الحرب الناعمة مقومات الهيمنة وإشكاليات الممانعة


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-10

النسخة: 12


الكاتب

مركز المعارف للدراسات الثقافيَّة


الفهرس

 الفهرس

مقدمة:

7

المقال الأول: حرب ناعمة وحرب صلبة على لبنان:النتائج/د  محمد طي

9

الحرب الناعمة

17

أ- نشاط متعمد ومخطط

17

ب- المزاوجة بين القوة الناعمة والقوة الصلبة: القوة الذكية

17

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

20

أ- حرب العدو الصهيوني الصلبة ضد لبنان

22

ب-الحرب الناعمة لأميركا والغرب على لبنان

23

1  القرار 1559(2004)

24

2  القرار 1701(2006)

25

3  المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أو "ذات الطابع الدولي"

26

4  الأساليب التقليدية الأخرى الحرب الناعمة

34

 

 

 

 

5


1

الفهرس

 

محصلة للحربين الناعمة والصلبة بعد عدوان تموز 2006

37

أ- الحرب الصلبة

37

ب- الحرب الناعمة

38

1  ضرورة هزيمة حزب الله

38

2  قطع إمدادات السلاح عن المقاومة

12

4  التلاعب بالقضايا الوطنية

44

المحصلة

47

المقال الثاني: الحرب الناعمة وإشكالية الممانعة/د  محمد ياغي

49

تمهيد

51

القوة الناعمة ( تأصيل نظري – تاريخي )

54

القوة الناعمة ومفهوم الهيمنة الثقافية

60

ما بين " جورج بوش و " باراك أوباما": الهيمنة المحدثة

66

القوة الناعمة في مشهد الإعلام وحالة الصراع الدولي الإقليمي

68

أطراف الصراع وتجليات الهجوم والدفاع والتضليل والممانعة

73

تجليات الحرب الناعمة ومسألة الممانعة

82

خلاصة

89

 

 

 

 

 

6


2

المقدمة

 مركز قيم للدراسات


هو مركز متخصص بالدراسات والأبحاث الثقافية

اهداف المركز
1- رصد الظواهر والمؤشرات السلبية على المنظومة القيمية داخل مجتمعنا.
2- اعداد الدراسات والابحاث المتعلقة بمنظومة القيم.
3- اقامة حراك ثقافي من خلال عقد المؤتمرات والندوات والحلقات البحثية.
الحلقات البحثية

سلسلة غير دورية تتضمن وقائع حلقات النقاش والبحث التي يعقدها المركز وتعنى بمقاربة ظواهر تتصل بمنظومة القيم ومكونات الثقافة وعناصر التنشئة.

محتويات الكتاب:
- حرب ناعمة وحرب صلبة على لبنان: النتائج / د. محمد طي
- الحرب الناعمة وإشكالية الممانعة / د. محمد ياغي

صدر عن: مركز قيم للدراسات

العنوان: المعمورة - الطريق العام - بيروت - لبنان
هاتف: 471070 / 01 - 476142 / 01
الطبعة الأولى: تموز 2011
الأراء الواردة في هذا الكتاب تعبر عن رأي اصحابها ولاتعبّر بالضرورة عن رأي المركز
 
 
 
 
 
 
 
2

3

المقدمة

 المقدمة



راجت في القرن العشرين مفاهيم تنطوي على دلالات ترتبط بفلسفة مطلقيها. هذه المفاهيم شكلت مادة للاستعمال في إطار العلاقات الدولية كمفهوم الحرب الباردة والحرب الدبلوماسية وحرب النجوم وغيرها. ومع مطلع القرن الواحد والعشرين سيتم الترويج لمفهوم جديد هو " الحرب الناعمة" الموازي للحرب الصلبة التي تقوم على القتل والتدمير والإخضاع.

هذا المفهوم لا زال موضع اهتمام الباحثين والمهتمين بحقول المعرفة والاستراتيجيات السياسية والعسكرية. ولحداثة استخدام هذا المفهوم ودخوله مؤخراً إلى الساحة العربية والإسلامية،كان لا بد من تعميق الدراسات حوله للاستفادة والإحاطة بما يحمله من ممكنات نظرية وأخرى عملية مفتوحة على ساحة التداول ضمن آليات ووسائل استعمالية قوامها الكلمات الناعمة على غرار الحرية، الديمقراطية، السلام، الرفاه...وغير ذلك بوسائل سمعية وبصرية وأدوات رقمية من مبتكرات عصر الحداثة وما بعد الحداثة.

تحاول الدراسة التي بين أيدينا ت مقاربة الحرب الناعمة في نشأتها وآلياتها ووسائلها والغايات المرتبطة بها، إيذانا بإماطة اللثام عما يزال يكتنفها من غموض وأملاً في المزيد من تعميق الوعي الذي يضيف إلى القارئ العزيز ما يرنو إليه في فهم واقعه لجهة أبعاده العلائقية مع الآخر، واستشراف أفق هذه العلاقات.
 
 
 
 
 
 
 
7

4

المقدمة

 كذلك تنطوي هذه الدراسة بعد محاولة الإحاطة بنشأة مفهوم الحرب الناعمة على سلسلة من المقاربات بينها وبين الحرب الصلبة، فضلا عن احتوائها الكثير من الأمثلة التي تعد نماذج عملية مستلهمة من واقع الاستخدامات الخاصة بهذا النوع من الحرب، وهو ما يعبر عن حسن دراية الباحثين وقدرتهم على الإحاطة بخصائص هذه الظاهرة وتنويعاتها. فضلاً عن القدرة في الخروج بمحصلة تنطوي على جانب كبير من الأهمية وهو ارتباط الحرب الناعمة بإشكاليات الممانعة والدور المطلوب في المواجهة تجاه ما يحيق بهذه الأمة من استهدافات.


 
 
مركز قيم للدراسات
 

5

حرب ناعمة وحرب صلبة على لبنان(د. محمد طي)

 المقال الأول: حرب ناعمة وحرب صلبة على لبنان

د. محمد طي: أستاذ قانون عام في الجامعتين اللبنانية والإسلامية
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

6

حرب ناعمة وحرب صلبة على لبنان(د. محمد طي)

 حرب ناعمة وحرب صلبة على لبنان(د. محمد طي)

 
تتعرض بلادنا وأمتنا لمحاولات قديمة جديدة من أجل صياغتها وإدراجها في مشاريع القوى الاستكبارية التي ترسمها للمنطقة وحتى للعالم ولا تدخر هذه القوى وسيلة من الوسائل إلا وتستخدمها من أجل تحقيق أهدافها.
 
ولبنان بالذات، وبسبب من تكوينه الخاص وظرفه المتميز، يحظى بالاهتمام غير العادي من قبل تلك القوى، التي تمارس في مواجهته كافة الأساليب الممكنة، مستخدمة وسائلها المختلفة بالأشكال التي تعتقد أنها الأكثر ملاءمة.
 
فهي تستخدم القوة بمعناها الأشمل، وهي القدرة الموظفة لتحقيق الأغراض الخاصة بها، والتي يعرّفها جوزيف ناي بأنها: "القدرة على الحصول على النتائج التي يريدها المرء.. (و) هي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج التي يتوخاها..."1. هذا التعريف ينطبق على القوة الغالبة الموجهة إلى طرف معين، وليس على مجرد القوة، وهي ما يعنينا في بحثنا هذا.
 
 
 
 

1- جوزف س. ناي، القوة الناعمة، ترجمة محمد توفيق البجيرمي، دار العبيكان 2007، ص 20
 
 
 
 
 
 
11

7

حرب ناعمة وحرب صلبة على لبنان(د. محمد طي)

 وهذه القوة لا تتخذ شكلاً واحداً، بل تتعدد أشكالها في مواجهة الآخرين بقصد جعلهم يستجيبون لإرادة مستعمل القوة. فقد يستخدم هذا القوة المسلحة أو الإغراء بالمال، أو الإقناع. إذاً هناك طرق "عديدة للتأثير على سلوك الآخرين، كأن تستطيع إرغامهم بالتهديدات، أو تستطيع إغراءهم بدفع المال، أو تستطيع أن تجتذبهم وتقنعهم بأن يريدوا ما تريد"1.

 
والقوة الصلبة هي التي تقوم على التهديد أو الإكراه أو على الرشوة للحصول على ما يراد. فهي "تتركز على المغريات (الجزرات) أو على التهديدات (العصيّ)2.
 
لكن هذه ليست كل أشكال القدرات، فقد يحصل المرء على النتائج التي يريدها دون أي تهديدات ملموسة أو رشاوى مباشرة. أما الطريقة غير المباشرة للحصول على ما نريد فتسمى أحياناً "الوجه الثاني للقوة. فقد يتمكن بلد ما من الحصول على النتائج التي يريدها في السياسة العالمية، لأن هناك بلداناً أخرى معجبة بمُثله وتحذو حذوه وتتطلع إلى مستواه، تريد أن تتبعه. وبهذا المعنى، فإن من المهم أيضاً وضع جدول الأعمال (أي وضع البرنامج للآخرين) واجتذاب الآخرين في السياسة العالمية، وليس فقط إرغامهم على التغيير بتهديدهم بالقوة العسكرية أو العقوبات الاقتصادية. فهذه (هي) القوة الناعمة: جعلُ الآخرين يريدون ما نريد، نختار للناس بدلاً من ارغامهم"3.
  
 
 

1- المصدر نفسه
2- المصدر نفسه، ص24
3- المصدر نفسه، ص 25


 
 
 
 
12

 


8

حرب ناعمة وحرب صلبة على لبنان(د. محمد طي)

 أما ما تتوسله القوة الناعمة فهو الجاذبية الشخصية والمثل السياسية، التي تؤسس لمشروعية التصرفات في نظر المستهدفين من هذه القوة، مما يؤدي إلى انجذابهم إلى القيم المطروحة، وبالتالي إلى مسايرة الأغراض المرجوة، "دون حدوث أي تهديد.. (فعندما) يتقرر سلوكي من خلال جاذبية يمكن ملاحظتها ولكنها غير ملموسة، فإن القوة الناعمة تكون شغالة"1، ومن هنا يمكننا أن نعرّف القوة الناعمة من الناحية العملية: "بأنها امتلاك القدرات أو الموارد التي يمكنها أن تؤثر على النتائج. وبناء على ذلك (يمكن) اعتبار بلد ما قوياً، إذا كان لديه عدد سكان وإقليم جغرافي كبيران نسبياً وموارد طبيعية واسعة وقوة اقتصادية وقوة عسكرية واستقرار اجتماعي"2.

 
والقوة الناعمة هذه ضرورية للدول "الديمقراطية" المضطرة إلى الإقناع بدلاً من القسر. فهي لهذا عنصر ثابت في السياسة الديمقراطية... (التي تعتمد مثلاً) الشخصية الجذابة، الثقافة، المؤسسات والقيم السياسية، السياسات التي يراها الآخرون مشروعة أو ذات سلطة معنوية أو أخلاقية.. (وهي) "أكثر من مجرد الإقناع أو القدرة على استمالة الناس بالحجة، هي أيضاً القدرة على الجذب، والجذب كثيراً ما يؤدي إلى الإذعان"3
 
وحتى تستطيع القوة الناعمة تحقيق أغراضها، لا بد لها من قبول المتلقي، وقبول المتلقي يرتبط بأن يطرح له ما يرغب به، فعندها نقيس القوة بمعايير 
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص 26
2- المصدر نفسه، ص 21
3- المصدر نفسه، ص25
 
 
 
 
 
 
 
13

9

حرب ناعمة وحرب صلبة على لبنان(د. محمد طي)

 تغيير سلوك الآخرين، فإن علينا أن نعرف أولاً ما هي الأشياء التي يفضلونها، وإلا فسنكون مخطئين في معرفة قوتنا.

 
لكن إذا تعارض ما يرغب به المتلقي مع ما يريده المرسل (صاحب القوة) فما الحل؟ إن الحل هو بالتأثير لتغيير القناعات والمطالب وما يفضَّل. من هنا كانت ضرورة استخدام الأدوات المؤثرة. وهذه الأدوات يمكن أن تكون وسائل الإعلام، أو الشركات التي تقدم برامج معينة، أو إقامة العلاقات الشخصية مع أفراد وجماعات أساسيين، أو الوسائل المخابراتية، أو التمويل السري للحفاظ على السيطرة....
 
"فالمؤسسات الإذاعية والتلفزيونية التي يستخدمها الأميركيون لنشر الأخبار بلغة المتلقي، والموسيقى الشعبية المحببة، واستخدام الوسائل الإعلامية التي ينشئها الآخرون هي خطوة في الاتجاه الصحيح"1. وكذلك فإن إنشاء مكاتب الدعاية، لا سيما عندما يستطيع المرسلون إلهام أحلام الآخرين ورغباتهم بفضل إتقانهم للصور العالمية، عن طريق الأفلام والتلفزيون2، فهذا من الأشياء الأساسية.
 
على أنه لا يمكن استبعاد نشر الأخبار الكاذبة ودفع الآخرين إلى نشرها، كما كان يفعل مكتب التأثير الاستراتيجي التابع للبنتاغون، الذي كان يقدم مواد إخبارية قد تشمل أخباراً مزوّرة إلى منظمات إعلامية أجنبية في محاولة للتأثير
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص 180
2- المصدر نفسه، ص 151
 
 
 
 
 
 
 
 
14

10

حرب ناعمة وحرب صلبة على لبنان(د. محمد طي)

 على البلدان الصديقة وغير الصديقة على حد سواء. وكذلك فإن الشركات يمكن أن تؤدي دوراً قيادياً في رعاية مشاريع محددة للدبلوماسية العامة، كشركة تكنولوجيا تعمل مع ورشات عمل (مثل) افتح يا سمسم... أو في إنتاج مشترك لبرامج الأطفال....

كما تلعب البعثات الدراسية في الاتجاهين بين المتلقي والمرسل، وكذلك تدريب الضباط والعلاقات طويلة الأمد مع شخصيات. وهو أسلوب استخدمته أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث "اشترك سبعماية ألف شخص في المبادلات الثقافية والأكاديمية الأميركية، وهي مبادلات ساعدت على تثقيف قادة عالميين مثل أنور السادات وهيلموت شميدت ومارغريت تاتشر... (لقد) شارك في المبادلات المذكورة أكثر من مائتين من رؤساء الدول الحاليين والسابقين، وإن نصف زعماء الائتلاف ضد الإرهاب اليوم كانوا ذات مرة (أعضاء) في تلك المبادلات"1.
 
كما أن "تبادل معلومات المخابرات مصدر مهم من مصادر القوة الناعمة... إن تقاسم المعلومات السرية قد يكون له تأثير مباشر وقوي على السياسة، فالمعلومات... يمكنها في بعض الأحيان أن تغير سياسة حكومة ما"2. والى هذا "فإن التمويل، عندما يتخذ طابعاً سرياً، يمكنه أن يتلاعب بالمُثل وبالمدافعين عنها، كما فعلت المخابرات الأميركية في المرحلة الأولى بعد الحرب العالمية 
 
 
 

1- المصدر نفسه،ص 174
2- المصدر نفسه، ص163 و 164
 
 
 
 
 
 
 
15

11

حرب ناعمة وحرب صلبة على لبنان(د. محمد طي)

 الثانية"1. على أنه إذا خلقت الوسائل المختلفة أشخاصاً يحملونها ويروجون للأهداف المبتغاة، فسيكون التأثير أمضى، ذلك "أن أكثر الناطقين باسم أميركا فاعلية وتأثيراً ليسوا هم الأميركيين، بل وكلاؤهم المحليين من أهل البلاد الأصليين، الذين يفهمون فضائل أميركا وعيوبها..."2.

 
إلا أن ما يعيق القوة الناعمة هو اكتشاف كذب ما تطرحه من مثل أو قيم، وهذا ما تعاني منه أميركا في توجهها إلى شرائح واسعة جداً في العالم العربي والإسلامي. فقد روى أ. كروكر، الذي عمل سفيراً للولايات المتحدة في عدة بلدان إسلامية، أنه:"بينما كنا نتحدث عن حقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية والديمقراطية وحكم القانون، لم تكن سياساتنا ولا توزيعنا للموارد يتماشيان مع خطبنا الرنانة، فلم نقم بتحدي الحكومات في المنطقة من أجل التغيير، ولا قدمنا حوافز لهذا الغرض. بل على العكس، وكما تقول دانييل بليكا من "معهد المشروع الأميركي": إننا نظهر للعيان باعتبارنا ندعم هذه الحكومات (حكومات الاعتدال العربي) الحقيرة الخسيسة"3.
 
على أن النتائج المتوخاة من استخدام القوة الناعمة يجب ألا تكون بالضرورة نتائج عاجلة، بل ربما يستحسن أن تعطي ثمارها على المدى البعيد.
 
وإذا كانت تلك هي القوة الناعمة، فما هي الحرب الناعمة؟.
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص 172 
2- المصدر نفسه، ص171
3- المصدر نفسه، ص 180 


 
 
 
 
 
16

12

الحرب الناعمة

 الحرب الناعمة

 
الحرب الناعمة هي استخدام القوة الناعمة لتحقيق الأغراض الخاصة بالمرسل. فهي أساليب خبيثة تستخدم لتحقيق أهداف يمكن استخدام القوة الصلبة لتحقيقها، لكن بتكاليف أضخم. من هنا يمكن تعريفها: " بأنها مجموعة من الأفعال العدائية المدبّرة الهادفة إلى تحويل القيم الثقافية الأساسية كما الهوية لمجتمع ما. إن هذا النموذج من الحرب يمكن أن يؤثر في كل المظاهر السيكولوجية"، إنها باختصار:
 
أ - نشاط متعمد ومخطط له:
إن أكثر ميادينه أهمية هو الثقافي والسياسي والاجتماعي1. إلا أن أساليب الحرب الناعمة لا تبقى دائماً هي نفسها، بل هي تتبدل حسب الظروف والمعطيات وتطور القناعات والأذواق، فالنفط لم يكن مورد قوة مؤثراً قبل العصر الصناعي، كما لم يكن اليورانيوم ذا أهمية قبل العصر النووي2.
 
ب - المزاوجة بين القوة الناعمة والقوة الصلبة: القوة الذكية
إن تحقيق الأهداف، لا يمكن دائماً بالقوة الناعمة، لذلك تعمد القوى الاستكبارية إلى المزاوجة بين القوة الناعمة والقوة الصلبة، فمن "أجل كسب السلام"، يتعين على الولايات المتحدة أن تظهر براعة كبيرة في ممارسة القوة 
 
 
 

1- http://www.persia-house.com/mode/1135
2- المصدر نفسه، ص 22
 
 
 
 
 
 
17

13

الحرب الناعمة

 الناعمة كما أظهرت براعتها في ممارسة القوة الصلبة، لكسب الحرب "ضد الإرهاب"1.

 
وهذا المزج يشكل ما يسمى "القوة الذكية"2. على أن المزج لا يعطي حاصلاً حسابياً بسيطاً، لأن هناك علاقة جدلية بين القوتين، خاصة وأن القوة الصلبة "لها جانب جذاب أو ناعم، لأن الناس تميل إلى القوي وإن كانت تشفق على الضعيف. كما أن القوة الصلبة قد تُستخدم لإحداث نتائج محببة وجذابة. ففي حرب العراق كانت هناك مجموعة أخرى من الدوافع لها علاقة بالقوة الناعمة، فقد اعتقد المحافظون الجدد أن القوة الأميركية يمكن استخدامها في تصدير الديمقراطية إلى العراق وفي تحويل سياسة الشرق الأوسط3.
 
على أن الأميركيين ما زالوا منذ زمن الحرب الباردة يزاوجون بين القوتين بجرعات متباينة، ففيما كانوا يعدون ترسانة نووية هائلة ضد المعسكر الاشتراكي، كانوا يبثون الموسيقى الأميركية والأخبار للشباب "خلف الستار الحديدي"4، وذلك بواسطة "إذاعة أوروبا الحرة".
 
واليوم يمارس الأميركيون أسلوب المزاوجة تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية وسائر دول الممانعة وحركات المقاومة. فالحوادث الحاصلة في الشرق الأوسط تمثل في الوقت نفسه حرباً ناعمة (إلى جانب الحرب الصلبة) بين 
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص 14.
2- المرجع نفسه، ص 16.
3- المصدر نفسه، ص 53
4- الذي كان يفصل المعسكر الاشتراكي عن المعسكر الغربي.


 
 
 
 
 
18

14

الحرب الناعمة

 المقاومة التي تقودها إيران، من جهة، ونظم الغطرسة (الغرب) التي تقودها الولايات المتحدة، من جهة أخرى. وإن كانت جبهة المقاومة انتصرت في بعض البلدان، وهي تربك المشاريع الغربية في بلدان أخرى.

 
كما تخاض حرب ناعمة، إلى جانب مظاهر الحرب الصلبة (التهديد المبطّن أو المعلن) بين روسيا وأميركا حول دول أوروبا الجنوبية الشرقية ومنطقة بحر قزوين، حيث تسعى أميركا إلى ضم الدول المذكورة: ألبانيا، كرواتيا، مقدونيا، جورجيا، أوكرانيا.... إلى مؤسسات أوروبا الأطلسية، والى كسر تحكّم روسيا بطرق الترانزيت الخاصة بالطاقة من بحر قزوين إلى الأسواق الأوروبية، والى نشر الديمقراطية في أوساط الشعوب المعنية. فيما تتصدى روسيا لكل هذه المشاريع"1.
 
 
 

1- راجع: Policy Review.no 137 by Bruce p. Jackson، Russia and the West square off
 
 
 
 
 
 
 
19

15

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

 لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

 
كان الطامعون بالمنطقة وأعداؤها منذ أمد بعيد يلجأون إلى الحرب الصلبة. ولو بدأنا بالحرب الصليبية، فإننا نجد أن الغرب يشن الحروب ويجتاح كلما استطاع ذلك. فبعد تلك الحروب التي استمرت قرنين من الزمن، منذ أواخر القرن الحادي عشر إلى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر، رضخت المنطقة لحكم المسلمين الذي استمرّ في منطقة بلاد الشام حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. ثم كان الاحتلال الفرنسي الانكليزي، الذي لم تجل جيوشه حتى منتصف العقد الرابع من القرن العشرين.
 
وبعد الاستقلال تولى الحرب الصلبة العدو الصهيوني، وما زال حتى اليوم. طيلة هذه الأزمنة، كانت الحرب الناعمة تشن إلى جانب الحروب الصلبة. فإبان الحروب الصليبية أغرى ملك فرنسا لويس الثامن القيادات المارونية بأن يكونوا فرنسيين وتحت الحماية الفرنسية.
 
جاء ذلك في رسالة أرسلها من عكا بتاريخ 20 أيار 1250م، تقول: "نحن موقنون أن هذه الأمة، التي قامت تحت اسم القديس مارون، هي قسم من الأمة الفرنسية.... أما نحن وجميع الذين سيخلفوننا على عرش فرنسا فنعد بأننا نوليكم أنتم (البطريرك) وجميع شعبكم حمايتنا الخاصة، كما نوليها للفرنسيين بعينهم ونسعى في كل وقت في ما يكون آيلاً إلى سعادتكم"1.
 
وتجددت هذه الحماية على يدي لويس الرابع عشر بتاريخ 28 نيسان- ابريل 1649م، بإرادة ملكية تقول: "ليكن معلوماً أننا بتوجيه من الملكة الوصية، سيدتنا
 
 
 

1- البطريرك اسطفان الدويهي، تاريخ الأزمنة، دار لحد خاطر، ص 609
 
 
 
 
 
 
20

16

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

 وأمنا ذات الشرف الرفيع، قد أخذنا ووضعنا تحت حمايتنا ورعايتنا الخاصة، بمقتضى توقيعنا بيميننا، صاحب النيافة البطريرك والأكليروس الموارنة المسيحيين. من رجال دين أو علمانيين، الذين يقطنون جبل لبنان خاصة"1.

 
وعندما بدأ النشاط السياسي الغربي يشتد في أواخر عمر السلطنة العثمانية، أعطت الحروب الناعمة أكلها عند فريق من قيادات منطقة بلاد الشام. فراح كتّاب يطالبون بما يريده الغربيون، الاحتلال الغربي، وخاصة الفرنسي. ومنهم ندرة المطران وجورج سمنة وفارس نمر وشكري غانم، وذلك من أجل " ترقية الأمة بالعلوم والمعارف". على أساس أن لا خطر من الاحتلال، حيث يصرّح فارس نمر في المقتطف بقوله: "أنا احتلالي على رؤوس الأشهاد"، فـ:"إذا حاسنّا المحتلين واستعنا بهم على إصلاح أحوالنا واكتسبنا ثقتهم فلا خوف منهم"2، وعند نهاية الحرب برزت شرائح أصبحت تطرح نفسها جزء من الثقافة الفرنسية، لا بل ومن العنصر الفرنسي. ففي رسالة من "اللجنة التنفيذية الدائمة لتجمّع مسيحيي بيروت"، يرد: "هذا المجموع (من سكان سوريا)، الذي يشكل الأوساط الأكثر استنارة والأكثر تأثيراً، لأنه مشبع بالثقافة الغربية... وإن الشعب اللبناني المتحد مع فرنسا بصلات الصداقة التاريخية، يريد أن تكون فرنسا مساعدة له... إن أسباباً قوية تدفع إلى هذا الخيار.
 
هذه الأسباب تستند إلى التاريخ والتقاليد والتقارب العرقي... وكذلك إلى شراكة الثقافة وإلى الموقع الجغرافي وعلى مسألة لغة وتشريع وفكر ونفسية 
 
 

1- د. عبد العزيز نوار، وثائق أساسية من تاريخ لبنان الحديث، جامعة بيروت العربية 1974، ص 84
2- مجلة المقتطف، مجلد 26، ص 260 وما بعدها
 
 
 
 
 
 
 
21

17

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

 مشتركة"1، إلى غير ذلك من الأوهام. ولما تراجع النفوذ الفرنسي والبريطاني نسبياً في أواسط الأربعينات إلى أواسط الخمسينات ليبرز بقوة النفوذ الأميركي، لم تلبث الولايات المتحدة أن لجأت إلى الحرب الناعمة، ناشرة ثقافتها، التي لا تختلف جذرياً عن الثقافة الأوروبية الغربية، لتكسب عقول وقلوب فئات واسعة من اللبنانيين.

 
ولما كانت أميركا راعية، ثم داعمة ثم متحالفة أساساً مع الكيان الصهيوني في منطقتنا، راح الفريقان يتكاملان تجاه لبنان وسائر المنطقة، فمن العدو القوة الصلبة أساساً، ومن أميركا القوة الناعمة.
 
أ - حرب العدو الصهيوني الصلبة ضد لبنان
منذ ما قبل وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وحتى قبل إنشاء دولته في أيار سنة 1948، كان جنوب لبنان، حتى الليطاني، محط أطماع الحركة الصهيونية. كذلك كان لبنان يتعرض للعدوان باستمرار، وكان من أشهر محطاته، مجزرة حولا سنة 1948، قبل إنشاء الكيان، التي ذهب ضحيتها عشرات الشهداء بطريقة غادرة.
 
ثم كانت حرب اغتصاب فلسطين في أيار 1948، التي انتهت باستيلاء العدو على ثلاثة أرباع أرضها، ومنذ ذلك الحين توالت الاعتداءات الصهيونية، وتفاقمت مع بدايات تحرك المقاومة الفلسطينية انطلاقاً من لبنان، وخاصّة سنة 1968، عندما هاجمت طائرات العدو مطار بيروت الدولي، ودمرت أسطول الطيران المدني اللبناني.
 
 
 

1- Archives diplomatiques (françaises)، Série E-Levant، doc، 313. P.112.
 
 
 
 
 
 
22

18

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

 واستمرت العمليات العدوانية ضد اللبنانيين والفلسطينيين، إلى أن اقتطعت بعض فصائل من الجيش اللبناني بقيادة رائد يدعى سعد حداد، بمساندة العدو، شريطاً من الجنوب، ومنع الجيش اللبناني من دخول ذلك الشريط.


وفي سنة 1978 شنّ الجيش الصهيوني عدواناً واسعاً على لبنان أدى إلى استصدار القرار 425 من مجلس الأمن الدولي، الذي قضى بانسحاب الجيش "الإسرائيلي" من لبنان.

وفي حزيران 1982 اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان واحتل حتى بيروت، إلا أن المقاومة اللبنانية اضطرته إلى الانسحاب من معظم المناطق اللبنانية، ليتوقّف من جديد في الجزء الجنوبي من جنوب لبنان. ونتيجة ضربات المقاومة الإسلامية اضطر العدو إلى الانسحاب في أيار سنة 2000.

إلا أنه في تموز سنة 2006 عاود عدوانه على لبنان متذرعاً بأسر جنديين إسرائيليين على يد المقاومة الإسلامية، فلم يتمكن من تحقيق أهدافه ومني بخسائر جسيمة في الأفراد والمعدات، وخاصة في روح جنوده المعنوية. وما زال العدو يهدد ويتوعد حتى اليوم.

ب - الحرب الناعمة لأميركا والغرب على لبنان
بدأت حرب أميركا الناعمة على لبنان بعد إنزال بعض قواتها على الساحل اللبناني في منطقة الأوزاعي، بطلب من رئيس الجمهورية كميل شمعون المؤيد للنفوذ الغربي ضد الفريق اللبناني الآخر، ثم راحت تقدم شيئاً من المساعدات الغذائية للبنانيين بعد سحب قواتها، إلى جانب بعض أنواع المساعدات الأخرى. 
 
 
 
 
 
 
 
23

19

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

 كما وقع لبنان تحت تأثير الحرب الناعمة العامة التي كانت تطلقها الولايات المتحدة إبان الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، والتي كانت تروِّج لأسلوب الحياة الأميركي، كما كان يتعرض لغير ذلك من الحروب، التي كانت تطلقها القوى المختلفة، يسهّل ذلك كونه بلداً مفتوحاً على وسائل الإعلام والثقافات.


غير أن النشاط الأميركي راح يتكثف في مواجهة المقاومة، مستخدماً أساليب التهديد ضدها، وأساليب الحرب الناعمة تجاه اللبنانيين بشكل عام، مع استخدام الأمم المتحدة، وخاصة مجلس الأمن، غطاء لتلك الحرب. فإلى جانب الأساليب التقليدية، كان أهم ما استخدم في المرحلة الأخيرة، القراران 1559 و 1701 والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان.


كان هذا القرار صناعة أميركية -ـ فرنسية مشتركة، فقضى بسحب الجيش السوري من لبنان، تحت ذريعة استكمال السيادة، ودعا الى إجراء عملية انتخابية حرة ونزيهة في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

كما دعا، من جهة أخرى إلى "حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها".

كان هذا القرار في مصلحة الولايات المتحدة الأميركية ومن ورائها "إسرائيل"، لأنه قصد أن يجرّد المقاومة من سلاحها، ما يمنح الدولة الصهيونية حرية الحركة العسكرية في لبنان، كما يمنح أميركا حرية التصرف بمقدرات هذا البلد من الناحية السياسية والدبلوماسية.
 
 
 
 
 
 
 
24

20

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

 كما يحقّق القرار لفرنسا إمكانية الانتقام من النظام السوري، بعد أن ظهر رئيسه بشار الأسد غير طيّع أمام إملاءات السياسية الفرنسية.


ومع ذلك لاقى القرار هوىً لدى الفئات اللبنانية المرتبطة تاريخياً بالغرب، التي كان منها من سبق أن كان يطالب بقرار أميركي أو دولي من هذا القبيل، كما دغدغ أحلام فئات جديدة.

غير أن الفئات اللبنانية الأخرى رأت في القرار مؤامرة على لبنان ومقاومته، التي تشكل قوة الردع في وجه أطماع العدو، كما تشكل القوة الرئيسية في مواجهة المشاريع الاستكبارية التي ما فتئت تهدد المنطقة، منذ بزوغ العصر الاستعماري حتى اليوم.

2 - القرار 1701 (2006)
أتى هذا القرار لوضع حد للمواجهات التي دارت إثر العدوان "الإسرائيلي" على لبنان بين المقاومة الإسلامية وجيش العدو، وقد حاولت أميركا والغرب عموماً أن تجعل المقاومة في موضع المهزوم سياسياً بعد صمودها العسكري الكبير.
حمّل القرار المقاومة الإسلامية مسؤولية القتال، رغم أن العدو هو الذي شن الحرب على لبنان، متذرعاً بأسر المقاومة جنديين من جيشه (البند 1)، وطلب تطبيق القرار 1559، بحيث لا يبقى سلاح في لبنان إلا السلاح الذي توافق الحكومة اللبنانية على وجوده (البندان 3 و8- 2و3) كما طالب الدول الأخرى بعدم إمداد المقاومة بالسلاح (البند 8-5).
 
 
 
 
 
 
 
25

21

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

 أتى هذا القرار بعد أن حاولت الجهات اللبنانية المرتبطة بالغرب المستحيل لإقناع العدو الصهيوني بواسطة أميركا، أن يفعل كل ما يستطيع لتدمير المقاومة، ولما عجز العدو، استعاضت الجهات المؤيدة له عن أسلوب الحرب العسكرية بأسلوب الحرب الدبلوماسية.


ولما كان تدمير المقاومة، بنزع سلاحها، هو المطلب الأميركي "الإسرائيلي" الأساسي، فإن جهات لبنانية كانت وما زالت تطالب به، دون أن يكون لديها أي بديل آخر يؤمن الحماية للبنان في مواجهة العدوانية الصهيونية الطامعة بالأرض والمياه. ومرة أخرى هناك حرب صلبة بمواجهة فريق لبناني وحرب ناعمة بمواجهة فريق آخر.

3 - المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، أو المحكمة "ذات الطابع الدولي".
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، طالبت السلطات اللبنانية تحت تأثير الضغوط المختلفة، الأمم المتحدة أن توفد لجنة لتقصي الحقائق، فأرسلت لجنة برئاسة ضابط شرطة إيرلندي، فقامت بمهمتها وخلصت إلى التوصية بتشكيل لجنة تحقيق دولية، فشكلت اللجنة برئاسة القاضي الألماني ديتليف ميليس، الذي خلفه قاضٍ بلجيكي هو سيرج براميرتز، الذي أعقبه أخيراً القاضي الكندي دانيال بلمار.

وأخيراً شكلت، بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1757 بتاريخ 30-5-2007، محكمة التبست تسميتها بين المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أو المحكمة ذات الطابع الدولي، لمحاكمة قتلة الرئيس الحريري ورفاقه، وربما المتورطين في جرائم أخرى ارتكبت قبل اغتيال الحريري وبعده.
 
 
 
 
 
 
 
26

22

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

 أُقر إنشاء المحكمة من قبل مجلس الأمن، بعد أن فشلت الحكومة التابعة للجهات المؤيدة للسياسة الأميركية، والتي تجمعت تحت راية 14 آذار، في اتباع الطرق الدستورية، التي تقضي بأن يبادر رئيس الجمهورية إلى المفاوضة (أو التكليف بالمفاوضة) في المعاهدات الدولية (م 52 من الدستور).


وقد اتخذ القرار 1757 تحت الفصل السابع لجعله إلزامي التنفيذ من قبل لبنان، تحت طائلة التعرض للعقوبات، التي يمكن أن تبدأ بالاقتصادية والدبلوماسية وتنتهي بالتدخل العسكري. وقد اعتمد هذا الأمر لقطع الطريق على معارضي الصيغة التي أعطيت للمحكمة.

لقد حلّ مجلس الأمن بقراره هذا محل السلطات الدستورية اللبنانية: رئيس الجمهورية ومجلس النواب، دون أي مبرر. وما التذرع بأن هاتين الجهتين لا ترغبان بإقامة المحكمة إلا مخالفة أخرى تضاف إلى المخالفات. فإذا كانت السلطات المخولة صلاحية ما، تتصرف من ضمن هذه الصلاحية، فالمسألة قانونية ولا تشوبها شائبة. وقد حاولت الحكومة أن تهرب من هذا، مدعية أن السلطة المكلفة بالبت النهائي بالاتفاق، مجلس النواب، معطلة. إلا أن الصحيح أن رئيس المجلس لم يعطله، بل هو رفض السير في عملية غير دستورية، لأنها بدأت في المكان الخطأ، بدأت عند الحكومة بدلاً من أن تبدأ عند رئيس الجمهورية.

أما لجهة موضوع القرار، فهو اعتداء على السيادة اللبنانية، وبالتالي هو خرق لميثاق الأمم المتحدة في مادته 2-7، التي تمنع تدخل الأمم المتحدة في كل ما يعد من صميم السلطان الداخلي للدول. والاعتداء المذكور على السيادة 
 
 
 
 
 
 
 
27

23

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

 تمثل بانتزاع صلاحية هامة من صلاحيات سلطة من السلطات اللبنانية، هي السلطة القضائية، وإيلائها إلى جهة خارجية، خلافاً للمادة 20 من الدستور، التي تحصر السلطة القضائية اللبنانية بالمحاكم اللبنانية.


كل هذا كان مطلباً لجهة لبنانية بالإضافة إلى كونه مطلباً لأميركا والغرب يمكّنه من الحصول على سيف يسلّط فوق رأس أي فريق لبناني يعارض سياساته. وهذا ما يؤمنه مبدئياً النظام الأساس للمحكمة، ذلك النظام الذي طبق بأكثر الطرق انحيازاً للسياسة الأميركية و "الإسرائيلية"، ومن خلفها الغربية بنحو عام.

أعطيت المحكمة صلاحيات واسعة جداً تسمح لها بتجاهل السيادة اللبنانية، إذ توضع السلطات اللبنانية تحت تصرفها لتلبية طلباتها، كما قضى البروتوكول المعقود بين مكتب المدعي العام والحكومة اللبنانية ممثلة بوزير العدل بالسيطرة المطلقة للقضاة الأجانب (م 8 من النظام الأساسي للمحكمة)، وكذلك أعطيت المحكمة صلاحيات التشريع، إذ لها أن تضع قواعد للإجراءات والإثبات، ما يعني أنها تسنّ قانوناً للأصول الجزائية وتطبقه، في خرق واضح لمبدأ فصل السلطات (م 28)، وإن كان لها أن تسترشد بقانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني، وبالمواد المرجعية الأخرى التي تنم عن أعلى معايير الإجراءات الجنائية الدولية، بغية ضمان محاكمة عادلة وسريعة. إلا أن هذه الإمكانية يعود تقديرها إلى المحكمة نفسها.

ثم إن الحكومة اللبنانية ملزمة بالتمويل بنسبة 49% من موازنة المحكمة، التي يقرّرها القضاة بكل استقلالية، ولا يجوز للبنان أن يمارس أي قدر من المراقبة عليها (م 5 من اتفاق الحكومة مع الأمم المتحدة).
 
 
 
 
 
 
28

24

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

 أما الصلاحيات الخارقة في المحاكمة فتتمثل بالآتي:

 
1- جواز أن تعيد المحكمة محاكمة أي شخص حوكم أمام محكمة لبنانية، وعدم جواز العكس (م 5 من النظام الأساس). هذا مع العلم أن الحكم الذي يصدر عن محكمة لبنانية ويتخذ الصفة القطعية يرتب للمحكوم عليه حقوقاً مكتسبة بألا تعاد محاكمته، كما يؤكده الدكتور محمد الحموري الوزير الأردني السابق1، لكن الحكومة اللبنانية تحرمه من هذا الحق باتفاقها مع الأمم المتحدة.
 
2- عدم جواز إصدار أي عفو، علماً بأن العفو سواء كان عفواً خاصاً يصدره رئيس الجمهورية (م 53-9 من الدستور) أم عفواً عاماً يصدره مجلس النواب، إنما يعبر في الحالتين عن صلاحية دستورية سيادية تمارسها أعلى السلطات في الدولة، ولا يجوز للحكومة أن تفرّط بها في أي حال من الأحوال2.
 
3- وهكذا مرة أخرى يُخرق الدستور اللبناني، ناهيك عن السيادة، استجابة للحرب الناعمة، التي تشن على لبنان.
 
4- كما أعطى النظام المحكمة صلاحية المحاكمات الغيابية، الأمر غير المعروف في المحاكم الدولية، والذي يسمح للمحكمة في حال تعذر حضور شخص ما أمامها لأسباب قاهرة، أمنية أو غيرها، أن تسطّر مذكرة جلب بحقه، وتطلب من الأنتربول أن يقبض عليه ويجلبه أمامها.
 
 

1- راجع صحيفة المدار بتاريخ 23 و24- 12-2006.
2- المرجع نفسه.
 
 
 
 
 
 
 
29

25

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

 في الممارسة: من تقصي الحقائق إلى القرار الاتهامي


بدأت التحقيقات بواسطة لجنة تقصي الحقائق، التي شكلها الأمين العام للأمم المتحدة، بناء على طلب الحكومة اللبنانية في شباط 2005، وانتهت بتسجيل عدم كفاءة أجهزة التحقيق اللبنانية، وأوصت بتشكيل لجنة تحقيق دولية، علماً أن ما سيتوصل إليه التحقيق، بعد أربع سنوات، لم يتجاوز بكثير ما كانت توصلت إليه الأجهزة اللبنانية. كما أكدت لجنة تقصي الحقائق "التدخل السوري الكثيف في الشؤون التفصيلية اللبنانية".

شُكلت لجنة تحقيق دولية برئاسة القاضي الألماني ديتليف ميليس، في 13 أيار- مايو سنة 2005.

كان أهم ما قامت به لجنة ميليس أن أوصت بسجن الضباط الأربعة: اللواء الركن جميل السيد، مدير عام الأمن العام السابق، اللواء علي الحاج، المدير العام لقوى الأمن الداخلي، العميد ريمون عازار، مدير مخابرات الجيش اللبناني، العميد مصطفى حمدان، قائد الحرس الجمهوري، فزج بهم في السجن ما يزيد عن ثلاث سنوات ونصف، ولم يخرجوا إلا بعد إنشاء المحكمة الدولية في آذار 2009.

إن أهم ما تميزت به تحقيقات ميليس أنها انطلقت من تاريخ العلاقة اللبنانية السورية، منذ إنشاء لبنان الذي عارضته سوريا، ثم اعتمادها على بعض الشهادات حول تهديد الرئيس الأسد للرئيس الحريري، وأخيراً اعتماد شهادات عن اجتماعات التحضير لاغتيال الحريري بين ضباط سوريين وضباط 
 
 
 
 
 
 
30

26

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

 لبنانيين. وقد أتت اتهامات ميليس منسجمة مع الجو الذي أشيع من قبل ما سُمِّيَ بقوى 14 آذار في لبنان، ومع ما كانت تضعه بعض الصحف الخليجية المعادية لسوريا من سيناريوهات.

واستغلّت الإدارة الأميركية تقارير ميليس، وكان تعليقها على أحد هذه التقارير أن ادعت: أن التقرير خطير ويوجب تحرّك مجلس الأمن لاتخاذ إجراءات ضد سوريا.
 
كما أراد سعد الحريري من المحكمة أن تبقى أداة ابتزاز ضد إيران وسوريا، فهو حسب ويكيليكس1، يريدها سيفاً مصلتاً على رقبة إيران وسوريا، لإضعاف وكلائهما في لبنان.
 
كل هذا على الرغم من أن نتيجة الاختبارات أتت لتدحض الشهادات حول اجتماعات الضباط المزعومة، وما روي حول السيارة التي حملت المتفجرات، وما إلى ذلك، تلك الشهادات التي ستعدّ فيما بعد "شهادات زور". وقد بقي النظام السوري في دائرة الاشتباه إلى أن تغير الموقف الأميركي تجاه سوريا.
 
تمسكت الجهات اللبنانية المؤيدة للسياسة الأميركية بتقارير ميليس، وراحت تهاجم سوريا وتحرّض ضدها، كما تهاجم الطرف اللبناني الآخر المتحالف مع سوريا.
 
انتهت مهمة ميليس، أو أنهيت، بعد أن كادت تتحول إلى فضيحة، وحل محله القاضي البلجيكي سيرج براميرتز في كانون الثاني سنة 2006.
 
 
 

1- الوثيقة رقم 06BEIRUT2602 بتاريخ 24 آب 2006 -الأخبار 16-3-2001
 
 
 
 
 
 
 
31

27

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

 تميزت تحقيقات براميرتز بالرصانة الظاهرية والاحتراف لجهة الحفاظ على سرية التحقيق، إلا أن حقيقة عمله لم تكن في المتناول، بسبب تكتّمه الشديد، إلى أن انتهت مهمته، وحل محله القاضي الكندي دانيال بلمار في أول كانون الثاني- يناير 2008، الذي كلّف برئاسة مكتب الادعاء العام لدى المحكمة عند تشكيلها في آذار 2009.

 
راح دانيال بلمار يتابع مهماته التحقيقية. إلا أن التحقيقات راحت تتسرّب إلى الصحف وسائر وسائل الإعلام، وكشف أن عمليات بيع التحقيقات كانت تجري منذ أيام ميليس، حيث كان يعرض نائبه غيرهارد ليمان كامل التحقيق مقابل مبلغ مليون دولار.
 
راحت بعض الصحف العربية والخليجية تنشر أجزاءً من محتويات التحقيق، ثم تلتها صحف أجنبية: ديرشبيغل الألمانية والفيغارو الفرنسية، كما أدلت قنوات تلفزيونية بدلوها مثل CBS الكندية.
 
وإذ بالتحقيق ينحرف باتجاه المقاومة، ليتهم بعض أفرادها، واستبعد النظام السوري الذي تحسنت علاقاته مع الغرب عموماً، وأصبحت أقل سوءاً مع أميركا، التي تحتاج إلى جهوده للتخفيف عنها في العراق. ويظهر التواطؤ بين المحكمة وسعد الحريري بتصريحه في مصر أنه:"ليس ملائماً استثناء حزب الله من التحقيق الدولي"1.
 
وهكذا يتبين أن التحقيق هو أداة بيد أميركا توجهها بالاتجاه الذي تريده.
 
 
 

1- ويكيليكس، وثيقة رقم 06beirut2604 بتاريخ 12-8-2006 الأخبار 15-3-2011

 
 
 
 
 
 
32

28

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

 وقد أصبح وسيلة في الحرب الصلبة التي تشنها على أخصامها، كما أنه من وسائل الحرب الناعمة تجاه الطرف اللبناني والعربي الآخر المسمى بـ "دول الاعتدال العربي" أو ما تبقى منه.

 
لقد كان تسييس المحكمة من الاحتمالات المرجحة منذ إنشائها، إذ كان من اللافت، كما يقول الدكتور الحمّوري، حالة الاستعجال في مجلس الأمن للانتهاء من إعداد مشروع المحكمة... فأقرها في يوم 21-11-2006.. وفي الوقت نفسه تمّ إرسال المشروع إلى الحكومة اللبنانية للموافقة عليه1.
 
وكان الأستاذ داوود خير الله تخوّف من تسييس المحكمة، منذ أن كان مشروع إنشائها قيد التداول، إذ كتب في أول تشرين الثاني 2006 يقول:"لكن المقلق هو أن تصبح المحكمة الدولية الخاصة وسيلة لتحقيق أهداف سياسية خارجية وداخلية، من دون أن تبلغ العدالة هدفها، فتصبح في أيدي محركيها كـ "المسار السلمي" (للقضية الفلسطينية). إذ إن المسار أصبح هو الهدف وهو الوسيلة للابتعاد عن السلم... وقد تخرج القضية كلياً عن سيطرة السلطات اللبنانية ويتحكّم بها المسيطرون على "الشرعية الدولية"2.
 
على أن المحكمة وكل ما تعلق بها لم تستخدم أدوات في الحرب الصلبة من قبل الخارج فقط، بل استخدمها بعض الداخل وسيلة من وسائل تلك الحرب، وقد رأينا دفاعه عن كل ما صدر عنها واستخدامه ضد أخصامه المحليين
 
 
 

1- صحيفة المدار المذكورة سابقاً.
2- راجع جريدة الأخبار بتاريخ 1و2 تشرين الثاني- نوفمبر 2006.
 
 
 
 
 
 
33

29

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

 والإقليميين. وهو لم يكتفِ بهذا، بل تمسك حتى بما لم تستطع المحكمة التمسك به، من مثل قضية "شهود الزور"، الذين أعلن القاضي براميرتز أن شهاداتهم لا يمكن الوثوق بها، لا سيما بعد تراجع بعضهم عنها.

 
غير أن "قوى 14 آذار" ما زالت تصرّ على عدم محاكمتهم على ما جروه على الضباط، وما تسببوا به من تضليل التحقيق وإهدار وقت المحققين، وكذلك، وهذا هو الأخطر، من أجل أن يكشفوا عمن دفعهم إلى الشهادة، ليصار إلى الادعاء عليهم بجرم التستر على المجرمين الحقيقيين، ودفع التحقيق باتجاهات مضللة.
 
إن الحرب ما زالت قائمة بفرعيها الصلب والناعم، والمحكمة الدولية. ما تزال تحاول أن تؤدّي الدور الذي رسم لها حتى الآن.
 
4 - الأساليب التقليدية الاخرى للحرب الناعمة
تتمثل هذه الأساليب، فيما يخص لبنان، بمساعدات "وكالة التنمية الأميركية"، وبالمساعدات العسكرية وبالتدريب لضباط وأفراد من قوى الأمن الداخلي والجيش، وصولاً إلى المدفوعات إلى وسائل الإعلام.
 
فوكالة التنمية الدولية الأميركية تموّل مشاريع مختلفة تشمل أبحاث مثقفين وأساتذة جامعيين ومراكز دراسات، وتشمل مشاريع تنموية في مختلف المناطق، وخاصّة في المناطق الجنوبية، حيث تتمكن من ذلك، فقد ورد في الصحف أن السفيرة الأميركية "سيسون" ونائب مدير وكالة التنمية كانا يجولان في الجنوب على مشاريع زراعية موّلتها الوكالة المذكورة1.
 
 
 

1- راجع جريدة النهار 10 أيلول 2008.
 
 
 
 
 
 
 
34

30

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

 أما المساعدات العسكرية، فتشمل عتاداً وأسلحة خفيفة ووسائل نقل وغيرها، مما لا يستخدم إلا في القمع الداخلي، وما يتوافق مع مطالب حلفاء أميركا، الذين لا تهمهم مشاريع العدو الصهيوني واعتداءاته واحتلالاته. 

 
وتقوم الولايات المتحدة بإجراء دورات تدريبية لضباط قوى الأمن الداخلي وأفرادها، وقد كثفت دورات التدريب بشكل ملحوظ. ففي مدى سنة مثلاً، ما بين نيسان 2008 ونيسان 2009، تحدثت الصحف عن ثماني دورات تدريب لقوى الأمن الداخلي1. كما تدرب الولايات المتحدة الجيش، وإن بوتيرة أقل، حسبما يرد في الصحف2.
 
أما وسائل الإعلام فنالت نصيباً لا بأس به من المساعدات الأميركية، فقد أدلى السفير الأميركي السابق فيلتمان بشهادة أمام مجلس الشيوخ الأميركي، اعترف فيها بتقديم خمسمائة مليون دولار أميركي لوسائل الإعلام، لتشويه سمعة حزب الله. 
 
النتيجة
 
هذه الأساليب الحربية منها ما باء بالفشل ومنها ما آتى أكله.
 
فأما التي آتى أكلها فهي الحرب الناعمة، فمنذ أواسط القرن التاسع عشر، استطاعت القوى الغربية أن تستميل جماعات من سكان جبل لبنان، نتيجة 
 
 
 

1- راجع: النهار 16-4-2008 و 22-7-2008 و12-8-2008 و3-4-2009 والسفير 19-8-2008 الأخبار 11-3-2008 والأنوار 9-9-2008 والبيرق 11-12-2008.
2- راجع: المستقبل والسفير 20-9-2008، السفير 12-7-2008، المستقبل 15-4-2009، والشرق الأوسط 15-4-2009.
 
 
 
 
 
 
 
35

31

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

 لدعمها لها في حروب داخلية نشبت بينها وبين جماعات أخرى، كما ودعمها لها في مواجهة السلطات العثمانية، ثم استطاعت، بعد الحرب العالمية الأولى، أن تكسب زعامات طائفية وشرائح من طوائف مختلفة، لمشاريعها، حتى وإن ظهرت خلافات مؤقتة أو جانبية، وما زال الأمر سارياً حتى اليوم.


وهكذا قامت في لبنان شخصيات قادت جماعات وشرائح لبنانية، وهي تنفّذ سياسة الغرب الطامع بخيرات منطقتنا وبأسواقها وموقعها الاستراتيجي. وآتت أكلها أيضاً الحرب المختلطة الصلبة والناعمة، في مواجهة جهات كانت ترفض تدخل الغرب، ولكنها رضخت أمام قوته وإغرائه، أي سياسة "العصا والجزرة". وهكذا، فبعد أن قاوم الزعماء العرب، وخاصة في المشرق، الاحتلال الغربي محاولين عدم الاعتراف بما قام به في المنطقة من تحكم وتفتيت وأساليب إدامة للهيمنة، رضخ الكثيرون من هؤلاء الزعماء لمغريات الحكم واعترفوا بما رتّبه الاحتلال من نتائج، واستراحوا إليها، ورتبوا مصالحهم على أساسها.
 
 
 
 
 
 
36

32

محصلة للحربين الناعمة والصلبة بعد عدوان تمـوز 2006

 محصلة للحربين الناعمة والصلبة بعد عدوان تمـوز 2006 


كانت نتيجة نمطي الحرب في منطقتنا نجاحات تلاها فشل أعقبته نجاحات نسبية، إلا أنها اليوم تتعرض للاهتزاز بفعل التحركات الثورية التي تقوم بها الجماهير بعد أن خرجت من القمقم.أما في لبنان، فإن الحرب الصلبة منيت في النهاية بالفشل تجاه من شنّت ضدهم. أما الحرب الناعمة فقد نجحت نجاحاً باهراً لدى أوساط واسعة.

أ- الحرب الصلبة
فالحرب التي شنّت ضد القوى المناهضة للهيمنة الغربية منذ الاحتلال، الذي سُمّي "انتداباً"، كانت تفشل فشلاً محدوداً، ثم تعاود الكرة، ثمّ كانت عصاها الغليظة الكيان الصهيوني، الذي ما زال يمارس الاعتداءات على لبنان منذ ما قبل إعلان استقلال الكيان حتى اليوم. إلا أن المقاومة على مدى عقود لم تستكن حتى كان اجتياح 1982، حيث هُزم العدو هزيمة غير كاملة، فانسحبت قواته لتتمركز فيما سُمّي "الشريط الحدودي" في جنوب لبنان في محاذاة الحدود اللبنانية الفلسطينية، إلا أنها هُزمت سنة 2000، واضطرت إلى الانسحاب إلاّ من مناطق محدودة. ثم حاولت في عدوان 2006 أن تثار لهزيمتها من جهة، وتعيد فتح الطريق لتنفيذ الخطط الأميركية فيما تبقى من المنطقة، من جهة أخرى. إلا أن العدوان فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق أهدافه. وبمناسبة هذا العدوان راحت نتائج الحرب الناعمة تظهر بأجلى صورها.
 
 
 
 
 
 
 
37

33

محصلة للحربين الناعمة والصلبة بعد عدوان تمـوز 2006

 ب- الحرب الناعمة

رأينا في بداية هذا البحث أن السيد ناي يرى أن أفضل نتائج القوة الناعمة أن تجعل أبناء البلاد الأصليين يحملون مطالبك، وهذا ما حقّقته الحرب الناعمة في لبنان، حيث انبرى عدد من السياسيين إلى مطالبة أميركا، إبان العدوان "الإسرائيلي"، بمواصلة هذا العدوان حتى يمكن أن يفرض على المقاومة نزع سلاحها، كما طالبوا بأن يحتل الجيش الصهيوني أجزاء من لبنان، ليتذرّعوا بهذا الاحتلال من أجل فرض نزع سلاح المقاومة.
 
1- ضرورة هزيمة حزب الله
كان السياسيون المؤيدون لأميركا وسياستها في المنطقة يطالبون بالقضاء على المقاومة، أو بنزع سلاحها بأي ثمن، وذلك في عزّ الحرب، عندما كان يقتل اللبنانيون بالمئات وتدمّر الأبنية والبنى التحتية.
 
ففي اجتماع مع السفير الأميركي بتاريخ 25 تموز 2006، أي بعد اثني عشر يوماً على بدء العدوان، يقول سمير جعجع: "إن وقفاً لإطلاق النار من النوع الذي لا ينزع سلاح حزب الله، سيؤدي إلى احتمال تجدد النزاع". ويضيف" إن وقف إطلاق النار يجب أن يقوم بدور تفكيك القدرات العسكرية لحزب الله"1
 
أما مروان حمادة فيرى: " أن وقفاً لإطلاق النار، بدون تقليص جوهري لقوات حزب الله، سيعطي هذا الأخير ببساطة موقعاً مهيمناً في الساحة السياسية 
 
 
 

1- البرقية رقم 06BEIRUT 2471 بتاريخ 25 تموز 2006
 
 
 
 
 
 
 
38

34

محصلة للحربين الناعمة والصلبة بعد عدوان تمـوز 2006

 اللبنانية، وسيفتح المجال لتجدد أعمال القتال في المستقبل القريب"1.

 
ولما تبينت استحالة سحب كل أنواع السلاح، رأى حمادة "أن الحكومة والجيش اللبناني سيركزان على الترسانة الصاروخية لحزب الله وعلى سلاحه الثقيل"2. أما نايلة معوض، التي كانت خائفة على حياتها، فكانت تبلغ السفير الأميركي أنه إذا وقف إطلاق النار قبل أن يتضرّر حزب الله جدياً، فسيكون من الصعب جداً للـ "قوى الإصلاحية" أن تستمر على قيد الحياة3. ويحسم ميشال الخوري، ابن الرئيس بشارة الخوري، موقفه بأن الغرب "يجب أن يربح الحرب الدائرة ضد حزب الله ومناصريه"4. وإذا كانت "إسرائيل" قد لا تستطيع إنجاز مهمة إرضاخ حزب الله وإجباره على تسليم سلاحه، فإن جعجع يقترح على السفير الأميركي أن مفتاح تفكيك حزب الله كقوة عسكرية يكمن في تحويله إلى مشكلة داخلية5.
 
أما بطرس حرب فلا يكتفي بالقتل والتدمير الحاصلين، بل هو ينصح السفير الأميركي "بأن يحصل تقدّم إسرائيلي كبير يسيطر على معاقل حزب الله في مارون الراس وبنت جبيل"6. وهذا ما يلتقي مع موقف جنبلاط7
 
 
 

1- البرقية رقم 06BEIRUT 2551 بتاريخ 7 آب 2006 الأخبار 16-3-2011
2- البرقية 06BEIRUT 2490 29 تموز 2006 الأخبار 17-3-2011
3- البرقية 06BEIRUT 2437- 27 تموز 2007- الأخبار 19-3-2011
4- البرقية 06BEIRUT 2447- تاريخ 21 تموز 2006، الأخبار 19-3-2011
5- البرقية رقم 2471 مذكورة أعلاه
6- البرقية 06BEIRUT 2513 1-8-2006- الأخبار 16-3-2011
7- البرقية رقم 06BEIRUT 2643- 15 آب 2006 الأخبار 24-3-2011
 
 
 
 
 
 
 
39

35

محصلة للحربين الناعمة والصلبة بعد عدوان تمـوز 2006

 لقد كان يتملك السياسيين المذكورين رعب من انتصار حزب الله، فقد "كانوا خائفين من أن يؤدي النزاع إلى جعل حزب الله في وضعية أقوى في لبنان مما كان عليه في البداية"1 وهذا ما أبلغه بطرس حرب للسفير الأميركي عندما كان قلقاً "من أن يخرج حسن نصر الله وحزب الله من الحرب كأبطال، لأنهم يكسرون أسطورة الجيش الإسرائيلي". ويتماهى سياسيو 14 آذار مع العدو ويتبنون عدوانه على لبنان والمقاومة، فيبلغون السفير الأميركي أن حربـ"هم" مع حزب الله (هي) أحد العوامل التي ستحدّد مستقبل العالم، هي حرب بين نظرتين للشرق الأوسط.2

 
أما عندما أسقط في أيديهم، فراح الجميع يطالبون بالعمل على إخفاء نصر حزب الله، ببقاء الجيش الإسرائيلي في النقاط التي احتلها قبل وصول القوات الدولية، لأنهم لا يثقون بالجيش اللبناني، لذلك أعلنوا للسفير الأميركي أنهم "لا يوافقون... على أنه يجب على إسرائيل الانسحاب أولاً فقط لكي يحل الجيش اللبناني مكانها، وهو الذي يعتقدون أنه لا يزال يعجّ بالضباط الموالين لسوريا، (بل) يجب أن يحصل بالتزامن مع حلول قوات دولية مكان الإسرائيلية".3
 
أما وقد حصل الانسحاب، فيتساءل غطاس خوري:"كيف يعقل أن إسرائيل تصرّ على قوة جديدة متعدّدة الجنسيات، ولكنها في النهاية تسمح لليونيفيل ذاتها بتسلم الوضع؟" 4
 
 
 
 

1- البرقية رقم 06BEIRUT 2544- بتاريخ 17 آب 2006، الأخبار 19-3-2011
2- البرقية 2544 مذكورة سابقاً
3- البرقية 2544 مذكورة سابقاً
4- البرقية رقم 2643 مذكورة سابقاً
 
 
 
 
 
 
40

36

محصلة للحربين الناعمة والصلبة بعد عدوان تمـوز 2006

  أما الياس المر فيعتب على الجيش "الإسرائيلي" بسبب ضعف أدائه: "إن الأداء الإسرائيلي الضعيف نسبياً، وخاصة في الأيام الأخيرة من النزاع، قد دعم حزب الله، ما يدفعه إلى التردّد في تسليم سلاحه، حتى في منطقة جنوب الليطاني. ويعبر المر عن اندهاشه من "أن الإسرائيليين قد سحبوا معظم جنودهم من الجنوب رغم أن الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل المعزّزة قد لا تنتشر إلا بعد أيام عديدة". واستنكر ملء حزب الله الفراغ الذي أحدثه الفشل الإسرائيلي في البرّ، ثم يستشيط غضباً ويقول: "يضعنا جيش الدفاع الإسرائيلي في موقف صعب... إنهم أسوأ جيش في العالم"1. (وهو الذي كان يأمل أن يسهّل له الأمور بالقضاء على قوة المقاومة).

 
وتبقى أخيراً مناقشة استخدام الفصل السابع الذي يسمح لمجلس الأمن بإصدار القرارات الملزمة لنزع سلاح حزب الله. وبهذا الصدد يقترح المر على السفير الأميركي أن يصدر قرار تعزيز اليونيفيل تحت الفصل السابع سراً، لكن لا يمكن للسنيورة طلب هذه التعزيزات تحت الفصل السابع. واقترح في المقابل أن يوصي بذلك الأمين العام للأمم المتحدة أنان بنفسه، على أن لا تصرّح إسرائيل والولايات المتحدة بذلك علناً.
 
2- قطع إمدادات السلاح عن المقاومة
بعد أن عجز العدو عن تحقيق أهدافه، وخاصة عن فرض نزع سلاح حزب الله، راح سياسيو 14 آذار يسعون لفرض حصار تسليحي على حزب الله، عن طريق السعي لتكليف الأمم المتحدة بمراقبة المعابر.
 
 
 

1- البرقية 06BEIRUT 2665- بتاريخ 16 آب 2006- الأخبار 25-3-2011

 
 
 
 
 
 
41

37

محصلة للحربين الناعمة والصلبة بعد عدوان تمـوز 2006

فالسنيورة يحاول تحريض المر على المطالبة بنزع السلاح، على أن يكون في نفس الوقت "صارماً لكن سلساً"1. ولكن دون جدوى. وهنا يقترح المر على السفير الأميركي "وجود رقابة من اليونيفيل وقوات الأمم المتحدة على الهدنة وعلى المعابر والمرافئ والمطار لطمأنة إسرائيل أن حزب الله لن يحظى "بالسلاح"2. ويلتقي سائر قادة 14 آذار "المسيحيين" مع هذا الطرح، فيؤيدون توسيع نطاق عمليات قوات الأمم المتحدة وصولاً إلى الحدود اللبنانية- السورية بهدف... "إعاقة إمداد حزب الله بالسلاح"3. ويقترح مروان حمادة ونعمة طعمة على السفير "إقامة جدار كهربائي ذكي في مناطق من الحدود اللبنانية- السورية"4
 
أما حاكم المصرف المركزي، رياض سلامة، فيعد السفير بأنه يمكنه تحريض رجال الأعمال ضد الحكومة ليجبرها على السماح لليونيفيل بمراقبة المعابر الحدودية لمنع أي احتمال لإعادة تسليح حزب الله5.
 
ويتطوع قادة 14 آذار لإفشاء أسرار تسليح المقاومة، فيطلب سعد الحريري من السفير الأميركي أن يتخذ "المجتمع الدولي" موقفاً "من قضية الحدود"، ويقترح "أن تفرض الأمم المتحدة عقوبات على سوريا6: "إن السوريين
 
 
 

1- البرقية 2665 مذكورة سابقاً
2- البرقية 06BEIRUT 2553- تاريخ 8 آب 2006- الأخبار 25-3-2011
3- البرقية 06BEIRUT 2544- تاريخ 7 آب 2006، الأخبار 19-3-2011
4- البرقية نفسها
5- البرقية 06BEIRUT 2551- 7 آب 2006، الأخبار 16-3-2006
6- البرقية 06BEIRUT 2706- تاريخ 21 آب – الأخبار 25-3-2011

 

 
 
 
 
 
42

 


38

محصلة للحربين الناعمة والصلبة بعد عدوان تمـوز 2006

 استطاعوا أن يمدّوا حزب الله بـ-2500- صاروخ قبل استهداف إسرائيل لطرقات الإمداد... ويصعب على الإسرائيليين استهداف الصواريخ المنفردة المخبأة في البلدات والقرى، دون التسبب بخسائر بشرية واضحة، وبمزيد من الإرباك الدولي". (إذاً الخوف من الإرباك الدولي، لا من قتل المدنيين).

 
والى هذا يكشف سياسيو 14 آذار للسفير الأميركي ولأميركا، ومن ورائها "إسرائيل"، عن أسرار سلاح الإشارة التابع للمقاومة، إذ تذكر السفارة الأميركية في إحدى وثائقها1 أن جنبلاط أثار " التقرير المتعلق بشبكة اتصالات حزب الله غير القانونية في لبنان" الذي كتب تحت إشراف مروان حمادة... وسلم جنبلاط القائمة بالأعمال (الأميركية) نسخة عن الخريطة التي تظهر شبكة الاتصالات (المذكورة).
 
ويركز السياسيون المذكورون على حرمان المقاومة من الاستفادة من المطار، حسب زعمهم. وقد تفاجأ الحريري أمام السفير من أن مطار بيروت الدولي لا يزال يستخدم في هذه الأهداف الشائنة2، لذلك يجب استبدال الضباط الشيعة، و"إن التحسين الأساسي سيتمثل في استبدال عناصر الجيش اللبناني الذين يؤثر عليهم حزب الله بعناصر أكثر استقلالية من الأمن الداخلي (ذات الأغلبية السنية)". وهذا ما قام به الوزير أحمد فتفت3. ويحاول الحريري أن يخدع السيد نبيه بري بالقول إن الأمم المتحدة تطالب بنقل ضباط الجيش
 
 
 

1- وثيقة رقم 06BEIRUT 642- بتاريخ 9 أيار 2008 (الأخبار 5-4-2011
2- البرقية 06BEYRUT 2602 12 آب – الأخبار 16-3-2011
3- البرقية 06BEIRUT 267- 16 آب 2006- الأخبار 25-3-2011

 
 
 
 
 
 
43

39

محصلة للحربين الناعمة والصلبة بعد عدوان تمـوز 2006

 اللبناني المتعاطفين مع حزب الله من محطة الشحن في مطار رفيق الحريري الدولي1.

 
3- التلاعب بالقضايا الوطنية
يستخدم فؤاد السنيورة القضايا الوطنية الكبرى في مناوراته الرامية إلى استخدام الضغط ضد المقاومة لنزع سلاحها، فمزارع شبعا، كما يبلغ السفير الأميركي، هي "اختراع إيراني سوري"2. وكان السنيورة يطلب إلى السفير الأميركي أن يعدّ المجتمع الدولي قضية مزارع شبعا قضية شرعية، كما طالب بأن يذكرها الأمين العام في خطابه قريباً، وبهذه الوسيلة "سأتمكن أخيراً من أخذ سلاح حزب الله"3. ويغضب السنيورة من سوء استخدام "إسرائيل" لـ"الممرات الإنسانية". إلا أن السفير يضغط عليه فيقرّ "من دون نقاش" بنظرية مفادها "احتمال استخدام حزب الله بعض المواكب التي تحمل مساعدات إنسانية لإمداد مقاتليه"4.
 
وأخيراً يبدي السنيورة للسفير الأميركي حرصه على مصالح "إسرائيل" كما "مصالح" لبنان، فمن خلال "النقاط السبع" تحصل "إسرائيل" على ما كانت تسعى إلى تحقيقه منذ عقود (إزالة المقاومة عن حدودها)5
كما يبدي السنيورة حرصه على تلك المصالح من خلال حل مشكلة مزارع شبعا6.
 
 

1- البرقية 06BEIRUT 2602- 21 آب 2006، الأخبار 25-3-2011
2- وثيقة 06BEIRUT 2353- بتاريخ 13 تموز 2006، الأخبار 15-3-2001
3- وثيقة 06BEIRUT 2672- بتاريخ 16 آب- الأخبار 25-3-2011
4- وثيقة 2353 مذكورة سابقاً
5- البرقية رقم 06BEIRUT 2601- بتاريخ 12-8-2006- الأخبار 15-3-2011
6- الوثيقة نفسها
 
 
 
 
 
 
 
44

40

محصلة للحربين الناعمة والصلبة بعد عدوان تمـوز 2006

 ويأمل السنيورة "أن تتنبه "إسرائيل" إلى كون بسط سلطة الدولة اللبنانية على الجنوب هو مفتاح أمن إسرائيل"1

 
أما مهمة الجيش اللبناني فلم تكن التصدي للعدوان الإسرائيلي، بل مواجهة المقاومة. فالحريري يطمئن السفير الأميركي إلى أن انتشار الجيش في الجنوب "يعني بداية النهاية بالنسبة إلى حزب الله، إذا لعبنا أوراقنا بشكل صحيح". كما يعلن المر استعداد الجيش اللبناني للردّ على حزب الله، إذا حاول إطلاق النار على إسرائيل واستدراجها"2. ويؤكد أن الجيش لن يقع في فخ المواجهة مع "إسرائيل" في الجنوب..3
 
ويفتخر الياس المر أنه خفض نسبة الشيعة في الجيش اللبناني من 58% إلى 36% وذلك تطميناً للسفير، ومن خلفه "إسرائيل". وإلى هذا لا يتورّع بعض زعماء 14 آذار، وخاصة السنيورة، عن استخدام لغتين. ففي اجتماعه بالسفراء الأجانب بوجود وزير الخارجية السيد فوزي صلوخ، يقول السنيورة إن القرار المعروض على مجلس الأمن لن يحظى بموافقة حزب الله. وبعد مغادرة صلوخ يقول للسفراء: إن إقرار المشروع كما هو سيعيد وضع لبنان "تحت السكين السوري"4. ويقول السنيورة بخصوص مزارع شبعا، وفي خدعة جديدة، "يمكنكم وضعها في عهدة الأمم المتحدة، ولتبقَ كذلك عاماً أو مئة عام".
 
وبعد مجزرة قانا أعلن السنيورة رفضه استقبال وزيرة الخارجية الأميركية، 
 
 
 

1- البرقية 06BEIRUT 2504- بتاريخ 1-8-2006- الأخبار 25-3-2011
2- الوثيقة 06BEIRUT 2553- تاريخ 8 آب 2006- الأخبار 25-3-2011
3- البرقية 06BEIRUT 2583- تاريخ 10 آب 2006
4- الوثيقة رقم 06BEIRUT 2353- 12 تموز 2006- الأخبار 15-3-2011
 
 
 
 
 
 
 
 
45

41

محصلة للحربين الناعمة والصلبة بعد عدوان تمـوز 2006

 لكنه يشرح الأمر للسفير في اليوم التالي، فيقول: "إن هذا الإعلان كان ضرورياً من الناحية السياسية، إذ إن لقاءه رايس كان سيؤدي إلى تبخّر صدقيته أمام الشعب اللبناني، وقدرته على التفاوض كانت ستتضرر كثيراً". أما المر فلا يقلقه من نتائج مجزرة قانا إلا التعاطف مع حزب الله. فقد حذر أمام السفير الأميركي من أن دائرة التعاطف مع حزب الله تكبر تحديداً على ضوء الهجوم على قانا، وهو ما يعزّز صورة "حزب الله البطل"1. ولا يكتفي قادة 14 آذار، بعد عجزهم عن تحقيق الأهداف، بتحريض العدو ضد لبنان ومقاومته، بل راحوا يسعون لإنشاء ميليشيات لمقاتلة المقاومة. فجعجع يريد التأكد من أن واشنطن على علم بوجود 7000- 10000 مقاتل مدرّب من القوات اللبنانية وهم جاهزون للتحرك. "يمكننا القتال ضد حزب الله... لكننا بحاجة إلى دعمكم (الأميركيين) للحصول على أسلحة لهؤلاء المقاتلين، وإذا بقي المطار مغلقاً، يمكن تسهيل عمليات الإمداد البرمائية"2.

أما سعد الحريري فهو أكثر طموحاً لجهة عدد المقاتلين، إذ يثير جنبلاط، أو يشكو من معلومات تتحدث عن تدريبات سعد للميليشيات السنية في لبنان (حوالي 15000 فرد في بيروت وطرابلس) ويضيف جنبلاط: "إن إنشاء الحريري لشركاته الأمنية الخاصة في بيروت وطرابلس يدلّ على أن بعض الأشخاص يسدون نصائح سيئة له، كالمدير العام لقوى الأمن الداخلي، اللواء أشرف ريفي"3.
 
 
 

1- البرقية 06BEIRUT 2513- 1-8-2006- الأخبار 16-3-2011
2- البرقية 06BEIRUT 642- بتاريخ 9 أيار 2008- الأخبار 5-4-2011
3- الوثيقة 06BEIRUT 490- بتاريخ 4 نيسان 2008- الأخبار 5-4-2011

 
 
 
 
 
 
46

42

محصلة للحربين الناعمة والصلبة بعد عدوان تمـوز 2006

 المحصلة


إن أسلوبي الحرب الصلبة والناعمة، اللذين مورسا ضدّ منطقتنا وأمتنا، أديا باستمرار وبالمحصّلة، إلى جعل شعوب هذه المنطقة فئتين تتنازعان، فئة متأثّرة بالغرب، وأحياناً مستقوية به، وفئة تواجهه وتتصدّى لمشاريعه. إلا أن كلاً من هاتين الفئتين لم تبقَ دائماً هي هي، بل كانت تتغيّر مكوناتها تبعاً للظروف.

فقد استفاد الغرب من الانقسام الديني، بعد نشوء الدولة الإسلامية، وخاصّة بعد أن دبّت في أوصالها عوامل التفتّت والانقسام، ليغزو بعض ثغورها في "الحرب الصليبية"، ويصطنع مؤيدين له من أبناء المنطقة. غير أن دولة مسلمة قوية عادت إلى الظهور وألحقت بالغرب هزائم كبرى. فلما ضعفت هذه الدولة، عاود الغرب هجومه، مستخدماً، أولاً، أسلوب الحرب الناعمة ليكسب النخب، فنجح في ذلك بداية، إلا أنه عندما عمد إلى الغزو، عاد فخسر قسماً منها. لكنه استطاع، بعد جلائه، أن يستعيد ثقة شرائح ممن خسرهم بالتركيز على المصالح وعلى الأيديولوجيا. وبقي الفريق المتمسّك بالأصالة مناهضاً له. 

وكان أن زرع في قلب المنطقة الجسم الغريب "إسرائيل"، الذي يلتقي معه في المصالح. وقد استثار هذا الجسم الغريب الأكثرية الساحقة من شرائح أبناء المنطقة. إلا أنه ومع مرور الزمن، وبعد الهزائم التي منيت بها الأنظمة التي تصدت باسم الأمة، حصل خلط للأوراق، وانقسمت الأمة انقساماً جديداً، بين معترفين بالهزائم، وبين رافضين لهذه الهزائم عاملين على نسف نتائجها.

وتقلّص الميدان الواقعي للمعركة، لينحصر في لبنان وفلسطين، وإن يكن 
 
 
 
 
 
 
 
47

43

محصلة للحربين الناعمة والصلبة بعد عدوان تمـوز 2006

 هنالك من يساند من خارج أرض المعركة، ممن سُمّوا قوى الممانعة، في حين سُمّي الآخرون دول الاعتدال.


وفي لبنان، كما في فلسطين، كما في سائر أرجاء المنطقة العربية والإسلامية، تحوّل المترددون والمعترفون بالهزيمة، أو "المعتدلون"، إلى حلفاء موضوعيين للأعداء، يتابعون معاركهم سياسياً وحتى عسكرياً، بل ويتماهون معهم، في بعض الأحيان، على أساس أن معركتهم واحدة. وفي هذا نجاح للحرب الناعمة، رغم الفشل الذي بدأ يلازم الحرب الصلبة.

غير أن الأمور لم تستمرّ، على الوتيرة نفسها، بل راحت الأنظمة تهتز وتتساقط، خاصّة في جانب دول "الاعتدال"، ويرد الغرب، وخاصّة أميركا، بتهديد قوى الممانعة، وما زال العصر الجديد في بداياته. 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

44

الحرب الناعمة وإشكالية الممانعة(د. محمد يـاغي)

المقال الثاني: الحرب الناعمة وإشكالية الممانعة
د. محمد ياغي: أستاذ علم الإجتماع في الجامعة اللبنانية
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

 


45

الحرب الناعمة وإشكالية الممانعة(د. محمد يـاغي)

 الحرب الناعمة وإشكالية الممانعة(د. محمد يـاغي)


تمهيد 

شهد مفهوم " الحرب الناعمة " (Soft War )، أو "القوة الناعمة" ( Soft Force )، تألقاً في نهاية القرن الفائت، وأصبح موضع اهتمام أكاديميين ودوائر سياسية وأمنية وعسكرية وإستراتيجية عدة، وبصورة خاصة في الولايات المتحدة الأميركية التي أنتج مفكروها فلسفة المفهوم بأبعاده المختلفة. ومفهوم الحرب الناعمة لم يدخل حيز التداول في البلدان العربية والإسلامية إلا مؤخراً، وبمستوى من الفهم الخجول المقتصر على بعض النخب التي تهتم بالدراسات الإستراتيجية، أو لدى جهات إقليمية تدرك مدى خطورة أنشطة وبرامج الحرب الناعمة التي تظهر تجلياتها على الشبكة الإلكترونية، وفي فهارس محتويات المحرك الدولي للمعلومات (Google)، بأثواب مختلفة، تتيح تلمس المظاهر الأولية لأوجه صراع خفي تستخدم فيه أدوات وآليات غير مألوفة في المواجهات الحربية المباشرة، أو في الحروب الصلبة الظاهرة للعيان. فمن يتصفح بدقة صفحات الشبكة المتعلقة بالموضوع المعالج، يمكنه - ومن منحى نقدي 
 
 
 
 
 
 
51

46

الحرب الناعمة وإشكالية الممانعة(د. محمد يـاغي)

 مقارن-أن يلاحظ مشاهد عدة، أبرزها: مشهد الغياب الصريح للاستعدادات والإرشادات التوعوية العربية الرسمية في مواجهة تداعيات ومخاطر الحرب المقصودة على مستقبل تحولات الصراع العربي - الإسرائيلي. إضافة إلى بروز مشهد آخر لافت يظهر كيفية ظهور الحضور الإسرائيلي من خلال جملة مواقع، منها ما يروج أن فكرة الحرب الناعمة من ناحية المفهوم إنما تعود إلى المجتمعات العربية والإسلامية التي تكن العداء البالغ لدولة إسرائيل. وفي مواقع الكترونية عدة، تشير "البروباغاندا" الإسرائيلية إلى تورط بعض البلدان الأوروبية أيضاً بتشويه سمعة إسرائيل دولياً، تحت عنوان معاداة السامية.وقد وثق ذلك في تقرير "مؤتمر هرزليا العاشر"، الذي عقد في العام 2010، والذي أطلق توصيات أمل أن تتبناها الدولة العبرية على المستويات التنظيمية والقضائية والسياسية والإعلامية. بالمقابل، و بمواجهة الحملة الإسرائيلية المنظمة، تظهر صورة الصراع الإقليمي - الناعم، الدائر في الشرق الأوسط من خلال الحضور الإلكتروني المكثف للجمهورية الإسلامية، والذي يحدد مدى خطورة الحرب الناعمة وما يعد من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من أعمال عدائية، ترمي إلى تغيير القيم والهوية الثقافية الإسلامية، إذ يبدي الإيرانيون قلقهم البالغ، ويدعون إلى التنبه لمواجهة ما يعد للأمة الإسلامية من مؤامرات تستهدف ممانعة الشعوب التي تطمح إلى التفلت من قبضة أميركا، والعمل على الحد من الآثار السلبية للعولمة الثقافية التي تمارس غزواً ثقافياً منظماً على الشعوب المستضعفة. 


إن المشاهد المختلفة التي عرض لها، تفتح باب السجال في محافل "الإنتليجنسيا" "العربية والإسلامية حول آليات الممانعة. ففي قواميس بعض
 
 
 
 
 
 
52

47

الحرب الناعمة وإشكالية الممانعة(د. محمد يـاغي)

 المثقفين العرب لا يوحي مستوى التعامل مع الممانعة كمفهوم، إلا بردة فعل تصادمية لا قيمة كبرى لها. والممانعة بنظر بعضهم ليست سوى أداء سلبي قاطع مع العصر، ومعيق للتقدم على كافة المستويات. بينما ينظر البعض الآخر إلى الممانعة كثقافة متكاملة ومتفاعلة مع إيجابيات العولمة، متخذة من الحداثة ما يتناسب مع مصالح الأمة، ومنسجمة مع أصالتها لجهة مقاومة الأهداف الاستعمارية التي تطمح إلى استغلال الشعوب المستضعفة وتحويلها إلى صيغة مستهلك لكل ما هو منتج غربي. وبما أن الحرب الناعمة تستهدف بصورة أولية صيغ الممانعة القائمة، وانطلاقاً من أنها منهج صراع غير مباشر تستخدم فيه شتى سبل السيطرة المعنوية لقهر الشعوب المستضعفة، لا بد من استنهاض أسئلة أبرزها: ما هي حقيقة الحرب الناعمة ؟ وما هي انعكاساتها على البلدان العربية والإسلامية ؟ كيف تتجلى تأثيراتها ؟ وما هي أهمية بناء مجتمع ممانع للحروب الخفية التي تشن بالوكالة الداخلية على البلدان العربية والإسلامية؟ 

 

 

 

 

53


48

القوة الناعمة (تأصيل نظري–تاريخي)

 القوة الناعمة (تأصيل نظري–تاريخي) 

 
 قبل أن نعرض لظروف نشأة مفهوم الحرب الناعمة، لا بد لنا من تبني تعريف علمي ما، يندرج في جملة تعريفات رائجة في حقل البحوث الإستراتيجية العسكرية والسياسية. " فالقوة الناعمة مصطلح يستخدم في نطاق نظرية العلاقات الدولية، ليشير إلى توظيف ما أمكن من الطاقة السياسية، بهدف السيطرة على سلوك واهتمامات القوى السياسية الأخرى المستهدفة من خلال وسائل ثقافية وأيديولوجية"1
 
لدى مطالعة التعريف المدرج، يمكننا من ناحية أولية استنتاج مغزى القوة الناعمة وما تشمل من أعمال مخططة ومنظمة، الغاية منها تثمير الطاقة السياسية، بهدف الهيمنة على القدرات والمقومات السياسية لدى الآخر المستهدف. بمعنى غزوه ثقافياً وأيديولوجياً، وتحويله إلى بلد مسيطر عليه من دون أن تظهر هوية الفاعل الحقيقي. والمقصود بالفاعل الحقيقي بشكل أساس، الولايات المتحدة الأمريكية، الناظم المولّد لنظرية القوة الناعمة، والأمين على مشروعيتها وإعطائها بعداً" أكاديمياً إستراتيجياً دونما وازع، وتحت عنوان زائف، يزعم تعزيز الخير العام لشعوب الأرض وحماية الديمقراطية من خلال منطق الفهم الأمريكي. إن حرص الولايات المتحدة على السلام العالمي ومسيرة الديمقراطية المزعومة يفترض تمايز عناصر القوة لديها، ولعل أفضل من عبر عن أماني الولايات المتحدة وضرورة تمايز قوتها هو "روبرت غايتس" (Robert M. Gates)، وزير الدفاع الأمريكي الحالي. ففي مؤتمر حول قضايا الدفاع
 
 
 

1- U.C. Manal ، Dictionary of Public Administration ، Sarup & Sons 
 
 
 
 
 
 
 
54

49

القوة الناعمة (تأصيل نظري–تاريخي)

 قال "غايتس": إن رسالتي اليوم ليست حول موازنة الدفاع أو القوة العسكرية. رسالتي تتعلق بكيفية مواجهة أمريكا للتحديات الدولية القادمة في العقود المقبلة. وأفترض أن على أمريكا أن تبتكر مظاهر أخرى لقوتها القومية بهدف مواجهة التحديات الخارجية. ووفقاً لخبرتي التي خدمت من خلالها سبعة رؤساء، وكمدير سابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية ( CIA )، ووزير دفاع حالياً، أقول لكم إنني أتيت إلى هنا لأعزز فكرة استخدام القوة الناعمة لكي تصبح قوة فاعلة رديفة للقوة الصلبة1

 
من الناحية النظرية، يعتبر "جوزيف ناي" (Jozef S. Nay) المنظر الأساس لمفهوم القوة الناعمة. يطرح ناي في مؤلفاته إستراتيجيات بارزة من أجل إنجاح سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في السياسة الدولية. و "ناي"، الذي شغل منصب مساعد سابق لوزير الدفاع الأمريكي، ودرس بدقة تكلفة حروب أمريكا الباهظة في أفغانستان والعراق، وجد أن وزن أمريكا الدولي لم يعد كما كان في السابق، وأن شعبية بلده قد تدنت بشكل حاد في البلدان الإسلامية. انطلق "ناي" من فكرة أن الناس قد عرفوا القوة الصلبة ( المباشرة عسكرياً) والجبروت العسكري والاقتصادي للولايات المتحدة. وأدركوا، بالمقابل، أن استخدام القوة المباشرة والتهديدات الصريحة من شأنه أن لا يحقق النتائج المرجوة. في حين أن استخدام الوجه الثاني للقوة، أي القوة الناعمة، سيجذب الآخرين ويرفع مستوى الإعجاب بالسياسة الأمريكية. فالقوة الناعمة تجعل من الآخر يريد ما نريد من دون إرغام ! كما وإنها العنصر الثابت في السياسة 
 
 
 

1- Secretary of Defense Reports 2006-2008 . Understanding The New Defense Policy Through The Speeches of Robert M. Gates ، US Amazon . com 
 
 
 
 
 
 
 
55

50

القوة الناعمة (تأصيل نظري–تاريخي)

 الديمقراطية، والمعين الأساس للقوة الصلبة، التي يفترض الحفاظ على هيبتها، وتخفيف انعكاساتها المعنوية السلبية على الولايات المتحدة1.

 
من الناحية الإجرائية، تجيز نظرية الحرب الناعمة خطط الحرب غير المباشرة "كاللعب بقواعد الخصم، وخلق حالة من التشكيك في الثوابت والمعتقدات التي يتبناها الخصم. وفي مظهر الحرب الناعمة، يتمظهر الاشتباك مع الخصم الخارجي بلون محلي تماماً"، بمعنى أن يتبلور حضور الوكيل المحلي في إطار بيئة حاضنة لأهداف الخصم بطريقة غير مباشرة. وفي هذا السياق يستعير الوكيل المحلي خطاباً وطنياً حماسياً لا يثير أية شبهة من حوله. بل، ومن الأفضل أن يتبنى هو بالكامل مجموعة الثوابت المشكك فيها"2
 
يتضمن كتاب " ناي" خمسة فصول يعرض من خلالها للطبيعة المتغيرة للقوة، ويبحث في مصادر القوة الناعمة لدى الولايات المتحدة، مقارناً إياها بمصادر القوة ذاتها لدى الآخرين. وفي فصول كتابه يعرض لأسس استخدام القوة الناعمة، وعلاقتها بالسياسة الخارجية الأمريكية. 
 
تحت عنوان "وراء القوة الناعمة والقوة الذكية: قوة فائقة"، يناقش "ستيف هامونز" (Steve Hammons) أفكاراً ومبادئ مرتبطة بالقوة الصارمة، والقوة الناعمة، أو الذكية، معتبراً أن استخدام هاتين القوتين، يحقق ما يسميه "القوة الفائقة" أو "القوة التجاوزية" (Transcendent Power). ترتكز 
 
 
 

1- جوزيف ناي، القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية، ترجمة محمد توفيق، ص. (4-5 ) بتصرف .
2- جريدة الجريدة،( العدد 1024 )، محمد صادق الحسيني، 30/8/2010. 
 
 
 
 
 
 
 
56

51

القوة الناعمة (تأصيل نظري–تاريخي)

 "القوة الفائقة" برأيه على مجموعة من الموارد، وتستند إلى دمج عناصر الإفادة من مجموعة واسعة من الموارد والأساليب التي تربط بنحو مستديم بين القوة الناعمة والقوة الصلبة. فالقوة الفائقة تتضمن استخدام الدبلوماسية العامة، والموارد الثقافية الأمريكية، والعمليات الإنسانية، وقواعد حفظ السلام، والعناصر الاستخباراتية القائمة على المعلومات البشرية. كما، وتستخدم العمليات ذات التأثير النفسي ( الحرب النفسية )، وسائر العمليات الدفاعية والتكنولوجيات المتقدمة وغيرها من الوسائط الهامة المختلفة1

 
أما " ليزلي جلب " (Leslie Gelb)، الباحث الإستراتيجي، وأحد أبرز منظري السياسة الخارجية الأميركية، فيرى من خلال كتابه "قواعد القوة" (Power Rules) أن الحس السليم بإمكانه أن ينقذ السياسة الخارجية الأمريكية من مأزقها، وأن يخفف حدة الاستياء العالمي منها2. وهو، وبالرغم من تسليمه بأن قوة الولايات المتحدة قوة لا تقاوم، وهي مطلقة ولا جدل يقبل حول ذلك، فإنه وجد أن هذه القوة يفترض أن تكون على مستوى من الإتقان، لتصبح مزيجاً من القوة العسكرية والتفاوض الدبلوماسي القائم على الإكراه والإقناع. وفي كتابه يحاول إثبات وجهة نظره من خلال سلسلة من دراسات حالة (Case Studies) تبحث في نجاحات وإخفاقات الولايات المتحدة في العلاقات الدولية أثناء النصف الأخير من القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الحالي. وفي استنتاجات "جلب" تظهر هشاشة فعل التهديدات العسكرية وحدها، والتي لا
 
 
 

1- .Title: Beyond Soft Power And Smart Power Transcendent Power .http://epages.wordpress com/2009/02/26
2- Leslie H. Gelb ، How Common Sense Can Rescue American Foreign Policy – Cover Page – Amazon . com
 
 
 
 
 
 
 
57

52

القوة الناعمة (تأصيل نظري–تاريخي)

 تحل المشاكل برأيه بقدر ما تعقدها. وهو يقترح اتباع نهج الحس السليم، كنتاج إبداعي، يجمع بين إستراتيجيات القوتين، الصلبة والناعمة. ويركز "جلب" في كتابه على عناصر خمسة أساسية هي: 

 
السعي لجعل أمريكا قادرة على استعادة ديناميتها الاقتصادية العالمية.
التأكيد على انتهاج مبدأ الدمج بين القوتين: الصلبة والناعمة لإعادة إنتاج موقع الولايات المتحدة في القرن الواحد والعشرين.
التحديد الواضح للتحديات والمخاطر التي تتهدد الولايات المتحدة، كالإرهاب، والتهديدات الاقتصادية، والمشكلات الصحية والبيئية. 
استخدام السبل الوقائية والتعامل مع المشكلات المتوقعة قبل حصولها. 
 
استخدام القوة في ظروف محددة، وأسلوب الإكراه في المواقف التي لا تحقق فيها القوة الصلبة النتائج المرجوة. ويخلص "جلب" في مؤلفه إلى دعوة الولايات المتحدة لانتهاج سياسة اعتدال في العلاقات الدولية، من أجل حماية مصالحها في العالم. 
 
وفي مؤلف "منفعة القوة" (The Utility of Force) يوجه "روبرت سميث" ( Rupert Smith )، وهو أحد جنرالات بريطانيا نقداً لمنهج الحروب التقليدية1، ويرى، أنه لم يعد بإمكان الآلة العسكرية التقليدية منفردة حسم الصراعات وتحقيق الانتصارات، مستنداً إلى أمثلة تاريخية عن تجارب الولايات المتحدة في فيتنام، وفرنسا في الجزائر، محللا نتائجها ونتائج حروب أخرى.
 
 
 

1- Leslie H. Gelb ، How Common Sense Can Rescue American Foreign Policy – Cover Page – Amazon . com.Rupert Smith،The Utility of Force ، Introduction . Bames & Noble ،2008
 
 
 
 
 
 
 
58

53

القوة الناعمة (تأصيل نظري–تاريخي)

 ففي كتابه، لا يدعو إلى استبعاد القوة العسكرية، وإنما يحاول تأكيد فكرة أن أساليب الحروب التقليدية لم تعد كافية، ما يتطلب استخدام منظومة مختلفة عن منظومة المواجهة بين الجيوش التقليدية. 

 

 

 

 

 

59


54

القوة الناعمة ومفهوم الهيمنة الثقافية

 القوة الناعمة ومفهوم الهيمنة الثقافية 


عندما بحث المفكر الماركسي "أنطونيو غرامشي" (Antonio Gramsci) في العناصر المكونة لاستمرارية الرأسمالية، أشار إلى أهمية الثقافة البديلة،كسبيل يمكن اعتماده من أجل إنجاح الثورة الاشتراكية. و "غرامشي" الذي يعتبر من كبار منظري مفهوم "الهيمنة الثقافية" قد سعى من خلال استخدام هذا المفهوم كأداة في التفسير، إلى تفنيد معوقات انتشار الثورة الاشتراكية في أوروبا الغربية. وفي تحليلاته، يرى أن هيمنة الرأسمالية لا تنبني على القوة والمال والسلطة فحسب، بل على عامل القبول الذي تكونه ثقافة الطبقة الحاكمة في أذهان الناس. ويحاجج "غرامشي"، بأن حدوث التغير الاجتماعي، إنما يعتمد على ضرورة إنتاج ثقافة بديلة لدى الشرائح الاجتماعية المسحوقة، ثقافة تحمل قيم ومفاهيم وتقاليد الثورة، من أجل مقاومة الثقافة الرأسمالية المهيمنة على المجتمع. بمعنى أنه لحظ منذ زمن بعيد الدور المنشود لاستخدام منهجية الحرب الناعمة - وإن بعبارات أخرى - كحرب تسبق الأعمال العسكرية المتحركة، وأدرك أن هنالك حرباً ثقافية قائمة بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي تتطلب استنهاض قنوات مختلفة، كوسائل الإعلام، والمؤسسات التربوية والفكرية، بهدف إنتاج ثقافة بديلة مواجهة لثقافة الهيمنة النابعة من قيم وفلسفة الرأسمالية. 

وقبل انهيار المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق أيضاً، استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية كافة إمكاناتها الثقافية والإعلامية لتحقيق النظام العالمي الجديد والقطبية الأحادية، فانتهت الحرب الباردة، وخسر اليسار العالمي مواقعه المتقدمة، وبان الهدف الإستراتيجي الأساس 
 
 
 
 
 
 
 
60

55

القوة الناعمة ومفهوم الهيمنة الثقافية

 للولايات المتحدة، والمتمثل بقيام إمبراطورية أمريكية عالمية تحت عناوين جديدة، تستهدف قوى معارضة لنهج العولمة المضمر، زاعمة أن الصراع المستقبلي لا يعدو أن يكون صراعاً حضارياً. وقد تجلت فذلكة مفهوم الصراع القادم في كتابات ونظريات مفكرين أبرزهم "فرانسيس فوكوياما" (Francis Fukuyama)، و "صموئيل هنتنغتون" (Samuel Huntington)، اللذان رسما بطريقة ما البعد النظري - التبريري للمزاوجة ما بين مفهومي القوة الصلبة والقوة الناعمة، وأسسا بصورة غير مباشرة لمنهجية الهيمنة الثقافية، الأمر الذي يستدعي الوقوف على آثار بصماتهما الخفية. فما هي الأدوار الأيديولوجية التي رسمت من خلال هذين المفكرين ؟ وما صلة استقراءاتهم غير الأمينة إلى حد بعيد في فهم حركة التاريخ ؟ وما صلة ذلك بفكرة توطيد موقع الحروب الناعمة كإستراتيجية متطورة للتوسع الإمبريالي والهيمنة الثقافية ؟.


تسيدت مقولة "نهاية التاريخ" لمنتجها "فرانسيس فوكوياما" محافل الفكر السياسي الأمريكي لفترة ناهزت الخمس سنوات. ففي كتابه: "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" (The End of History and The Last Man) الذي صدر في العام 1989، تلاقت طروحات المؤلف مع التوجهات الأيديولوجية للمحافظين الجدد، لجهة التنبؤ بانهيار الأنظمة الشمولية، وسائر الأنظمة الشيوعية والاشتراكية، والتنبؤ أيضاً، بانتصار النظام الليبرالي، كنظام سياسي - اقتصادي فريد في المستقبل. 

عارض "فوكوياما" في كتابه نظرية "كارل ماركس" (Karl Marx) وفهمه المادي - التاريخي الذي اعتبر من خلاله أن نهاية الاضطهاد الإنساني مسألة 
 
 
 
 
 
 
61

56

القوة الناعمة ومفهوم الهيمنة الثقافية

 حتمية، وأن زوال الصراع الطبقي سيؤسس لعدالة إنسانية مقبلة. ووجد أن نهاية الاضطهاد ستكون على يد حالة استقرار نظام السوق الحرة في الديمقراطيات الغربية. أما لجهة الناحية التي تربط فكر "فوكوياما" بمفهوم "القوة الناعمة"، فتكمن في اقتناعه بضرورة أن تبقي الولايات المتحدة على جهوزيتها المستمرة لاستخدام القوة الصلبة في سبيل حماية ونشر الديمقراطية. ولكن، بالتوازي مع ما أطلق عليه نموذج ويلسن الواقعي، اعتبر "فوكوياما" أن استخدام القوة يفترض أن يكون آخر الخيارات التي يتم اللجوء إليها، ووجد أن إصلاح التعليم ودعم مشروعات التنمية، يمنحان سياسة الولايات المتحدة أبعاداً مشروعة من أجل نشر الديمقراطية. 


وفي الفترة التي تخلى فيها "فوكوياما" عما كان قد طرحه من أفكار موالية للمحافظين الجدد في مقال نشرته المجلة التابعة لصحيفة "نيويورك تايمز" (New York Times)، في العام 2006، نفى أن تكون الحرب العسكرية هي الإجابة الصحيحة عن الحرب على الإرهاب. وأضاف أن معركة كسب عقول وقلوب المسلمين حول العالم هي المعركة الحقيقية. أشار "فوكوياما" إلى ذلك وهو يدرك أن الحروب الصلبة التي شنتها الولايات المتحدة قد خلفت الكثير من الويلات، وأن هنالك صحوة قادمة ستغير من درجة تقبل "المايسترو" الأمريكي في العالم الإسلامي، وأن القوة العسكرية لم يعد بإمكانها أن تسحق شعوباً بكاملها مهما عظمت. 

ما كتبه "فوكوياما" في العام 2006، إن دل، فإنه يدل على محاولة تنصله من جرائم المحافظين الجدد في العالم، ومن الأخطاء السياسية الفادحة - وفق فهمه - التي ارتكبت في عهد الرئيس الأمريكي "جورج بوش". وقد تبدى ذلك في
 
 
 
 
 
 
 
62

57

القوة الناعمة ومفهوم الهيمنة الثقافية

 كتابه: "أميركا على مفترق الطرق" (America At the Crossroads). ففي فصول مؤلفه يبدي الكاتب قلقه من أسلوب تعاطي الإدارة الأمريكية مع الشرعة الدولية من خلال غزو العراق، وإن بنحو إصلاحي - تبريري، ملمحاً إلى أن أمريكا قد أضحت على مفترق طرق، أي إنه قد استشرف بشكل ما لا صلاحية المحافظين الجدد في قيادة السياسة الخارجية لأمريكا، ونادي بضرورة الانطلاق من مرحلة جديدة تقوم على فكرة المزاوجة ما بين القوتين: الصلبة والناعمة. 

في دائرة التنظير لضرورة الحرب والتصادم الحضاري القادم، الذي يستوجب التحديث الدائم لأدوات القهر الامبريالية على المستويين: المباشر والرمزي، لمع نجم "صموئيل هنتنغتون" (Samuel Huntington) في نظريته "صدام الحضارات" (The Clash of Civilizations) في نهاية التسعينات أيضاً. ولعل الأسباب التي أدت إلى اتساع شهرة "هنتنغتون" لا تتعلق بالقيمة العلمية التي تحملها نظريته فحسب، بل بصلتها الوثيقة بنهج اليمين الأمريكي المتطرف. لذا، فإنها قد جاءت لتعبر عن السياسة "النيو - ليبرالية"، بعد أن أفلت مرحلة النتاج النظري لمؤلف "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" لفوكوياما. 

عمد "هنتنغتون" في كتابه إلى تبرير نوع آخر من الحتمية، أي الحتمية الثقافية القائمة على الهيمنة، والمستندة إلى تصوير مشهد الصراع القادم بعد انهيار الشيوعية، على أنه صراع خطير حاضراً ومستقبلاً، ويتطلب بالتالي من سادة الحضارة الغربية صراحةً أخذ الحيطة والاستعداد للدفاع عن النموذج الحضاري الأمريكي الليبرالي. وفي نظريته يطرح فكرةً مؤداها، أن مشهد الصراع القادم لن يكون أيديولوجياً أو اقتصادياً، بقدر ما أنه سيكون حضارياً -
 
 
 
 
 
 
 
63

58

القوة الناعمة ومفهوم الهيمنة الثقافية

 ثقافياً، لافتاً إلى أن الصراعات السياسية الدولية المرشحة للنشوب ستحدث بين حضارات ستتنازع من أجل السيطرة على العالم، وستكون بين ثلاث حضارات رئيسة هي: الحضارة الإسلامية، الحضارة الصينية، والحضارة الغربية. ولفت المؤلف إلى أن هذه الصراعات ستحل محل الصراعات الأيديولوجية. 

 
يفصح كتاب "صدام الحضارات" عن منطلقات أيديولوجية تبرر مبدأ صراع الحضارات بدلاً من مبدأ الحوار فيما بينها. ويعزز بشكل غير مباشر، ومن زاوية إستراتيجية، مبدأ سباق التسلح وتطوير القوة العسكرية الأمريكية إلى ما لا نهاية، بدلاً من العمل على بناء السلام العالمي المبني على حوار الحضارات وتفاعلها. 
 
وبناءً على ما سبق ذكره، يُلاحَظ أن نظرية "هنتنغتون" تميل إلى إظهار انتقائية فاضحة في تصنيف الحضارات. فتارةً يستبعد الكاتب حضارات معينة، وتارةً ينمق أخرى في أسلوب يخفي التمايز الحضاري الأورو - أمريكي. وبرأيه، فإن "الحضارة الكونية ستقوم على عاتق معتقدات وقيم يحملها العديد من الناس الذين يعيشون في كنف الحضارة الغربية، إضافة إلى بعض الذين ينتمون إلى حضارات أخرى". و "هنتنغتون" لا يتطرق بالطبع في مؤلفه إلى ما جنته الحضارة الغربية من كوارث، ولا يشير إلى أي نقد بنيوي لطبيعة الدور الامبريالي، أو إلى الأنساق الاستعمارية المغلفة التي تجتاح البلدان الضعيفة، وهو لا يكف عن تأكيد الصراع الحضاري المتأجج بقوله: "أنه في العصور المقبلة سيشكل صدام الحضارات التهديد الأعظم للسلام العالمي"1، نافياً بذلك مقولات الصراع الأخرى، ذات البعد المجتمعي - الطبقي. 
 
 
 

1- The Clash of Civilizations, Samuel Huntington, Books-A-million -1, 1997 p. 57
 
 
 
 
 
 
 
64

59

القوة الناعمة ومفهوم الهيمنة الثقافية

 في ضوء العرض المقتضب للبعد الأيديولوجي لمقولة صراع الحضارات، تتبدى جملة من التساؤلات حول شكل ومستقبل الصراعات الدولية القادمة. وبصورة خاصة، حول ما طرحته الولايات المتحدة من أفكار مطمئنة بعيد الحرب الباردة، وما نسجته من ترويج لعصر العولمة الواعد بتحقيق الرخاء والتقدم وإزالة الفروق بين بني الإنسان. فالعولمة المزعومة لم تحقق أي شكل من أشكال العدالة الدولية، بقدر ما عملت على تفريغ الثقافات العالمية من محتواها الحقيقي. كما وأن العولمة لم تنهِ التاريخ، وما الحديث عن موت التاريخ إلا حديث مؤدلج "يشتغل انطلاقاً من مرامٍ تتستر بوجهة نظر، هدفها في الباطن تكريس الهيمنة الثقافية على الحضارات غير الغربية. وما لا شك فيه أن "هنتنغتون" قد صاغ نظريته بدرجة وفاء عالية للنهج الأمريكي الذي كان بأمس الحاجة لمبررات نظرية تمكنه من إحكام السيطرة على الشعوب المستضعفة. 

 

 

 

65


60

ما بين "جورج بوش" و "باراك أوباما": الهيمنة المحدثة.

 ما بين "جورج بوش" و "باراك أوباما": الهيمنة المحدثة. 


بعد انتهاء الفترة الرئاسية لجورج بوش، وما خلفته الآلة العسكرية الأمريكية من قتل ودمار في بقاع مختلفة من العالم، وفي مناخ التراجع الحاد لسمعة الولايات المتحدة الأمريكية في المحافل الدولية إثر ما قدمته للإنسانية من موت وتشرد وإعاقة في أفغانستان والعراق، عادت السياسة الأمريكية إلى الساحة الدولية بوجه جديد، يخاطب العالم الإسلامي بوصفه عالماً جديراً بالاحترام والثقة ! إنه وجه "باراك أوباما". انتُخب أوباما ليوحي بتغير ما في سياسة أمريكا الخارجية، فأطلق رئيسها الجديد الصورة الإيجابية الخادعة لسياسة لم تغير في أهدافها بقدر ما غيرت في نهج تحاول لغاية الآن تفحص مدى أهليته لبناء الإمبراطورية الأمريكية المستندة إلى القوة الناعمة. 

انعكست التحولات السياسية الأمريكية بداية في مشهد الخطاب السياسي الهادف بصورة ما إلى كسب معركة في خانة التأثير الثقافي، ومحاولة السيطرة مجدداً على عقول وقلوب المسلمين. ففي الخطاب المحدث، يتم اختيار المفردات التي تعنى بالسلام، ومحو الظلام، وبناء كوكب الأرض عبر استخدام الطاقة الآمنة. وفي عناوين الخطاب الجديد منعطفات يصعب تصديقها حول بناء شراكات جديدة مزعومة مع شعوب البلدان النامية، التي أغدق عليها بالوعود المتعلقة بنشر التعليم وتحقيق الديمقراطية والعدالة الدولية ! أي جملة الأساليب التي تدعو إلى ترجيح كفة سياسة القوة الناعمة، وتجنب استخدام القوة
 
 
 
 
 
 
 
66

61

ما بين "جورج بوش" و "باراك أوباما": الهيمنة المحدثة.

 العسكرية الصلبة لحل الصراعات الدولية، أو الدفاع عن المصالح الأمريكية - الدولية إذا صح التعبير. "فقد حدثت أثناء ولاية جورج بوش فجوة واسعة طالت كيفية النظر إلى أمريكا من خلال شعبها، وكيفية نظر بلدان العالم غير الأمريكي لها. إذ يحاول الرئيس أوباما حالياً عبور هذه الفجوة، إلا أن النجاح لن يكون سهلاًً، لأنه يتطلب إعادة تقويم في ضوء المصلحة القومية، بعيداً عن المبالغة والاستثناءات المزعومة1.

 
 

1- Same ref. p.321-Soft Power and Foreign Policy: Theoretical, Historical, and Contemporary Perspectives. Inderject Parmer and Michael Cox . Books-A-Million p.(166 - 165)
 
 
 
 
 
 
 
 
67

62

القوة الناعمة في مشهد الإعلام وحالة الصراع الدولي - الإقليمي على الشبكة الإلكترونية

 القوة الناعمة في مشهد الإعلام وحالة الصراع الدولي - الإقليمي على الشبكة الإلكترونية


من قواعد الحرب الناعمة أن تستخدم وسائل الإعلام بهدف التأثير على قناعات ومبادئ الخصم عبر وسائط الاتصال المختلفة، وذلك ليس من أجل إحداث نشر ثقافة بديلة عن الثقافة المحلية فحسب، بل من أجل إحداث قلب في معايير التفكير واتجاهات الرأي العام في البلد المستهدف. 

وفي استراتيجيات الحرب الناعمة، يُعمل بما يسمّى بحرب المواقع الإلكترونية لإثارة السجالات، ومحاولات الجذب والتأثير، والقرصنة ومهاجمة مواقع الآخر المستهدف "بالفايروسات" المتنوعة. وأمور كهذه، تمكن ملاحظتها في مضامين موضوعات الشبكة، التي تظهر ما ينظّر حول الحرب الناعمة في دائرة الصراع الدولي - الإقليمي، حيث تتبدى أنماط حضور مختلفة، تبحث في مخاطر هذه الحرب وأشكالها في منطقة الشرق الأوسط، بين أطراف سياسية تمثل اتجاهات عدة، تتمثل بحضور قوى إسلامية مستقلة، حضور إيراني، وحضور إسرائيلي، يقابله غياب حضور غالب الحكومات العربية عن مسرح التصدي لهذا النوع من الحروب. وربما يحدث ذلك بحكم أن هذه الحكومات لا تشعر بأنها معنية بتأثير الفايروسات الناعمة، أو ربما لأنها تلعب دوراً لصالح انتشارها، وإن بصورة غير مباشرة، فما الذي يستحق إثارة السجال والجدل؟ 

على صعيد الإعلام، يروج الغرب الأمريكي دوماً لحرية التعبير عن الرأي وحقوق النشر، وحرية نقل المعلومات والإفادة منها، باعتبارها حقوقاً إنسانية
 
 
 
 
 
 
 
68

63

القوة الناعمة في مشهد الإعلام وحالة الصراع الدولي - الإقليمي على الشبكة الإلكترونية

 لا يمكن المساس بها. وتحت عناوين كهذه، تلام وتعنف الأنظمة الشمولية والدكتاتورية على قمع الصحافة الحرة، وتوجه الانتقادات عندما يتعلق الأمر ببلدان غير صديقة، أو وفية للولايات المتحدة والغرب عموماً. أما الجانب المغفل الذي لا يتم الحديث عنه، فيقع في إستراتيجيات الإعلام في الحرب الناعمة، وفي منهجية السيطرة والتحكم بعقول الشعوب، عبر تحويل أساليب التفكير والذهنيات نحو أمور تافهة أحياناً لا تصب بمعظمها في محيط تناول قضايا حيوية، فتبعد العقول عن ملامسة مسائل التغير البنيوي، وتحولها إلى عقول مستهلكة غير منتجة، الأمر الذي يضع الأفكار والمعلومات في دائرة استهلاكية، ويرجح التعاطي مع الشعوب بمنطق إغراقي شبيه بمنطق الإغراق السلعي، الذي يوقع مستهلك المعلومات في هستيريا الاختيار. 


وبصدد وظائف الإعلام في التحكم والتأثير، نلفت إلى قائمة أعدّها المفكر الأمريكي "نعوم تشومسكي" (Noam Chomsky) اختزل فيها الطرق التي تستعملها وسائل الإعلام العالمية للسيطرة على الشعوب، والتي حددها بعشر إستراتيجيات أساسية وهي: 

1- إستراتيجية الإلهاء، وهدفها الأساس يتمثل في تحويل انتباه الرأي العام عن المشكلات الهامة، من خلال بث جملة من الإلهاءات والمعلومات التافهة التي تضع المتلقي في خانة التشتت. 

2- إستراتيجية ابتكار المشكلة، وإحداث ردة الفعل، ومن ثم تقديم الحل، أي أن يثير الإعلام مشكلة تحدث ردة فعل من قبل الشعب، فيطالب بحلها، في وقت يفترض المطالبة بحل مشاكل أكثر أهمية وملامسة لظروف الحياة اليومية. 
 
 
 
 
 
 
69

64

القوة الناعمة في مشهد الإعلام وحالة الصراع الدولي - الإقليمي على الشبكة الإلكترونية

 3- إستراتيجية التدرج، ويعمل بهذه الإستراتيجية من أجل تقبل إجراء من الصعب تقبله. بمعنى إقناع الشعب بضرورة حصول التغيرات الاجتماعية والاقتصادية بنحو تدرّجي تصاعدي. 


4- إستراتيجية التأجيل كما يسميها "تشومسكي" وهي طريقة يتم الالتجاء إليها من أجل إكساب الأمور المكروهة حالة التقبل، كتقبل إجراء ما في الحاضر يفترض تطبيقه في المستقبل، وترسيخ فكرة أن ما يقدمه الشعب في الحاضر، سيجعله في موقع تفادي التضحية المطلوبة في المستقبل. 

5- وتتجلى في مخاطبة الناس وكأنهم مجموعة من أطفال صغار، وبواسطة شخصيات وخطب لا تستدعي لدى المتلقي الحس النقدي السليم. 

6- وتنطلق من استثارة العاطفة بدل تفعيل التحليل المنطقي. أي محاولة تحريك مشاعر وعواطف الناس من خلال إثارة الرغبات والمخاوف والنزعات السلوكية، بشتى الوسائل. 

7- وتكمن في إبقاء الشعوب في حالة من الجهل والحماقة، وإبعادها عن التكنولوجيات المتقدمة ونوعية التعليم الجيد. وتتقاطع هذه الإستراتيجية مع إستراتيجية الإلهاء. 

8- تشجيع الشعب على استحسان الرداءة، كأن يجد الفرد أنه من الرائع أن يكون "غبيا". 

9- استبدال حالة التمرد بحالة من الشعور بالذنب. أي جعل الفرد يظن بأنه المسؤول الأوحد عن أخطائه وتعاسته، وأن مشكلاته الحياتية إنما 
 
 
 
 
 
 
 
70

65

القوة الناعمة في مشهد الإعلام وحالة الصراع الدولي - الإقليمي على الشبكة الإلكترونية

 تعود إلى سوء اندماجه ونقص ذكائه وقدراته، عوضاً عن قيامه بحراك سياسي يستهدف بنية النظام الاقتصادي القائم. 

 
10- إستراتيجية سيطرة الإعلام من خلال تقدم العلوم البيولوجية والنفسية. فبرأي "تشومسكي" يلعب التطور العلمي دورا"هاما" في عمليات التأثير نتيجة دراسة طباع الناس وميولهم. وقد نتج ذلك التأثير برأيه عن الفجوة المعرفية بين عامة الناس، وبين الذين يمتلكون أدوات السيطرة، مما يجعل تأثير القوى الحاكمة أقوى من تأثير الأفراد على أنفسهم.
 
من هنا، نستنتج أن للإعلام دوراً مستتراً أيضاً، يمارس عبر الديمقراطيات المثالية على الشعوب المستهدفة، بهدف تفريغها من عناصر القوة والممانعة انطلاقاً من ازدواجية الدور المرسوم له. 
 
يتكرر فعل هذه الاستراتيجيات في حقل آخر، هو حقل الحرب الإلكترونية الذي تتم تجلياته في اتجاهين مترابطين: اتجاه أول، وتتدخل فيه تقنية مهاجمة الأعداء "بالفايروسات" بواسطة مخترقين (Hackers)، واتجاه ثاني، يتأسس على غزو العقول، وتغيير أساليب التفكير، وصناعة الأذواق، وإثارة التضليل المقصود. على مستوى الاتجاه الأول، تخترق أنظمة الحواسيب من خلفيات سياسية واقتصادية وثقافية من جهة، وأعمال قرصنة وسرقة معلومات من جهة أخرى. وقد استهدفت الجمهورية الإسلامية الإيرانية على سبيل المثال بفايروس "ستاكسنت" (Stuxnet)، وهو منتج فايروسي استخدم لإحداث أضرار بالبرنامج النووي الإيراني وأجهزة الطرد المركزي خاصته. أما على
 
 
 

1- جريدة السفير اللبنانية ( عشر استراتيجيات للتحكم بالشعوب – شباب السفير ) 15/2/2011 .
 
 
 
 
 
 
 
71

66

القوة الناعمة في مشهد الإعلام وحالة الصراع الدولي - الإقليمي على الشبكة الإلكترونية

 مستوى الاتجاه الثاني، فإنه يعبر عن الصراعات وأساليب الدفاع والتحصين والدعاية المنظمة من خلال الشبكة الإلكترونية. وبمجرد تصفح فهارس المواقع الخاصة بالحرب الناعمة، تمكن ملاحظة أطراف الصراع الدائر، خاصة على الصعيد الإقليمي، والذي سنعرض لتمثيل أشكال حضوره، بغية تفنيد أبعاده ومراميه، ووعي خطورة ما يجري في عالم يدعي "الدمقرطة"، ولا يعمل من أجلها إلا القليل. 

 

 

 

 

 

72


67

أطراف الصراع وتجليات الهجوم والدفاع والتضليل والممانعة

 أطراف الصراع وتجليات الهجوم والدفاع والتضليل والممانعة 

 
تلحظ فهارس الشبكة الإلكترونية أوجهاً عدة للصراع الخفي. وبالرغم من أن تحليلها وتفسير مضامينها يحتاج إلى مبحث مستقل، سنعمد إلى توضيح مشهد النزاع عبر التركيز على أشكاله التالية: 
- الحضور الإسلامي غير المرتبط ببنية الأنظمة السياسية العربية. 
- الحضور الرسمي للجمهورية الإسلامية الإيرانية. 
- الحضور الإسرائيلي المتعدد الأبعاد. 
 
يتبدى الحضور الإسلامي المتنوع بتدخلات فردية، تقع أهميتها في إثارة الوعي حيال أبعاد الحرب الناعمة ومخاطرها على الثقافة الإسلامية. واللافت أن بعضها يحمل تحليلات نقدية لدراسات مؤسسة-"راند"(Rand)- الأمريكية1، حول الإسلام، والتي تحث على بناء شبكات الكترونية ذات طابع إسلامي معتدل، بهدف أمركة مفهوم الاعتدال وتفكيك الصف الإسلامي، وانتداب قوى داخل المجتمعات الإسلامية تنشط لإشعال نزاعات أيديولوجية بين العلمانيين والحداثيين والتقليديين. ويخلص مضمون الاتجاه الإسلامي المتنوع إلى توعية الناشئة، إلى أن هنالك معركة فكرية تشن ضد الإسلام، وتنفذ على أيدي أناس من أبنائه لهدمه الإسلام وتعطيل الشريعة باسم الإسلام.
 
 
 

1- http://www.rand.org/publications/pubs-search.html- 
 
 
 
 
 
 
 
73

68

أطراف الصراع وتجليات الهجوم والدفاع والتضليل والممانعة

 - يعمل في مؤسسة راند ما يقرب من 1700 شخص في أكثر من خمسين دولة، ولديهم خبرات متفوقة في التوثيق، والتدريب الأكاديمي، والبحث في القضايا السياسية والأيديولوجية، ومسائل العرق والجنس. ويتم تجميع فرق المؤسسة من بين مهنيين مختصين في الأبحاث، ولديها مشرفون يبلغ عددهم حوالي 950 باحثاً في الحقول الأكاديمية والمهنية، وفي فروع الاقتصاد والعلوم السلوكية والطب والهندسة. وللمؤسسة فروع منتشرة في كافة أنحاء العالم، ولها فرع في أبو ظبي وآخر في قطر.1

 
تناقش المواقع الإسلامية أيضاً جرائم الرئيس الأمريكي الأسبق "جورج بوش" مظهرة فظاعتها، وتشير إلى أن الرئيس الحالي قد جاء ليغسل وجه أمريكا الملوث بدماء المسلمين، وتدعو إلى اليقظة والتنبه، وتوجه نداءات إلى قادة الأمة الإسلامية للعب دورهم، لأن العلماء هم قادة، ولأن الأمة لا تُنتهك إلا حين يسكت العلماء الناصحون. وعلى المستوى الديني – الإرشادي، تتوجه بعض المواقع إلى دعاة الإسلام في العالم للعب دورهم في الدعوة إلى القيام بالواجبات الدينية ومحاربة المحرمات، وعدم تربية الشباب على دين متفلت من الضوابط الأخلاقية، وتوجه رسائل لكل مسلم ومسلمة حول ما يحاك ضد الأمة الإسلامية من مؤامرات هدفها التفرقة، طالبة منهم الاحتكام إلى قواعد القرآن الكريم، لأن المستقبل في العالم هو مستقبل المسلمين. 
 
أما الحضور المتعلق بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، فيتميز بتبيين مدى استهداف النظام السياسي، وبمساهمات الولايات المتحدة في إنتاج المعارضة
 
 
 

1- لمزيد من التفصيل أنظر الموقع الإلكتروني الرسمي للمؤسسة: http://www.rand.org/publications/pubs-search.html- 
 
 
 
 
 
 
 
74

69

أطراف الصراع وتجليات الهجوم والدفاع والتضليل والممانعة

  الداخلية له بوسائط مختلفة، منها ما هو محلي، ومنها ما هو خارجي. وقد لا يبدو الأمر محيراً لأن إيران مستهدفة منذ قيام ثورتها باستراتيجيات الحرب الناعمة، نتيجة لتنامي دورها الإقليمي الفاعل، ولعدائها المطلق لإسرائيل، وتبنيها برنامجاً نووياً يثير قلق أمريكا ويهدد المصالح الغربية في الشرق الأوسط. 


برز الاهتمام الإيراني الرسمي بتأثيرات الحرب الناعمة من خلال مواقف وتوجيهات مرشد الثورة الإسلامية آية الله خامنئي، والتي تدعو إلى التعبئة، نظراً لما تشكله هذه الحرب من مخاطر ترمي إلى إيجاد التفرقة بين أبناء الشعب وإحداث الضرر في إيران. وقد أوضح ذلك مرشد الثورة في مواقف عدة، لاحظاً أن القوى الإستكبارية، وبعد فشلها في استهداف بلاده خلال العقود الثلاثة الماضية، قد لجأت إلى بث التفرقة، وتشويش الأذهان. ودعا جميع وسائل الإعلام والناشطين السياسيين وسائر المسؤولين المعنيين إلى الكف عن الخلافات الهامشية للتصدي للهجمة التي تتعرض لها الجمهورية الإسلامية. أما على المستوى الحكومي. فقد أشار وزير الأمن الإيراني إلى أن بلاده مستهدفة بالحرب الناعمة، وأن هنالك أكثر من ثمانين مؤسسة تعمل في أمريكا، بميزانية تبلغ نحو ملياري دولار سنوياً لإثارة الحرب الناعمة وتحقيق أهدافها في إيران. وقد لحظ الوزير الإيراني أيضاً، أن أمريكا قد حاولت، ولم تزل، أن تؤثر على السياسة الإيرانية عبر سلسلة من العقوبات، إلا أن ذلك لم يفلح، نظراً لقدرة إيران على الممانعة، معتبراً أن استهداف بلاده لم يزل قائماً، نتيجة تنامي القدرات الإيرانية في شتى المجالات. وبما أن مشهد الصراع يشير إلى خروج إيران عن قواعد اللعبة الدولية وتوزع مراكز القوة والنفوذ
 
 
 
 
 
 
 
75

70

أطراف الصراع وتجليات الهجوم والدفاع والتضليل والممانعة

 فإن الغرب، وبقيادة البيت لأبيض، قد وضع على جدول أعماله خيارات عدّة لوقف التقدم الإيراني المتواصل. وما هدف الحرب الإعلامية الناعمة إلا التأثير على فكر الشعب الإيراني، وإخافة المسؤولين من المضي قدماً في الطريق الذي سلكوه. 1

و في مواقع عدة على الشبكة الإلكترونية أيضاً. يتهم المسؤولون الإيرانيون الولايات المتحدة ودولاً أخرى بالسعي إلى الإطاحة بنظام ولاية الفقيه من خلال استخدام القوة الناعمة بمساندة مثقفين وغيرهم من داخل المجتمع الإيراني. ولمواجهة هذه الحرب، يلاحظ تعدد المباحث حول آليات التصدي لهجمة الغرب الثقافية - الأيديولوجية في مدونات وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي الداعية إلى ضرورة تبني خطوات ميدانية في حقل المواجهة بين إيران وأعدائها. ففي "ملتقى إستراتيجية وسائل الإعلام الداخلية لمواجهة الحرب الناعمة"، ركز وزير الثقافة الإيراني على أهمية ما يلي: 
 
1- ضرورة تأليف عشرات الكتب التثقيفية لمواجهة هذه الحرب. 
2- التنبه إلى ما ينتجه الإعلام، لافتاً إلى أن قدرته على التدمير، هي أقوى وأخطر من القنبلة الذرية، كونه من الوسائل الأكثر أهمية في الحرب الناعمة مما يستوجب ترشيد الإعلام المحلي على كافة المستويات.
3- تفعيل قدرات الحكومة، والجامعات، والمؤسسات، ووسائل الاتصال كافة لمواجهة هذه الحرب. 
4- التنبه لتطورات الحرب الإلكترونية، وما يقوم به موقع "فايس بوك" 
 
 
 

1- جريدة القبس : ( محطات إيرانية – الحرب الناعمة والخيارات الفاشلة ضد إيران . 19/3/2011 .
 
 
 
 
 
 
 
76

71

أطراف الصراع وتجليات الهجوم والدفاع والتضليل والممانعة

 (Facebook) من أنشطة معادية لإيران، معتبراً أن الحقيقة هي الضحية الأولى للحرب الإعلامية.1

 
في المقلب الآخر، يتبدى الموقف الإسرائيلي من الحرب الناعمة في محطات أساسي ثلاث: الخوف من سلطة الإعلام، اعتماد أسلوب الخدعة لتشويه الحقائق التاريخية للصراع العربي - الإسرائيلي، و سياسة المواجهة والغزو المتعدد الأهداف. 
في نطاق الخوف من سلطة الإعلام، وفي الفترة التي عرض فيها المسلسل التركي "صرخة حجر"، اعترض الإسرائيليون بشدة على المسلسل المذكور، واعتبروا أنه يشكل تحريضاً خطيراً ضدهم فعمدوا إلى استدعاء السفير التركي، واحتجوا لدى تركيا، محدثين ضجة إعلامية كبرى، لأن المسلسل قد أثار حقائق تتناقض مع المشهد الذي تقدمه إسرائيل عن سياستها في الغرب المناصر لها. فالدولة الصهيونية تدرك مدى الخطر الذي يشكله الإعلام عليها. ولذلك، أعطت أهمية كبرى للسيطرة على مرافق إعلام حيوية، سواء في أوروبا، أو في الولايات المتحدة، لأنها تؤمن بأهمية وسائل الإعلام في صناعة رأي عام ملفق يحتضن قضيتها بشتى السبل والمؤثرات. 
 
تنطلق إسرائيل بتنظيرها لمفهوم الحرب الناعمة من خدعة كبرى. والساسة الإسرائيليون يحتاجون دوماً إلى حائط مبكى لإيهام العالم بأن إسرائيل هي دوماً المعتدى عليها، وأنها الضحية التي تذبح من قبل العرب والمسلمين. ففي "مؤتمر هرزليا" اعتمدت إسرائيل في فنون الخدعة على تشويه الحقائق 
 
 
 

1- جريدة النهار اللبنانية : ( وزراء نجّاد يتعهدون بمواجهة الحرب الناعمة ضد إيران ) . 2/9/2009 .
 
 
 
 
 
 
77

72

أطراف الصراع وتجليات الهجوم والدفاع والتضليل والممانعة

 لتمرير فكرة أن مصدر الحرب الناعمة عربي - إسلامي من جهة، وأوروبي معادٍ للسامية من جهة أخرى. ويلاحظ ما ذكرناه من خلال مطالعة أعمال المؤتمر المقصود، حيث وزعت أوراق عمل، تلحظ أن لكراهية اليهود جذوراً عميقة في الإسلام منذ القضاء على القبائل اليهودية في شبه الجزيرة العربية. وفي المؤتمر المذكور، وضعت إسرائيل موضوع الكراهية والتحريض على جدول الأعمال، مفصلة جملة من التجليات التي تمارس عليها من خلال الحرب الناعمة، والتي نذكر منها ما يلي: 

 
1- كثافة الأنشطة الهادفة إلى عزل إسرائيل، ومقاطعتها من قبل المنتديات الدولية والإسلامية، وممارسة التأثير على بعض المؤسسات العلمية في أوروبا لاستبعاد القدرات الأكاديمية الإسرائيلية. 
 
2- استخدام كافة أساليب التحريض من خلال وسائل الإعلام العربية، كقنوات: الجزيرة، والمنار، والعربية، وغيرها، لإظهار لا شرعية إسرائيل ولا إنسانية الشعب اليهودي والفكر الصهيوني. وتجنيد بعض وسائل الإعلام الغربية كقناة1، (BBC) الانجليزية، التي تبث، ليس إرضاءً للعرب والمسلمين فحسب، بل لأسباب مصدرها أوروبي محلي. 
 
3- ممارسة التحريض في وسائل الإعلام الفلسطينية، حيث إن هنالك محاولات فلسطينية تجري لإخفاء رسائل الكراهية المنتجة لدى السلطة الفلسطينية عن الرأي العام الدولي. فمن وجهة النظر الإسرائيلية، وبالرغم من اعتراف السلطة الفلسطينية بشرعية
 
 

1- لمزيد من المعلومات حول مؤتمر هرزليا العاشر، أنظر الموقع الرسمي التالي: http://www.herzliyaconference.org/eng 
 
 
 
 
 
 
 
78

73

أطراف الصراع وتجليات الهجوم والدفاع والتضليل والممانعة

 الدولة الإسرائيلية، فإن هذا الاعتراف لم يؤدِّ إلى اتخاذ موقف صارم من الانتفاضة الشعبية، الأمر الذي جعل بعض الحكومات الغربية تعترف بشرعية نضال الفلسطينيين ضد إسرائيل. 


4- تمارس الحرب الناعمة على إسرائيل أيضاً عبر التحريض في الكتب الفلسطينية التي لم يتم إحداث تغيرات جوهرية في مضامينها التي تحمل تحريضاً ضد إسرائيل. لأن كتب التعليم لا تعترف بإنسانية الشعب اليهودي، ولا تنشر ثقافة السلام مع إسرائيل، وتزيف بالتالي حقيقة الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. 

5- التحريض الذي تمارسه حركة حماس لكسب الرأي العام الفلسطيني، والدور السلبي الذي يلعبه قطاع التعليم في قطاع غزة، لأنه يحرض شفوياً على دولة إسرائيل انطلاقاً من أيديولوجية حماس. 

6- دور المنظمات الإسرائيلية غير الحكومية (NGOS) في نشر المعلومات الكاذبة والمحرفة حول إسرائيل. إذ يدعم بعضها الفلسطينيين بتمويل من الاتحاد الأوروبي الذي يمدها بخمسين مليون دولار سنوياً! 

7- ضعف وسائل الإعلام الإسرائيلية وتأخرها بالرد على بعض الأنظمة العربية التي لا ترغب بإحراجها، إذ تتمادى هذه الأنظمة في السماح ببث الكراهية ضد إسرائيل، وتسمح بمهاجمتها من قبل القوى الداخلية المعادية. 

أما لناحية الحلول التي تطرح إسرائيلياً في مواجهة الحرب الناعمة. فقد لحظت خلاصات "مؤتمر هرزليا" جملة من التوصيات التي تدعو إلى انتهاج مبدأ التحول من قاعدة الدفاع، إلى قاعدة الهجوم الإعلامي. ووفقا لنتائج المؤتمر، يتطلب ذلك إحداث تغييرات تنظيمية، وتحقيقات، ومراقبة شاملة،
 
 
 
 
 
 
 
79

74

أطراف الصراع وتجليات الهجوم والدفاع والتضليل والممانعة

 وتوثيق، ورد سريع، ونشاط إعلامي في مؤسسات التعليم الأوروبية. وفي المجال القضائي، تفترض المواجهة الفاعلة تغيير بعض التشريعات وتقديم الدعاوى بحق الذين يكنون الكره لإسرائيل. وعلى المستوى السياسي، يتطلب الأمر تغييرات جوهرية في الدبلوماسية العامة، من خلال أخذ زمام المبادرة، وليس الرد بمنع التحريض فحسب، كأن يتم عرض الوجه الجميل والمشرق لإسرائيل، وإبراز نجاحاتها ومساهماتها العلمية والطبية والزراعية. وطالب المؤتمر، بأن يُعمل دولياً على سن تشريعات ضد التحريض، وتغيير القانون الدولي بخصوص موضوع الإرهاب، بطريقة تسمح لدول العالم وإسرائيل العمل بحرية أكبر في حقل مكافحة الإرهاب، دون أن يعتبر الأمر خارقاً لحقوق الإنسان أو جريمة حرب! أما على المستوى الإعلامي، فخلص المؤتمر إلى إطلاق توصيات لتغذية وسائل الإعلام في إسرائيل وخارجها، لسماع الرواية الإسرائيلية والمس بالرواية المعادية، والتوصية بتأسيس محطة تلفزيونية فضائية لبث صوت إسرائيل في العالم العربي، والرد على المواقع الإلكترونية التي تستقطب أعداداً كبيرة من المشاهدين. وقد أوصى المؤتمر بضرورة وجود جسم رسمي يركز على مواجهة الكراهية من خلال قنوات: الدين، والقانون الدولي، وخطط التعليم. واقترح أن يتم تشكيل وحدة خاصة في مجلس الأمن القومي، مهمتها البحث بصورة منهجية بأساليب الدعاية العربية، وأن يتشكل جسم آخر في أجهزة الاستخبارات، يهتم بجمع المعلومات حول الإعلام المعادي لدولة إسرائيل. 


وعلى صعيد الحرب الإلكترونية، بدأ الإسرائيليون منذ زمن بعيد بأعمال التجسس على الاتصالات، وبالحضور بكثافة عبر المواقع الإلكترونية كموقع "إسرابيدياً (Israpedia)، وموقع "فايس بوك" (Facebook).
 
 
 
 
 
 
 
80

75

أطراف الصراع وتجليات الهجوم والدفاع والتضليل والممانعة

 وبصدد استخدام الإنترنت في الحرب الناعمة، دعا القنصل الإسرائيلي لوسائل الإعلام والشؤون العامة في نيويورك إلى تشجيع انتهاج دبلوماسية جديدة لتعزيز صورة إسرائيل في أوساط مستخدمي الشبكة الإلكترونية، إيماناً منه بأن فكرة أن العالم ضد إسرائيل هي ببساطة ليست صحيحة!1

 
 

1- لمزيد من الاطلاع على مؤتمرات هرزليا أنظر موقعFacebook/http://www.facebook.com/HerzliyaConference
 
 
 
 
 
 
 
81

76

تجليات الحرب الناعمة ومسألة الممانعة

 تجليات الحرب الناعمة ومسألة الممانعة 


بعد أن عرضنا مفهوم ومنطلقات الحرب الناعمة وآثارها الخطيرة على البلدان العربية والإسلامية، تتعدد التساؤلات حيال سبل وآليات الممانعة في ظل تأثيرات العولمة الثقافية. فهل يستحق ذلك انحيازاً إلى صف مقاومة الهيمنة الزاحفة؟ وهل أن مجتمعاتنا بحاجة إلى تكوين رؤية موضوعية لمواجهة تحديات العصر الراهن، لا تمارس قطيعة مع التاريخ والفعل التراثي ولا تهمل إيجابيات الحداثة وما بعد الحداثة في زمن كثيف التحولات؟ أم أن الممانعة لا تعدو أن تكون هرطقة وادعاءات واهية لا قواعد لها للاشتغال نظراً لتفاوت القدرات والمقومات التي تسمح بإعادة إنتاج فهم الصراع الدولي - الإقليمي انطلاقاً من آليات جديدة؟ أو لأن الصراع قد حسمت نتائجه تاريخياً لصالح الطرف الأقوى المهيمن؟. 

يشكل القطاع الإعلامي المعولم تحدياًً صارخاً لسياقات الممانعة. وقد سنح التطور التقني بنشوء معسكرات إعلامية مجهزة وعابرة لحدود الدولة القومية، من خلال رواج قنوات البث الفضائي بخاصة، الذي سيّد عصر الصورة، وسرّع في نقل الحدث وتصدير القيم والرموز والأفكار. إذ نجحت الأقمار الصناعية في وضع العالم بأسره تحت المجهر، واتخذت لما تعرضه استراتيجيات هجومية تستهدف الأمن الثقافي للمجتمعات المتلقية، أي الثقافة الوطنية والقومية والدينية ومحيطها. 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

77

تجليات الحرب الناعمة ومسألة الممانعة

 يطال الاستهداف المتمثل بالتجليات الإعلامية للحرب الناعمة قنوات التنشئة الاجتماعية في البلدان المستضعفة. وقد سمح الاستطلاع الغربي التاريخي للبلاد العربية أيضاً بتكوين ظروف مساعدة للهيمنة الثقافية وتفشيها. والاستهداف المقصود يطال أجهزة الممانعة لمؤسستي الأسرة والمدرسة، كمؤسستين مفصليتين، تشكلان حقل الإنتاج المكثف للسلوك والأذواق والقيم والعادات والتقاليد، ما يضع المجتمعات المقصودة بالغزو أمام تحديات مصيرية تتطلب رسم أطر ناجعة للمانعة، وبالتالي، الحفاظ على ما سلم من خصوصيات لم تزل قائمة في ظل حالة العجز الذي تشهده البلدان العربية والإسلامية على صعد الاستعدادات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية والإعلامية.


تعرض مفهوم الممانعة بشقيه العلماني والإسلامي لانتقادات جمّة. وفي مدخل التعاطي مع مفهوم الممانعة ذاته، تجدر الإشارة إلى وجود مسألة سجالية تحيط بسياقاته. حيث اعتبر بعض الباحثين أن التغني بالمفهوم المقصود قد تم تبنيه لكي يختزل المبادئ الحقوقية والمفاهيم السياسية في صورة "نعوت"، الأمر الذي يحول دون ولادة أي ثقافة نقدية تكون قادرة على الدفع قدماً ببناء مقومات ملموسة تواجه الهجمة الأمريكية – الغربية على البلدان العربية والإسلامية. وبرأي هؤلاء، فإن ثقافة الممانعة قد دأبت على توظيف ما أمكن من مبادئ ومفاهيم في نعوت سلبية هدفها إما الامتداح والتضرع والابتهال، وإما التجلي على نحو قذف وهجاء. وعلى نحو كهذا، يتم اختزال مفردات "القانون الدولي"، و"الدستور"، و "الشرعية"، و "الديمقراطية" و "الوفاق" في مجرد نعوت لا ترى في الممانعة إلا الممانعة نفسها. ولأجل ذلك، برأيهم، يسهل على ثقافة الممانعة أن تتوجه رأساً لمسخ مبادئ لا صلة لها بالقانون الدولي، وردّها
 
 
 
 
 
 
83

78

تجليات الحرب الناعمة ومسألة الممانعة

 في نعوت، بقصد تبجيل أو مجاملة أو أبلسة وتخوين، لأن هذه الثقافة لا تعتمد على الحجة والدليل، بقدر ما تعتمد على المرويات، ولا تمتلك حتى رؤية متناسقة لتاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، يمكنها أن تواجه بشكل حاسم وجدي الرواية الصهيونية أو الغربية لهذا الصراع.1

في المسار النظري ذاته، تنطوي الممانعة برأي بعض المهتمين على سلبية مفرطة. "فالسلبية في الجوهر انشغال مفرط بخطط الخصم أو العدو، فضحاً وإدانةً ورفضاً، يحول دون التخطيط للذات والانشغال بصلاح أمورها وأحوالها – ومن زاويتهم – يعرض عموم الممانعين العرب درجة متقدمة من الاستنفار النفسي والذهني والثقافي ضد أمريكا بخاصة، والغرب بعامة، فيسعدون لأية أزمة تصيبهم، وينشغلون بجمع معلومات وبراهين على أنهم معادون لنا وللإنسانية وأنانيون ومنحطون "2. وهنا، يتحول الممانع إلى شخص لا يكف عن الإحالة إلى الأمة، كأنما الممانعة لا تعدو أن تكون شعوراً مختلطاً يخشى التحول إلى وعي وإدراك وتمييز، وذلك ما حوّل الممانعة إلى ثقافة سلبية وتكوين نفسي سلبي، يستعرض كره الأمريكيين والغرب، بدلاً من العمل على تحويل وإصلاح الواقع الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي والديني والقانوني في بلادنا. وتقر وجهة النظر التي نعرض لها بأن الممانعة أداء ثقافي، بيد أنها العدو الأخطر للثقافة، لأنها مدمرة للإبداع الفني والمعرفي، ومستسلمة لعدائية تجعلها أسيرة قيم ضيقة، قبلية أو دينية، نظراً لتكوينها العاطفي – الانفعالي، الذي يجعلها ممتنعة عن البيان والصياغة المفهومية الواضحة. وعلى هذا الصعيد. تتحول
 
 
 

1- أنظر جريدة السفير اللبنانية ، مقالة بعنوان : " قانون النعوت " . 
2- ياسين الحاج صالح ، مجلة الحوار المتمدن – العدد 2454- 3/11/2009 .
 
 
 
 
 
 
 
 
84

79

تجليات الحرب الناعمة ومسألة الممانعة

 الممانعة إلى عداء للغرب، لأنها تجعل التعلم من الغرب صعباً بل مستحيلاً، كما وأنها سلبية وعقيمة عملياً، وتعمل على تأبيد الحاضر وتجميد الزمن، وحيثما ارتفعت راية الممانعة، نجد تحتها التدهور والاهتراء والبؤس والتبديد الهائل للموارد العامة وللحياة الإنسانية، وتخريب اللغة والثقافة والمحدودية، بما يعني أن الممانعة هي مرض الروح العربية الذي يجعل منها عدواً لنفسه1

 
إن سياقات الفهم التي سبق ذكرها تستوجب إقراراً ونقداً في آن معاً. فما من عاقل متبصر يوافق على قبوع فعل الممانعة في خانة رفض خاوية لا هم لها سوى النعوت والشماتة وسائر الاستعراضات الأخلاقية الأبعاد، أي تلك الأدوات التي لا تصلح كسلاح رمزي في المواجهة. والنقد الصريح الذي نفترض أنه مستوجب لأصحاب فكرة دحض حالة الممانعة، فيقع في مخالفة أهمية عدم فضح ما يخطط للبلدان العربية والإسلامية من استراتيجيات هدفها استتباع هذه البلدان والهيمنة على شعوبها انطلاقاً من أبعاد أيديولوجية استعمارية، كالإيحاء المبطن بأن الغرب لا يحمل سوى مشاعر المودّة والمؤازرة للشعوب المستبد لها. فما هو هام على مستوى الممانعة لا يقع في نقد تجلياتها غير الفاعلة، بقدر ما يقع في كشف منعرجاتها البائسة، وإحياء ثقافة وطنية حيالها، تشكل نتاجاً جمعياً، يتغير ويتناسب مع معطيات العصر ومتطلباته، ويعترف بالتنوع الثقافي، وبشرعية الاختلاف من أجل ترشيد وتحقيق تنمية ثقافية ذات بعد تغييري، ولا يستند إلى عامل التبرير فحسب، بل إلى عامل مشاركة الأجيال الشابة، وبالتالي، إلى عصرنة حقيقية تعيد بناء الموروث الثقافي، ولا تقود إلى الاستلاب الحضاري. فالعالم اليوم لا يحتضن ثقافة عالمية واحدة، وليس من المحتمل أن
 
 
 

1- المصدر نفسه .
 
 
 
 
 
 
 
85

80

تجليات الحرب الناعمة ومسألة الممانعة

 توجد في يوم من الأيام، وستوجد ثقافات متنوعة تعمل كل منها بصورة تلقائية، أو بتدخل إرادي للحفاظ على كيانها ومقوماتها الخاصة. من هذه الثقافات ما يميل إلى الانغلاق والانكماش، ومنها ما يسعى إلى الانتشار، ومنها ما ينعزل حيناً وينتشر حيناً آخر1

 

 
في معرض الإشارة للنظرة المتسرعة لأهمية الممانعة الثقافية، تجدر الإشارة إلى ضرورة التمييز بين مفهومي الثقافة والتثاقف، كمفهومين سابقين لولادة العولمة، وبين العولمة ببعدها الثقافي الهادف. لأن العولمة كما يعتبرها المفكر المغربي الراحل "محمد عابد الجابري"، تشكل أيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم وأمركته، لأنها تعمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً معيناً، هو الولايات المتحدة الأمريكية، بالذات، على العالم أجمع. من هنا، فإن الفرق بين الثقافة والانتشار الثقافي واستراتيجيات العولمة، أن الأخيرة تنحو باتجاه القضاء على الخصوصية الثقافية بشكل عام، وتتدخل في صنع الأذواق ومناحي التفكير من خلال إمبراطورية وسائل الاتصال القادرة على إحداث هذه الخروق الكبرى. لذا فإن الأخذ بإيجابيات العولمة يفترض عدم غض الطرف عن كونها نظاماً يعمل على إفراغ الهوية الجماعية من كل محتوى، ويدفع للتفتيت والتشتيت، ليربط الناس بحالة لا انتمائية بصورة ما. 
 
انطلاقاً من وجهتي النظر التي عُرض لهما حول منهج الممانعة وغاياته، تتحول الممانعة كفعل، إلى ضرورة ثقافية تقع ما بين الرفض والانغلاق، و بين القبول التام بتدخلات العولمة. أما الضرورة التي تكسر القيد وتطلق الثقافة 
 
 
 

1- أحمد صدقي الدجاني ، ( الثقافة العربية والإسلامية وتحديات العولمة ) مجلة الكلمة العدد 18 بيروت ،1998 ، ص. 143 - 
 
 
 
 
 
 
 
86

81

تجليات الحرب الناعمة ومسألة الممانعة

 العربية والإسلامية لمقاومة الغزو والاختراق فإنها ممكنة الحدوث، وتتطلب اكتساب الأسس والأدوات التي تدخل المجتمعات المستهدفة في عصر العلم والثقافة والعقلانية والديمقراطية. وبصدد الإستراتيجيات الفاعلة، أو المرشحة للصمود بوجه العولمة الزاحفة، يطرح الباحث العربي "عبد الإله بلقزيز" جملة من التساؤلات حول أدوار قنوات التنشئة القاعدية، الأسرة والمدرسة، ويرى أن الإعياء قد دب في أدائهما، ونال من وظائفهما التربوية والتكوينية، ومن قدرتهما على الاستمرار في ممارسة أدوارهما التقليدية الفعالة في إنتاج أو إعادة إنتاج منظومات القيم الاجتماعية، إذ يتجلى الوهن برأيه في إخفاق النظام التعليمي، وتفكك بنى الأسرة وانهيار نظام القيم، واعتبر أن هذه القنوات قد وقعت في مرمى العولمة الثقافية التي وصفها بثقافة الصورة، أو ثقافة ما بعد المكتوب. 

 
في نطاق المواجهة، دعا "بلقزيز" إلى التعاطي مع مفهوم الممانعة بطريقة مثمرة. وعلّق أهمية بالغة على وظيفة الممانعة الثقافية، عن طريق استعمال الأدوات عينها التي تحققت بها الجراحة الثقافية للعولمة، وإلى الاستفادة من نظريات علم الاجتماع الثقافي التي تؤكد على أن فعل العدوان الثقافي غالبا" ما يستنهض نقيضه1. ويتفق "بلقزيز" بطرحه مع "سيار الجميل"، الذي يشير إلى أن مواجهة العولمة تتطلب الاهتمام بقطاعي التربية والتعليم عبر صيانة الذاكرة الأدبية والذاكرة التاريخية2، والاستفادة من التقنية المعاصرة كونها موروثاً عالمياً. ففي مواجهة العولمة، يرى "سيار الجميل"، أن معاناة البلاد العربية قد بدأت لدى الاحتكاك بالحضارة الغربية، ولذلك فالدعوة إلى المحافظة على
 
 
 

1- المصدر نفسه ، ص 143 - 
2- المصدر نفسه ، ص 147 . 
 
 
 
 
 
 
 
87

82

تجليات الحرب الناعمة ومسألة الممانعة

  الخصوصية في عصر العولمة، لن تتحقق برأيه إلا بالاهتمام بمعالجة الحقول المعرفية وإحداث الإصلاحات والتغيرات المطلوبة من وجهة شمولية. ويعتبر أيضاً، أننا لا نستطيع وقف الهجمة الإعلامية الغربية، لكن باستطاعتنا الحد من تأثيراتها السلبية، عن طريق إيجاد قنوات فضائية، عربية وإسلامية، نشيع من خلالها أدبياتنا وأفكارنا في العالم الأوسع. وقد دعا إلى الانفتاح والتكتل الاقتصادي، وتأسيس كتلة عربية – إسلامية تساعد حركة الثقافة، كما وحذر من طغيان ثقافة الآخر، التي قد توسع فجوة الاستتباع الاقتصادي والسياسي لأمريكا والغرب1.

 
 

1- "د. سيار الجميل، أستاذ مادة التاريخ الحديث في جامعة آل البيت، ( الأردن ) وصاحب كتاب ( العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الأوسط : مفاهيم عصر قادم ، 1997)- 
 
 
 
 
 
 
88

83

خلاصة

 خلاصة 


في ضوء الحاجة إلى ممانعة فاعلة تواجه أشكال الاستهداف الذي تتعرض له البلدان العربية والإسلامية من خلال قوى وقنوات الحرب الناعمة، وفي ضوء خطورة ما يجري تصميمه في أروقة الغرف السوداء، من فتن، وصراعات داخلية، دينية وإتنية. لا بد من الإقرار بحالة الانكشاف التي تعاني منها البلدان العربية والإسلامية على الأصعدة المختلفة. فبلداننا تستورد منتجات الغرب الصالحة والطالحة، وتتلقى تصاميم ومجسمات صور الحياة القادمة، عبر قنوات البث الفضائي المختلفة والغزو الإعلامي المتعدد الجنسية، حتى وأن شعوبنا قد أضحت تستلهم من الصفحات الإلكترونية أذواقها ورؤيتها للتغير الاجتماعي، نتيجة تراجع مواقع الثقافة الداخلية وعجزها عن إنتاج الحس النقدي السليم، ما يستدعي إحداث تحولات بنيوية في عقول النخب المثقفة، لكي تلعب دوراً رائداً في كشف حجم وأوجه الاستهداف. أي وعي طبيعة المخاطر الوافدة، وترجمته بأفعال منظورة، تنقل المشاهد الإدراكية والمعرفية إلى أذهان الشرائح الاجتماعية المتنوعة بطرق وأساليب سهلة الفهم لأن حقل الاستهداف الأساس للحرب الناعمة هو العقل الجمعي، والحس المشترك، وذلك ما يتطلب بالتالي، عملاً نضالياً من قبل الأجهزة الثقافية والإعلامية لتحقيق عصرنة وتحديث داخليين. لأن مواجهة الحرب الناعمة كنتاج عولمي – أمريكي، قد تكون عملية صعبة المنال في ضوء حالة المراوحة الحالية للعقل العربي والإسلامي. 

وفي ساحة مواجهة الفوضى المنظمة، لا بد من ولادة ممانعة منظمة تبدأ بتحديث أطر التنشئة الاجتماعية، وتحفيز مؤسسة الأسرة على الاهتمام بالحقول الثقافية والعلمية والمعرفية، وإحياء إيجابيات التراث في أذهان
 
 
 
 
 
 
 
 
89

84

خلاصة

 الناشئة. والقصد، أن هنالك حاجة ماسة لبناء استراتيجيات في حقول مختلفة، تعيد إنتاج الأدوار الاجتماعية والتربوية والثقافية لمؤسسات التربية والتعليم. فالمدرسة، كقناة، في التنشئة القاعدية، وبالرغم من اعتماد مناهج مستحدثة في التعليم، لم تزل تلقينية الطابع، وغير محفزة على الإبداع، ولا تمارس الدور التثقيفي الخلاق، كما أنها منكفئة في مجال الحفاظ على التراث وإحياء الثقافة الشعبية. 


ما ينطبق على مؤسستي الأسرة والمدرسة، ينطبق على مؤسسة الجامعة ووظيفتها. فالجامعات العربية، بغالبها، لم تستطع تحقيق نتائج إبداعية واعدة سواء في الحقول البحثية والمعرفية، أم في حيز بناء وترميم الذات الثقافية. والخاصة منها، مروجة في كثير من الأحيان للثقافة الغربية بمنحى لا إنتقائي. في حين أن الجامعات الوطنية لم تزل قابعة في أروقة الرتابة، وهي، إن تميز بعضها حيناً، لا تعكس إلاّ واقع حال النظم السياسية التي أنتجتها، ما يسهم في تعويق القدرات الأكاديمية في مواجهة القوة الناعمة. وعندما تتراجع مستويات الوعي، يسهل الاستهداف، وتغيب حالة النهضة عن لعب دورها، وتنكفئ الإصلاحات الضرورية لصالح المكاسب الذاتية. 

تمارس الحرب الناعمة أيضاً قصفاً ناعماً للعقول، وتجد في فساد الحكم معبراً صالحاً لها. وفساد الحكم بالتالي، ينعكس فساداً اقتصادياً وإدارياً وتشريعياً، الأمر الذي يعيق بناء حالة من الثقة بين الشعوب ونظمها السياسية، وبالتالي، يجعلها فريسة سهلة للغزو الثقافي، الذي يتباهى بديمقراطيته في بلاد المنشأ، ويستخدم مفاعيل الغزو الرقيق بسلوك خادع. ويشكل حال النُّظُم السياسية العربية كابحاً يمنع تبني منطلقات تغيرية تؤمن بالمشاركة الشعبية، 
 
 
 
 
 
 
 
90

85

خلاصة

 نتيجة مشاعر ضمنية لدى معظم الحكام العرب – وقد تكون صائبة – تفترض أن أية إصلاحات محتملة قد تطيح بشرعية وجودهم عاجلاً أم آجلاً. 


أما على مستوى القطاع الإعلامي، ومقابل التفوق التقني الذي تستثمره العولمة في هجماتها المنظمة، ينخفض منسوب الآداب والأفكار والفنون، ويتراجع الحس النقدي لدى معظم الناس لصالح الحس الاستهلاكي. وفي فناء الدفاع الإعلامي، تضعف الفضائيات العربية والإسلامية في صوغ مضامين تنتج حالة يقظة حيال التحديات الكبرى، ذلك نظراً لطبيعة تبعيتها لنظم سياسية لا ترى ضرورة في قيام أي إعلام ثوري – طليعي، إذ نادراً ما يلاحظ إحياؤها للمشاعر القومية والتضامن العربي والإسلامي بوجه العدو الإسرائيلي، كما وأنها لا تساهم في الدعوة إلى تغيير الواقع السياسي العربي إلا لماماً. ففي الآونة الأخيرة، حاولت بعض الفضائيات العربية أن تكون أكثر التصاقاً بهموم الشارع العربي، فتم صدها عندما بدأت تشكل خطراً على مصالح بعض الحكام العرب، الذين تربطهم صلات ود تاريخية بالسياسة الأمريكية. ولعل تجربة قناة "الجزيرة" خير مثال "على حال الفضائيات العربية في الفترة التاريخية التي سقط فيها حكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك. وفي زمن التحولات هذه، تعرضت أقنية أخرى، كقناتي الجديد والمنار، لموجات تشويش منظمة عطلت بثها في بلدان عدّة، ما يوضح مشهد عجز بلداننا عن مواجهة الحرب الناعمة من الناحية التقنية. بمعنى أن الفضائيات العربية خاضعة للتحكم عن بعد، وقابلة للضبط والكبح، عندما تشكل خطراً مباشراً يعيق مصالح الغازي ومخططاته المتبناة في حقل النزاع. 
 
 
 
 
 
 
 
91

86

خلاصة

 الحرب الناعمة تستهدف وحدتنا الثقافية أولاً، وتقف وراء معظم الانقسامات الداخلية والفتن والقلاقل المذهبية، ما يجعل الأمر يستحق الإعداد، فأين نحن اليوم من الإعداد المرتجى والحس الوطني السليم؟.

 

 

 

 

92


87
الحرب الناعمة مقومات الهيمنة وإشكاليات الممانعة