أوصاف الأشراف


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-10

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد المبعوث رحمة للعالمين، ولإتمام مكارم الأخلاق وهدايتهم إلى سواء السبيل، وعلى آله الأطهار، المصطفين الأخيار.

إنّ للأخلاق العملية دوراً بارزاً في حياة الإنسان، والبُعد عنها واجتنابها مؤدٍّ إلى الانحراف والخسران، ومن هذا الأساس كان الأنبياء عليهم السلام يدعون جاهدين إلى إصلاح النفوس البشريّة، وتهذيبها وتكميلها، وعلى هذا النهج سار العلماء والصلحاء والأولياء، ومن بينهم عالمنا الجليل الخواجه نصير الدِّين الطوسي رحمه الله، فكتب كتابه الموسوم "بالأخلاق الناصريّة" ثمّ أوجزه بكتابه المشهور بـ "أوصاف الأشراف"، وهو كتاب بحقٍّ ينبغي أن لا تخلو منه مكتبة علميّة، ولا يغفل عنه طالب الحقيقة، وعلى كلّ إنسان ساع لتهذيب نفسه وإصلاحها أن يجعل هذا الكتاب رفيقاً له يلجأ إليه بين الفينة والأخرى.

ولأهمية هذا الكتاب قمنا بتحقيق بعض مطالب الكتاب، وتصحيحه
 
 
 
7
 

1

المقدمة

لغةً وأسلوباً، ومراقبة الأصل الفارسي، كي يستفيد القارئ العربي، وإغناءً للمكتبة العربية. نسأل الله سبحانه لصاحبه ولكلِّ من عمل على هذا الكتاب المغفرة والقبول.
 
 

مركز نون للتأليف والترجمة

 
 
8

2

المقدمة

مقدِّمة المؤلّف
حمداً لا غاية له، لله الّذي لا يقوى عقلٌ على إدراك حقيقته، ولا يتّسع فكر وعلم للإحاطة بكنه معرفته، كلُّ عبارةٍ تورد لنعته وكلُّ بيانٍ يُقال في وصفه إن كان ثبوتيّاً معرّى من شائبة التشبيه فهو لا يُتصوّر، وإن كان غير ثبوتيٍّ مبرّءاً من التعطيل فلا يقع في الوهم، لذا قال قائد الأصفياء ومقتدى الأولياء وخاتم الأنبياء محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: "لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأنت فوق ما يقول القائلون"، وآلاف التسليمات والصلوات والتّحيّات على روحه المقدّسة وأرواح ذريّته الطاهرين، لا سيّما الأئمّة المعصومين وخيرة صحبه، بحقّ الحقّ.

إنّي بعد تحرير الكتاب الموسوم بالأخلاق الناصريّة في بيان الأخلاق الكريمة والسياسات المرضيّة على طريقة الحكماء الماضين، أردتُ أنْ أُرتِّب مختصراً في سِيَر الأولياء، أهل الحقيقة وقاعدة سالكي الطريقةِ، مبنيّاً على القوانين العقليّةِ والدقائق العلميّة، على وجهٍ يكونُ لبَّ هذه الصناعة وخلاصةَ الفنّ مع قلّة البضاعة، فشغلتني عنهُ الشواغلُ البدنيّةُ والموانع القويّة الدنيويّة، ولم يتيسّر إخراج ما في الضمير من القوّة إلى الفعل، ولم يتّفق حلُّ عقالِ العقل، حتّى
 
 
9
 

3

المقدمة

برزت إشارةُ المولى الصاحب الأعظم دستور العالم، والي السيف والقلم، قدوة أكابر العرب والعجم، شمس الحقّ والدِّين، بهاء الإسلام والمسلمين، ملك الوزراء في العالمين، صاحب ديوان الممالك، مفخر الأشراف والأعيان، مظهر العدل والإحسان، أفضل أهل هذا الزمان، محمّد بن الصاحب السعيد بهاء الدولة والدِّين محمّد الجويني، أعزَّ الله أنصاره، وضاعف اقتدارهُ، بإبراز ما في الضمير وإتمام هذا الأمر الخطير، فبادرتُ إلى مقتضى إشارته بحسب إيراد الخاطر ومساعدتهِ، وشرعت في إيراد تلك الحقائق وذكر تلك الدقائق في هذا المختصر، واستشهدت في كلِّ بابٍ بآيةٍ من التنزيل، وسمّيتهُ بـ "أوصاف الأشراف"، فإن صادفَ فهو المرادُ وإلّا فعلى قُدرةِ العبدِ لا يُستزاد.
 
 
10

4

المقدمة

تمهيد

في ذكر ما يشتمل عليه هذا المختصر:
لا ريب أنّ من نظر في وجودهِ وأحواله، علم أنّهُ محتاج إلى غيره. وكلُّ محتاجٍ إلى غيرهِ، فهو ناقصٌ في نفسه. وإذا علم نقصان نفسه، انبعث في باطنه شوقٌ إلى كماله، يدعوهُ إلى طلبه، فيحتاجُ في ذلك الطلب إلى حركةٍ، يُسمّيها أهل الطريقةِ (السلوك)، وكلُّ من رغب في هذه الحركةِ يلزمهُ ستّةُ أشياء:

الأوّل: بدايةُ الحركةِ (وما تحتاج إليه)، فتكون بمنزلة الزاد والراحةِ في الحركة الظاهرةِ. وتشتمل على: (الإيمان والثبات والنيّة والصدق والإنابة والإخلاص).

والثاني: إزالةُ العوائق، وقطعُ الموانع عن تلك الحركةِ. وتشتمل على: (التوبة والزهد والفقر والرياضة والمحاسبة والتقوى).

الثالث: الحركةُ الّتي بها يصل (السالك) من المبدأِ إلى المقصد، وتُسمّى بالسير والسلوك. وأحوالُ السالك في تلك الحال تشتمل على: (الخلوة والتفكير والخوف والرجاء والصبر والشكر).

الرابع: الأحوالُ الّتي يمرُّ بها في أثناء سلوكهِ، من مبدئهِ إلى مقصده. وتشتمل على: (الإرادة والشوق والمحبّة والمعرفة واليقين والسكون).
 
 
11
 
 

5

المقدمة

الخامس: الأحوالُ الّتي تسنحُ إلى الواصلِ بعد سلوكه. وتشتمل على (التوكُّل والرضا والتسليم والتوحيد والاتّحاد والوحدة).

السادس: نهاية الحركةِ وعدمها وانقطاع السلوك، الّذي يُسمّى في هذا الموضع (الفناء في التوحيد). وكلُّ واحدٍ من تلك المعاني ـ غير نهاية الحركة ـ يشتمل على ستَّة فصولٍ، غير الباب الأخير، فإنّهُ غير قابلٍ للتكثير. وينبغي أنْ يُعلم أنّه (كما أنّ كلَّ جزءٍ من الحركةِ غير الجُزءِ الآخرِ، والأخرُ مسبوقٌ بجزٍء منها، ومستعقبٌ بجزء، كذلك كلّ حالٍ من أحوال السالك، واسطةٌ بين فقدان سابقٍ وفراقٍ لاحقٍ في حال فقدان السابق كانت تلك الحال مطلوبةً، وفي حال الفراق مهروباً منها، فحصول كلٍّ بقياسهِ إلى ما تقدّم كمالٌ، وحال التوجّهِ إليه مطلوبٌ، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من استوى يوماه فهو مغبون"1، وإليه الإشارةُ بقولهم "حسناتُ الأبرار سيّئاتُ المقرّبين"2

وسيتّضح ذلك في فصول هذا المختصر إن شاء الله تعالى. وحيثُ تقرّرت هذه المقدّمةُ نشرع في أبواب المختصر وفصولهِ وبالله التوفيق.

 

 
1- عوالي اللآلي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج 1، ص 284.
2- هذا القول للإمام الصادق عليه السلام. المحجّة البيضاء: ج 7، ص89؛ وقد ذكره العلّامة المجلسي أعلى الله مقامه في تعليقه على الروايات القائلة إنّ الأنبياء والأئمّة عليهم السلام لم يفعلوا معصية وإنّهم معصومون. وأمّا ما ورد عنهم فهو معلّل بـ (ترك الأولى) ومن قبيل "حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين" بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 11، ص 256 رواية 4 باب 6.
 
 
 
 
12


 

6

الفصل الأول: في الإيمان

قال الله تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ"1 .

الإيمان في اللغة هو مطلق التصديق.

وفي الشريعة تصديقٌ خاصٌّ، وهو تصديق جميع ما عُلم ضرورةً أنّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أمر به.

ومعرفة النبيِّ تستلزم معرفة الباري عزّ اسمه، القادر، العالم، الحيّ، المدرِك، السميع البصير، المريد، المتكلِّم، الباعث للرسل ومنزل القرآن على محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، والأحكام من الفرائض، والسنن، والحلال والحرام، على وجه أجمعت عليه الأمّة. فيكون الإيمان مشتملاً على هذه الأمور، ولا يكون قابلاً للزيادة والنقصان، فإنْ نقص عنها لا يكون إيماناً، وإنْ زاد كانت الزيادة كمالاً للإيمان ومقارناً له.

وعلامة الإيمان أنْ يعلم، ويقول، ويفعل ما أُمر به من العلم والقول والفعل، ويحترز عمّا أُمر بالاحتراز عنه. وهذه الجملة من باب العمل الصالح، وقابل للزيادة والنقصان، ومن لوازم التصديق، ولذلك جرى ذكر العمل الصالح مع ذكر الإيمان في جميع المواضع من القرآن مثل
 
 
 

 
1- سورة الأنعام: الآية 82.
 
 
 
15
 

 


7

الفصل الأول: في الإيمان

قوله تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"1.

وللإيمان مراتب:
أدناها الإيمان باللسان، قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ"2.

"قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ"3 .

وأعلى منها الإيمان الناتج عن التقليد، والّذي يجب أنْ يكون تصديقه جازماً بما يجب أنْ يُصدِّق به، وأمّا إمكانيّة زواله فلأنّ التصديق الحاصل يستلزم مقارنة4 العمل الصالح "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا"5.

وأعلى منها الإيمان بالغيب كما قال تعالى: "يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ"6، وتُقارنه بصيرة في باطنه تقتضي ثباته، وهي كناية عن الإيمان من وراء الحجاب ولذلك قُرن بالغيب.

وأعلى منها من جاء في حقّهِ "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً"7 إلى قوله "أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً"8. وهي مرتبة كمال الإيمان ويتّصل بالإيمان اليقينيّ


1- سورة البقرة: الآية 25 وهذا المقطع من الآية تكرّر 49 مرة في القرآن الكريم.
2- سورة النساء: الآية 136.
3- سورة الحجرات: الآية 14.
4- قارنَ: صاحبَ.
5- سورة الحجرات: الآية 15.
6- سورة البقرة: الآية 3.
7- "... وعلى ربهم يتوكلون" سورة الأنفال: الآية 2.
8- سورة الأنفال: الآية 4، 74
 
 
 
16

8

الفصل الأول: في الإيمان

الّذي يأتي شرحه وهو منتهى مراتب الإيمان، وأقلّ ما يصلح للسلوك هو إيمان المُقلِّد والإيمان بالغيب.

فإنّ الإيمان باللسان وحده ليس بإيمان في الحقيقة كما قال تعالى: "وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَ وَهُمْ مُشْرِكُونَ"1 فإنّه إذا حصل اعتقاد جازم بموجودٍ كامل مطلق - أي خالق للعالَم - مع سكون النفس أمكن السلوك وسهُل الوصول إلى الغاية.
 

1- سورة يوسف: الآية 106. 
 
 
 
 
16
 

9

الفصل الثاني: في الثبات

قال الله تعالى: "يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ"1.

الثّبات حالة ما لم تقارن الإيمان لم تحصل طمأنينة النفس الّتي هي شرط الكمال، فإنَّ من كان متزلزلاً في اعتقاد كمال لا يكون طالباً له، والإيمان والثّبات فيه عبارة عن حصول الجزم بوجودٍ كاملٍ وكمال. وما لم يحصل هذا الجزم لم يتحقّق طلب الكمال. وما لم يتحقّق عزم طالب الكمال وثباته، لم يُمكن السلوك، فإنّ صاحب العزم بدون الثبات "كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ"2 ، بل لا يكون للمتحيّر عزم لأنّه ما لم يتوجّه إلى جهة واحدة معيّنة، لم تقع الحركة والسير والسلوك، وإنْ تحرّك كانت حركته مضطربة وبتردّد لا حاصل لها من ثمرةٍ وفائدة.

وعلّة الثبات بصيرة الباطن بحقيقة معتقده ووجدان لذّة الإصابة، وصيرورة هذه الحالة ملكة للباطن على وجهٍ لا يقبل الزوال، ولهذا السبب كان صدور الأعمال الصالحة عن صاحب الثّبات دائماً ضروريّاً.
 
 

1- سورة إبراهيم: الآية 27.
2- سورة الأنعام: الآية 71.
 
 
 
 
19
 

10

الفصل الثالث: في النيّة

قال الله تعالى: "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"1.

معنى النيّة: هو القصد. والقصد واسطة بين العلم والعمل، لأنّه لو لم يعلم أوّلاً - علماً ثابتاً يرجّح إيقاع أمر من الأمور - لم يقصد إلى فعله، وما لم يقصد إلى فعله، لم يقع ذلك الأمر، فمبدأ السير والسلوك هو القصد، أي قصد مقصد معيّنٍ.

وإذا كان المقصد هو حصول كمال من الكامل المطلق ينبغي أنْ تكون النيّة مشتملة على طلب القربة إلى الحقّ تعالى، فإنّه هو الكامل المطلق وإذا كان كذلك كانت النيّة وحدها خيراً من العمل وحده كما جاء "نيّة المؤمن خيرٌ من عمله"2، فإنّ النيّة بمنزلة الروح والعمل بمنزلة الجسد و"الأعمال بالنيّات"3 كما أنّ حياة الجسد بالروح، "ولكلِّ إمرئٍ ما نوى ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"4 .
 
 

1- سورة الأنعام: الآية 162.
2- بحار الأنوار: ج 70، ص 93 الباب 53 الرواية 2, وقد رجعنا في التحقيق إلى الطبعة المصحّحة الثانية لمؤسسة الوفاء بيروت لبنان 1403 ه /1983 م.
3- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أيها الناس إنّما الأعمال بالنيّات... ".
4- بحار الأنوار: ج 70، ص 239 الرواية 24 الباب 54. وبلفظ "... إلى أمر دنيا... وامرأة ينكحها...".
 
 
 
 
21
 

11

الفصل الثالث: في النيّة

وعمل الخير المقرون بالنيّة المقرونة بطلب القربة لا بُدّ أنْ يكون مقتضياً لحصول الكمال، ولذلك قال الله تعالى: "لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً"1.
 

1- سورة النساء: الآية 114.
 
 
 
 
22
 
 
 
 
 
 

12

الفصل الرابع: في الصدق

قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ"1 .

الصدق في اللغة: هو مطابقة القول لما هو نفس الأمر.

والمراد منه هنا الصدق في القول والفعل والنيّة والعزم والوعد وتمام الأحوال العارضة له.

والصّدّيق هو الّذي صار صدقه في هذه الأمور ملكة له، ولا يقع خلافه البتّة لا في العين ولا في الأثر، قال العلماء: "من كان كذلك صدقت مناماته". وجاء في الصدّيقين "رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ"2، وذُكروا مع الأنبياء والشهداء في القرآن المجيد، قال تعالى: "فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ"3 . ووصف الله تعالى بعض الأنبياء الكبار، كإبراهيم وإدريس عليهما السلام، بهذا الوصف "إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً"4 وقال عن غيره "وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً"5 .


1- سورة التوبة: الآية 119.
2- سورة الأحزاب: الآية 23.
3- سورة النساء: الآية 69.
4- قوله تعالى "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاًً" سورة مريم: الآية 41 وقوله "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً" سورة مريم: الآية 56.
5- قوله "وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً" سورة مريم: الآية 50.
 
 
 
 
23
 

13

الفصل الرابع: في الصدق

وبما أنّ الطريق المستقيم، أقرب الطرق الموصلة إلى المقصد، كان السالك على الطريق المستقيم1 أرجى في وصوله إلى مقصده إن شاء الله تعالى.
 

1- إ شارة إلى قوله تعالى: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ" سورة الأنعام: الآية 153.
 
 
 
24
 

14

الفصل الخامس: في الإنابة

قال الله تعالى: "وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ"1 .

الإنابة: الرجوع إلى الله تعالى والإقبال عليه، وذلك إنّما يكون بثلاثة أشياء:

أحدها: في الباطن: وهو أنْ يكون دائماً متوجِّهاً إلى الله تعالى طالباً بأفكاره وعزائمه التقرُّب إلى الله، كما قال تعالى: "وَجَاء بِقَلْبٍ مُنِيبٍ"2 .

وثانيها: في القول: وهو أنْ يكون دائماً في ذكر الله وذكر نعمه وذكر مقرّبي حضرته، كما قال تعالى "وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلّا مَنْ يُنِيبُ"3 .

وثالثها: في الأعمال الظاهرة: وهو أنْ يكون مواظباً على الطاعات والعبادات المقرونة بالنيّة والقربة، كالصلاة المفروضة والمندوبة، والوقوف على مواقف عظماء الدِّين، وبذل الصدقات، والإحسان إلى خلق الله وإيصال أسباب النفع إليهم، ومنع موجبات الضرر عنهم، واستعمال الصدق في المعاملات، والإنصاف من نفسه وأهله.

 

1- "...مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ" سورة الزمر: الآية 54.
2- "مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُنِيبٍ" سورة ق: الآية 33.
3- سورة غافر: الآية 13.
 
 
 
25
 
 

15

الفصل الخامس: في الإنابة

وفي الجملة: التزامه بأحكام الشرع تقرُّباً إلى الله وطلباً لمرضاته، فإنّه تعالى قال: "وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ"4 .
 

4- سورة ق: الآيات 31ـ 35.
 
 
 
 
26

16

الفصل السادس: في الإخلاص

 قال الله تعالى: "وَمَا أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ"1 .
الإخلاص في اللغة: تصفية الشيء وتمييزه عن غيره.

والمراد به هنا أنّ ما يفعله السالك ويقوله إنّما يفعله ويقوله قربة إلى الله وحدهُ لا يشوبهُ شيء من الأغراض الدنيويّة والأخرويّة2 "أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِص"3 .

ومقابل الإخلاص: الإغراض... وهو أنْ يمزج غرضاً آخر يفرضه كحبِّ الجاه والمال أو طلب حسن الذكر أو طمع ثواب الآخرة أو النجاة من عذاب الله تعالى، وجميعها تكون من باب الشرك4 .

فالشرك على قسمين: جليّ وهو عبادة الأصنام، وخفيّ وهو ما عداها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نيّة الشرك في أمّتي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمّاء في


1- "حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ" سورة البينة / الآية 5.
2- وهذا يتجلّى في قول أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار" بحار الأنوار: ج 78، ص 69. وهو القائل عليه السلام: "إلهي ما عبدتُك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك بل وجدّتك أهلاً للعبادة فعبدتُك".
 3- سورة الزمر: الآية 3.
4- المراد من الشرك هنا الخفيّ كعبادة الهوى، مثلاً قوله: "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ" سورة الجاثية: الآية 23. والمصطلح عند علماء السير والسلوك الّذي لا يُخرج المؤمن عن كونه مؤمناً، وليس المراد به الشرك الجليّ كعبادة الأصنام الّذي يُخرج الإنسان عن رقبة المؤمنين بحيث تترتّب عليه الآثار الشرعيّة، والتخلُّص من الشرك الخفيّ أمرٌ في غاية الصعوبة.
 
 
27
 
 

17

الفصل السادس: في الإخلاص

الليلة الظلماء"5 . وأفسد شيء لطالب الكمال هو الشرك، فإنّه مانع من السلوك "فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا"6 . وإذا زال مانع الشرك الخفيّ سهل السلوك والوصول إلى الله "من أخلص لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"7 . وبالله العصمة.
 
 
 
 
28
 
 
 
 
 
 
 
 
________________________________________
5- ورد بألفاظ متعدِّدة في بحار الأنوار: ج 71، ص 144 وج 72 ص 96.
6- سورة الكهف: الآية 110.
7- بحار الأنوار: ج 53، ص 326.
 

18

الفصل الأوّل: في التوبة

قال الله تبارك وتعالى: "وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"1.

التوبة: هي الرجوع عن المعصية، فتتوقّف معرفتها على معرفة المعصية.

وجميع الأفعال الصادرة عن العبيد لا تخلو من خمسة أقسام:
الأوّل: أنْ يكون فعله راجحاً مانعاً من الترك 2.

الثاني: أنْ يكون تركه راجحاً مانعاً من الفعل3 .

الثالث: أنْ يكون فعله راجحاً، غير مانع من الترك4 .

الرابع: أنْ يكون تركه راجحاً غير مانع من الفعل5 .

الخامس: ما يتساوى فعله وتركه6 .

والمعصية: هي ترك القسم الأوّل (الواجب) وفعل القسم الثاني (الحرام). وتجب التوبة عنهما على كلِّ عاقلٍ. ولا نُريد هنا خصوص أقوال وأفعال الجوارح بل نُريد جميع الأفكار والأقوال والأفعال التابعة 


1- النور: 21
2- أي الواجب كالصلاة والصيام ونحوهما.
3- أي الحرام كشرب الخمر والزنا, والعياذ بالله.
4- أي المستحب كصلاة الليل والآذان والإقامة للصلاة.
5- أي المكروه كالنوم بين الطلوعين.
6- أي المباح كشرب العصير مثلاً.
 
 
31
 

19

الفصل الأوّل: في التوبة

لقدرة وَإرادة العقل.

وأمّا ترك القسم الثالث (المستحبّ) وفعل القسم الرابع (المكروه) فهما ترك الأولى. وتوبة المعصومين إنّما تكون منهما، وتوبة السالكين إنّما تكون عن التفاتهم إلى غير الحقّ الّذي هو مقصدهم، فإنّه معصية عندهم لكونه مانعاً عن مقصدهم.

فتكون التوبة على ثلاثة أنواع:
عامّة للعبيد كلّهم.
وخاصّة بالمعصومين.

وما هو أخصّ من الخاصّة وهو للسالكين. وتوبة عصاة الأمّة من القسم الأوّل، وتوبة آدم وباقي الأنبياء عليهم السلام من القسم الثاني وتوبة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم من القسم الثالث، ولذلك قال: "وإنه ليغانّ على قلبي وإنّي لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة"1 .

والتوبة العامّة تتوقّف على شرطين:
الشرط الأوّل: العلم بأقسام الأفعال وبأنّ أيّ فعل منها يوصل إلى الكمال. والكمال يتعدّد بحسب الأشخاص فإنّه لبعضهم النجاة من العذاب, ولبعضهم حصول الثواب, ولبعضهم رضى الحقّ والقربة إليه، وبأنّ أيّ فعل منها يوصل إلى النقصان، وهو بإزاء الكمال متعدِّد كتعدّده، إمّا استحقاق العقاب, أو حرمان الثواب, أو سخط الربّ والبعد منه الّذي يُعبّر عنه باللعنة.

الشرط الثاني: الاطّلاع على فائدة الكمال ورضى الحقّ تعالى,
 
 
 

 
1- بحار الأنوار, ج 63، ص 183 الباب الثالث.
 
 
32
 

20

الفصل الأوّل: في التوبة

وعلى ضرر النقصان وسخطه تعالى. وكلّ عاقل حصل عنده هذان الشرطان لم تصدر عنه المعصية البتة، وإن صدرت تداركها بالتوبة.

والتوبة تشتمل على ثلاثة أشياء:
الأوّل: بالاستناد إلى الماضي.

الثاني: بالاستناد إلى الحاضر.

الثالث: بالاستناد إلى المستقبل.

أما بالاستناد إلى الماضي فعلى قسمين:
القسم الأوّل: الندم على ما صدر عنه في الماضي والتأسُّف عليه تأسّفاً شديداً، وهذا القسم يستلزم القسمين الباقيين ولذلك قيل "الندم توبة"1 .

والقسم الثاني: تلافي ما صدر عنه في الزمن الماضي وهو بالرجوع إلى ثلاثة أشياء:
أحدها: بالرجوع إلى الّذي عصاه وهو الله تعالى.

وثانيها: بالرجوع إلى نفسه، فإنّه عَرَّضها لعصيان الله وسخطه.

وثالثها: بالرجوع إلى غيره ممّن وصل منه إليه ضرر قوليّ أو فعليّ وما لم يصل ذلك الآخر إلى حقّه لم يتحقّق التدارك، وإيصال الحقّ إليه في القول إنّما يكون بالاعتذار إليه والانقياد للمكافاة، وبالجملة تحصيل ما يقتضي رضاه. وفي الفعل بردّ حقّه أو عوضه إليه أو إلى من يقوم مقامه والانقياد للمكافاة له أو لمن يقوم مقامه، بتحمّل عذابٍ يكون جزاءً لذنبه وإنْ كان ذلك غيرُهُ مقتولاً فتحصيل رضا أوليائه


1- قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن سرّته حسنته وساءته سيّئته فهو مؤمن ومتى ساءته ندم عليها والندم توبة والتائب مستحقٌّ للشفاعة والغفران..." بحار الأنوار: ج 8، ص 34 الرواية الخامسة.
 
 
 
 
33
 

21

الفصل الأوّل: في التوبة

أيضاً شرط في توبته وأمّا تحصيل رضاه فمحال إلّا أنّه إذا حصل على باقي شرائط توبته، فيُرجى أنْ يتدارك في الآخرة برحمته الواسعة.

وأمّا تلافي حقّ نفسه فإنّما يكون بالانقياد لتحمُّل عقوبةٍ دنيويّة أو دينيّة.

وأمّا تلافي حقّ الباري تعالى فيكون بالتضرُّع والابتهال والرجوع إلى جلاله بالعبادة والرياضة بعد تحصيل رضا المجنيّ عليه وأداء حقّ نفسه.

وأمّا بالرجوع إلى الحاضر فشيئان:

أحدهما: ترك الذنب الّذي كان يُباشر قربةً إلى الله تعالى.

وثانيهما: أنْ يؤمن من تعدّى إليه ذنبه ويتلافى الأذى الّذي ألحقَهُ به.

وأمّا بالقياس إلى المستقبل، فأيضاً شيئان:
أحدهما: عَقدُ العزم على عدم معاودة الذنب بحيث لو خُوِّف بالقتل والإحراق لم يرض بمثل ما صدر عنه.

وثانيهما: عَقد العزم على الثبات بأنْ يوثق العزم الأوّل بنذر أو كفّارة أو نوع آخر من موانع عوده إلى الذنب، فإنّه ما دام متردّداً أو في نيّة العودَة إلى الذنب لم يكن الثبات حاصلاً. ويجب أنْ يكون جميع ذلك قربة إلى الله تعالى وامتثالاً لأمره ليدخل في زمرة "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"1 . وجميع ذلك شرائط التوبة العامّة من المعاصي، وَقَد جاءَ في حقِّ الجماعة:
 
 
 

 
1- الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بحار الأنوار: ج 6 ص 21 الباب 20 رواية 16.
 
 
 
 
 
34
 





 

22

الفصل الأوّل: في التوبة

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ"1 ، وجاء أيضاً "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ"2 .

وأمّا التوبة الخاصّة، الّتي هي عن ترك الأولى، فشرائطها تُعلمُ ممّا ذكرناه من المعاني. وفي هذا الباب جاء قوله تعالى: "لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ"3.

وأمّا التوبة الّتي هي أخصّ فهي شيئان: 

أحدهما: من التفات السالك إلى غير مطلوبه، ولهذا السبب قيل: "اليمين والشمال مضلّتان"4 .

وثانيهما: من العود إلى مرتبةٍ ترقى عنها أو الالتفات إليها على وجهِ الرضا بإقامته على مرتبةٍ ينبغي الترقّي عنها، فإنّ جميع ذلك معاصٍ عندهم، ولذلك قيل: "حسنات الأبرار سيّئاتُ المقرّبين". ويجب عليهم التوبة والاستغفار وترك الإصرار والندامةُ على الفوات والتضرُّع إلى ذي الجلال، فإنّ من تاب وأخلص سرَّه لله فالله له "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ"5 .
 
 

1- سورة التحريم: الآية 8.
2- سورة النساء: الآيتان 17.
3- سورة التوبة: الآية 117.
4- نهج البلاغة: من الخطبة 16.
5- سورة البقرة: الآية 222.
 
 
35

 
  
 
 

23

الفصل الثاني: في الزهد

قال الله تعالى: "وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى"1 .

الزهد: هو ضدّ الرغبة، والزاهد هو الّذي لا يرغب في مطلوبٍ يُفارقه عند موته، وهو الحظوظ البدنيّة كالمآكل والمشارب والملابس والمساكن والشَّهَوات والمستلذّات الأُخر، مثل المال والجاه وحسن الذكر وقرب الملوك ونفاذ الأمر والنهي، وذلك2 لا للعجز والجهل وغرضٍ من الأغراض وعوضٍ من الأعواض فكلُّ موصوفٍ بذلك هو زاهدٍ في المشهور.

وفي الحقيقة الزاهد هو الّذي لا يكون زهده المذكور لطمع نجاةٍ من عقوبة النار وثواب الجنّة بل يكون صرف نفسه عن الأشياء المذكورة ملكةً له ولا يكون مشوباً بطمعٍ ولا أُمنيةٍ ولا غرضٍ من الأغراض الدنيويّة والأخرويّة، وأيضاً هذه الصفة ملكة للنفس تزجرها عن طلب مشتهياتها.

ورياضتها بالأمور الشاقّة حتّى تصير راسخةً، كما حُكي عن بعض الزُّهاد" أنّه كان قد اعتاد ثلاثين سنةً بيع لحم الغنم المشويّ



1- سورة طه: الآية 131.
2- أي عدم الرغبة في كلّ ما تقدّم لا يكون بسبب عدم سلامة الحواس الخمسة كالبصر المانع من التلذُّذ مثلاً فلا يُعدّ زاهداً ما لم يكن عدم الرغبة في التلذُّذ ناشئاً من رياضة النفس ومجاهدتها مع وجود دواعيها
 
 
 
 
 
37
 
 

 

24

الفصل الثاني: في الزهد

والفالوذج، ولم يكن يذوق منها شيئاً، فسُئِل عن سببه فقال: كانت نفسي اشتاقت إليهما، فأردت تأديبها بمباشرتهما، من غير أنْ تذوق منهما شيئاً، لئلّا تميل إلى شيءٍ من الشَّهوَات".
 
ومَثَلُ الّذي اختار الزهد لطمع نجاةٍ أو ثواب آخرةٍ، مثل الّذي لا يتناول الطعام أيّاماً لدناءة نفسه، مع شدّةِ حاجته إليه ليتمكّن من كثرة الأكل في ضيافةٍ يتوقّعها أو مثل من يبيع متاعاً بمتاعٍ طلباً للربح.

ومنفعة الزهد في سلوك طريق الحقيقة هو رفع الشواغل لئلّا يُشغل السالك بشيءٍ يمنعه عن مقصده.
 
 
 
 
 
38

25

الفصل الثالث: في الفقر

قال الله تعالى: "لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ"1.

الفقير: هو الّذي لا يكون له مال أو له ولكنّه لا يكفيه.

وفي هذا الموضع يُراد به من لا يرغب في المال ولا في المقتنيات الدنيويّة، وإنْ حصل في يده مال لم يكن مهتمّاً بمحافظته - لا للجهل أو للعجز أو الغفلة أو الجاه وذكر الخير والإيثار والسخاوة، ولا من جهة الخوف من عذاب النار وطلب ثواب الآخرة - بل لعدم التفاته إلى ما سوى الحقّ اللازم لسلوكه طريق الحقيقة ومراقبة الجانب الإلهيّ، لئلّا يصير محجوباً عن الحقّ.

وفي الحقيقة هذا الفقر شعبة من الزهد.

قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أخبركم بملوك أهل الجنّة؟ قالوا: بلى.

قال: كلّ ضعيفٍ مستضعفٍ أغبر أشعث ذي طمرين لا يُعبأ به ولو أقسم على الله لأبرّه"2 .

وقالوا له3: "لو أردت لأملأنّ لك بطحاء مكّة ذهباً".

قال: "لا، بل أجوع يوماً فأسألك وأشبع يوماً فأشكرك".
 

1- سورة التوبة: الآية 91.
2- بحار الأنوار: ج 72، ص 37 رواية 29.
3- نزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: (الرواية) بحار الأنوار: ج 16، ص 238, الباب التاسع رواية 35.
 
 
 
 
39
 

 


26

الفصل الرابع: في الرياضة

قال الله تعالى: "وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى"1.

الرياضة (لغةً): هي منع الفرس عن مطلوبه من الحركات المضطَربة، وجعله بحيث تصير طاعته لمولاه ملكةً له.

والمراد بها هنا هو منع النفس الحيوانيّة من المطاوعة والانقياد لقوّتي الشهوة والغضب وما يتعلّق بهما، ومنع النفس الناطقة من مطاوعة القوى الحيوانيّة، ومن رذائل الأخلاق والأعمال كالحرص على جمع المال واقتناء الجاه وتوابعهما من الحيلة والمكر والخديعة والغيبة والتعصُّب والغضب والحقد والحسد والفجور والانهماك في الشرور وردّها عن غيّها، وجعل طاعة النفس للعقل العمليّ ملكةً لها على وجه يوصلها إلى كمالها الإيمانيّ الممكن.

والنفس، إذا تابعت القوّة الشهوانيّة، تُسمّى نفساً بهيميّةً، وإذا تابعت القوّة الغضبيّة، تُسمّى نفساً سبعيّةً، وإنْ جعلت رذائل الأخلاق ملكة لها، تُسمّى نفساً شيطانيّةً.

ويُسمّي الله تعالى مجموع هذه الراذئل في التنزيل "النفس


1- سورة النازعات: الآيتان 40- 41.
 
 
41
 

27

الفصل الرابع: في الرياضة

الأمّارة"1، أي الأمّارة بالسوء إنْ كانت رذائلها ثابتةً.

وإنْ لم تكن ثابتةً بل تكون مائلةً إلى الشرِّ تارةً وإلى الخير أخرى وتندم على الشرِّ وتلوم نفسها يُسمّيها "اللوَّامَةِ"2 .

وإن كانت منقادةً للعقل وصار الانقياد ملكةً لها، يُسمّيها "مُطْمَئِنَّةً"3.

والغرض من الرياضة ثلاثة أشياء:
أوّلها: رفع الموانع عن طريق الوصول إلى الحقّ، وهي الشواغل الظاهرة والباطنة.

وثانيها: جعل النفس الحيوانيّة مطيعةً للعقل العمليّ الباعث على طلب الكمال.

وثالثها: جعل النفس مستعدّة لقبول فيض الحقّ لتصل إلى كمالها الممكن لها.
 
 

 
1- قوله تعالى: "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لاَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ" سورة يوسف الآية 53.
2- قوله تعالى: "وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ" سورة القيامة: الآية 2.
3- قوله تعالى:"يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّك" سورة الفجر: الآية 27.
 
 
 
 
42

28

الفصل الخامس: في المحاسبة والمراقبة

قال الله تعالى: "وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ"1 .

والمراد بالمحاسبة هنا: أنْ ينسب السالك طاعاته إلى معاصيه ليعلم أيّهما أكثر من الآخر، فإنْ فضلت طاعاته نسب قدر ما يفضل إلى نعم الله تعالى عليه الّتي هي وجوده والحِكَم الّتي أودعها الله في خلقة أعضائه. 

وقد صنّف علماء التشريح كتباً كثيرة في القدر الّذي وصلت إليه عقولهم ولم يفهموا قطرة من بحارها والفوائد الّتي أظهرها في قواه النباتيّة والحيوانيّة ودقائق الصنع الّتي أوجدها في نفسه، الّتي تُدرك بذاتها العلوم والمعقولات والمحسوسات مع القوى الأخر والأعضاء الّتي هي آلاتها وأرزاقه الّتي قدّرها من ابتداء فطرته وأسباب تربيته من العلويّات والسفليّات، فإذا نسب فضل طاعته إلى هذه النعم - الّتي لا يُمكن إحصاؤها كما قال الله تعالى: "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا"2 - ووازنها وقف على تقصيره وحقّقه، وإنْ كثُر الفضل من طاعته على معصيته.

وأمّا إذا ساوت طاعاته معاصيه، يتبيّن أنّه ما قام بشيءٍ من وظائفِ


1- سورة البقرة: الآية 284.
2- سورة النحل: الآية 18.
 
 
 
43
 

29

الفصل الخامس: في المحاسبة والمراقبة

العبوديّةِ، وكان تقصيره أوضح.

وإن ترجّحت معاصيه على طاعاته "فويلٌ له ثم الويل له"1.

فطالب الكمال إذا عمل مع نفسه هذه المحاسبة لم يصدر عنه غير الطاعة، وعَدَّ نفسه - وإنْ كثُرت طاعاته - من المقصِّرين. وقد ورد في ذلك: "وحاسبوا أنفسكم قبل أنْ تُحاسبوا"2.
 
ولو لم يُحاسب نفسه وتمادى في المعصية، وقع في العذاب الأبديّ والخسران السرمديّ، قال الله تعالى: "وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ"3, وحينئذ لا يؤخذ منها عدل ولا يُقبل منها شفاعة4 . أعاذنا الله من ذلك.

وأما المراقبة: فهي أنْ يحفظ ظاهره وباطنه، لئلّا يصدر عنه شيء يُبطل به حسناته الّتي عملها، بمعنى أنْ يُلاحظ أحوال نفسه دائماً لئلّا يُقدم على معصيةٍ ظاهرةٍ وباطنةٍ تُشغله عن سلوك طريق الحقّ، ويجعل ذلك نصب عينيه أبداً، كما قال تعالى: "وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ"5، إلى أنْ يصل إلى المطلوب، والله يوفّق من يشاء من عباده، إنّه هو اللطيف الخبير.
 

 
1- استعار هذا الكلام من حديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ويل للذي يُحدّث فيكذب ليُضحك فويلٌ له ثم ويلٌ له" بحار الأنوار، العلّامة المجلسي: ج 72، ص 235، باب 114، رواية 2.
2- حديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذكره العلامة المجلسي في بحار الأنوار: ج70، ص 73 رواية 26.
 وإلى هذا أشار الإمام عليّ عليه السلام في قوله: "ليس منّا مَن لم يُحاسب نَفْسَهُ كلّ يومٍ فإن عمل خيراً حمد الله واستزاده وإنْ عمل سوء استغفر الله". بحار الأنوار: ج 71، ص 259، رواية 3.
3- سورة النساء: الآية 47.
4- إشارة إلى قوله تعالى: "وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ َ" سورة البقرة: الآية 48.
5- سورة البقرة: الآية 235.
 
 
 
 
44
  

30

الفصل السادس: في التقوى

قال الله تعالى: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ "1

التقوى: هي اجتناب المعاصي، حذراً من سخط الله والبُعد عنه.

وكما أنّ المريض الطالب لصحّته يجب عليه الاجتناب عن كلِّ ما يضرّه ويزيد به مرضه ليُمكن علاجه وينفع دواؤه، كذلك طالب الكمال يجب عليه أنْ يجتنب المنافي للكمال ويجتنب المانع من الوصول إليه، لئلّا يُشغله عن سلوك طريق الحقّ، ويعينه عليه "وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ"2 .

وفي الحقيقة تتركّب التقوى من ثلاثة أشياء:

أحدها: الخوف.

وثانيها: التحاشي عن المعاصي.

وثالثها: طلب القربة إليه تعالى.

وسيأتي شرح هذه الثلاثة في هذا المختصر في أماكنها إن شاء الله تعالى. وقد ورد ذكر التقوى والثناء على المتّقين في التنزيل والأحاديث
 
 
 
45


________________________________________
1- سورة الحجرات: الآية 13.
2- سورة الطلاق: الآية 2ـ 3.
 

31

الفصل السادس: في التقوى

أكثر ممّا يُمكن أنْ نذكره في هذه الرسالة المختصرة1 . وغاية جميع الغايات هي محبّة الله تعالى: "بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ"2 .
 
 

 
1- منها قوله تعالى: "وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ" سورة الأعراف: 26 وقوله تعالى: "وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ" سورة البقرة: 281. وجاء حديث للإمام الباقر عليه السلام يوصي به جابر بن عبد الله الأنصاري: "يا جابر أيكتفي مَن انتحل أنْ يقول بحبّنا أهل البيت؟! فوالله ما شيعتنا إلّا من اتقى الله وأطاعه، إلى أنْ قال: فاتّقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحدٍ قرابة... " الكافي للكليني: ج2، ص 60.
2- سورة آل عمران: الآية 76.
 
 
 
46
 
 

32

الفصل الأوّل: في الخلوة

قال اللهُ تعالى: "وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا"1 .

قد تقرّر في العلوم الحقيقيّة أنّ كلّ ذاتٍ لها استعداد للفيض الإلهيّ, وما لم يمنع منه مانع لم تُحرم منه.

وطلب الفيض إنّما يُمكن لمن علم شيئين:
أحدهما: وجود هذا الفيض.
وثانيهما: أنّ كلَّ ذاتٍ حصل فيها هذا الفيض اقتضى كمالها. وهذان العلمان يُقارنان استعداد قبول ذلك الفيض في جميع الأحوال، وبعد تقرير هذه المقدِّمة، نقول:

يجب على طالب الكمال، بعد حصول الاستعداد، إزالة الموانع وأعظمها الشواغل المجازيّة المشغلة للنفس بالتفاتها إلى ما سوى الله تعالى، والمانعة لها عن الإقبال الكليّ على المقصد الحقيقيّ، وهي الحواسّ الظاهرة والباطنة، أو تلك القوى الحيوانية أو الأفكار المجازيّة.

أمّا الحواسّ الظاهرة فعلى النحو التالي؛ فالباصرة تُميل النفس إلى الصورة الحسنة المناسبة لها، والسامعة تَعدِل بها إلى الأصوات
 
 
 

1-  سورة الأنعام: الآية 70.
 
 
 
50
  

33

الفصل الأوّل: في الخلوة

الطيّبة والنغمات المناسبة، وكذلك الذائقة واللامسة والشامّة.

وأمّا الحواس الباطنة فإنّها تصرف النفس إلى تخيُّل الصور والأحوال الّتي التفت إليها الخاطر، أو تَوهُّم محبّةٍ أو مبغضةٍ، أو تعظيم أمرٍ أو تحقيره، أو نظام أمرٍ أو عدم نظامه، أو التفكُّر في حالٍ ماضيةٍ أو أمرٍ مطلوب كالجاه والمال.

وأمّا القوّة الحيوانيّة فإنّها تُشغلها بصرفها إلى حزن أو خوفٍ أو غضبٍ أو شهوةٍ أو خيانةٍ أو تخجيلٍ أو غيرةٍ أو انتظار لذّةٍ أو رجاء قهر عدوٍّ أو حذر من مؤلم. وأمّا الأفكار المجازيّة فإنّها تُشغلها بصرفها إلى التفكُّر في أمرٍ غير مهمٍّ أو علمٍ غير نافع.

وبالجملة كلّ ما كان شاغلاً عن مطلوبه.

والخلوة: عبارة عن خلوِّ السالك عن جميع هذه الموانع، فينبغي أنْ يختار موضعاً لم يكن فيه شيء يُشغلُهُ من المحسوسات الظاهرة والباطنة، ويجعل القوى الحيوانيّة مرتاضة، لئلّا تجذب النفس إلى ملائماتها، ويعرض بالكليّة عن الأفكار المجازيّة وهي الأفكار الّتي تَرجعُ غاياتها إلى مصالح المعاش والمعاد. ومصالح المعاش هي الأمور الفانية، ومصالح المعاد أمور تَرجعُ غاياتها إلى اللذّات الباقية.

فالسالك يجب عليه، بعد إزالة الموانع الظاهرة وإخلاء باطنه عن الاشتغال بما سوى الله تعالى، أنْ يُقبِل بجميع همّته وجَوامع نيّته إلى الحقّ، مترصِّداً للسوانح الغيبيّة ومترقِّباً للواردات الحقيقيّة، ويُسمّى ذلك التفكُّر، ونحن نورد فيه فصلاً مفرداً وهو هذا:
 
 
 
50

34

الفصل الثاني: في التفكُّر

قال الله سبحانه وتعالى: "أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَ بِالْحَقِّ"1 .

قيل في معنى التفكُّر وجوه كثيرة خلاصتها أنّه سير باطن الإنسان من المبادئ إلى المقاصد، وكذا عُرِّف معنى النظر في اصطلاح العلماء.

ولا يُمكن لأحدٍ أنْ يصل من مرتبة النقصان إلى مرتبة الكمال، إلّا بالسير، ولذلك قالوا: إنّ أوّل الواجبات هو التفكُّر والنظر. جاء في التنزيل الحثّ على التفكُّر في ما لا يُحصى من الآيات مثل قوله تعالى: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"2 . وفي الحديث النبوي "تفكُّر ساعةٍ خير من عبادة سبعين سنة"3. وينبغي أنْ يُعلم أنّ مبادئ السير الّتي منها ابتداء الحركة هي الآفاق والأنفس.

والسير هو الاستدلال من آياتها، وهي الحِكَم الّتي توجد في كلِّ ذرّةٍ من ذرّات الكونين الدالّة على عظمة المبدع وكماله، قال الله تعالى: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ"4 . ثُمَّ 


1- سورة الروم: الآية 8.
2- سورة الرعد: الآية 3. وتكرّر هذا المقطع ستّ مرّات في القرآن الكريم.
3- بحار الأنوار: ج 69 ص 293. رواية 23 ولكن بلفظ ( ستين سنة).
4- سورة فصلت: الآية 53.
 
 
 
 
51
 

35

الفصل الثاني: في التفكُّر

يستشهد من جلاله على كلِّ ما سواه من مبتدعاته كما قال تعالى: "أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ"5 لتنجلي له كلّ ذرّة من ذرّات العالَم.

أما آيات الآفاق فهي معرفة موجوداتٍ سوى الله تعالى كما هي عليه والحِكَم الموجودة في كلِّ واحدٍ، بقدر الاستطاعة الإنسانيّة، وذلك مثل علم هيئة الأفلاك والكواكب وحركاتها وأوضاعها ومقادير أجرامها وأبعادها وتأثيراتها بحسب صورها وكيفيّاتها وحصول الأمزجةِ والتركيبات المعدنيّة والنَّباتيّة والحيوانيّة، ومعرفة القوى والنّفوس السّماويّة والأرضيّة ومبادئ كلّ واحدةٍ منها وما هو مودَع فيها وحاصل منها من المناسبات والمخالَفات والخواصّ والمشاركات، وما يتعلّق بهذا العلم من علوم الأعداد والمقادير ولواحقها.

وأمّا آيات الأنفس فهي من معرفة الأبدان والأنفس. وإنّما يحصل ذلك من علم التشريح بالأعضاء المفردة من العظام والعضلات والأعصاب والعروق ومبلغ كلِّ واحدٍ منها والأعضاء المركّبة كالأعضاء الرئيسة الخادمة وآلاتها والجوارح، ومعرفة قوى وأفعال كلّ واحدٍ منها، وأحوالها مثل الصحّة والمرض، ومعرفة النفوس وكيفيّة ارتباطها بأبدانها، وأفعال كلّ واحدٍ في الآخر وانفعالاته عنهُ، وأسباب نقصان كلّ واحدٍ وكماله، ومقتضى السّعادة والشقاوة العاجلة والآجلة وما يتعلّق بهما.

وهذه الجملة هي مبادئ السير الّذي عبّر عنه بـ (التفكُّر).

وأمّا المقاصد فهي منتهى السير، ويُعلم ذلكَ من أواخر هذه الأبواب والفصول وهو الوصول إلى نهاية مراتب الكمال.
 
 

5- تتمّة الآية السابقة.
 
 
52

36

الفصل الثالث: في الخوف والحزن

قال الله تعالى: "وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"1.

قالت العلماء: "الحزن على ما فات والخوف ممّا لم يأت"

فالحزن: عبارةٌ عن تألُّم الباطن بسبب وقوع مكروهٍ يتعذّر دفعه أو فوت فرصةٍ أو أمرٍ مرغوبٍ فيه يتعذّر تلافيه.

والخوف: عبارة عن تألُّم الباطن بسبب توقّع مكروهٍ يُمكن حصول أسبابه، أو توقُّع فوات مرغوبٍ يتعذّر تلافيه، فإنْ كانت الأسباب معلومة الوقوع أو مظنونة بالظن الغالب تُسمّى أيضاً انتظار المكروه، والتّألُّم يكون كثيراً، وإنْ كان تعذُّر وقوع الأسباب معلوماً والتّألُّم حاصلاً فيكون هذا الخوف الّذي سببه الملنخُوليا2.

والحزن والخوف في باب السلوك لا يخلوان من فائدةٍ، فإنّ الحزن إذا كان سببه ارتكاب المعاصي، أو فوات مدّةٍ عاطلةٍ عن العبادة، أو من ترك السير في طريق الكمال، صار باعثاً على تصميم العزم على التوبة.

والخوف إنْ كان سببه من تكاثر المعاصي وعدم الوصول إلى درجة الأبرار، صار موجباً للاجتهاد في اكتساب الخير وللمبادرة إلى السلوك


1- سورة آل عمران: الآية، 175.
2- الملنخوليا كلمة مأخوذة من اليونانية تُطلق على مَن أُصيب بمرض خلايا الدماغ الباعث على إيجاد تخيّلات وأفكار مضطّربة.
 
 
 
53
 

 


37

الفصل الثالث: في الخوف والحزن

في طريق الكمال "ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ"1.

ومن كان في هذا العالَم خالياً منَ الخوف والحزن، كان من أهل القساوة "فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ"2.

والأمن في هذا المقام، بسبب زوال الخوف، مُفضٍ إلى الهلاك "أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ"3

وأمّا أهل الكمال فهم مبرّؤون من الخوف والحزن "أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ"4.

والخوف والخشية وإنْ كانا في اللغة بمعنىً واحدٍ إلّا أنّ في عُرف هذه الطائفة بينهما فرق، فإنّ الخشية مختصّة بالعلماء "إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ"5 ، والجنّة أيضاً مختصة بهم "ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ"6, والخوف منفيٌّ عنهم "لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ"7. فتكون الخشية هي الاستشعار، بسبب الشعور بعظمة الحقّ (عزَّ وعلا) وهيبتهِ، والخوف بسبب الوقوف على النقصان، فيحصل الخوف بسبب القصور عن أداء حقّ العبوديّة، أو مِنْ تخيّل ترك الأدب في العبوديّة أو الإخلال بالطّاعة، فتكون الخشية هي خوفٌ خاصٌّ، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى: "وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الْحِسَابِ"8. والرّهبة
 
 
 

1- سورة الزمر: الآية 16.
2- سورة الزمر: الآية 22.
3- سورة الأعراف: الآية 99.
4- سورة يونس: الآية 62.
5- سورة فاطر: الآية 28.
6- سورة البيّنة: الآية 8، وصدرها "جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً". 
7- سورة يونس: الآية 62
8- سورة الرعد: الآية 21.
 
 
 
54
 
 

38

الفصل الثالث: في الخوف والحزن

قريبة المعنى من الخشية "هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ"1. والسّالك إذا وصل إلى درجة الرضا تبدَّل خوفه أمناً "أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ"2، لا يكون له من مكروهٍ كراهية، ولا من مطلوبٍ رغبةٌ، وسبب هذا الأمن هو الكمال، كما أنّ سبب الخوف هو النقصان.

وصاحب هذا الأمن لا يخلو من خشيةٍ إلى أنْ يتجلّى بنظر الوحدة، وحينئذٍ لا يبقى من الخشية أثرٌ لأنّ الخشية من لوازم الكثرة.
 

1- سورة الأعراف: الآية 154.
2- سورة الأنعام: الآية 82.
 
 
 
55

39

الفصل الرابع :في الرَّجاءِ

قال الله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ"1 .

كلّ من يتوقّع حصول مطلوبٍ له في المستقبل، وحصل لهُ ظنّ وجود أسبابه، حصل لهُ في باطنهِ فرحٌ مقارن لتصوّر حصوله، ويُسمّى ذلك الفرح (رجاءً).

وإنْ كان المتوقّع واجب الوقوع في المستقبل يُسمّى (انتظار المطلوب) وحينئذٍ لا بُدَّ أن يكون الفرح أقوى.

وإنْ لم تكن الأسباب معلومة الوقوع ولا مظنونة يُسمّى (تمنّياً).

وإنْ كان عدم حصول الأسباب معلوماً، وكان توقع الحصول باقياً كان ذلك الرّجاء من باب ( الغرور والحماقة).

فتبيّن أنَّ الرجاء والخوف متقابلان، وكما أنّ الخوف في السلوك يشتمل على فوائد كذلك الرّجاء.

فإنّ الرجاء يبعث على الترقّي في درجات الكمال وسرعة السير في طريق وصوله إلى المطلوب "يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ"2 .

وأيضاً الرّجاء يقتضي حسن الظَّن بمغفرة الباري تعالى وعفوه، والثقة برحمته "أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ"3 . وقال الله تعالى في حصول


1- سورة البقرة: الآية 218.
2- سورة فاطر: الآية 29 30.
3- سورة البقرة: الآية 218.
 
 
 
57
 

40

الفصل الرابع :في الرَّجاءِ

المطلوب بموجب هذا التوقّع "أنا عندَ ظنّ عبدي بي"1 .

وعدم الرّجاء، في هذا المقام، يبعث اليأس والقنوط "إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"2. وإبليس بسبب اليأس هذا صار هدفاً للّعنة الأبديّة "لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ"3.

لكنّ السالك إذا وصل إلى مرتبة المعرفة ينتفي رجاؤه لعلمه أنّ ما ينبغي حاصل وما لم يحصل لا ينبغي4. ومع هذا العلم إنْ كان الرّجاء باقياً، كان جاهلاً لجميع ما يحتاج إليه في مطلوبه وما لا يحتاج إليه وقد فرضناه عارفاً.

ويُعلم من هذا الفصل، والفصل المتقدِّم، أنّ السالك، ما دام في السلوك، لم يَخلُ من الخوف والرجاء "يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً"5، فإنّ استماع آيات الوعد والوعيد، والتفرُّس بدلائل النقص والكمال، وتوقّع وقوع كلِّ واحدٍ منها، وتصوُّر أنّ انتهاء السلوك إلى مقصدهم هو أعلى المقاصد، أو إلى الحرمان، يلزم منه تقارن الخوف والرّجاء ولا يُمكنه ترجيح أحدهما على الآخر"لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا"6، لأنّه لو رجح الرّجاء لزم أمنٌ في غير موضعه "أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ"7، وإنْ ترجّح الخوف لزم يأسٌ موجب للهلاك "إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"8.
 
 

1- مما أوصى الله به إلى موسى بن عمران، بحار الأنوار: ج 70، ص 389، باب 59، رواية 56.
2- سورة يوسف: الآية 87.
3- سورة الزمر: الآية 53.
4- وقد قال الإمام الحسين عليه السلام: "ماذا وجد من فقدك وما الّذي فقد من وجدك" دعاء عرفة: مفاتيح الجنان.
5- سورة السجدة: الآية 16.
6- ذُكر هذا مضموناً في بحار الأنوار: ج 75، ص 259 وهو ما يُعبّر عنه في الروايات الشريفة "بين الخوف والرجاء".
7- سورة الأعراف: الآية 99.
8- سورة يوسف: الآية 87.
 
 
 
58
 
 

41

الفصل الخامس: في الصبر

قال الله تعالى: "وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"1 .

الصبر في اللغة: هو حبس النفس من الجزع في وقت وقوع المكروه. وإنّما يكون ذلك بمنع باطنه من الاضطراب ولسانه من الشكوى وأعضائه من الحركات غير المعتادة. 

والصبر على ثلاثة أنواعٍ:
الأوّل: صبر العوام: وهو حبس النفس على وجه التجلُّد وإظهار الثّبات في التحمُّل لتكون حاله عند العقلاء وعامّة الناس مرضيّةً "يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُون"2 .

والثاني: صبر الزهّاد والعبّاد وأهل التقوى وأرباب الحلم، لتوقُّع ثواب الآخرة "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ"3 .

والثالث: صبر العارفين فإنّ لبعضهم التذاذاً بالمكروه لتصوّرهم أنّ معبودهم خصّهم به من دون الناس، وصاروا ملحوظين بشريف نظره "وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ"4 .


1- سورة الأنفال: الآية 46.
2- سورة الروم: الآية 7.
3- سورة الزمر: الآية 10.
4- سورة البقرة: الآية 155.
 
 
 
59
 

42

الفصل الخامس: في الصبر

وجاء في الأثر أنَّ جابر الأنصاري، الّذي كان من كبار الصحابة، ابتُلي في آخر عمره بضعف الهرم والعجز فزاره محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام، فسأله عن حاله فقال: أنا في حالةٍ أُحبُّ فيها الشيخوخة على الشباب، والمرض على الصّحة، والموت على الحياة، فقال: الباقر عليه السلام: "أمّا أنا، فإنْ جعلني الله شيخاً أُحبُّ الشيخوخة، وإنْ جعلني اللهُ شابّاً أُحبُّ الشيبوبة، وإنْ أمرضني أحبُّ المرض، وإنْ شفاني أُحبُّ الشّفا والصّحَّة، وإنْ أماتني أُحبُّ الموت، وإنْ أبقاني أُحبُّ البقاءَ"، فلمّا سمع جابر هذا الكلام منه قَبَّلَ وجهه وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنّه قال لي: "إنّك ستُدرك ولداً من أولادي اسمه اسمي يبقر العلم بقراً كما يبقر الثور الأرض"1. ولذلك سُمّي باقر علوم الأوّلين والآخرين.
ويُعلم من معرفة هذه المراتب أنّ جابراً (رض)، كان في مرتبة الصبر، ومحمّد الباقر عليه السلام كان في مرتبة الرضا، وسيأتي شرح الرضا إن شاء الله تعالى.
 

1- أصول الكافي للشيخ الكليني: ج1، ص 390 391 ولم نعثر على ذيل الرواية في أغلب مصادر الحديث ومعنى يبقر العلم بقراً: يشقّه شقّاً ويُظهره إظهاراً.
 
 
 
 
61
 

43

الفصل السادس: في الشكر

قال الله تعالى: "وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ"1 .

الشكر في اللغة: هو الثّناء على المُنعِم، ليوازي نعمه.

ولمّا كان مُعظم النّعم بل جملتها من الحقّ تعالى، فخير ما اشتغل العبد به هو شكره تعالى.

وقيامه بشكره يتمُّ بثلاثة أشياء:
الأوّل: معرفة النّعمة لله تعالى، وهي الّتي يشتمل عليها الآفاق والأنفس.

الثاني: الفرح بما يصل إليه من النّعم.

الثالث: الاجتهاد في تحصيل رضا المُنعِم، بقدر الإمكان والاستطاعة. وإنّما يكون ذلك لمحبّةٍ في باطنه وثنائه على وجهٍ يليق بكبريائه في قوله واجتهاده في قيامه، بما ينبغي من المكافاة بخدمته وطاعته، أو اعترافه بعجزه، قال الله تعالى: "لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاَزِيدَنَّكُمْ"2 . وجاء في الخبر "إنّ الإيمان نصفان نصفه صبر ونصفه شكر"3 .

ووجههُ أنّ كلّ حالةٍ يُلاقيها السالك، إمّا أنْ تكون ملائمةً له أو غير ملائمةٍ، فيجب الشكر على الأوّل والصبر على الثاني.


1- سورة آل عمران: الآية 145.
2- سورة إبراهيم: الآية 7.
3- بحار الأنوار: ج 60، ص 26 باب 30.
 
 
 
61
 

44

الفصل السادس: في الشكر

 وكما أنّ بإزاء الصبر الجزع، كذلك بإزاء الشكر الكفران، والكفر نوع من الكفران "وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ"1 .
ويُعلم من ذلك أنّ درجة الشكر أعلى من درجة الصبر، وبما أنّ الشكر لا يتحقّق إلّا بالقلب أو اللسان أو الأعضاء وكلّها من نعم الله، والقدرة على استعمال كلّ واحدٍ منها أيضاً من نعمه، والتّوفيق على استعمالها أيضاً من نعمه فإنْ أراد أنْ يشكر على كلِّ نعمةٍ منها، عاد الكلام إلى نفس الشكر، وينتهي آخر مراتب الشكر إلى العجز عنه.

كما أنّ الاعتراف بالعجز عن الثّناء عليه هو أعظم الثَّناء عليه تعالى، ولهذا السَّبب قال عليه السلام: "لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وفوق ما يقول القائلون "2 وعند أهل التَّسليم ينتفي الشكر، لأنّ الشُّكر يشتمل على القيام بالمكافآت والمجازات للمُنعِم، ومن لم يجعل لنفسه محلّاً أصلاً كيف يكون في محلِّ الشّكر على أنعم مَن هو الكلّ؟ فتكون نهاية الشُّكر هي أنْ لا يجعل لنفسه وجوداً، فكيف يُتصوَّر منه الشُّكر؟
 
 

 
1- سورة إبراهيم: الآية 7 تتمّة السابقة. وحيث قابل المولى سبحانه الشكر بالكفر"لَئِنْ شَكَرْتُمْ... وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ... ". يستفاد أنّ عدم الشكر هو نوع من الكفر والمعبر عنه أحياناً (كفر النعمة) وإليه أشار المصنف، وأمّا قوله تعالى "اَزِيدَنَّكُمْ" ولم يقل في مقابلها "أّعذّبنّكم" فهو من لطيف كرمه حيث صرّح بالوعد وهو الزيادة في النّعم وتعرّض عن الوعيد وذلك من دأب الكرام في وعدهم ووعيدهم غالباً، وهذا ما أفاده السيد العلامة الطباطبائي في الميزان:ج 12، ص 22.
2- هذا القول لسيد العابدين والعارفين السجّاد عليه السلام، بحار الأنوار: ج 71، ص 3، وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المعنى: "ما عبدناك حقّ عبادتك، وما عرفناك حقّ معرفتك"، المصدر نفسه.
 
 
 
 
62
 

45

الفصل الأوّل: في الإرادة

قال الله تعالى: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ"1 .

الإرادة مشروطةٌ بثلاثة أشياء:
الشعور بالمراد.

والشّعور بالكمال الّذي يحصل بالمراد.

وغيبة المراد.

فإذا كان المراد من قبيل الأمور الّتي يُمكن تحصيلها وانضمّت الإرادة إلى القدرة فإنّ ذلك يوجب حصول المراد، وإذا كان من قبيل الأمور الحاصلة والموجودة ولكنّها غير حاضرة فإنّهما يقتضيان الوصول إلى المراد.

وإنْ كان في وصوله توقُّف، اقتضت الإرادة حالةً في المريد، تُسمّى (شوقاً)، والشَّوق يكون قبل الوصول.

وإنْ كان الوصول بالتدريج، فإذا حصل منه أثر يُسمّى ذلك الأثر (محبّةً). وللمحبّة مراتب آخرها يكون عند تمام الوصول وانتهاء السلوك. 

وأمّا الإرادة فإنّما تكون مقارنةً للسلوك باعتبارٍ ومقتضيةً له


1- سورة الكهف: الآية 28.
 
 
 
65
 
 

46

الفصل الأوّل: في الإرادة

باعتبارٍ آخر، فإنّ طَلَب الكمال نوع من الإرادة، وإذا انقطعت الإرادة بسبب الوصول أو العلم بامتناع الوصول انقطع السلوك أيضاً. والإرادة المقارنة للسلوك تختصّ بأهل النقصان، وأمّا أهل الكمال فإراداتهم عين المراد. وجاء في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "طوبى شجرة في الجنّة أصلها في دار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فليس من مؤمن إلّا وفي داره غصن من أغصانها، لا ينوي في قلبه شيئاً إلّا أتاه ذلك الغصن به..."2 وقيل "إنّ طاعة بعض الناس ثوابها في الآخرة، وطاعة بعضهم هي عين ثوابهم، ولذلك قلنا: إنّ إرادة بعضهم هي عين مرادهم".

ومن وصل في السلوك إلى درجة الرضا انتفت إرادته. وقد قال بعض المشايخ الكبار، وكان طالب هذه المرتبة: "لو قيل لي ما تُريد أقول: أُريد أن لا أُريد".
  

 1- بحار الأنوار: ج 8، ص 131 باب الجنّة ونعيمها، والماتن جاء بمضمون الرواية. 
 
 
 
66
 

47

الفصل الثاني:في الشوق

قال الله تعالى: "وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ"1 .
 
الشوق: هو الإحساس بلذّة المحبّة الملازمة لفرط الإرادة وممزوجة بألم الفراق.

وفي حال السلوك، بعد اشتداد إرادة الشوق يصير ضروريّاً.

ويجوز حصوله قبل السلوك، إذا حصل الشعور بكمال المطلوب، وانضمَّت إليه القدرة، ونقص الصبر على المفارقة.

والسالك كلّما أمعن في التَّرقّي، ازداد شوقه، وقلّ صبره، إلى أنْ يصل إلى مطلوبه، ثُمّ تخلُص له لذّة نيل الكمال من شائبة الألم وينتفي الشوق.

ويُسمّي أرباب الطريقة مشاهدة المحبوب (شوقاً)، وهو بهذا الاعتبار طالب اتحادٍ لم يصل إليه بعد.
 

1- سورة الحج: الآية 54. ومعنى فَتخبتَ له قلوبهم أي تشتاق له وتلين. 
 
 
 
 
67
 

 


48

الفصل الثالث:في المحبّة

قال الله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ"1 .

المحبّة: هي الابتهاج2 الّذي يشعر به المحبّ لحصول كمال أو تخيّل حصول كمال مظنون أو محقّق.

وبوجهٍ آخر: المحبّة ميل النفس إلى ما يقترن بالشعور به لذّةٌ وكمال، وبما أنّ اللذّة هي إدراك الملائم أي نيل الكمال، فالمحبّة لا تخلو عن اللذّة وتخيّلها، وهي قابلة للشدّة والضَّعف.

وأوّل مراتبها الإرادة، فإنّ الإرادة محبّة أيضاً، ثُمَّ يُقارنها الشوق، ومع الوصول التّام الّذي تنتفي عنده الإرادة والشوق تزداد المحبّة، وما دام أنّها تُقارن طلب أثرٍ باقٍ كانت ثابتةً.

والعشق: هو المحبّة المفرطة، وربّما يتّحد به الطالب والمطلوب، وإنْ تغايرا باعتبارٍ آخر، فإذا انتفى الاعتبار انتفت المحبّة فيكون آخر ونهاية المحبّة والعشق الاتحاد.

وقالت الحكماء إنّ المحبّة إمّا فطريّة، أو كسبيّة. والمحبّة الفطريّة مركوزة في الكائنات كلّها، فإنّ في الفلك محبّة مقتضية لحركته، وفي كلّ واحدٍ من العناصر محبّة مقتضية لمكانه الطبيعيّ، وكذلك محبَّته


1- سورة البقرة: الآية 165.
2- الابتهاج يعني السرور.
 
 
 
69
 
 

49

الفصل الثالث:في المحبّة

لباقي الأحوال الطبيعيّة من الوضع والمقدار والفعل والانفعال، وفي المركّبات كالمغناطيس الجاذب للحديد، وأكثر منها في النبات بسبب حركته للنمو والغذاء، وتحصيل البذر وحفظ النوع، وأكثر من النبات في الحيوان للألفِ والأنس بالمشاركة والرغبة إلى التزاوج، والشفقة على الولد وأبناء النوع.

وأمّا المحبّة الكسبيّة فتكون أغلبها في نوع الإنسان، فسببها أحد ثلاثة أشياء:

الأوّل: اللذّة وهي جسمانيّة وغير جسمانيّة، إمّا وهميّة أو حقيقيّة.

الثاني: المنفعة وهي أيضاً إمّا مجازيّة مثل محبّة الأمور الدنيويّة الّتي نفعها بالعرض أو حقيقيّة وهي ما كانت منفعتها بالذّات.

الثالث: مشاكلة الجوهر، وهي إمّا عامّة، كما تكون بين شخصين متقاربين بالطبع والخلق ويبتهج كلّ واحدٍ بأخلاق الآخر بشمائله وأفعاله، وإمّا خاصّة تختصُّ بأهل الحقّ وهي محبّة طالب الكمال للكامل المطلق.

ويجوز أنْ يكون سبب المحبّة مركّباً من هذه الأسباب تركيباً ثنائيّاً أو ثلاثيّاً.

ويجوز أنْ يكون سبب المحبّة هو المعرفة كمحبّة العارف، مع أنّ اللذّة والمنفعة والخير تصل من الكامل المطلق إليه فتكون محبّته أبلغ من المحبّات الأخر.

ومن هنا يظهر معنى قوله تعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ"1 .

وقال أهل الذّوق: إنّ الرّجاء والخشية والشوق والأُنس والانبساط
 
 

1- سورة البقرة: الآية 165.
 
 
 
70
 

50

الفصل الثالث:في المحبّة

والتوكّل والرضا والتسليم جميعها من لوازم المحبّة، لأنَّ المحبّة مع تصوُّر رحمة المحبوب تقتضي الرَّجاء، ومع تصوُّر هيبته تقتضي الخشية، ومع عدم الوصول تقتضي الشوق، ومع استقرار الوصول تقتضي الأنس، ومع إفراط الأنس تقتضي الانبساط، ومع الثقة بعنايته تقتضي التوكّل، ومع استحسان كلّ أثرٍ صادرٍ عن المحبوب تقتضي الرضا، ومع تصوُّر قصور نفسه وعجزها وكمال المحبوب وإحاطة قدرته تقتضي التسليم.

وفي الجملة المحبّة الحقيقيّة تنتهي إلى التسليم إذا اعتقد أنّ محبوبه هو الحاكم المطلق، والمحبّ المحكوم المطلق.

والعشق الحقيقي ينتهي إلى الفناء، فإنّ العاشق الحقيقيّ يجعل الوجود كلّه لمعشوقه، ولا يجعل لنفسه وجوداً، وكلّ ما سوى الله عند أهل هذه المرتبة حجاب. فتنتهي غاية السير إلى أنْ يُعرض عن كلّ ما سواه، ويتوجّه إليه بكلّه "وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ"1 .
 

1- سورة هود: الآية 123.
 
 
 
 
 
71
 
 

 


51

الفصل الرابع: في المعرفة

قال الله تعالى: "شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"1 .

المراد من المعرفة هنا: أعلى مراتب معرفة الله تعالى لأنَّ معرفة الله سبحانه لها مراتب كثيرةٌ.

ومثل مراتبها مثل مراتب معرفة النار.

فإنّ أدناها من سمع أنّ في الوجود شيئاً يَعدمُ كلّ شيء يُلاقيه، ويظهر أثره في كلّ شيء يُحاذيه، وأيّ شيء أُخذ منه لم ينقص شيء، وكلّ ما ينفصل منه كان على ضدّ طبعه ويُسمّى ذلك الموجود (ناراً).

ونظير هذه المرتبة في معرفة الباري تعالى معرفة المُقلِّدين الّذين صدّقوا قول كبار علماء الدِّين، من غير وقوفهم على الحُجّة.

وأعلى منها مرتبةً، من وصل إليه دخان النار وعلم أنّه أثر لا بُدَّ له من مؤثِّرٍ، فيحكم بذاتٍ لها أثر هو الدخان، ونظير هذه المرتبة في معرفة الله مرتبة أهل النظر الّذين يعلمون بالبراهين القاطعة وجود صانع، ويجعلون آثارَ قدرتهِ دليلَ وجوده.

وأعلى منها مرتبة، من أحسَّ بأثرٍ من حرارة النار بسبب مجاورتها، وينتفع بذلك الأثر. ونظير هذه المرتبة في معرفة الله مرتبة من آمنوا بالله وبالغيب من المؤمنين، وعرفوا الصانع من وراء الحجاب وابتهجوا به.


1- سورة آل عمران: الآية 18. 
 
 
 
 
73
 
 

52

الفصل الرابع: في المعرفة

 وأعلى منها مرتبة من شاهد النار وبتوسُّط نورها يُشاهد الموجودات. ونظير هذه المرتبة مرتبة العارفين فإنّ لهم المعرفة الحقيقيّة ولهم أيضاً مراتب، ويُسمّون (أهل اليقين)، وسنذكر اليقين فيما بعد إن شاء الله تعالى.

ومنهم جماعة معرفتهم من باب المعاينة وهم (أهل الحضور)، ويختصُّ بهم الأنس والانبساط، وهي نهاية المعرفة الّتي ينتفي فيها العارف نظير من يحترق بملاقاة النار.
 
 
 
74
 

53

الفصل الخامس:في اليقين

قال الله تعالى: "وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ"1 .

وجاء في الخبر "من أُعطي اليقين، ومن أوتيَ حظّه منه، لا يُبالي بما انتقص من صلواته وصومه"2 .

اليقين في العرف: هو اعتقاد جازم مطابق ثابت لا يُمكن زواله، وذلك في الحقيقة مؤلّف من العلم بالمعلوم ومن العلم بأنَّ خلاف ذلك العلم الأوّل محال.

ولليقين مراتب، وجاء في التنزيل: علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين، قال تعالى: "لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ"3 وقال: "وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ"4. وفي مثل النار الّتي ذكرت في باب المعرفة، يُقال لكلِّ مَن يُشاهد النار بتوسُّط نورها بمنزلة علم اليقين، ومعاينة جرم النار المفيض للنور الّذي يُضيء كلّ شيء قابل للإضاءة بمنزلة عين اليقين.
 
 
 

 
1- سورة البقرة: الآية 4.
2- المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني، ج 7، ص 106.
3- سورة التكاثر: الآية 6.
4- سورة الواقعة: الآية 95.
 
 
 
75
 

54

الفصل الخامس:في اليقين

ومعاينة جرم النار في كلّ ما يُلاقيها حتّى تنمحي هويته ويبقى صرف النار بمنزلة حقّ اليقين.
 
 
والجحيم كلّ ما هو عذاب، ولمّا كان نهاية الوصول انتفاء الهويّة، كانت رؤيتها من البعد والقرب والدخول فيها المقتضي للانتفاء بإزاء المراتب الثلاثة المذكورة. والله أعلم بحقائق الأُمور.
 
 
 
 
 
76
 

 


55

الفصل السادس: في السكون

قال الله تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"1 .

السكون على نوعين:
أحدهما: من خواصّ أهل النقصان: وهو مقدّمة السلوك، الّذي يخلو صاحبه من المطلوب والكمال ويُسمّى (غفلةً).

وثانيهما: يكون بعد السلوك: وهو من خواصّ أهل الكمال، لحصوله عند الوصول إلى المطلوب ويُسمّى (اطمئناناً).

والحالة الّتي بين هذين السكونين تُسمّى (الحركة والسير والسلوك). والحركة من لوازم المحبّة الّتي قبل الوصول، والسكون من لوازم المعرفة المقارنة للوصول، ولهذا السبب قالوا: "لو تحرّك العارف هلك ولو سكن المحبّ هلك". وقيل أيضاً أبلغ منه وهو "لو نطق العارف هلك ولو سكت المحبّ هلك". هذه هي الأحوال العارضة للسالك إلى حين الوصول. والله أعلم.
 

1- سورة الرعد: الآية 28.
 
 
 
 
 
77

56

الفصل الأوّل: في التوكُّل

قال الله تعالى: "وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"1 .

التوكُّل هو: تفويض الإنسان أمره إلى غيره.

والمراد منه هنا، أنّ العبد إذا عرض له أمرٌ أو صدر عنه شيء - إذا تيقّن أنّ الله تعالى أعلم منه وأقدر - فوّض ذلك الشيء إليه، ليُدبِّره بحسب تقديره ويفرح بما يُقدِّره ويرضى به "وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ"2 .

وإنّما يحصل له الرضا والفرح بما يفعله الله معه إذا تأمّل في أحواله الماضية، فإنّه أخرجه من العدم إلى الوجود وأودع في خلقته من الحِكَم، ما لو صرف عمره في معرفتها لم يُمكنه معرفة جزءٍ من ألفِ جزءٍ منها، وربّاه أحسن التربية ودبّر أموره الداخلة فيه والخارجة عنه، حتّى أوصلها إلى غاية الكمال الممكن.

ثُمّ يقيس الأحوال المستقبلة على الماضية فإنّها لا تختلف ولا تخرج عن تقديره وإرادته تعالى، فإنّه إذا تأمّل ذلك اعتمد عليه تعالى وترك الاضطراب، وتيقّن أنّ ما ينبغي أنْ يُريد ويفعل قدّره الله بحسن تدبيره، سواء اضطرب أو لم يضطرب "من انقطع إلى الله كفاه الله


1- سورة المائدة: الآية 23.
2- سورة الطلاق: الآية 3.
 
 
 
80
 

 


57

الفصل الأوّل: في التوكُّل

كلّ مؤنته1، ورزقه من حيث لا يحتسب "2.

وليس التوكُّل هو ترك التصرُّف في الأمور بالكلّيّة ويقول إنّي فوّضّت أموري إليه بل التوكُّل هو أنْ يتيقّن أنّ ما سوى الله تعالى، من إله، لكن بعضها يتوقّف على شروطٍ وأسباب.

فإنّ قدرته تعالى وإرادته لا يتعلّقان بكلِّ شيءٍ، بل بشيءٍ دون شيءٍ، فما تعلّقت قدرته به وإرادته هو الّذي قارنه شرطه وسببه وما لم يتعلّق لم يُقارنه شرطه وسببه، فيكون وجوده وقدرته وإرادته من جملة الشروط والأسباب المخصّصة لبعض الأمور في وقوعها من الله تعالى، وهو ينسبه إلى نفسه.

فينبغي أنْ يكون أشدّ اجتهاداً فيما أُمر به، ونظيره من يفعل مخدومه أمراً بتوسّطه وتوسّط تصرُّفاته وحينئذٍ يتّحد ويجتمع الجبر والقدر3, فإنّ من نسب هذه الأمور إلى الموجد تخيّل الجبر، ومن نسبها إلى الشرط والسبب تخيّل القدر، وإذا نظر نظراً صحيحاً علم أنّه لا جبر مطلقاً ولا قدر مطلقاً وتيقّن معنى ما قيل "لا جبر ولا تفويض ولكن أمرٌ بين الأمرين"4 وجعل نفسه متصرِّفاً في الأمور المنسوبة إليه، تصرُّف الآلات، لا تصرُّف صاحبها.

وفي الحقيقة تتّحد نسبة الفاعل ونسبة الآلة، فإنَّ ترك الآلة توسّط نفسه يستلزم ترك نسبته من الفاعل أيضاً، وهذا معنى دقيق لا يُعلم إلّا برياضة القوّة العاقلة ومن وصل إلى هذه المرتبة.


1- بحار الأنوار: ج 77، ص 181, باب 7, الرواية 11.
2- روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من اكثر الاستغفار جعل الله له من كلّ همّ فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب". بحار الانوار: ج 174, باب 7, الرواية 8.
3- لمراد من القدر هنا التفويض.
4- قول الإمام الصادق عليه السلام، الكافي، ج 1، ص 221.
 
 
 
81

58

الفصل الأوّل: في التوكُّل

 تيقّن أنَّ مُقدّر جميع الموجودات واحد، وكلّ أمرٍ يحدث إنّما يختصّ حدوثه بوقته لاختصاص شرطه وآلته وسببه به، وعلم أنّه لا تأثير للتعجيل في الطلب ولا للتأنّي في الدفع، وجعل نفسه من جملة الشروط والأسباب لكي يتخلّص من التعلّق بأمور العالَم حتّى يكون مجدّاً في ترتيب ما يخصّه، أكثر من غيره، وبحقيقة المعنى يتصوّر "أليس الله بكافٍ عبده"1 .

وحينئذٍ يكون من المتوكّلين ويكون قوله تعالى: "فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ"2 نازلاً في حقّه وأمثاله.
 
 

1- سورة الزمر: الآية 36.
2- سورة آل عمران: الآية 159.
 
 
 
 
82

59

الفصل الثاني: في الرضا

قال الله تعالى: "لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ"1 .

الرضا: هو ثمرة المحبّة، ومقتضى عدم الإنكار، سواء في الظاهر أم الباطن أم القلب وسواء في القول أم العمل.

ومطلوب أهل الظاهر هو أنْ يرضى الله تعالى عنهم، ليأمنوا من سخطه وعقابه.

ومطلوب أهل الحقيقة هو أنْ يرضوا عن الله تعالى2، وإنّما يحصل لهم ذلك إذا لم يختلف عندهم شيء من الأحوال المتقابلة كالموت والحياة والبقاء والفناء والصحة والمرض والسعادة والشقاوة والغنى والفقر، ولا يُخالف شيء من ذلك طباعهم، ولا يترجّح شيء منها على الآخر عندهم؛ لأنّهم عرفوا أنّ صدور الجميع عن الباري تعالى، وترسّخت محبّته في طباعهم، فلا يطلبون على إرادته تعالى مزيداً البتّة فيرضون بالحاضر كيف كان.

وبعض المشايخ الكبار في هذه المرتبة عاش سبعين سنةً "ولم يقل لشيء كان: ليته لم يكن، ولا لشيء لم يكن: ليته كان". وسُئل بعض المشايخ: ما وجدت من أثر الرضا؟ قال: "ما وصلني من الرضا إلّا رائحته، ومع ذلك لو جُعِلْتُ صراطاً على جهنّم، والخلائق من
 
 
 
 

1- سورة الحديد: الآية 23.
2- إشارة لقوله تعالى: "رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ" سورة المائدة: الآية 119.
 
 
 
84
 

60

الفصل الثاني: في الرضا

الأوّلين والآخرين يجوزون عليه ويدخلون الجنّة، وأُدخَل أنا النار لم يخطر ببالي لِمَ صار حظّي من دون الخلائق ذلك". فكلُّ من ساوى عنده الأحوال المختلفة المذكورة، ويرسخ ذلك عنده, كان مراده في الحقيقة هو وقوعها، ومن هنا قيل: "كلّ من كان مراده، ما وقع كان كلّ ما وقع مراده".

وإذا تحقّق رضا الله سبحانه وتعالى عن العبد فإنّ رضا العبد عن الله يكون حاصلاً أيضاً، قال تعالى: "رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ"1

فكلُّ من خطر بباله أمرٌ، من الأمور الواقعة أو من المُمكنة الوقوع، لم يكن له من الرضا نصيب، وصاحب مرتبة الرضا، لم يزل مستريحاً، لأنّه لم يوجد منه أُريد ولا أُريدُ، لأنّ كليهما عنده واحد "وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ"2 فسمّي بَوّاب الجنّة رضواناً، وقيل: "الرضا بالقضاء باب اللهِ الأعظم "3, إذ كلّ من وصل إلى الرضا وصل إلى الجنّة، وفي كلّ ما ينظر ينظر بنور الرحمة الإلهيّة "والمؤمن ينظر بنور اللهِ"4 .

فإنَّ الباري تعالى هو موجد جميع الموجودات، لو كان له إنكار على بعضها، لاستحال وجود ذلك الشيء، ولأنّه لم يُنكر أيّ أمر فهو راضٍ عن كلِّ شيء فلا يتأسّف على أمرٍ فائت، ولا يفرح بأمرٍ حادثٍ، "إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُور"5
 


1- ورد هذا النص في سورة البيّنة: الآية 8 والمجادلة: الآية 22 والمائدة: الآية 119 والتوبة الآية 100.
2- سورة التوبة: الآية 72.
3- شرح الأسماء الحسنى، الملا هادي السبزواري، ج1، ص 51.
4- لقول للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في بحار الأنوار: ج 7، ص 323, باب 16, الرواية 16.
5- سورة الشورى: الآية 43.
 
 
86
 

61

الفصل الثالث:في التسليم

قال الله سبحانه وتعالى: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما"1.

المراد من التسليم هنا: أنّ كلَّ ما ينسبه السالك إلى نفسه يُفوِّض أمره فيه إلى الله سبحانه.

وهذه المرتبة أعلى من مرتبة التوكُّل، إذ في التوكُّل ما يُعوّل فيه على الله بمنزلة جعل الله وكيلاً فيه، فلا زال تعلُّقه بذلك العمل باقياً.

وهذه المرتبة هي أعلى أيضاً من مرتبة الرضا، فإنّ الراضي هو أنْ يكون ما يفعله لله تعالى موافقاً لطبعه، وفي مرتبة التسليم يُسَلّمُ الطبع وموافقه ومخالفه إليه تعالى، لأنّه ليس له طبع حتّى يكون له موافقة ومخالفةٌ، وقوله تعالى: "لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ"2 هو من مرتبة الرضا، وقوله تعالى: "وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً"3 من مرتبةٍ أعلى منها.

وإذا نظر السالك نظرة محقِّق، فإنّه يجد أنّه لم يصل إلى حدّ الرضا ولا حدّ التسليم، لأنّه في كلتيهما يكون له وجود بإزاء الحقّ



1- سورة النساء: الآية 65.
2- الآية نفسها.
3- الآية نفسها.
 
 
 
87
  
 

 


62

الفصل الثالث:في التسليم

تعالى، حتّى يكون هو راضياً والحقّ سبحانه مرضيّاً عنه، وهو مؤدٍّ لهذا الحقّ والله سبحانه قابل لهذا الأداء، وفي هذه الاعتبارات يُصبح التوحيد منتفياً.
 
 
 
 
 
 
88
 

63

الفصل الرابع: في التوحيد

قال الله تعالى: "وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ"1 .

التوحيد: هو القول بالوحدة وفعل الوحدة.

والأوّل: هو شرط الإيمان الّذي هو مبدأ المعرفة، أعني التصديق بأنَّه تعالى واحدٌ "إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ"2 .

والثاني: هو كمال المعرفة، الحاصل بعد الإيمان، وذلك هو أنْ يتيقن أنّه ليس في الوجود إلّا الله تعالى وفيضه وليس لفيضه وجود بانفراده فينقطع نظره عن الكثرة، ويجعل الجميع واحداً ولا يُبصر إلّا واحداً فيكون قد جعل للكثير وحدةً في سرّه وصار من مرتبة "وحده لا شريك له في الإلهيّة" إلى مرتبة "وحدهُ لا شريك له في الوجود". وفي هذه المرتبة صار جميع ما سوى الله تعالى حجاباً لهُ، ونظرهُ إلى غير اللهِ شركاً مطلقاً، ولسان حاله يقول: "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ"3 .
 
 

1- سورة الإسراء: الآية 39 و 22.
2- سورة النساء: الآية 171.
3- سورة الإنعام: الآية 79.
 
 
 
89
  

64

الفصل الخامس: في الاتحاد

قال الله تعالى: "وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ"1 وقال "وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ"2 .

والأولى إشارةٌ إلى الاتّحاد، فإنّه كون الشيء في نفسه واحداً، والثانية إشارةٌ إلى التوحيد، فإنَّه جعل الشيء واحداً.

والاتّحاد أبلغ، فإنَّ في التوحيد شائبة تكلُّفٍ ليس في الاتّحاد، فإذا ترسَّخت وحدة المطلق ـ في الضَّمير حتّى لا يلتفت إلى الكثرة، بوجه من الوجوه ـ فقد وصل إلى مرتبة التوحيد.

وليس المراد من الاتّحاد ما توهّمه جماعةٌ قاصرو النظر أنّه هو أنْ يتّحد العبد بالله، "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً"3، بل هو أنْ لا ينظر إلّا إليه من غير أنْ يتكلّف، ويقول كلّ ما عداه قائم به، فيكون الكلّ واحداً، بل من حيث إنّه إذا صار بصيراً بنور تجلّيه، لا يُبصر إلّا ذاتهُ تعالى لا الرائي ولا المرئي به، ودعا الحسين بن منصور الحلّاج قال: 

بيني وبينك إنّي يُنازِعُني     فارفع بلطفك إنّي من البين4



1- سورة القصص: الآية 88.
2- سور الإسراء: الآية 39.
3- الآية "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً" سورة الإسراء: آية 43.
4- ديوان الحلاج: ص 90.
 
 
91
 
 

65

الفصل الخامس: في الاتحاد

فاستجاب الله دعوته ورفع إنّيته حتّى استطاع أنْ يقول: "أنا من أهوى ومن أهوى أنا". وفي هذا المقام يتّضح أنّ من قال: "أنا الحقّ" ومن قال: "سبحاني ما أعظم شأني" لم يدَّعِ الألوهيَّة، بل ادّعى نفي إنّيّته، وإثبات إنَّيّة غيره، وهو المطلوب.
 
 
 
 
92
 

66

الفصل السادس:في الوحدة

قال الله تعالى: "لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ"1 .

وهذا فوق الاتّحاد، إذ يُشمُّ من الاتّحاد الّذي هو الصيرورة واحداً رائحة الكثرة وليس في الوحدة تلك الشائبة2 .

والسكون والحركة والفكر والذكر والسير والسلوك والطلب والطالب والمطلوب والنقصان والكمال هناك كلُّها منعدمة، "إذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكوا"3 .
 

1- سورة غافر: الآية 16.
2- الوحدة ضدّ الكثرة.
3- وفي رواية بحار الأنوار: ج 3، ص 259: "إذا انتهى...".
 
 
 
 
93

67

الفصل السابع:في الفناء

قال الله تعالى: "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ"1 .

في الوحدة لا سالك وسلوك ولا سير ومقصد ولا طلب وطالب ومطلوب "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ". وإثبات هذا الكلام والبيان ونفيهما أيضاً مفقود. والإثبات والنفي متقابلان، والاثنينيّة مبدأ الكثرة، وليس هناك نفي وإثبات ولا نفي النفي أو إثبات الإثبات، وكذا ليس نفي الإثبات أو إثبات النفي.

وهذا ما يُسمّى بـ ( الفناء)، ومعاد الخلق إليه كما أنّ مبدأهم منه "كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ"2 .

وللفناء حدّ إلى الكثرة "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ"3 . والفناء ليس، بهذا المعنى أيضاً، كلّ ما ينطق به أو يُتوهُّم



1- سورة القصص: الآية 88.
2- سورة الأعراف: الآية 92. 
 لا شكَّ أنْ من يتيقّن أنّ الممكنات بأسرها أعدام صرفة في نفسها، ثُمَّ أحاط على قلبه نور عظمة الله وجلاله بحيث بهره وغلب على قلبه حتّى أغفله عن غيره، حينئذٍ لا يرى في نظر شهوده إلّا هو ويغيب عنه غيره، وممّا يُقرِّب هذا المعنى: أنّ المشغول بالسلطان والمستغرق في ملاحظة سطوته ربما غفل عن مشاهدة غيره، وأنّ العاشق قد يستغرق في مشاهدة جمال معشوقه ويبهره حبّه بحيث لا يرى غيره مع تحقّق الكثرة عنده، وأنّ الكواكب موجودة في النهار مع أنّها لا تُرى لمغلوبيّة أنوارها واضمحلالها في جنب نور الشمس. فلا استبعاد في أنْ يغلب نور الوجود الحقيقيّ القاهر على الموجودات الخفيفة الإمكانية ويقهرها، وهذه المشاهدات الّتي لا يظهر فيها إلّا الله الواحد لا تدوم بل هي كالبرق الخاطف والدوام فيها عزيز نادر.
3- سورة الرحمن: الآية 26.
 
 
 
 
 
95
 

  

68

الفصل السابع:في الفناء

أو ما يدركه العقل، كلّ ذلك ينتفي "إِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ"4 . وهذا ما أردنا إيراده في هذا المختصر، وهنا نقطع الكلام.

السّلام على من اتّبع الهدى، سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّدٍ وآله الطاهرين الطيّبين الّذين نُقلوا من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات والّذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً
 

 
4- سورة هود: الآية 123.
 
 
 
 
 
96

69
أوصاف الأشراف