السابع: نماذج من المسائل الكلاميـّة
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعدّد نبذة من أهم المسائل الكلامية التي كانت مورد خلاف بين المسلمين.
2- يبيّن المنشأ والأصل لكل مسألة كلامية خلافية.
3- يحدِّد مفهوم الإيمان وعلاقته بمفهوم العمل.
59
46
الدرس السابع: نماذج من المسائل الكلاميـّة
مسألة التحكيم
أحد الخلافات البارزة التي ظهرت، هي مسألة التحكيم في وقعة صفّين. والمسألة يوم ذاك، وإن اصطبغت بصبغةٍ سياسيةٍ، لكنها كانت على أساسٍ دينيّ، وهو أنّ الخوارج خالفوا علياً عليه السلاموانشقّوا عن جيشه، بحجّة أنّ حكم الله في الباغي، هو مواصلة الحرب والجهاد حتّى يفيء إلى حكم الله، لا التصالح وإيقاف الحرب. وحجّتهم وإن كانت مردودةً, لأجل أنّ التحكيم إنّما فُرِض على الإمام عليه السلام، لا أنّه قبله عن اختيارٍ وحريّةٍ، والخوارج هم الذين فرضوه عليه، ولم يكتفوا بذلك حتّى فرضوا عليه صيغة التحكيم ووثيقته، وحتى المُحكِّم الذي يشارك فيه مع مندوب معاوية، إلّا أنّ هذا الإعوجاج الفكريّ صار سبباً لتشكّل فرقتين متخاصمتين إلى عهودٍ وقرونٍ. وبذلك يفترق اختلافهم عن اختلاف أمثال طلحة والزبير ومعاوية, إذ لم يكن اختلافهم حول المبادئ، وإنّما طمعوا في أن يكونوا خلفاء وحكّاماً، ولذلك لم يثيروا إلّا مشاكل سياسيّةً دمويّةً، بخلاف الخوارج، فإنّ اختلافهم كان حول المبادئ، وكانوا يردّدون كلمة (لا حكم إلّا لله)، وكان الإمام عليّ عليه السلاموحواريّه الجليل ابن عباس يحتجّان عليهم بالقرآن والسنّة.
وبظهور الخوارج على الصعيد الإسلاميّ، ورفضهم التحكيم، طُرحت مسائل أُخرى بين المسلمين شكّلت مسائل كلاميّةً عبر القرون، وهي:
مرتكب الكبيرة
إنّ الخوارج كانوا يحبّون الخليفتين الأوّل والثاني، ويوافقون عثمان في سنيّ
61
47
الدرس السابع: نماذج من المسائل الكلاميـّة
خلافته إلى ستّ سنين. وأمّا الإمام عليّ عليه السلام فقد كانوا مصدّقيه إلى قضية التحكيم، إلّا أنّه لمّا فُرض عليه التحكيم، وقبل اضطراراً بذلك المخطّط لا عن رغبةٍ فيه، خالفوه ووصفوه باقتراف الكبيرة. وعندها طُرحت أوّل مسألةٍ كلاميّةٍ, وهي: ما حكم مرتكب الكبيرة؟ وكثر الكلام فيها أيّام محاربة الخوارج مع الأمويين المعروفين بالفسق والفجور، وسفك الدماء وغصب الأموال، فحاربهم الخوارج بحجّة أنّهم كفرةٌ, لا حرمة لدمائهم، ولا أعراضهم، ولا نفوسهم لاقترافهم الكبائر.
وقد تشعّبت الآراء في حكم مرتكب الكبيرة:
1- فالخوارج قالوا: إنّه كافرٌ.
2- وأبو الحسن البصريّ قال: إنّه فاسقٌ منافقٌ.
3- والمعتزلة ذهبوا إلى أنّه لا مؤمنٌ ولا فاسقٌ، بل منزلةٌ بينهما.
4- والشيعة وتبعهم الأشاعرة قالوا: إنّه مؤمنٌ لكنّه فاسقٌ.
مفهوم الإيمان
وقد انبثق من النزاع في مرتكب الكبيرة نزاعٌ كلاميٌّ آخر وهو: تحديد مفهوم الإيمان، وهل العمل داخل في حقيقة الإيمان أو لا ؟ فعلى قول الخوارج والمعتزلة، العمل مقوّم للإيمان، بخلافه على القول الآخر. وقد صارت تلك المسألة ذات أهميّة في الأوساط الإسلاميّة وانتهت إلى مسألة أُخرى، وهي زيادة الإيمان ونقصه بصالح الأعمال وعدمها.
القضاء والقدر
إنّ مسألة القضاء والقدر وإن كان لها جذور قبل بزوغ نجم الإسلام وبعده، لكنّها كانت مطروحة بصورة فرديّة، ولم تشكّل تيّاراً فكرياً ولا مذهباً كلاميّاً، ثمّ أخذت لنفسها أهميّةً خاصّةً في عصر الأمويين، حيث كانوا يبرّرون استئثارهم وأعمالهم
62
48
الدرس السابع: نماذج من المسائل الكلاميـّة
الإجراميّة بالقضاء والقدر، فصار ذلك سبباً لوقوع المسألة مثاراً للبحث والنقاش بين أهل الفكر من المسلمين.
وقد كانت تلك الفكرة سائدة حتّى بعد رحيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روى عبد الله بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبي بكر فقال: "أرأيت الزنا بقدر؟
قال: نعم.
قال: الله قدّره عليّ ثم يعذّبني؟
قال: نعم يابن اللخناء، أما والله لو كان عندي إنسانٌ، أمرته أن يجأ أنفك"1.
التشبيه والتنزيه
قد تتفق اليهوديّة والإسلام في الأصول العامّة للتوحيد والنبوّة، لكنهما يفترقان في أوصاف الربّ. فالتوراة يصف الإله بصورة بشرٍ وله صورة وإذا عمل يتعب فيحتاج إلى الاستراحة، ويقول: "فرغ الله في اليوم السادس من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع2، وأنّه يمشي بين رياض الجنّة وله نداء"3، إلى غير ذلك ممّا ورد في العهد القديم من التشبيه والتجسيم والتمثيل. وقد دسّت الأحبار كثيراً من البدع بين الأحاديث، لاعتماد الرواة على أُناس نظراء: كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وتميم الداري وغيرهم.
فأصبحت مسألة التشبيه والصفات ذات أهميّةٍ كبرى، فرّقت المسلمين إلى طوائف، واستفحل أمرها بوجود روايات التشبيه والتجسيم في الصحاح والمسانيد، التي عكف على روايتها المحدّثون السُذّج، غير العارفين بدسائس اليهود ومكرهم، فحسبوها حقائق راهنة. والخلاف في تفسير الصفات ما زال باقياً إلى يومنا هذا.
[1] الأمينيّ، عبد الحسين أحمد: الغدير، ج7، ص153، دار الكتاب العربي، بيروت، 1387هـ، ط3.
[2] العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الأوّل.
[3] العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الأوّل.
63
49
الدرس السابع: نماذج من المسائل الكلاميـّة
عصمة الأنبياء
إنّ أبرز ما يفترق فيه القرآن عن العهدين القديم والجديد هو مسألة حياة الأنبياء عليهم السلام، الذين وصفهم الله سبحانه بقوله ﴿وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ﴾1. وقد ذكر من قصصهم الشيء الكثير، ومع ذلك لا تجد فيه شيئاً يمسّ كرامتهم أو يحطّ من مقامهم. وأمّا التوراة والإنجيل (المحرّفان)، فقد جاءا بأساطير خياليّةٍ، تمسّ بكرامة الله أوّلاً، وكرامة أنبيائه ثانياً، فالأنبياء فيهما يشربون الخمر2 ويمكرون3 ويقترفون الزنا4 إلى غير ذلك ممّا يندى لذكره الجبين، فصار ذلك سبباً لطرح مسألة العصمة بين المسلمين، وانقسموا بين مثبتٍ ونافٍ ومفصّلٍ، وإن كان النافي بينهم أقلّ.
حدوث القرآن وقدمه
كان أهل الحديث ملتزمين بعدم اتخاذ موقف خاص فيما لم يرد فيه نص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمو عهد من الصحابة. إلّا أنّـهم خالفوا منهجهم في هذه المسألة بسبب بعض ألاعيب الأيادي الخارجة عن الإسلام. فقد طرح هذه المسألة يوحنّا الدمشقيّ في كتابه، وعلّم أتباعه المسيحيّين أن يسألوا المسلمين عن السيد المسيح عليه السلام، فإذا أجابوهم بنصّ قرآنهم ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾5 قالوا: هل كلمة الله وروحه مخلوقةٌ أم غير مخلوقةٍ؟ فإن قالوا مخلوقةً، فألزموهم بأنّ معناه أنّ الله كان ولم تكن له كلمةٌ ولا روحٌ، وإن قالوا قديمةً يثبت قدم المسيح، وكونه ابن الله وأحد الثلاثة.
[1] سورة ص، الآية 47.
[2] العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح التاسع، الجملات 20 ـ 25.
[3] العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح التاسع، والعشرون 18 ـ 38.
[4] العهد القديم، صموئيل الثاني، الإصحاح الحادي عشر 497.
[5] سورة النساء، الآية 171.
64
50
الدرس السابع: نماذج من المسائل الكلاميـّة
فأوجدت تلك المسألة ضجّةً كبيرةً بين المسلمين، فالمحدّثون اختاروا عدم كونه مخلوقاً، والمتفكّرون كالشيعة والمعتزلة اعتقدوا بالحدوث.
ولم تزل المسائل تطرح واحدةً بعد الأُخرى حسب امتداد الصراع الفكريّ بين المسلمين وسائر الشعوب, من مسيحيّةٍ ويهوديّةٍ ومجوسيّةٍ وبوذيّةٍ. فقد دفعت هذه الاتصالات الفكريّة عجلةَ علم الكلام إلى الأمام، فأصبح المتكلّمون يبحثون عن مسائل أُخرى، ربما تقع ذريعةً للردّ على الإسلام، إلى أن صار علم الكلام علماً متكامل الأركان متشعّب الفنون ناضج الثمار داني القطوف.
65
51
الدرس السابع: نماذج من المسائل الكلاميـّة
المفاهيم الرئيسة
- أوّل خلافٍ ظهر بين المسلمين، وصيّرهم فرقتين، هو مسألة التحكيم في وقعة صفين. والمسألة يوم ذاك، وإن اصطبغت بصبغةٍ سياسيّةٍ، لكنّها كانت على أساسٍ دينيّ، وهو أنّ الخوارج خالفوا عليّاً عليهم السلام وانشقّوا عن جيشه، بحجّة أنّ حكم الله في الباغي، هو مواصلة الحرب والجهاد حتّى تفيء إلى حكم الله.
- انبثق من النزاع في مرتكب الكبيرة نزاعٌ كلاميٌّ آخر وهو: تحديد مفهوم الإيمان، وهل أنّ العمل داخل في حقيقة الإيمان أو لا.
- كانت مسألة القضاء والقدر، مطروحة بصورة فردية ولم تشكّل تيّاراً فكريّاً ولا مذهباً كلاميّاً، ثمّ أخذت لنفسها أهميّةً خاصّةً في عصر الأمويين، حيث كانوا يبرّرون استئثارهم وأعمالهم الإجراميّة بالقضاء والقدر.
- هناك جهة التقاء بين اليهوديّة والإسلام في التوحيد والنبوّة، لكنهما يفترقان في أوصاف الله تعالى، فأصبحت مسألة التشبيه والصِّفات ذات أهميّةٍ كبرى، فرّقت المسلمين إلى طوائف.
اكتسبت مسألة إمكان النسخ في مجال التشريع مكانةً بين المسائل الكلامية. وبما أنّ اليهود كانوا منكرين لنبوّة المسيح عليه السلام والنبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، عادت تنكر إمكان النسخ.
- إنّ مسألة حدوث القرآن وقدمه من المسائل التي أثارت جدلاً واسعاً بين المسلمين، إذ أنّ إثبات حدوثه يثبت حدوث كلام الله (عيسى عليه السلام) وروحه، وإن كان العكس فعيسى قديم فهو ابن الله تعالى، وهو محال.
66
52
الدرس السابع: نماذج من المسائل الكلاميـّة
أسـئلـة الـدرس
- أذكر خمساً من المسائل الكلاميّة المطروحة في القرنين الأول والثاني؟
- تحدّث عن مسألة التحكيم؟ وآثارها على المسلمين؟
- لماذا طرحت مسألة النسخ في الشريعة؟ تحدّث عنها؟
- تحدّث عن مسألة حدوث القرآن وقدمه؟
67
53
الدرس الثامن: متكلّمو الشيعة (1)
الدرس الثامن: متكلّمو الشيعة (1)
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
يتعرّف إلى بعض متكلّمي الشيعة من القرن الأوّل إلى القرن الثالث الهجريّ.
يميّز دور أهل البيت عليهم السلام في تأسيس هذا العلم.
يذكر عدداً من متكلِّمي أصحاب الأئمة عليهم السلام.
69
54
الدرس الثامن: متكلّمو الشيعة (1)
أئمّة الشيعة في القرنين الأوّلين
لقد شغلت المسائل الكلاميّة مفكري المسلمين في القرنين الأوّلين. وقام الأئمّة عليهم السلام بالردّ على الشبهات المطروحة، والدفاع عن العقيدة ومسائلها.فهم رغم إقصائهم عن مناصبهم، إلّا أنّهم كانوا المرجع للمسلمين قاطبة، حتّى الحكّام والخلفاء اعترفوا بفضلهم وبكونهم المراجع العليا في ما يخصّ العقيدة والأحكام وسائر الأمور.
والمتتبّع لكلمات الأئمّة عليهم السلام وخطبهم ومواقفهم يجد الكثير من المواقف.وما يهمّنا هنا المسائل العقائديّة، التي كانوا المرجع فيها، وكانوا يبدون فيها الموقف الحق وفصل الخطاب. ونهج البلاغة مليء بالكلمات التي يتعرّض فيها لمسائل الإلهيّات1. ومن مواقف الأئمّة نذكر رسالة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام إلى الحسن البصريّ الذي كتب إلى الإمام عليه السلام يسأله: "أمّا بعد فإنّكم معشر بني هاشم، الفلك الجارية في اللّجج الغامرة، والأعلام النيّـرة الشاهرة، أو كسفينة نوح عليه السلام التي نزلها المؤمنون، ونجا فيها المسلمون، كتبت إليك يا ابن رسول الله عند اختلافنا في القدر وحيرتنا في الاستطاعة، فأخبرنا بالذي عليه رأيك ورأي آبائك عليهم السلام، فإنّ من عِلْم الله علّمكم، وأنتم شهداء على الناس والله الشاهد عليكم ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾2.
[1] لاحظ مثلاً إجابته عن القضاء والقدر، بعد أن سأله شيخٌ عنهما: الصدوق، التوحيد، ص381، ونهج البلاغة، ج4، ص69.
[2] سورة آل عمران، الآية 34.
71
55
الدرس الثامن: متكلّمو الشيعة (1)
فأجابه الإمام الحسن عليه السلام: "بسم الله الرحمن الرحيم، وصل إليّ كتابك، ولولا ما ذكرته من حيرتك وحيرة من مضى قبلك إذاً ما أخبرتك، أمّا بعد: فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشرّه وأنّ الله يعلمه فقد كفر. ومن أحال المعاصي على الله فقد فجر. إنّ الله لم يُطَعْ مكرهاً، ولم يُعْصَ مغلوباً، ولم يهمل العباد سدى من المملكة، بل هو المالك لما ملّكهم والقادر على ما عليه أقدرهم، بل أمرهم تخييراً، ونهاهم تحذيراً، فإن ائتمروا بالطاعة لم يجدوا عنها صادّاً، وإن انتهوا إلى معصية فشاء أن يمنّ عليهم بأن يحول بينهم وبينها، فعل، وإن لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها جبراً، ولا أُلزموها كرهاً، بل منَّ عليهم بأن بصَّـرهم وعرّفهم وحذّرهم وأمرهم ونهاهم، لا جَبْلاً لهم على ما أمرهم به فيكونوا كالملائكة، ولا جبراً لهم على ما نهاهم عنه، ولله الحجة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين، والسلام على من اتّبع الهدى"1.
وكذلك جواب الإمام الحسين عليه السلاملنافع بن الأزرق الذي يعدّ من رؤوس الخوارج حيث كان يسأل عن الإله الذي يُعبد2.
وممّا استخدمه الإمام السجاد عليه السلامفي نشر المعارف الحقّة أسلوب الدعاء. وكان يذكر في طيّات أدعيته مطالب عقائديّة عالية، كانت الشبه تدور حولها. فقد روى الشيخ المفيد أنّ عليّ بن الحسين عليه السلام كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم إذ سمع قوماً يشبّهون الله بخلقه، ففزع لذلك وارتاع له، ونهض حتّى أتى قبر رسول الله، فوقف عنده، ورفع صوته يناجي ربّه، فقال في مناجاته له: "إلهي بدت قدرتك ولم تبد هيئة فجهلوك، (وقدّروك بالتقدير على غير ما به أنت)، شبهوك وأنا بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك، ليس كمثلك شيءٌ،
[1] الحراني، ابن شعبة،: تحف العقول، ص231، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، قم، 1404هـ، ط2.
[2] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج14، ص183-184، علي شيري(تحقيق) دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1415 هـ، ط1.
72
56
الدرس الثامن: متكلّمو الشيعة (1)
إلهي ولم يدركوك، وظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك لو عرفوك، وفي خلقك يا إلهي مندوحةٌ أن يناولوك، بل سوّوك بخلقك فمن ثم لم يعرفوك، واتخذوا بعض آياتك ربا فبذلك وصفوك، فتعاليت يا إلهي عمّا به المشبّهون نعتوك"1.
أبرز أصحاب الأئمّة عليهم السلام في القرن الأوّل
كان هذا دور أئمّة الشيعة الأربعة في القرن الأوّل. وقد تربّى في مدرستهم رجال ذبّوا عن حياض العقيدة، بكلّ ما يملكون من حول وقوّة، وكانت لهم مواقف حسّاسة وبارزة لا سيما في مسألة الخلافة وانتزاعها من عليّ عليه السلام، وإن لم يصدق على بعضهم أنّهم متكلّمون بالمعنى المصطلح، نذكر منهم:
1ـ سلمان الفارسيّ: وأبرز ما كان له في هذا الصدد خطبته المطوّلة في الناس التي ينقلها صاحب البحار، قال فيها: "... أما والله لو ولّيتموهما عليّاً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم، فابشروا بالبلاء، واقنطوا من الرخاء، ونابذتكم على سواء وانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء..."2.
2ـ أبو ذرّ الغفاريّ: وقد كانت شهادته، في الربذة تلك الصحراء القاحلة، جرّاء مواقفه المشهودة بعد رحيل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأبرزها أنّه أخذ بحلقة باب الكعبة ونادى بأعلى صوته: "أنا جندب بن جنادة لمن عرفني، وأبو ذر لمن لم يعرفني، إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلميقول: من قاتلني في الأولى وقاتل أهل بيتي في الثانية، فهو من شيعة الدجال. إنما مثل أهل بيتي في أمتي كمثل سفينة نوح في لجة البحر، من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها غرق. ألا هل بلغت، ألا هل بلغت ؟ قالها ثلاثاً"3.
[1] الصدوق، التوحيد، ص153.
[2] المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 22، ص387، وج 29، ص79.
[3] الطوسيّ، محمد بن الحسن: الأمالي، ص459، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، قم، 1414 هـ، ط1.
73
57
الدرس الثامن: متكلّمو الشيعة (1)
3ـ عبد الله بن عباس: حبر الأُمّة وعالم الشريعة، تلميذ الوصيّ عليه السلام المعروف بحجاجه ومناظراته مع الخوارج وغيرهم. وقد حفلت كتب التفسير بآرائه وأفكاره في العقائد والتفسير.
4ـ حجر بن عدي الكنديّ: من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام. يصفه الإمام أبو عبد الله الحسين بن عليL بقوله مندّداً بعمل معاوية، حيث قتله بشهادةٍ مزوّرةٍ حاكها زياد بن أبيه: " ألست القاتل حجراً أخا كندة، والمصلّين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع، ولا يخافون في الله لومة لائمٍ، قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما كنت أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة؟"1 وقد استشهد في مرج عذراء عام 51 هـ.
5ـ كميل بن زياد النخعيّ: "لمّا ولي الحجاج طلب كميل بن زياد فهرب منه، فحرم قومه عطاءهم، فلما رأى كميل ذلك قال: أنا شيخٌ كبيرٌ قد نفد عمري، لا ينبغي أن أحرم قومي عطياتهم، فخرج فدفع بيده إلى الحجاج، فلما رآه قال له: لقد كنت أحبّ أن أجد عليك سبيلاً، فقال له كميل: لا تصرف عليّ أنيابك ولا تهدم عليّ، فوالله ما بقي من عمري إلّا مثل كواسل الغبار، فاقضِ ما أنت قاضٍ فإنّ الموعد الله وبعد القتل الحساب، ولقد خبّرني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنّك قاتلي، قال: فقال له الحجاج: الحجة عليك إذن، فقال كميل: ذاك إن كان القضاء إليك، قال: بلى، قد كنت فيمن قتل عثمان بن عفان، اضربوا عنقه، فضربت عنقه"2.
6ـ الأصبغ بن نباتة: "من خاصّة أمير المؤمنين وعمّر بعده. روى عنه عليه السلام عهد الأشتر ووصيّته إلى محمّد ابنه"[3]. "وكان الأصبغ كثير
[1] المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 44، ص213.
[2] المفيد، محمد بن محمد بن النعمان: الإرشاد، ج 1 ص327، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لتحقيق التراث (تحقيق)، منشورات دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1414هـ، ط2.
[3] النجاشي، أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد: رجال النجاشي، ص5، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، قم، 1416هـ، ط5.
74
58
الدرس الثامن: متكلّمو الشيعة (1)
الرواية، متقناً في حديثه، من كبار التابعين. وكان أكثر رواياته عن أمير المؤمنين عليه السلام. وقد روى عن الصحابة، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فضائل عليّ عليه السلام. وله رواياتٌ كثيرةٌ في فنون العلم: أبواب الفقه والتفسير والحكم وسائر الأبواب، ورواياتٌ في فضل أمير المؤمنين عليه السلام وفضل وليّه وشيعته، كما في اختصاص المفيد، وغيره"1.
وغيرهم من رجالات العقيدة، في هذين القرنين الذين انتهجوا نهج أهل البيت عليهم السلام، ولم يحيدوا عنه، ودافعوا عنه، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، مثال: سعيد بن جبير، قنبر مولى أمير المؤمنين عليه السلام، ميثم التمّار، ومالك الأشتر.
بعض متكلّمي الشيعة في القرن الثاني
1ـ زرارة بن أعين: "وهو مولى بني عبد الله …شيخ أصحابنا في زمانه، ومتقدّمهم. وكان قارئاً فقيهاً متكلّماً شاعراً، أديباً، قد اجتمعت فيه خلال الفضل والدين، صادقاً في ما يرويه. قال أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه: رأيت له كتاباً في الاستطاعة والجبر2. وقال ابن النديم: وزرارة أكبر رجال الشيعة فقهاً وحديثا، ومعرفةً بالكلام والتشيع"3.
وهو من الشخصيّات البارزة للشيعة التي اجتمعت العصابة على تصديقهم، وهو غنيّ عن التعريف والتوصيف.
2ـ محمّد بن علي بن النعمان بن أبي طريفة البجليّ: قال النجاشيّ: "مولى، الأحول (أبو جعفر) كوفيّ، صيرفيّ، يلقب مؤمن الطاق و (صاحب الطاق)
[1] الأبطحي، محمّد علي: تهذيب المقال في تنقيح كتاب رجال النجاشي، ج1، ص201، مطبعة فارس، 1417هـ ،ط2.
[2] النجاشي، رجال النجاشي، ص175.
[3] ابن النديم، فهرست ابن النديم، ص276.
75
59
الدرس الثامن: متكلّمو الشيعة (1)
ويلقبه المخالفون (شيطان الطاق) ...، فأمّا منزلته في العلم وحسن الخاطر، فأشهر وقد نسب إليه أشياء لم تثبت عندنا وله كتاب (افعل لا تفعل)،... وله كتاب (الاحتجاج في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وكتاب كلامه على الخوارج، وكتاب مجالسه مع أبي حنيفة والمرجئة"1. وقال ابن النديم: "وكان متكلّماً حاذقاً، وله من الكتب كتاب الإمامة، كتاب المعرفة، كتاب الردّ على المعتزلة في إمامة المفضول، كتاب في أمر طلحة والزبير وعائشة"2.
3 ـ هشام بن الحكم: قال ابن النديم: "هو من متكلّمي الشيعة الإمامية وبطائنهم، وممّن دعا له الصادق عليه السلام فقال: (أقول لك ما قال رسول الله لحسّان: لا تزال مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك). وهو الذي فتق الكلام في الإمامة، وهذّب المذهب، وسهّل طريق الحجاج فيه، وكان حاذقاً بصناعة الكلام، حاضر الجواب"3.
وقال النجاشي: "هشام بن الحكم، أبو محمّد مولى كندة، وكان ينزل بني شيبان بالكوفة، انتقل إلى بغداد سنة 199هـ، ويقال إنّ في هذه السنة مات، له كتاب يرويه جماعة ثم ذكر أسماء كتبه نذكر منها: "1- علل التحريم 2- الإمامة 3- الدلالة على حدوث الأجسام 4- الردّ على الزنادقة. 5- الردّ على أصحاب الاثنين 6- الردّ على هشام الجواليقي 7- الردّ على أصحاب الطبائع. 8- الشيخ والغلام في التوحيد. 9- التدبير في الإمامة. 10- إمامة المفضول.11- الوصيّة والردّ على منكريها. 12- اختلاف الناس في الإمامة. 13- الجبر والقدر. 14. الحكمين. 15- الردّ
[1] النجاشي، رجال النجاشي، ص325.
[2] ابن النديم، فهرست ابن النديم، ص224.
[3] م.ن. ص224.
76
60
الدرس الثامن: متكلّمو الشيعة (1)
على المعتزلة وطلحة والزبير. 16- القدر. 17- الردّ على المعتزلة. 18- الردّ على أرسطاطاليس في التوحيد.19- المجالس في التوحيد. 20- المجالس في الإمامة"1.
يقول عنه أحمد أمين: "أكبر شخصية شيعيّة في الكلام، ... وكان جدلاً قويّ الحجّة، ناظر المعتزلة وناظروه، ونقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرّقة تدلّ على حضور بديهته وقوّة حججه"2.
7ـ عليّ بن الحسن بن محمّد الطائيّ: "المعروف بـ (الطاطريّ) كان فقيهاً، ثقةً في حديثه، له كتب، منها: التوحيد، الإمامة، الفطرة، المعرفة، الولاية3 وغيرها. وعدّه ابن النديم من متكلّمي الإمامية وقال: ومن القدماء الطاطريّ وكان شيعيّاً ... وله من الكتب كتاب الإمامة حسن"4.
8ـ الحسن بن عليّ بن يقطين بن موسى: "مولى بني هاشم، وقيل مولى بني أسد، كان فقيهاً متكلّماً، روى عن أبي الحسن والرضا عليهما السلام، وله كتاب مسائل أبي الحسن موسى5 عليه السلام.
وبما أنّ أبا الحسن الأوّل توفي عام 183هـ، والثاني توفي عام 203هـ، فالرجل من متكلّمي القرن الثاني وأوائل القرن الثالث وهو الذي سأل الإمام الرضا عليه السلام بأنّه لا يقدر على لقائه في كلّ وقتٍ، "فعمّن يأخذ معالم دينه؟ فأجاب الإمام عليه السلام: خذ عن يونس بن عبد الرحمن"6.
[1] النجاشي، رجال النجاشي، ص433.
[2] أمين، أحمد: ضحى الإسلام ج 3 ص268، نقلاً عن عبد الله نعمة: هشام بن الحكم، ص75، منشورات دار الفكر اللبنانيّ، 1985م، ط2.
[3] النجاشي، رجال النجاشي، ص255.
[4] ابن النديم، فهرست ابن النديم، ص226.
[5] النجاشي، رجال النجاشي، ص45.
[6] الحرّ العامليّ، محمد بن الحسن: وسائل الشيعة، ج 18، ص107، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم، 1414هـ، ط2.
77
61
الدرس الثامن: متكلّمو الشيعة (1)
9ـ فضال بن الحسن بن فضال: وهو من متكلّمي عصر الصادق عليه السلام، وذكر الطبرسيّ في احتجاجه مناظرتَه مع أبي حنيفة.
وما ذكرناه نماذج من مشاهير المتكلّمين في عصر الصادقين والكاظم عليهم السلام، وهناك من لم نذكرهم ولهم مناظراتٌ احتفلت بها الكتب التاريخيّة والكلاميّة، كحمران بن أعين الشيبانيّ، وهشام بن سالم الجواليقيّ، والسيّد الحميري، والكُميت الأسديّ.
بعض متكلّمي الشيعة في القرن الثالث
1ـ الفضل بن شاذان بن الخليل، أبو محمّد الأزديّ النيشابوريّ: كان أبوه من أصحاب يونس، وروى عن أبي جعفر الثاني وقيل الرضا عليهما السلام، وكان ثقةً، أحد أصحابنا الفقهاء، والمتكلّمين، وله جلالة في هذه الطائفة، وهو في قدره أشهر من أن نصفه، وذكر الكنجي أنّه صنّف مائة وثمانين كتاباً، وذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الإمام الهادي والعسكريّ عليهما السلام، وقد توفي عام 260 هـ، وقد ذكر النجاشي فهرست كتبه، نقتبس منه ما يلي: النقض على الإسكافيّ في تقوية الجسم، الوعيد، الردّ على أهل التعطيل، الإستطاعة، الإيمان، الردّ على الثنوية، إثبات الرجعة، الردّ على الغالية المحمّديّة، تبيان أصل الضلالة، الردّ على محمّد بن كرام، التوحيد في كتاب الله، وغيرها من الكتب.
2ـ حكم بن هشام بن الحكم: "أبو محمّد، مولى كندة، سكن البصرة، وكان مشهوراً بالكلام، كلّم الناس، وحكي عنه مجالس كثيرة، ذكر بعض أصحابنا أنّه رأى له كتاباً في الإمامة"1.
توفّـي والده عام 200 أو 199هـ ، فهو من متكلّمي أواخر القرن الثاني، وأوائل القرن الثالث.
[1] م.ن، الرقم 351، ص136.
78
62
الدرس الثامن: متكلّمو الشيعة (1)
3ـ داود بن أسد بن أعفر: "أبو الأحوص البصري رحمه الله شيخ جليل، فقيه متكلّم، من أصحاب الحديث، ثقة ثقة، وأبوه من شيوخ أصحاب الحديث الثقات، له كتب منها كتاب في الإمامة على سائر من خالفه من الأُمم، والآخر مجرّد الدلائل والبراهين"1. وذكره الشيخ الطوسي في الفهرست في باب الكنى فقال: "إنّه من جملة متكلّمي الإماميّة، لقيه الحسن بن موسى النوبختي، وأخذ عنه، واجتمع معه في الحائر على ساكنه السلام"2. وكان ورد للزيارة فبما أنّه من مشايخ الحسن بن موسى النوبختي المعاصر للجبائي (ت 303هـ) فهو من متكلّمي القرن الثالث.
4ـ محمّد بن عبد الله بن مملك الاصبهانيّ: "أصله من جرجان، وسكن أصبهان، جليل في أصحابنا، عظيم القدر والمنزلة. كان معتزليّاً ورجع على يد عبد الرحمن بن أحمد بن جبرويه رحمه الله، له كتب منها: كتاب الجامع في سائر أبواب الكلام الكبير، وكتاب المسائل والجوابات في الإمامة، كتاب مواليد الأئمّة عليهم السلام ، كتاب مجالسه مع أبي علي الجبائيّ (235 ـ 303 هـ)"3.
5ـ ثبيت بن محمّد، أبو محمّد العسكريّ: "صاحب أبي عيسى الورّاق (محمّد بن هارون) متكلّم حاذق، من أصحابنا العسكريّين، وكان أيضاً له اطّلاع بالحديث والرواية، والفقه، له كتاب توليدات بني أُميّة في الحديث، وذكر الأحاديث الموضوعة، وله الكتاب الذي يعزى إلى أبي عيسى الوراق في نقض العثمانيّة له، ودلائل الأئمّة عليهم السلام"4.
[1] م.ن، الرقم 414، ص157.
[2] الطوسيّ ، محمد بن الحسن: الفهرست، ص277، جواد القيوميّ(تحقيق)، منشورات مؤسّسة النشر الإسلاميّ، 1417هـ،ط1.
[3] النجاشي، رجال النجاشي، ص380.
[4] م.ن، الرقم 300، ص117.
79
63
الدرس الثامن: متكلّمو الشيعة (1)
6ـ إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل بن هلال المخزوميّ: "أبو محمّد، أحد أصحابنا، ثقة فيما يرويه، قدم العراق، وسمع أصحابنا منه، مثل أيوب بن نوح، والحسن بن معاوية، ومحمّد بن الحسين، وعلي بن حسن بن فضّال، له كتاب التوحيد، كتاب المعرفة، كتاب الإمامة"1.
7ـ محمّد بن هارون: "أبو عيسى الورّاق. له كتاب الإمامة، وكتاب السقيفة، وكتاب الحكم على سورة لم يكن، وكتاب اختلاف الشيعة والمقالات"2. وكانت وفاته سنة 247هـ.
8ـ إبراهيم بن سليمان بن أبي داحة المزنيّ: "أبو إسحاق،كان وجه أصحابنا البصريّين في الفقه والكلام والأدب والشعر، والجاحظ يحكي عنه"3.
9ـ محمّد بن الخليل السكاك: "بغداديّ يعمل السكك، صاحب هشام بن الحكم وتلميذه أخذ عنه، له كتب منها: كتاب الإمامة، وكتاب سمّاه التوحيد وهو تشبيه وقد نقض عليه"4.
[1] م.س، النجاشي الرقم 67 ص31.
[2] م.ن، الرقم 87، ص372.
[3] م.ن، الرقم 14، ص15.
[4] م.ن، الرقم 889، ص328.
80
64
الدرس الثامن: متكلّمو الشيعة (1)
المفاهيم الرئيسة
- يبرّز دور الأئمّة عليهم السلام في القرنين الأوّلين في الردّ على الشبهات الفكرية والدفاع عن العقيدة وقضاياها.
- يمثّل كتاب نهج البلاغة وما تركه أمير المؤمنين عليهم السلام من تراثٍ روائي، مصدراً كلاميّاً هامّاً خصوصاً في ما يتعلّق بمسائل الإلهيات.
- استخدم الإمام زين العابدين عليهم السلام أسلوب الدعاء في نشر المعارف الحقّة.
- قام أصحاب أهل البيت عليهم السلام بدور هامّ في مواجهة العقائد المنحرفة وتثبيت العقائد الصحيحة والأصيلة عبر إلقاء الخطب وإقامة المناظرات.
- لقد مدح أهل البيت عليهم السلام بعض متكلِّمي أصحابهم، إذ دعا الإمام الصادق عليهم السلام لهشام بن الحكم فقال له: "لا تزال مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك".
- قام عدد من أصحاب أهل البيت عليهم السلام بتأليف العديد من المؤلّفات والمصنّفات في علم الكلام والعقيدة.
أسـئلـة الـدرس
1- كيف تعامل الأئمّة عليهم السلام مع الشبهات العقائديّة؟ أذكر نموذجاً من مواقفهم عليهم السلام.
2- أذكر أسماء بعض أبرز المتكلّمين الشيعة من القرن الأوّل إلى القرن الثالث، وتحدّث عن أحدهم.
3- لماذا مدح أئمة أهل البيت عليهم السلام أصحابهم؟
4- عدِّد ثلاثة من المصنّفات الكلامية لأصحاب الأئمة عليهم السلام.
81
65
الدرس التاسع: متكلّمو الشيعة (2)
الدرس التاسع: متكلّمو الشيعة (2)
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى بعض متكلّمي الشيعة من القرن الرابع إلى القرن السابع الهجريّ.
2- يلاحظ ازدياد حركة التأليف في علم الكلام والعقيدة.
3- يحدِّد مرحلة انتهاء المعتزلة وتيارهم الفكري.
83
66
الدرس التاسع: متكلّمو الشيعة (2)
متكلّمو الشيعة في القرن الرابع
1ـ الحسن بن عليّ بن أبي عقيل: قال النجاشي: "أبو محمّد العمانيّ، الحذّاء، فقيه متكلّم ثقةٌ، له كتبٌ في الفقه والكلام منها: كتاب (المتمسّك بحبل آل الرسول) كتابٌ مشهورٌ في الطائفة ... وقرأت كتابه المسمّى: الكرّ والفرّ، على شيخنا أبي عبد الله المفيد رحمه الله، وهو كتاب في الإمامة، مليح الوضع"1 . وذكره الشيخ الطوسيّ في الفهرست والرجال، معاصر للكلينيّ، المتوفّـى عام 329هـ.
2ـ إسماعيل بن عليّ بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت: قال النجاشيّ: "كان شيخ المتكلّمين من أصحابنا وغيرهم، له جلالة في الدنيا والدين، يجري مجرى الوزراء في جلالة الكتاب، صنّف كتباً كثيرة، منها: كتاب الاستيفاء في الإمامة، التنبيه في الإمامة،... كتاب الردّ على محمّد بن الأزهر في الإمامة، كتاب الردّ على اليهود، كتاب في الصفات للردّ على أبي العتاهية (130 ـ 211هـ) في التوحيد في شعره، كتاب الخصوص والعموم والأسماء والأحكام، كتاب الإنسان والردّ على ابن الراوندي، كتاب التوحيد، كتاب الإرجاء، كتاب النفي والإثبات، مجالسه مع أبي علي الجبائي (235 ـ 303هـ) بالأهواز، كتاب في استحالة رؤية القديم، كتاب الردّ على المجبرة في المخلوق، مجالس ثابت بن أبي قرّة (221 ـ 288هـ)، كتاب النقض على عيسى بن أبان في الاجتهاد، نقض مسألة أبي عيسى الورّاق في قدم الأجسام، كتاب الاحتجاج لنبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كتاب حدوث العالم"2.
[1] م.ن، الرقم 100، ص48.
[2] م.ن، الرقم 68، ص32.
85
67
الدرس التاسع: متكلّمو الشيعة (2)
3ـ الحسين بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه(أخو الصدوق القميّ): "أبو عبد الله، ثقةٌ روى عن أبيه إجازة، وله كتب، منها: كتاب التوحيد ونفي التشبيه، وكتاب عمله للصاحب أبي القاسم بن عبّاد (326 ـ 385هـ)"1. وقد توفّـي أخوه عام 381 هـ، فهو من أعيان القرن الرابع، وهو وأخوه ولدا بدعوة صاحب الأمر. ترجمه ابن حجر في لسان الميزان.
4ـ محمّد بن بشر الحمدوني (أبو الحسن السوسنجردي): "متكلّم جيّد الكلام، صحيح الاعتقاد، كان يقول بالوعيد، له كتب منها: كتاب المقنع في الإمامة، كتاب المنقذ في الإمامة"2.
5ـ يحيى المكنى أبا محمّد العلّوي: "من بني زبارة (زيادة)، علوي، سيدٌ، متكلّمٌ، فقيهٌ، من أهل نيسابور (نيشابور). له كتبٌ كثيرةٌ، منها: كتاب في المسح على الرجلين، وكتاب في إبطال القياس، وكتاب في التوحيد"3.
6ـ محمّد بن القاسم، أبو بكر: بغداديّ، متكلّم، عاصر ابن همام، له كتاب في الغيبة، (كتاب)كلام4. وابن همام هو محمّد بن أبي بكر بن سهيل الكاتب الاسكافي الذي ترجم له النجاشي في رجاله برقم 1033.
7ـ محمّد بن عبد الملك بن محمّد التبّان: "يكنّى أبا عبد الله، كان معتزلياً، ثم أظهر الانتقال، ولم يكن ساكناً ... له كتاب في تكليف من علم الله أنّه يكفر، وله كتاب في المعدوم، ومات لثلاث بقين من ذي القعدة سنة 419 هـ"5.
[1] م.ن، الرقم 163، ص68.
[2] م.ن، الرقم 1036، ص381.
[3] م.ن، الرقم 1191، ص442.
[4] م.ن، الرقم 1035، ص381.
[5] النجاشيّ، الرقم 1069، ص403.
86
68
الدرس التاسع: متكلّمو الشيعة (2)
8ـ محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي: "أبو جعفر، متكلّم، عظيم القدرة، حسن العقيدة، قويّ في الكلام، كان قديماً من المعتزلة، وتبصّـر وانتقل، له كتب في الكلام، وقد سمع الحديث، وأخذ عنه ابن بُطّة وذكره في فهرسته الذي يذكر فيه من سمع منه فقال: وسمعت من محمّد بن عبد الرحمن بن قبة، له كتاب الإنصاف في الإمامة، وكتاب المستثبت نقض كتاب أبي القاسم البلخي (ت 319هـ)، وكتاب الرد على الزيديّة، وكتاب الردّ على أبي علي الجبائي، المسألة المفردة في الإمامة"1.
9ـ عليّ بن وصيف، أبو الحسن الناشئ (271 ـ 365هـ): "الشاعر المتكلّم، ذكر شيخنا (رضي الله عنه) أنّ له كتاباً في الإمامة"2.
قال فيه ابن خلّكان: "من الشعراء المحسنين، وله في أهل البيت قصائد كثيرة، وكان متكلّماً بارعاً، أخذ علم الكلام عن أبي سهل إسماعيل بن عليّ بن نوبخت المتكلّم، وكان من كبار الشيعة، وله تصانيف كثيرة، منها: 1ـ كتاب الآراء والديانات. 2ـ كتاب فرق الشيعة. 3ـ كتاب الردّ على فرق الشيعة ما خلا الإماميّة. 4ـ كتاب الجامع في الإمامة. 5ـ كتاب الموضح في حروب أمير المؤمنين. 6ـ كتاب التوحيد الكبير. 7ـ كتاب التوحيد الصغير.8ـ مختصر الكلام في الجبر. 9ـ كتاب الردّ على أبي علي الجبائي في ردّه على المنجّمين. 10ـ كتاب الردّ على الواقفة"3.
والرجل من أكابر متكلّمي الشيعة، عاصر الجبائي (ت 303)، والبلخي (ت 319)، وأبا جعفر بن قبة المتوفّـى قبل البلخي.
[1] م.ن، الرقم 1023، ص375.
[2] م.ن، الرقم 709، ص271.
[3] ابن خلّكان، وفيات الأعيان، ج 3، ص369، حسان عباس (تحقيق)، دار الثقافة، بيروت،ط1.
87
69
الدرس التاسع: متكلّمو الشيعة (2)
متكلّمو الشيعة في القرن الخامس
بلغ علم الكلام في أوائل القرن الخامس ذروة الكمال، وظهر في الأوساط الشيعية روّاد كبار، نشير إلى ثلة منهم:
1ـ الشيخ المفيد (336 ـ 413هـ): وهو محمّد بن محمّد بن النعمان الذي أذعن بفضله وعلمه كلّ موافق ومخالف، وأثنوا عليه ثناءً بالغاً منقطع النظير.
قال معاصره ابن النديم (المتوفّـى 388هـ) وهو يعرّفه في الفهرست: "ابن المعلّم، أبو عبد الله، في عصرنا انتهت رئاسة متكلّمي الشيعة إليه، مقدّم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه، دقيق الفطنة، ماضي الخاطرة، شاهدته، فرأيته بارعاً"1.
وقال الذهبيّ (المتوفّـى 748 هـ): "عالم الرافضة، صاحب التصانيف، الشيخ المفيد، واسمه: محمّد بن محمّد بن النعمان، البغداديّ الشيعيّ، ويُعرف بابن المعلم. كان صاحب فنون وبحوث وكلام، واعتزال وأدب"2.
ويُعرّفه في الميزان: "عالم الرافضة أبو عبد الله ابن المعلم صاحب التصانيف البدعية، وهي مائتا مصنف"3.
هذا غيضٌ ممّا قاله علماء السنّة، وأمّا الشيعة فنقتصر على كلام تلميذيه: الطوسي والنجاشي، ونترك الباقي لمترجمي حياته:
يقول الشيخ الطوسيّ في الفهرست: "المفيد يكنّى أبا عبد الله، المعروف بابن المعلّم، من (أجلّة)متكلّمي الإمامية، انتهت إليه رئاسة الإماميّة في وقته في العلم، وكان مقدّماً في صناعة الكلام، وكان فقيهاً متقدماً فيه، حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب، وله قريب من مائتي مصنّف كبار وصغار، وفهرست كتبه معروف. ولد سنة 338هـ، وتوفي لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة 413هـ،
[1] ابن النديم، فهرست ابن النديم، ص226.
[2] الذهبيّ ، سير أعلام النبلاء، ج17، ص344، مؤسسة الرسالة، بيروت ، 1993م، ط9.
[3] م.ن، ج4، ص30.
88
70
الدرس التاسع: متكلّمو الشيعة (2)
وكان يوم وفاته يوماً لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه وكثرة البكاء من المخالف والموافق"1.
وقال تلميذه النجاشيّ: "شيخنا وأستاذنا (رضي الله عنه)، فضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والوثاقة والعلم"2. ثمّ ذكر تصانيفه.
وهذه الكلمات تعرّفنا موقفه من علم الكلام، وأنّه لم يكن يومذاك للشيعة متكلّم أكبر منه، وكفى في ذلك أنّه تخرّج على يديه لفيفٌ من متكلّمي الشيعة نظير السيد المرتضى (355 ـ 436
هـ).
2ـ عليّ بن الحسين الشريف المرتضى (355ـ 436هـ): تلميذ الشيخ المفيد. عرّفه تلميذه النجاشي بقوله: "حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه، وسمع من الحديث فأكثر، وكان متكلماً شاعراً، أديباً، عظيم المنزلة في العلم و الدين و الدنيا، و من كتبه الكلامية: (الشافي) في نقض المغني للقاضي عبد الجبار في قسم الإمامة، وكتاب (تنزيه الأنبياء والأئمّة)، و(الذخيرة) في علم الكلام، وغيرها من الرسائل، شرح جمل العلم و العمل"3.
3ـ أبو الصلاح التقيّ بن الحلبيّ (374 ـ 447هـ): مؤلّف (تقريب المعارف) في الكلام.
4ـ محمّد بن الحسن الطوسيّ (385 ـ 460هـ): يُعرّفه العلاّمة بقوله: "شيخ الإماميّة ورئيس الطائفة، جليل القدر، عظيم المنزلة، ثقة، عين، صدوق، عارف بالأخبار والرجال و الفقه و الأُصول، والكلام والأدب، وجميع الفضائل تنتسب إليه"4. وله في الكلام كتبٌ كثيرةٌ منها: الجمل والعقود،
[1] الطوسيّ، الفهرست، ص239.
[2] النجاشي، رجال النجاشي، ص399.
[3] م.ن، ص270-271.
[4] الحلّي، إرشاد الأذهان، ج1، ص408، فارس حسّون(تحقيق)، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، قم، 1410هـ،ط1.
89
71
الدرس التاسع: متكلّمو الشيعة (2)
تلخيص الشافي في الإمامة، ومقدمة في المدخل إلى علم الكلام، والاقتصاد، والرسائل العشر.
متكلّمو الشيعة في القرن السادس
ما إنْ أطلّ القرن السادس إلّا وقد أفل نجم المعتزلة حيث وُضِع فيهم السيف من قبل الخلافة العباسيّة. وكان غيابهم عن المسرح الفكريّ خسارةً جسيمةً للمنهج العقليّ. وقد بلغ التعصّب إلى حد أنّه أُحرقت كتبهم، وقُتل أعلامهم، وشُرِّد لفيفٌ منهم، والحديث ذو شجون. ومع إطلالة هذا القرن بدأت تلوح علامات الضغط والكبت على الشيعة. وعلى الرغم من ذلك فقد ظهر في هذا القرن أفذاذ في علم الكلام، نذكر منهم على سبيل المثال:
1ـ محمّد بن أحمد بن علي الفتال النيسابوري (المتوفّى513هـ): المعروف بابن الفارسيّ. عرّفه ابن داود في رجاله بقوله : "متكلّمٌ جليل القدر، فقيهٌ، عالمٌ، زاهدٌ، ورعٌ، قتله أبو المحاسن عبد الرزاق رئيس نيشابور الملقب بشهاب الإسلام. اشتهر في أيام شبابه و ارتفع شأنه فاستفتي، و سئل عن مسائل في الكلام، و صنّف كتاب (التنوير في معاني التفسير) و كتاب (روضة الواعظين وبصيرة المتّعظين) في علم الكلام و الأخلاق والآداب. استشهد في أيام وزارة أبي المحاسن عبد الرزاق بن عبد الله بن أخي نظام الملك سنة 513 أو 515هـ"1.
2ـ قطب الدين المقري النيسابوريّ: من مشايخ السيد ضياء الدين أبي الرضا فضل الله الراوندي (المتوفّى حدود 547هـ) مؤلّف كتاب الحدود (المعجم الموضوعي للمصطلحات الكلاميّة).
[1] الحليّ، ابن داوود: رجال ابن داوود، ص163، محمّد صادق آل بحر العلوم(تحقيق)، مطبعة الحيدريّة، النجف الأشرف، 1972م،ط1.
90
72
الدرس التاسع: متكلّمو الشيعة (2)
3ـ الفضل بن الحسن الطبرسيّ: مؤلّف تفسير مجمع البيان (المتوفّى /548هـ) و له في تفسيره بحوث كلامية مهمّة.
4ـ الحسين بن علي بن محمّد بن أحمد (المتوفّى 552هـ): المعروف بـ (أبي الفتوح الرازيّ) وكتابه المعروف بـ(روض الجنان) مشحون بالبحوث الكلاميّة.
5ـ قطب الدين سعيد بن هبة الله الراونديّ (المتوفّى 573هـ): مؤلّف كتاب (تهافت الفلاسفة) و جواهر الكلام في شرح مقدّمة الكلام.
6ـ سديد الدين الشيخ محمود الحمصي (المتوفّى في أواخر القرن السادس): مؤلّف (المنقذ من التقليد).
7ـ أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسيّ (المتوفي في أواسط القرن السادس): مؤلّف كتاب الاحتجاج.
8ـ السيد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي (511 ـ 585هـ): له كتاب (غنية النزوع في علمي الأُصول والفروع) يقع في جزءين، والكتاب يشتمل على علوم ثلاثة : الكلام والفقه و أُصوله.
9ـ محمّد بن علي بن شهر آشوب المازندرانيّ (المتوفّى 588هـ): أخذ عن المتكلم أبي سعيد عبد الجليل بن أبي الفتح الرازي. قال الصفدي: "أحد شيوخ الشيعة، حفظ القرآن وله ثمان سنين، وبلغ النهاية في أُصول الشيعة، كان يرحل إليه في البلاد،... توفي عام 588هـ"1.
متكلّمو الشيعة في القرن السابع
لقد تزامن طلوع القرن السابع مع اضطراب الأوضاع السياسيّة الحاكمة على معظم الأمصار الإسلامية لا سيما الحروب الصليبيّة التي تركت مضاعفات خطيرة
[1] الصفديّ: الوافي بالوفيّات، ج4، ص118، أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى(تحقيق)، دار إحياء التراث، بيروت، سنة 2000م، ط1.
91
73
الدرس التاسع: متكلّمو الشيعة (2)
في الحواضر الإسلاميّة.
وقد تزامن هذا الوضع مع هجوم شرس من قبل الوثنيّين من المشرق الذين جرّوا الويل و الدمار على المسلمين في المشرق الإسلامي، وامتدَّ سلطانهم إلى بغداد وأعقب ذلك انقراض الدولة العبّاسيّة.
وعلى الرغم من تلك الأوضاع العصيبة، كان للعلوم العقلية نشاط ملموس في الأوساط الشيعيّة، ونذكر من متكلمي الشيعة:
1ـ سديد الدين بن عزيزة الحلي (المتوفّى حوالي 630هـ ): سالم بن محفوظ بن عزيزة بن وشاح، شيخ المتكلّمين، سديد الدين السوراوي الحليّ، و يقال له: سالم بن عزيزة.
كان من كبار متكلمي الشيعة، صنف كتاب (التبصرة) وكتاب (المنهاج) في علم الكلام، وأخذ عنه المحقّق جعفر بن الحسن الحلي(المتوفّى 676هـ) علم الكلام و شيئاً من الفلسفة وقرأ
عليه المنهاج.
2ـ الشيخ كمال الدين علي بن سليمان البحرانيّ (المتوفّى حوالي 656هـ): أُستاذ الشيخ ميثم البحرانيّ. له كتاب الإشارات في الكلام والحكمة. وصفه السيد الصدر بقوله: "قدوة الحكماء، وإمام الفضلاء، صاحب الإشارات في الكلام، وشرحها تلميذه المحقّق ميثم البحرانيّ. وله رسالة العلم التي شرحها المحقّق نصير الدين الطوسيّ"1.
3ـ الخواجه نصير الدين محمّد بن محمّد بن الحسن الطوسيّ (597ـ 672هـ): يقول الحرّ العامليّ: "هو شخصيّة فذّة يعجز القلم عن وصفه، فقد كان علّامة عصره في الكلام والحكمة والعلوم الرياضية والفلكية، له (شرح الإشارات) الذي فرغ منه عام 644هـ، و هو شرح لإشارات الشيخ الرئيس ابن سينا، و قد فنّد فيها أكثر ما أورده الرازي من الشكوك التي أُثيرت حول آراء
[1] الصدر، حسن: الشيعة وفنون الإسلام، ص75، سليمان نيا(تقديم)، 1967م، ط1.
92
74
الدرس التاسع: متكلّمو الشيعة (2)
الشيخ. ويعدّ كتاب شرح الإشارات من أفضل الكتب الدراسيّة في الحكمة إلى يومنا هذا. ويكفي في حقّه ما قاله العلاّمة في هذا المضمار: "كان هذا الشيخ أفضل أهل عصره في العلوم العقليّة والنقليّة، و له مصنفات كثيرة في العلوم الحكمية والأحكام الشرعيّة على مذهب الإمامية، و كان أشرف من شاهدناه في الأخلاق ـ نوّر الله مضجعه ـ قرأت عليه إلهيّات الشفاء لأبي علي بن سينا، وبعض التذكرة في الهيئة"1.
4ـ كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحرانيّ: المعروف بالعالم الربّاني المبرّز في جميع الفنون الإسلاميّة لا سيّما في الحكمة و الكلام والأسرار العرفانيّة. اتفقت كلمة الجميع على إمامته. ولد عام 636هـ وتوفي عام 696هـ. له كتاب (قواعد المرام في علم الكلام) المطبوع، وله (شرح نهج البلاغة) الذي صنّفه للصاحب خواجة عطاء الملك الجوينيّ، وهو شرح مشحون بالمباحث الكلاميّة و الحكميّة والعرفانيّة، فرغ منه عام 676هـ.
5ـ الحسن بن يوسف بن علي بن المطهّر الأسديّ (648ـ 726هـ): شيخ الإسلام، المجتهد الأكبر، المتكلم الفذّ، الباحث الكبير، جمال الدين أبو منصور المعروف بالعلّامة الحلّي، وبآية الله على الإطلاق، وبابن المطهّر. ولد في شهر رمضان سنة 648 هـ و أخذ عن والده الفقيه المتكلّم البارع سديد الدين يوسف، و عن خاله شيخ الإماميّة المحقّق الحلّي، الذي كان له بمنزلة الأب الشفيق، فحظي باهتمامه ورعايته، ولازم الفيلسوف الكبير نصير الدين الطوسيّ مدّةً، واشتغل عليه في العلوم العقلية وبرع فيها وهو لا يزال في مقتبل عمره.
[1] الحرّ العامليّ: أمل الآمل، ج 2، ص299، أحمد الحسينيّ(تحقيق)، دار الكتاب الإسلاميّ، قم، 1362هـ ش، ط1.
93
75
الدرس التاسع: متكلّمو الشيعة (2)
يُعرّفه معاصره أبو داود الحلّي: "شيخ الطائفة، وعلّامة وقته، وصاحب التحقيق والتدقيق، كثير التصانيف، انتهت رئاسة الإماميّة إليه في المعقول و المنقول"1.
ألّف في مجال المعقول والكلام قرابة عشرين كتاباً و رسالة في ذلك المضمار.
أبرزهم كتاب كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: وهذا الكتاب شرح لكتاب تجريد الاعتقاد للمحقّق نصير الدين محمّد بن الحسن الطوسي (597 ـ 672هـ). وهو من أوجـز المتـون الكلاميـة وفق العقائد الإمامية. وقد شرحه جمع غفير من المحقّقين منذ تأليفه إلى يومنا هذا، وأوّل من شرحه: تلميذه المشهور بالعلاّمة الحلّي (648ـ 726هـ) الذي أسماه (كشف المراد
في شرح تجريد الاعتقاد)، ثمّ توالت الشروح بعده.
إنّ كتاب كشف المراد تبعاً لمتنه يدور على محاور ثلاثة:
الأوّل: في الأُمور العامّة التي تطلق عليها الإلهيات بالمعنى الأعم، ويبحث فيه عن الوجود والعدم وأحكام الماهيّات، والمواد الثلاث: الوجود والإمكان والامتناع، والقدم والحدوث، و العلّة والمعلول، وغيرها من المسائل التي تبحث عن أحكام الوجود بما هو هو.
الثاني: في الجواهر والأعراض التي يطلق عليها الطبيعيّات، ويبحث فيه عن الأجسام الفلكية و العنصرية والأعراض التسعة، على وجه التفصيل.
الثالث: في الإلهيات بالمعنى الأخص، ويبحث فيه عن الأُصول الخمسة
[1] ابن داوود، رجال ابن داوود، الرقم 466، ص78.
94
76
الدرس التاسع: متكلّمو الشيعة (2)
المفاهيم الرئيسة
- برز من المتكلّمين الشيعة في القرن الرابع العديد من المتكلّمين، منهم: الحسن بن عليّ بن أبي عقيل، والحسين بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه، وعليّ بن وصيف.
- برز في القرن الخامس من العلماء الشيعة: الشيخ المفيد، الشريف المرتضى، أبو الصلاح الحلبيّ.
- برز في القرن السادس من العلماء الشيعة: قطب الدّين النيسابوريّ، الفضل بن الحسن الطبرسيّ، محمّد بن عليّ بن شهر آشوب المازندرانيّ.
- برز في القرن السابع من الشيعة: الخواجه نصير الدّين الطوسيّ، وكمال الدّين ميثم بن عليّ بن ميثم البحرانيّ.
- استمرّت مدرسة أهل البيت عليهم السلام بتخريج المتكلمين، بعد العلّامة الحلّي: مثل عبد الرزاق اللاهيجي، الشهيد الثاني، كمال الدّين الأردبيلي، وابن يونس النباطي العاملي، والشيخ البهائي.
- من الكتب العقائدية الهامة (كشف المراد) للعلّامة الحلّي الذي يُعدُّ من أهم الشروح لكتاب (تجريد الاعتقاد) للشيخ الطوسي.
أسـئلـة الـدرس
1- أذكر بعض أسماء المتكلّمين الشيعة في القرن الرابع إلى القرن السابع.
2- تحدّث عن مكانة الشيخ المفيد رحمه الله.
3- تحدث عن كتاب (كشف المراد)؟ من ألّفه؟ وما هي أهم مواضيعه؟
95
77