المقدمة
المقدمة
إن رسالة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هي الدعوة إلى الله سبحانه، وهذا هو المائز الأساس في النظام الإسلامي، ومسألة الإيمان بالله وبالغيب هو الطريق الوحيد لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. وبهذه المسألة يتحدى نظام الجمهورية الإسلامية كل الأنظمة المادّية في العالم، فالإيمان بالله هو طريق الأنبياء وعلى نهجهم الأولياء.
إن الإيمان بالله تعالى يمكّن الناس من الحصول على كلّ ما يحتاجون إليه في حياتهم المادّية ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾1
وللإيمان بالله دور بارز في الاستقرار المعنوي للبشرية أيضاً قال تعالى: ﴿قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾2
وإن أفضل هادٍ ومرشد بعد الأنبياء وبعد رسل السماء هم الأئمة عليهم السلام، وعلى نهجهم وخطاهم سار الأولياء والعلماء، من هنا كانت خطابات وكلمات الإمام الولي السيّد علي الخامنئي لا على مدار عام كامل (2010م) مليئة بالإرشاد والهداية. مليئة بالفكر والعبر، مليئة بالحكمة والموعظة الحسنة، في شتّى المناسبات، وعلى جميع الأصعدة، وفي أحلك الظروف وأهونها. إنّه طبيب دوّار بطبّه، وقائد لا مثيل له في هذا العصر.
من هنا عمل مركز نون للتأليف والترجمة في جمعية المعارف الإسلامية، على جمع كل خطابات الولي القائد، وإعادة ترتيبها بحسب مناسباتها الزمانية، وأشرف على ترجمتها وتبويبها ووضع العناوين لبعض الفقرات. سائلاً المولى أن يكون هذا الكتاب عَلَماً لكلّ مستهدٍ ومشعلاً لكل مستنير ومنهلاً لكل ظامئ وأن يتقبل منّا هذا الجهد ويحفظ لنا هذا العلم المعطاء ويديمه ذخراً لأمتنا الإسلامية حتّى يظهر الله وليّه عجل الله تعالى فرجه الشريف إنه نعم المولى ونعم المجيب.
مركز نون للتأليف والترجمة
1 ـ سورة المائدة، الآية 66.
2ـ سورة المائدة، الآيتان 15 ـ 16.
7
3
الدرس الأول: التأكيد على أهمية البصيرة ومعرفة الأعداء
الدرس الأول: التأكيد على أهمية البصيرة ومعرفة الأعداء
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في ذكرى 19 دي
المناسبة: الذكرى السنوية لانتفاضة التاسع عشر من شهر "دي"
الحضور: جمع من أهالي قم المقدسة
المكان: طهران
الزمان: 19 /10/1388 .ش.
23/1/1431.ق.
09/01/2010م.
9
4
الدرس الأول: التأكيد على أهمية البصيرة ومعرفة الأعداء
بسم الله الرحمن الرحيم
في كل عام يستعرض الشعب الإيراني كافة، وخصوصاً أهالي قم الأعزاء، أصحاب البصيرة، يستعرضون ذكرى التاسع عشر من دي أمام مستكبري العالم كمقطع تاريخي بليغ معبّر.. وهو استعراض في محله.. الحق أن حدثاً مثل التاسع عشر من دي جدير بالاستعراض أمام أنظار الأعداء. إنه حدث عظيم، بالتأمّل والتدقيق من أبعاد مختلفة: البصيرة تتموّج في هذا الحدث، وكذلك تشخيص الظرف، ومعرفة الأعداء، مضافاً إلى الجهاد والإقدام والتضحية. هذه أبعاد حدث عظيم وقع في التاسع عشر من دي سنة 56 أي قبل اثنين وثلاثين عاماً. من جهة أخرى أضحى ذلك الحدث منطلق تحوّل وحركة وتيار جارف في الشعب الإيراني. إذن، الحدث حدث مهم حقاً ترك تأثيره يومذاك، واليوم أيضاً حيث تحيون ذكراه وذكرى شهدائه من رجال الدين أو من غير رجال الدين، لا يزال يترك تأثيراته ويعطي دروسه ويُسبغ البصيرة ويشير لنا إلى اتّجاه التحرك.
أيام السنة متشابهة بعضها مع بعض بشكل طبيعيّ. والبشر بإرادتهم وجهادهم هم الذين يرفعون يوماً معيناً بين باقي الأيام ويجعلونه متميزاً مختلفاً ويُعلونه كالراية التي تهدي الآخرين. إن يوم عاشوراء ـ بما هو العاشر من المحرم ـ لا يختلف في ذاته عن باقي الأيام، إنما الحسين بن علي عليهما السلام هو الذي يمنح هذا اليوم الروح والمعنى ويرفعه إلى العرش. جهاد أصحاب الحسين بن علي عليهما السلام هو الذي يضفي على هذا اليوم كلّ تلك الخطورة والأهمية. وكذلك الحال بالنسبة ليوم التاسع عشر من دي، الذي له هذا العام أيضاً نفس الحالة. التاسع من دي لا يختلف عن العاشر من دي، إنما الجماهير هم الذين جعلوه بتحرّكهم يوماً متميّزاً.. وتحركهم كان نابعاً من نفس العوامل التي خلقت حركة التاسع عشر من دي في قم، أي إنه كان نابعاً من البصيرة، وتشخيص العدو، ومعرفة الظرف الزمني، والحضور الجهادي في الساحة.
كونوا على ثقة من أن يوم التاسع من دي لهذا العام قد خُلّد في التاريخ، وأصبح بدوره يوماً متميزاً. بمعنى من المعاني ربما يمكن القول إنّ تحرك الجماهير هذا اكتسب في الظروف الراهنة ـ وهي ظروف ضبابية ملتبسة ـ أهمية مضاعفة.. كان عملاً كبيراً.
كلما فكّر الإنسان في هذه الأمور وجد يد الله تعالى، ويد قدرته، وروح الولاية، وروح الحسين بن علي عليهما السلام فيها. هذه الأعمال ليست أعمالاً تتمّ
10
5
الدرس الأول: التأكيد على أهمية البصيرة ومعرفة الأعداء
وتُنجز بإرادة أمثالنا، إنما هي من عمل الله وتنمّ عن يد القدرة الإلهية، مثلما قال لي الإمام الخمينيّ في ظرف حساس ـ وقد رويت قوله هذا مراراً ـ قال: "إنني طوال هذه الفترة كنت أرى يد القدرة الإلهية وراء هذه الأمور".. وحقٌّ ما رأى ذلك الرجل الإلهيّ ذو البصيرة الثاقب النظر. المهمة أصعب في ظروف الفتنة، والتشخيص أشد صعوبة.
طبعاً الله تعالى يتمُّ الحجة دوماً، ولا يدع للناس عليه عزّ وجلّ سبيلاً وحجة ليقولوا له إنك لم تتمّ الحجة علينا، ولم تبعث هادياً لذلك ضللنا وسرنا في الطريق الخطأ. هذا معنى مذكور في القرآن مراراً. يمكن رؤية يد الإشارة الإلهية في كلّ مكان، لكن ذلك يحتاج إلى عين مفتوحة. إذا لم نفتح أعيننا فلن نرى هلال الليلة الأولى من الشهر، لكن الهلال موجود. يجب أن نفتح أعيننا وننظر وندقّق ونستثمر جميع إمكاناتنا حتى نرى هذه الحقيقة التي وضعها الله أمام أعيننا.
المهمّ هو أن يمارس الإنسان هذا الجهاد، إنه جهاد لصالح الإنسان نفسه. والله تعالى يمدّ له يد العون في هذا الجهاد. يوم التاسع عشر من دي وما اشتمل عليه من انتفاضة لأهالي قم في سنة 56 كان من هذا القبيل. ويوم التاسع من دي لهذه السنة الذي سطّره جميع أبناء الشعب في بلادنا ـ والحق أنّ هذا التحرّك المليونيّ الخارق للعادة من قبل الشعب كان تحركاً عظيماً ـ كان من هذا القبيل، وغير ذلك من الأمور المختلفة التي شهدناها ولم تكن قليلة طوال الثورة. هذا الجهاد هو الذي يدلّنا على الطريق.
لاحظوا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام في حرب صفّين لم يكن يقف بوجه الكفّار. الجبهة التي وقفت أمام أمير المؤمنين عليه السلام كانت جبهة يقيم رجالها الصلاة، ويقرأون القرآن، ويحافظون على حسن الظاهر.. كانت العملية صعبة جداً. مَن الذي يجب أن يمارس مهمة التنوير هنا ويكشف الحقائق للناس؟ بعضهم تزلزلَ حقاً. حينما يقرأ المرء تاريخ حرب صفّين ترتعد فرائصه. في هذه الصفوف الهائلة التي سار بها أمير المؤمنين ووصل بها إلى تلك المنطقة الحساسة ـ منطقة الشامات ـ ليقف بوجه معاوية، كانت تحدث زلازل.. وقد حدثت هذه الزلازل عدة مرات.. وقد استمرّت القضية عدّة شهور. تارة يأتي الخبر أن شخصاً في الجبهة الفلانية قد طرأت له شبهة وبدأ يقول: لماذا نحن نحارب؟ وما الفائدة من ذلك؟ وكذا، وكذا.. في مثل هذه الأحوال كان أصحاب أمير المؤمنين ـ أي في الحقيقة أصحابه الخواصّ الخلّص الذين كانوا معه منذ أوّل الإسلام ولم ينفصلوا عنه ـ يتقدّمون لحلّ المشكلة. ومن بين أولئك سيّدنا عمّار بن ياسر لإ الذي كان يأخذ على عاتقه أهمّ المهمّات. ذات مرة أخذ عمّار بن ياسر ـ يبدو أنه كان عماراً ـ يستدّل ويبرهن. لاحظوا ما هي البراهين التي يستطيع الإنسان أن يطرحها دوماً كبراهين حية. لاحظ عمار أن بعضهم اعترتهم شبهة، فسار إليهم وألقى فيهم خطبة. وكان مما قاله في تلك الخطبة إنّ الراية التي ترونها في الجبهة المقابلة قد رأيتها أنا يوم أحد ويوم بدر مقابل رسول الله ـ راية بني أمية ـ فقد وقف تحت هذه الراية يومذاك نفس الذين يقفون اليوم تحت هذه الراية.. معاوية وعمرو بن العاص. في معركة أُحُد كان معاوية وعمرو بن العاص وسائر رؤساء بني أمية يقفون بوجه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكانت الراية راية بني أمية. قال: هؤلاء الذين ترونهم تحت هذه الراية كانوا تحت نفس هذه الراية مقابل الرسول، وقد رأيت هذا بعيني. وهذا الجانب الذي يقف فيه أمير
المؤمنين والراية التي يرفعها أمير المؤمنين اليوم ـ أي راية بني هاشم ـ كانت أيضاً في معركتي بدر وأُحُد، وكان يقف تحتها نفس الأشخاص الذين يقفون تحتها اليوم أي عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأنصاره وصحبه. فهل هناك أفضل من هذه العلامة؟ لاحظوا كم هي علامة جيدة. الراية نفس راية معركة أُحُد. الأشخاص نفس الأشخاص في هذه الجبهة وتلك الجبهة. الفرق بين الحالتين أنهم كانوا يومذاك يدّعون الكفر ويعترفون به ويفخرون به، وهم اليوم أنفسهم تحت
11
6
الدرس الأول: التأكيد على أهمية البصيرة ومعرفة الأعداء
نفس الراية يدّعون الإسلام ومناصرة القرآن والرسول، لكن هم نفس الأشخاص ونفس الراية.. هذه بصيرة. وهذا هو ما نقصده حينما نشدّد على أهمية البصيرة.
منذ بداية الثورة، وعلى مدى الأعوام الطويلة، من هم الذين وقفوا تحت راية العمل ضد الإمام والثورة؟ أمريكا كانت تحت هذه الراية وبريطانيا والمستكبرون، والرجعيون المرتبطون بنظام الاستكبار والهيمنة.. كانوا كلهم مجتمعين تحت تلك الراية، وهم كذلك اليوم أيضاً. حينما تنظرون اليوم أيضاً لكم أن تتساءلوا: أين تقف أمريكا منذ ما قبل انتخابات سنة 88 طوال الأشهر السبعة أو الثمانية المنصرمة وإلى اليوم؟ وأين تقف بريطانيا؟ وأين تقف وكالات الأنباء الصهيونية؟ وأين تقف التيارات المعادية للدين في الداخل، من تيار (توده) إلى تيار الملكيين، إلى باقي الفئات والجماعات اللادينية؟ نفس أولئك الذين ناصبوا الإمام الخمينيّ والثورة العداء منذ بداية الثورة، ورموا أحجارهم وأطلقوا نيرانهم ومارسوا الإرهاب.. بعد ثلاثة أيام من انتصار الثورة في الثاني والعشرين من بهمن جاء هؤلاء بهذه المسمّيات أمام محلّ إقامة الإمام الخمينيّ في شارع إيران، وراحوا يهتفون، وهم اليوم يهتفون أيضاً في الشوارع ضدّ النظام والثورة! لم يتغيّر شيء.
كان اسمهم يساراً وأمريكا تقف من ورائهم.. كان اسمهم اشتراكيين وليبراليين وطلاب حرية تقف وراءهم جميع أجهزة الرجعية والاستكبار والاستبداد الصغيرة والكبيرة في العالم! وكذا الحال اليوم. هذه علامات ومؤشّرات، والمهمّ أن يفهم الشعب هذه المؤشّرات. هذه أشياء لو شكر الإنسانُ اللهَ عليها مئات المرات لما وفّاها حقّها.
هذا الشعب العظيم بمختلف شرائحه من شتىّ أنحاء البلد ينظرون إلى الساحة ويعرفونها.. إنه لشيء كبير ومهمّ. لذلك أقول إنّ يوم التاسع من دي سيبقى خالداً في التاريخ. الشعب يقظ وهذا ما يحفظ بلادكم يا أعزائي. هذا ما حفِظ ثورتكم، وهو ما سلب زعماء الاستكبار جرأتهم على الهجوم على شعب إيران.. إنهم يخافون.
في الإعلام يأتون بزيد وعمرو وبكر إلى الواجهة ويمارسون القصف الإعلامي، بيد أنّ حقيقة القضية شيء آخر. عدوّهم الحقيقيّ هو الشعب الإيرانيّ. عدوّهم الحقيقيّ إيمان الشعب الإيرانيّ وبصيرته. عدوّهم الحقيقيّ هذه الغيرة الدينية المتفجّرة لدى الشباب. أحياناً يصبرون ويتحمّلون، ويجب أن يتحمّلوا، ولكن يأتي وقت ينـزلون فيه إلى الساحة إذا آن أوان النـزول إلى الساحة.تحليل الأحداث الجارية في بلادنا ليس تحليلاً منفصلاً عن أحداث العالم. أحداث العالم وأحداث المنطقة متصل بعضها ببعض. جانب منها يتعلّق ببلادنا وهو الجانب الأصلي والأساس. والسبب هو أنّ الاستكبار يرى عقبة أمره ها هنا، وهذا يدلّ على ما يمكن للشعب وللمنظومة البشرية أن تمارسه من دور. وفي ضوء
هذه الحقيقة كان إمامنا الجليل يوجّه خطابه دوماً للأمة الإسلامية. الشعب إذا استيقظ كان بمستطاعه قلب جميع حسابات الاستكبار بهذه الصورة. المعمل الذي أنشأوه وخطّ الإنتاج الذي أطلقوه لأجل تثمير أهدافهم الاستكبارية، يمكن ليقظة الشعب أن تُبطئ حركته أو تعطّلها.
ماذا سيحدث لو نزلت جمع الشعوب المسلمة إلى الساحة؟ لو تحلت جميع الشعوب المسلمة بهذه البصيرة وهذا الاستعداد وهذا الحضور في الساحة، فما الذي سيحدث في العالم؟ إنهم يخافون من هذا. يريدون لأصواتنا أنا وأنتم أن تخفت ولا تصل إلى أسماع الشعوب الأخرى. يريدون أن يفعلوا ما من شأنه أن يُنتج عدم تفهم الشعوب الأخرى مدى تأثير يقظة الشعب وبصيرته على أحداث العالم.
12
7
الدرس الأول: التأكيد على أهمية البصيرة ومعرفة الأعداء
وأذكر نقطة للشباب الثوريّ العزيز ولأبنائي الثوريين الأعزاء.. لأبنائي أثناء التعبئة ـ من النساء والرجال: الشباب من مختلف أنحاء البلاد غاضبون مما يسمعونه أو يرونه من استهتار الأجانب بإيمانهم الديني.. حينما يرون كيف يهتك بعض الناس في يوم عاشوراء حرمة عاشوراء وحرمة الإمام الحسين عليه السلام وحرمة المعزّين الحسينيين، تُعتصر قلوبهم وتمتلئ صدورهم بالغضب. وهذا طبيعيّ ومن حقهم، لكني أريد أن أقول للشباب الأعزاء أن يدقّقوا ويحذروا لأنّ أيّ عمل غير مدروس سيساعد الأعداء. يتّصل الشباب هنا ـ أنا أفهم ذلك، وأقرأه، وغالباً ما يلخّصون الاتصالات والرسائل ويأتون بها إليَّ كلّ يوم وأراها ـ وأرى أنّ الشباب مستمرون في عتابهم وألمهم وغضبهم، وأحياناً يعتبون عليَّ ويلومونني ويقولون: لماذا فلان صابر؟ لماذا فلان يلاحظ ويتحفّظ؟ أقول إنّه في الظروف التي يعمل فيها العدوّ بكلّ كيانه وإمكاناته على التخطيط للفتنة ويروم بدء لعبة خطيرة ينبغي الحذر والتدقيق لكي لا نساعده في هذه اللعبة.
ينبغي التصرّف بمنتهى الحيطة والتدبير، والحسم في الوقت المناسب. هناك أجهزة ومؤسّسات مسؤولة، وهناك قوانين، وينبغي تطبيق نصّ القوانين بشكل قاطع وبدون أيّ تجاوز للقانون. لكن دخول أشخاص ليس لهم شأن قانونيّ وصفة قانونية وواجب قانونيّ ومسؤولية قانونية سوف يُفسد الأمور. لقد أمرنا الله تعالى بالعدل: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾1 نعم، بعضهم يمارس العداء، وبعضهم يمارس الخبث، وبعض يدعم الخبثاء.. هذه كلها أمور واقعة، ولكن ينبغي التحوّط.
إذا خاض الإنسان في بعض الأمور من دون تدقيق وهضم للمسائل فسوف يُسحق أناسٌ أبرياء هم ممتعضون من أولئك.. وهذا ما يجب أن لا يحدث. إنّني أحذّر الشباب الأعزاء، أبنائي الثوريين الأعزاء، من أن يقدموا على ممارسات غير مسؤولة تؤدي للإنفلات، لا، كل شيء يجب أن يجري ضمن سياق القانون.
مسؤولو البلاد عيونهم مفتّحة والحمد لله، وهم يرون بأيّ اتّجاه يسير الناس. الحجّة تامّة على الجميع. الحركة العظيمة في يوم الأربعاء التاسع من دي أتمت الحجّة على الجميع. مسؤولو السلطة التنفيذية، ومسؤولو السلطة التشريعية، ومسؤولو السلطة القضائية، والأجهزة المختلفة، يعلمون كلّهم
1- سورة المائدة، الآية 8.
8
الدرس الأول: التأكيد على أهمية البصيرة ومعرفة الأعداء
ماذا يُريد الجماهير في الساحة. على الأجهزة المختّصة القيام بواجباتها.. سواء واجباتها حيال العناصر المفسدة والمعادية للثورة والمثيرة للشغب والمخربة للأمن، أو واجباتها فيما يتّصل بإدارة البلاد.
قضايا البلاد ليست كلّها قضايا الاضطرابات وأعمال الشغب. للبلاد قضاياها الاقتصادية، والعلمية، والسياسية، والدولية، والأمنية، ومئات القضايا الهامّة التي هي على عاتق المسؤولين والمدراء والتي عليهم معالجتها والنهوض بها.. عليهم إدارة البلاد والتقدّم بها إلى الإمام. يريد العدوّ بهذه الأحداث إيقاف عجلة البلاد. ينبغي عدم مساعدة العدوّ. يريد العدوّ بمثل هذه الحوادث إيقاف عجلة التقدّم الاقتصاديّ في البلاد. يروم الأعداء إيقاف عجلة التقدّم العلميّ في البلاد والتي بدأت بالحركة والحمد لله حيث انطلقت مسيرة علميّة جيّدة وصاعدة في بلادنا. يروم العدو النيل من الإسهام السياسيّ المقتدر للجمهورية الإسلامية في المحافل الدولية والذي اكتسب اليوم أشكالاً وتجلّيات أبرز وأقوى من السابق. لذلك ينبغي عدم مساعدة العدو بمثل هذه الأمور. يجب بالتالي على المسؤولين النهوض بمسؤولياتهم وواجباتهم باقتدار وقوة ودقة في المجالات الاقتصادية، أو العلميّة، أو السياسيّة، أو الاجتماعية أو غيرها من المجالات. كما ينبغي استمرار التعاون مع الحكومة ومسؤولي البلاد. وقد أبدى الناس حضورهم في الساحة.أعظم ثروة بالنسبة لنظام من الأنظمة هو أن تدعمه الجماهير. جاءوا وأرادوا بزعمهم تشويه هذه الحركة الجماهيرية فقالوا: مظاهرات حكومية. ولم يفهم البلهاء أنّهم بكلامهم هذا إنّما مدحوا الدولة والحكومة. أيّة دولة هذه التي تستطيع في ظرف يومين ـ يوم عاشوراء كان الأحد حيث مارسوا ذلك الخبث، وانطلقت هذه الحركة العظيمة يوم الأربعاء ـ تعبئة مثل هذه الحشود الشعبية الهائلة في كافّة أنحاء البلاد؟ أية دولة أخرى وأيّ بلد آخر لهما في زماننا هذا مثل هذه المقدرة؟ أقوى دول العالم وأكثرها ثراء ـ والّتي تبذّر كثيراً في سبيل التجسّس والتخريب وتدريب الإرهابيين ـ لو بذلت كلّ جهودها لما استطاعت خلال يومين الإتيان بمئات الآلاف من الأفراد إلى الشوارع.. أن يخرج عشرات الملايين من الناس في مختلف أنحاء البلاد إذا كانوا قد خرجوا بأمر الدولة فهذه دولة مقتدرة جداً وقوية جداً لديها مثل هذه القدرة على التعبئة. بيد أن الحقيقة غير ذلك. الحقيقة هي أنّه لا توجد في بلادنا دولة وشعب، فالكلّ شيء واحد، والمسؤولون والدولة ابتداء من شخصي المتواضع إلى الآخرين كلنا قطرات في هذا المحيط الهائل، محيط الشعب.
رحمة الله على روح إمامنا الجليل الطاهرة الذي كان رائد ومحفّز هذه الحركة الهائلة العظيمة. ورحمة الله على أرواح شهدائنا الأبرار الطاهرة الذين كانوا السبّاقين والطلائع في هذه المسيرة العظيمة..﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ﴾1 هؤلاء هم الذين فتحوا الطريق وبدأوه. ورحمة الله عليكم أيّتها الجماهير العزيزة وأيها الشباب الأعزاء الذين أبديتم كلّ هذه البصيرة والاستعداد، وبعثتم اليأس في نفوس الأعداء من التطاول على بلادكم ونظامكم وثورتكم. حفظكم الله ورعاكم إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
1- سورة الواقعة، الآيتان 10 -11.
14
9
الدرس الثاني: إستشهاد العالم الإيرانيّ عليّ محمّدي
الدرس الثاني: إستشهاد العالم الإيرانيّ عليّ محمّدي
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله نداء
المناسبة: استشهاد العالم الإيرانيّ عليّ محمّدي
الزمان: 15/01/2010م
15
10
الدرس الثاني: إستشهاد العالم الإيرانيّ عليّ محمّدي
أصدر سماحة آية الله العظمى السيّد عليّ الخامنئيّ قائد الثورة الإسلامية نداء عزّى فيه بمناسبة استشهاد العالم الإيرانيّ الدكتور مسعود عليّ محمّديّ. وفيما يلي ترجمة نصّ النداء:
15/01/2010م
نداء الإمام
الخامنئي دام ظله بمناسبة استشهاد العالم الإيرانيّ عليّ محمّدي
بسم الله الرحمن الرحيم
أهنّئ وأعزّي باستشهاد الأستاذ العالم المرحوم الدكتور السيّد مسعود عليّ محمّديّ رحمه الله والدته وزوجته وعائلته الكريمة وجميع أصدقائه وطلابه وزملائه.
اليد المجرمة التي أوردت هذه الخسارة علينا فضحت دوافع أعداء الجمهورية الإسلامية، ألا وهي توجيه الضربات للحركة والجهاد العلميّ في البلاد. لا ريب في أنّ همم العلماء والأساتذة والباحثين العلميين في البلاد سوف تحبط هذه الدوافع الخبيثة على الرغم من الأعداء. أسأل الله تعالى للشهيد السعيد علوّ الدرجات ولذويه الصبر والأجر.
السيّد عليّ الخامنئيّ
25 دي 1388هـ.ش.
16
11
الدرس الثالث: استخلاص العبر والدروس من الأحداث المختلفة
الدرس الثالث: استخلاص العبر والدروس من الأحداث المختلفة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في ذكرى 6 بهمن
المناسبة: الذكرى السنوية لملحمة أهالي آمل
الحضور: جمع غفير من أهالي محافظة مازندران
المكان: طهران
الزمان: 1926/01/2010م.
10/2/1431.ق.
6/11/1388.ش..
17
12
الدرس الثالث: استخلاص العبر والدروس من الأحداث المختلفة
بسم الله الرحمن الرحيم
أرحّب بجميع الإخوة والأخوات الأعزاء الذين تجشّموا عناء السفر من أماكن بعيدة ونوّروا الحسينية اليوم بأنفاسهم الدافئة وقلوبهم المشتاقة الواجدة. مرحباً بكم كثيراً أيها الإخوة والأخوات الأعزاءـ خصوصاً عوائل الشهداء الجليلة والعلماء المحترمين والمسؤولين الكادّين الخدومين ـ الذين جدّدتم ذكرى هذه الخاطرة الكبرى، أي السادس من بهمن، في الأذهان والخواطر، وهي من الملاحم البارزة للشعب الإيراني ويعود الفخر فيها لأهالي مدينة آمل.
نعم أنا أيضاً أعتقد أنه يجب أن لا يخبو في الأذهان بريق هذه الذكريات العظيمة والأحداث النادرة والمصيرية لتاريخ الثورة. ينبغي لجيلنا الشابّ أن يعرف هذه المناسبات بصورة صحيحة ويتمكّن من تحليلها ويجعلها نبراساً لطريقه المستقبليّ الحافل بالأحداث ولأهدافه السامية.
طبعاً مفاخر مازندران، وفي هذه المناسبة على الخصوص أهالي آمل، ليست بالقليلة، سواء في ميدان الجهاد في سبيل الله أو في ساحة العلم والفقه والمعرفة والعرفان. لآمل ـ والحقّ يُقال ـ وجه مشرق مجيد. واليوم أيضاً والحمد لله فإنّ الشخصيات العلمائية الكبيرة من آمل هي من مفاخر الحوزات العلمية ومن الأرصدة العلمية الدينية القيّمة في بلادنا. وأيضاً خلال الامتحان العظيم المتمثّل بالحرب المفروضة التي استمرّت ثمانية أعوام كانت مدينة آمل ومحافظة مازندران الكبرى من المناطق المجيدة في البلاد. كنت في حينها على معرفة بالألوية الموجودة في مازندران ومنتسبي التعبئة المنتمين إليها والشباب المضحين فيها. كنت أعرفهم من قريب أو بعيد وأعرف تضحياتهم وجهادهم. هذه أمور لن تبرح ذاكرة الثورة.
تلاحظون بناء شامخاً متيناً عظيماً.. فمن الذي وضع هذه اللبنات والأحجار بعضها على بعض لكي يرتفع هذا البناء؟ مَن الذي استطاع تنفيذ هذه الخريطة الفاخرة عملياً وإيجاد هذا الصرح؟ وهل يمكن تجاهل دور تلك الأحداث والشخصيات التي كان من شأن كدّها وعملها وجهادها وتضحياتها وشعورها بالمسؤولية أن يُكوّن هذا البناء ذرّة ذرّة ليرتفع ويتشكّل ويعظم؟ من الأخطاء التي تقع أحياناً تجاهل هؤلاء الذين مارسوا الأدوار الكبيرة.
"مدينة الألف خندق".. هل هذا تعبير قليل؟ وهل هو كلام بسيط؟ كانت قضية السادس من بهمن من الأهميّة بحيث أدرجها إمامنا الجليل في وصيّته
18
13
الدرس الثالث: استخلاص العبر والدروس من الأحداث المختلفة
التاريخية وجعلها ذكرى لكي لا تُنسى. فلماذا يجب أن لا تُنسى؟ لأنّ في الأحداث التاريخية دروساً وعبراً. القضايا التي تجري على الشعب غالباً ما تتكرّر في مقاطع التاريخ المختلفة. مضت الآن ثمانية وعشرون عاماً على ذلك الزمن، لكنّ طريق الجمهورية الإسلامية لم يتغيّر، وأعداء الجمهورية الإسلامية لم يتغيّروا. إذن ما حدث يومذاك يمكن أن يكون درساً وعبرة للحاضر وللمستقبل طالما كان الشعب الإيراني بحول الله وقوته محباً لهذه المبادئ وهذه الثورة. لذلك يجب أن لا تُنسى.
ولنقل كلمة أخرى في فضل السادس من بهمن في مدينة آمل: ما معنى "الألف خندق"؟ ظاهر الأمر هو أنّ الناس داخل المدينة أوجدوا خنادق لمجابهة الجماعات الشرّيرة المعتدية ـ إمّا أنّها كانت ألف خندق أو تزيد أو تنقص ولكن لي تفسير آخر: هذه الخنادق ليست خنادق الشوارع بل هي خنادق القلوب.
وهي ليست ألف خندق بل هي آلاف الخنادق، بعدد كلّ المؤمنين والمندفعين الشرفاء هناك خنادق لمواجهة هجمات الأعداء. إذا سار الشعب لنيل هدف معيّن ولم يعلم ما هي الأخطار التي تكمن له في الطريق وما الذي ينبغي أن يفعله في مواجهتها، وإذا ترك نفسه واستهتر ولم يحذر وكان غير مبالٍ فسوف يتلقّى الضربات. كافة الشعوب التي سارت باتّجاه هدف معيّن كبير وتلقت الضربات وسط الطريق وأحياناً سقطت سقوطاً لم تستطع النهوض منه لقرون، إنما ابتدأت مشكلتها من هنا: لم تعلم ما الذي ينتظرها ولم تهيئ نفسها لمواجهة ما صادفته في طريقها. دروس الماضي تساعدنا على فهم طريقنا ومعرفته ومعرفة الكمائن ومن فيها.
انتصرت الثورة الإسلامية بكلّ تلك العظمة. ووقف أبناء الشعب بأجسادهم وصدورهم العارية مقابل أسلحة النظام الجبار ونصروا الثورة. ثم جاء نفس هؤلاء الناس ومنحوا أصواتهم للجمهورية الإسلامية واختاروها. حسناً ما الذي يفعله الإنسان المنصف والشريف مقابل إرادة الشعب هذه؟ بعض الناس نزلوا إلى وسط الساحة وادّعوا مناصرة الجماهير والديمقراطية والشعب وعندها اصطدموا بنفس هذا الشعب الذي أسّس هذا النظام بأغلى الأثمان. كان فيهم المنافق والكافر الصريح والمناصر للغرب والمتظاهر بالدين. كل هؤلاء صاروا جبهة واحدة وحركة واحدة مقابل النظام الإسلاميّ والشعب الإيرانيّ. زعموا مناصرة الشعب واصطدموا بالشعب. زعموا التحيّز للديمقراطية وأصوات الشعب واشتبكوا مع أصوات الشعب ونتائج أصوات الشعب. زعموا الثقافة والاستنارة والتفكير الحرّ وتقبّلوا بطريقة متحجّرة الأطر المستعارة من المفكّرين الغربيين والممتزجة بسوء النوايا وسوء الطويّة. وقفوا بوجه الشعب الإيرانيّ. بداية أخذوا يعترضون على الإمام والجمهورية الإسلامية ومبادئ الإمام بالكلام الثقافيّ أو شبه الثقافيّ وراحوا يوجّهون النقد والكلام وما إلى ذلك، وبعد مدّة تركوا شيئاً فشيئاً المجاملات جانباً ونزلوا إلى الساحة وبدّلوا الصراع الفكري والسياسي إلى صراع مسلح وتوترات واضطرابات وأخذوا يعملون على إيجاد المشاكل والمتاعب. هذه أحداث وقعت في بلادنا وهي ليست من التاريخ البعيد بل وقعت في العقد الأول من الثورة. بدل أن يفكّروا ويتأملوا ما هي مشكلات البلاد - كانت بلادنا تواجه مشكلات كثيرة بعضها موروث عن الماضي وبعضها فُرض علينا - ويساعدوا على
19
14
الدرس الثالث: استخلاص العبر والدروس من الأحداث المختلفة
حلها ويّمدوا يد العون للمسؤولين فيقدّموا التوجيهات إذا بدا لهم أنهم يجب أن يقدموا التوجيهات، أو يتحمّلوا بعض الأعباء، بدل كل هذا راحوا يصطدمون ويعارضون ويسيئون، ثمّ جابهوا الناس أينما استطاعوا في القطاعات والمواطن المختلفة. كان البلد منشغلاً في الحرب على الحدود فلم يأبهوا حتى للحرب وراحوا يجابهون الجمهورية الإسلامية والنظام في شوارع طهران وعند تقاطع الطرقات وأينما استطاعوا.
ليس للجمهورية الإسلامية هويّة غير هويّة الشعب وإيمانه وعزيمته. وكذلك الحال اليوم أيضاً. نحن لسنا شيئاً نذكر. الله تعالى يحمي هذا النظام بواسطة هذا الشعب وهذه القلوب ﴿هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾1 يقول الله تعالى لرسوله إنّه أيّده بالمؤمنين. وكذا الحال بالنسبة للجمهورية الإسلامية اليوم أيضاً. ليس لدينا وسيلة أخرى. الوسيلة هي إيمان الشعب الذي يعدّ سلاحاً أمضى من أيّ سلاح ووسيلة أكثر تأثيراً من أية وسيلة أخرى. وكان الحال كذلك يومذاك أيضاً حيث نزل الناس إلى الساحة وانتصروا على هذه المؤامرات. طبعاً حينما يجري الانتصار على مؤامرة فليس معنى ذلك أن المؤامرات قد انتهت. العدو يقظ على كلّ حال ويختلق لعبة أخرى ومؤامرة أخرى وأحداثاً أخرى. إذا كان الشعب يقظاً فلن يؤثر ذلك شيئاً، حتى لو حاكوا مائة مؤامرة سيقف الشعب إزاءها ويواصل مسيرته. المسيرة الضخمة للشعب الإيرانيّ لن تتوقف. الشعب يتقدم ويواجه في الوقت نفسه المعارضات والعداوات والمضايقات. هذا هو الوضع الذي كان طوال هذه الأعوام الثلاثين.
كانت ثمة أخطاء لدى معارضي الجمهورية الإسلامية. وطالما بقيت فيهم فإنّ كل ما يفعلونه قد يسبّب للشعب بعض الإيذاء والمضايقة، لكنّه يعود على الأعداء أنفسهم بأضرار أكبر. من هذه الأخطاء أنّ معارضي الجمهورية الإسلامية غالباً ما تصوّروا أنفسهم فوق الشعب وأعلى منه. والخطأ الثاني أنهم ارتبطوا بأعداء هذا الشعب وعقدوا عليهم الآمال. هذان هما الخطآن الكبيران. عندما يعدون أنفسهم فوق الناس ستكون نتيجة ذلك أن الشعب إذا أراد شيئاً أو لم يرد شيئاً أو فعل شيئاً أو اختار شيئاً في إطار خطوة قانونية قال هؤلاء: لا. الناس كانوا عواماً وهذه نزعة عامية وپوپوليسم ونحن لا نرضى ذلك. هنا تظهر حالة التعالي على الشعب. ليس الادّعاء ملاكاً كأن يقولوا نحن شعبيون ومع الشعب، إنّما ينبغي إثبات الحالة الشعبية على المستوى العمليّ. هذا هو الإشكال الأوّل.
الإشكال الثاني أنهم يرتبطون بأعداء هذا الشعب الذين ثبت عداؤهم واتّضح. مَن الذي عادى هذا الشعب طوال هذه الأعوام الثلاثين؟ أمريكا والصهيونية بالدرجة الأولى. هل هناك أعدى من هذين للجمهورية الإسلامية؟ منذ اليوم الأوّل وقفت الحكومة الأمريكية والكيان الصهيونيّ والصهاينة في العالم بوجه نظام الجمهورية الإسلامية. وهم اليوم أيضاً - للحقّ والإنصاف - أعدى الأعداء. إنّني حينما أنظر أجد أحياناً أنّ بعض الحكومات الغربية تطلق كلاماً غير مدروس وغير ذي معنى. لكنّ المحفّز والمحرّض هم الصهاينة. الدافع هو الطبقة المتسلّطة المهيمنة على الحكومة الأمريكية
1- سورة الأنفال، الآية 62.
20
15
الدرس الثالث: استخلاص العبر والدروس من الأحداث المختلفة
والدولة الأمريكية والانتخابات الأمريكية. هم الذين يديرون المسرح. لذلك فهم ألدّ أعداء الشعب الإيرانيّ.
و إذا ارتبط بهم من يقف بوجه الشعب كان ذلك الخطأ. الارتباط بالعدوّ؟ حينما نرى هذا العدوّ ينزل إلى الساحة فيجب علينا أن نفهم ذلك ونعرفه. وإذا كنّا قد ارتكبنا خطأ فعلينا تلافي الخطأ وتصحيحه. تآمر الأمريكان ضدّ الجمهورية الإسلامية منذ اليوم الأوّل. ومن نافلة القول أنّ نقول إن هذه المؤامرات كانت عديمة التأثير. واضح أنّها كانت عديمة التأثير. لو لم تكن عديمة التأثير لما بقي أثر اليوم للجمهورية الإسلامية. وترون اليوم أنّ الجمهورية الإسلامية أقوى من يومها الأوّل عشرات المرّات. إذن كانت تلك المؤامرات عديمة التأثير. واليوم أيضاً لا يفتأون يرسمون الخطط الجديدة والمؤامرات ولا يعتبرون. وأنا أستغرب أنّهم لا يفكّرون في الماضي فيقولوا لأنفسهم: مارسنا كلّ هذه المؤامرات وأنفقنا كلّ هذه الأموال ضدّ الجمهورية الإسلامية، وذهبنا هنا وهناك والتقينا بهذا وذاك، وربّينا المرتزقة في الداخل، وعبّأنا في الخارج فلاناً وفلاناً ضدّ الجمهورية الإسلامية، فلم يؤثر ذلك شيئاً. يأتون مرّة أخرى ويصادقون على ميزانية قدرها 45 مليون دولار لإسقاط الجمهورية الإسلامية!. يصادقون على ميزانية للقضاء على ثورة إيران وإسقاط الجمهورية الإسلامية عن طريق الإنترنت! لاحظوا كم أن هذا العدوّ بائس وعاجز. كم 45 مليون دولار سابقة أنفقتموها لحدّ الآن؟ كم عملتم دبلوماسياً لهزيمة الجمهورية الإسلامية؟ وكم فرضتم من الحظر الاقتصاديّ وحِكتم صنوف المؤامرات وبعثتم الجواسيس ودربتموهم؟ فما الفائدة التي جنيتموها حتى تريدوا السير في هذا الطريق مرة أخرى لفصل الشعب الإيرانيّ عن الثورة حسب ما تتوهّمون؟ هذا ما لا يفهمه الأعداء. وهذه هي السنّة الألهيّة. إنّها الضرب على أعين العدوّ الغافل وآذانه من قبل الله تعالى حتى لا يفهم الحقائق ويبقى غافلاً ﴿فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً﴾1 ينفقون الأموال ثم يتحسّرون عليها لأنّها ذهبت هدراً. أنا لا أدري كم جلسوا وخطّطوا وعملوا حتى يستطيعوا إشعال اضطراب في طهران بذريعة من الذرائع. الله يعلم منذ كم من الوقت جلس هؤلاء وخطّطوا، فماذا كانت النتيجة؟ هل سوى أن استيقظ الناس أكثر مما كانوا؟ مستيقظين إذا كان شخص من أبناء الشعب يتصوّر أنّه لم يعد ثمة حاجة لحضوره في الساحة للدفاع عن نظام الجمهورية الإسلامية، فمع هذه الأحداث شعر الجميع أنّ عليهم الحضور دائماً للدفاع عن الجمهورية الإسلامية.
و أحياناً تُطلق هذه الألاعيب التي يختلقها العدو لأجل ابتزاز الجمهورية الإسلامية. وقد كان الحال كذلك في بداية الثورة أيضاً. بعض الألاعيب التي كانوا يقومون بها كانت من أجل أن يفرضوا على نظام الجمهورية الإسلامية إشراكهم في السلطة من دون استحقاق ومن دون أن يكون الناس قد أرادوا ذلك ومن دون رصيد شعبيّ وجماهيريّ. أحياناً يختلق أعداؤنا في العالم هذه الضجة من أجل فرض ابتزاز معيّن ماليّ أو سياسيّ على الجمهورية الإسلامية ككثير من الحكومات التي بمجرّد أن تشعر بخطر تذهب وتعلن عن استعدادها لدفع الخوّة أمام الأرباب الأكابر. الإمام لم يخضع للابتزاز - ليعلم الجميع هذا
1- سورة الأنفال، الآية 36.
21
16
الدرس الثالث: استخلاص العبر والدروس من الأحداث المختلفة
- ونحن أيضاً لن نخضع للابتزاز، لا من طرف شعبنا ولا من طرفنا. عندنا كلمة حقّ ونحن مصرّون على كلمة الحقّ هذه. إنّنا لم نرتكب ذنباً. إنّنا نريد أن نكون شعباً لا يسيطر علينا أقوياء العالم ونتولّى نحن بأنفسنا إدارة شؤوننا. نريد أن نكون شعباً متوثّباً ومتحرّكاً إلى الأمام. نروم أن نكون شعباً يثبّت الإسلام على المستوى العمليّ وليس بمجرّد الادّعاء ات. نريد أن نعمل بالأحكام الإلهية. نروم أن يكون مجتمعنا مجتمعاً إسلامياً. لا نريد أن نتقبّل ما يحيكه ويتوهّمه المفكّرون الماديون والساسة الغربيون كدساتير لحياتنا. نريد أن نقبل حكم الله. فهل هذه جريمة؟
و قد أدركنا أنّنا إذا أردنا أن نعيش مسلمين فيجب أن نكون مقتدرين حتى نستطيع الدفاع مقابل الأعداء عن أنفسنا وعن أهدافنا وعن عقائدنا. ينبغي أن نكون أقوياء حتى نستطيع الدفاع عن حقوق بلدنا وحقوق شعبنا وحقوقنا. هذا ما نرنو إليه. فهل هذا جريمة يرتكبها الشعب؟ إذن، كلامنا حقّ. ونحن صامدون على هذا الحقّ. ونعتقد أنّ الحقّ حينما يشتبك ويتجابه مع الباطل، إذا كان أصحاب الحقّ صادقين في صمودهم على الحقّ، فإنّ الباطل سيُهزم لا محالة. وقد جرّبنا وكانت هذه هي النتيجة. لقد جرّبنا طوال الثلاثين عاماً المنصرمة وصمدنا وتقدّمنا إلى الأمام. أينما تجدوا تراجعاً أو إخفاقاً فما ذلك إلا لأنّ صمودنا قد تضعضع. وأينما صمدنا تقدّمنا إلى الأمام. وكذا سيكون الحال بعد الآن أيضاً.
ما يلزمنا هو أن لا يفقد أبناء الشعب والمسؤولون وغير المسؤولين وخصوصاً الشباب وسيما من لهم كلمة مؤثرة، شعورهم بمسؤولية الحضور في الساحة. لا يقل أحد إنني لا يقع على عاتقي واجب أو مسؤولية.. الكل مسؤولون. وليس معنى المسؤولية أن نحمل السلاح ونمشي في الشارع. يجب أن نشعر بالمسؤولية في أي عمل أو موقع كنا.. مسؤولية الدفاع عن الثورة ونظام الجمهورية الإسلامية، أي عن الإسلام وعن حقوق الشعب وعن عزّة البلاد. هذا هو الشرط الأوّل. علينا جميعاً الشعور بهذه المسؤولية. وأرى أننا نتحلّى بمثل هذا الشعور بالمسؤولية. لقد أثبتت جماهير بلادنا هذا المعنى وستثبته. النموذج الجليّ لذلك هو يوم التاسع من دي. وهناك نماذج أخرى. الثاني والعشرون من بهمن على الأبواب وعشرة الفجر قريبة. لقد أبدى الشعب حضوره واستعداده وحيويّته ونشاطه وسيبدي ذلك دوماً.
على مسؤولي البلاد أن يبذلوا كلّ جهدهم لمعالجة المشكلات بأيدي التدبير والعمل المستمرّ وعدم التعب وبكل شوق وتوكّل على الله واستمداد للعون منه. ولا نقصد هنا المشكلات السياسية والأمنية فقط - فهذه جزء من المشكلات - إنّما القصد التقدّم بالبلاد إلى الأمام في مجال الاقتصاد والعلم والمسائل الاجتماعية المختلفة التي تقع على عاتق المسؤولين. وليعلم مسؤولو السلطات الثلاث وجميع مسؤولي البلاد أنّ من واجبهم العمل لأجل هذا الشعب.. العمل والعمل، والعمل، والتدبير والتدبير والتدبير. لا تغفلوا لحظة واحدة. إننا نسير مسيرة جيدة إلى الأمام فلا تسمحوا بأن تتوقف هذه المسيرة. يجب أن لا تخرج هذه الحركة عن مسارها. إننا نتقدّم ويجب أن نواصل التقدّم إلى الأمام. بل يجب أن نضاعف من سرعتنا ونزيدها شمولاً ونستوعب بها الساحات التي لم تكن تستوعبها من قبل.
22
17
الدرس الثالث: استخلاص العبر والدروس من الأحداث المختلفة
وإن واجب أبناء الشعب حيال المسؤولين الثقة بهم ومواكبتهم. الثقة بالمسؤولين ومواكبتهم ليس معناها أن لا ننبّه المسؤولين ولا نلفت نظرهم ولا ننتقدهم حينما تدعو الحاجة إلى النقد، كلا، ولكن لنكن سويّة. إن من أهداف العدوّ زعزعة ثقة الشعب بالمسؤولين في البلاد، هذه حيلة الأعداء، إذن! الواجب العامّ على الجميع - من أوّلنا إلى آخرنا - الحضور في ساحة الثورة وميدان الدفاع عن البلد حيال جبهة الأعداء، ولحسن الحظّ فإن هذه الجبهة اليوم متأخّرة جدّاً عمّا كانت عليه قبل ثلاثين سنة ومشاكلها أكثر. إنّهم متورّطون في أفغانستان وفي العراق وفي باكستان وقد ورّطوا أنفسهم أخيراً في اليمن. لديهم مشاكلهم مع شعوب منطقتنا ومع شعوبهم، ولهم مشاكلهم في أوربا.
إن من واجب الجميع الشعور بمسؤولية الحضور في الساحة مقابل جبهة الأعداء هذه. وظيفة المسؤولين هي العمل واغتنام الوقت لخدمة الشعب واغتنام كل لحظة وكل ساعة للعمل وحلّ العقد ومعالجة المشكلات. والواجب العام حيال المسؤولين هو الثقة بهم ومواكبتهم ودعمهم ومساعدتهم. إذا كان لدى أحد وجهة نظر للمساعدة فليذكرها. وإذا كان لدى أحد اعتراض فلا مانع من الاعتراض، ولكن يجب أن لا يتحوّل الاعتراض إلى مجابهة، وإنّما ينبغي أن يكون من قبيل المواكبة كما لو يعترض جندي على صاحبه الذي معه في خندق واحد فيقول له مثلاً لماذا مددت رجلك أو لماذا نمت؟ هذان الجنديان ليسا مقابل بعضهما بعضاً. اعلموا يا أعزائي أنّ يد القدرة الإلهية بحسب القرائن العديدة سند لشعبنا. اعلموا أنّ دعاء إمامنا المهديّ المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ ودعاؤه مستجاب ـ سيشمل شعبنا إن شاء الله. واعلموا أنّ الله تعالى سيُبلغ بتوفيقه وفضله هذا الشعب إلى أهدافه السامية وآماله الكبيرة، وسوف يذلّ أعداء كم. ربّنا عامل هذا الشعب الكبير على قدر إيمانه ونواياه وقلوب أبنائه الطاهرة. اللّهمّ احشر شهداءنا الأبرار وشهداء حادثة آمل وشهداء محافظة مازندران مع أوليائك. اللهم احشر إمامنا الجليل وأرواح الشهداء مع أئمّة الهدى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
23
18
الدرس الرابع: نداء الإمام الخامنئي لا تقديراً لمشاركة الشعب المليونية في ذکر الثورة
الدرس الرابع: نداء الإمام الخامنئي لا تقديراً لمشاركة الشعب المليونية في ذکر الثورة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله نـــداء
المناسبة: تقديراً لمشارکة الشعب المليونية في ذکر الثورة
الزمان:11/02/2010م
25
19
الدرس الرابع: نداء الإمام الخامنئي لا تقديراً لمشاركة الشعب المليونية في ذکر الثورة
أصدر سماحة آية الله العظمى السيّد عليّ الخامنئيّ قائد الثورة الإسلامية في إيران يوم الخميس 11/02/2010 م في ذكرى انتصار الثورة الإسلامية في إيران نداء شكر ثمّن فيه المشاركة المذهلة لعشرات الملايين من أبناء الشعب الإيرانيّ في مظاهرات الثاني والعشرين من بهمن ذكرى انتصار الثورة الإسلامية في إيران وقال فيه: ليعلم أصدقاء الشعب الإيرانيّ وأعداؤه أنّ هذا الشعب عرف طريقه واتخذ قراره وسيرفع بالتوكل على الله والثقة بالقدرة التي أودعها الله فيه كلَّ الموانع والعقبات عن طريق وصوله إلى قمة التقدّم والسعادة وفي ما يلى ترجمة نصّ النداء:
بسم الله الرحمن الرحيم
أيّها الشعب الإيرانيّ العظيم صانع الملاحم الباهرة.
لا نال التعبُ من خطواتكم الراسخة، ورفرفت عالية راية هممكم وحرّيتكم، وحيّا الله عزيمتكم الراسخة وبصيرتكم الفذّة التي تجعل دوماً وفي لحظات الحاجة ساحة مواجهة الحاقدين والمسيئن ساحة لانتصار الحقّ ومعرضاً رائعاً للعزّة والعظمة. وشكرٌ من أعماق القلب والروح لخالق الوجود الّذي أظهر يدَ قدرته في عزيمتكم وإيمانكم وبصيرتكم، وعرضَ أكثر من السابق قوّة وحيويّة هذا النظام المرتكز على إيمان شعب عريق وثقته بذاته في الذكرى الحادية والثلاثين لولادة الجمهورية الإسلامية.
ألا تكفي إحدى وثلاثون سنة من الاختبارات والأخطاء التي مارستها عدّة دول متكبّرة ومتغطرسة لإيقاظها من سبات الغفلة وإفهامها عبثية السعي للسيطرة على إيران الإسلامية؟
ألا تكفي مشاركة عشرات الملايين من الجماهير ذوي البصائر والدوافع القوية في حفل الذكرى الحادية والثلاثين للثورة لإعادة المعاندين والمخدوعين الداخلين الذين يتشدقون أحياناً باسم "الشعب" رياء إلى صوابهم وإرشادهم إلى طريق الشعب وإرادته التي ما هي إلّا الصراط المستقيم للإسلام المحمّديّ الأصيل وطريق الإمام الجليل؟
ليعلم أصدقاء الشعب الإيرانيّ وأعداؤه أنّ هذا الشعب عرف طريقه واتّخذ قراره وسيرفع بالتوكّل على الله والثقة بالقدرة التي أودعها الله فيه كلَّ الموانع والعقبات عن طريق وصوله إلى قمّة التقدّم والسعادة. كان عونُ الله وتوفيقه حليفَ هذا الشعب ودعاء سيدنا بقية الله عجل الله تعالى فرجه الشريف سنده.
السيد علي الخامنئي
22 بهمن 1388 هـ ش
26
20
الدرس الخامس: العلم سلطان
الدرس الخامس: العلم سلطان
كلمة الإمام الخامنئيي دام ظله أساتذة جامعة طهران
المناسبة: أساتذة جامعة طهران
الحضور: وزير العلوم وأساتذة جامعة طهران
المكان: طهران
الزمان: 191/11/1388.ش
17/2/1431.ق
2/2/2010م
27
21
الدرس الخامس: العلم سلطان
بسم الله الرحمن الرحيم
لقاء هامٌ جدّاً ورائع، وخاصّة بعد ما سمعته من السادة, فقد كان ذلك في الواقع مفيداً لي, سواء ما بيّنوه بشأن قضايا العلوم الإنسانية أو فيما يتعلّق بالعلوم الجامعة للفروع والأعمال الدقيقة التي ذُكرت. وسواء فيما يتعلّق بقضايا الزراعة ـ وهنا أطلب منهم حتماً أن يأتوا بالبرنامج الذي تحدّثوا عنه لأراه وأستفيد منه ـ وأيضاً فيما يتعلّق بالعلم وما ذُكر حول الأبحاث. وما قدّمه الدكتور رهبر رئيس الجامعة المحترم من تقارير كان مفيداً جداً وباعثاً على الطمأنينة. ما أجمل أن يُعرض هذا التقرير المتعلّق بالتطوّرات على الرأي العام. ففي الواقع إنّ الرأي العامّ هنا لا يعلم مدى مشاركة الجمهورية الإسلامية خلال السنوات الثلاثين الماضية في مجال العلم والبحث وكم جامعاتنا المنتشرة في أنحاء العالم، وكيفية الأعمال والمقالات العلمية والاختراعات. فمنذ بداية الثورة روّج مخالفوها وأعداؤها الأكاذيب وزخرفوها بأشكال عديدة فيما يتعلّق بمخالفة الثورة للعلم. في حين أنّ الثورة قامت على أساس العلم، حيث سنتعرّض هنا بشكلٍ مختصر للأمر. لهذا من المناسب أن تُنشر هذه الإحصاءات. حسناً، إنّ هذه الفرصة بالنسبة إلي فرصة جيدة جد, فأنتم تمثّلون مجموعة خاصّة, مجموعة المدراء والنخبة والفاعليات المؤثرة في أفضل جامعات البلاد, أي جامعة طهران، التي ينبغي أن نقول عنها إنها جامعة إيران، وقد كانت دوماً ملهمة ومتقدّمة، وسوف تحقّق المزيد إن شاء الله. تشرّفنا أيضاً مجموعة من مسؤولي هذه الجامعة. لهذا فإنّ هذه فرصة جيدة جدّاً لكي نستمع ونتكلم.
أذكر هنا جملة حول اقتراح السيّد الدكتور رهبر، وهي قضيّة الدكتوراه الفخرية, حسناً، لا شكّ بأنّ من دواعي الفخر أن تُظهر هذه الجامعة مثل هذه المحبة لنا، لكنني لست أهلاً للدكتوراه, فكوني طالب علم يكفي. ولو استطعنا أن نلتزم بميثاق الطلبة ونبقى ثابتين عليه ـ حيث عاهدنا الله تعالى قولاً وفعلاً على هذا الميثاق من أيام الحداثة والشباب ـ إذا أعاننا الله واستطعنا أن نحافظ على هذا الميثاق ونتقدّم في نفس عالم الطلبة هذا، فإنني أرجح ذلك. على كلّ هذا من لطفكم، وهذا بالنسبة لي مدعاة للفخر، لكنني لا أقبل اقتراحكم. دمتم إن شاء الله موفقين ومؤيدين.
أستعرض هنا عدّة مطالب. لا شكّ بأنها أمورٌ تعرفونها وأنتم في هذه القضايا أصحاب رأيٍ، وإنّني أعتمد على هذه القضايا منذ سنوات, غاية الأمر أنه ينبغي أن نعمل أكثر، فإننا متأخّرون. فيجب أن نعترف بأننا
28
22
الدرس الخامس: العلم سلطان
متأخّرون، فقضيّة دولتنا وثورتنا ونظام الجمهورية الإسلامية في عالم اليوم ليسا متعلّقين بدولة أو شعبٍ من بين عدّة مئات من الشعوب الأخرى.
تتعلّق بقناعتنا بالواحد بالمئة في غيرها من القضايا. فنحن لدينا رسالة. إيران الإسلامية لها رسالة لا شكّ بأنني في بعض الأحيان أذكر في محضر تجمّع ما أنّ أرضنا تمثّل واحداً في المئة من مجموع دول العالم، وعدد سكاننا يقارب الواحد بالمئة من المجموعة البشرية في هذا العالم، ولكنّ القضية لا تتعلّق بقناعتنا بالواحد بالمئة في غيرها من القضايا. فنحن لدينا رسالة. إيران الإسلامية لها رسالة أكبر من هذه الكلمات. لا علاقة للأمر بفتح البلاد والهيمنة أبداً. فلا يَرد في خاطر أيّ مسلم أن يكون فاتحاً للبلدان، بل القضيّة قضيّة الرسالة تجاه البشريّة. فالبشريّة اليوم وكذلك في الأزمنة الماضية تعاني من ابتلاء ات كبرى. مثلما أنّ لكل واحد منّا مسؤوليات مشتركة تجاه أسرته ومدينته ووطنه. وإذا كنّا نستطيع أن نفعل شيئاً لبلدنا ولم نفعل نكون قد ارتكبنا ذنب، فإذا كنا نستطيع أن نزيل غبار الهم عن وجه شعبنا ولم نفعل فقد ارتكبنا معصية، ونفس هذه القضية موجودة بشأن البشريّة. فلو رأينا أنّ الناس في العالم يعيشون تحت ظلّ نظامٍ سياسيّ باطل وقمعيّ وكنّا قادرين على أن نتقدّم خطوة من أجل نجاتهم ولم نفعل فنكون قد أذنبنا.
فإذا رأينا أنّ قسماً مهماً من سكان العالم يعانون من الجوع والفقر والعوز وهم غرضٌ للبلاء ات، وكنّا قادرين على أن نفعل شيئاً ولم نفعل فإن هذا يُعدّ ذنباً. وبهذه النظرة ينبغي أن نتطلّع إلى قضايا البشريّة وقضايا العالم. إذا كان هذا الأمر هكذا ينبغي أن يكون هناك بلدٌ مقتدر، فينبغي أن يكون الشعب والدولة ومؤسسات النظام والبلد قوية ومقتدرة. إذا لم نكن مقتدرين فإنّ القوى العالمية ستؤثّر فينا، ولن يبقى مجالٌ لكي نؤثّر حتّى في جيراننا أو مواطنينا، فماذا بشأن كلّ البشر؟ يجب الحصول على القدرة. ولا شكّ بأنّ هذه القدرة ليست في الآلات العسكرية. حتّى أنّها ليست في القدرة على الإنتاج والتقدّم التكنولوجيّ.
فما هو مهمٌّ بالدرجة الأولى في إيجاد القدرة الوطنية هو بنظري شيئان: أحدهما العلم والثاني الإيمان. فالعلم أساس القدرة، سواء اليوم أو على مر التاريخ، وسوف يبقى الأمر كذلك في المستقبل. إنّ هذا العلم يؤدّي أحياناً إلى ابتكارٍ أو اختراعٍ ما وفي بعض الأحيان لا يكون كذلك. وكذلك المعرفة فإنها أساس الاقتدار، وهي تخلق الثروات، وتؤدّي إلى الاقتدار العسكريّ والسياسيّ.
فقد ورد في رواية: العلم سلطان من وجده صال به، ومن لم يجده صِيل عليه.
أي أنّ للقضية بعدين: إذا كنتم تمتلكون العلم يمكن أن تكون لكم الكلمة العليا واليد العليا وإذا لم تمتلكوا ذلك فلا تُوجد حالة وسطى، فالذي يمتلك العلم تكون له اليد العليا عليكم، وسوف يتدخّل في ثرواتكم وفي مصيركم. وإن كنوز المعارف الإسلامية مليئة بمثل هذه الكلمات..
الآخر: هو الإيمان، حيث إنّ بحث الإيمان له شأنٌ آخر ويحتاج إلى بحثٍ مفصّل بناء عليه يجب الاعتماد على العلم.
29
23
الدرس الخامس: العلم سلطان
ما ذُكر حول التطوّرات، فإنّه مهمٌّ جد، ففي ظلّ الحرية والحرية الفكرية الناشئة من الثورة الإسلامية تحقّقت هذه الأمور. وإلّا لو كنتم تعيشون في ظل نظامٍ دكتاتوريّ في عصر الطاغوت، فمن المؤكد أنّه لم يكن ليتحقّق هذا لن، أي أن مرور الزمان ما كان ليعطينا هذا التطوّر. ولكان الاستبداد ولكانت التبعية. وأحياناً يكون استبداد ولكن يكون في ظله تطوّر، على سبيل المثال نابليون الذي كان دكتاتوراً كان يؤسّس المعاهد الثقافية وقد تحقّق في عهده الذي امتدّ لمدة خمس عشرة سنة تقريباً تطوّراتٌ علمية كبرى، لعلّه لم تكن لتتحقّق من بعده لسبعين سنة. ولا زالت هذه التطوّرات إلى اليوم أساساً لافتخار الفرنسيين. ولقد كان نابليون في النهاية رجلاً ذكياً ومتحمّساً وعاملاً مجدّاً وفاهماً وكان يصطحب دوماً الرجال الأذكياء. ولكن هناك وقتٌ تكون نفس هذه الدكتاتورية مصحوبة بالتبعية وبصفات العبيد. وهذا ما كنا نعاني منه لسنوات متمادية، فقد كان الأمر في العصر البهلويّ على شكل معين وفي العهد القاجاري على شكلٍ آخر. لقد كنّا في العهد القاجاريّ تابعين بنحو ما، أي أنه قبل عصر بروز الاستعمار الذي كان يحكمنا فيه أمثال ناصر الدين شاه فإنّنا كنّا أيضاً وللأسف خاضعين. إنّ هذه الحالة من الاستبداد والدكتاتورية تسلب الحرية من الناس. ثم جاء زمن التبعيّة الذي كانت تُفرض فيه السياسات الأجنبية على الدولة. فلو كان هناك استبداد وتبعيّة لما كنّا لنتقدّم. إن التطوّر الحاليّ الذي قد بدأ ناشئٌ من الثورة الإسلامية. إذا كان لهذا التطور أن يستمر فلا بدّ من العمل والسعي، وعلينا أن نبذل الكثير. وإنّ للجامعة في هذا المجال دوراً أساساً.
والآن لا بأس بأن أذكر هذا الأمر بشأن جامعة طهران خاصة. فرغم أنّني لست منتسباً إلى الجامعة ـ وكان أحد السادة يقول إنّني جامعيّ، أنا لست كذلك ـ لكنني ارتبطت بالجامعة وطلّاب الجامعات والجامعيين منذ زمن بعيد. لقد كان لي عملٌ في جامعة طهران في بعض المناسبات، وكنت آتي إلى الجامعة، وكنت أشعر أنّني دخلت إلى أجوائي الخاصة. مع أنّ الجوّ المحيط من حيث مظاهر تلك الأيام لم يكن متناسباً مع لباسنا وعمامتنا أو أي شيء آخر، ولكنّ الإنسان كان يشعر بأنه قد دخل في جوّ يخصّه. وكان بعض الأصدقاء الآخرين من أشباهنا يشعرون بنفس هذا الأمر. ولعلّ هذا ما أدّى إلى أن يختار العاملون والمسؤولون عن أمور استقبال الإمام بعد أن تمّ تأخير مجيئه في مثل هذه الأيام أن يختاروا جامعة طهران كمحلّ للتحصّن. لم يكن هذا محض صدفة، بل كان مؤشراً على نوعٍ من الارتباط المعنويّ والروحيّ مع الجامعة، وخصوصاً هذه الجامعة.
إنّني لا أنسى ذلك اليوم حيث جئت مع المرحوم الشهيد بهشتي وشخصين آخرين ودخلنا من الباب الشرقيّ للجامعة. وأحد الأصدقاء الأعزاء والعلماء المحترمين الذي يشرّفنا اليوم ـ بحمد الله ـ ذهب قبلنا إلى هناك وقام بالتنسيق حيث فتحوا الباب الشرقيّ للجامعة ـ لأنّ الباب الجنوبيّ الذي هو البوابة الرئيسية لم يُفتح لنا ـ ودخلنا منه إلى الجامعة ثم ذهبنا إلى داخل مسجد الجامعة وأنا ذهبت إلى الغرفة التي هي خلف المسجد وكانت غرفة صغيرة لا أعلم إذا كانت موجودة لحدّ الآن ـ واستقررنا هناك وبدأنا بإعداد نشرة التحصّن من اليوم الأول. كنّا نصدر نشرية، وقد نشرنا الأعداد الأولى منها من هناك، نشرة التحصّن. فهذا الأنس وتلك الروابط لا زالت متجذّرة في الأذهان وموجودة في الذكريات. كنّا نثق بالجامعة وننظر إليها نظرة إيجابية، وكذلك كانت الجامعة تمثّل لنا حالة من
30
24
الدرس الخامس: العلم سلطان
القرابة والضيافة. ولعلّه بحسب الظاهر ولهذا السبب اختيرت جامعة طهران محلاً لصلاة الجمعة، فقد كان أحدنا قادراً على أن يعمل بطريقة أخرى.
فصار مكان صلاة الجمعة في الملعب الأخضر لجامعة طهران، وهو لحدّ اليوم ملاذ ومرجع الناس في أيام الجمعة مع تلك الدوافع المعنوية، وهذا أمرٌ في غاية الأهميّة.
في السنة الأولى والثانية للثورة كنت أذهب كلّ أسبوع إلى جامعة طهران وألتقي بالطلّاب وأحاورهم. وقد استمرّ مثل هذا الحضور في مسجد الجامعة لعلّه لأكثر من سنة. كنّا نأتي إلى جامعة طهران ونتحدّث في المسجد مع الطلّاب ونجيب عن أسئلتهم. فبحمد الله إنّ جامعة طهران بالإضافة إلى أنّها من الناحية العلميّة محورٌ ومركزٌ وأنّها تقف في الريادة قطعاً، فإنّها من الناحية الدينية والمعنوية والإيمانية ـ أي الركن الثاني ـ مركزٌ يُشار إليه بالبنان، فعلينا أن نغتنم هذا ونقدّره.
ما أريد أن أذكره هنا هو أنّه لو كان للعلم هذا المقدار من الأهمية التي ذكرناها فإنّ جامعة طهران ينبغي أن تضاعف من تقدّمها في مسألة العلم، ينبغي أن تتراكم الأعمال المنجزة وتزداد.
والحديث وصل إلى الاختراعات، حيث إنّه قد أُنجز بعض هذه الاختراعات والابتكارات. ولعلّني مطّلعٌ أكثر على التطوّرات، فكثيراً ما يصلني تقارير مختلفة من أماكن متعدّدة. ولكنّني في الواقع لست راضياً، وهذا المقدار من التطوّر العلميّ غير مرضٍ. بالطبع إنّ هذه أمور لا أذكرها إلّا في مثل هذا الجمع. فعندما نقول إنّنا غير راضين عن هذا المقدار من التطوّر فلا يعني أنّنا كنّا قادرين ولم نفعل، كلّا، فربّما لا يوجد مقصّرٌ واحد، ولعلّه لا يمكن القيام بأكثر من هذا. فمن الممكن أن يكون واقع الأمر كذلك، ولكن نفس هذا الواقع بالنسبة لي ليس مرضياً حتم، فلا زلنا بعيدين جداً عن الهدف الذي ينبغي أن نصل إليه. وإنني لا أنتظر الكثير. ولا أقول إنّه ينبغي حتماً أن نكون خلال عشر سنوات أو عشرين سنة في الصفّ الأوّل من حيث المستوى العلميّ العالميّ ـ الآن لا أقول في الصفّ الأوّل ـ لكن هدفنا هو هذ، ولو أخرجنا خلال خمسين سنة هذا البلد من الأسر العلميّ بشكلٍ مطلق. فإنتاج العلم يعني هذا.
إنّ العلم ليس منتجاً كباقي المنتجات، فهو يتطلّب مقدّمات كثيرة، ولكن في النهاية ينبغي أن نصل إلى حيث ننشر العلم ونوسّعه ونعمّقه ونبتكر علوماً جديدة. والعلوم ربّما لا تنحصر فيما هو موجود الآن بين الناس، هناك الكثير من العلوم الموجودة في الواقع حتماً وسوف تصل البشرية إليه، مثلما أنّ الكثير من العلوم لم تكن قبل مئة سنة. إنّ الكثير من هذه العلوم الإنسانية التي تمّت الإشارة إليها لم يكن قبل مئة سنة لها أن، لم يكن هناك علم ولا تحقيقات علميّة في تلك الفروع، وفيما بعد وُجدت. إن قابليّة الاتّساع عند البشر أكثر من هذه الأمور. وإنّ قابليّة العالم للمعرفة والإدراك أكثر بكثير من هذه الأمور. علينا أن نصل إلى حيث نتقدّم في هذه المجالات مهما أمكن، أن نفهم أكثر، وأن نجعل العلم حتماً وسيلة لسعادة البشرية. فإنّ الاختلاف بين نظرة الدين أي الإسلام إلى العلم مع نظرة العالم المادّي هي في هذا الأمر. فنحن نريد العلم لسعادة البشر وتكاملهم إظهار استعداداتهم واستقرار العدالة التي هي أكبر الأماني البشرية منذ قديم الأزمان.
31
25
الدرس الخامس: العلم سلطان
لقد ذكرنا مراراً أنّ أمنية البشر منذ القدم هي استقرار العدالة. ومنذ أقدم العصور والبشريّة تعاني من انعدام العدالة. واليوم لا يوجد في العالم عدالة بل الظلم هو الحاكم: الظلم الحديث، الظلم المسلّح، الظلم الذي لا يقبل المعارضة! اليوم يوجد في العالم أنواعٌ من الظلم لا يمكن للإنسان أن يعترض عليها. فبمجرّد أن يعترض يخنقون صوته بتلك الوسائل التي أنتجها العلم الحديث والإمكانات العلمية، وبواسطة هذه العلوم المتعلّقة بالاتصالات التي تزداد كل يومٍ ابتكاراً، حيث تقمع كلّ صوتٍ معارض. حسناً. أنتم ترون ماذا تفعل الجمهورية الإسلامية اليوم.
فماذا تقول هذه الجمهورية؟ وهل تطمع بشيء؟ إنّ كلّ هذا الإعلام وهذه العراقيل وهذه المؤامرات على الجمهورية الإسلاميّة من أجل ماذا؟ الجمهورية الإسلامية ليست بصدد فتح البلدان، وليست بوارد أن توجه ضربة إلى الشعوب وأبنائها أو تضرّ به، بل هي داعية للسعادة المعنوية للبشرية، ولديها رسالة لكلّ الإنسانية. وهم يعلمون ذلك، ولهذا فإنّهم يمارسون كلّ هذه الضغوط والتشديد. ومثل هذا الظلم يعمّ العالم اليوم. وعلى العلم أن يحارب هذا النوع من الظلم. الذي نجده اليوم في خدمته.
لقد أصبح العلم في عصرنا خادماً لأكثر الناس والمجتمعات ظلماً، ويجب أن يخرج من هذه الوضعية. إنّ نظرة الإسلام إلى العلم هي نظرة الشرف والنظافة والبعد عن الهوى والهوس، هي نظرة التوجّه المعنويّ. فنحن إنّما نريد العلم لأجل هذ، ولهذا ينبغي أن نسعى في هذا المجال.
هنا نقطة تبدو بنظري هامّة، وهي أنّه ينبغي القيام بالكثير من الأمور داخل الجامعة فيما يتعلّق بقضيّة الثقافة، ويجب إيلاء هذه القضية أهمية خاصة في المحيط الجامعيّ. لا شكّ بأنّ الرسالة الأساس للجامعة هي العلم. غاية الأمر أنّ هذه الرؤية التي تعرّضنا لها يجب أن تكون موجودة في الطالب الجامعيّ منذ البداية، ومثل هذا العمل ممكنٌ.
وقد تفضّل أحد الأخوة قائلاً إنّه ينبغي إيجاد التعاطف بين جميع أفراد المجتمع، حسناً، هذا الأمر مطلوبٌ جداً، ولكنه ليس عملاً سهلاً، ويتطلّب مقدّمات، ولكن ما ذكرناه بشأن التربية الثقافية للجامعيّ منذ البداية عملٌ ممكن، فيمكن للمديريّات الأساس للجامعات أن تحقّق هذا المطلب من خلال التخطيط. ويمكن تحقيقه من خلال الكتب الدراسيّة، وفي اختيار الأساتذة وفي البرامج المتنوعة الّتي توضع للجامعي، غاية الأمر أنّه عملٌ دقيقٌ جداً.
فينبغي التوجّه إلى قضية الثقافة برؤية مدبّرة. فإنّ التعلّم يُعد ثقافة. ولو توجّهنا إلى قضيّة الثقافة أو القضيّة الثقافية في الجامعة، لأصبح طلّابنا راغبين ومحبّين للعلم ويسعون نحو العلم والبحث ـ وليس لمجرّد تحصيل الشهادات ـ وكذلك يخرج أساتذتنا من حالة أداء الوظيفة في الصفّ. وفي الكثير من الحالات تصلنا تقارير من الجامعات أنّ دروس بعض الأساتذة أصبحت كأداء الوظيفة، وكأن الأستاذ يأتي ويؤدّي وظيفته ثمّ يذهب. في حين أنّ التدريس لا ينبغي أن يكون مشابهاً أداء الوظيفة، بل ينبغي أن يكون عشقاً وحباً للعلم واندفاعاً نحو تربية الطالب.
ينبغي أن يتعامل الأستاذ مع الطلّاب بأبويّة وأخويّة ولا يدع الطالب الجامعيّ وحدَه، إنّ هذه الحالة هي التي توجد اليوم لحسن الحظّ في حوزاتنا العلمية، أي أنّ من الأعراف الحوزوية أن يكون الأستاذ
32
26
الدرس الخامس: العلم سلطان
مستعداً بشكلٍ تامّ لقبول الطالب وسؤاله وتحقيقه، بل يمدّه بالعون. وبعض الأساتذة حينما يخرجون من مكان الدرس يمشي معهم الطلّاب حتى يصلوا إلى البيت ويجلسون معهم هناك ويسألونهم ويتباحثون معهم لمدة ساعة وأحياناً عدة ساعات على هذا المنوال. فإنّ هذه حالة جيّدة، ومثل هذا الأمر يحتاج إلى التعبئة الثقافية. فإنّ هذا يُعد عملاً ثقافياً ولا يمكن أن يكون من خلال المقرّرات الجامعية.
أنتم تعلمون أنّني ألتقي كلّ سنة بالجامعيين والأساتذة المحترمين عدّة مرّات. وفيما يتعلّق ببقاء الأستاذ في غرفته حتى يأتي إليه الطلّاب ويراجعوه بعد الصفّ ويسألوه فقد تحدّثت عن هذا الأمر في مثل هذه الاجتماعات واللقاءات عدّة مرات وأحياناً تعرّض لذلك الطلّاب الجامعيون لذلك مرّات عدّة، وقد أقرّت الحكومة مجموعة من الأمور قبل خمس سنوات تقريباً. حسناً جميعنا نعلم أنّه بالمقرّرات لا يتحقّق العمل بشكلٍ صحيح.
فأين يكمن الإشكال في هذا الأمر؟ إنّ الإشكال هو في نفس هذه المشكلة الثقافية، أو فيما يتعلّق بالأبحاث، حيث أشار بعض السادة في كلماتهم إلى وجود الرغبة والحماس للبحث بين رجالنا ونسائنا وأساتذتنا ومحقّقينا. وهذا أمرٌ هامٌّ جدّاً. إنّ أهمّ الاختراعات الّتي تحقّقت على يد الإنسان هي الّتي حصلت من خلال الفحص والبحث والمثابرة والتضحية، ولم تكن من خلال التوصيات والأموال. وأحياناً يكون ذلك الباحث تحت ضغوطٍ صعبة جداً، فيقضي سنوات طويلة لكي يصل إلى تلك النتيجة. ولا شكّ أنّه بعد أن يصل إليها من الممكن أيضاً أن تقبل عليه الشهرة والمال وبقيّة الأشياء، ولكن العامل الأساس يرتبط بالحماس والعشق والرغبة في البحث والتعمّق. فمثل هذه الثقافة لازمة ويجب أن تسري في الجميع. أنتم تعلمون أنّ للشعوب خصائص قوميّة.
بعض الشعوب يتميّز بميزات عامّة وبعضها الآخر يتمتع بخصائص أخرى ترتبط بالتاريخ والجغرافيا والموقعيّة وبعوامل متعدّدة. وينبغي أن نوجد هذه الروحية المتعلّقة بالحماس والشوق والرغبة بالبحث والتحقيق والمثابرة وعدم الملل وعدم التعب في شعبنا. فهذه الروحية قليلة، أليس كذلك؟ وكذلك فيما يتعلّق بالعمل الجماعيّ الذي تحدّثتم عنه. فإنّ مثل هذا العمل الجماعيّ لا يُعدّ من خصائص شعبنا. فأنتم عندما تنظرون إلى رياضاتنا وتقارنوها بالرياضات في أوروبا ستجدونها كذلك. فإنّ رياضتنا القومية هي المصارعة وهي رياضة فرديّة. حتّى فيما يتعلّق بالرياضة الشعبية القديمة التي كانت تؤدّى ضمن حلقات، فإنّ كلّ شخصٍ فيها يقوم بالحركات بنفسه.
أنتم تعلمون أنّه عندما يأتون إلى حلبة رياضة "الزورخانة"1 فإنّهم لا يرغبون بالعمل بصورة جماعيّة بل يؤدّون بعض الحركات معاً ثمّ يأتي كلّ شخص ليقوم بدوره، وليست كرة القدم ولا كرة اليد كذلك، حيث يكمّل كل شخص عمل الآخر، لهذا فإن العمل ليس عملاً جماعياً. وهذا من النقائص القومية فين، يجب إصلاح هذا الأمر حتى يسري في الجميع. هذا العمل مسؤوليّة من؟ إنّه مسؤوليّة الجامعات. إنّ على الجامعة بالإضافة إلى العلم أن تهتم بقضيّة الثقافة.
1- رياضة إيرانية شعبية و تراثية.
33
27
الدرس الخامس: العلم سلطان
نحن نستطيع أن نربّي هذا الشابّ الصبور القانع الراغب بالعمل والبحث والعمل الجماعيّ والذي يتجاوز السفاسف ويغلّب عقله على أحاسيسه ويكون منصفاً وعارفاً بالوقت وصاحب وجدان في العمل، ويمكن أن نكون ممن يضخّ فيه عكس هذه الصفات. ففي الواقع إنّ هذا الشابّ الذي يكون بعمر الثامنة عشر أو التاسعة عشر، والذي يصبح بيد الجامعة مستعدٌّ لهذه التربية. ففيما يتعلّق بالمراحل الدراسيّة وخصوصاً الليسانس (الإجازة) وهي المرحلة الأولى يمكن التفكير بهذه القضية في الواقع والتخطيط لها. ويمكنكم أن توجدوا جيلا يمتلك هذه الخصائص الأخلاقية. وهذا ما يتطلّب تخطيط، ومثل هذا الأمر لا يتحقّق بالملصقات والمقرّرات وأمثالها. ولأنّكم تحتاجون إلى التخطيط للأمور العلميّة، وينبغي أن يكون التخطيط بصورة شاملة وعمومية، فينبغي أن يكون الأمر كذلك بالنسبة لهذا العمل. فيجب أن تكون البرامج شاملة وعمومية داخل الجامعات، إن هذا الشيء ليس من الأمور التي تُنجز خارج الجامعات ثم تُبلّغ بها الجامعات، وليس قراراً بحيث يؤدّي إلى إنجاز الأعمال، بل ينبغي أن ينبع من داخل الجامعات. إنني أذكر هذه الأمور من أجل أن توجد هذه الأرضية والذهنية إن شاء الله ويتمّ العمل على القضيّة الثقافية في الجامعات.
لا شكّ أنّ قسماً هامّاً من العمل الثقافيّ هو عمل دينيّ، الأنس بالدين والعبادة والالتذاذ بها. وفي الواقع إنّ من مساوئ العصر البهلويّ أنّهم أوجدوا القطيعة بين الفئة المتعلّمة في ذلك الزمان والقضايا الدينية، فقطعوهم عن القرآن والصحيفة السجادية وفصلوهم عن نهج البلاغة. وقد استمرّت هذه الحالة تقريباً بعد الثورة. ولا شكّ بأنّ جيلاً واحداً كان يمكنه أن يقوم بالكثير من الأعمال خلال هذه السنوات الثلاثين منذ بداية الثورة، لكننا استمررنا على ذلك المنوال.
أصدقائي الأعزّاء! إنّني أقول لكم أنّ للأنس بالقرآن والتدبّر فيه وكذلك التدبّر في الأدعية المأثورة المعتبرة في الصحيفة السجادية والكثير من الأدعية لها دوراً كبيراً في تعميق المعرفة الدينية. فتعميق المعرفة الدينية أمرٌ هامٌ جداً. فقد يأتي شخص بدافع العواطف ويشارك في صلاة الجماعة والاعتكاف ومجالس العزاء الحسينية وفي بعض المظاهرات الدينية، لكنّه يكون فاقداً لهذه المعرفة في عمق وجوده، لهذا نراه عند أوّل منعطف وعند أوّل مطب تزلّ قدمه وينحرف. ولدينا مثل هذا الكثير. فداخل هذه المجموعات الثورية وفي بداية الثورة كان هناك من يبدو أكثر تديناً والتزاماً وتعهداً منّا نحن أصحاب الّلحى والعمائم، وكان يبدو أكثر تعصّباً بشأن الدين، وبعدها بمجرّد أن يصطدم بمطبّ واحد يفقد السيطرة وينحرف! ومن الواضح أنّه لم يكن يمتلك قاعدة صلبة وأرضية محكمة. لهذا فإنّ تعميق المعرفة الدينية أمر في غاية الأهمية، والأنس بالمعارف الإسلامية مهمّ جدّاً. هذا أحد أقسام العمل الثقافيّ الذي ينبغي أن يُرَّوج وينتشر. وهذا يحتاج إلى متولٍّ وأنتم متوَلُّوه، وليس مَن سواكم. أي أنكم كمدراء ورؤساء للمجموعات التحقيقية تمثّلون أولياء هذا العمل. ولا يمكن القيام بهذا العمل بشكلٍ إداريّ ليتمّ نقله إلى مركز أو محيط علميّ، فعليكم أن تجلسوا وتفكّروا بهذا الصدد، فهذه الأمور مهمّة جدّاً.
وهناك نقطة أخرى ترتبط بالسياسة في الجامعات. أنتم تعلمون أنّني ومنذ البداية كنت أعتقد أنّ الروحية السياسية ينبغي أن تكون حيّة في الجامعة، فهذا الأمر يمنح الشباب نشاطاً. ونحن
34
28
الدرس الخامس: العلم سلطان
نحتاج إلى الشباب النشطاء. إنّ الجامعة الّتي تبتعد عن السياسة وتتجنّبها بشكل تامّ سوف تخلو من الحماس والنشاط، ستصبح مكاناً تنمو فيه الميكروبات الخطرة على صعيد الفكر والسلوك.
لهذا فإنّ من المناسب بل يجب أن تكون السياسة موجودة في الجامعة، غاية الأمر أنّ تسييس الجامعة أو وجود السياسة في الجامعة لا ينبغي أن يشتبه علينا. فهذا لا يعني أن تصبح الجامعة محلاً تستغلّه التيارات السياسية والجماعات السياسية والعناصر السياسية من أجل أغراضها السياسية. هذا لا ينبغي أن يحدث، بل ينبغي منعه.
أي إنّ هذا أمرٌ آخر ينبغي أن يكون ضمن الإدارة، ويجب عليكم أن تُعملوا سلطتكم، فلا تسمحوا له بأن يحدث بهذا الشكل. ولو حدث، فستخسرون الطالب الجامعيّ ويأتي المستغلّون ليقوموا بعملهم. هناك أمثلة وتشبيهات كثيرة يمكن أن نستخدمها في هذا المجال، لكن لا أريد التوضيح أكثر. مثلاً يجعلون هذا الشابّ وسيلة للسرقة من البيت ونحن نتفرّج، هذا لا يصحّ. وهو ما يتطلّب التخطيط خاصة في جامعة طهران. إنّ جامعة طهران بسابقتها ووزنها ومفاخرها تتربّع على القمّة على صعيد جامعات البلد. وهي كذلك في هذه المجالات.
وبالطبع لم يكن لدينا في تلك الأزمنة سوى عدّة جامعات، وكان عددها في البلد قليلاً جد، ولم يكن هناك من خبرٍ داخل الجامعات. فبعض كليات جامعة طهران خاصة كان مكاناً حسّاساً لناحية إظهار الميول والأعمال السياسية ولا زال الأمر كذلك إلى يومنا هذا. ينبغي أن تنتبهوا حتّى لا يتحوّل هذا الجوّ إلى وسيلة للمستغلّين ولأغراض الأعداء.
ونجد بعضهم يتحسّس من كلمة العدوّ ومن أنّنا نستخدم هذه العبارة ونكرّرها. حسناً نحن نكرّرها ولا زال بعضهم في غفلة ولا يفهم ماذا يريد هذا العدو أن يفعل بهم، فمع كلّ ما نقوله لا يحصل شيء، فلو لم نقل ماذا كان سيحدث؟ أنتم تلاحظون في القرآن الكريم، كم أنّ الله تعالى قد أتى على ذكر اسم الشيطان وأوليائه واسم إبليس، وكم ذكر اسم فرعون ونمرود وقارون وأعداء النبيّ في زمن بعثته وتكرّر ذلك فيه.
قصّة إبليس والشيطان ذُكرت في القرآن مراراً. وكان من الممكن أن نقول يكفي مرّة واحدة للاطّلاع. إنّما كان ذلك لكي لا يُغفل عن كيد العدوّ. وهذا أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "ومن نام لم يُنم عنه". فإذا استولى عليكم النوم في خندقكم، فلا يعني ذلك أنّ العدوّ كذلك. فمن الممكن أن تكون نائماً وعدوك متيقظ، وعندها سوف يقضي عليكم. ولا ينبغي أن نغفل ومع ذلك نرى أن الغفلة مسيطرة.
لقد حدثت الغفلة في الواقع في هذه القضايا التي حصلت بعد الانتخابات، وكانت غفلة كبيرة. وأنا أقول الآن غفلة لأنني أبني على حسن الظنّ، فأنا لست إنساناً سيّئ الظنّ بل إنّني أحسن الظنّ بالناس.
فبمجرّد أن انتهت الانتخابات، في اليوم التالي قاموا بتلك الأفعال السيّئة، وها هم اليوم يحصدون ما زرعوه. فلماذا تتمّ دعوة الناس إلى الشوارع من أجل الاعتراض على الانتخابات؟ أي منطق هذا؟ ولماذا تدْعون الناس إلى الشوارع؟ وهل أن قضيّة الانتخابات التي هي قضيّة بهذه الدقّة والأهميّة يمكن حلّها في الشوارع؟ وهل أنّ هذا لتشكيل قوى الضغط؟ هذه غفلة كبرى.. ومن الطبيعيّ أنه عندما يحدث الأمر هكذا سيُوجدون للعدو مأمناً، سيُوجدون لمن يريد إحداث الفتن والاضطرابات مأمن، هذه هي الغفلة.
35
29
الدرس الخامس: العلم سلطان
في السياسة تكون الغفلة أحياناً مثل الخيانة من حيث الأثر أي إنّه في الواقع عندما تقومون بالرماية وتصيبون شخصاً وقد لا تكونون متعمّدين.
نعم هي لن تؤثّر في النهاية.. فالرصاصة أصابت قلبه وسقط صريعاً سواء كنتم متعمّدين أو غير ذلك. تصوّرتم أنّ هذا هو المرمى.. ولكنّكم أصبتم صدر إنسان. وأحياناً تكون الأخطاء هكذا. فالذي يخطئ قد اخطأ ولا يؤثّر في النهاية ولكنّه قام بهذه الضربة. واليوم إذا أردتم أن تحصّنوا المحيط الجامعيّ من هذا الضرر فماذا تفعلون؟ هذا أمرٌ هامّ جدّاً: توجيه الطالب وتوجيه بعض الأساتذة.
وهكذا ترون أنّ القضيّة العلميّة بالتفاصيل التي ذكرناها مراراً في الجامعات، وما ذكره السادة اليوم هي قضيّة بهذه الأهميّة. وكان لطيفاً ذكر هذه المطالب المتعلّقة بالقضايا العلميّة فإنّها مورد تأييدي وثقتي. والقضيّة الثقافية والقضيّة السياسيّة هما بالنسبة لي قضيّتان مهمّتان جدّاً. ولا شكّ بأنّها لا تتعلّق بجامعة طهران فقط وإنّما هي على مستوى جامعات البلد. لكنّ جامعة طهران هي القمّة. فعندما تفعلون شيئاً أو تنجزون شيئاً سيكون بالطبع قدوة، وإن شاء الله تحافظون على هذه القدوة.
أسأل الله أن يوفّقكم ويؤيّدكم، فأنتم تستطيعون أن تنجزوا الأعمال الموكلة إليكم وكذلك نحن. بعون الله كلّ شيء ممكن وكلّ شيء ميسّر بالهمّة والعزم الراسخ. ولحسن الحظّ قد جرّبنا مثل كلّ هذه الأمور طيلة هذه السنوات وفي شتّى المجالات، سواء على الصعيد السياسيّ أو العلميّ أو غيرهما من المجالات. أينما دخلنا وكان لدينا العزم الراسخ والثقة بالله فإنّ الله تعالى فتح أمامنا الأبواب. وإنّنا نأمل بمشيئة الله أن تكون عشرة الفجر هذه مباركة عليكم وعلى الشعب الإيرانيّ ونسأل الله أن يحشر الأرواح المطهّرة لإمامنا والشهداء مع أوليائهم ويرضي عنّا القلب المقدّس لوليّ العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
36
30
الدرس السادس: السرّ في بقاء واستمرار الثورة الإسلامية
الدرس السادس: السرّ في بقاء واستمرار الثورة الإسلامية
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله منتسبي القوة الجوية
المناسبة: يوم القوّة الجويّة
الحضور: جمع من منتسبي القوّة الجويّة في جيش الجمهورية الإسلامية
المكان: طهران
الزمان: 19/11/1388ش.
08/02/2010م.
23/2/1431ق.
37
31
الدرس السادس: السرّ في بقاء واستمرار الثورة الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
أهلاً ومرحباً بكم كثيراً أيها الأعزّاء القادة والضبّاط والمجاهدون في جبهة هامّة جدّاً من جبهات الجهاد لأجل الثورة. يوم التاسع عشر من بهمن يوم مهمّ جدّاً في تاريخ الثورة. في تلك الحادثة الكبيرة التي سمع بها أكثركم أيّها الشباب، وشاهدناها نحن بأعيننا لم يكن هناك من دافع سوى الدافع الإلهيّ والإخلاص، لذلك تركت هذه الحادثة في وقتها أثراً بالغاً وبقيت خالدة في التاريخ. هذه هي ميزة العمل الإلهيّ المخلص.. يبقى ويؤثّر، ولن تكون آثاره مختصّة بالزمن الذي يقع فيه، بل سيكون له تأثيره المستمرّ والدائم. هكذا هو العمل الإلهيّ. يوم جاء منتسبو القوّة الجويّة إلى مدرسة "علوي" وبايعوا الإمام وحطّموا سداً واقتحموا خطاً سياسياً كبيراً لم يكن بانتظارهم منصب ولا موقع ولا مال ولا حتّى مدح وثناء. ما كان في انتظارهم هو ربّما الخطر والتهديد. إذن لم يكن من دافع سوى الدافع الإلهيّ. يومذاك أثّرت هذه الحادثة الإلهيّة ولا تزال بعد مضيّ واحد وثلاثين عاماً تترك أثرها في المجتمع.
هذه الأيام أيام العشرة الأخيرة من صفر، أيام ما بعد الأربعين.
إذا نظرنا إلى تاريخ صدر الإسلام فسنجد أنّ هذه الأيام هي أيّام السيّدة زينب الكبرى عليها السلام. والمهمّة التي نهضت بها زينب الكبرى عليها السلام كانت هامّة جدّاً، إنّها مهمّة خالصة لوجه الله تعالى. ظهر الكيان المعنويّ والإلهيّ للدين في الشخصية الحاسمة للسيدة زينب الكبرى عليها السلام وسط الأخطار والمحن والصعاب. من المناسب أن نعلم ونفهم سطور التاريخ القديم القيّم جداً والذي لا يزال يفيض إلى اليوم بالبركات والخيرات الفكرية والمعرفية وسيبقى كذلك إلى آخر الدنيا إن شاء الله.
تألّقت السيّدة زينب عليها السلام كوليّ إلهيّ في المسير إلى كربلاء مع الإمام الحسين عليه السلام، وفي حادثة يوم عاشوراء وتحمّلها تلك الصعاب والمحن، وأيضاً في أحداث ما بعد استشهاد الإمام الحسين بن علي عليه السلام حيث قامت برعاية تلك الجماعة المتبقيّة من الأطفال والنساء.. تألّقت بشكل لا يمكن أن نجد له نظيراً على مرّ التاريخ. ثمّ في الأحداث المتتابعة خلال فترة الأسر، في الكوفة والشام وإلى هذه الأيام وهي أيام نهاية هذه الأحداث وابتداء مرحلة جديدة للحركة الإسلامية وتقدّم الفكر الإسلاميّ والمجتمع الإسلاميّ. وبسبب هذا الجهاد الكبير اكتسبت زينب الكبرى عليها السلام عند الله تعالى مقاماً لا يمكننا وصفه.
38
32
الدرس السادس: السرّ في بقاء واستمرار الثورة الإسلامية
لاحظوا أنّ الله تعالى يضرب في القرآن الكريم مثلَ امرأتين للنموذج الإيمانيّ المتكامل، ويضرب المثل للكفر أيضاً امرأتين ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا﴾1، هذان هما المثالان على الكفر وهما امرأتان كافرتان.
أي إنّه لا يسوق المثل للكفر من الرجال بل يأتي به من النساء. وهذا ما نجده في باب الكفر وفي باب الإيمان أيضاً. ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ﴾2 أحد المثالين على النموذج الإيمانيّ المتكامل هو امرأة فرعون والمثال الآخر السيّدة مريم الكبرى "ومريم ابنة عمران".
مقارنة عابرة بين زينب الكبرى وبين زوجة فرعون يمكن أن تبيِّن لنا عظمة مقام السيّدة زينب الكبرى. عُرّفت زوجة فرعون في القرآن الكريم بوصفها نموذج الإيمان للرجال والنساء على مرّ الزمان وإلى آخر الدنيا، ثم لكم أن تقارنوا بين زوجة فرعون التي آمنت بموسى وانشدّت إلى تلك الهداية التي جاء بها موسى حينما كانت تحت ضغوط التعذيب الفرعونيّ والذي توفيّت بسببه حسب ما تنقل التواريخ والروايات، التعذيب الجسمانيّ جعلها تصرخ: ﴿إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ﴾3 طلبت من الله تعالى أن يبني لها بيتاً عنده في الجنّة.. والواقع أنّها طلبت الموت وأرادت أن تفارق الحياة، ﴿وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
أنقذني من فرعون وأعماله المضلّة. والحال أنّ السيّدة آسيا زوجة فرعون كانت مشكلتها وعذابها ألماً جسمانياً، وبين السيّدة زينب التي فقدت عدّة إخوة وابنين من أبنائها وعدداً كبيراً من الأقارب وأبناء الإخوان ساروا أمام عينيها إلى مقاتلهم. هذه الآلام الروحيّة الّتي تحمّلتها زينب الكبرى لم تتعرّض لها السيّدة آسيا زوجة فرعون.
رأت السيّدة زينب بعينيها يوم عاشوراء كلّ أحبّتها يسيرون إلى المذبح ويُستشهدون: الحسين بن عليّ سيّد الشهداء عليه السلام والعبّاس وعليّ الأكبر والقاسم وأبناءها هي نفسها وباقي إخوانها رأتهم كلهم. وبعد استشهادهم شهدت كلّ هذه المحن: هجوم الأعداء وهتك الحرمات ومسؤولية رعاية الأطفال والنساء. فهل يمكن مقارنة عظمة وشدّة هذه المصائب بالمصائب الجسمانية؟ ولكن مقابل كلّ هذه المصائب لم تقل السيّدة زينب لله تعالى: "ربّ نجّني"، بل قالت يوم عاشوراء: ربّنا تقبّل منّا.
رأت الجسد المبضّع لأخيها أمامها فتوجّهت بقلبها إلى خالق العالم وقالت: "اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان". وحينما تُسأل كيف رأيتِ صنع الله؟ تقول: "ما رأيت إلّا جميلاً"4.
كلّ هذه المصائب جميلة في عين زينب الكبرى لأنّها من الله وفي سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمته. لاحظوا هذا المقام المتقدّم وهذا العشق للحقّ والحقيقة كم هو الفارق بينه وبين ذلك المقام الذي
1-سورة التحريم، الآية 10.
2- سورة التحريم، الآية 11.
3- سورة التحريم، الآية 11.
4- بحار الأنوار، ج 45، ص 116.
39
33
الدرس السادس: السرّ في بقاء واستمرار الثورة الإسلامية
يذكره القرآن الكريم للسيّدة آسيا. هذا دليل على عظمة مقام السيّدة زينب. هكذا هو العمل في سبيل الله. لذلك بقي اسم زينب وعملها إلى اليوم نموذجاً خالداً في العالم. بقاء دين الإسلام وبقاء سبيل الله وبقاء السير في هذا السبيل من قبل عباد الله يعتمد كله على العمل الذي قام به الحسين بن عليّ عليه السلام وما قامت به السيّدة زينب الكبرى عليها السلام. أي إنّ ذلك الصبر العظيم وذلك الصمود وتحمّل كلّ تلك المصائب والمشكلات أدّى إلى أنّكم ترون اليوم القيم الدينية هي القيم السائدة في العالم. كافّة هذه القيم الإنسانيّة الّتي نجدها في المدارس المختلفة والمتطابقة مع الضمير البشريّ هي قيم نابعة من الدين. هذه هي خصوصيّة العمل لله.
و قد كان العمل للثورة من هذا السنخ. لذلك خلّدت الثورة واستمرّت وأحرزت ثباتاً واقتداراً معنوياً حقيقياً. كانت هذه الثورة ثورة لله. يوم انطلقت هذه الثورة وبدأت هذه النهضة لم تكن على غرار نهضات الأحزاب أو كأيّ حركة سياسية تقوم بها الأحزاب في العالم وتهدف إلى تولّي السلطة. كانت حركة مظلومة ترنو إلى تطبيق الأحكام الإلهية وتحقيق مجتمع إسلاميّ وتكريس العدالة في المجتمع. الذين جاهدوا من أجل انتصار الثورة والذين صمدوا من أجل هذه الثورة وجاهدوا لكي يتحقّق لها هذا الثبات والاستقرار والاستمرار كانت نواياهم مخلصة.
شهداؤكم، شهداء القوة الجويّة، هم من هذا القبيل. شهداء القوّات المسلّحة كلّهم من هذا القبيل. الذين عملوا في سبيل الله وجاهدوا وبذلوا مساعيهم بارك الله في عملهم. الشيء الذي يعجز أعداء الثورة عن إدراكه هو هذه النقطة. الشيء الذي يستطيع أجهزة الاستكبار والصهيونية فهمه هو هذه المسألة لا يستطيعون فهم أن متانة هذا البناء هي بسبب أنه لله، ولأنّه شُيّد على أساس الإخلاص وتقدّم بفضل الجهاد. لذلك استطاعت الثورة والنظام الإسلاميّ الترسّخ في القلوب.
انظروا اليوم كم ألف وسيلة إعلامية مرئيّة ومسموعة وأنواع وصنوف الوسائل الإعلامية بأحدث الأساليب تعمل ضد النظام. مئات الأدمغة والأفكار تجلس في الغرف السوداء وتبتكر كلّ يوم كلاماً أو شعاراً أو فكرة أو حيلة ضد هذه الثورة، لكنهم عاجزون عن الإضرار بالثورة والنظام الإسلاميّ. ما السبب في ذلك؟ متانة وصلابة هذا البناء بسبب قيامه على مبدأ الإيمان بالله. الذين ساروا في هذا الدرب إنما قاموا بعمل إلهيّ.
هذا النظام لا يشبه سائر الأنظمة. ما من نظام في العالم اليوم تُشنّ ضدّه كلّ هذه الهجمات الإعلامية والسياسية والاقتصادية وتُفرض عليه أنواع الحظر ويستطيع أن يبقى رصيناً متيناً بهذا الشكل. لا يوجد مثل هذا الشيء في العالم. لكن هذا النظام صامد وسيبقى صامداً بعد اليوم أيضاً. ليعلم الجميع هذا. لا أمريكا ولا الصهيونية ولا منظومة المستكبرين والعتاة في العالم ولا الوسائل السياسية ولا الاقتصادية ولا الحظر ولا التهم ولا تحريض العملاء في الداخل تستطيع زعزعة هذه الثورة ولو بدرجة قليلة.
40
34
الدرس السادس: السرّ في بقاء واستمرار الثورة الإسلامية
سرّ بقاء هذه الثورة هو الاعتماد على الإيمان وعلى الله. لذلك تلاحظون أنّه يوم تشعر كتل الشعب الهائلة في كلّ أنحاء البلاد أنّ هناك خطراً وعداء يواجه الثورة وأن ثمّة عدواً خطيراً جاداً يواجهها سوف ينزلون إلى الساحة من دون دعوة. شاهدتم ما الذي حدث في يوم التاسع من دي.
أعداء الثورة الذين يحاولون دوماً القول إّن المظاهرات المليونية مظاهرات من عدّة ألوف - يصغّرون الأمر ويهوّنونه - اعترفوا وقالوا إنّه طوال هذه العشرين سنة لم تكن هناك حركة شعبية في إيران بهذه العظمة.. كتبوا هذا وقالوه. الذين يحاولون كتمان حقائق الجمهورية الإسلامية قالوا هذا واعترفوا به. فما السبب؟ السبب هو أنّ الجماهير حينما يشعرون أنّ العدوّ يقف بوجه النظام الإسلاميّ ينزلون إلى الساحة.
هذه حركة إيمانية وقلبية وشيء تقف وراءه الحوافز الإلهية. إنها يد القدرة الإلهية ويد الإرادة الإلهية. هذه الأمور ليست بيدي ويد أمثالي. القلوب بيد الله والإرادات مقهورة لإرادة الخالق.
إذا كان التحرّك إلهياً وفي سبيل الله وكان فيه أخلاص وحسن نيّة سيدافع الله عنه. لذلك يقول عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾1
هذا شيء لا يفهمه أعداء النظام الإسلاميّ، وهم لا يفهمونه لحدّ الآن لذلك يفرضون الحظر ويتكلّمون ويستخدمون أساليب متنوّعة ويبحثون حسب أوهامهم عن نقاط الضعف في الجمهورية الإسلامية. أحياناً يذكرون مسألة حقوق الإنسان وتارة يذكرون اسم الديمقراطية.. هذه الحيل التي تعدّ اليوم حقاً استهزاء بالناس في العالم.
يقولون: الرأي العام. لكنّ الرأي العام لو كان يصدّق هذا الكلام من أمريكا والصهيونية لما أبدت الشعوب في مختلف البلدان والمواقف والمواقع كرهها لزعماء الاستكبار بهذه الصورة التي ترون أنّها تُبدي بها كرهها لهم. أينما يسافرون تخرج جماعة من الناس وتهتف ضدهم. واضح أنّ الرأي العام في العالم لا ينخدع بحيلهم وأخاديعهم.
الذين يتشدّقون بحقوق الإنسان هم أوّل من يسحقون حقوق الإنسان في سجونهم وفي كلّ العالم وفي تعاملهم مع الشعوب وحتّى في تعاملهم مع شعوبهم. هؤلاء يتحدّثون عن حقوق الإنسان؟! إنّهم يمنحون الشرعية للتعذيب ويجعلونه قانونياً! أليست هذه فضيحة لبلد من البلدان؟ أليس هذا خزي لبلد أن يجعل تعذيب السجناء قانونياً؟ ثم تراهم يتحدّثون عن حقوق الإنسان ويتشدّقون بالدفاع عن حرمة الإنسان وكرامته! الذين يشاهدون ويسمعون هذا الكلام والادعاءات في العالم ويقارنون ذلك بتلك السلوكيات، من الطبيعيّ أن يستهزئوا بهم. مَن الذي يصدّق هذا الكلام منهم؟
يتحدّثون عن الديمقراطية ويعقدون عهود الأخوّة مع أكثر الحكومات في العالم استبداداً ورجعيّة - ومنها ما هو في منطقتنا -! من هي الأنظمة المرتبطة ارتباطاً أوثق مع أمريكا في منطقة الشرق
1- سورة الحج، الآية 38.
41
35
الدرس السادس: السرّ في بقاء واستمرار الثورة الإسلامية
الأوسط اليوم؟ وفي شمال أفريقيا؟ هل ثمة أنظمة أكثر استبداداً منها؟ يتشدّقون بالديمقراطية ثم يهاجمون الجمهورية الإسلامية - هذه الديمقراطية المتألّقة القادرة على إشراك 85 بالمائة ممّن لهم حقّ الاقتراع في الانتخابات - تحت طائلة الديمقراطية! هذه سخرية والكلّ يعلم هذا. المراقبون في العالم والذين يفهمون الأمور والقضايا يستهزئون بهذه التوجّهات الأمريكية.
الشعب الإيرانّي شعب ذكيّ واع صاحب تجربة. وهذه القضايا ليست وليدة اليوم أيّها الإخوة الأعزاء! بعضكم يتذكر ذلك، وليعلم الشباب أنه منذ واحد وثلاثين عاماً وهذه الأحداث جارية بين أجهزة الاستكبار والشعب الإيرانّي.
هذه القضايا ليست وليدة اليوم. تهديداتهم التي أخفقت دوماً، وحظرهم، وإساء اتهم واتّهاماتهم.. استطاعت الجمهورية الإسلامية في مناخ كهذا المناخ من القصف الإعلاميّ تحقيق كلّ هذا التقدّم. قوّتكم الجوية لا تقبل المقارنة مع القوّة الجويّة في بداية الثورة. مهاراتكم اليوم وقدراتكم وأجهزتكم وتقدّم القوى والطاقات الإنسانية والابتكارات المختلفة لا تقبل المقارنة مع ما كان في بداية الثورة، بل لا تقبل المقارنة مع ما كان قبل عشرين سنة.
لقد تقدّمنا يوماً بعد يوم. هكذا هو الحال في كلّ قطاعات البلاد. البلد الذي يتمتع راهناً بهذه القدرات الصاروخية وهذه القدرات في مجال علم الأحياء ومجال العلوم النووية والليزرية - وقد سمعتم بها وتعلمونها - وفي القطاعات المختلفة حيث سُجّلت قدرات بهذه العظمة وهذه الأهمية، هو نفسه البلد الذي كان يجب أن يستورد في أوائل الثورة أبسط الأجهزة والإمكانات ويستعيرها من هنا وهناك. وكان عليه أن يشتري أبسط الأشياء من الآخرين وهم لا يبيعون. كان عليه أن يشتريها بأسعار مضاعفة وهو خالي اليدين. واليوم فإن نفس هذا الجيش ونفس هذه القوّات المسلّحة ونفس هذه القوّة الجوّية أحرزت كلّ هذا التقدم. ونفس تلك الهيئات الجامعية والعلمية والبحثية والتقنية توصّلت إلى هذه المواقع المتقدّمة.. وصلت إلى ما وصلت إليه تحت قصف هؤلاء الأعداء وتهديداتهم وحظرهم. هل تخوّفون الشعب الإيرانّي من الحظر؟! المهمّ هو أن يحافظ الشعب العزيز على اتّحاده ويحافظ على وحدة كلمته. هذه الوحدة شوكة في عيون الأعداء. محاولاتهم تنصبّ على إفساد وحدة الكلمة فينا. أعتقد أنّ أهمّ أهدافهم من أحداث فترة الفتنة بعد الانتخابات - الأشهر الماضية - هو خلق فواصل وصدوع بين أبناء الشعب. هذا هو مسعاهم. أرادوا خلق صدوع وشقاق بين أبناء الشعب ولم يستطيعوا.
لقد اتّضح اليوم أن أولئك الذين وقفوا بوجه عظمة الشعب الإيرانيّ وبوجه العمل الكبير الذي قام به الشعب الإيرانّي في الانتخابات ليسوا جزء اً من الشعب بل هم أفراد إما يعادون الثورة بصراحة أو أشخاص يمارسون نتيجة جهلهم ولجاجتهم نفس ممارسات أعداء الثورة، ولا صلة لهم بكتل الشعب. كتل الشعب تواصل طريقها، طريق الله وطريق الإسلام وطريق الجمهورية الإسلامية وطريق تطبيق الأحكام الإلهية وطريق الوصول إلى العزّة والاستقلال في ظلّ الإسلام. هذا هو طريق الشعب ومسيرته.
طبعاً كان هناك بعض الناس يعارضون هذا منذ البداية. كان هناك ممن يرغبون منذ البداية في عودة الهيمنة والسيطرة الأمريكية الظالمة على هذا البلد. هذا ما كانوا يريدونه ولا يخفونه الآن أيضاً. ثمة أشخاص بعضهم خارج البلاد وبعضهم من العملاء في الداخل.
42
36
الدرس السادس: السرّ في بقاء واستمرار الثورة الإسلامية
هذا مّما لا شكّ فيه. أبناء الأشخاص الذين تضرّروا من هذه الثورة وأبناء الأشخاص الذين كانوا مرتزقة للنظام الطاغوتّي، هؤلاء لم يزولوا طبعاً فهم موجودون. نفس تلك الأحقاد الممتدّة على مدى ثلاثين سنة لا تزال موجودة اليوم أيضاً وقد كانت منذ البداية. كانوا منذ بداية الثورة وهم موجودون اليوم أيضاً وسيكونون بعد اليوم أيضاً. لكنهم كلّهم لا يشكّلون سوى مجموعة صغيرة.
هذا الشعب العظيم وبهذه العظمة الوطنية سائر باتّجاه الإسلام ولله وفي سبيل الله. وأبناء الشعب متّفقون وكلمتهم واحدة وقلوبهم واحدة حتى لو كانت أذواقهم السياسية مختلفة ربّما.
يريدون إفساد هذه الوحدة. والشعب صامد. في يوم الثاني والعشرين من بهمن سيثبت الشعب الإيرانّي العزيز ـ إن شاء الله وبحول الله وقوّته ـ كيف سيصفع باتّحاده ووحدة كلمته جميع المستكبرين، أمريكا وبريطانيا والصهاينة على وجوههم بحيث يفاجئهم كما فعل في السابق.
ستواصل الجمهورية الإسلامية طريقها، طريق العزّة في ظلّ الإسلام، والأمن في كنف الإسلام، والعدالة في ظلّ الإسلام، والديمقراطية في ظلّ الإسلام والنابعة من الفكر الإسلاميّ، وستتقدّم إلى الأمام بلا أي تردّد ولا أي ضعف أو خور وستُصدر الأجيال القادمة حكمها. واعلموا أنّ الشباب اليوم والأجيال التي ستأتي بعدهم سوف يواصلون الطريق إلى القمم وسيصلون إلى تلك القمم بفضل التجارب الهائلة الكامنة لدى هذا الشعب في مواجهته للاستكبار. الشعب الإيرانّي جدير ببلوغ القمم. شعب ذكيّ ومبتكر ومؤمن حينما تتوفّر له الحرية النابعة من الإسلام والتي وفّرتها لنا الثورة.
مثل هذا الشعب لن يتوقّف أبداً عن مسيرته وحركته. سوف تشهدون أنتم الشباب ذلك اليوم إن شاء الله. عليكم أن تعقدوا عزيمتكم وهممكم في القطاع الذي أنتم فيه وعلى الجميع بذل مساعيهم وهممهم في قطاعاتهم الخاصّة بهم.
القوّة الجوّية - كما قال قائدها المحترم في تقريره - حقّقت تقدّماً جيّداً. ونحن مطّلعون على التقدّم الجيّد في الأقسام المختلفة للقوّة الجوّية. ولكن لا يجوز في الوقت ذاته أيّ توقّف. لا تقنعوا بالوضع الموجود. واصلوا إبداعاتكم. أنتم جديرون بما هو أكثر من هذا. وشعبكم جدير بقوّة جوّية مقتدرة حتى أكثر من هذا. منظومة القوّات المسلّحة هذه بما فيها القوة الجوية يجب أن تستطيع إثبات عزّة الشعب الإيرانيّ وصلابته، وأن تكون مظهراً لصمود هذا الشعب واقتداره، وهذا ما سيكون إن شاء الله.
نسأل الله تعالى أن يحشر شهداء القوّة الجوّية الأعزّاء وشهداء جيش الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومنظومة القوّات المسلّحة وكافّة الشهداء الأبرار مع أوليائه، وأن يحشر الروح الطاهرة لإمامنا الجليل - والشعب الإيرانّي في هذه الأيام أكثر أنساً ومعرفة بذكرى ذلك الرجل العزيز الجليل - مع أوليائه، وأن يرضي عنكم جميعاً القلب المقدّس للإمام المهديّ المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
43
37
الدرس السابع: المستقبل المشرق للشعب الإيرانيّ
الدرس السابع: المستقبل المشرق للشعب الإيرانيّ
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله أهالي آذربيجان الشرقية
المناسبة: الذكرى السنوية لنهضة أبناء محافظة آذربيجان.
الحضور: المئات من أهالي آذربيجان الشرقية.
المكان: طهران
الزمان: 02/03/1431.ق.
28/11/1388.ش.
17/02/2009م.
45
38
الدرس السابع: المستقبل المشرق للشعب الإيرانيّ
بسم الله الرحمن الرحيم
أرحّب بجميع الإخوة والأخوات الأعزّاء الذين ساروا في هذه المناسبة العظيمة جداً والمستعصية على النسيان ـ مناسبة التاسع والعشرين من بهمن في تبريز ـ كلّ هذا الطريق الطويل وتجشّموا العناء ونوّروا حسينيّتنا.
الحقيقة أنّ أنفاسكم الدافئة وألسنتكم الناطقة ودوافعكم المستعصية على السكون والسكوت والتي كانت محسوسة ومشهودة في جميع الأحوال جعلت أجواء الحسينية اليوم دافئة وجذّابة وثورية، وقد كان أهالي تبريز دوماً وعلى مرّ الزمن مظهراً لهذه الخصائص البارزة. طوال التاريخ القريب وفي الأحداث الكبرى من فترة الثورة الدستورية وما قبلها وإلى اليوم، يلاحظ المرء ميزتين في تبريز وآذربيجان: الميزة الأولى هي أنّ أهالي تبريز كانوا سبّاقين دوماً في الأحداث المختلفة، فهم الذين يبدأون ويمسكون بزمام المبادرة. وقضية التاسع والعشرين من بهمن من هذا القبيل. لو لم يخلق أهالي تبريز اليقظين في أربعينية أحداث قم ذلك الحدث الكبير لما انطلقت سلسلة الأربعينيات في البلاد ولما كان معلوماً كيف كانت ستسير وتستمرّ الحركة المتفجّرة الهائلة للشعب في كلّ أنحاء البلاد. إذن كانت المبادرة من قبل أهالي تبريز. وقد كان الحال كذلك في الأحداث السابقة أيضاً. في أحداث الثورة الدستورية أيضاً كان الوضع كذلك. بدأ أهالي تبريز العمل وبادروا. والكثير من هذه الشعارات الجارية على ألسنة شعبنا العزيز اليوم في كلّ أرجاء البلاد بدأت غالباً من تبريز.
الميزة الثانية هي الوفاء. بعض الناس يبدأون السير في طريق معيّن لكنّهم لا يواصلون ولا يبقون أوفياء. تزلزلهم الأحداث المختلفة وتبثّ فيهم الشكوك والتردد. فيعودون أدراجهم في بعض الأحيان. وأحياناً يفعلون ما هو أسوأ من العودة أي إنّهم ينكرون أصل الحركة والطريق. شهدنا هذا النمط من الناس.
أهالي تبريز وآذربيجان أوفياء وصامدون. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾1 الذي يبقى وفياً للحقّ ويصمد على كلمة الحقّ ولا يزلزله مضيّ الزمن وتعاقب الأحداث الصعبة سيوفّيه الله تعالى أجراً عظيماً. بعض الناس ليسوا من هذا القبيل إنّما ينكثون العهود. ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾2 الناكث يعمل ضدّ نفسه،
1- سورة الفتح، الآية 10.
2- سورة الفتح، الآية 10.
46
39
الدرس السابع: المستقبل المشرق للشعب الإيرانيّ
والواقع أنّه يجلب الخسران على نفسه بنكثه عهده. لا تصيب الإنسان خسارة في سبيل الله. أنتم أهالي تبريز وآذربيجان وفيتم وصمدتم.
إمامنا الجليل مع أنه لم يكن يعرف تبريز عن قرب لكنّه عرف أهاليها معرفة جيّدة. في أحداث الفتنة في بداية الثورة حيث ظهرت الفتن في أماكن مختلفة من البلاد ومنها تبريز قال الإمام إن الإيمان والغيرة والهمّة والوعي والبصيرة كان بوسعه إخماد تلك الفتن والنيران. وكذا الحال اليوم أهالي تبريز أنفسهم سوف يردّون على مثيري الفتن، وقد ردّوا عليهم فعلاً. ما من شيء سوى قوّة الإيمان والغيرة والهمّة والوعي والبصيرة كان بوسعه إخماد تلك الفتن والنيران. وكذا الحال اليوم أيضاً. الشباب الأعزاء الذين لم يروا الإمام ولم يشهدوا فترة الدفاع المقدّس على مدى ثمانية أعوام ولم يدركوا أمثال الشهيد باكري ولم يشهدوا الشخصيات المضحيّة التي استُشهدت آنذاك يشاركون الآن في الساحة بنفس القوة وبنفس الاستقامة وبنفس البصيرة التي شارك بها الشباب التبريزيون يوم ذاك في التاسع والعشرين من بهمن وأبدوا طوال ثمانية أعوام من الحرب المفروضة وفي الجبهات والميادين المختلفة البطولات والتضحيات. هكذا هم شبابنا اليوم. فما معنى هذا؟ لماذا؟ ما هي القضيّة؟ ينبغي البحث عن حقيقة القضيّة في أحقيّة هذه الكلمة أعني كلمة الثورة وهي كلمة حقّ. هذه هي خصوصية الحقّ. ﴿مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ﴾ هذه شجرة طاهرة سالمة طيّبة تنمو في الأرض نمواً سليماً. ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء﴾ جذورها قويّة وأغصانها وأوراقها مرتفعة إلى عنان السماء. ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾1 ثمارها دائمة ولها في كلّ فصل ثمرة معيّنة، أي إنّها ليست خاصّة بفترة معيّنة كما هو الحال بالنسبة للكثير من الحركات في العالم والتي تغيّر أنظمة الحكم باسم الثورة أو الانقلاب أو غير ذلك لكنّها محدودة الأمد ثم يعود الوضع بعد فترة قصيرة إلى شكله السابق أو إلى أسوأ من الوضع السابق أحياناً. ليست كلمة الحقّ من هذا القبيل. كلمة الحقّ باقية.
حركة الثورة اليوم وأهدافها هي نفسها التي رُسمت منذ اليوم الأول. وقد رسمها إمامنا الجليل الحكيم. هذه الأهداف منسجمة مع فطرة الجماهير، لذلك احتضنها الشعب، وإلّا فإنّ توجيه قلوب ملايين الناس باتّجاه واحد ليس بالأمر الاعتياديّ. حينما يتحدّث الإنسان بلسان الفطرة ويتحدّث عن الله فسوف تحوم القلوب التي ما زالت على الفطرة حوله. ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾2 يد القدرة الإلهية هي التي تهدي القلوب باتّجاه معيّن فتكون هذه هي النتيجة. في الثاني والعشرين من بهمن كانت الحشود التي خرجت إلى الشوارع في الذكرى الحادية والثلاثين لولادة الثورة الإسلامية أكبر من تلك التي خرجت في الأعوام الماضية. لم تنقص الحشود بل ازدادت وقويت وهذا على خلاف الدارج في عالم الطبيعة. ألقوا حجراً في الماء وسترون أنه يُوجِد أمواجاً ولكن كلّما مضى الوقت قلّت هذه الأمواج وتلاشت وصارت غير محسوسة إلى أن تنتهي. مرور الوقت يطفئ الأمواج الاجتماعية. فأية حقيقة هذه التي لا يطفئها مرور الوقت بل يزيدها بروزاً يوماً
1- سورة إبراهيم، الآية 25.
2- سورة الأنفال، الآية 63.
47
40
الدرس السابع: المستقبل المشرق للشعب الإيرانيّ
بعد يوم؟ واقعة كربلاء مثلاً، في يومها وفي تلك الصحراء القاحلة وبعيداً عن الأنصار وأمام كلّ أولئك الأعداء يُستشهد الإمام الحسين بن عليّ ج وأصحابه وتؤسر عائلته ويأخذونهم وينتهي الأمر. واليوم بعد مضي قرون على ذلك اليوم لاحظوا كم هي عظيمة وبارزة تلك الواقعة التي كان يفترض أن لا يبقى لها أيّ ذكر أو أثر في ظرف عشرة أو خمسة عشر يوماً. إنها بارزة اليوم، لا بين ملايين الشيعة في البلدان المختلفة وحسب وبين المسلمين، بل حتى بين غير المسلمين نرى أنّ اسم الحسين بن علي يشعّ كالشمس وينير القلوب ويهديها. هكذا هي الثورة. كلّما مرّ الزمن أكثر كلّما أظهرت هذه الثورة حقائق أكثر.
لكنّ العدوّ يتحدّث بطريقة أخرى طبعاً. وبعضهم يتحدثون بنفس لغة العدوّ ولسانه. أمّا هل يفعلون ذلك عن وعي أو عن غير وعي فهذا ما نتركه لله. لكنّهم يتحدّثون بلغة العدوّ ويحاولون الإيحاء بأنّ الثورة انحرفت عن دربها. كلّا، لو كانت الثورة قد انحرفت لما تحركت كلّ هذه القلوب باسم الثورة وذكر الثورة. ولما تعبَّأ كلّ هذا الإيمان وكلّ هذه الدوافع والمحفّزات بذكر الثورة. وكذا الحال في العالم. فآثار هذه الثورة اليوم محسوسة في قلوب الناس في البلدان الإسلامية. لا تنظروا إلى عدّة حكومات معاندة، فالشعوب تحترم هذه الثورة وتُجلّها وتتحسّر على مثلها. وهذا مؤشّر إلى أحقّية الثورة وبقائها. ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾.
أنا وأنتم ومثلما بقينا أوفياء لحدّ اليوم بتوفيق من الله نستطيع أن نبقى أوفياء. إذا حافظنا على هذا الوفاء ﴿فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾1 وهذا الأجر غير مختصّ بالدنيا، وغير مختصّ بالآخرة أيضاً، فهو أجر في الدنيا وفي الآخرة. إنّه في الدنيا عزّة واقتدار ووصول إلى الأهداف السامية، وهو في الآخرة أجر إلهيّ وثواب أرقى وأفضل من كلّ شيء. إذا تضعضعت أو ساءت عهودنا ـ لا سمح الله ـ وجرّتها الأهواء النفسانية وسط الطريق إلى هنا وهناك سيكون في ذلك ضررنا نحن، فالثورة تواصل طريقها. الذين تركوا الثورة والذين وقفوا بوجهها كما أراد العدوّ أصيبوا هم أنفسهم بالخسارة والضرر. توهّموا أنّهم سيتآمرون على الثورة ويصرّحون ويحرّضون وسينفعهم ذلك شيئاً. كلّا، إنّهم مخطئون.
في يوم الثاني والعشرين من بهمن هذه السنة حيث أفصحت هذه المعجزة الإلهية العظيمة عن نفسها وأذهلت هذه المشاركة الجماهيرية الهائلة الأنظار كان الأعداء والمعارضون ـ سواء المعارضون المعاندون أو المعارضون الغافلون ـ يفكّرون بطريقة أخرى ويخطّطون لشيء آخر ويربّون في أذهانهم تخيلات أخرى. حاولوا منذ مدّة طويلة أن يفعلوا ما من شأنه تخريب مراسم الثاني والعشرين من بهمن التي تعدّ تجسيداً للمشاركة الجماهيرية في الثورة. أرادوا أن يفعلوا ما يُفضي إلى اشتباكات بين الجماهير في طهران أو المدن الأخرى. هذا ما توقّعوه. قالوا في أحاديثهم إنّ الحرب الداخلية في إيران ستبدأ يوم الثاني والعشرين من بهمن! لاحظوا ما الذي فعلوه حتّى راحوا يتوقّعون نشوب حرب داخلية في إيران. كان بعضهم يقول هذا وآخرون يأملون استعراض وجه معارض لنظام الجمهورية الإسلامية في الثاني والعشرين من بهمن. راحوا يصوّرون أنّ الناس تخلّت عن الثورة وعن نظام الجمهورية الإسلامية ويقفون بوجهه الآن، هكذا كانوا يفكّرون ويحسبون حساباتهم، لكنّ الشعب الإيرانّي بوعيه وبصيرته
1- سورة الفتح، الآية 10.
48
41
الدرس السابع: المستقبل المشرق للشعب الإيرانيّ
وهمّته وبيد القدرة الإلهية الّتي أيقظت قلوب أبنائه صفع جميع هؤلاء المعارضين على أفواههم وأتمّ الحجّة على الجميع. ينبغي أن يكون الأعداء الخارجيون قد استيقظوا وصحوا. رئيس جمهورية أمريكا وأمثاله كانوا يتشدّقون دوماً بالشعب الإيرانّي ويقولون: "نحن نناصر الشعب الإيرانّي" و"الشعب الإيرانّي يعارض نظام الجمهورية الإسلامية". كرّروا هذا الكلام مراراً. لاحِظوا ماذا كان حالهم حين شاهدوا الشعب الإيرانّي في الشوارع يوم الثاني والعشرين من بهمن.
هل ثمة خذلان إلهيّ أشدّ من هذا يمكن أن يُمنى به العدوّ؟ وهل فضيحة له أشدّ من هذه؟ وبعضهم في الداخل، قسم منهم بسبب الغفلة وقسم آخر بسبب عدم التعقّل وفئة أخرى بدافع العناد والعداء، راحوا يتحدّثون عن الشعب والشعب والشعب بما يُضادّ نظام الجمهورية الإسلامية ويعادي هذه الحركة العامّة للنظام! طيّب، هؤلاء هم الشعب.
لقد أثبت الثاني والعشرون من بهمن أين هو الشعب وماذا يريد وماذا يقول. أصابهم الغرور بالأوهام التي بثّوها في نفوسهم. توهّموا أو تظاهروا بالجهل حين ظنّوا أنّ الشعب تخلّى عن الثورة وعن الإمام. لكن وعي الشعب وبصيرته وهمته وإيمانه والتوفيق الإلهيّ الذي شمل الشعب الإيرانيّ كان رداً قارعاً لهم في يوم الثاني والعشرين من بهمن. والأجانب أيضاً أصيبوا بالوهم. تُستخدم الألفاظ في غير معانيها. زعماء البلدان المستكبرة ـ بضعة دول مستكبرة ـ يصرّحون حول نظام الجمهورية الإسلامية ويوحون ويروجون للقول بأنّ المجتمع العالميّ يعارض الجمهورية الإسلامية. أيّ مجتمع دولي؟ أيّ مجتمع دولّي يعارض الجمهورية الإسلامية؟ أربع أو خمس دول مستكبرة ـ غالباً ما تكون حتّى شعوبها غير موافقة على مواقفها ـ تعارض النظام الإسلامي والجمهورية الإسلامية.
الأنظمة المحبوسة في قبضة الشركات الصهيونية ومصّاصي الدماء الدوليين من الطبيعيّ أن تعارض الجمهورية الإسلامية التي ترفع شعار العدالة. يجب أن تكون معارضة. يوم تمتدحنا الشبكة الأخطبوطية للرأسمالية العالمية ولا تعارضنا يجب أن نقيم مأتماً. نعم، هناك بضع دول مستكبرة ومتغطرسة تعارض الجمهورية الإسلامية. لكنّ المجتمع العالميّ لا يعارض الجمهورية الإسلامية أبداً. المجتمع العالميّ هو الشعوب. المجتمع العالميّ يعني الكثير من الحكومات التي هي بدورها غير راضية عن المستكبرين، رغم أنها لا تتجرّأ غالباً على التصريح بعدم رضاها، لكنّنا نعلم أنّها غير راضية. هذا شيء واضح جداً في تصريحاتهم وحواراتهم ويقولونه لنا، لكنهم لا يتجرّأون على الاعتراض.. يخافون. أمّا نحن فلا نخاف.
إننّا نقول الشيء الذي في قلوبنا ونعلم أنّه حديث قلوب الشعوب وقلوب الكثير من الحكومات. إنّنا نعارض الاستكبار ونعارض نظام الهيمنة ونعارض بشدّة تسلّط بضعة بلدان على مصير العالم ونكافح هذا التسلّط ولا نسمح لهم بالتلاعب بمصير العالم. ومن الواضح أن تعارضنا تلك الحكومات فتتذرع بذرائع الملفّ النوويّ وما يتّصل بحقوق الإنسان والديمقراطية. والكلّ في العالم يعلم أنّهم يكذبون ويمارسون الرياء والنفاق. وقد بعثوا مأمورهم ثانية إلى هنا يجول في أطراف الخليج الفارسيّ ويكرّر نفس تلك الأكاذيب والهذيان ضدّ الجمهورية الإسلامية: إيران تروم الحصول على قنبلة نووية! من الذي يصدّق كلامكم؟ من يصدّق أنّكم تفكّرون بمصالح شعوب هذه المنطقة؟ أنتم الذين سحقتم شعوب هذه المنطقة، ما استطعتم وبمقدار ما سُمح لكم، تحت أقدام مصالحكم غير المشروعة، وبدّلتم
49
42
الدرس السابع: المستقبل المشرق للشعب الإيرانيّ
الخليج الفارسيّ إلى مخازن سلاح. هذا ما فعله الأمريكيون. يمتصّون أموال بلدان الخليج الفارسيّ وينهبونها ويخزنون أسلحتهم فيها بدل ذلك.
أنتم مثيرو الحروب، أنتم هاجمتم العراق وهاجمتم أفغانستان وتهاجمون باكستان وتعيدون جرائمكم هذه في أيّ مكان آخر استطعتم، ثم تأتون لتصرّحوا ضد الجمهورية الإسلامية؟ جميع شعوب المنطقة تعلم والكثير من حكومات المنطقة تعلم أنّ الجمهورية الإسلامية تناصر السلام وتناصر الأخوة وتناصر عزّة بلدان هذه المنطقة وعزّة البلدان الإسلامية. تحرّكوا كأنهم البائعون الجوّالون وكان تحرّكهم انفعالياً. إنهم يتآمرون ضدّ الجمهورية الإسلامية منذ ثلاثين سنة، ويخفقون منذ ثلاثين سنة، وقد انتصرت الجمهورية الإسلامية هذه السنة مرّة أخرى بعد عشرات المرّات في صراعها ضدّ المستكبرين، وانهزم المستكبرون.
أحداث ما بعد الانتخابات التي أوجدها بعض الناس بسبب جهلهم أو على أساس حسابات خاطئة، يتذرّع بها العدوّ عسى أن يستطيع إضعاف الجمهورية الإسلامية، ولكن على العكس، نفس هذه الأحداث أدّت إلى زيادة اقتدار الجمهورية الإسلامية. إذا كان يجب على بعضهم قبل هذه الأحداث أن يثبت للناس بالأدلّة والبراهين أنّ العدوّ يترصّدهم ويكمن لهم فإنّ الناس شاهدوا بعد هذه الأحداث بأعينهم أنّ العدوّ يترصّدهم في كمائنه. وهكذا هو الشعب الإيرانّي حينما يرى العدو متربصاً فإنه لا يتأخّر بل ينزل إلى الساحة فوراً. وبعد الآن أيضاً ـ بحول الله وقوّته وتوفيقه ـ ستكون جميع شرائح الشعب إن شاء الله أكثر جدية في عملها وأشدّ تحفّزاً واندفاعاً في تحركها في النواحي العلمية والصناعية والمجالات المختلفة وفي مناخ الإدارة والكسب والعمل والتجارة.. على الجميع أن يسعوا ويعملوا. وقد تضاعفت مسؤولية المسؤولين. لقد تضاعفت مسؤولية المدراء في البلاد ورؤساء السلطات الثلاث أمام هذه الحركة الشعبية العظيمة وأمام هذا الوعي المذهل الذي أبدته الجماهير. هذا الشعب مستعد للدفاع عن بلده وثورته وقيمه. على خُدّام المجتمع الخضوع وإبداء الاحترام أمام هذا الشعب ومتابعة أعمالهم بقوة وجدّ والعمل من أجل الناس.
ثمة مشاكل في البلد وهناك نواقص، ولكن ما من مشكلة أو نقص لا يمكن حلّه بيد الإرادة المعتمدة على الإيمان. سيسعى مسؤولو البلاد في السلطات الثلاث ـ إن شاء الله ـ وفي القطاعات المختلفة وأبناء الشعب أنفسهم وكلّ شخص حسب دوره من أجل معالجة هذه المشكلات. ليعلم الجميع أن مستقبل الشعب الإيرانّي مستقبل مشرق. لقد اتّخذ الشعب قراره كما سبق أن ذكرنا وسيصل إن شاء الله إلى ذروة أهدافه السامية ليكون أنموذجاً لا للعالم الإسلاميّ فحسب بل لكلّ الشعوب، حتى يعرفوا من أين يمرّ طريق العزة والعظمة.
نتمنّى على خالق العالم أن يشمل الشعب الإيرانيّ كافة وأنتم أهالي تبريز وآذربيجان الأعزاء بألطافه وعنايته وتسديده، ويُرضي عنكم جميعاً القلب المقدّس لإمامنا المهديّ المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ويشملكم بأدعيته ويرضي عنكم جميعاً الروح الطاهرة للإمام الجليل والشهداء الأبرار.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
50
43
الدرس الثامن: الحركة العلميّة الصناعيّة والقيام بالواجب
الدرس الثامن: الحركة العلميّة الصناعيّة والقيام بالواجب
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله صناعة المدمّرة "جماران"
المناسبة: للمشاركين في صناعة المدمّرة "جماران
الحضور: المشاركون في صناعة المدمّرة "جماران"
المكان: مدينة بندر عبّاس في الخليج الفارسيّ
الزمان: 5/03/1431.ق.
30/11/1388.ش.
19/02/2010م.
51
44
الدرس الثامن: الحركة العلميّة الصناعيّة والقيام بالواجب
بسم الله الرحمن الرحيم
كان هذا اليوم يوماً جميلاً ومريحاً بالنسبة لي، ليس لمجّرد أنّ فرقاطة أضيفت إلى الأسطول البحريّ لجيش الجمهورية الإسلامية - وهذا بالطبع مكسب قيّم وهام - إنّما فرحي في معظمه لأنّ شبابنا وعاملينا الأذكياء والعلماء في هذا القطاع من القوّات المسلّحة شاهدوا بأعينهم ثمرة أملهم وثقتهم وتوكّلهم، وهذا ما سوف يجعلهم أكثر عزيمة على طي خطوات واسعة أخرى. هذا هو أساس العمل. أساس العمل هو أن تعرف طاقاتنا البشريّة قدر نفسها وقدر قدراتها وأن تنقل إلى حيّز العمل ما أودعها الله تعالى فيها من مواهب وطاقات فلا تخشى عظمة الأعمال وضخامة المشاريع.
هذا المشروع الكبير الذي تحدّث عنه الآن الأميرال سيّاري مشروع طموح، لكنّني أؤيّد مثل هذه الآراء والأفكار مائة بالمائة. اسعوا كي تعرضوا على الجميع قدراتكم وشجاعتكم في الدفاع عن عزّة بلادكم وشعبكم. طبعاً لهذا الأمر مقدّمات وينبغي القيام من أجله بعدّة أمور.
حينما يراقب المرء، وفي ضوء بعض الحقائق الموجودة على الأرض، قد تبدو بعض هذه المطاليب والطموحات بعيدة المنال، لكنني أقول يجب أن نسلك هذا الطريق ونطوي الخطوات الواحدة تلو الأخرى، وسيكون الوصول إلى النتيجة أسهل علينا كلّما تقدّمنا إلى الأمام.
يوم أثيرت هنا في هذا المعمل التابع للقوّة البحريّة في بندر عبّاس قضيّة صناعة فرقاطة مدمّرة بمقاييس وتجهيزات مناسبة لبحر عمان والمحيط الهنديّ، أذكر أنّه كان أناسٌ في ذلك اللقاء ممن اعتبروا هذه العمليّة غير ممكنة. ولم تكن هذه العملية ممكنة وحسب، بل ولا تعدّ عملية كبيرة جداً بالقياس إلى الهمّة التي تبدونها اليوم لإنجاز الأعمال الأكبر والأعظم ممّا تقدّمه لنا فرقاطة جماران. مع أن جهوداً كبيرة بُذلت لإنجاز هذا العمل، وهذه الجهود قيّمة جداً - استخدام الذكاء والمواهب والقدرات والعمل الدؤوب ولكنّ هذا العمل لا يعدّ كبيراً في مقابل ما تعقدون عليه عزائمكم وهممكم اليوم. أعمالكم المستقبلية ستكون أهمّ وأكبر.
لا شكّ أن الموجة الثانية ستكون أفضل من هذه، والموجتان الثالثة والرابعة ستكونان أفضل أيضاً.. ربما بمقاييس نوعيّة أرقى بكثير، وهو ما سيتحقّق بلا شكّ.
حسناً، أولاً لا بّد لي من تقديم الشكر. تجاربكم اليوم متراكمة ومستفيضة وبوسعكم الاستفادة من هذه التجارب. على كلّ حال، ورغم أنّ المدّة طالت
52
45
الدرس الثامن: الحركة العلميّة الصناعيّة والقيام بالواجب
ولكن كما قلت كان هذا اليوم يوماً مريحاً جداً بالنسبة لي، وكان يوماً مباركاً حيث أشاهد نتائج جهودكم ومساعيكم.
لدينا ماضٍ في الملاحة يعود إلى 700 أو 800 سنة. يوم كانت سفننا تنطلق من موانئ الخليج الفارسيّ إلى أقصى أنحاء آسيا، لم يكن لكثير من هذه البلدان المعروفة اليومة بالملاحة إسهام يذكر. في ضوء هذا الماضي وبهذه القدرات التي يمتلكها الشعب، وبهذه العقليّات الجيّدة وهذا الذكاء الوقّاد وهذه الأيدي الماهرة لشبابنا وشعبنا، لماذا يجب أن نكون متأخّرين إلى هذه الدرجة بحيث نفرح كلّ هذا الفرح إذا حقّقنا مثل هذا الإنجاز؟
لقد تعاملوا مع شعبنا بجفاء طيلة هذه القرون. من الذي تعامل بجفاء؟ هل الأجانب تعاملوا بجفاء؟ لا، بل الحكّام الفاسدون. إنني لا أعتب على البرتغاليين أو الهولنديين أو الإنجليز الذي جاءوا واحتلّوا سواحلنا وجزرنا. تلك بلدان وحكومات تسعى وراء مصالحها. والقوى المادية عادّة ما تفعل ذلك، تتحرّك وتتطاول على غيرها على بعد آلاف الفراسخ من بلدانها.. ألم يستولوا على شبه القارة الهندية؟ ألم يستولوا على المناطق الشرقية ما بعد الهند؟ ألا يفعلون نفس هذا الشيء في العالم اليوم؟ ليس العتب عليهم، إنما العتب على السلطات الفاسدة المستبدة والفاقدة للمحفزّات والعزيمة والتي لم تستطع الحفاظ على سمعة إيران والإيرانيين، ويأتي العدو لينتزع بندر عبّاس في يوم، وجزيرة "هرمز" في يوم آخر، وجزيرة "قِشم" في يوم آخر، وسائر الجزر الواحدة تلو الأخرى من أيدي هذا الشعب ثمّ يطلق دعاواه. لم يكن هذا ما يستحقه الشعب الإيرانّي. لو لم تكن الجمهورية الإسلامية قد فعلت شيئاً إلا إعادة روح الثقة بالذات والشعور بالعزّة والهويّة لهذا الشعب والبلد ولنا نحن، فهذا موجب لشكر الله سنوات طوالاً على هذه النعمة. وأريد أن أقول لكم إنّ الإسلام والتفكير الإسلاميّ والروح المنبعثة من الإيمان القرآنّي لا تسمح بقمع قدرات شعب وإهدار مواهبه بهذا الشكل، ولا تسمح بأن يتخدّر نتيجة عدم الاكتراث لقدراته ومواهبه الذاتية، ويأتي الآخرون ليتسلّطوا على مصيره. الإسلام لا يسمح بهذا، والجمهورية الإسلامية لا تسمح بهذا.
حين تلاحظون مستكبري العالم والقوى المتغطرسة اللاهثة وراء الهيمنة تتهجّم على الجمهورية الإسلامية - طبعاً بحدود قدرتهم - فهذا هو السبب: لقد تعوّدوا على أخذ ما يريدون وما يستطيعون من هذه المائدة التي لا صاحب لها. وحينما يشاهدون أنّ الأمر قد تغيّر وأنّ الشعب هو المالك الأصليّ لهذه الأرض، قد استيقظ، ولم يعد يسمح لهم بالتطاول، فمن الطبيعيّ أن يغضبوا. هذه هي حقيقة المؤامرات.
ذنب الجمهورية الإسلامية وذنب الشعب الذي أحبّ هذه الجمهورية وأحبّ الإسلام وسار في طريقه هو أنّه أراد فقط عدم الخضوع للعسف والهيمنة وإهانة شخصيته من قبل الآخرين. بالطبع، هذا بدوره اختبار للتاريخ، حتى يعلم التاريخ والأجيال القادمة أنّ الشعب إذا شعر بهويّته وآمن بقدراته الذاتية ودفع بطاقاته إلى الساحة، سواء طاقاته العملية أو الصناعية أو التجريبية أو مهاراته أو إيمانه - وهو فوق كل الطاقات - حينما يأتي بجسمه وروحه إلى الساحة فلن تستطيع أيّة قوّة في العالم التغلّب والسيطرة على عزيمته وإرادته وهمّته، بل ستنهزم أمامه. وقد انهزمت لحدّ الآن، وسوف تنهزم في المستقبل أيضاً. كلما كانت مؤشّرات قدراتكم وصمودكم واستقامتكم أكثر، اعلموا أنّهم سيغضبون
53
46
الدرس الثامن: الحركة العلميّة الصناعيّة والقيام بالواجب
أكثر. إذا استطاعوا فسوف ينقلون غضبهم هذا إلى الحيّز العمليّ ويمارسونه عملياً، وإن لم يستطيعوا سيضطرّون إلى العضّ على نواجذهم والاكتفاء بمشاهدة تقدمكم إلى الأمام.. وهذا ما سوف يحصل.
بعد الثاني والعشرين من بهمن، وبعد تلك الحركة الشعبية العظيمة، حيث كانوا يظنّون البلاد والشعب والثورة ونظام الجمهورية الإسلامية على شكل آخر وأنّ الشعب ركنَ إلى اليأس والخمول، سوف يغضبهم أيّ تحرّك كبير من قِبلكم. الكلام الذي يطلقه الأمريكان اليوم، من أكبرهم إلى أصغرهم، من رئيس جمهوريّتهم إلى الناطق باسم وزارتهم الفلانية، وكذلك بعض الغربيين الآخرين، كلام يدلّ على الغضب. إنّهم غاضبون حانقون يائسون ولا يعرفون ماذا يفعلون. أحياناً يهدّدون، وأحياناً يسحبون تهديدهم، وأحياناً يعودون إلى ذلك التهديد، وأحياناً يطلقون التهم هنا وهناك.
هذا الكلام المكرر الممجوج الفارغ الذي يطلقونه حول صناعة الجمهورية الإسلامية لأسلحة نووية، مؤشّر على ذروة عجزهم حتى على مستوى الإعلام. والجمهورية الإسلامية لا تصرّ إطلاقاً على التعامل بكثير من الاهتمام في الدفاع عن نفسها بخصوص هذه القضية، كلّا، نحن لا نؤمن بالقنبلة الذريّة والسلاح النوويّ، ولن نسعى للحصول عليه.
استخدام أسلحة الدمار الشامل ممنوع وحرام حسب مبادئنا العقيدية والدينية. إنّه إهلاك للحرث والنسل وقد منعه القرآن ولن نسعى وراءه. إننا نسعى للشيء الذي يجب أن تخشاه القوى المهيمنة خشية حقيقية، وأعتقد أنّها الآن تخشاه ألا وهو إيقاظ روح الحماس والعزّة الإسلامية لدى كلّ الأمّة الإسلامية. وهذا ما سوف نفعله.. ليعلموا ذلك.
إنهم يستغلّون الأمّة الإسلامية الموجودة من الناحية الجغرافية في منطقة حسّاسة من العالم - سواء من الناحية العسكرية أو الاقتصادية أو من حيث المصادر الطبيعية - على الرغم من إرادتها. ورسالتنا وهمّتنا هي إيقاظ العالم الإسلاميّ وتحذيره. وقد ترك هذا التحذير أثره، وتلاحظون أنّ كره المهيمنين والجشعين، خصوصاً أمريكا، يزداد يوماً بعد يوم في كل أنحاء العالم الإسلاميّ.
ويأتون إلينا ليزعموا كذباً أنّ إيران ضدّ البلدان الجارة. كلّا، البلدان الجارة نفسها تعلم أنّ الأمر ليس كذلك. إذا كانت بلدان الخليج الفارسيّ وبعض الجيران قد أخطأوا لفترة قصيرة في بداية الثورة وتصوّروا أنّ الجمهورية الإسلامية خصمهم، فقد أدركوا مع مضيّ الزمن أنّ الأمر ليس كذلك. هؤلاء إخوتنا وجيراننا. منظومة الخليج الفارسيّ هذه يمكن إدارتها بسياسة عقلانية جماعية ولصالح جميع البلدان الواقعة على شاطئ الخليج الفارسيّ. الشيء الذي يهدّد هذه الحركة الصحيحة المعقولة هو وجود الأجانب وخصوصاً أمريكا في المنطقة. أمن المنطقة يتزعزع على يد أمريكا وليس من قبل بلدان المنطقة. هم الذين يفرضون انعدام الأمن على المنطقة وبلدانها، ويتمنّون وقوع الخلافات بين هذه البلدان، ويعملون لهذا الغرض كلّ ما يستطيعون. أحياناً تؤتي حيلهم أُكَلها ونتائجها، لكنّها تفشل في غالب الأحيان، وسوف تفشل في المستقبل أيضاً إن شاء الله. إنّهم يريدون صرف أنظار البلدان في منطقة الشرق الأوسط والخليج الفارسيّ وهذه المناطق الحسّاسة عن العدوّ الأصليّ والحقيقيّ. العدوّ الحقيقيّ والأصليّ لهذه المنطقة هو الصهاينة ونظام الولايات المتحدة الأمريكية. هؤلاء لسبب وأولئك لسبب آخر، يريدون صرف الأنظار عن العدوّ الأصليّ، لذلك يطلقون كلامهم الفارغ.
54
47
الدرس الثامن: الحركة العلميّة الصناعيّة والقيام بالواجب
الجمهورية الإسلامية تستند إلى قلوب ملايين البشر. حينما تهتف حناجر عشرات الملايين بصوت واحد وبقوّة فلن يمكن محو هذا الصوت والقضاء عليه، إنما ستبقى أمواج هذه الهتافات في العالم مستعصية على الفناء. هذا ليس بالهزل. عشرات الملايين من البشر يطلقون سويّة هتافات تعبِّر كره الاستكبار وكره نظام الهيمنة العالميّ وهتافات الإصرار على العزّة الوطنية والإيمان الإسلاميّ. وليس لمرّة واحدة ولا لمرّتين، بل منذ ثلاثين عاماً والجماهير تطلق هذه الهتافات.. هذا أمرٌ دائم. الهتافات المتناسقة لكلّ هذه الحناجر ولكلّ هذه القلوب أممٌ باقٍ لا يزول. هذا من القوانين الحتمية للطبيعة والتاريخ.. كقانون الجاذبية والقوانين الطبيعية الأخرى. لذلك فهي قوانين لا تقبل التخلّف والتبديل. هذا الصوت باق خالد. الشرط في ذلك هو أن نقوم جميعاً بواجباتنا.. كلٌّ بواجبه. لقد رويت مراراً هذا الحديث الذي قاله الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "رحم الله أمرء اً عمل عملاً فأتقنه". ينبغي إنجاز الأعمال بإتقان.
حسناً، من النقاط الجديرة بالذكر أنّ صناعة هذه الفرقاطة المدمّرة لم تكن مجرّد صناعة فرقاطة مدمّرة، إنّما كانت تكريساً ومأسسة لتصميم وصناعة الفرقاطات الضخمة في مصانع البلاد.. استفادت من ذلك جامعات البلاد، وجامعة الإمام الخمينّي، وصناعات القوّة البحرية، وصناعات وزارة الدفاع، وتحرّكت الأذهان، وحصلت مناسبة لعمل ونشاط الأقسام الإلكترونية والمؤسّسات المختلفة. نفس هذه الحركة والرياضة الذهنية والعملية تعدّ مكسباً للبلاد، وهي ليست بأقلّ من صناعة فرقاطة بهذه المواصفات. هذا شيء له قيمته الكبيرة. حافظوا على هذا الشيء، ولا تسمحوا بأن تتوقف هذه الحركة العلمية الصناعية. واصلوا العمل والإبداع بشكل متواتر ومطّرد. لم ننتفع في الأعوام الماضية كما ينبغي من السواحل الطويلة لبحر عُمان. تركّزت أذهاننا دائماً على الخليج الفارسيّ وغفلنا عن أهميّة بحر عُمان. هذه النظرة الجديدة التي يحملها جيش الجمهورية الإسلامية لبحر عمان تُمكننا من إنجاز الأعمال الكبيرة. هذه موهبة إلهية لمنطقة جنوب شرقيّ البلاد. لذلك على الحكومة والمؤسّسات المختلفة - وزارة الدفاع والوزارات الأخرى ذات الصلة بهذا الشأن - أن تمدّ يد العون للتقدّم في هذا المجال.
هذه أعمال يمكن أن تتحقّق إن شاء الله، لكنني أقصد القول إنه حتى لو لم يتمّ تنفيذ هذه الاقتراحات التي ذُكرت بالشكل المطلوب الذي أؤيده وبسبب النواقص والقيود المختلفة أو لأيّ سبب من الأسباب، مع ذلك يجب مواصلة العمل والتقدّم إلى الأمام. أقول إنّ الطاقات البشرية يمكنها في كل الأحوال والمواطن - وهذه تجربتي في المواقع الإدارية المختلفة طوال ثلاثين سنة - التعويض عن كثير من النواقص. أحياناً لا تتوفّر الأموال الكافية، ويمكن تعويض قلّة الأموال بالإدارة الكفوءة الجيّدة. قد يبدو ذلك صعباً أو غير ممكن من الوهلة الأولى، لكنّه شيء عمليّ ممكن. قد جرّبنا ذلك. جرّبناه في الحرب وفي مختلف الأمور في شتّى القطاعات. لو أردنا النظرة بتلك الرؤية الأولى لتصوّرنا الكثير من الأمور غير ممكن، لكن حينما يدخل الإنسان دائرة العمل يجد أنّ الأمر ممكن. ليست هناك أموال ولا مصادر، بيد أنّ هناك قوة الإرادة والعقل والاقتصاد وتشخيص الإمكانات ومعرفتها هنا وهناك. أحياناً تتوفّر لديكم إمكانيّة لكنّكم لا تفطنون إليها ولا تنتفعون منها وإنّما تستخدمون مصدراً آخر. وحينما ينتهي ذلك المصدر وتنظرون إلى أنفسكم وحواليكم تجدون تلك الإمكانيّة والمصدر أمام أعينكم.
55
48
الدرس الثامن: الحركة العلميّة الصناعيّة والقيام بالواجب
إذن، لا تدعوا هذه الحركة تتوقف. تابعوا العمل والأمور، سواء هنا أو في الشمال أو في القطاعات المختلفة الأخرى. التنسيق بين الأجهزة القريب بعضها من بعض في هذه الدائرة حالة ضرورية جداً. مثلاً التعاون مع وزارة الدفاع، ووزير الدفاع حاضر هنا، فلتلاحظ هذه النقطة. أحياناً يشتكون لديّ من أنّ بعض الاتفاقات المبرمة لا تنفّذ في مواعيدها. قد يكون الأمر كذلك.
يجب أن تتابعوا المسألة، ومن ذلك التأخّر الصناعي في مشروع "الموجة 1". طبعاً قدّم لنا الجيش مؤخّراً اقتراحاً وقلنا فليُدرس هذا الاقتراح لنرى ماذا يمكن فعله من أجل التعويض. أرسلت بعض المحرّكات للأورهال1 ولم تعد - كما يقولون - ومثال ذلك المحركات الأصلية لطرادات نوع "پيكان". ثمة شكاوى وعتاب من هذا القبيل. ينبغي عدم العتاب لأنكم لستم بعيدين عن بعضكم بعضاً.. إنما أنتم مع بعضكم بعضاً وتابعون لقطب واحد ومتوجّهون لهدف واحد.. تفاهموا وعالجوا المشكلات. وبالطبع لا بّد للّجنة المركزية من أن تساعد على هذا التنسيق والتقريب.
أريد أن أوصيكم بأمر: ينبغي استكمال هذا الإنجاز الصناعيّ المهمّ بإنتاج قطع الغيار اللازمة له. ربّما سمعت خلال التقارير التي عرضت اليوم أن تصنيع قطع الغيار قد بدأ. على كلّ حال إذا لم يكن الأمر كذلك فأنا أوصي به وأؤكّد عليه. صناعة قطع الغيار هامة جدّاً. يجب أن لا نتصرّف بحيث نتوجّه لقطع الغيار عند الحاجة أو حينما نكون قريبين من الحاجة، لا، منذ البداية يجب أن نتابع مسألة تصنيع قطع الغيار كعملية مستقلّة، لهذا الشيء بحدّ ذاته فوائده وبركاته.
وأريد أن أؤكّد أيضاً على الغواصات. يجب أن يكون أحد أهداف القوّة البحريّة وتوجّهاتها قضيّة الغواصات. إذا كانت القوّة البحريّة اليوم كما سبق أن قلنا قوّة استراتيجية - وهذا هو الحال - وهي من الخطوط المهمّة جداً في الدفاع عن البلد، فعليكم بالاهتمام للإمساك بزمام الأمور. ومن القضايا أيضاً قضيّة الحرب الالكترونية. لقد شدّدت عدّة مرّات خلال الأعوام الماضية، سواء في لقاءاتي بالقوّة البحريّة، أو في لقاءاتي بالقوّة الجويّة، على قضيّة الحرب الالكترونية، وأؤكد عليها مرّة أخرى. أعداؤكم يركّزون على القدرات الإلكترونية في الأسلحة والحروب، وهم يعملون في هذا النطاق منذ سنوات. الدفاع الالكترونّي مهمّ جدّاً بالنسبة لنا. اعملوا في مجال الإلكترونيات. ولحسن الحظّ تتوفّر لدينا الأرضيّات اللازمة لذلك: صناعاتنا الإلكترونية جيّدة، ولدينا علماء جيّدون وناشطون جيّدون، وتتوفّر عندنا أرصدة هائلة لا تنتهي هي شبابنا.
حفظكم الله تعالى جميعاً، وأنا أدعو لكم وأتمنّى أن تستطيعوا أنتم شباب القوّة البحرية أن تبنوا بمشيئة الله قوّة بحريّة تليق بمكانة الشعب الإيرانّي. قالوا إنّ بلدنا بلد بحريّ. وهذا هو الواقع.. إنّه مرتبط بالمحيط والبحر، والبحر هنا بحر له كلّ هذه الأهميّة والحساسية، سواء الخليج الفارسيّ أو بحر عمان وسائر الأجزاء والمواقع التي أضفت كلّ هذه الأهمية على هذه المنطقة. هذا البلد البحريّ يحتاج طبعاً إلى قوّة بحريّة مميّزة جداً. وهذا ما سيتأتّى بالتأكيد والذي سيقوم بهذا العمل هم أنتم الشباب الأعزاء.
حفظكم الله تعالى وشملكم بأدعية سيّدنا الإمام المهديّ المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، ودعت لكم أرواح الشهداء الطيّبة والروح المباركة لإمامنا الجليل في عوالم الملكوت إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1- إنزال المحرّك لفحصه و تصليحه.
56
49
الدرس التاسع: مسألة خبراء القيادة من مميّزات نظام الجمهورية الإسلامية
الدرس التاسع: مسألة خبراء القيادة من مميّزات نظام الجمهورية الإسلامية
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في أعضاء مجلس خبراء القيادة
المناسبة: الاجتماع السنويّ لأعضاء مجلس خبراء القيادة.
الحضور: أعضاء مجلس خبراء القيادة.
المكان: طهران
الزمان: 11/03/1431.ق.
6/12/1388.ش.
25/02/2010م.
57
50
الدرس التاسع: مسألة خبراء القيادة من مميّزات نظام الجمهورية الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
أوّلاً، أشكر السادة المحترمين أركان البلاد لجهودكم التي بذلتموها من أجل المشاركة في هذا الاجتماع الهام، وتفضّلكم بالمجيئ إلى هنا. وفّقكم الله ووفّقنا جميعاً للعمل بواجباتنا. ونقدّم التعازي ـ بمناسبة رحيل المرحوم الشيخ فاكر ـ لكم جميعاً أيّها الأخوة الأعزّاء ولزملائه، ونبدي أسفنا لفقدان شخصيّة خدومة وغيورة وقديرة ودؤوبة. منذ عام 1342 شهدتُ نشاطه وتحمّله للسجن. كنّا في السجن سويّة مع المرحوم الشيخ فاكر في مشهد سنة 42، فأعلى الله من درجاته.
مسألة الخبراء - كما قيل مراراً - مسألة هامّة جدّاً واستثنائية، وهي من مميّزات نظام الجمهورية الإسلامية. جماعة الخبراء هم جماعة العلماء الأعلام وأصحاب المكانة والمنـزلة بين الناس والموثوقين من قبل الجماهير في كلّ القضايا، وخصوصاً في قضيّة على جانب كبير من الأهميّة هي قضية القيادة وانتخاب القائد، وما يتعلّق بها من أمور. وهذه المشاركة المؤثّرة والحسّاسة بين الناس لها في السابق والحاضر آثاراها وخيراتها الجمّة. مشاركة الجماهير في الأحداث الكبرى والمهمّة وإعلانهم عن مواقفهم - كما حصل في التظاهرات الهامة في الثاني والعشرين من بهمن، والتي كانت بحقّ ظاهرة عظيمة في تاريخ الثورة وفي هذه الظروف والأحوال والأوضاع، وقبل ذلك مشاركة الجماهير في الشوارع في كلّ أنحاء البلاد في التاسع من دي - ما كانت لتتحقّق لولا توعية العلماء وهداة الجماهير المعنويين والموثوقين من قبل الجماهير، وتنويرهم قلوب الناس بحقائق الثورة. إن دور علماء الدين في هداية الناس لا يقتصر على الهداية في الشؤون الفرعية والمسائل الشخصية وما إلى ذلك. الأهمّ من كلّ ذلك هداية الجماهير فيما يتّصل بقضيّة اجتماعية كبرى هي قضية الدولة والنظام الإسلاميّ، والواجبات التي تترتّب على هذه القضية في مواجهة الأحداث العالمية. لو أُلغي دور علماء الدين والموجّهين الروحانيين والمعنويين، لما كانت هذه الثورة، ولما تأسّس هذا النظام ولما بقي وصمد أمام كل هذه المشكلات الجمّة التي واجهت الثورة. وعلى ذلك، فإنّ لعلماء الدين - وجماعة الخبراء من خيرتهم - تأثيراً مستمراً في أحداث المجتمع ومصيره، ونحن نرى آثار ذلك والحمد لله.
58
51
الدرس التاسع: مسألة خبراء القيادة من مميّزات نظام الجمهورية الإسلامية
يقوم النظام الإسلاميّ في أساسه على إطاعة الله.. هذه هي الميزة الرئيسة.. ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ...﴾1، ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾2 إذن، أساس النظام الإسلاميّ هو إطاعة الله تعالى.
وإن لطاعة الله تعالى مراتب عدّة: الأولى الطاعة الصادقة. في أحوال ومصاديق معيّنة يقول الله تعالى: افعلوا هذا - حتى لو كان هذا الفعل فعلاً شخصياً - يقول مثلاً: أقيموا الصلاة، أو صوموا، أو زكّوا، أو سائر الأمور. هذا نمط من الطاعة أن يطيع الإنسان الأمر الإلهيّ وينتهي بالنهي الإلهيّ. والأهمّ من هذه الطاعة الطاعة المنهجية ومعناها أن يطيع الناس المنهج والطريق والخطّة التي يرسمها الله تعالى للحياة، لكي تتحقّق هذه الخطّة. هذه الخطّة لا تحصل بالأعمال الفردية، إنّما هي حالة أخرى وقضيّة أخرى.. إنّها قضية أعلى وأسمى وتحتاج إلى عمل جماعيّ حتى تتحقّق الخطة الإلهية والهندسة الإلهية بخصوص وضع المجتمع الإسلامي. ومثال ذلك: كان المسلمون في مكّة يؤدّون أعمالهم، لكنّ المجتمع الإسلاميّ في مكّة يختلف عنه في المدينة حيث تأسّست هناك حكومة إسلامية.
لقد ظهرت هناك أعمال جديدة وحركة أعلى من الحركات الفردية وهي حركة ضرورية لو تحقّقت ﴿...لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم...﴾3، أي لكانت الحياة حياة طيّبة سعيدة، ولترتّبت الآثار والبركات والنتائج الإيجابية، النابعة من إطاعة الأوامر الإلهيّة، على الحياة الإنسانية.
النظام الإسلاميّ يمنح البشر السعادة. والنظام الإسلاميّ هو النظام المبتنى على الهندسة الإلهية للمجتمع وعلى الخطّة التي رسمها الخالق للمجتمع. إذا تحقّقت هذه الخطّة لأمكن غضّ الطرف عن كثير من المخالفات وحالات الزيغ والزلل الفردية والشخصية والجزئية. ثمة رواية تروي حديثاً قدسياً جاء فيه: "لأعذّبنّ كل رعيّة في الإسلام دانت بولاية كلّ إمام جائر ليس من الله، وإن كانت الرعيّة في أعمالها برّة تقيّة، ولأعفوّن عن كلّ رعيّة في الإسلام دانت بولاية كلّ إمام عادل من الله وإن كانت الرعيّة في أنفسها ظالمة سيئة".
بمعنى أن العمل الفرديّ والإساءة أو المخالفة الفردية في النظام الاجتماعيّ الكبير السائر عموماً بالاتّجاه الصحيح، يمكن التجاوز وغضّ النظر عنها، أو هي بتعبير أدقّ ممكنة الإصلاح والتصحيح، أي إنّ المجتمع سيستطيع على كلّ حال الأخذ بأيدي هؤلاء الأفراد إلى الغاية المطلوبة، وذلك خلافاً لما لو كانت الأعمال الفردية صحيحة لكن العلاقات والنظم الاجتماعية نظم خاطئة جائرة غير مرخّصة من قبل الله تعالى، بل مملاة من قبل الشيطان والنفس وأهوائها، عندئذ لن تستطيع الأعمال الفردية الأخذ بيد ذلك المجتمع إلى الغاية المنشودة وما تريده الشرائع الإلهية من سعادة للبشرية.
إذن، قضيّة الطاعة العامّة وأن ينشد الإنسان المنهج الإلهيّ فيجده ويسير عليه، قضيّة على جانب كبير من الأهميّة. إن النظام الإسلاميّ يقوم على أساس التوحيد. فالتوحيد هو القاعدة الأصلية. والركيزة المهمّة
1- سورة النساء، الآية 59.
2- سورة آل عمران، الآية 31.
3- سورة المائدة، الآية 66.
59
52
الدرس التاسع: مسألة خبراء القيادة من مميّزات نظام الجمهورية الإسلامية
الأخرى هي العدل، والركن المهمّ الآخر هو تكريم الإنسان وكرامته ورأيه. لو نظرنا إلى مجتمعنا الإسلاميّ من هذه الزاوية لوجدنا أنّه استطاع إطلاق حركة هائلة في العالم الإسلاميّ حيال هذه المنظومة الخاصّة، وهي لم تكن متاحة بأيّة حركة فرديّة. أي إنّنا حينما ننظر اليوم إلى العالم الإسلاميّ نجد أنّ المجتمع الذي تأسّس وفقاً للشكل والهندسة الإلهية هو نظام الجمهورية الإسلامية.
الأساس أساس إلهيّ. طبعاً ثمة نواقص ونقاط ضعف وينبغي تلافي نقاط الضعف هذه وتصحيحها والعمل على إصلاحها. الأمر كما لو أن ّقطاراً كان على السّكة الحديدية وهو يسير نحو هدف معيّن. من الطبيعيّ أن يكون في هذا القطار أشخاص يعملون بواجباتهم وآخرون لا يؤدّون واجباتهم. البعض يوسّخون أرضية القطار وبعضهم الآخر ينظفها، بعضهم دقيق في أداء واجباته وبعضهم الآخر ليس كذلك، لكنّ القطار سائر نحو هدفه وسيصل إلى هدفه بلا شكّ.
القضايا الجزئية داخل المجتمع يمكن إصلاحها. وحين أقول جزئية لا أعني أنّها غير هامة، فهي هامّة، لكنّها قضايا فردية وشخصية وجزئية تتعلّق بالأفراد، ويمكن بالتالي تصحيحها وإصلاحها. الأساس هو أن يستطيع الإنسان الحفاظ على النظام. هذا هو التحدّي الأصليّ الكبير الذي واجه النظام الإسلاميّ منذ بداياته وإلى اليوم.. أعني الحفاظ على النظام الإسلاميّ وصيانة هذا الأساس وحفظ تلك الحدود والمؤشّرات والعلامات التي تميّز هذا النظام عن سائر الأنظمة في العالم.
تجمعنا مع الآخرين مساحات مشتركة ونلتقي معهم على نقاط معيّنة، بيد أنّ الأمور التي تشكّل الهوية الأصليّة لهذا النظام - وهي إطاعة الله تعالى والسير على الصراط الإلهيّ - يجب أن تُحفظ وتصان. كان هذا هو التحدّي الحقيقيّ والرئيس لنظامنا منذ قيامه. بمعنى أنّ المعارضين لم يكونوا يطيقون هذا النظام وهذه المسيرة على أساس الأحكام الإلهية والدِّين الإلهيّ. لماذا لا يطيقونه؟ بعض يدرك بنظراته العميقة النافذة أن هذا تحدّ للأنظمة المادية، ولذلك يجابهه انطلاقاً من هذه النظرة. وبعضهم ينظر إلى الآثار المترتّبة على هذا النظام في العالم. وكما قال إمامنا الراحل يجب تشكيل خلايا حزب الله في كلّ العالم الإسلاميّ. وهم يرون أنّها تشكّلت فعلاً. ويرون أنّ القلوب مالت إلى الإسلام. ويرون أنّ الشعور بالهوية الإسلامية قد ظهر لدى كلّ واحد من المسلمين في الكثير من أنحاء العالم الإسلاميّ. وهذا ما يهدّد المصالح الماديّة للمستكبرين. إنّهم بالتالي يدركون أنّ مصدر هذه التغيّرات هنا. لذلك يواجهون هذا المصدر ويعارضونه، والحقّ أنّنا لا نعرف نظاماً واجه كلّ هذه المعارضات وبهذه الدرجة من الشدّة واتّحدت ضدّه جبهة الاستكبار. كان هذا هو الحال منذ بداية الثورة ولحدّ الآن.
حسناً، علينا الاهتمام بتعزيز النظام وحفظه. أسس النظام معروفة ومعلومة، وينبغي للجميع السير وفقاً لها والعمل على تكريسها وتقويتها، والجدّ والاجتهاد والإبداع من أجل ذلك.
من القضايا الهامة دور الشعب ومشاركته، ومن أبرز مظاهر ذلك الانتخابات. من هنا كانت الانتخابات في نظام الجمهورية الإسلامية أمراً حقيقياً وليس شكلياً أو صورياً. إننا لا نقصد من الانتخابات تقليد الآخرين، ولأنّ لدى الآخرين انتخابات باسم الديمقراطية لذلك يجب أن تكون لنا
60
53
الدرس التاسع: مسألة خبراء القيادة من مميّزات نظام الجمهورية الإسلامية
أيضاً انتخابات، كلّا، الانتخابات حالة حقيقية لإشراك أصوات الناس وآرائهم وإحراز رضاهم، وهو ما نلاحظه في العهد المعروف الذي كتبه الإمام عليّ عليه السلام لمالك الأشتر حيث أوصاه بترجيح رضا العامّة على رضا الخاصّة، وبعدم خشية سخط الخاصّة في ظلّ رضا العامّة.
يجب أن ننظر ونرى ماذا يقول الناس وماذا يريدون. في مشاركة الجماهير الخير والبركة. فمن بركاتها أنّ الأعداء حين ينظرون إلى الجماهير وهي تقف سنداً للنظام سيشعرون أنّ من المتعذّر معارضة هذا النظام، إذ لا يمكن معارضة شعب بأكمله. يمكن الضغط على نظام حكم معيّن بشتّى أنواع التضييقات والضغوط الاقتصادية والإعلامية والحرب النفسية أو إسقاطه حتّى، ولكن حين تكون لهذا النظام جذور شعبية ويكون هو والمسؤولون فيه على صلة وثيقة بالجماهير ستغدو مهمة العدوّ صعبة، وهي الآن كما تلاحظون صعبة.
لقد اتّسع العداء وتعمّق وازداد تعقيداً منذ بداية الثورة. لكنّ آمال العدوّ في دحر الثورة وهزيمتها انحسرت في الوقت ذاته. بمعنى أنّ الأمل الذي راود أعداء نظام الجمهورية الإسلامية قبل عشرين سنة أو ثلاثين سنة بأن يستطيعوا إسقاطه ومحوه وإزالته أو تضعيفه على الأقلّ حتّى لا يستطيع مواصلة تحرّكه، أقول إنّ هذا الأمل لم يعد اليوم موجوداً. يفهم الإنسان هذا من كلامهم ومن مبادراتهم ومن أعمالهم. إذن، ظاهرة حضور الجماهير ومشاركتهم في الساحة مسألة هامة، والانتخابات من أبرز مؤشّرات المشاركة الشعبية.
إن أساس القضيّة في الفتن التي أعقبت الانتخابات هو أن بعضهم رفض أصوات الناس ومشاركتهم ونال منها وكذّب النظام ووجّه له التهم. هذا هو الذنب الكبير الذي ارتكبوه. كان عليهم التسليم للشعب. بالتالي، حينما تقام الانتخابات بالمعايير التي يرسمها الإسلام - وسوف أذكر بعض المعايير والمؤشّرات التي يرسمها الإسلام للانتخابات وهي معتبرة ومحترمة من وجهة نظرنا - يجب عليهم التسليم أمام القانون وأمام ما يحكم به القانون، كما يجب عليهم التسليم والقبول أمام الحكم الذي يحدّده القانون. إذا حدّد القانون في قضية هامة مثل قضيّة الانتخابات حكماً، أو رسم أسلوباً معيناً للتحكيم فعلينا التسليم لهذه الأدوات القانونية حتى لو كانت خلافاً لميولنا.. هذه هي الانتخابات السليمة.
إذا كانت الانتخابات بهذا الشكل وبالنحو المقرّر والمعتبر في النظام الإسلاميّ، ستكون لها هذه الخصائص: أوّلاً هناك في الانتخابات احترام لأصوات الناس وتشخيصهم ورضاهم. أقولها لكم: "ما لا يوجد اليوم في العالم الديمقراطيّ الذي يقيم الانتخابات ويرفع راية الانتخابات هو "رضا العامّة". القضيّة هناك صورية وهي كذلك في أغلب الأحيان. هكذا هي في أمريكا وفي البلدان الديمقراطية المعروفة في العالم. ثمة وراء هؤلاء الأشخاص الذين يتقدّمون إلى ساحة الانتخابات ويخوضون التنافس الانتخابيّ، جماعات من جبهات خاصة، أي الرأسماليون والشركات وأصحاب النفوذ الماليّ، والعصابات المالية الكبرى.. هؤلاء هم الذين يمرّرون الأمور والأعمال بإعلامهم المضلّل وبأساليب مختلفة ويجرّون أصوات الشعب ذات اليمين وذات الشمال. والواقع أنّ المسألة صراع بين الشركات، وليست صراعاً بين أصوات الشعب. إنه شيء خيالّي غير حقيقيّ. الواقع أنّ الحكومة الديمقراطية هناك
هي حكومة الأقلّية وحكومة الخواصّ، وصفة الخواصّ هذه إنما تتحقّق لهم بسبب إمكاناتهم المالية الواسعة.. هؤلاء هم الذين يرسمون السياسات.
61
54
الدرس التاسع: مسألة خبراء القيادة من مميّزات نظام الجمهورية الإسلامية
والحال ليس كذلك في الانتخابات في نظام الجمهورية الإسلامية. الشعب هو الذي يتّخذ القرار هنا، وهو الذي يشخّص الأمور. وقد يكون هذا التشخيص صحيحاً في موطن من المواطن وخاطئاً في موطن آخر - ليس هذا هو مدار النقاش - بيد أنّ القرار بيد الشعب. ليس هنالك عصابات قوّة وثروة وما إلى ذلك وراء أصوات الشعب. في هذه الانتخابات ثمة حقاً احترام لأصوات الشعب، ولرأيه وتشخيصه. وينبغي التسليم لهذا التشخيص.. هذه مسألة.
المسألة الأخرى في الانتخابات وأهميّة الانتخابات هي التنافس والسباق السليم الموجود، والحيويّة والفرحة العارمة الشعبّية المتوفّرة فيها. الانتخابات شيء من شأنه أن يُشعر الناس بالمسؤولية وبأنّ عليهم النـزول إلى الساحة لتشخيص من يؤيدون. إنّ حيويّة الجماهير دم جديد يُحقن في شرايين النظام ويمنحه روحاً جديدة. ثمة تحوّل في الإدارة. من أهمّ حسنات هذه الانتخابات حؤولها دون الركود والخمول. أفضل أشكال استمرار النظام الاجتماعيّ هو أن يتحوّل ويتغيّر رغم ثباته. الركود سيّئ لكنّ الثبات حسن. الثبات يعني الاستقرار وأن يبقى هذا الإطار وهذه الهندسة محفوظين مستقرَّين متجذّرين، ويوجد في الوقت ذاته تحوّلات وسباق وتنافس داخل هذا الإطار. هذا هو أفضل الأشكال التي تستطيع بها سفينة النظام السير وسط البحار الصاخبة دون أضرار وأخطار. ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾1 هذا بخصوص سفينة نوح.. سفينة تجري وسط الأمواج العاتية لكنّ هذه الأمواج لا تستطيع زعزعة استقرار هذه السفينة ومتانتها. لا بُدّ من توفّر هذا الاستقرار. طبعاً يوجد في داخل هذا الاستقرار وفي داخل هذا الإطار تحوّل وتغيّر.
إذن، يتعيّن أن تكون كافّة التحوّلات داخل الإطار. إذا دخل شخص ساحة التنافس الانتخابّي وأراد تحطيم الإطار يكون قد خرج عن قواعد النظام وقواعد العملية الانتخابية، وهذا خطأ وغير صحيح. ينبغي أن يكون كلّ شيء داخل إطار النظام. هذا الإطار لا يقبل التغيير.
من الضروريّ التشديد على الحدود بين النظام ومعارضيه وأعدائه في الانتخابات. قد يكون هناك رأيان متباينان لاثنين من المرشّحين حول قضيّة اجتماعية أو اقتصادية، لا مانع من هذا أبداً. فليطرحوا آراءهم ولكن من غير أن تصل تلك الآراء إلى درجة معارضة أصل النظام ليشخّصوا حدودهم، فهذا التشخيص أمر ضروريّ. لقد أكّدنا مراراً على تمييز الحدود، والسبب هو أنّ الحدود إذا وهنت ستؤدّي إلى وقوع الناس في الخطأ. إنّها كالحدود بين البلدان إذا ضعفت ووهنت سيستطيع بعضهم دخول الحدود لغرض الخيانة من دون أن يعرفوا، وسيستطيع بعضهم الخروج من هذه الحدود عن غفلة وهم لا يشعرون أنّهم يخرجون من الحدود. لذلك، يتوجبّ التأكيد على الحدود. الخطأ الفاحش الذي يقع فيه الذين لا يراعون هذه الحدود في الانتخابات هو أنّهم يسبّبون المتاعب والحيرة للناس. ينبغي تشخيص الحدود بين النظام وأعدائه ومعارضيه بنحو تامّ، والاعتماد على هذا التشخيص وإعلان البراءة من أعداء النظام ومعارضيه.
1- سورة هود، الآية 42.
62
55
الدرس التاسع: مسألة خبراء القيادة من مميّزات نظام الجمهورية الإسلامية
طبعاً، ينبغي في الانتخابات ترجيح مصالح النظام والبلاد على المصالح الحزبية والفئوية والشخصية وما إلى ذلك، وأن تكون الآراء شفّافة وواضحة ويكون واضحاً ما الذي يريدونه. إذا أقيمت مثل هذه الانتخابات لكان ذلك يقيناً لصالح النظام ولصالح تقدّم البلاد ولصالح جماهير الشعب، وسيُحافظ هذا على النظام حياً متوثّباً ويتقدّم به إلى الأمام.
وأريد أن أقول إنّ الواقع العامّ لنظامنا ولحسن الحظّ ليس أسوأ مما كان في الماضي بحال من الأحوال، بل هو أفضل بكثير وعلى كثير من المستويات. يتوجّب التنبّه لهذه الحقيقة.. هذا ليس خيالاً مجنّحاً ولا هو تعبير عن طموحات، إنما هو كلام في ضوء الحقيقة والواقع.
تلاحظون اليوم أنّنا محرومون من الأنفاس الدافئة لإمامنا الجليل، ولا تعيش البلاد ظروف الحرب - حيث كان الناس يعيشون حالة النشاط العارم والتوثّب بسبب وجود الحرب - وابتعدنا زمنياً عن الثورة مدّة واحد وثلاثين عاماً، ولكن تلاحظون في الوقت ذاته أنّ عدداً كبيراً من شباب هذا الشعب - وغير الشباب في محلّهم، إنّما حتّى الشباب الذين هم عرضة للتهديدات الأخلاقية والفكرية وشتّى الانحرافات - يشاركون في الميادين المختلفة بمنتهى الطهر والتهذيب. وكذا الحال بالنسبة للجامعات، وخارج الجامعات، وفي مختلف المجالات الاجتماعية.
الشباب يشاركون غالباً في التجمّعات العظيمة التي تقام. وقد شاهدتم نموذجاً نادراً لذلك في الثاني والعشرين من بهمن، سواء في طهران أو في باقي المدن - كما يلاحظ المرء عبر كاميرات التلفزة وما يسمعه ممن شاركوا وشاهدوا عن كثب - حيث كان معظم المشاركين من الشباب. غالبيّة تلك الحشود كانت من الشباب. فعلى ماذا يدلّ هذا؟ الناس يشعرون بالمسؤولية فينزلون إلى الساحة. شعور الناس ـ والشباب خاصّة ـ بالمسؤولية وبعد مضيّ واحد وثلاثين عاماً على الثورة حدث عظيم جداً.. حدث كبير جداً.
لماذا ساهمت الجماهير في الثاني والعشرين من بهمن لهذه السنة بحرارة وحشد أكبر مما كان في السنة الماضية؟ لأنّهم شعروا بالخطر ورأوا أنّ هناك من يتذرّع بقضيّة الانتخابات وما بعد الانتخابات للنيل من أساس النظام، وممارسة المعارضة والتهجّم على النظام. وكان سلوكهم الخطير هو أنّهم كانوا يذكرون أحياناً اسم الإمام والثورة لكنّ أقوالهم وأفعالهم ومبادراتهم وتحريضاتهم في النقطة المعاكسة تماماً لمنهج الثورة ومسارها وأهدافها. شعرت الجماهير بذلك. أن يدرك الشعب هذا الأمر ويشعر به فهذا ينمُّ عن بصيرة عالية، وهو ظاهرة على جانب كبير من الأهميّة. وأن ينـزل الناس بعد شعورهم ذاك إلى الساحة بهذه الكثافة والحماس فهذا دليل هّمة وعزيمة عالية تمثّل حالة مهمّة جداً. يجب أن نرى كل هذا ونعرف قدره ونشخّص عوامله. من العوامل المؤدّية إلى ذلك تديّن الناس والملاك الأساس في النظام الإسلاميّ، أي طاعة خالق العالم. هذه برأيي النقطة الأساس أكثر من سواها.
إننا نواجه اليوم جبهة عداء كبيرة تمتدّ على امتداد أنحاء عالم الأقوياء. إنّها جبهة تشكّلت في مراكز القوى الدولية، والقوى المالية والاقتصادية التي غالباً ما تكون في أيدي الصهاينة والرأسماليين الكبار. وتستخدم هذه الجبهة في مواجهتها للنظام الإسلاميّ كافّة الوسائل. ويوجد في الداخل للأسف
من يتجاوبون معها، ويتحوّلون إلى أطراف تثق بهم تلك الجبهة فيكرّرون أقوالها ويتعاونون معها لتستطيع توجيه ضربة لنظام الجمهورية الإسلامية! ثمة مثل هذه الحالة للأسف. ولكن ثمة مقابل ذلك وعي الجماهير وصحوتهم ومشاركتهم وتدينّهم وحبّهم لمباني النظام وركائزه. هذه حقائق مشهودة في الجمهورية الإسلامية، وقد تقدّمنا إلى الأمام طوال كلّ
63
56
الدرس التاسع: مسألة خبراء القيادة من مميّزات نظام الجمهورية الإسلامية
هذه الأعوام المتمادية ونشكر الله تعالى على ذلك. واجبنا اليوم هو الحفاظ على هذه الهندسة العظيمة.. يجب الحفاظ عليها. وينبغي في الحفاظ على هذه الهندسة تشخيص الحدود. هنا يكمن التشخيص للحدود الذي أتحدّث عنه، وإلا فيما دون ذلك من الأمور والمسائل - سواء المسائل التي تأتي في الدرجة الثانية من الأهميّة أو ما دون ذلك - قد تظهر بعض الاختلافات في وجهات النظر. هذه الاختلافات في الرؤى والأفكار لا تضرّ بالمجتمع، بل إنّ اختلاف وجهات النظر يؤدّي إلى التقدّم. ليست هذه التباينات في الآراء بالشيء المهمّ. وقد تؤثّر في التنافس الانتخابّي ولا إشكال في ذلك. المهم هو أساس النظام والهندسة الكلية للنظام والخارطة الجامعة للنظام. ينبغي أخذ هذا الأمر بنظر الاعتبار وإبداء الحساسية تجاهه. يتعيّن النظر في ماهية العلاقة بين الكلام الذي يطلق والأفعال التي يؤتى بها وبين الخارطة العامّة.
تنبغي معرفة العداوات. هذه هي مشكلتنا، ولهذا السبب أكرّر مسألة البصيرة للخواصّ. أحياناً يُغفل عن العداوات الموجّهة للأسس والركائز، وتحمل على القضايا الجزئية. وقد كانت لدينا نفس هذه المشكلة للأسف في بداية الثورة الدستورية. في تلك الفترة أيضاً كان ثمة علماء كبار - ولا أريد ذكر الأسماء فهم مشاهير والكل يعرفونهم - لم يروا المؤامرة التي ينسجها المتأثرون سلبياً بالغرب ما يسمى بالمثقّفين المهزومين أمام الأفكار الغربية.
لم يلتفتوا إلى أنّ الكلام الذي يتحدّث به هؤلاء في مجلس الشورى الوطنيّ يومذاك أو كتبوه في صحفهم إنّما هو محاربة للإسلام، لم يتفطّنوا لهذا الشيء وانتهجوا منهج المماشاة. وكانت النتيجة أن شُنق الشخص الذي علم بذلك الوضع وأدركه - كالمرحوم الشيخ فضل الله نوري - أمام أعينهم ولم يبدوا أي تحسّس أو ردّة فعل أو ردود فعل تجاه ذلك. ثمّ إنّ نفس أولئك الذين لم يبدوا أية ردة فعل أو ما يلزم من الاهتمام اللازم لما أصاب الشيخ فضل الله، تعرضوا للعدوان والتطاول والهتك وامتدّت إليهم النيران، فأزهقت أرواح بعضهم وهتكت سمعة بعضهم. كان ذلك خطأ وقع يومذاك وعلينا اليوم أن لا نقع فيه.
الإمام الخمينيّ قدس سره كان جامعاً لكثير من الصفات القيادية، ومن أهم ميزات شخصيته هو هذ التحسس. فمثلاً بمجرّد أن ظهر تحرّك ضدّ قانون القصاص، أدرك الإمام كنه القضية بحساسيّته، وفهم ما معنى معارضة قانون القصاص الإسلاميّ، فصدر عنه ردّ الفعل العجيب والحاسم الذي تتذكّرونه. يجب أن نكون حسّاسين متفطّنين هكذا.
يتوجّب علينا أن لا نبدي أيّ إهمال لأساس النظام وهيكليته. هناك قضايا من الدرجة الثانية يمكن بالطبع معالجتها. شاهدت مثلاً اهتماماً بالمشروع المطروح هذه الأيام في مجمع تشخيص مصلحة النظام. ومن الواضح أنّ هذا المشروع حينما يُطرح في مجمع تشخيص المصلحة فإنّ رأي المجمع رأي استشاريّ على كلّ حال، وسوف يأتي الأمر إلينا وسوف نعمل ما نعتقد به ونطرحه باعتباره سياسة عامّة.
64
57
الدرس التاسع: مسألة خبراء القيادة من مميّزات نظام الجمهورية الإسلامية
لا مِراء أنّ لمجلس صيانة الدستور وظائفه وينبغي عدم النيل من هذه الوظائف المصرّح بها في الدستور وهي الإشراف على الانتخابات والبتّ في أهلية المرشّحين وأمثال ذلك. يمكن إصلاح هذه الأمور، أي ينبغي عدم جعل هذه القضية مداراً للجدل والصراع والنـزاع. هذه أشياء يمكن علاجها وإصلاحها. وقد يقع المرء في الخطأ في هذه الغمرة. الخطأ هنا ممكن التصحيح. وهذه ليست قضايا رئيسة، إنّما القضايا الرئيسة هي تلك التي كانت طوال هذه الأشهر الثمانية أو التسعة التي أعقبت الانتخابات محل خلاف بين النظام الإسلاميّ ومنظومة الكفر والاستكبار، وهنا كرر بعضهم كلام أولئك.
إنّهم يريدون زوال النظام الإسلاميّ الدينّي المبتنى على طاعة الله ورسوله. كلّ ما يضمن الطاعة العامّة لهذا النظام يعدّ بالنسبة لهم عدواً، فيعملون وينشطون ضدّه ويبذلون كلّ مساعيهم لضربه. وينبغي لهذا الجانب من القضية أن يبذل الواحد منّا بدوره قصارى سعيه وجهده للحفاظ على هذه الأركان الأصلية والمباني والمبادئ الرئيسة. يتوجَّب عدم الغفلة عن المسألة الرئيسة.ويجب تشخيص الخطوط بنحو واضح وصريح. بمعنى أنّ الملتزمين بالنظام الإسلاميّ وبمشاركة الشعب - بهذه الحوافز والإيمان الذي يحمله الشعب - يجب أن تتشخّص الحدود الفاصلة بينهم وبين الذين لا يريدون لهذه الحركة أن تستمرّ بشكلها الإسلاميّ هذا.
الذين يعارضون القانون ويخالفونه. وينبغي أن تكون هذه الحدود حدوداً واضحة جليّة حتّى لا يقع الناس في الخطأ والشبهة. الناس ينظرون إلينا، وينبغي لنا نحن أن نعلم ما هي الخطوط الفاصلة. هذا هو أساس القضيّة، وكلّ ما دونه يمكن صرف النظر عنه ومعالجته. حتّى لو كان ثمة تباين في وجهات النظر يتحتّم أن لا يؤدّي هذا التباين إلى معارضة وجدال وخصومة، فالعدوّ هو الذي يربح من هذه الخصومات. هذا هو ما نقوله.
الذين يؤمنون بهذه الخارطة العامّة المتبلورة في الدستور وسيادة القانون وتحكيمه هم داخل النظام الإسلاميّ. والذين يرفضون هذه الأمور إنّما يخسرون بأيديهم صلاحية حضورهم داخل النظام الإسلاميّ، فهم لا صلاحية لهم لذلك. الذين لا يبدون استعداداً لتحمل القانون ولا هم مستعدون لقبول الأكثرية، والذين يشككون في تلك الانتخابات العظيمة التي شارك فيها أربعون مليوناً فكانت مبعث فخر، ويريدون تبديل نقطة من نقاط قوّة النظام إلى نقطة ضعف هؤلاء في الواقع يخرجون أنفسهم بأنفسهم من سفينة النجاة هذه المتمثّلة بالنظام الإسلاميّ. وإلا لا يريد أحد إخراج أحدٍ من سفينة النجاة. نبّي الله نوح عليه السلام قال لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ﴾1 والنظام الإسلاميّ يتأسّى بالنبّي نوح ويقول للجميع: تعالوا وكونوا معنا واركبوا سفينة النجاة هذه، ﴿وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ﴾2
هذا هو الهدف والمبنى. إنّنا لا نطرد أيّ إنسان من النظام، ولكن ثمة أشخاص يطردون أنفسهم بأنفسهم من النظام، يخرجون أنفسهم من النظام.
نتمنّى أن يوفّقنا الله تعالى لنستطيع الحفاظ على النظام الإسلاميّ بكلّيته هذه، وباتّجاهه الصحيح الذي سرنا عليه إلى الآن والحمد لله، وأن نستطيع تقديم الخدمة لهذا النظام والشعب. حينما ينظر
1- سورة هود، الآية42.
2- سورة هود، الآية42.
65
58
الدرس التاسع: مسألة خبراء القيادة من مميّزات نظام الجمهورية الإسلامية
المرء يجد أن وعي الناس وبصيرتهم وشعورهم بالمسؤولية قبال النظام الإسلاميّ نادر حقاً. بمثل هذا الشعور بالمسؤولية وبمثل هذه الجاهزية، لا شكّ أنّه لو وقعت في البلاد حالياً حادثة مثل حادثة الدفاع المقدّس لكان الذين يخوضون غمار الساحة أكثر من الشباب الذين خاضوا يومها غمار الدفاع المقدّس، إن المرء ليشعر بهذا من هذه الحركات الشعبية الهائلة.
نأمل أن يوفّقنا الله تعالى نحن والشعب وكافّة المسؤولين ليستطيعوا النهوض بواجباتهم. وواجبات المسؤولين على وجه الخصوص جسيمة. المسؤولون في السلطات الثلاث مسؤوليّاتهم عظيمة جداً، وعليهم النهوض بها بمزيد من الدقّة والجدّ والاهتمام، وليُنـزل الله تعالى أيضاً رحمته علينا بمشيئته ولا يقطع عنّا فضله. كلّ ما حصل لحدّ الآن إنّما هو بفضل من الله، وبعد الآن أيضاً إذا شملتنا الهداية والرحمة الإلهية فسوف لن يقطع الله تعالى عنّا عونه ومدده.
إنّني أتقدّم بالشكر الجزيل للسادة المحترمين في مجلس الخبراء. أشكر رئاسة مجلس الخبراء المحترمة والسادة المسؤولين على جهودهم التي يتحمّلونها والأعمال الجيّدة التي يقومون بها والكلمات القيّمة التي يطرحونها. أرجو أن تقع كلّ هذه الجهود والمساعي إن شاء الله موقع الرضا لدى سيّدنا الإمام المهديّ المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف وأعاننا الله تعالى على أن نستطيع إسعاد قلبه المقدّس ونكون من المشمولين بأدعيته، وتكون الروح الطاهرة لإمامنا الجليل وأرواح الشهداء الطاهرة مسرورة راضية عنّا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
66
59
الدرس العاشر: إنّ فلسطين ستتحرّر يقيناً وستعود لأهلها
الدرس العاشر: إنّ فلسطين ستتحرّر يقيناً وستعود لأهلها
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في المشاركين في ملتق غزة
المناسبة: ملتقى غزة
الحضور: المشاركون في ملتقى غزّة
المكان: طهران
الزمان: 8/12/1388ه.ش
13/3/1431ق.
27/2/2010م
67
60
الدرس العاشر: إنّ فلسطين ستتحرّر يقيناً وستعود لأهلها
بسم الله الرحمن الرحيم
أرحّب بكم جميعاً أيّها الضيوف الأعزّاء والإخوة والأخوات المحترمون. وأسأل الله تعالى بتضرّع أن يوفّقنا وإيّاكم لمواصلة هذا الطريق وهذا العمل الكبير. كما أشكر الإخوة الأعزّاء الذين أعدوّا لهذا الملتقى في طهران وأتمنى أن يكون اجتماعكم هذا أيّها الأصدقاء خطوة إلى الأمام إن شاء الله.
أوّلاً أرى لزاماً عليّ أن أشكر وأقدّر الشعب الفلسطينيّ وأهالي غزّة تقديراً لائقاً. ما ذكرتموه عن تقدّم المقاومة ومتانة المواقف الفلسطينية في السنوات الأخيرة ما كان متاحاً لولا هذا الصمود العظيم الذي سجّله الشعب الفلسطينيّ. الحقّ والإنصاف أنّ الشعب الفلسطينيّ وأهالي غزّة خلّدوا اسمهم في التاريخ كأكثر الشعوب مقاومة.
إن ما مرّ على الشعب الفلسطينيّ طوال هذه الأعوام الأخيرة التي انطلقت فيها الانتفاضات وتشكّلت فيها المقاومة الحقيقية، إنّما هو شيء وظاهرة عجيبة. ولا يمكن أن نعزو هذا الشيء لسوى الهداية والعون الإلهيّ. يرى المرء كلّ هذه المصائب في غزّة، وكلّ هذه المرارات وكلّ هذه الضغوط على مدى 22 يوماً من الحرب ما بعد الحرب من الأيام ولحدّ الآن - حيث انهالت المصائب تترى على الأهالي هناك - لكنّ هؤلاء الأهالي صامدون بصلابة كالجبال. هذا واقع عظيم جداً ولا يمكن تجاهله.
ما أريد قوله هو أنّ عليكم تكريس هذه الاستقامة وهذه الروح المقاومة لدى الأهالي ما استطعتم. قلتم وصحيح ما قلتم: الحلّ الوحيد لقضيّة فلسطين هو المقاومة والكفاح. هذا صحيح، لكنّ المقاومة والكفاح رهن بالحفاظ على معنويات الشعب والحفاظ على الأمل لدى الأهالي وإبقائهم في الساحة. هذا باعتقادي أكبر عمل ينبغي أن تقوم به المجاميع الفلسطينية والمنظّمات والمناضلون الفلسطينيون. الضغوط التي تمارس راهناً على غزّة من الجانبين، سواء من جانب العدوّ الصهيونّي، أو من الجانب الآخر، القصد منها صرف الناس عن المقاومة. الضغوط التي تمارس ضدّ الناس في الضفّة الغربيّة سواء على شكل بناء مستوطنات، أو فيما يتعلّق بقضيّة القدّس - التي أشير إليها – أو الصعوبات الشديدة أو الجدار العازل وما إلى ذلك كلّها من أجل صرف الجماهير عن المقاومة ودفعها إلى خيار
68
61
الدرس العاشر: إنّ فلسطين ستتحرّر يقيناً وستعود لأهلها
الاستسلام. يجب أن لا نسمح بهذا. يجب أن لا تسمحوا بحصول هذا. يجب المحافظة على الأمل لدى الشعب الفلسطينيّ وأهالي غزّة، هذا الشعب المقاوم الفولاذيّ، ليعلموا أنّ تحرّكهم هذا سيؤتي نتائجه. هذه نقطة أعتقد أنّها على جانب كبير من الأهميّة.
النقطة الأخرى هي أنّ ما نشاهده من التقدّم في القضيّة الفلسطينية – وهو تقدّم لا يقبل الإنكار - يمثّل اقتداراً مضطرداً لجبهة المقاومة في قبال جبهة الاستكبار والكفر، وهو أمر مشهود وواضح. ما يلاحظ على هذا الصعيد ناجم عن الإيمان بالله والتوكّل عليه وإشراك عنصر المعنوية في الكفاح. إذا لم يكن الكفاح مصحوباً بعنصر الإيمان سيكون هشاً ضعيفاً. الكفاح ينجح حينما يشتمل على الإيمان بالله والتوكّل عليه. ينبغي تعزيز الروح الدينية والإيمان الحقيقيّ بالوعد الإلهيّ والتوكّل على الله تعالى لدى الجماهير. ينبغي تقوية حسن الظنّ بالله تعالى وبوعده لدى الشعب. ونحن أيضاً يجب أن نحسن الظنّ بالله تعالى. الله تعالى أصدق القائلين. وهو القائل: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ﴾1 وقد ورد كذلك في الحديث: "من كان لله كان الله له" ويقول لا تخشوا الأعداء ﴿وِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾2 هذا ما يبثّه فينا ويبيّنه لنا. الله تعالى صادق. ونحن إذا عملنا بواجبنا في هذا السبيل وتحرّكنا في سبيل الله، وناضلنا من أجله، وجعلنا الهدف رضاه فسوف يكون النصر نصيبنا لا مراء.
أقول لكم: انتصار الشعب الفلسطينيّ في استعادة حقّه ليس أصعب من الانتصار الذي حقّقه الشعب الإيراني في تأسيس الجمهورية الإسلامية. يومذاك - يوم كان الطاغوت يحكم هذا البلدِ لو نظر شخص إلى المسرح العالميّ وإلى المشهد في المنطقة لوجد أن تغيير النظام الطاغوتيّ هنا من المحالات الأكيدة، وخصوصاً تبديله إلى نظام إسلاميّ. كان هذا يبدو من المحالات حسب الموازين الطبيعية، ولم يكن ممكناً أو مقدوراً وفق المعايير العادية.
رغم السطوة الأمريكية في هذه المنطقة والدعم غير المشروط لنظام الشاه وعدم توفّر المجاهدين والمناضلين هنا على أية إمكانيّات وفرص ـ أي إن إمكاناتنا في ذلك الوقت كانت أقلّ بكثير مما لدى أهاليكم في غزّة أو الضفّة الغربية اليوم ـ رغم ذلك وقع هذا الحدث وتحقق ما كان يبدو محالاً. وذلك بفضل مواصلة الكفاح والنضال وببركة التوكّل على الله والقيادة صاحبة العزيمة والحسم لإمامنا الجليل. وأقول إنّ هذا الحدث يمكن أن يحصل في فلسطين أيضاً. بعض الناس ينظر إلى المشهد وإلى ما تمتلكه أمريكا من قدرة وإلى دعم الغرب للصهاينة وإلى قدرات الشبكة المالية للصهاينة في أمريكا وسائر أنحاء العالم وإلى قدراتهم الإعلامية والدعائية، فيخطر له أنّ إعادة فلسطين للفلسطينيين أمر مستحيل. لكنني أقول:لا، هذا الأمر غير الممكن سيتحقّق بشرط الصمود والاستقامة.
يقول الله تعالى: ﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾3، لا بُدّ من الاستقامة ولا بدّ من الصمود ومواصلة الطريق. من مقدّمات مواصلة الطريق هذه الملتقيات التي تقيمونها والتنسيق والإعلام العالميّ الذي تمارسونه وهذا الكلام الذي قلتموه أيّها السادة وكلّه صحيح. هذه الاقتراحات كلّها لا بدّ منها وصحيحة. لقد سمّموا الرأي العام العالميّ.
1- سورة الحج، الآية 40.
2- سورة النساء، الآية 76.
3- سورة الشورى، الآية 15.
69
62
الدرس العاشر: إنّ فلسطين ستتحرّر يقيناً وستعود لأهلها
إن أمريكا والغرب اليوم يكذّبون صراحة فيما يخصّ القضية الفلسطينية والكثير من القضايا الأخرى.. يكذبون صراحة. فاجعة عظيمة مثل فاجعة غزّة في حرب الـ 22 يوماً يعرضونها مقلوبة للرأي العام.
ينبغي أن نتنبّه لهذه الأمور. نريد أن نذكّر بهذه المسائل. غزّة وفلسطين اليوم ساحة لفضيحة الغرب. يزعم الغرب الدفاع عن حقوق الإنسان ويتجاهل أكبر وأفجع انتهاك لحقوق الإنسان في غزّة. تعاقبت الأيام والغربيون لا يتفوّهون حتّى بكلمة واحدة لصالح أهالي غزّة والدفاع عنهم. كانت الأيام تتوالى وتمضي وكنّا نترصّد أن نسمع منهم شيئاً فلم يصدر شيء، لا عن أوربا وأمريكا وحسب، بل حتّى عن منظّمات حقوق الإنسان، والمنظّمات التي تدّعي الدفاع عن الحرية، لم يصدر عنها كلمة لصالح أهالي غزّة. وبعد أن تعالت أصوات الشعوب وتظاهر الناس في البلدان المختلفة وتكلّموا وتصاعدت الفضيحة بدأوا هم أيضاً بالكلام، ومجرّد الكلام.
لم يدعم الغرب أهالي غزّة إطلاقاً حيال مثل هذه الفاجعة الهائلة التي ارتُكبت أمام أنظار الجميع. ولا يزال الغرب لحدّ اليوم على نفس هذه المواقف. لقد فضحت الأمم المتحدّة نفسها. كانت أمريكا مفضوحة وفُضحت أكثر رغم انتشار تقرير غولدستون وإطّلاع الجميع عليه.
يجب أن يقف ساسة الكيان الصهيونيّ المجرمون أمام المحكمة ويعاقَبوا. ولكن لا يحدث أيّ شيء من هذا القبيل. لا تُتّخذ أيّة خطوة على هذا السبيل. وإنما يتزايد الدعم للحكومة الصهيونية الغاصبة المزيّفة. هذا ما فضح الغرب. أمريكا بهذه الحكومة الجديدة والرئيس الجديد تدّعي أنّها تريد التغيير. رفعوا شعار التغيير من أجل تحسين سمعة أمريكا السيئة في المنطقة الإسلامية بعض الشيء، لكنهم لم يستطيعوا ذلك، وليعلموا أنّهم لن يستطيعوا ذلك إلى آخر المطاف، لأنّهم يكذبون على الناس صراحة. يكذبون في الكثير من القضايا والأمور. ونحن في الجمهورية الإسلامية نرى ونسمع أكاذيبهم دوماً. تزييف الحقائق والواقع عملية شهدناها منهم طوال ثلاثين سنة وتعوّدنا عليها، لكنّ العالم سوف يصدر أحكامه والتاريخ سيقول كلمته.
أقول لكم إن الحضارة الغربية اليوم تواجه تحدياً فيما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينية. إن دعاوى الليبرالية الديمقراطية تواجه التشكيكات اليوم. أي إنّكم بمقاومتكم في فلسطين أسقطتم وأبطلتم إدّعاء غربياً له من العمر عدّة مئات من السنين استطاع الغرب بواسطته الهيمنة على العالم والتحكّم فيه. إن المقاومة التي تمارسونها هامة وعظيمة إلى هذه الدرجة.
قضيّة غزّة ليست قضيّة قطعة من الأرض، وقضيّة فلسطين ليست قضيّة جغرافية. إنّها قضيّة الإنسانية. قضيّة فلسطين اليوم مؤشّر يميّز بين الالتزام بالمبادئ الإنسانية ومعاداة هذه المبادئ. القضيّة هامة إلى هذه الدرجة. أمريكا أيضاً ستتضرّر من هذه المعاملة بلا شكّ. هذه الأمور التاريخية التي تستمرّ عشرة أعوام أو عشرين عاماً أو ثلاثين عاماً تعدّ كلحظة واحدة في التحوّلات التاريخية وستمضي سريعاً. لا مِراء أنّ أمريكا ستُنهزم بسبب التعامل الذي انتهجه الأمريكان طوال الخمسين أو الستين سنة الأخيرة فيما يتعلق بقضية فلسطين. القضية الفلسطينية ستبقى وصمة عار وخزي لأمريكا طوال القرون المتمادية في المستقبل. فلسطين سوف تتحرّر، ولا يخالجكم أي شكّ أو شبهة في هذا الخصوص.
70
63
الدرس العاشر: إنّ فلسطين ستتحرّر يقيناً وستعود لأهلها
فلسطين ستتحرر يقيناً وستعود لأهاليها وستتشكّل فيها حكومة فلسطينية. هذا مما لا ريب فيه. لكنّ السمعة السيّئة لأمريكا والغرب سوف لن تزول. سوف يبقى سوء السمعة يلاحقهم. لا شكّ أنّ الشرق الأوسط الجديد سيتشكّل وفقاً للحقائق التي قدّرها الله تعالى. وسيكون هذا الشرق الأوسط الجديد شرق أوسط الإسلام. كما أنّ قضيّة فلسطين قضيّة إسلامية. جميع الشعوب مسؤولة حيال فلسطين. كافّة الحكومات مسؤولة قبال فلسطين سواء الحكومات المسلمة أو الحكومات غير المسلمة. أيّة حكومة تدعي مناصرة الإنسانية مسؤولة. لكنّ واجب المسلمين أثقل وأكبر. إن الحكومات الإسلامية مسؤولة وعليها أن تعمل بمسؤولياتها. وأية حكومة لا تعمل بواجبها ومسؤوليتها إزاء القضية الفلسطينية سوف تواجه عواقب ذلك لأنّ الشعوب استيقظت وتطالب الحكومات، والحكومات مضطرة لتحمل مسؤولياتها أمام هذه القضيّة.
القضيّة الفلسطينية بالنسبة لنا في الجمهورية الإسلامية ليست قضيّة تكتيك ولا هي حتّى إستراتيجية سياسية، إنّما هي قضيّة عقيدة قلبية وإيمانية. لذلك لا توجد بيننا وبين شعبنا في هذا الخصوص أيّة فواصل واختلافات. بمقدار ما نهتمّ بقضيّة فلسطين يهتمّ بها شعبنا أيضاً.. أولئك الذين يعلمون ما هي قضية فلسطين وهم الأكثرية الساحقة من شعبنا. وتلاحظون في يوم القدس في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان من كلّ سنة التي أعلنها الإمام الخمينيّ يوماً للقدس، تلاحظون أنّ الناس هنا يتظاهرون في المدن الكبيرة والصغيرة وحتّى في القرى كما يتظاهرون في يوم الثاني والعشرين من بهمن ذكرى انتصار الثورة الإسلامية والذي يعدّ أمراً داخلياً خاصاً بشعبنا وبلدنا، ونراهم يسجّلون في يوم القدس نفس المشاعر ونفس الحضور والمشاركة التي يسجّلونها في يوم الثاني والعشرين من بهمن. في يوم القدس أيضاً يخرج الشعب في كافة مدن البلاد الكبيرة والصغيرة والقرى إلى الشوارع سواء كان الجوّ حاراً أو بارداً ويعبّرون عن مشاركتهم واندفاعهم. واعلموا لولا أنّنا ـ كمسؤولين للبلاد ـ نمنع الناس لسار الكثير من شبابنا ليشاركوا بأجسادهم في الساحة الفلسطينية في حرب غزّة. ولقد سار شبابنا إلى المطار ولم يغادروه رغم كلّ المحاولات، إلى أن غادروه بنداء منّي. لو لم أوجّه لهم هذا النداء لما تركوا المطار. كانوا يقولون خذونا إلى غزّة، وكانوا يتصورون أن بوسعهم الوصول إلى غزة. هكذا هي دوافع شبابنا ومحفّزاتهم. قضيّة غزّة وفلسطين قضيتنا وهي قضية إسلامية وقضيّة كلّ المسلمين وتمثّل واجباً بالنسبة لنا. وما نقوم به إنّما هو واجبنا ولا نمنّ به على أحد. فنحن إنّما نقوم بواجبنا. ونسأل الله تعالى أن يعيننا لنقوم بأداء واجباتنا.
ولكن أنتم الأعزاء الحاضرين هنا أصِرّوا على هذا الكلام الذي قاله السادة وهو أن الأساس هو الكفاح والنضال، وأنّه لا سبيل للحلّ في القضيّة الفلسطينية سوى المقاومة. قولوا هذا الكلام بصراحة وعلناً ولا تسمحوا للمجاملات السياسية والتعتيم السياسي بأن يتغلّب على هذا المنطق. كلّ فلسطيني انتحى عن طريق المقاومة جانباً تضرّر. إسرائيل ليست صادقة في مطالبتها بالسلام. وحتّى لو كانت صادقة فهي على باطل ولا حقّ لها هنا، لكنّها ليست صادقة. الذين انخرطوا في طريق التفاوض اضطرّوا للقبول بما يفرضه عليهم العدوّ، ولو ابتعدوا لحظة واحدة عن طريق ما يفرضه عليهم العدوّ فسوف يُقصَوْن أو يهانون، وقد شاهدتم مصاديق للحالتين. أقصوا بعضهم وأهانوا آخرين. طريق القدس وطريق فلسطين وطريق إنقاذ القضية الفلسطينية وحلّها هو طريق الكفاح فقط، وهذا ما قاله السادة، وأنا مسرور لأنّ هذه القضية ممّا تُجمِعون عليه.
71
64
الدرس العاشر: إنّ فلسطين ستتحرّر يقيناً وستعود لأهلها
وإن من لا ينتهج هذا السبيل إنّما يوجّه الضربات للقضيّة الفلسطينية من حيث يدري أو لا يدري. إذا كان يدري ففعلته هذه خيانة وإذا كان لا يدري فما يقوم به جهل وغفلة، لكنّها على كلّ حال ضربة توجّه للقضية الفلسطينية. إنّهم بذلك يوجّهون الضربات للقضية الفلسطينية. ليس أمام فلسطين من سبيل سوى المقاومة، هذا ما يجب أن يقولوه ويطالبوا به وعلى الحكومات الإسلامية أن تكرّره. طبعاً الكثير من الحكومات العربية خرجت من الامتحان في قضيّة غزّة وما قبلها وما بعدها من القضايا فاشلة فشلاً ذريعاً. خرجوا من الامتحان فاشلين جداً. كلّما طُرحت القضية الفلسطينية قالوا إنّها قضيّة عربية! حينما يحين وقت العمل تُلغي فلسطين تماماً من معادلاتهم كلّها، وبدل أن يساعدوا فلسطين والفلسطينيين وإخوتهم العرب ـ حتّى لو كانوا غير مؤمنين بالإسلام فليلتزموا بعروبتهم على الأقلّ ـ تراهم ينسحبون من الساحة كلّهم. خرجوا من الامتحان فاشلين للغاية. وهذا ما سيُسجِّله التاريخ. وهذه العقوبات والجزاء لا تختصّ بالآخرة، فهي موجودة في الدنيا أيضاً. كما أن النصرة الإلهية لكم أنتم الذين تجاهدون وتناضلون لا تختصّ بالآخرة. في هذه الآية التي تليت ـ وكرّرها السيد خالد مشعل ـ تقول الملائكة: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾1 إذن، ليست المسألة في الآخرة فقط، بل في الدنيا أيضاً تعمل ملائكة الله وقواه المعنويّة على مدّ يد العون للذين: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾2
ونحن نشاهد عونهم في الدنيا بأعيننا. ملائكة الله أعانونا نحن أيضاً في ثمانية أعوام من الدفاع المقدّس. وقد شاهدنا هذا العون بأعيننا. قد لا يصدّق ذلك الإنسان الغارق في المادّيّات، دعه لا يصدّق. نحن شاهدنا هذا العون. واليوم أيضاً تساعدنا ملائكة الله، ونحن واقفون وصامدون بفضل العون الإلهيّ. قوّتنا العسكرية لا تقبل المقارنة بأمريكا. وقدراتنا الاقتصادية وإمكاناتنا المالية والإعلامية وامتداد نشاطنا السياسيّ لا يقبل المقارنة بأمريكا. ومع ذلك فنحن أقوى من أمريكا، مع أنّها أكثر مالاً وسلاحاً وأقوى إعلاماً وإمكانياتها المالية والسياسية أكثر، لكنها أضعف ونحن أقوى. والدليل على قوّتنا هو أنّ أمريكا تراجعت خطوة خطوة في كلّ الميادين التي حصلت فيها مواجهة بيننا وبينها. نحن لا نتراجع بل نتقدّم إلى الأمام. هذا هو الدليل والمؤشّر، وهو ببركة الإسلام وبفضل العون الإلهيّ ومساعدة ملائكة الله. هذا ما نعتقد به ونؤمن به وقد شاهدناه ونشاهده بأعيننا. وسوف تعود القدس الشريف يوماً ـ إن شاء الله وعلى الرغم من هذا الهمّ والقلق الذي أشاروا إليه حول القدسّ وهو قلق واقعيّ - إلى أيدي المسلمين، وقد يشاهد الكثير منكم ذلك اليوم، وقد نكون نحن أو لا نكون، على كلّ حال سيشهد شعب فلسطين والشعوب في العالم هذا الأمر يوماً ما.
أشكركم ثانية وأُعرب عن سروري للّقاء بكم هنا. الكلام لدينا ولديكم كثير جداً. وكلامنا لا ينتهي بهذه الدقائق، ولكن حان أوان الظهر ودخل وقت الصلاة ويجب أن نقوم إلى الصلاة. نتمنّى لكم جميعاً التوفيق والسداد إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
1- سورة فصّلت، الآية 31.
2- سورة فصلت، الآية 30.
72
65
الدرس الحادي عشر: فلسطين توحّد المسلمين
الدرس الحادي عشر: فلسطين توحّد المسلمين
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله
ولادة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وحفيده الإمام الصادق عليه السلام
المناسبة: بمناسبة ولادة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وحفيده الإمام الصادق عليه السلام
الحضور: المشاركون في مؤتمر الوحدة الإسلامية
المكان: طهران
الزمان: 13/12/1388ﻫ.ش
17/3/1431ﻫ.ق
4/3/2010م
73
66
الدرس الحادي عشر: فلسطين توحّد المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
أبارك لجميع الحاضرين المحترمين والضيوف الأعزاء وشعب إيران العظيم هذا العيد السعيد، كذلك أبارك لجميع المسلمين في العالم، والأمّة الإسلامية الكبرى، وكلّ طلّاب الحقّ والعدالة. إنّ يوم السابع عشر من ربيع الأوّل هو يومٌ عظيمٌ جداً في تاريخ البشرية. ففي مثل هذا اليوم كانت ولادة عصارة البشرية وصفوة الصالحين وخلاصة الفضائل الإلهية المودعة في وجود البشرية. كذلك كانت ولادة الإمام الصادق عليه السلام الذي يُعدّ الوصيّ الحقيقيّ للنبّي صلى الله عليه وآله وسلم وناشر الأفكار الإسلامية الصحيحة والإسلام الأصيل في مثل هذا اليوم.
إنّ هذا اليوم بالنسبة للمسلمين هو يومٌ مُفعم بالبركة، ففيه وضع هذا الموجود المقدّس قدمه في هذا العالم وكان نوراً في دياجي الظلمات: ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾1. ويقول أمير المؤمنين عليه السلام في وصف الأوضاع في تلك الأيام وما آلت إليه البشريّة في ذلك الزمان: "والدُّنْيَا كَاسِفَة النُّورِ ظَاهِرَة الْغُرُور". فإنّ نور الإنسانية قد انمحق من قلوب الناس والمجتمعات، ليس في الجزيرة العربية فحسب، بل في عمق الإمبراطوريات العظمى والحكومات المتمدّنة في ذلك الزمان، أي حكومة إيران القديمة وروما. فالغرور والخطأ في فهم الحقيقة كانا واضحين في جميع نواحي حياة البشرية. ولم يكن الناس يعرفون الطريق أو الهدف. ولا شكّ أنّ بعض المؤمنين كانوا موجودين في ذلك الزمان ويسلكون الطريق الصحيح. فلا نعني أن جميع أفراد البشرية كانوا عصاة ومذنبين في ذلك الزمان، ولكنّ الوضع العام للدنيا كان على هذه الشاكلة. فالصورة العامّة للعالم كانت صورة ظلمانية، وكانت مظهراً للظلم وضياع جميع علائم الإنسانية. ففي مثل تلك الأوضاع سطع نور وجود النبيّ بإرادة الحقّ العزيز المتعال. إن مثل هذا اليوم يُعدّ يوماً لا يُنسى في تاريخ البشرية. وليس تذكّره بمعنى أنّنا نريد أن نجدّد أثره في العالم. سواء شئنا أم أبينا فإن هذه الحادثة وهذه الظاهرة المدهشة والعظيمة قد طبعت تاريخ البشرية بآثارها. فإذا كان هناك في العالم ذكرٌ للقيم الإنسانية والفضائل الأخلاقية والمعالي في وجود الناس فبسبب وجوده المبارك وبسبب تلك البعثة التي جمعت كمال جميع البعثات وكل فضائل الأنبياء.
1- سورة النور، الآية 40.
74
67
الدرس الحادي عشر: فلسطين توحّد المسلمين
وعلينا نحن أبناء الأمّة الإسلامية أن نجعل هذه الظاهرة وهذه الحادثة درساً لنا. وقبل أن نفعل ذلك مع الآخرين يجب أن نقوم به مع أنفسنا. إن الأمّة الإسلامية اليوم بأمسّ الحاجة إلى إعادة إنتاج الحقائق الإسلامية وتلك الأحداث العظيمة والعميقة. نحن في الأمّة الإسلامية نحتاج اليوم بشدّة إلى مشعل هداية النبيّ المكرّم. فالأمّة الإسلامية بلحاظ تعداد السكّان تمثّل مجموعة عظيمة ـ حوالي المليار ونصف المليار نسمة هم مجموع الأمّة الإسلامية ـ وإنّ مناطق وجود هذه المجموعة العظيمة من حيث الوضع الجغرافّي والخصائص الطبيعية والثروات الحيوية هي من أهمّ مناطق العالم وأكثرها حساسيّة، وبالرغم من أنّه لا ينقصها شيء على صعيد القابليّات الإنسانية والإمكانات الطبيعية فإنّ هذه الأمّة اليوم هي مجموعة حائرة. وعلامة حيرتها هو ما تشاهدونه. إنّ المصائب الكبرى في العالم تحدث بشكلٍ أساس في هذه الدول الإسلامية. فالفقر في هذه الأمّة والظلم والتمييز فيما بيننا والتخلف العلميّ والتكنولوجيّ والانهزام الثقافيّ والضعف الثقافيّ كلّه يمثّل حال الأمّة الإسلامية. والمقتدرون في هذا العالم يضيّعون حقّ هذه الأمّة بكلّ بساطة وصراحة، ولا تستطيع هذه الأمّة الإسلامية أن تدافع عن حقّها.
انظروا اليوم إلى أوضاع فلسطين، فهي نموذج. ولا شكّ بأنها نموذج هام جداً، لكنّه لا يختصّ بفلسطين. فانظروا إلى فلسطين، سترون أنّ الأمّة الإسلامية تعاني من جرحٍ كبير في جسدها، وهو قضيّة شعب فلسطين العظيم وأرض فلسطين التاريخية المقدّسة. ماذا أنزلوا بهذه الأرض؟، وعلى رأس هذا الشعب؟ وماذا يفعلون بهؤلاء الناس؟ وهل يمكن نسيان ما جرى على غزّة؟ وهل يمكن محوه من ذاكرة الأمّة الإسلامية؟ إن الضغوط والتنكيل والظلم الذي يمارس بحق أبناء غزّة اليوم ـ حتّى ما بعد حرب الإثنين وعشرين يوماً التي فشلت فيها الحكومة الصهيونية ولم تتمكّن من تحقيق أهدافها ـ إن ذلك الظلم مستمرٌّ إلى يومنا هذا بحقّ أهالي غزّة ولا يمكن للأمّة الإسلامية أن تدافع عنهم. وقد آلت أوضاع الأمّة الإسلامية مقابل هذه الظاهرة إلى حدّ وكأنّ ما يحصل لا علاقة لها به، وكأن ما يُغصب ليست حقّها وكأنها ليس هي التي تتعرّض للظلم. فلماذا نحن هكذا؟ ولماذا ابتُليت الأمّة الإسلامية بهذه الحالة؟ لقد أوجد أعداء الإسلام والأمّة الإسلامية ذلك السرطان المهلك الخطِر المسمّى دولة إسرائيل الصهيونية المزعومة في هذه المنطقة. والداعمون لهذا الكيان شركاء له في الظلم والجرائم الكبيرة التي يرتكبها. وها هم يدافعون عن إسرائيل ولا يمكن للأمّة الإسلامية أن تدافع عن نفسها، فهذا ضعفنا. لماذا؟ علينا أن نجبر هذا الضعف بالرجوع إلى الإسلام وبجعل تعاليم الرسول المكرّم محوراً لكافة اهتماماتنا.
اليوم يُعدّ الاتّحاد في الأمّة الإسلامية أكثر ضرورة من أيّ شيء آخر. فعلينا أن نصنع الوحدة ونوحّد كلمتنا ونجعل قلوبنا واحدة، فهذا تكليف كلّ من يمكن أن يكون له تأثير في هذه الأمّة الإسلامية الكبرى، سواء الحكومات أو المثّقفون أو العلماء أو الفاعلون على المسرح السياسيّ أو الاجتماعيّ. وكل واحد من هؤلاء، في أيّ دولة من الدول الإسلامية، مكلّفٌ باستنهاض الأمّة الإسلامية وبيان هذه الحقائق، فليبيّنوا هذه الأوضاع المرّة التي أوجدها أعداء الإسلام للناس ويدعوهم لتحمّل مسؤوليّتهم، فهذه وظيفة الجميع.
75
68
الدرس الحادي عشر: فلسطين توحّد المسلمين
إخواني الأعزّاء، أخواتي العزيزات، في أيّ مكانٍ كنتم وإلى أيّ مذهب انتميتم، إعلموا أنّ أعداء الإسلام والمسلمين يعتمدون بشكلٍ أساس اليوم على إيجاد الخلافات والتفرقة. إنهم لا يريدون أن تتقارب القلوب، لأنّهم يعلمون أنّ الأيادي إذا تماسكت والقلوب إذا تقاربت فإنّ الأمّة الإسلامية ستبدأ بالتفكير في معالجة مشاكلها الكبرى. وإنّ منشأ أكثر هذه المشاكل ـ التي تُعدّ قضيّة فلسطين منها، ومنها قضيّة هذه الدولة الصهيونية المختلَقة ـ هم هؤلاء المقتدرون في هذا العالم. فالعدو يعلم أنّنا سنتمركز، وأنّ كلّ الأمّة الإسلامية في جميع قواها سوف تتحرّك على هذا الطريق حتى نواجه هذا الاعتداء السافر الذي يجري، لهذا لا يسمحون بتقارب القلوب.
واليوم نداء التفرقة يرتفع من قبل أعداء الإسلام. وقضيّة الشيعة والسنّة يطرحها اليوم الأمريكيون والإنكليز، وهذا عارٌ. فالمحلّلون الأمريكيون والإنكليز والغربيّون، من جملة القضايا التي يطرحونها ويتباحثون بشأنها ويؤكّدون عليها هي قيامهم بالفصل بين الإسلام السنّي والإسلام الشيعيّ وإيجاد النزاعات بينهم. إن هذا ما يريده العدوّ وهذا ما كان يفعله دوماً. وقد سعى أعداء عالم الإسلام دوماً إلى أن يستغلّوا بأقصى ما يمكن هذه الخلافات المذهبية والقومية والجغرافية والإقليمية. وهم اليوم يستخدمون الوسائل الحديثة من أجل هذا العمل. وعلينا أن نلتفت إلى هذا الأمر ونكون متيقظين. يريدوننا أن ننشغل ببعض لكي ننصرف عن تلك المسألة الأساس التي ينبغي أن نتوجّه إليها. يريدون أن ينشغل المسلمون، شعوباً ومذاهب شيعة وسنّة وغيرهما، ببعضهم بعضاً حتّى ينسوا قضيّة إسرائيل. يجب أن تقرّبنا حادثة اغتصاب فلسطين إلى بعضنا بعضا. وها هم اليوم يستغلّون هذه القضيّة من أجل إبعادنا عن بعضنا بعضاً. إنّهم يُحدثون الاختلاف في العالم الإسلاميّ حول نفس هذه القضيّة الفلسطينية، ويجعلون الدول في مواجهة بعضها بعضاً. إنّ قضيّة فلسطين قضيّة واضحة ولا يوجد عند أيّ مذهب من المذاهب الإسلامية أيّ شك بأنّه إذا تعرّضت أراضي الإسلام والمسلمين في أيّ وقت من الأوقات للهجوم والاعتداء فإنّ الدفاع واجبٌ على جميع المسلمين. فإنّ كلّ المذاهب الإسلامية تُجمع على هذا الأمر. وهو ليس محلّ اختلاف. ومثل هذه القضيّة المتّفَق عليها يجعلونها مورد شكٍّ ويفرّقون المسلمين ويشتتونهم، ويزيدون من العصبيات المذهبية والطائفية في القلوب ويؤجّجون نيرانها، حتى يقوموا بما يريدون بسهولة.
علينا أن نستيقظ، وهذه هي كلمة الجمهورية الإسلامية. فالجمهورية الإسلامية منذ بداية تأسيسها جعلت في الأسطر الأولى الأساس من أهدافها اتّحاد المسلمين وتقارب قلوبهم ومنها قضية فلسطين.
وفي كلمات إمامنا الراحل قدس سره تظهر هاتان القضيّتان بوضوح تامّ وجلاء: إحداهما قضيّة إتّحاد المسلمين في جميع القضايا والتقليل من خلافاتهم والتخفيف من اختلافاتهم ومنع الخلافات الفكرية والفقهية والكلامية وأمثالها من أن تجرّ هاتين الفئتين إلى العداوة والتناحر، والقضيّة الأخرى هي قضية فلسطين.
لقد التزمت الجمهورية الإسلامية بهذا الكلام. ونحن ندفع أثمانه باهظة. إنّ شعبنا ينظر إلى هذه القضيّة كواجبٍ ومسؤولية شرعية ويعلم أنّنا إذا استطعنا أن نُخرج هذا السرطان المهلك والخطر من
76
69
الدرس الحادي عشر: فلسطين توحّد المسلمين
جسد المجتمع الإسلاميّ فإنّ الكثير من مشاكل مجتمعاتنا الإسلامية سوف تُحلّ وسوف يحلّ مكانها الكثير من التعاون.
واليوم فإنّ الدول الإسلامية تمثّل مجموعة كبرى، يمكنهم أن يتبادلوا العلم فيما بينهم ويتبادلوا الثروات والتجارب والمعرفة ويتعاونوا من أجل تطوّرهم جميعاً ليصلوا إلى القمّة. فهذه الغدّة السرطانيّة قد زُرعت بينهم، وأدّت إلى أن تتباعد الدول الإسلامية عن بعضها. بالطبع، فإنّ الشعوب ليست متعادية، وللأسف فإنّ المسؤولين مقصّرون في هذه الموارد.
علينا أن نجعل هذا الأمر درساً، وذكرى هامة في يوم ولادة نبيّ الإسلام المكرّم صلى الله عليه وآله وسلم ونحفظه في ذاكرتنا ونتعلّم منه ونعتبر ونتقارب، كما تقاربنا. فاليوم ولحسن الحظّ فإنّ نداء الدفاع عن وحدة الأمّة الإسلامية ونهضتها يجد إنعكاسات هامة جدّاً وإيجابيّة على صعيد العالم الإسلامية والدول المختلفة وبين الشعوب المتعدّدة. والله تعالى يبارك بقول الحق ويرعى هذه النبتة التي غُرست في أرض الحقّ. فلمثل هذا الكلام اليوم وقعٌ في الدنيا. واليوم هناك قبولٌ في العالم لهذا الكلام الحقّ الذي تعلنه الجمهورية الإسلامية بصوتٍ عالٍ وبكلّ وجودها. فالحكومة والشعب والمسؤولون كلّهم في مثل هذه القضايا الأساس على كلامٍ واحد ونداء واحد. فكلمة الجمهورية الإسلامية في هذه المجالات كلمة واضحة، وبحمد الله تلقى تجاوباً.
نسأل الله تعالى أن يعيننا لكي تزداد هذه الأمّة الإسلامية يوماً بعد يوم وعياً وعلوّاً وتقدّماً، ولتزداد هذه الوحدة التي تمثّل عاملاً مهمّاً في الجميع قوّة أكثر فأكثر إن شاء الله.
رجاؤنا أن تشملكم التأييدات الإلهية ويؤيّدكم دعاء وليّ العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
77
70
الدرس الثاني عشر:لمحرّم أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية
الدرس الثاني عشر:لمحرّم أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في محرم الحرام
المناسبة: محرم الحرام
الحضور: جمع من أهالي قم المقدسة
المكان: طهران
الزمان: 19 /10/1388 .ش
23/1/1431.ق
09/01/2010م.
79
71
الدرس الثاني عشر:لمحرّم أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، سيما بقيّة الله في الأرضين.
لمحرّم أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية الجلسة ذات معنى ومغزى كبير، ونتمنّى أن تشمل البركات والرحمات والهداية الإلهية هذه الجلسة الكبيرة، وأن يحفظنا الله تعالى جميعاً. كانت كلمة رئيس جمهوريتنا العزيز جدّ وافية وشافية وتتضمَّن العديد من مكنونات قلبي. وقد عبّر عن أفكار جيّدة ونقاط هامة ببيان جيّد. نتمنّى أن يتفهّم جميع أبناء الشعب هذه المفاهيم الجيّدة والمميّزة وينتفعوا مثلما انتفعنا.
تصادف هذه الأيام بداية العام الهجريّ القمريّ وأيّام محّرم، وتصادف أيضاً أعتاب السنة الشمسية الجديدة. أيّام محرّم لها عندنا أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية. وواقعة محرّم ليست واقعة تندثر بالتكرار وإقامة المراسم. إحياء الذكرى حالة دائمة وضرورية في كلّ الأوقات.
في بداية كلمتي سأتّحدث قليلاً عن قضية ثورة الإمام الحسين عليه السلام.
مجابهة الطواغيت أهمّ واجبات الأنبياء
لقد أبدى البشر طوال التاريخ أكبر قدر من الأخطاء والمعاصي ومجانبة التقوى في ساحة الحكم والدولة. وإنّ الذنوب التّي صدرت عن الحكّام والساسة والمسلّطين على مصائر الناس لا تقبل المقارنة مع الذنوب الكبار جداً للأفراد العاديين. في هذا المجال قلّما استخدم الإنسان عقله وأخلاقه وحكمته. وفي هذا الميدان كانت سيادة المنطق أقلّ بكثير منها في الميادين الأخرى من حياة الإنسان. والذين دفعوا ثمن هذا الابتعاد عن العقل والمنطق، وهذا الفساد ومقارنة الذنوب هم أبناء البشر، أحياناً أبناء مجتمع معيّن وفي أحيان أخرى أبناء عدّة مجتمعات. كانت هذه الحكومات في بداياتها على شكل استبداد فرديّ، ثمّ تحوّلت مع تطوّر المجتمعات البشرية إلى استبداد جَماعيّ منظّم. ولذلك كان أهمّ أعمال الأنبياء الإلهيين العظام مجابهة الطواغيت والذين يضيّعون أنعم الله: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾1 تذكر الآية القرآنية هذه الحكومات
1- سورة البقرة، الآية 205.
80
72
الدرس الثاني عشر:لمحرّم أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية
الفاسدة بهذه التعابير الشديدة. لقد حاولوا تعميم الفساد وعولمته. ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ*جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾1.
أبدلوا النعم الإلهية والإنسانية والطبيعية كفراناً، وأحرقوا الناس الذين كان يجب أن يتمتّعوا بهذه النعم في جحيم محرقة أوجدوها بكفرانهم. اصطفّ الأنبياء مقابل هؤلاء. ولو لم يجابه الأنبياء طواغيت العالم وعتاة التاريخ لما كانت ثمة حاجة للحروب والنزاعات. يقول القرآن الكريم: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾2 ما أكثر الأنبياء الذين قاتلوا وحاربوا برفقة المؤمنين الموحدين.. مع من كانت هذه الحروب؟ الجانب الآخر في حروب الأنبياء هي الحكومات الفاسدة والقوى العاتية الطاغية في التاريخ التي لم تجلب على الإنسانية سوى التعاسة والدمار.
إنزال الكتب وإرسال الرسل من أجل سيادة القسط والعدل
الأنبياء هم منقذو البشر. لذلك يذكر القرآن الكريم أنّ أحد الأهداف الكبرى للنبوّات والرسالات هو إقامة العدل: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾3 بل إنّ إنزال الكتب الإلهيّة وإرسال الرسل كانت أساساً من أجل سيادة القسط والعدل في المجتمعات، أي لرفع رموز الظلم والعسف والفساد. وقد كانت حركة الإمام الحسين عليه السلام مثل هذه الحركة. يقول: "إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي"4 وقد قال: "من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله أو تاركاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثم لم يغيّر عليه بقول ولا فعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله"5. بمعنى: إذا شاهد أحدٌ قطبَ الظلم والفساد ولم يكترث له كان مصيره عند الله تعالى نفس مصير ذلك القطب الفاسد. يقول عليه السلام: إنني لم أخرج للتمرّد والتفرعن. كانت دعوة أهل العراق للإمام الحسين عليه السلام من أجل أن يحكم، وقد استجاب الإمام الحسين لهذه الدعوة، أي إنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يكن عديم التفكير في الحكومة واستلام زمام الحكم. كان الإمام الحسين عليه السلام يفكّر بضرب القوى الطاغوتية، سواء باستلام السلطة أو بالاستشهاد والتضحية بالدم.
صمت أدعياء الحقّ حيال الظلم
كان الإمام الحسين عليه السلام يعلم إنّه إذا لم يقم بهذا التحرّك لكان هذا منه إمضاء وصمتاً وسكوناً يجر على الإسلام ما يجر. حينما تمسك قوة بجميع إمكانيّات المجتمعات أو بإمكانيّات مجتمع واحد، وتنتهج سبيل الطغيان وتسير فيه، إذا لم يقف بوجهها رجال الحقّ ودعاته ولم يشيروا إلى مواطن الخطأ في مسيرتها، فإنهم إنّما يمضون ممارساتها بفعلهم هذا، أي إنّ الظلم سينال إمضاء أهل الحقّ من
1- سورة إبراهيم، الآيتان 28 - 29.
2- سورة آل عمران، الآية 146.
3- سورة الحديد، الآية 24.
4- بحار الأنوار، ج 44، ص 329.
5- رجال النجاشي، ص 144.
81
73
الدرس الثاني عشر:لمحرّم أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية
دون أن يشاء وا ذلك. كان هذا خطأً وذنباً ارتكبه يومذاك الأكابر وأبناء السادة من بني هاشم وأبناء الشخصيات الكبرى في صدر الإسلام. ولم يطق الإمام الحسين عليه السلام ذلك، فثار.
ثورة الإمام الحسين عليه السلام إحياء للعقل والمنطق
يروى أنّه بعد عودة الإمام السجّاد عليه السلام إلى المدينة المنوّرة عقب واقعة عاشوراء - ربّما كانت المدة الزمنية من خروج هذه القافلة من المدينة حتى عودتها عشرة أشهر أو أحد عشر شهراً - جاءه أحد الرجال وقال له: يا بن رسول الله أرأيت ما الذي حصل بذهابكم؟ وكان على حق، فهذه القافلة حينما سارت كان الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام شمس أهل البيت المشرقة وابن رسول الله والعزيز على قلبه على رأسها وبين أفرادها. وابنة أمير المؤمنين قد سارت في القافلة بعزّة وشموخ، وسار فيها أبناء أمير المؤمنين، العبّاس وسواه، وأبناء الإمام الحسين، وأبناء الإمام الحسن، والشباب الألمعيون الأفذاذ من بني هاشم، كلهم ساروا في هذه القافلة، وها هي الآن تعود وليس فيها إلاّ رجل واحد هو الإمام السّجاد عليه السلام. والنساء ذقن طعم الأسر والفجيعة والثكل، ولم يعد هناك الإمام الحسين، ولا عليّ الأكبر، ولا حتى الطفل الرضيع. فقال الإمام السّجاد عليه السلام جواباً لذلك الرجل: تصوّر ماذا كان سيحدث لو لم نذهب! نعم، لو لم يذهبوا لبقيت الأجسام حيّة ولكن لماتت الحقيقة ولذابت الروح ولسحقت الضمائر، ولأدين العقل والمنطق على مرّ التاريخ، ولما بقي من الإسلام حتّى اسمه.
الإيمان بالكفاح هو المشعل الوحيد المنوّر للقلوب
إن حركة الثورة الإسلامية والنظام الإسلاميّ في زماننا هي بهذا الاتّجاه. الذين شرعوا بهذه الحركة ربما خطر بأذهانهم أنهم يتسلمون السلطة يوماً ويؤسّسون نظام الحكم الذي يريدونه، ولكن كان يخطر في أذهانهم أيضاً وبقوّة أنّهم قد يستشهدون في هذا السبيل أو يعيشون عمرهم كلّه في كفاح ومشقّة وإخفاق. كان كلا السبيلين موجوداً، بالضبط كحركة الإمام الحسين عليه السلام.
في سنة 41 و42 وبعد أعوام العسر السوداء والقمع في السجون، كان المشعل الوحيد الذي يدفّىء القلوب ويحضّها على الحركة هو مشعل الإيمان بالكفاح، وليس حبّ استلام السلطة. هذا الدرب هو درب الإمام الحسين عليه السلام، والظروف الزمانية والمكانية قد تغيّرت. تارة تتوفّر الإمكانيّات وترفع راية الحكومة الإسلامية، وأحياناً لا تتوفّر هذه الإمكانيات في الدرب فينتهي الأمر إلى الاستشهاد. ثمة الكثير من هذه النماذج على طول التاريخ.
العلوم البشرية المعقّدة في خدمة أهداف غير نزيهة
في الفترة التي وضع فيها الإمام قدميه في هذا الطريق كانت العلاقات الإنسانية وظروف الزمن أكثر تعقيداً بكثير من الزمن الذي وضع فيه الإمام الحسين عليه السلام قدميه في هذا الدرب ولا تزال العلاقات بين البشر تتعقّد يوماً بعد يوم. تقاربت الطرق وسهّلت الاتّصالات لكن العلاقات تعقّدت وصعبت، وازدادت العوامل المتنوّعة المؤثّرة في كلّ حدث. الذين ينوبون اليوم عن يزيد بن معاوية يمكنهم تركيز اهتمامهم على كلّ العالم، أي نشر الطغيان والفساد في كلّ البشرية.
82
74
الدرس الثاني عشر:لمحرّم أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية
هذا شيء ممكن عملياً في الوقت الحاضر بواسطة الاتّصالات، وللأسف ثمة طغيان في العالم وهو ينمو وينتشر. التقنية المتقدّمة والعلوم المعقّدة بمقدار ما وفّرت للناس العاديين السهولة والسرعة، وفّرت الإمكانيات والسهولة والسرعة للنوايا والأهداف غير النزيهة.
إن بمقدور القوى الطاغوتية في العالم اليوم أن تجعل هدفها الهيمنة على العالم وعلى كلّ البشرية وعلى كافّة مصادر الثروة لدى الإنسان. بوسعها أن تجعل هدفها تدمير كلّ الموانع والعقبات التي تصدّها في سبيلها هذا. وللأسف تلاحظ في العالم أحياناً حالات طغيان كبرى تدلّ على مثل هذه الأهداف القذرة الخبيثة. الواجب اليوم جسيم جدّاً.
النظام العالميّ الجديد هدف الخطط الأميركية
بعد انهيار المعسكر الشيوعيّ، حينما أعلن الرئيس الأميركي في حينها - والد الرئيس الحالي - عن النظام العالميّ الجديد، فقد كشف عن الهدف الاستكباريّ القديم لأمريكا، وأفصح عمّا في ضميره وما في ضمير أجهزة التخطيط الأمريكية. ولم يكن هذا الأمر مختصاً بذلك الزمن، فقد قرّروا منذ عشرات الأعوام وأعلنوا أنّهم لن يسمحوا لأية قوّة أخرى بالدخول إلى أمريكا اللاتينية. يعتبرون أمريكا اللاتينية منطقة خاصّة بحكومة الولايات المتحدة الأمريكية.
ثم اتّسع هذا المعنى ليشمل العالم كلّه. لكنهم لم يكونوا يذكرون هذا الشيء كهدف معلن ولم تكن تلهج به ألسنتهم. بعد أن شعروا بأنّه لا يوجد أمامهم منافس كبير كالاتحاد السوفيتي، أعلنوا عن هذا الهدف بصراحة نسبياً ورفعوا شعار عالم بقطب واحد، والنظام العالميّ الجديد، وقوة واحدة تهيمن على كلّ العالم.
الهدف الذي تدلّ عليه ممارسات أمريكا طوال هذه العقود هو نشر الهيمنة العسكرية، وتبعاً لذلك الهيمنة السياسية والاقتصادية، وكلّ ذلك لصالح الشركات التي ترسم في الحقيقة سياسة الحكومة الأمريكية. هذه الشركات هي التي تحدّد الاتّجاهات والمسارات.
هذه حقائق إذا أدركها الإنسان المعاصر فسوف يتّخذ قراره في الوقت المناسب. إذا علمت الجماهير ما الذي يجري في عالمهم فسوف يكتسبون القدرة على اتّخاذ المواقف والقرارات. بوسع الشعوب القيام بأعمال كبيرة.
دور الحكومة الأمريكية في إسقاط أربعين حكومة مستقلّة
زوّدوني بإحصائيّات تفيد أنّ الحكومة الأمريكية كان لها منذ سنة 1945 وإلى اليوم دور في إسقاط أربعين حكومة مستقلّة غير تابعة لأمريكا، وكان لها تدخّلها العسكريّ في أكثر من عشرين موطناً وحالة! ترافقت هذه التدخّلات بلا استثناء بحالات قتل جماعيّ وفجائع كبيرة. وكان النجاح حليف أمريكا في بعضها، بينما لم تنجح في حالات أخرى. ما يجول في أذهاننا ولا يفارقها هو أمثلة ساطعة وجلية، منها القصف النوويّ لليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية الذي أشار له السيّد رئيس الجمهورية.
وهناك مثال فيتنام وما دار فيها من حروب دامية وتلك الفجائع التي لا تُنسى والتي انتهت بإخفاق أمريكا، ومثال شيلي، ومثال إيران نفسها في انقلاب 28 مرداد - حيث جاء المأمور
الأمريكيّ إلى طهران وخطّط وعمل، ثم أعلن هو نفسه عن هذه الحقيقة ونُشرت الوثائق وهي الآن في متناول أيدي الجميع- وكذلك في أماكن عديدة أخرى.
83
75
الدرس الثاني عشر:لمحرّم أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية
السبب في كلّ ذلك هو الشركات الاقتصادية الكبرى، وزعماء المال الكبار في أمريكا، والأحزاب المتعطّشة للسلطة والهيمنة، والمجاميع الصهيونية النافذة، والشخصيات غير السويّة من الناحية الفكرية والأخلاقية والتي تمسك بزمام الأمور والأعمال. هذه ملفّات جدّ ثقيلة وماضٍ جدّ مخزٍ. هذه ليست بالأشياء الصغيرة.
القضاء على البشر غير هام بالنسبة لهم، وإهدار الثروات غير هام بالنسبة إليهم، وسحق العدالة غير هام بالنسبة إليهم، والفجائع الإنسانية غير هام بالنسبة إليهم. لا تشكّل أيّ من هذه الأمور موانع في طريقهم. طبعاً، من أجل حفظ الظواهر يستخدمون إمكاناتهم الإعلامية الهائلة. ذكروا عبارة "الصوت الأعلى" وهي عبارة صحيحة.
يحاولون بصوتهم الأعلى تنظيم المناخ العالمي بنحو يتكتمون معه على هذه الفجائع، ويظهرون أنفسهم باعتبارهم مناصرين للسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان.
إطلاق المبادئ السليمة ظاهرياً باعتبارها مبادئ أمريكية
تجري حالياً محاولات لتعريف المبادئ السليمة في ظاهرها على أنّها مبادئ أمريكية. أشار الرئيس الأمريكي في كلمة له في الكونغرس الأمريكيّ إلى هذا الموضوع، وبعد ذلك أصدر للأسف عدد من المثقفين الأمريكيين بياناً مطولاً لتوفير رصيد نظريّ لهذا الكلام. وقد ذكروا للعالم أشياء هي بخلاف الواقع، أي إنّهم كذبوا على مستمعيهم. حاولوا التكتّم على أصل القضيّة، ألا وهي الجشع والتعطّش للهيمنة والسلطة على العالم. طبعاً الرأي العامّ الأمريكيّ مهمّ جدّاً بالنسبة لهم - شريان حياتهم بيد الشعب الأمريكيّ - وسمعت أنّه بسبب أنّ البيان أشار إلى بعض نقاط الضعف في أمريكا - وهي طبعاً نقاط ضعف صغيرة جداً في قبال نقاط ضعف كبيرة في أمريكا - لم ينشر أدعياء حرية الفكر والتعبير عن الرأي هذا البيان في داخل أمريكا! في نفس هذا البيان الواضح جداً وبلا شكّ أنّه أعِدّ بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية والعسكرية والاستخبارية الأمريكية، لأن بعض مقاطعه لم تكن مما يرغبون فيه، أي إنها اشتملت على قليل - قليل جداً وليس كثيراً - من كشف الحقائق - وستعرفون ذلك إذا اطّلعتم على البيان - لم يسمحوا بنشر البيان كاملاً في داخل الولايات المتحدة، بل نشروه في مناطق أخرى من العالم. نشروا داخل أمريكا الأجزاء الخاصّة بالحرب ليُثبتوا أنّ بوش ينشد حرباً عادلة! حرباً تنطوي على الدفاع عن المصالح الوطنية الأمريكية. نشروا هذا الجزء فقط.
مواجهة خطر أعدّوا له ركائز نظرية
إنّنا نواجه اليوم خطراً أعدّوا له ركائز نظرية لخداع الرأي العامّ، وعرضوه في الواجهة. تعاضد الساسة وبعض المثقّفين ووضعوا أيديهم في أيدي بعضهم بعضاً ليطلقوا في العالم هذا الواقع المحرّف. ووراء هذا الكلام تلك الأهداف الدائمة.. أطماع الهيمنة على العالم، والتسلّط على جميع الثروات، وعدم تحمّل بلد واحد أو حكومة مستقلّة واحدة غير مستعدّة لقبول السياسات الأمريكية والدساتير
المملاة من قبل أمريكا، بأعين معصوبة. أرادوا إخفاء هذا الهدف وراء هذه الظواهر البّراقة. هذه قضيّة هامة جدّاً.
ضرورة معرفة أرضيّة الخطر ودوافعه
84
76
الدرس الثاني عشر:لمحرّم أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية
طبعاً، قلنا مراراً إنّنا لا نستطيع الادّعاء أبداً أنّ إيران ستتعرّض لهجوم أكيد، لا، ليس هذا الأمر مؤكّداً، ولكن لا مراء أيضاً أنّ ثمة أخطاراً تُحدِق بنا. ونحن الذين يجب أن نحبط الأخطار التي تهدّدنا ونمحوها، وهذا بحاجة إلى أن يدرك النخبة والمسؤولون والخواصّ، وهم أنتم في الغالب - المجتمعين في هذه الجلسة - الظروف بشكل صحيح، ويشخصوا الواجبات بنحو صائب، وأن تشعروا بأعباء المسؤولية على عواتقكم.. لا يحقّ اليوم أن نخطئ. الخطر المحيق بنا - فقد ذكر الرئيس الأمريكي الاسم علناً وصراحة، طبعاً أشار إلى ستين بلداً، لكنه ذكر أسماء ثلاثة بلدان منها بلدنا - يعدّ من حيث الأرضية والمحفزّات مسألة مركبة ومتعدّدة العناصر، وينبغي معرفة عناصرها.
العنصر الأوّل: إيران
العنصر الأول هو بلدنا العزيز إيران.. البلد المطلّ على نصف سواحل الخليج الفارسي، أي المصدر الأعظم والأكثر وفّرة في الطاقة في العالم اليوم وغداً. الموقع الجغرافي، ومجاورة الخليج الفارسي، والإطلالة على نصف سواحله، مضافاً إلى الخيرات المادية الكبيرة في البلد وكذلك الموارد الهائلة من الطاقات الإنسانية، هذه كلها من العناصر الأصلية التي تكوِّن هذه القضيّة.
العنصر الثاني: نظام الجمهورية الإسلامية
نظام الجمهورية الإسلامية نظام مستقلّ عزيز شجاع يعتمد على الجماهير، والجماهير هنا جماهير خرجت مرفوعة الرأس من الامتحانات.. جماهير تحمل إيماناً عميقاً جسّدوه وأثبتوه لا باللسان بل بالعمل، ولا في ميدان واحد بل في ميادين متعددة. شعب يبغض بشدة الهيمنة الخارجية ويحمل ذكريات جدّ مريرة عنها. إنها نفس تلك الفكرة التي قال الإمام السجاد عليه السلام فيها ما معناه: "ما كان سيحصل لو لم نفعل ما فعلنا". لقد جرب الشعب الإيراني هذا في حياته ذات يوم. يوم جرى تهديد البلد بانقلاب 28 مرداد الأمريكي، لو وُجد الشعب في الساحة وشارك في الميدان لما جرب 25 سنة من الدكتاتورية السوداء وإهدار تلك الفترة الحساسة والمهمة جداً، مضافاً إلى إهدار كل تلك الثروات المادية والمعنوية. الشعب الذي جرّب الحالة المناقضة لتلك الحالة أيضاً، أي إنه شارك في الساحة في الثورة الإسلامية ساهم وحضر وشاهد كيف يمكن عبر المرابطة في الساحة ومن دون سلاح، احتلال أقوى قلاع الاستكبار في المنطقة، وطرد أمريكا من نقطة على جانب كبير من الأهمية والخطر.. يمكن طرد أمريكا من إيران، وتبديل مقرّ الاقتدار والنفوذ الأمريكي ضد المنطقة كلّها إلى مقرّ ضدّ مصالح أمريكا وهيمنتها. هذا ما خبره الناس وشهدوه.
كلّ عزّة وعظمة تمرّ بطرق التضحية والشجاعة والإقدام
وكذا كانت الحال في الحرب أيضاً. في الحرب أيضاً كان بعض الناس متردّدين ويتساء لون: كيف ندافع؟ حين كانت آلاف الكيلومترات المربعة من ترابنا تحت سيطرة العدوّ، وكان العدوّ يقترح
علينا في تلك الظروف وقف إطلاق النار والتفاوض والحوار، كان بعضهم يضغط على الإمام وغيره من المسؤولين لقبول وقف إطلاق النار. لكن الإمام صمد، والشعب قاوم، والمسؤولين وقفوا ثابتين وشهدوا النتائج الجيّدة لهذا الصمود.
أجل، أية عزة وعظمة إنما تمرّ عن طريق التضحية والشجاعة والإقدام. لا يمكن فتح أية قمة من القمم بالاستسلام والكسل وعدم مكابدة المشكلات. هؤلاء الذين ترونهم اليوم يجمعون الثروات والعلوم في العالم ويوظفونها لصالح مطامعهم، هؤلاء أيضاً مرّوا بأيام صعبة، وقطعوا طرقاً وعرة. الجريمة الأكبر التي ارتكبتها الحكومات المستبدة طوال تاريخنا هي أنهم لم يسمحوا للشعب بالتواجد في الساحة يوم كان يجب عليه تأمين مصالحه بحضوره وتفاعله وشجاعته.
85
77
الدرس الثاني عشر:لمحرّم أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية
كان أشرف الأفغاني ومحمود الأفغاني وجيوشهما يحاصرون إصفهان، كانت قلوب الناس تجيش وتندفع بشدة للدفاع عن المدينة، لكن الحكّام الخاملين المنهزمين نفسياً خافوا ولم يسمحوا للناس بالدفاع عن أنفسهم. استسلم الحكام وسلّموا الناس. وكانت النتيجة أنه حينما اضطّر المهاجمون بعد سنوات صعبة سوداء للخروج من إيران، أخذوا معهم كأسرى المئات، وربما مائتي ألف من النساء والفتيات واليافعين الإيرانيين. أي إنّهم حتّى حينما يغادرون سيتصرفون مع الناس بهذه الطريقة.
أهمّ ما قام به الإمام إفساح المجال لدوافع الناس ومشاعرهم
الجماهير جماهير جاهزة ومستعدة. العمل الأهم الذي قام به إمامنا الجليل هو أنه فسح المجال أمام دوافع الناس ومشاعرهم، وجعل حضور الجماهير أمراً ممكناً. لم يُلزم الإمام أحداً أو يُجبره على الحرب، بل كان الشباب يأتون ويتوسلون لأجل التوجّه للجبهات. وقد رأى الشعب الإيراني نتيجة ذلك، وشاهد شموخه وعزته، ورأى بعينه ذلة العدو وخفّته، وسمع اعتراف العالم بأحقيته ومظلوميته، بعد عدة سنوات طبعاً. إنه شعب صاحب تجربة، ويتكئ على ثقافة غنية ويتمتع بينابيع الإسلام المعنوية، وله والحمد لله مسؤولون واعون وأقوياء. إذن، أحد العناصر هو "إيران" بما لها من خصوصيات. ومن العناصر أيضاً هذا النظام وهذا الشعب الذي لديه هذه الخصوصيات، إذ ليس من السهل إيقاعه في الفخّ وفرض الاستسلام والتبعية عليه. ليس من السهل تطميع هذا الشعب وخداعه وتسليط جماعة عميلة عليه، كما يفعلون ذلك في العديد من البلدان.
العنصر الثالث: الطبيعة الاستكبارية لأمريكا
العنصر الثالث هو الطبيعة الاستكبارية للطرف المقابل. تحتاج أمريكا إلى أن لا تكون هناك على مستوى العالم حكومة أو بلد ينال عملياً من كونها قوة عظمى. هذا شيء ضروري للنظام الجديد الذي طرحوه وصوروه. لا تستطيع أمريكا أن تطيق شعباً لا يخاف من تهديداتها ولا ينخدع بتطميعها، ولا يسير وراء سياساتها التي تمليها، بل ينتهج سياسة مستقلة، ولا يقبل سيادة أحد عليه.
العنصر الرابع: التكتّم على المشكلات الداخلية
العنصر الآخر الذي له تأثير أكيد في هذه القضية وفي هذا التهديد هو المشكلات التي يعاني منها الجانب المقابل. ينبغي عدم الظن بأن الأمريكان يهددون العالم بسبب استغنائهم وعدم حاجتهم
86
78
الدرس الثاني عشر:لمحرّم أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية
وامتلاء بطونهم. كلّا، ليس الأمر كذلك. ثمة لديهم مشكلات داخلية وركود اقتصادي، وتهديدات جادة ضد الحكومة الصهيونية في فلسطين المحتلة - ومصير هذه الحكومة مرتبط وقريب جداً من مصير أمريكا - وهناك تفعيل للوضع الاقتصادي للبلد من خلال صفقات السلاح بين الشركات والحكومة الأمريكية. هذه قضايا على جانب كبير من الأهمية تفرض عليهم اتخاذ مثل هذه المواقف حتى تغطي على المشكلات الداخلية. في كلمته في الكونغرس يعدُ الرئيس الأمريكي الشعبَ بتخفيض الضرائب، ووضع معلم كفوء لكل صفّ دراسي. هذه هي مشكلاتهم. وفوق ذلك توجد المشكلات الأخلاقية.. المشكلات الداخلية.. التصاعد الدائم للعنف، وتفاقم الانحلال والفساد الأخلاقي، والانهيار المستمر للعائلة داخل أمريكا. هذه ليست بالمشكلات الصغيرة. هذه بحار من الوحول كل من يقسط فيها - حتى لو كان بحجم أمريكا - سوف يغرق ويختنق. في مواجهة هذه المشكلات، يكتسب لفت الرأي العام الأمريكي إلى عدو أو حدث خارجي أهمية بالغة. هذا من العناصر الرئيسة للقضية.
العنصر الخامس: اتساع موجة الصحوة الإسلامية.
أن يقولوا برياء إننا نتقبل الإسلام لكننا لا نتقبل الأصولية فهذا ناجم عن نظرة سطحية وتحليل صبياني حملوه دوماً تجاه العالم الإسلامي ولاقوا انعكاساته ضدهم. موجة الصحوة الإسلامية اليوم واقع جادّ وحقيقة لا تقبل الإنكار. يشعر المسلمون اليوم أنهم قادرون على التأثير في العالم وفي وضع البشرية، وفي مصيرهم. حينما يصل هذا الشعور لدى الشعوب إلى نقطة معينة فسوف يتبلور ويتجسّد ويتحول إلى واقع. هم يعلمون هذا وهم قلقون منه. ونموذج ذلك حدث الانتفاضة الفلسطينية النادر جداً. أناس بلا سلاح وبلا أبسط إمكانيات، مقابل واحدة من أكثر القوى في المنطقة جاهزية وعُدّة، يتعرضون للمجازر والقتل دون أي وازع، وتنهال عليهم شتّى صنوف الضغوط الجسمية والروحية والاقتصادية، ومع ذلك يصمدون ويواصلون الانتفاضة 17 شهراً. بأي تحليل سياسي عادي دارج يمكن تحليل هذا الحدث؟ لماذا يصمدون؟ لماذا لا يستسلمون؟ لماذا لا يستطيع العدو بكل ضغوطه تركيع هذا الشعب الفلسطيني الثائر؟.. هذا الشعب القليل العدد والمحاصَر، والذي لا تصله مساعدات من أي مكان.. ما هي الدوافع والينابيع المتدفقة في قلوبهم والتي لا تدعهم يتعبون؟ من أين ينبع كل هذا؟ ما هو ذلك العامل الذي يجعل الأم الفلسطينية تقبِّل ابنها وتبعثه ليُقتل ثم تقول لو كان لي مائة ابن لبعثت بهم إلى ساحة القتال؟ هذا العامل على جانب كبير من الأهمية. ما هو هذا العامل الذي يستعصي على الحسابات السياسية والحوارات والمفاوضات الدبلوماسية ومعادلات الشركات؟ إنهم يرون هذا ويخافونه بشدة، ويسعون لتجفيف هذا المعين، والقضاء على هذا العامل المحفِّز الخلاّق.
التهديد الأمريكي الجاد موجّه لإيران الإسلامية
ينبغي النظر إلى القضيّة بكلّ أبعادها. ليست القضيّة الآن أن يقال هناك أربعة أشخاص هربوا من البلد الفلاني ولجأوا إلى البلد الفلاني، حتى تأتي أمريكا بكل حجمها لمحاربة هذا البلد لأن أربعة أشخاص هربوا إليه. ليست هذه هي القضيّة.. النظرة إلى المسألة بهذه الطريقة بساطة وسذاجة. أبعاد القضية أعمق بكثير وسأشير إلى بعضها. حصيلة الجمع بين هذه العناصر هي تهديد جادّ يستهدف إيران الإسلامية ونظام الجمهورية الإسلامية.
87
79
الدرس الثاني عشر:لمحرّم أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية
وصمة سوداء لا تُنسى في جبين التيار التنويري في أمريكا
طبعاً، ليس الرئيس الأمريكي هو المخطط لهذه السياسة، كما إنها ليست سياسة تختص بزمانه. ثمة رجال خلف كواليس السياسة الأمريكية يفعلون ذلك. طبعاً يمكن للظروف أن تقرِّب أو تبعِّد المطالب الكبيرة. والأمر بحاجة لتبريرات يُخدع بها العوامّ من الناس، حيث جاء للأسف هذا البيان الذي أصدره المثقفون الأمريكيون للنهوض بهذه المهمة ولا أريد الخوض فيه، لأن ذلك من مهمة مثقفينا، ووظيفة أساتذتنا ونخبة السياسيين والمثقفين في بلادنا أن يدرسوا هذه الكلمات ويكشفوا للملأ الحقيقة المرّة التي انطوى عليها البيان باسم الثقافة. لكنني أقول فقط إن توقيع هذا البيان من قبل عدد محدود - أكثر من خمسين شخصاً أو ستين شخصاً - من المثقفين الأمريكان وَصَمَ الاستنارة الأمريكية بوصمة سوداء لا تُنسى، المثقفين الذين يجب أن يعارضوا بصراحة وعلانية الحرب والتعدي والاعتداء والمجازر المنفلتة. وقد فعل المثقفون الأمريكيون ذلك طوال سنوات متمادية. يبررون الآن تصرفات الشركات الأمريكية التي تريد بحرابها تمرير مشاريع الأجهزة السياسية والرئاسة، ويصدرون فتاوى المجازر، فتاوى ثقافية! الجلوس على موائد الشركات الصهيونية وإصدار فتاوى المجازر شيء لن تُمحى وصمة عاره عن جبين أي مثقف يرتكبه، وللأسف فإن هؤلاء المثقفين الذين سخّروا أنفسهم ارتكبوا مثل هذا الخطأ الكبير.
لا يمكن للمبادئ الأمريكية أن تكون مبادئ عالمية شاملة
يطرح الأمريكان مبادئ باعتبارها المبادئ الأمريكية ويقولون إنها أصول عالمية شاملة. هذه المبادئ هي حرية الإنسان، وحرية الفكر، وكرامة الإنسان، وحقوق الإنسان، وأمور من هذا القبيل. هل هذه مبادئ أمريكية؟! هل هذه هي خصوصيات المجتمع الأمريكي اليوم؟! هل سمات الحكومة الأمريكية اليوم هي هذه التي يذكرونها؟! ألم يكن هذا النظام هو الذي ارتكب المجازر ضد سكان أمريكا الأصليين؟ وقضى على الهنود الحمر في أمريكا؟ ألم يكن هذا النظام والعناصر المؤثرة في هذا النظام هو الذي أخذ ملايين الأفارقة من بيوتهم عبيداً، واختطفت بناتهم الشباب للاستعباد، وعاملتهم طوال سنوات متمادية بأفجع ما يمكن؟ من الأعمال الفنية التراجيدية اليوم عمل اسمه "كوخ العم توم"1، الذي يروي حياة العبيد في أمريكا، وهو كتاب لا يزال حياً رغم ما يقارب مائتي عام على ظهوره. هذه هي حقائق أمريكا وهذا هو النظام الأمريكي. هذه هي السمات والخصيصة التي عرضها النظام الأمريكي على العالم، وليس حرية الإنسان أو المساواة بين البشر. أية مساواة؟! إنكم لا تساوون لحد الآن بين الأسود والأبيض. لا يزال العرق الأحمر في الشخص لحد الآن نقطة ضعف لديه في كل مرحلة من مراحل التوظيف الإداري عندكم. المساواة بين البشر؟! حرية الفكر؟! هل أنتم على استعداد لبث هذه الكلمة أو كلمة السيد رئيس الجمهورية في وسائل إعلامكم في أمريكا؟ إذا كانت هناك حرية فكر وحرية تعبير خذوا كلمة السيّد خاتمي هذه التي استغرقت نصف ساعة وبثوها. أية حرية فكر؟! وسائل الإعلام متنوعة، لكن أزمّتها كلها مرتبطة بالأجهزة الرأسمالية والرأسماليين الكبار في أمريكا ومعظمهم في
1- هارييت بيتشرستاو (1811 - 1896م)، ترجمة منير جزني.
88
80
الدرس الثاني عشر:لمحرّم أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية
قبضة الصهاينة! هل هذا هو معنى حرية وسائل الإعلام في أمريكا؟! لماذا تكذبون على الناس في العالم؟ هل هذه هي المبادئ الأمريكية؟! ثمّ يقولون إن المبادئ الأمريكية عالمية شاملة. ومن أنتم حتّى تسمحوا لأنفسكم بوضع مبادئ عالمية للبشر؟ قبلكم كان للشيوعيين مبادئ عالمية. ستالين أيضاً كانت له مبادئ عالمية. كان يقول إن العالم كله يجب أن يطيعني ويتبع هذه المبادئ. والفاشيون في العالم أيضاً كانت لهم مبادئ عالمية حسب ظنهم. أي منطق هذا الذي يقول إن مبادئنا هذه مبادئ عالمية وكل من لا يقبلها في العالم يجب أن نقصفه بالقنابل النووية؟ هل هذا المنطق منطق شعب حرّ؟! هل هذا منطق حكومة تؤمن حقاً بكرامة الإنسان؟! هكذا تكذبون على البشرية؟!
المظهر الأسوأ للروح الاستكبارية
يقول ذلك الرجل1 في كلمته: كل من ليس معنا فهو علينا! تكررت هذه العبارة عدة مرّات. هذا هو أسوأ مظاهر الروح الاستكبارية لقوة من القوى أو حكومة من الحكومات. من قال إن من حقكم الريادة والقيادة في مجابهة الإرهاب؟ إذا كان الملاك قتلاكم على أيدي الإرهابيين فتعالوا وانظروا كم من أبناء الشعوب الأخرى قتلوا على يد الإرهاب. حالياً يُقتل أبناء فلسطين كل يوم في ديارهم ويُغتالون علناً على يد غاصبي ديارهم. ألم يكن هجومكم على فيتنام عملاً إرهابياً؟ ألم يكن هجومكم على هيروشيما وناكازاكي عملاً إرهابياً؟ ألم يحترق البشر هناك بنيران غضبكم عمداً ووِفق حسابات معينة ومن دون أن تعرفوا من هم أصلاً؟ بأي حقّ يجب أن تكونوا حداة قافلة مكافحة الإرهاب؟ وبأي حق تفسرون أنتم الإرهاب؟ أي استكبار هذا؟ هنا، حينما تُبثّ هذه الكلمات في العالم ويسمع الناس في الدنيا هذا الكلام منهم، يدركون لماذا جعلت الثورة الإسلامية الاستكبار والمستكبرين منذ البداية ضمن مفرداتها السلبية وركزت إعلامها عليها. الناس في العالم يفهمون معنى الاستكبار الذي تقصده الثورة الإسلامية.
موقفنا الواضح: التفاهم، والتعاطف، وسياسة مكافحة التوتر
يتجاهلون الوجه البارز للمجتمع الأمريكي - أي العنف، والإباحية، وإشاعة التحلل، وتعسف الأفراد ضد بعضهم بعضاً، وانعدام الأمن في وضح النهار - يتجاهلون كل هذا ويسكتون عنه. كما تعتمد تلك الحكومة على حق قوتها وتعسفها وتسمح لنفسها بالتعدي، كذلك الحال في شوارع نيويورك وبعض المدن الأمريكية الأخرى. كل من يمتلك القوة ويستطيع استخراج المال من جيوب الآخرين بالقوة، يفعل ذلك. وكل من يملك سلاحاً ويستطيع أن يقتل عدداً من زملائه في المدرسة، يعطي لنفسه الحق بأن يفعل ذلك. هذه هي نتيجة ذلك المنطق. هذه مشكلات كبرى يعانون منها. ثم يقول الرئيس الأمريكي مخاطباً الشعب الإيراني: عودوا إلى العائلة العالمية. انضموا إلى العائلة العالمية! أي إنكم ضد العالم كله. هل الجمهورية الإسلامية الإيرانية ضد العالم كله؟! أنتم اليوم بتفردكم وغطرستكم تبتعدون تدريجياً عن المجتمع العالمي والعائلة العالمية. ليس لإيران مشكلة مع العالم. علاقاتنا مع آسيا، وأوربا، وأفريقيا، ومعظم بلدان العالم علاقات قريبة وعلاقات صداقة وتعاون. كنت أودّ كثيراً لو توفرت
1- جورج بوش.
89
81
الدرس الثاني عشر:لمحرّم أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية
اليوم للسيّد رئيس الجمهورية الفرصة لتقديم تقرير عن زيارته الخيرة الناجحة جداً والحوارات التي أجراها، ولكن يبدو أن الوقت لم يتسع1. العالم كله يعرف تفاهمنا وتعاطفنا مع العالم وسياسة مكافحة التوتر التي لا نعتزم في إطارها إثارة التوتر مع أي طرف لا يريد الدخول في توتر معنا، والتعاون مع أي جانب يروم التعاون معنا. مواقفنا مواقف واضحة.
تهديد أمريكا لن يقتصر على عدة بلدان
بالطبع، أدرك الكثيرون في العالم اليوم أنه لو قُدِّر لهذا السياق التعسفي المتغطرس المتفرِّد أن يستمر فإن هذا التهديد لن يقتصر على عدة بلدان، كما لن يقتصر على العالم الإسلامي. وقد ظهر تهديدهم النووي مؤخراً بشكل غير رسمي ضد روسيا والصين2. ولو استطاعوا لهددوا حتى أوربا. ليس لهذا السياق ولهذه العملية المغلوطة المعيبة حدود تقف عندها. العالم كله ضدها. كل من ينكر قدرتها المطلقة فهو ضدها. هذا أمر لا يختص ببلد واحد وبلدين. ينبغي إيقاف هذه العملية المُعيبة.
واجب النخبة معرفة الواقع
نحن اليوم أمام هذه الظاهرة. الواجب الأول الذي يقع على عاتق النخبة في البلاد هو معرفة الواقع، واختيار أفضل الطرق للبلاد والشعب والنظام. هذا هو واجب النخبة. بعضهم قد لا يرى وجود أية أخطار تهدد النظام، فيقولوا: كلّا، ما من خطر يهدد النظام. وبعضهم قد يوافق على وجود الأخطار لكنه يراها موجّهة ضد جزء من النظام وليس كل النظام، ويتصور نفسه خارج ذلك الجزء المهدد. وبعضهم قد يعتبروا الخطر جاداً لكنه يتصور الحل في الاستسلام وتقديم الاعتذار. كل هذه السبل خاطئة. التهديد موجود وهو ضد النظام برمّته. لا يظننّ أحد أن المعتدي المستكبر المتمرد يقنع بأقلّ من الهيمنة الكاملة وأنه سوف يُبقي على أحد. طبعاً، من التكتيكات المعروفة والبالية في العالم هو أن يحاولوا إخراج جماعة من دائرة الأعداء بشكل مؤقت، ليستطيعوا القضاء على الباقين، ثم يعودوا إلى أولئك الذين استثنوهم. الخطر موجود ويشمل الجميع. والسبيل لمواجهته الحفاظ على عناصر القوة داخل النظام ومضاعفتها.
الدفاع الشامل مقابل شن الحرب
لدينا الكثير من عناصر القوة. يجب علينا المحافظة على هذه العناصر ومضاعفتها باستمرار. إننا لسنا ضعفاء، ويجب أن نكون جاهزين أمام الأخطار والتهديدات. إذا لم نكن جاهزين فعلينا أن ننتقل إلى حالة الجوهزية، وإذا كنا جاهزين فينبغي لنا المحافظة على هذه الجوهزية ومضاعفتها. إعلان الدفاع الشامل مقابل إعلان الحرب - وأؤكد وأشدد على كلمة الشامل - والمبادرة إلى الدفاع وتوجيه الضربات المضادة مقابل المبادرة إلى الحرب.
1- زيارة السيد خاتمي إلى النمسا واليونان (11 إلى 15 آذار 2002 م).
2- تقرير سري للبنتاغون نشر في صحيفة لوس انجلس تايمز، جاء فيه إعداد خطة طارئة لاستخدام محتمل للأسلحة النووية ضد إيران، والصين، وروسيا، وسورية، والعراق، وكوريا الشمالية، وليبيا.
90
82
الدرس الثاني عشر:لمحرّم أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية
عدم الترحيب بالحرب
ما هو موقفنا؟ إننا لا نرحّب بأية حرب. ليعلم الجميع هذا. هذا هو الموقف الموحد والمتلاحم لكافة المسؤولين في النظام. إننا نعتبر تجنّب الحرب واجبنا. ونعتقد أن التوجّه الحالي لأمريكا يجر المنطقة والعالم إلى عدم الاستقرار. ونعتقد في الوقت ذاته أن أمريكا تبالغ في تقدير قدراتها وقواها. ليست الصواريخ والذّرة كل العناصر اللازمة لما يريدون الحصول عليه. لا بد من الكثير من الأشياء الأخرى التي لا يمتلكونها. وهم يعانون الغفلة واللاوعي فيما يتصل بقدرات شعبنا الكبير ومنطقتنا الحساسة ومسؤولينا الواعين. لدينا قدرات إنسانية، وقدرات جغرافية. منطقتنا منطقة حساسة جداً. عدم الاستقرار في هذه المنطقة يعرض العالم لعدم الاستقرار. هذه حقائق هامة جداً ينبغي التنبه لها. والجمهورية الإسلامية الإيرانية ليست "طالبان" المرتبطة ببلد أجنبي حتى تموت تلقائياً إذا قطعوا هذا الارتباط. الجمهورية الإسلامية بلد كبير بشعب عظيم، وإمكانيات هائلة، وحيوية ونشاط، وإسناد كبير من كل العالم الإسلامي، وقدرة رادعة عالية جداً. الجمهورية الإسلامية لا تقبل المقارنة بنماذج أخرى.
الإصرار على الحق واستخدام العقل والتدبير والحزم
جوهر كلام الطرف الأمريكي هو أنهم يقولون لنا: كونوا ضعفاء وتابعين وعملاء لكي لا نهاجمكم، وهذا شيء مستحيل. إننا لسنا ضعفاء، بل أقوياء وأعزاء وشامخون. لا شعبنا، ولا حكومتنا، ولا تاريخنا، ولا ثقافتنا تسمح لنا بالاستسلام مقابل أي عدو، وهذا الشعب سوف لن يستسلم أبداً. موقفنا هو الإصرار على الحق واستخدام العقل والحزم والتدبير، وهذا ما نعتبره السبيل الوحيد لصيانة البلد. علينا المحافظة على مواقفنا الحقة، كما يجب علينا استخدام العقل والتدبير والحزم في جميع المراحل والأطوار. تقع على النخبة في هذه الفترة واجبات جسيمة، وهذه الفترة هي فترة امتحان هامة. عين التاريخ علينا أنا وأنتم. أنتم اليوم تديرون واحدة من أهم الحقب في تاريخ بلادكم، وأنتم أبطالها ورجالها الأصليون. عليكم التنبه والتركيز جداً. لحسن الحظ فإن الجهات الأساس التي ترتبط هذه القضايا بها - أي المجلس الأعلى للأمن القومي وكل الفروع في مختلف القطاعات الحكومية ذات الصلة بهذا المجلس - ناشطة وفعالة بشكل جيد. وعلى الأجهزة الأخرى أيضاً زيادة سعيها وجدّها.
القيام بالواجبات القانونية على أحسن نحو
لدينا "يجب" أكيدة، ولدينا أيضاً "يجب أن لا" أكيدة.. الـ "يجب" الأكيدة هي أن يقوم الجميع بالواجبات الملقاة على عواتقهم حسب القانون. هذا هو أساس العمل. أي إن القطاعات الحكومية المختلفة إذا أرادت القيام بواجباتها الحقيقية فعليها النهوض بالمهمات التي تقع على كاهلها حسب القانون بنحو جيد وكامل وسالم. على كافة القطاعات المختلفة أداء واجباتها بشكل جيد. وثمة قطاعات تختص بفترات تشبه هذه الفترة. هؤلاء أيضاً عليهم أداء أعمالهم على أحسن نحو. هذه هي الـ "يجب" الأكيدة التي تتوجه إلينا جميعاً. هذه اللحظات الحساسة في تاريخ البلدان والشعوب قد تبدو عادية بالنسبة إلى الذين يعيشونها، لكنها هامة جداً بالنسبة إلى الذين سيصدرون أحكامهم عنها في المستقبل. أي تصريح أو سكوت، أية حركة أو مبادرة ستكون تحت مجهر الجماهير في المستقبل، كما
91
83
الدرس الثاني عشر:لمحرّم أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية
أنها اليوم تحت مجهر الكرام الكاتبين. المأمورون الإلهيون يرصدون أعمالنا: "و كنت أنت الرقيب عليَّ من ورائهم والشاهد لما خفي عنهم"1. أية حركة منكم اليوم بإمكانها أن تكون مؤثرة. لذلك، ينبغي التدقيق والمراقبة في كل كلمة وخطوة وموقف وقول أو صمت يصدر عنّا. هذه هي الـ "يجب" اللازمة الأكيدة.
لا تهابوا الأعداء
و ثمة "يجب أن لا" وهي عبارة عن عدم الخوف والتهيّب. الضرر والخطر الأكبر الذي قد يتعرض له بلد في مثل هذه الظروف هو أن يشعر العدو بأنه استطاع إرعابه وإخافته. بل من أدوات القوى العظمى التخويف والإرهاب. أحياناً تبدو هيبة كون الدولة الفلانية قوة عظمى أمام الضعفاء أكثر تأثيراً من السلاح. بعضهم يتنازل بنفسه خوفاً من القوى الكبرى ذات البلاء الذي قد تُنزله به القوى الكبرى. لا تهابوهم! بعضهم يتحدث في الحوارات المختلفة التي تدور هذه الأيام، ويتصرف بطريقة تُفسد الانضباط اللازم الذي يحتاجه البلد في مثل هذه الظروف. نعتقد أن بعض هذه التصريحات والمواقف سببه سوء الذوق والتقدير، وبعضه نتيجة الخوف مفاوضة الظالم المتغطرس لا تعالج أية مشكلة لا يتصورنَّ أحد أن سبيل الحل في مثل هذه الظروف هو العودة لنفس ذلك الظالم المتعسف المهدِّد، فنتفاوض معه ونستشيره فيما يصلح وما لا يصلح! التفاوض ليس سبيل حل. والتفاوض لا يعالج أية مشكلة من هذه المشكلات. البلدان الأخرى التي تعرضت للتهديد لها أبواب مفتّحة للتفاوض مع أمريكا، ولها علاقاتها معها، ومع ذلك تتعرض للتهديد.
قد تكون هناك مفاوضات وحرب في نفس الوقت. وقد لا تكون ثمة مفاوضات ولا تكون حرب أيضاً. وقد تكون ثمة حرب معها العزة والانتصار. وقد لا تكون هناك حرب لكن حالة عدم الحرب هذه مصحوبة بالذلة والأسر.
لا يظننّ أحد أننا لو ذهبنا إليهم وقلنا لهم ما الذي تريدونه؟، وطالما كنتم غاضبين إلى هذه الدرجة، قولوا إذن ما تريدون، سوف تُعالَج المشكلة. العزيمة والتوكل هما العاملان الحاسمان. وفي المقابل فإن الانهزام النفسي والتهيّب أيضاً عاملان مصيريان حاسمان.
نحن أصحاب حوار في العالم
نحن أصحاب حوار وتفاوض في العالم. منذ أن كنت في رئاسة الجمهورية كنت أؤكد على وزارة الخارجية والأجهزة المختلفة أن اذهبوا وتحدثوا مع الحكومات والبلدان وشاركوا في المحافل العالمية. وكنت أشدد دوماً على رؤساء الجمهورية بعد رئاستي للجمهورية أن سافروا وزوروا البلدان، وشاركوا في المفاوضات والحوارات وتواصلوا مع الآخرين.
لتكن لكم زياراتكم المتبادلة. إنني مؤمن بالحوار والتفاوض أساساً، ولكن التفاوض مع من وعلى ماذا؟ التفاوض للوصول إلى قدر مشترك يجب فيه على الجانبين أن يعترفا أحدهما بالآخر، ويكون
1- مفاتيح الجنان، دعاء كميل.
92
84
الدرس الثاني عشر:لمحرّم أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية
ثمة حدّ وسط يتفاوضان للوصول إليه. الجانب الذي لا يعترف بكم أساساً ويعارض أساس وجودكم كجمهورية إسلامية، أية مفاوضات يمكن أن تكون لكم معه؟! إنه يقول صراحة إنني أعارض النظام الديني، وأعارض نظام الجمهورية الإسلامية على وجه الخصوص لأنه صار مصدراً لصحوة المسلمين في العالم. وهو يعتبر بصراحة الحركة الإصلاحية في إيران حركة معادية للنظام الإسلامي ويفهمها بهذا المعنى.
إخوتنا وأخواتنا العاملون تحت عنوان الإصلاحيين لا يعتبرهم إصلاحيين أساساً! الذين يعتبرهم إصلاحيين هم أولئك الذين يريدون زوال هذا التيار وذاك التيار، بل لا يريدون وجود النظام الإسلامي أساساً. إذن، أية مفاوضات يمكن أن تجري مع الذي يعارض أساس النظام الإسلامي، وإذا بادر مبادرة معينة، أو مدّ يد الصداقة لأحد، إنما يفعل ذلك على أساس تكتيك معين وللخداع والحيلة؟ ما هي النتائج التي يمكن أن تتمخض عنها مثل هذه المفاوضات؟
التفاوض يجب أن يأتي من منطلق القوة والاقتدار
يجب أن تأتي المفاوضات من منطلق القوة والاقتدار. الذين يفكرون في التفاوض أثناء ظروف الخطر والتهديد إنما يعلنون عن ضعفهم بأعلى الأصوات. إنها خطوة خاطئة جداً. لقد ذكر الإمام الخميني ما هو فوق المفاوضات، قال: إذا أصبحت أمريكا تتحلّى بصفات حسنة سنقيم معها علاقات! أي إذا تخلت عن طباعها الاستكبارية وكانت جانباً متكافئاً، ولم تشأ متابعة أهدافها داخل إيران عندئذ ستكون حكومة مثل سائر الحكومات. لكن الواقع غير هذا.. ليس هذا هو الواقع. إنهم لا تزال تراودهم أحلام الهيمنة التي كانت لهم على عهد النظام البهلوي. يفكرون في عودة تلك الفترة والهيمنة. إنهم يعارضون من الأعماق النظام المستقل الذي يريد أن تكون له سياسته ومواقفه، ويدافع عن دينه وعقائده وثقافته. ورغم أنهم لا يقولون هذا بصراحة في الوقت الراهن، لكنه يبدو ويُستشفَ من ثنايا كلامهم.
أمريكا غاضبة من أصل التفكير الإسلامي
أمريكا تعارض الإسلام حتى لو لم يكن إسلاماً يحكم، أي حتى بالمقدار الموجود اليوم في العربية السعودية ومصر. على فرض المحال لو استطاع الأمريكيون تحقيق أهدافهم هنا، فسوف يتبيّن ما هو موقفهم منهم. زوّدوني بتقرير يفيد أن السياسيين الأمريكيين قالوا لأحد وزراء أحد البلدان الإسلامية المعروفة إن عليكم التقليل من تدريس قضايا الدين والجهاد في كتبكم المدرسية، لماذا تدرسّون مثل هذه الأمور في كتبكم المدرسية؟ هذه هي المسألة. إنهم منزعجون وغاضبون من أصل الإسلام والتفكير الإسلامي الذي يحضّ صاحبه على عدم الخوف والتهيّب من أية قدرة مادية. وهذه هي خصوصية القرآن والإسلام.
اتفاق المسؤولين حيال غطرسة العدو
يجب علينا المحافظة على عناصر القوة والاقتدار. العنصر الأهم من عناصر اقتدارنا هو الشعب، والعامل المهم الذي يُبقي الشعب حيوياً ناشطاً في الساحة هو إيمانه واتحاده. أرجو أن لا يتحدث أصدقاؤنا في مفاوضاتهم وتصريحاتهم بطريقة تشيع شبهة عدم الاتحاد والوحدة في قلوب الجماهير.
93
85
الدرس الثاني عشر:لمحرّم أهميّة تاريخية ومعنوية وإنسانية
قال رئيس الجمهورية المحترم ـ وهو على صواب ـ إنه لا يوجد اليوم بين مسؤولي البلاد أي خلاف - والحمد لله - حول هذه الموضوعات المطروحة. كلهم يفكرون بطريقة واحدة ويؤكدون على الصمود والمقاومة وعدم الاستسلام والإصرار على الحق.. لا أحد يفكر بغير هذا، وهذا ما يريده الشعب. الشعب يغتبط ويفرح بمشاهدة المواقف المتحدة للمسؤولين، فأبناء الشعب مؤمنون. ينبغي عدم الانخداع بإعلام العدو حين يقول إن الشعب منفصل عن النظام. ليس الأمر كذلك. الشعب مؤمن ومحبٌّ للنظام الإسلامي، وقد أثبت ـ للحق والإنصاف ـ وفاءه في جميع المراحل. نحن المسؤولين قصّرنا كثيراً، لكن الشعب لم يقصّر، وسوف لن يقصِّر، وعلينا نحن أيضاً أن لا نقصِّر. على المسؤولين في القطاعات المختلفة أداء واجباتهم المرسومة لهم في القانون بنحو كامل وسالم وعلى أفضل وجه. هذا حق الشعب، وهو من أهم عناصر وحدتنا.
الاختلاف بين المسؤولين أكبر مشجِّع للعدو
أي اختلاف يظهر يشجع العدو على الهجوم. ثمة من يقول: لا تشجِّعوا العدو على الهجوم، وأنا أوافق على هذا القول. ينبغي عدم تشجيع العدوّ على الهجوم. ولكن هل تعلمون ما الذي يشجع العدو على الهجوم؟ أكبر ما يشجع العدوّ على الهجوم هو أن يشعر العدوّ بوجود اختلاف بين مسؤولي البلد وبين الساسة والنخبة من السياسيين. الاتحاد الذي أؤكد عليه كل هذا التأكيد ويشدد عليه كافة مسؤولي الدولة ومدراؤها ليس الاتحاد والاتفاق على مختلف القضايا السياسية. قد تكون هناك اختلافات بين المسؤولين في القضايا الاقتصادية والسياسية، ولكن هناك اتفاق حول ضرورة مقاومة الشعب الإيراني وصموده حيال غطرسة العدو المتبجِّع. على الجميع أن يتفقوا على هذا الموقف وهم متفقون، ويجب أن يعلنوا ذلك. يجب أن يذكروا هذه الوحدة وهذا الاتفاق بصراحة.
إن أي شيء ينال من هذه الوحدة ويشي بالاختلاف يشجع العدو. الذين يبثون أصواتهم عبر القنوات غير الشرعية وغير المباركة للأجهزة العميلة للمنظمات الاستخبارية للعدو في العالم ويشبِّهون الجمهورية الإسلامية برضا خان المستبد ونادر شاه الذي أوجد أهرامات من جماجم البشر، هؤلاء يشجعون الأعداء.
دروس الإمام الخميني قدس سره حيّة في قلوبنا
إننا نشكر الله على أن ربط على قلوبنا بفضل الإيمان به، ونشكره على أن جعل دروس إمامنا الجليل حيّة متفاعلة في قلوبنا. نشكره تعالى على أن منَّ علينا بتلك الشخصية التي تبلورت فيها التقوى والشجاعة والتوكل على الله، وكانت تجسيداً لقدرة الله في وجود الإنسان. شهدناه وتمّت علينا الحجة.
نشكر الله على أن القلوب مستنيرة بهذه الحقائق. عمِّقوا هذه الحقائق في قلوبكم يوماً بعد يوم عن طريق التوجّه إلى الله. اصمدوا فإن الحق معكم والنصر لكم.اللهم، أنزل بركاتك ورحمتك وهدايتك علينا، ربنا اجعل حضورنا وموقفنا في هذه الجلسة وما قلناه وسمعناه لكَ وفي سبيلك ومقبولاً عندك. اللهم أعزز الإسلام والمسلمين، وامحق أعداء الإسلام والمسلمين. ربنا، بمحمد وآل محمد أرضِ عنا القلب المقدس لسيدنا الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، واشملنا بعونك وبركته.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
94
86
الدرس الثالث عشر: عيد النيروز بداية النبت والنماء
الدرس الثالث عشر: عيد النيروز بداية النبت والنماء
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله عيد النيروز
المناسبة: عيد النيروز لعام 1389 هـ ش
الحضور: جمع من أهالي قم المقدسة
المكان: طهران
الزمان: 20/03/2010 م.
95
87
الدرس الثالث عشر: عيد النيروز بداية النبت والنماء
بسم الله الرحمن الرحيم
"يا مقلّب القلوب والأبصار، يا مدبّر الليل والنهار، يا محوّل الحول والأحوال، حوّل حالنا إلى أحسن الحال". أبارك عيد النيروز السعيد وبداية العام الجديد - وهو بداية الربيع وانبعاث الطبيعة - لكل أبناء الوطن الأعزاء في كل أنحاء بلادنا الواسعة العزيزة، وكذلك لكل الإيرانيين في أي مكان في العالم كانوا، وأنظار آمالهم وتوقعاتهم مشدودة إلى بلدهم العزيز، وبخاصة الشباب والرجال والنساء المضحين الذين قدموا تضحيات كبيرة في سبيل الأهداف العليا للثورة والبلاد، وأرخصوا أرواحهم وقدموا شبابهم للثورة ومن أجل شموخ البلاد، وكذلك لعوائل الشهداء الكريمة وللمعاقين وعوائلهم المضحية، ولجميع المضحين، والذين يعملون ويجاهدون من أجل رفعة البلاد. وأحيّي وأسلّم على الروح الطاهرة لإمامنا الجليل رائد هذه الحركة الشعبية الهائلة وباعث تقدّم وسموّ إيران البلد الإسلامي الكبير.
عيد النيروز بداية النبت والنماء. وكما أن هذا النماء محسوس في الطبيعة يمكن أن يتجسد ويظهر في قلوبنا وأرواحنا وحركتنا نحو التقدم. لنلق نظرة إلى سنة 88 التي وصلنا الآن إلى نهايتها. إذا أردنا تعريف عام 88 بعبارة واحدة فأعتقد أنه كان عام الشعب الإيراني، إنه عام عظمة وانتصار هذا الشعب الكبير، وهو عام المشاركة التاريخية والمؤثرة لهذا الشعب في الميادين ذات الصلة بثورتنا الكبرى ومصير بلادنا.
في مستهل عام 88 نظمت الجماهير بمشاركتها غير المسبوقة انتخابات لا سابقة لها في تاريخ ثورتنا، وطبعاً في تاريخ بلدنا الطويل، وكان ذلك نقطة بارزة وذروة من الذرى. وطوال الأشهر التي أعقبت الانتخابات سجلت الجماهير مشاركتها وإرادتها وصمودها وعزيمتها الوطنية وبصيرتها في امتحان كبير وحركة مصيرية عظيمة.
التحليل المختصر الذي يمكن تقديمه لأحداث ما بعد الانتخابات طوال عدة أشهر هو أن أعداء البلاد وأعداء نظام الجمهورية الإسلامية وبعد مضي ثلاثين سنة، ركزوا كل مساعيهم وقدراتهم وطاقاتهم لكسر هذه الثورة ودحرها من الداخل. واستطاع الشعب حيال هذه المؤامرة الكبرى وهذا التحرك العدواني أن يفرض بوعيه وبصيرته وعزمه وصموده الفذ الهزيمة على الأعداء. التجربة التي مرت طيلة هذه الأشهر الثمانية التي أعقبت الانتخابات وحتى يوم الثاني والعشرين من بهمن على هذا الشعب وهذا البلد تجربة حافلة بالدروس والعبر وهي من دواعي شموخ الشعب الإيراني حقاً.
96
88
الدرس الثالث عشر: عيد النيروز بداية النبت والنماء
لقد تألق الشعب في سنة 88 وأبدى المسؤولون جهوداً قيّمة كبيرة. هذه الجهود بحد ذاتها جهود قيّمة وجديرة بالتقدير. من الواجب على كل المراقبين المنصفين تقدير هذه الجهود والمساعي والأعمال التي أنجزت لعمران البلاد وتقدمها وبنائها في الميادين المختلفة. في المجال العلمي والمجال الصناعي والأنشطة الاجتماعية والسياسة الخارجية والمجالات المختلفة الأخرى أنجز مسؤولو البلاد أعمالاً كبيرة. آجرهم الله جميعاً ووفقهم لمزيد من التقدم.
ما يمكن استنتاجه من ملاحظة الواقع القائم في البلاد والإمكانيات الهائلة الكامنة في هذا البلد وهذا الشعب الكبير هو أن ما قمنا به وما قام به المسؤولون والناس ليس بالعمل الكبير قبال الإمكانيات العظيمة المتاحة في هذا البلد لتحقيق التقدم والوصول إلى العدالة. علينا جميعاً بذل جهود أكثر مما بذلنا في الماضي، وعلينا أن نشعر بالمسؤولية والواجب.
في هذا الدعاء الذي نقرأه جميعاً في بداية كل سنة، هناك عبارة ملفتة للنظر: "حوّل حالنا إلى أحسن الحال"، لا يقول خذ بأيدينا إلى يوم حسن أو حال حسن، بل يخاطب الله قائلاً: خذ بأيدينا إلى أحسن الأحوال وأفضل الأيام وأفضل الأوضاع. هذه هي الهمّة العالية للإنسان المسلم التي تطمح لبلوغ الأفضل في كل الميادين.
في هذه السنة، من أجل أن نستطيع القيام بما علّمونا إيّاه في هذا الدعاء الشريف، وهو واجبنا، ومن أجل أن نستطيع السير وفق متطلّبات البلاد وأمكانيّاتها نحتاج إلى مضاعفة هممنا عدّة أضعاف وتكثيف العمل والمساعي. إنّني أسمّي هذا العام عام "الهمّة المضاعفة والعمل المضاعف" على أمل أن يستطيع مسؤولو البلاد ومعهم جماهير الشعب العزيز وعلى شتّى الصعد الاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة والعمرانيّة والاجتماعيّة، السير في الطرق غير المسبوقة بخطوات أوسع وهمم أعلى وعمل أكثر وأعظم، والاقتراب إن شاء الله من أهدافهم الكبرى. إننّا بحاجة إلى هذه الهمّة المضاعفة، والبلد بحاجة إلى هذا العمل المضاعف.
يجب أن نتوكل على الله تعالى، ونستمد منه العون، ونعلم أن المجال للعمل واسع جداً. الأعداء أعداء العلم والإيمان في مجتمعنا، ويجب تعزيز العلم والإيمان بيننا بشكل مضاعف. سوف تتذلل العقبات إن شاء الله وتصغر وسوف يشمل العونُ الإلهي شعبنا وبلادنا ومسؤولينا بظلاله وبركاته ولسوف تشملنا النصرة الإلهية كذلك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
97
89
الدرس الرابع عشر: التقدّم والعدالة
الدرس الرابع عشر: التقدّم والعدالة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في الحرم الرضوي الشريف
المناسبة: حلول العام الشمسي الجديد.
الحضور: أهالي مشهد وزوار المرقد الطاهر للإمام الرضا عليه السلام.
المكان: مدينة مشهد المقدسة.
الزمان: 1/1/1389.ش
5/4/1431.ق
21/3/2010م.
99
90
الدرس الرابع عشر: التقدّم والعدالة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديين المعصومين المكرّمين سيّما بقية الله في الأرضين.
أشكر الله تعالى من أعماق الروح أن وفّقني مرّة أخرى وفي عام آخر لأن أكون في اليوم الأول من السنة إلى جانبكم، إخواني وأخواتي الزوار والمجاورين لهذه البقعة الطاهرة المقدسة قرب المرقد المطهّر لحضرة أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام وأن أتنعّم بفيوضات هذا اليوم وهذه الفرصة الكبرى للقائكم إخواني وأخواتي الأعزاء.
بداية أبارك حلول السنة الجديدة وعيد النوروز لكل شعب إيران ولكم إخواني وأخواتي الأعزاء وأعرض لمجموعة من المسائل في هذه المناسبة.
المسألة الأولى: مما يلفت النظر ويُقال بمناسبة مرور واحد وثلاثين عاماً على استقرار نظام الجمهورية الإسلامية هو تعريف قرآني للنظام الإسلامي المقدّس وللحكومة الإسلامية. فأساس الحكومة الإسلامية والمائز الأساس لهذه الحكومة عبارة عن استقرار الإيمان، الإيمان بالله، الإيمان بتعاليم الأنبياء، وسلوك الصراط المستقيم الذي قدمه الأنبياء الإلهيون إلى الناس. الأساس هو الإيمان. إن إرسال الأنبياء الإلهيين لهداية البشر وتأسيس المجتمعات الدينية والإلهية عبر التاريخ وإلى يومنا هذا، كان بالدرجة الأولى من أجل هذا الهدف.
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ً1 أي إن الهدف من بعث رسل الله هو الإيمان بالله والارتباط بذاته وطريقه سبحانه، والتمسّك بتلك التعاليم التي بثّها هؤلاء الأنبياء بين الناس هذا في سورة الفتح، وأما في سورة الأحزاب المباركة فيقول تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ﴾2
إن رسالة النبي هي الدعوة إلى الله، وهذا هو أساس العمل. فإن الشيء الذي يمكن عدّه مائزاً بين النظام الإسلامي والمجتمع الإسلامي وكل المجتمعات البشرية هو بالدرجة الأولى هذه النقطة، مسألة الإيمان بالله والإيمان بالغيب والإيمان بذلك الطريق الذي جعله الله تعالى للبشر من
1- سورة الفتح، الآيتان 8 - 9.
2- سورة الأحزاب، الآيتان 45 -46.
100
91
الدرس الرابع عشر: التقدّم والعدالة
أجل سعادتهم الدنيوية والأخروية. ولو كان اليوم لنظام الجمهورية الإسلامية من كلامٍ يقوله تجاه سائر الأنظمة في العالم أو قضية يتحدّى بها الأنظمة المادية فذلك من أجل أن المائز الأساس هو الإيمان. إن البشرية اليوم وبسبب عدم الإيمان ابتُليت بأنواع الشقاء ات الحياتية المختلفة ولهذا فإن المائز الأساس هو الإيمان. الإيمان بالله وطريق الله وطريق الأنبياء ـ الذي يتبعه العمل بتلك التعاليم ـ ليس لأجل الارتقاء المعنوي فحسب وإن كان أهم ثماره هو ذلك الارتقاء المعنوي والتكامل الإنساني والأخلاقي، لأن الدنيا مزرعة الآخرة. فمن خلال التحرك في الحياة الدنيا يمكن للإنسان أن يقطع المدارج والمعارج ويتكامل. لهذا فإن الحياة المادية تقع ضمن نطاق الإيمان بالله. فالإيمان بالله تعالى إذن، لا يضمن السعادة المعنوية فحسب، بل السعادة المادية أيضاً.
إن الإيمان بالله تعالى يمكّن الناس من الحصول على كل الأشياء التي يحتاجونها في حياتهم المادية، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾1.
لو أن الدين أقيم وعُمل بالتعاليم الإسلامية في المجتمع فإن الناس سيصلون من حيث الرفاهية إلى حيث لا يبقى أي شيء من حاجاتهم غير متوفر. ومن حيث الاستقرار المعنوي والروحي والشعور بالأمن والطمأنينة يبرز دور الإيمان أيضاً،يقول القرآن: ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾2
فالقرآن يعلّم البشر طرق السلام والطمأنينة والسلامة الروحية، هذا الطريق الذي يوصل الإنسانية إلى الطمأنينة الروحية، وهو ذلك الشيء الذي يفتقده العالم ويؤدي إلى حال الغليان. هناك التطور المادي والتطور التقني والعلمي والثروات الطائلة الموجودة في المجتمعات ولكن لا توجد طمأنينة أو استقرار. وهذا بسبب قلّة هذا العنصر الأساس في حياة البشر الذي هو عبارة عن الإيمان. هذه قضية أساس ينبغي التوجه إليها بالاستفادة من القرآن الكريم. إذا كنا نريد في هذه الجمهورية الإسلامية ـ أنا وأنتم وكل واحد منا وسائر شبابنا وكل الأجيال الآتية ـ تأمين مستقبل سعيد لبلدنا ولأنفسنا وأبنائنا، فإن أساس التحرّك في النظام الإسلامي هو الإيمان الذي يجب أن يحققه ليس فقط في القلب بل في العمل وفي الخطط وفي جميع التحركات.
هذه السنة هي السنة الثانية والثلاثون على تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية أي السنة الثانية من العقد الذي أُعلن كعقد التقدّم والعدالة. فشعار التقدّم والعدالة هو شعار محوري وقضية أساس وحاجة ماسّة. ففي هذه المرحلة يجب أن يكون الهدف الكبير لشعبنا العزيز والمسؤولين التقدّم والعدالة. (التقدّم) و(العدالة) مطلبان تحتاجهما البشرية. فإن التقدّم يعني الوصول إلى النتائج المطلوبة بلحاظ العلم والعمل وكل ما هو ضروري للمجتمع في الدنيا. والعدالة تعني انتفاء التمييز بين الناس وزوال الظلم. هذان المطلبان يعدّان من المطالب الأساس والأصلية والقديمة للبشرية. وعلى امتداد تاريخ البشر كان هذان المطلبان من المطالب الأصلية للبشرية: التقدّم والعدالة. وهذه الشعارات يمكن إطلاقها لكن المهم هو من يحق له العمل بهذه الشعارات. ونحن في نظام الجمهورية الإسلامية قد
1- سورة المائدة، الآية 66.
2- سورة المائدة، الآيتان 15 - 16.
101
92
الدرس الرابع عشر: التقدّم والعدالة
وجدنا هذا العقد الرابع فرصة مناسبة من أجل العمل على الوصول إلى هذين الشعارين. فيمكن تحقيق التقدّم بمعناه الحقيقي، والعدالة مع هذا الوعي الموجود في مجتمعنا، مع البصيرة التي تحققت بحمد الله في شعبنا فعرف العقبات وشخّص الأهداف، وعلم شبابنا مَن الصديق والعدو في هذه الأيام. فلو أن مسؤولاً سعى نحو العدالة يمكنه أن يهيّئ مقدّمات استقرار العدالة الكاملة في مجتمعنا. ولا شك بأن هذا ليس عملاً قصير الأمد بل هو بعيد الأمد. لهذا نأخذ هذا العقد كعقد التقدّم والعدالة بعين الاعتبار. فكل ما يمكن تحقيقه أو التخطيط له يجب أن يلاحظ هذين العنصرين وأن يكون لأجل تقدّم المجتمع ولأجل العدالة.
للبلاد استعدادات كثيرة. أعزائي، في هذه السنوات الثلاثين تقدّمت البلاد والعباد في جميع المجالات. والأرضية متوفرة لحركة عظيمة وتأسيسية، حركة ملموسة يمكن ملاحظة أثرها في حياة الناس. فنحن قد أحرزنا في مجال البُنى التحتية الاقتصادية الكثير من التقدّم، وفي مجال البُنى التحتية المتعلّقة بالاتصالات والمواصلات تحققت إنجازات كبرى، وقد بدأت مسيرة متسارعة في مجال التطور العلمي والتقني منذ مدّة وإلى يومنا هذا. فلاحظوا أن شبابنا وجامعيينا ونخبنا قد وصلوا في المجالات العلمية إلى مراحل مدهشة جداً بالنسبة لدولة كانت بعيدة جداً عن مرحلة العلم والتحقيق والابتكار العلمي.
شبابنا الأعزاء! إن الأشياء التي تجعل بلدكم في صف الدول العشر الأولى في العالم ـ أو الثمانية ـ ليست قليلة. ففي القطاعات المختلفة في قطاع علوم الحياة وعلوم النانو (nano tec) والعلوم الفضائية وغيرها سترون أن علماء البلاد ـ الذين هم بأغلبهم شباب مفعمون بالحماس والحيوية والنشاط ـ قد تمكّنوا من إيصال البلد إلى هذه النقطة بحيث يُقال في هذا المجال إنّ إيران هي إحدى الدول الثمانية الأولى، في العالم وفي ذاك المجال هي إحدى الدول العشر، أي إنّ هذا تطور عظيم، وهو يمثّل موقعية مهمة للبلاد. وفي مجال الموقعية والقدرة الإقليمية والدولية فإن نظام الجمهورية الإسلامية اليوم والجهاز الإسلامي في بلدنا يتمتع بمهابة وأهميّة في عين الدول بحيث يعترف أعداؤنا بأن الجمهورية الإسلامية هي من أفضل الدول في مستواها ومن الدول التي يمكنها أن تكون ذات تأثير. يمكن القول إن الجمهورية الإسلامية من حيث الاعتبار الدولي والسياسي في المنطقة هي في الدرجة الأولى. قد تسمعون أشخاصاً، أفضل ما يمكن أن يُقال عنهم إنهم قصيرو النظر ولا يمتلكون رأياً سديداً، يقولون أحياناً إن ذلك رئيس تلك الدولة الغربية المستكبرة، أو وزير الخارجية ذاك، أو ذلك المبعوث الدولي قد تلفّظ بكلامٍ سيئٍ تجاه إيران حيث يعدّون ذلك دليلاً على عدم قيمة الجمهورية الإسلامية، هذا خطأٌ. إن الجمهورية الإسلامية اليوم لها موقعية واقتدار في عيون الشعوب والدول وحتى في عيون أعدائها. نحن دولة مؤثّرة. ففي القضايا العالمية نرى أن حضور نظام الجمهورية الإسلامية هو حضورٌ ملموس ولا يمكن مقارنته بحضور دولة أخرى بمستوى إيران من حيث الوضع الاقتصادي والثروة القومية. إن إيران هي أفضل من جميع الدول التي تتقدم عليها أو تساويها من الناحية الاقتصادية فيما يتعلق بالتأثير في السياسات الإقليمية. فهذه كلها مجالات. ثلاثون سنة من تجربة الخدمة والإدارة المتراكمة هي اليوم في خدمة مسؤولي نظام الجمهورية الإسلامية. فلاستمرار حركة هذا النظام واستقراره وثباته هذه الأهمية وهذا الأثر الكبير وهو تحقّق تجربة متراكمة قيّمة فيما يتعلق بالتعامل مع القضايا العالمية والإقليمية،
102
93
الدرس الرابع عشر: التقدّم والعدالة
والقضايا الداخلية للبلد. فهذا بذاته يمثّل أرضية مهمة جداً وبنية تحتية ملفتة.
لقد تمّ تحديد رؤية واضحة، رؤية للعشرين سنة المقبلة في الجمهورية الإسلامية. هذه الوثيقة القيّمة. الحكومات المتعاقبة يمكنها أن تحدّد الأهداف على أساس هذه الوثيقة الرؤية، وكل واحدة منها تقطع مسافة منها لتودع ما تبقى من أعمال الحكومة التي تعقبها. فوجود وثيقة للرؤية يُعدّ من الإمكانات القيّمة لنظام الجمهورية الإسلامية.
وإحدى الإمكانات الكبرى للنظام هو هذا الجيل الشاب المتعلّم المليء بالطاقة والاندفاع في بلدنا. فهؤلاء قد تعلموا ودرسوا ويوجد لديهم اندفاع ويسعون في طريق فهم واستيعاب القضايا المتعددة في مختلف القطاعات ولديهم الثقة بالنفس. ونحن اليوم نستشعر من شبابنا هذه الثقة بالنفس التي لم تكن موجودة في السابق وهي أمرٌ يقلّ نظيره في الشعوب الأخرى. وكل واحدة من هذه القضايا المختلفة الاقتصادية والتقنية والسياسية والاجتماعية والقضايا التي تحتاج إلى العلم والتخصص عندما تُعرض على شرائح الشباب وأهل البحث والتحقيق نجد أنهم يقولون بمنتهى الثقة بالنفس إننا نستطيع. ولا يشعرون بأنهم عاجزون بل لديهم القدرة. وهذه الثقة بالنفس لها أهمية فائقة بالنسبة لشعبٍ أن يشعر بأنه قادرٌ، فلسنواتٍ متمادية تمّ تلقيننا إنكم لا تستطيعون.
كان يُقال لشعبنا إنكم بلا شرف. فسياسيو الدولة كانوا حكاماً جائرين تسلّطوا على بلدنا وتعاملوا في الغالب مع أعداء هذا الشعب وانسجموا معه، فكانوا في أغلب الأحيان يلقّنون بلدنا وشعبنا وشبابنا إنكم لا تستطيعون فلا تحاولوا ولا تضيّعوا جهودكم.
أي ينبغي أن نجلس وغيرنا يقوم بالأبحاث ويتقدّم ونحن نذهب إليهم ونستعطي حتى يعطونا وكأننا بأنفسنا لا نقدر على شيء. فمثل هذه الأمور أُشربت في شبابنا وجيلنا حتى أضحت من مسلّمات هذا الشعب. ففي شبابنا كان أمراً واضحاً في مجتمعنا مثل هذا الشعور بأن الإيراني لا يقدر وأن الأجانب والأوروبيين والأمريكيين هم الذين ينبغي أن يتقدّموا ونحن يجب أن نسير وراء هم ونتعلّم منهم. فأن نقدر على شقّ الطريق بأنفسنا ونشرع في حركة ما ونفتتح بعداً جديداً من أبعاد الحياة الهامة كان من الأمور المستحيلة بالنسبة لشعبنا، واليوم أصبح الأمر معكوساً.
فالشاب الإيراني لا توجد بالنسبة إليه أية قضية مهمة إلّا ويشعر بأنه قادر عليها. لقد ذكرت أنه في المسائل العلمية والتقنية والسياسية ما يُعرض على مجامع أهل التحقيق والأبحاث ـ التي أغلب أهلها من شباب بلدنا ـ من الأعمال والتطورات المختلفة فإن الشاب الإيراني يشعر بأنه قادرٌ على القيام بها هذه الثقة بالنفس أمرٌ هام جداً. فمثل هذه الثقة بالنفس على صعيد المجامع العلمية تقوم على أساس الثقة بالنفس على صعيد الأمة. كما ذكرت قبل عدّة سنوات أن على الشعب أن يصل إلى الثقة بالنفس والحس الوطني أي أن يشعر بأنه يمكن له أن ينجز جميع الأعمال الكبرى بالإرادة والسعي. فنحن لسنا عاجزين في أي عملٍ من الأعمال وهذه الأمور تمثّل أرضية التقدّم.
حسناً، نحن قلنا إن هذه السنة هي سنة الجهد المضاعف والعمل المضاعف، أي الهمّة الأعلى والعمل الأكثر. إن التعبير بالمضاعف ـ أي المتزايد مرّات عديدة ـ هو الشكل الغائي. فلو أضحى ضعفين أو ثلاثة أو عشرة فلن نقنع، ولكن لا يعني ذلك أننا إذا لم نتمكن في مجال ما من أن نضاعف عملنا
103
94
الدرس الرابع عشر: التقدّم والعدالة
مرّتين أو مرة ونصفاً أن نيأس، كلا، المهمّ أن يكون لدينا همّة أعلى مما سبق، ونزيد من عملنا مقارنة بالسابق. هذا هو شعار العام. هذه الشعارات ليست مجرّد استعراض، ولا أنّها بحيث نتخيّل أنّ هذا الشعار سيحلّ جميع مشكلات البلد هذه السنة، كلا، فهو ليس مجرّد مجاملات أو استعراض بل إنّه يدلّنا على الخط الواضح.
في السّنة الماضية قلنا إنّها سنة ترشيد الاستهلاك. ومن هنا ذكرت بداية السّنة الماضية أن ترشيد الاستهلاك ليس شيئاً يمكن أن يتحقق في سنة واحدة. ففي العام الماضي قلنا إنّه عام بداية تحرّكٍ نحو ترشيد الاستهلاك. وقد بدأت الحركة. ولا يمكنني هنا أن أقول إن الاستهلاك قد صلُح، كلا، فلا زال أمامنا مسافة طويلة. فما لم نرشد الاستهلاك ونصلحه، وما لم نعرف كيف نستهلك الماء والكهرباء والخبز والمال، ما لم نحسن استهلاك هذه الأشياء وطرقها فإن مشاكلنا ستبقى كما هي. علينا أن نتابع عملية ترشيد الاستهلاك. وفي العالم الماضي قام المسؤولون بأعمال وأعدّوا الأبحاث، ولكن يجب أن لا يتوقف هذا العمل. هذا هو الذي يدلّ على الجهة، وقد علمنا أنّ في العام الماضي كانت قضية ترشيد الاستهلاك قضية أساساً وأن علينا متابعتها. وفي هذا العام الأمر كذلك.
فعندما نقول إن علينا في هذه السنة أن نبذل المزيد من الجهد فلا يعني ذلك أنه مختصٌّ بهذا العام. مضاعفة الجهد وإعلاء الهمّة ليس مختصاً بعام 1389.
إن علينا أن نجعل هذا كمؤشرٍ أمام ناظرينا يدلّ على الطريق ولا ينبغي أن نخفض من جهدنا فأمامنا أعمالٌ كبيرة وأهدافٌ سامية تنتظرنا وعلينا أن نرفع من هممنا لكي نتمكن من الوصول إلى تلك الأهداف، ويجب أن نزيد من حجم العمل ويجب أن تتراكم الأعمال حتى نتمكّن من الوصول إلى تلك الأهداف. ولا شك بأن العام الماضي كان عاماً مهماً لبلدنا. وبنظري ـ كما ذكرت في بيان عيد النوروز إلى شعب إيران ـ فإن عام 1388 كان عام شعب إيران، عام انتصار هذا الشعب، عام حضوره البارز في ميادين الحياة العظيمة، في النظام الإسلامي وفي بلدنا.
ففي مكانٍ يوم الثاني والعشرين من خرداد أقبل أربعون مليون شخصاً على صناديق الاقتراع أي أن خمسة وثمانين بالمئة من الشعب شاركوا في الانتخابات، وهو أمرٌ هام جداً. ويقيناً فإن حضور الشعب له دورٌ في مشروعية أي نظام. وإن أولئك الذين في الغرب ممن يعتبرون مشروعيتهم ناشئة في الأساس من حضور الشعب ولا يعتبرون أي عاملٍ آخر دخيلاً، ليس لهم مثل هذا الحضور الجماهيري الآن. ففي أيام انتخاباتنا أُقيمت انتخابات في إنكلترا بمشاركة حوالي ثلاثين في المئة، فأين الثلاثين من الخمسة والثمانين؟! إن هذه الحركة الشعبية والحضور الجماهيري لأمرٌ فائق الأهمية، والمحللون والمفسّرون السياسيّون في قضايا العالم لا يمرّون على هذه الأمور ببساطة. فمن الممكن أن لا يعكسوا هذا الأمر في إعلامهم، ومن الممكن أن لا يذكر السياسيّون مثل هذه القضية في تصريحاتهم المعلنة لكن القضية تؤثر في قلوبهم وهم يفهمونها.
لقد ثَبَت هذا الشعب على كلمته وكانت هذه حركة عظيمة لشعبنا واستطاع الشعب أن يسجّل في تاريخ البلد أنّه بعد مرور ثلاثين سنة على استقرار النظام الإسلامي ـ الذي قام على أساس الإسلام والجمهورية المتلازمَين أولئك الذين يفصلون بينهما لم يعرفوا الجمهورية الإسلامية وأنه متمسّكٌ
بمباني هذا النظام بحيث يشارك في انتخابات بهذا الحماس والاندفاع وهذه العظمة. حسناً إن هذه كانت حركة شعبية عظيمة. وفي مقابل هذه الحركة كان لأعداء الشعب مخططات، وقد بدأوا بتطبيقها. فلو كان حضوركم أيها الشعب في
104
95
الدرس الرابع عشر: التقدّم والعدالة
انتخابات الثاني والعشرين من خرداد لعام 1388 حضوراً ضعيفاً ولو شارك ثلاثون مليوناً بدلاً من أربعين، فالاحتمال الكبير أن أعداء كم كانوا سينجحون. لقد أعدّوا خططاً مسبقة. وأنا لا أتهم أحداً لكنني أعرف هندسة عمل العدو وأراها وهي مشخّصة عندي ولا يمكن أن أنكرها. ومثل هذا العمل قد قاموا به في أماكن أخرى.
عندما لا تكون القوى الدولية المستكبرة راضية عن نظامٍ ما، فإن إحدى الوسائل التي اكتشفوها وعملوا بها هي أن ينتظروا مناسبة الانتخابات، وفي هذه الفرصة لو أنّ أولئك الذين لا يرضون عنهم نجحوا فيها وأولئك الذين لا يريدونهم خسروا فإنّهم يقلبون الأوضاع من خلال حركة شعبية إستعراضية، فيجرّون جماعة من الناس من خلال الشعارات إلى الميدان ومن خلال الضغط في الشوارع فإنهم يقلبون ما تحقّق بالقانون من خلال العنف هذه خطّة معروفة.
ولو لاحظتم تلك الحوادث التي جرت بعد الانتخابات، فهي في أذهان الناس وفي ذهن المحلّلين المستقلّين والصادقين وثاقبي النظر، والتي ترجع إلى العوامل الخارجية، وهي كانت ناشئة من هذا الأمر، ولو لم يكن الإنسان مطلعاً على ما يجري وراء الكواليس من الأخبار التي تصل إلى المتابعين فلو نظر إلى ظاهر الأمر لفهم أن هذا العمل هو فعل أعداء الشعب، وفعل الأجانب.
إنّ الانتخابات تُقام وتُجرى الحركة القانونية وتتبعها نتيجة، وهم يريدون تبديل النتيجة بالقوّة، فيجرّون جماعة إلى الميدان، وإذا اقتضت الأمور أحياناً يستعملون العنف وإشعال الحرائق، وإحراق البنوك والحافلات من أجل تغيير النتائج القانونية. حسناً، إن هذه حركة مخالفة للشرع والقانون. ومن الواضح أنها تُدار من قبل الأجانب. وقد أرادوا أن تحدث هذه المسألة عندنا، وكان امتحاناً مهماً للبلد. وأنا أقول كان امتحاناً مهماً وفيه الكثير من العبر والدروس، وفي هذا الامتحان نجح شعب إيران. كانوا يريدون أن يقسّموا هذا الشعب إلى أقلية وأكثرية، فئة فازت بالانتخابات، وفئة لم تحقق مطالبها في الانتخابات ليجعلوا الفئتين تتواجهان.
يقسّمون الشعب ثمّ ينزل المشاغبون إلى الساحة ومن خلال افتعال المشاكل يفرضون الحرب الداخلية. كانت هذه هي أمنيتهم. لكن شعبنا كان واعياً. فقد شاهدتم أنّ يوم الانتخابات انقسم الناس إلى فئتين: الأولى، حوالي 13 مليوناً والثانية حوالي 24 مليون، ولكن بعد مدّة ليست طويلة أضحت هاتان الفئتان، فئة واحدة ووقفت مقابل مفتعلي الاضطرابات وأعمال الشغب والتخريب. فمن هنا يدرك الإنسان وعي الشعب.
أرادوا أن يوجدوا التوتّر بين الناس، فسيّئو النيّة الذين فعلوا كل ما أمكنهم ضد هذه الثورة وهذا الشعب طوال ثلاثين سنة اعتبروا أن هذه فرصة ونزلوا إلى الميدان بإعلامهم. ومن قبل ما كانوا يستطيعون فعل شيء. ولو كان الأمريكيون والإنكليز والصهاينة قادرين على إنزال قوّاتهم في شوارع طهران فاعلموا يقيناً أنهم لما تأخّروا. فلو أمكنهم تحريك الشارع كما يريدون من خلال إحضار عملائهم من الخارج لفعلوا، ولكن غاية الأمر أنهم كانوا يعلمون أن هذا العمل سيعود عليهم بالضرر.
105
96
الدرس الرابع عشر: التقدّم والعدالة
فالشيء الوحيد الذي كانوا يقدرون على القيام به هو دعم المشاغبين في مجال الإعلام وفي ساحة السياسة العالمية.
ففي هذه القضية نزل رؤساء الدول المستكبرة إلى الميدان وأطلقوا على المشاغبين والمخربّين الذين أرادوا الظهور من خلال الحرائق، أطلقوا عليهم إسم شعب إيران، عسى أن يتمكّنوا من تصوير الأوضاع وفق رغباتهم على صعيد الرأي العام العالمي والمحلّي لكنّهم هُزموا. فأقوى وآخر الضربات لهذا الشعب كانت في يوم التاسع من شهر دي والثاني والعشرين من بهمن. فإن ما قام به شعب إيران في الثاني والعشرين من بهمن كان عملاً عظيماً وكذلك في التاسع من شهر دي. فقد برزت وحدة الشعب. وكل أولئك الذين انتخبوا ـ أي كانوا في الساحة السياسية ـ عندما رأوا العدو في الساحة وفهموا أهدافه الدنيئة فإنهم أعادوا النظر بأولئك الذين كانوا ينظرون إليهم نظرة حسنة في السابق، فهموا أنّ طريق الثورة هو هذا، وأن الصراط المستقيم هو هذا. ففي الثاني والعشرين من بهمن نزل الشعب كلّه تحت شعارٍ واحد.
لقد سعوا كثيراً عسى أن يتمكّنوا من تفريق هذا الشعب، لكنهم لم يتمكّنوا، وصمد هذا الشعب، وهذا انتصاره. فمن الثاني والعشرين من شهر خرداد وإلى الثاني والعشرين من شهر بهمن ـ ثمانية أشهر ـ فصلٌ مليء بالفَخار والعِبر لشعب إيران، وهذا أحد الدروس وقد أحدث وعياً جديداً وفتح فصلاً جديداً في بصيرة شعب إيران. وهذه أرضية مهمة جداً. وعلينا أن نتحرّك على أساسها. والآن همّة أعلى وعملٌ أكثر، يجب القيام بالمزيد من الجهد والعمل على هذا الأساس. وهناك ميادينُ مختلفة. ولا ينبغي أن نسمح بانقضاء الوقت. فلكل سنة من السنوات التي طوتها الثورة، ولكل شهرٍ، ولكل يومٍ، وزنٌ ومقدار وقيمة لا ينبغي أن تضيع منّا. لعلّ بعض الأعمال قد توقّفت طوال الأشهر الثمانية من سنة 1388 بسبب ما قام به المفتنون وشوّشوا بعض الأذهان، فيجب جبران الأمر. ويجب أن تكون الحركة حركة سريعة. توجد ميادين عديدة: ميدان العلم والتحقيق بالدرجة الأولى، الجامعات ومراكز الأبحاث في جميع المجالات، العلوم التطبيقية، العلوم الإنسانية في جميع القطاعات التي تحتاجها الدولة، يجب أن تزيد من جهدها في البحث والعلم، وأن يضعوا نصب أعينهم مراحل أعلى، ويجعلوا العمل متراكماً.
أنا أقول إن على شبابنا أن يجعلوا هممهم بحيث يصبح بلدهم بعد مرور حوالي عقدين من الزمن مرجعاً علمياً لعلماء العالم، وهذا ما يتطلب همّة مضاعفة وعملاً مضاعفاً في ميدان العلم والأبحاث ليستفيدوا بذلك استفادة جيّدة من الموارد والإمكانات الموجودة في البلد. وعليهم أن يستفيدوا إلى أقصى حدّ من كل ما يمكن أن يبني بلدهم في المستقبل أو يحقق الرفاه في الحياة العامة للشعب، أي ممّا يُعدّ ترشيد الاستهلاك أحد أركانه، فيستفيد من مياه البلد استفادة صحيحة. فنحن اليوم لا نستغلّ المياه بشكلٍ صحيح، ففي السنة الماضية التي طرح فيها ترشيد الاستهلاك قام المحققون في بلدنا بإجراء الأبحاث وأطلعونا أنّه لو اقتصدنا في المياه التي نستهلكها على طول البلاد بنسبة عشرة في المئة فإن هذه النسبة تعادل كل الاستهلاك الذي يحدث على صعيد مياه الشفة والصناعة.
فاليوم هناك 90% من مياه البلد التي تُستهلك في القطاعات الزراعية ـ بطريقة خاطئة ومسرفةـ فإن عشرة بالمئة منها هو لأجل مياه الشرب والصناعة وغيرها من موارد الاستهلاك، أي أننا لو اقتصدنا
في العمل الزراعي ما نسبته عشرة بالمئة فإنّ كميّة المياه المستعملة في الشرب والصناعة وأمثالها ستصبح ضعفين. المسألة مهمّة بهذا المقدار. أما قضيّة استهلاك الكهرباء وأجهزة الطاقة ـ البنزين والمازوت ـ فهي مسألة مهمة أيضاً. إن هذه اللائحة الموجِّهة للبرامج التي طُرحت ناظرة إلى هذه القضايا وهي لائحة هامة جداً.
106
97
الدرس الرابع عشر: التقدّم والعدالة
إنني أوصي في هذا المكان وفي حضوركم أيها الأعزاء، سواء السلطة التنفيذية أو التشريعية اللتين ينبغي أن تتعاونا في هذه القضية الهامة. فمن أحد أطراف القضيّة ننظر إلى السلطة التنفيذية التي يقع على عاتقها هذا الحمل ويجب على الحكومة أن تقدم وتعمل ويجب على جميع الأجهزة الأخرى ومنها الجهاز التشريعي أن يقدّم العون لهذه الحكومة ـ ومن جانب آخر يجب أن تراعي هذه الحكومة ما هو قانونيٌّ وقد طوى مراحله القانونية وتعمل وفقه، لهذا يجب على الحكومة والمجلس ـ السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية ـ أن يتكاتفا في تحركهما ويتعاونا ويحضرا معاً "يد الله مع الجماعة". فإذا اجتمعا فإن الله سيعين.
لهذا فإن الاستخدام الجيّد للموارد والثروات الموجودة في البلاد أمرٌ مهم من غير إسراف وتبذير. الهمّة المضاعفة والعمل الزائد في رفع نوعية الإنتاج المحلي هما العملان الأساسان. فنحن اليوم لدينا إنتاجٌ محليٌّ كثير سواء على مستوى الصناعة أو الزراعة وعلينا أن نولي نوعيته اهتماماً خاصاً ونرفع من مستواه. ينبغي أن يكون الأمر بحيث يشعر المستهلك بأن ما يُنتج في بلده وعلى يد العامل الإيراني بلحاظ النوعية أفضل من المنتَج الخارجي أو بالحد الأدنى في مستواه.
الهمّة المضاعفة والعمل المضاعف في مجال الصحّة. فإن قضية الصحّة ينبغي الاعتناء بها في الخطّة الخمسية وكذلك في الخطط التنفيذية المختلفة على صعيد الأجهزة كافّة. وأحد أقسام قضيّة الصحّة ما يتعلّق بالرياضة العامّة، حيث إنني أوصيت مراراً وأعود لأوصي مجدّداً. فالرياضة العامّة لازمة للجميع. فإن النشاط والصحّة والجهوزية والرغبة بالعمل يمكن تحقيقها في ظل الرياضة العامّة للمجتمع. الهمّة المضاعفة والعمل المضاعف في الاستثمار وفي الإبداع. فالكثير من أولئك الذين يمتلكون رؤوس الأموال والمداخيل الكبيرة لا يعرفون كيف يستعملون هذه الثروات. وهنا تبرز قضية ترشيد الاستهلاك. فبدلاً من أن يضعوا أموالهم في الاستثمارات الإنتاجية يستهلكونها في الكماليات والرحلات الخارجية العبثية وغير المنتجة والتي تكون أحياناً فاسدة، ويجدون مبرراً لتغيير الأثاث وتجهيزات المنزل، إن مثل هذه الأشياء تُعد تصرّفات مسرفة فيما يتعلّق بالثروة. فيمكن أن يستثمر بهذا المال وبهذا المدخول. واليوم فإن وسائل هذا العمل متوفرة. فمن خلال تنشيط البورصات الموجودة في البلد يمكن استثمار الأموال. فالجميع يمكنهم أن يضاعفوا رساميلهم في الاستثمارات. إن إحدى القضايا المهمّة التي تتطلبها الهمة المضاعفة والعمل المضاعف قضية إنتاج الفكر، المطالعة، ورفع مستوى الثقافة العامّة في المجالات المختلفة. وما اقترحناه فيما يتعلّق بكراسي الفكر الحر في الجامعات وفي الحوزات إذا طُبّق يمكن أن يحدث تياراً فكرياً سيالاً عظيم المنفعة بالنسبة للمجتمع. والأهم من كل هذا: الهمّة والعمل المضاعفان في محاربة الفقر والفساد والظلم. هذه أشياء نضعها نصب أعيننا. وعلى الشعب والحكومة والمسؤولين السعي. ولا نشك أننا نواجه تحديات وموانع. ونحن لسنا شعباً ليس
107
98
الدرس الرابع عشر: التقدّم والعدالة
له أي أعداء في العالم. فتلك الشعوب التي ليس لها أعداء، ليس لها قيمة وجودية. فالشعب الذي خطّ طريقه وحدّد هدفه وسعى ويسعى سوف يصنع أعداء. لا شكّ بأن هناك فرقاً بين عدو وآخر.
فحكومة أمريكا لها أعداء كثر في العالم، ولكن من هم هؤلاء الأعداء؟ إنها الشعوب التي تكره حكومة أمريكا وتنفر منها. لماذا؟ لأن الحكومة الأمريكية لها سوابقٌ في الاعتداء على الدول من أكثر من خمسين سنة وإلى يومنا هذا، كلها مدوّنة في سجلّها. فخلال الخمسين سنة الماضية اعتدت أمريكا عسكرياً على ما يقارب الستين دولة. فهل هذا مزاح؟ وهل هذا قليل؟ حسناً، إن لها أعداء ولنظام الجمهورية الإسلامية أعداء، ولكن من هم أعداء نظام الجمهورية الإسلامية؟ إنها الحكومات المستكبرة، والرأسماليون الصهاينة، أعداء الإنسانية، والأجهزة المخابرتية الغدّارة والسفّاكة للدماء. لهذا فإن هناك عدو، وهؤلاء الأعداء ينشطون ويسعون. وعلى شعبنا ومسؤولي بلدنا أن يكونوا واعين ويلتفتوا إلى هذه العداوات ويعملوا بكل شجاعة وتدبير في مواجهتها. فالتدبير لازمٌ وكذلك الشجاعة. ولو لم توجد الشجاعة وضعف المرء مقابل أبّهة وهيمنة وسيطرة الحكومات المستكبرة فإن الهزيمة حتمية. إن من أعمال الحكومات المستكبرة هو السيطرة وقلب الحق إلى باطل، ومقابل هؤلاء إذا لم يكن هناك شجاعة وإذا لم يتمكن مسؤولو البلد من الصمود بوجه هذه التحركات الاستعراضية العدائية والمستكبرة؟ فسوف يُهزمون ويجرّون الشعب إلى الهزيمة. لهذا فإن الشجاعة لازمة. والتدبير لازمٌ أيضاً. التدبير يعني الوعي لمخططات الأعداء والقرار الصحيح والمناسب في المقابل. العدو يظهر بأشكالٍ مختلفة. أنتم تلاحظون اليوم أن الصهاينة والحكومة الأمريكية يواجهون شعب إيران ونظام الجمهورية الإسلامية، أحياناً يرتدون لباس الذئب وأحياناً لباس الثعلب، وأحياناً يظهرون بمظهر العنف والعداء وأحياناً بمظهر الخداع، ويجب الالتفات إلى ذلك.
لقد قلت لكم أيها الشعب العزيز في السنة الماضية في بدايتها وفي هذا التجمع العظيم: إننا سننظر بدقة إلى ما أعلنه الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية من أنه سيمدّ يد الصداقة. إننا ننظر لنرى هل هي يد الصداقة في الواقع؟! هل إن هذه النية في الواقع نية الصداقة أو نية العداء في قالب الألفاظ الخداعة؟ فهذا بالنسبة لنا مهم جداً. قلت في العام الماضي إنه لو كانت اليد التي تمتد من تحت الأكمام المخملية يداً أو قبضة فولاذية، فإننا لن نمدّ يدنا ولن نقبل هذه الصداقة. وإذا كانت هذه البسمة تخفي خنجراً وراء الظهر فنحن متيقظون. وللأسف إن ما حدث هو ما كنا نحدس به، فإن الحكومة الأمريكية بكل تشكيلاتها الجديدة ورئيسها الجديد ومع كل ادعاء ات المحبة والعلاقات العادلة والصحيحة التي ذكرها في رسالته وأعلنها على المنابر وكررها في مجالسه الخاصة مريداً إقامة علاقات طبيعية مع الجمهورية الإسلامية فإنه للأسف تصرّف بعكس ذلك في ساحات العمل. وفي هذه القضايا التي جرت طيلة الأشهر الثمانية بعد الانتخابات إتخذوا أسوأ المواقف.
لقد عرّف الرئيس الأمريكي المشاغبين والمخرّبين في الشوارع كنهضة مدنية! إحراق البنوك والحافلات والاعتداء على المارّة الأبرياء الغافلين، وضرب أخت وأم الشهيد لأنها تضع الشادور على رأسها وإحراق درّاجة شاب لأن له لحية هي نهضة مدنية! أنتم تدّعون حقوق الإنسان والديمقراطية لكنكم لا ترون هذه الحركة الشعبية العظيمة في الانتخابات وفي الحضور في الميادين وتتغافلون عنها،
ثم تنحازون لمصلحة مجموعة من المخلّين والمشاغبين! ثم تطلقون على هذا اسم النهضة المدنية! ألا تخجلون؟! يدّعون قائلين: إننا ندافع عن حقوق الإنسان ونشعر بالمسؤولية تجاه هذه الحقوق! أنتم لستم في موقعٍ يحق لكم فيه أن تتحدّثوا مع أي أحد حول حقوق الإنسان. فما هو الذي غيّرتموه من مواقفكم خلال هذه السنوات فيما يتعلّق بالماضي؟ هل
108
99
الدرس الرابع عشر: التقدّم والعدالة
قلّصتم من المجازر في أفغانستان؟ وهل قلّصتم تدخلاتكم في العراق؟ ألم تدعموا المجازر المفجعة بحق الناس في غزّة وقتل الأطفال، حتى تدّعوا الدفاع عن حقوق الإنسان؟ إنني اليوم أعلن مرة أخرى أن على الدول التي تريد أن تتعامل بروحية استكبارية مع الشعب الإيراني ومسؤولي الجمهورية الإسلامية أن تعلم أنها مدانة ومرفوضة من قبل هذا الشعب وهؤلاء المسؤولين.
فأنتم لا يمكنكم ادعاء الرغبة بالسلام والصداقة وفي نفس الوقت تتآمرون وتشعلون الفتن، بتصوّر أنكم ستوجهون الضربة لنظام الجمهورية الإسلامية. الشعب يقظٌ وكذلك المسؤولون، والتدبير هو أن يأخذ الإنسان السلوك المعادي بنظر الاعتبار ويرى ماذا يُراد، وماذا يُدبّر؟، فلا يغيب ذلك عن عين الشعب الإيراني ويخفى أو يبقى مجهولاً. على شعب إيران أن يتخذ قراراته بوعي. وإن شاء الله بتوفيق الله سوف نتخذ قراراتنا بوعي. وإننا لن نتخلّى عن مصالح شعبنا في مقابل إنزعاج الأعداء أبداً. وإننا سنقدم على كل ما هو لازم على طريق تقدّم هذا الشعب ونحن مطمئنون ونعلم أن هذا الشعب منتصر، مثلما كان طوال 32 سنة. إن أعداءنا قد لاقوا الهزيمة طوال هذه السنوات في كل ما كانوا يفعلونه مع هذا الشعب، لم يتمكنوا من ضرب هذا النظام وصفعه، لم يتمكنوا من فصل الشعب عن النظام. وسيكون الأمر كذلك فيما بعد. ومن بعد هذا وبتوفيق الله وبحوله وقوته فإن مصير شعب إيران هو النصر والتطور، وإن مصير أعداء هذا الشعب هو الإنهزام والتراجع.
اللهم، ثبّت أقدامنا على صراط الإيمان المستقيم، الإيمان بالله والقرآن ودين الإسلام المقدّس، اللهمّ، لا تزغ قلوبنا عن التوجه والتضرع إليك، اللهم، لا تحرمنا من دعاء بقية الله عجل الله تعالى فرجه الشريف، اللهم، تلطّف وتفضّل دوماً على هذا الشعب وهؤلاء الشباب وهذه القلوب الوالهة المندفعة المتحمسة، اللهم، زد من إحكام علاقة الأخوّة بين هذا الشعب والشعوب المسلمة يوماً بعد يوم وأبطل كيد الأعداء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
109
100
الدرس الخامس عشر: النيروز رمز المحبة والعاطفة
الدرس الأول: النيروز رمز المحبة والعاطفة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله
في الرؤساء المشاركين في احتفال النيروز العالمي
المناسبة: عيد النيروز
الحضور: الرؤساء المشاركون في احتفال النيروز العالمي.
المكان: طهران
الزمان: 197/1/ 1389.
11/4/1431.ق
27/3/2010م.
111
101
الدرس الخامس عشر: النيروز رمز المحبة والعاطفة
بسم الله الرحمن الرحيم
أرحب بالسادة رؤساء الجمهوريات المحترمين، ورؤساء وفود الممثليات، وكافة الإخوة الحاضرين في هذه الجلسة.. عيدكم مبارك.
أنتم ـ أيها الأصدقاء الأعزاء والإخوة الأطياب والجيران ـ اخترتم مناسبة جيدة جداً للاجتماع وتبادل وجهات النظر في الشؤون المختلفة. عيد النيروز عيد شرقي يحمل قيماً مميزة وبارزة. والواقع أن عيد النيروز رمز.. رمز التجديد والطراوة والشباب والحيوية والنشاط، وكذلك رمز المحبة والعاطفة تجاه الآخرين، وزيارة الإخوة وتفقّدهم، وإبداء المحبة لعوائل الأقارب، وتمتين علاقات الصداقة والعطف بين الأصدقاء والمعارف، ومحو الأحقاد، فالربيع مظهر الطراوة والحيوية، والحقيقة أن المعاني كلها مجتمعة في الربيع. وهذه ميزة بالنسبة لشعوبنا التي جعلت النيروز بداية سنتها الجديدة وبداية تاريخها لأنه يحمل هذه المعاني.
هذا الاحتفال احتفال وطني وليس من الأعياد الدينية. لكن النيروز حظي بالتأييد من قبل الشخصيات الكبرى في شرعنا المقدس. لدينا العديد من الروايات التي فيها تكريم للنيروز وتقدير ليوم النيروز. وقد أدى هذا إلى أن يكون النيروز وسيلة لإبداء الناس العبودية والتواضع والخضوع أمام الخالق. إنه في الواقع فرصة يستطيع فيها الإنسان إحياء قلبه بذكر الله.
الدارج في بلادنا منذ سنوات طويلة أن يتجمع الناس في يوم النيروز وفي ساعة تحويل السنة في أماكن العبادة والزيارة والأماكن الروحية يطلبون من الله الخير والبركة، ويسألونه تعالى أن يجعل سنتهم حسنة لهم وللآخرين. إذن، النيروز مناسبة جدّ قيمة ومميزة إن من الناحية المعنوية وإن من الجانب الوطني، وكذلك من الناحية الدولية بين الشعوب التي تحتفل بالنيروز.
وفي هذه السنة ـ حيث تم تسجيل النيروز كاحتفال دولي ـ اشتمل هذا الأمر على صفة إيجابية حسنة هي أنه مثّل هدية من شعوبنا لشعوب العالم وللشعوب الغربية ونقل إليهم نوعاً من الثقافة.
رغم أن العادة جرت للأسف بأن يكون الانتقال الثقافي من هناك، وقد تعودوا على أن يصدروا ثقافتهم إلى بلداننا وبلدان الشرق، لكن الشرق زاخر وطافح بالقيم الثقافية السامية، وما أحسن أن ننقلها ونصدرها ونهديها للعالم. كان لشعوب الشرق على امتداد التاريخ الكثير من القيم
112
102
الدرس الخامس عشر: النيروز رمز المحبة والعاطفة
البارزة الممتازة، ويجب أن تتوفر فرصة إهداء هذه القيم لشعوب العالم، وهذه إحدى المناسبات لذلك.
إنني أثمّن للغاية هذا الاجتماع الذي عقده أصدقاؤنا الأعزاء وإخوتنا الأحبة في طهران - بهمّة الحكومة المحترمة ورئيس جمهوريتنا المحترم حضرة الدكتور السيد أحمدي نجاد - لأنه وسيلة للتقريب بين حكومات المنطقة وشعوبها. للأسف تعمل بعض القوى الكبرى اليوم على خلق الأزمات بين الشعوب.
يخلقون الأزمات بين الشعوب. ويضعون الشعوب الشقيقة في وجه بعضها بعضاَ. يوحون ويروجون أنّ مصالح هذه الشعوب متضادة. والواقع شيء آخر. الواقع أن مصالحنا ليست غير متضادة وحسب بل هي متكاملة ومتعاضدة ومقوية لبعضها بعضاً. بوسعنا أن نكون إلى جانب بعضنا بعضاً وأن يساعد بعضنا بعضاً ونشكل منظومة ثقافية عالمية قيّمة ومتسامية وذات قدرة دولية. اجتماعكم هذا اليوم واستمراره في السنوات القادمة إن شاء الله سيساعد على هذا الشيء.
إننا نرحب بتعزيز العلاقات بين بلدان المنطقة والبلدان الجارة ذات الثقافة المشتركة ونساعد على ذلك بكل قدراتنا. أي واحدة من هذه البلدان المتاخمة لنا في شرقنا أو غربنا أو شمالنا أو جنوبنا إذا تعزَّزَت وقَوِيت شعرنا نحن بالنفع من ذلك. من استطاع أن يُظهر هوية مميزة في الأحداث العالمية الكبرى، ووسط هذه التناقضات والتعقيدات، كان ذلك بمثابة فخر وشموخ لنا. إننا نفرح لذلك ونساعد عليه وسوف يساعدنا الله تعالى جميعاً.
إنني أدعو لجميع الإخوة الأعزاء، وأسأل الله أن يزيد يوماً بعد يوم من عزة البلدان الإسلامية وبلدان المنطقة ويؤلف بين قلوبنا أكثر فأكثر ويضع أيادينا في أيدي بعض لنستطيع إنجاز الأعمال والمهام الكبرى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
113
103
الدرس السادس عشر: أهمية الصناعة في تقدم البلاد
أهمية الصناعة في تقدم البلاد
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في زيارته لمعامل السيارات
المناسبة: في زيارته لمعامل السيارات
الحضور: جمع من العاملين والمدراء في معامل السيارات.
المكان: طهران
الزمان:13/04/1431.ق.
9/1/1389.ش
29/03/2010م.
115
104
الدرس السادس عشر: أهمية الصناعة في تقدم البلاد
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله السنة الجديدة عليكم جميعاً أيها الأعزاء مدراء قطاع الصناعة والناشطون الفكريون والعاملون في هذا القطاع البالغ الأهمية. نتمنى أن يوفقكم الله تعالى لتستطيعوا بشوقكم وإيمانكم التقدم ببلدكم وشعبكم إلى الأمام، وتجعلوه عزيزاً شامخاً في هذا المجال ذي الدور الكبير جداً في تقدم البلاد.
زيارتي اليوم لها فيما لها معنى رمزي. بالإضافة إلى أنها زيارة لقطاع مهم، فإن المضمون الذي نرمي إليه هو أن نلفت الانتباه إلى أهمية الصناعة في تقدم البلاد. ونقصد بالصناعة الصناعة المتفجرة والمتدفقة من أذهانكم وأفكاركم وابتكاراتكم وإيمانكم. نعتقد أن للصناعة تأثيراً هاماً جداً في تقدم البلد. والواقع أن العنصر الأصلي لاعتبار البلد متقدماً وما يستلزمه من مقتضيات هو التقدم في الصناعة بالشروط المحددة في مواضعها، والمتعلقة بأفكار وعقائد وإيمان شعبنا وشعبكم أيها الأعزاء.
كان هناك وهم خطير، تمّ ضخه وحقنه في الأذهان - وربما لا يزال هذا الوهم موجوداً إلى الآن في بعض الأذهان - وهو وهم التضادّ بين الحياة العقلانية المتقدمة من ناحية، والحياة المعنوية والأخلاقية من ناحية ثانية. كان بعضهم قد صدق أنه لو أراد المجتمع أن يعيش حياة عقلانية عملية متسارعة الخطى على طريق التقدم فهو مضطر للابتعاد عن الأخلاق والمعنويات والدين والله! إذا كنا مشدودين إلى الأخلاق ومحبين للمعنويات، وأخذنا بنظر الاعتبار الضوابط والحدود الدينية والأخلاقية، فسنكون مضطرين لصرف النظر عن تقدم البلد وعن العيش حياة عقلانية! كان ثمة مثل هذا الوهم. ولهذا الوهم أسبابه التاريخية الواضحة، وله أيضاً أسبابه المرتبطة بعلم الاجتماع. ما نروم الإصرار عليه هو أن الجمهورية الإسلامية وبسيادة الدين والإسلام أبطلت هذا الوهم ورفضته. نحن نريد أن نعيش حياة عقلانية ومنطقية وعلمية ومتقدمة وبمقدورنا ذلك، ونكون في الوقت ذاته متمسكين بقيمنا الأخلاقية وملتزمين بإيماننا الديني وعاملين بفرائضنا الدينية ومقتضيات حياتنا الدينية، بل ونتقدم في هذا الاتجاه.
الإسلام دين المعنويات ودين العلم في نفس الوقت. كان المجتمع الإسلامي في القرنين الرابع والخامس للهجرة من أكثر المجتمعات البشرية تقدماً. مفاخرنا العلمية في تلك الفترة لا تزال تتألف كالنجوم في سماء العلم حتى بعد مرور ألف سنة، ولكننا أصبنا بحالة من الركود والتراجع لأسباب خاصة.
116
105
الدرس السادس عشر: أهمية الصناعة في تقدم البلاد
مسيرتنا اليوم مسيرة تقدمية نحو الأمام. إنها مسيرة ذات قفزات واسعة ويجب أن تكون هكذا، سواء على الصعد العلمية أو على الصعد المعنوية والأخلاقية. الصناعة بوسعها أن تكون صناعة متقدمة وتراعى فيها في الوقت ذاته الاعتبارات الدينية والأخلاقية والإنسانية. إننا نريد منكم أنتم الصناعيين في بلادنا ومدراء الصناعة أن تكونوا رمزاً ومثالاً لهذه الحقيقة، ملتزمين بالدين، وفي الوقت ذاته وبسبب الالتزام بالدين، ملتزمين بالتقدم السريع في الصناعة.
على مستوى الصناعة نحن غير قانعين بما تحقق لحدّ الآن. هذا مع أن ما تحقق لحدّ الآن يعد قيّماً وهاماً للغاية. لسنا ممن لا يعرف قيمة هذه الأشياء، بل نعرف قيمتها، وقد بُذلت جهود قيِّمة في سبيل تحقيق ما تحقق، ونحن لا نتجاهل ذلك، كلا، هذه أمور محفوظة ومقدرة في محلها، بيد أنها بداية المطاف.
فيما يخص صناعة السيارات جربنا وتحملنا تخلفاً طويلاً. الميزة الكبرى التي تتميزون بها هي أنكم استطعتم قطع وتيرة هذا التخلف الطويل بهممكم، أي تغيير حالة الغفوة والخمول التي انتابت البلاد لحوالي ثلاثين عاماً بعد دخول صناعة السيارات إلى البلاد. منذ عقد الأربعينات (الستينات من القرن العشرين للميلاد) حينما دخلت صناعة السيارات للبلاد - منذ نحو ثلاثين عاماً تقريباً - كنا نراوح في مكاننا. بقينا في طور التقليد المحض. لا يمكن مؤاخذة مسؤولي البلاد في عقد الستينات، ذلك أن عقد الستينات هو عقد الثورة والدفاع المقدس، وعلى حد تعبير المسؤول المحترم هذه الصالة صالة تسليح الجنود. كل بيوت الشعب الإيراني كانت في الواقع سنداً لساحة الحرب بشكل من الأشكال. لا يمكن تسجيل المؤاخذات على عقد الستينات، أما قبل عقد الستينات وقبل عهد الثورة فهي فترة يمكن أخذها بالحسبان، ويجب ذلك. أربعة أو خمسة أعوام هي فترة الحركة التقليدية لصناعة السيارات في البلدان التي أرادت أن تكون مصنّعة للسيارات، فلماذا تطول هذه المدة هنا بهذا الشكل؟ هذه خطيئة الذين لم يفكروا بمصالح البلاد، ولم يخلصوا في أعمالهم من أجل عزة البلاد، ولم يكترثوا لتضييع وإهدار الأرصدة المادية للبلاد. أما في نظام الجمهورية الإسلامية فقد بدأتم المسير منذ عقد السبعينات، وكان هناك تقدم إلى الأمام. هذا المحرك الوطني الذي تم تصنيعه بالكامل ابتداء من الفكرة والتصميم إلى آخر أجزائه بفضل الفن والتقنية الإيرانية والأيادي الإيرانية والأفكار الإيرانية والمساعي الإيرانية، إنما هو رمز لعزة البلاد. هذا شيء له مغزاه العميق. القضية ليست مجرد أننا استطعنا إنتاج محرك سيارة.. القضية تتجاوز هذه الحدود. العالم اليوم ساحة سباق لأدوات مختلف أنواع المحركات، ومحرك السيارات كوسيلة دارجة من وسائل الحياة ومتداولة من قبل الجميع ومرئية بشكل يومي ودائم، هو من أبرز وأهم هذه الأنواع. في هذا العالم الزاخر بالتجاذبات والتنافس استطعتم هنا إبداء الفنون التي يستطيع الفنان الإيراني إبداعها. هذا شيء له قيمة كبيرة.
إنه لما يُزعج خواطرنا أن سيارات بلادنا ولسنين طوال - سواء تلك التي كانت تُستورد من الخارج أو التي كانت تنتج في الداخل حسب الظاهر - كانت تعمل فيها محركات أجنبية تماماً صنعها الآخرون وأنتجها عمال من بلاد أخرى. بدل أن نوفر العمل لعمالنا، ونستفيد من مهارتهم وننفعهم ونتقدم
117
106
الدرس السادس عشر: أهمية الصناعة في تقدم البلاد
بالبلاد إلى الأمام، كنا في الواقع نساعد الآخرين. وفي الوقت الراهن وفرتم أنتم والحمد لله هذه الفرصة وهذه الإمكانية، وهذا شيء له قيمة كبيرة. إنني أقدر وأثمِّن عملكم الجيد هذا، ولكن كما سبق أن قلت فإنه يمثل الخطوة الأولى.
إن من شروط تنمية أي بلد الإستقلال الصناعي. علينا أن نستطيع الوقوف على أقدامنا في كافة المجالات الصناعية. علينا الاعتماد على أفكارنا واستخدام قدراتنا. طبعاً العالم عالم التبادل، ولكن التبادل بين الجانبين. التبادل هو الأخذ والعطاء. ستكون لكم مكانتكم في سوق التبادل الصناعي حينما تقفون على أقدامكم في المجال الصناعي. هذا ما نريده ونحتاج إليه. إيران الإسلامية جديرة بهذا الأمر. بما لنا من تاريخ وتراث حضاري هائل، وبهذه الحركة الجماهيرية، وبمواهب الشباب هذه، وبكل هذه المواهب المتوفرة في بلادنا، فإننا بحاجة لهذا الأمر. ينبغي أن نُعتبر راية مرفرفة في قطاع الصناعة في العالم الإسلامي. والعالم الإسلامي سوف يرحب بهذه الحالة - وسوف أشير لاحقاً إلى قضية التصدير باعتبارها من قضايانا الأساس الهامة - وسينظر العالم إلى الجمهورية الإسلامية ويرى أن هذا الشعب بذكائه وقدراته استطاع تحقيق هذا التقدم على هذا الصعيد.
هناك عدة نقاط ومسائل في هذا المضمار أذكرها الآن. منها أننا إذا أولينا الصناعة الداخلية ما يلزمها من الأهمية - وكلامنا هنا عن صناعة السيارات ويمكن أن نسحب الكلام على الميادين الأخرى - فلا بد لنا من تنظيم سياستنا في التعديل التجاري. أي إن الاستيراد المنفلت سيوجه ضربة بالتأكيد وستترتب عليه بعض المضار. أجهزة التخطيط في البلاد والذين يرسمون السياسات التنفيذية ينبغي لهم التفطن إلى هذه النقطة. الوفرة وزهد الأسعار شيء جيد جداً، لكن الأهم والأفضل هو تنمية الصناعة الداخلية ونهوضها. ليس من الصحيح أن نفتح الأبواب للاستيراد لأسباب شتى معظمها واهٍ وغير مقنع. لقد ذكرت للمسؤولين مراراً - المسؤولين في القطاعات الحكومية على اختلافها - أنه إذا كانت تبريراتكم ومنطقكم لزيادة الاستيراد وتسهيل استيراد البضائع الصناعية هو رفع جودة الصناعات الداخلية، فعليكم التركيز على هذا القطاع. ثمة سياسات يمكن اتخاذها، وإجبار المنتج الداخلي على رفع جودة بضائعه. إن أسوأ خيار لرفع جودة المنتجات الداخلية هو أن نفتح الطريق للصناعات الخارجية. هذا هو أسوأ خيار. هناك خيارات أفضل لكي نرفع جودة بضائعنا.
النقطة الهامة الأخرى هي مسألة البحث العلمي.. البحث العلمي وتنمية التقنيات. جميع الصناعات في العالم اليوم بما في ذلك صناعة السيارات، تدور حول محور العلم. إنهم يفكرون دائماً ويعملون ويبحثون علمياً من أجل استكمال هذا الجانب وإنتاج بضائع أقل عيوباً، وأجمل، وأقل استهلاكاً للطاقة وأزهد سعراً. هذا غير متاح من دون التقدم العلمي والتأمل والدقة والبحث والتحقيق. ينبغي ترك باب البحث العلمي مفتوحاً. الأجهزة المختلفة والمعامل الصناعية ومدراء الصناعة ومدراء الحكومة المشرفون على الصناعة عليهم تركيز جهودهم على قضية البحث العلمي. هذا يساعد على أن تستطيع الصناعة الحفاظ على نفسها داخل إطار الظروف التنافسية الصعبة، ولا تسقط أرضاً في تنافسها مع المنافسين الأقوياء المتقدمين. وهذا ممكن عن طريق البحث العلمي. ومن القضايا الأخرى الهامة في صناعاتنا ومنها صناعة السيارات، قضية التصدير. على الأجهزة الحكومية المختلفة أن تبذل جهودها
118
107
الدرس السادس عشر: أهمية الصناعة في تقدم البلاد
لتأمين أسواق التصدير. هذا من المهام الحساسة جداً والأعمال التي تحتاج إلى فن ومهارة وجهود متنوعة ومتعددة الجوانب. بعض بلداننا الجارة تصدر السيارات ويعود عليها هذا التصدير بمليارات الدولارات سنوياً! هذه عملية مهمة جداً. أي إن مسيرة صناعة السيارات - وأنا أذكر السيارات هنا كنموذج بارز، والقضية تشمل كل الصناعات المماثلة - يجب أن تتركز منذ البداية على فتح باب التصدير. بمعنى أنه ينبغي منذ البداية التفكير في هذا الجانب، وعلى المؤسسات الحكومية جعل أسواق التصدير وتوفير مثل هذه الأسواق أحد أهدافها. ومن القضايا في هذا المضمار قضية البيئة - وقد سمعت هنا عبر التقارير أن ثمة اهتماماً بقضية البيئة، وأريد التشديد على هذه القضية - أي إن من المؤشرات الأساس التي يجب أخذها بنظر الاعتبار في صناعة المحركات وجميع الأجهزة والصناعات قضية البيئة. تخريب البيئة من الأمور التي يشعر الشعب أو المنطقة الجغرافية أو كل العالم أحياناً بضررها حينما لا تكون ممكنة التفادي والتعويض. قضية البيئة قضية هامة جداً. وقد شدد الإسلام بدوره على البيئة ورعايتها. الحفاظ على البيئة ورعايتها قضية توصل لها العالم مؤخراً، وقد كانت من ضمن التعاليم الإسلامية. هذه أيضاً نقطة هامة جداً يجب التنبه لها.
لو أردت أن أذكر بعبارة واحدة كل ما يجول في خاطري حول عملكم أيها الإخوة الأعزاء لقلت إن إبداعكم وذكاءكم وجهودكم ومتابعتكم هي ضمانة غد هذا البلد، وضمانة مستقبل هذا الشعب. لا تملُّوا من العمل، ولا تكلوا من الجهد والمتابعة. نعرف بلداناً دخلت هذا الميدان بعدنا وهي الآن متقدمة علينا! هذا بسبب المتابعة وعدم الاستسلام للتعب من العمل ولأن المدراء الكبار ركزوا هممهم على عدم ترك العمل. من النواقص الهامة التي شاهدتها في بعض حكوماتنا طوال هذه الأعوام عدم متابعة الأمور والأعمال. يبدأون العمل بشوق واندفاع، ثم يبقى غير مكتمل! لماذا؟ لأن المدراء لا يدعمون ولا يتابعون الموضوع.. لا بد من دعم مالي وإداري وتشجيع ومتابعة ورفع للعقبات الجزئية عن الطريق. أحياناً يكون ثمة مانع صغير يعرقل عملاً كبيراً لفترات زمنية طويلة.. هذا ما تدل عليه تجارب الإنسان. شاهدنا أعمالاً كبيرة توقفت وتابعنا المسألة وتحرّينا أسباب هذا التوقف فعلمنا أن هناك مانعاً صغيراً عرقل العمل، ولم يُبدوا همماً كافية لرفع هذا المانع الصغير، وبقي هذا المشروع العظيم معطلاً لسبب تافه. لحسن الحظ فإن الحكومة الحالية حكومة نشيطة ومتابعة وذات همة ومخلصة، والوزير المحترم شاب نشيط متحفز. نتمنى أن تتقدموا بالعمل إن شاء الله على أحسن وجه.
والزراعة وهي مهمة جداً بالنسبة لنا، وتعدّ في رأيي ركناً أساساً للحياة في بلادنا، مرتبطة هي الأخرى بالصناعة. تقدم الزراعة غير ممكن من دون تقدم الصناعة. بمعنى أنني حين أؤكد على القطاع الصناعي يجب أن لا يعد هذا إنكاراً وإقصاء للقطاع الزراعي. إنه في الواقع تأييد ومساعدة للتقدم الإجمالي في البلاد، بما في ذلك التقدم في القطاع الزراعي. إنني مصرّ على تقدم قطاع الصناعة، وهذا التقدم ممكن عن طريق البحث العلمي واستخدام الفعل والذكاء المتوقد والمتوفر والحمد لله لديكم أيها الشباب الأعزاء، وفي الأيدي الإيرانية الماهرة.
أقول لكم: إن الكثير من هذه البلدان المعروفة في العالم اليوم بصناعتها وتحتلّ المراتب الأولى عالمياً، لدي معلومات وثيقة بأن معدل ذكائهم أدنى من معدل الذكاء في بلادنا! لكنهم استطاعوا عبر
119
108
الدرس السادس عشر: أهمية الصناعة في تقدم البلاد
العمل والجهد الدؤوب أن يتقدموا. الذكاء والتمتع بالفطنة والموهبة والقدرات العقلية من العوامل الهامة جداً والمتوفرة لدينا، وعلينا إرفاق ذلك بالعامل الثاني ألا وهو العمل والجد والمتابعة وعدم التعب.
واعلموا أن حركة البلاد في هذه الحالة ستكون سريعة إن شاء الله، وستتقدم على شكل قفزات وسيتم إنجاز أعمال كبيرة. ونحن نلاحظ اليوم أن بلدنا يقف ضمن عشرة بلدان أو ثمانية بلدان أولى في العالم على صعد متعددة. وقد قال أحد السادة الآن إننا ضمن البلدان الستة الأولى في العالم في أحد المجالات التي نستطيع القيام بها. هذا شيء هام جدّاً. هذا البلد الذي كان قبل الثورة بعيداً فراسخ عن الصناعة والإبداع والنشاط، ولم يكن يأمل في هذه الأشياء، ولم تكن لديه الثقة بالنفس، وصل اليوم إلى هنا. هذا شيء هام جداً. إذن، الطريق بالنسبة لكم مفتوح، والقدرة على تحقيق القفزات النوعية متوفرة. نسأل الله تعالى أن يوفقكم ويعينكم بمشيئته.
قضية الارتباط بالجامعة التي أشار لها أحد السادة هي أيضاً على جانب كبير من الأهمية. منذ سنوات وأنا أوصي الجامعات والأجهزة الحكومية بإقامة أواصر متينة بين الصناعة والجامعة. نحن بحاجة إلى انبثاق مراكز وأقطاب جامعية تختص بالصناعات المختلفة ومنها صناعة السيارات لترفد القطاع الصناعي.
وفقكم الله تعالى وشملكم بأدعية سيدنا بقية الله عجل الله تعالى فرجه الشريف وأرضى عنكم أرواح الشهداء الطيبة وروح الإمام الجليل. كان هذا اليوم يوماً طيباً بالنسبة لي وقد ارتحت لمشاهدة هذه الجهود وثمارها ونتائجها، وأشكر الله على ذلك وسوف أدعو لكم إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
120
109
الدرس السابع عشر: دور الشاب الفدائي
الدرس السابع عشر: دور الشاب الفدائي
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله عمليات الفتح المبين
المناسبة: في منطقة عمليات الفتح المبين
الحضور: حشد غفير من أبناء الشعب.
المكان: دشت عباس - محافظة خوزستان.
الزمان: 15/04/1431.ق.
11/1/1389.ش
31/03/2010م.
121
110
الدرس السابع عشر: دور الشاب الفدائي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديين المعصومين، سيما بقية الله في الأرضين.
الغاية من الحضور في هذا المكان التاريخي وبين حشدكم أيها الإخوة والأخوات الأعزاء هي بالدرجة الأولى أداء الاحترام لأرواح المقاتلين والشهداء الأبرار الذين شهدت هذه الأرض بطولاتهم وتضحياتهم وحركتهم العظيمة خلال أيام الحرب المفروضة والدفاع المقدس. وهي في الدرجة الثانية تقديم الشكر والتقدير لأهالي خوزستان الأعزاء، والإخوة والأخوات الذين خرجوا من الإمتحان مرفوعي الرأس في هذه المنطقة، وفي أشد الأزمنة حساسية وأصعب الظروف. أعداء الشعب الإيراني كانوا يظنون بأهالي خوزستان الأعزاء شيئاً آخر، لكن ما حدث كان شيئاً مختلفاً عمّا تصوروه وظنوه. الصف الأول من المقاتلين المناضلين الأبطال تشكَّل من شباب مضحين هم أبناء هذا التراب وهذه المنطقة.. أهالي خوزستان الأعزاء، نساؤهم ورجالهم. زرت خلال فترة الدفاع المقدس بعض القرى التي رزحت تحت نير العدو البعثي وشاهدت عن كثب وضع الأهالي فيها ومعنوياتهم. كان التحامهم بإيران الإسلامية وبالشعب المجاهد البطل وبالإسلام - الذي رُفعت رايته في إيران - بحيث لم يستطع العدو البعثي زعزعته هذه الأواصر الوطيدة بوساوس القومية والمشتركات اللغوية. إذن، حضورنا في هذه المنطقة هو لتقديم الشكر والتقدير لأهالي خوزستان الأعزاء. والجانب الآخر هو تقديم الشكر لكم أيها المسافرون الذين جئتم من مناطق بعيدة وقريبة من البلاد إلى هذه النواحي، وأثبتم بخطواتكم وقلوبكم ارتباطكم الروحي بأولئك الشباب والرجال والأبطال الذين شهدت هذه المنطقة تضحياتهم، سواء في هذه المنطقة - منطقة عمليات الفتح المبين - أو في سائر مناطق خوزستان، أو في المناطق الحربية بالمحافظات الأخرى كمحافظة إيلام، وكرمانشاه، وكردستان.
لقد سار أبناء البلد منذ سنوات على هذه السنّة الحسنة جداً، وأخذوا يأتون إلى هذه المناطق سنوياً ويزورونها خصوصاً في مثل هذه الأيام من بداية السنة. هذه المناطق أصبحت مزاراً.
أيها الشباب الأعزاء، يا أبنائي الأعزاء، أغلبكم لم تكونوا في تلك الأيام ولم تشهدوا تلك الأيام الصعبة المريرة. لقد كان هذا السهل الجميل وهذه المناظر الخلابة وهذه الأرض الخصبة ذات يوم تحت أقدام أعدائكم.
122
111
الدرس السابع عشر: دور الشاب الفدائي
أوجد جنود النظام البعثي في هذه الأرض التي هي أرضكم ولكم، جحيماً يجعل المرء يأسف من نواح مختلفة، فقد حولوا هذه الأرض الجميلة وهذه الطبيعة الخلابة إلى كتلة من نار وجحيم.
في أيام محنة الحرب وقبل عمليات الفتح المبين، شاهدت هذه المنطقة الشمالية المطلة على هذا السهل، كان لها منظر ساحر جميل واسع. ولا أنسى منظر قوات الأعداء التي توزعت في هذه الأرض الواسعة على شكل عدة ألوية. كانوا يقرعون أرضكم وترابكم بأحذيتهم ويهينون الشعب الإيراني. الذي أنقذ بلدكم هم هؤلاء الشباب المجاهدون المضحون. التعبئة والجيش والحرس والمقاتلون المضحون الذين لا يزال من بقي منهم حاضراً في مناطق البلاد المختلفة، وبعضهم استشهد ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾1
أعزائي، أيها الشباب الحاضرون في هذا الاجتماع وفي هذه الصحراء ويا جميع شباب البلاد، إعلموا أن جيل الشباب في فترة الدفاع المقدس استطاع بتضحياته وفطنته وإرادته وعزيمته الراسخة إنقاذ البلاد من أيدي الأعداء. كان هدف أعداء نظام الجمهورية الإسلامية فصل جزء من الوطن الإسلامي وإذلال الشعب الإيراني بذلك. أرادوا فرض قهرهم وجبروتهم على شعب إيران. أرادوا إذلال شعبنا والتسلط على أرواحه وأمواله وأعراضه. من الذي لم يسمح بذلك؟ الشاب المقاتل الفدائي، وتلك العزيمة الراسخة، وذلك الإيمان القوي هو الذي وقف أمام العدو بعدده وعدته الضخمة. أمريكا كانت تساعد عدونا، والاتحاد السوفيتي يومذاك كان يساعده، والبلدان الأوربية التي تتشدق اليوم بحقوق الإنسان كانت تساعد يومها ذلك العدو الخبيث ليقتل ويدمر ويحرق الأرض وأهلها. وكان يفعل ذلك دون وازع، بَيد أن شبابكم، أي شباب هذا الشعب، لم يسمح بذلك. في "دشت عباس" هذا، في هذا السهل الواسع وهذه المنطقة الكبيرة، تقدم الشباب بأرواحهم إلى الساحة وانتصروا على الأعداء وهزموهم وأذلوهم بعزيمتهم الراسخة وأحبطوا المؤامرة التي شاركت وأسهمت وتدخلت فيها كل القوى الاستكبارية وسعت إلى تنفيذها.
أريد أن أقول لكم: أيها الشباب الأعزاء، هكذا هو الحال دوماً، عزيمتكم الراسخة ووعيكم وبصيرتكم وصمودكم وحسمكم وشجاعتكم بوسعها دوماً فرض الهزيمة على كل الأعداء مهما كانوا في ظاهرهم كباراً وأقوياء. وهكذا هو الحال اليوم أيضاً. وكذلك سيكون يوم غد. إذا أراد الشعب الإيراني أن يبلغ ذروة السعادة في الدنيا والآخرة - وهو يريد ذلك وسوف يبلغه إن شاء الله - فالطريق إلى ذلك عبارة عن الشجاعة، والبصيرة، والتدبير، والعزيمة الراسخة، والإرادة القوية عند النساء والرجال، وكل هذا يعتمد على الإيمان الإسلامي. الشيء الذي يضمن هذه العزيمة والهمّة الراسخة لدى جنودنا هو إيمانهم القلبي. كانوا مؤمنين بالدين، والله، والقيامة، والمسؤولية الإنسانية مقابل الله. إذا توفّر هذا الإيمان في أي شعب وفي أي مجتمع فسيجعله منيعاً قوياً يستطيع المقاومة.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، نحن اليوم متقدمون على ما كنا عليه في أيام الحرب المفروضة والدفاع المقدس بدرجات كثيرة.. نحن أقوى بكثير، ونفوذ الشعب الإيراني في العالم الإسلامي أوسع بكثير. نحن اليوم أقدر، وقد أحرز شعب إيران هذا الاقتدار بفضل صموده، والمؤامرات ضدنا
1- سورة الأحزاب، الآية 23.
123
112
الدرس السابع عشر: دور الشاب الفدائي
في الوقت الراهن أيضاً كثيرة، بيد أن شعب إيران بصموده يستهزئ بمؤامرات الأعداء، ويسير في طريقه بثبات. المهم هو أن لا ينسى الشعب الإيراني هذه المرحلة التاريخية الحساسة - مرحلة الدفاع المقدس - ويظل يتذكر الأعوام المليئة بالمحن والزاخرة أيضاً بالمفاخر خلال فترة الدفاع المقدس والحرب المفروضة. هذه الزيارات وإبداء الودّ والمحبة وإقامة مراسم الذكريات تساعد على بقاء هذه الذكريات حيّة في الخواطر والأذهان. إنني مرتاح جداً لحركة "السائرون إلى النور" التي انطلقت منذ سنوات وهي تنمو وتتصاعد يوماً بعد يوم والحمد لله، وأعتبرها حركة مباركة جداً، وأعتقد أن هذه المرحلة الحساسة تمثل تجربة بالنسبة لنا. أنتم الشباب اليوم لو كنتم في ذلك اليوم لحضرتم في هذا الميدان بعزيمة راسخة. لقد أثبتم أيها الشباب بطولتكم حالياً في ميادين العلم والسياسة والجدّ والعمل والتضامن الوطني والبصيرة.. لقد أثبتم صمودكم. أحياناً تكون الحرب العسكرية أسهل من الحرب الفكرية والحرب على الصعد السياسية. لقد أثبت الشعب الإيراني أن بصيرته وثباته في الحروب السياسية والأمنية ليس أقل من صموده في الحرب العسكرية. لذا فإن شبابنا والحمد لله شباب جدير ثابت ناضج وعليهم عدم الاكتفاء بهذا القدر والطموح إلى الهمّة المضاعفة والعمل المضاعف. اشحذوا هممكم. على الشعب الإيراني تعويض التخلف الذي عاشه خلال فترات الاستبداد الطويلة والتدخل والنفوذ الأجنبي. إنني على ثقة راسخة بأن شباب بلدنا العزيز اليوم لا نظير لهم على مستوى العالم أو هم نادرو النظير. وهذه بشارة لمستقبل البلاد. سوف ترون أيها الشباب إن شاء الله اليوم الذي تكون فيه بلادكم من الناحية العلمية والتقنية والسياسية والنفوذ الدولي في مستوى جدير بإيران الإسلامية وبشعب إيران الكبير.
نتمنى أن تشملكم إن شاء الله أدعية سيدنا الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وأن تشمل الألطاف الإلهية أرواح الشهداء الأعزاء.. شهداء الحرب المفروضة والدفاع المقدس، وخصوصاً شهداء منطقة الفتح المبين، ويكونوا راضين عنّا جميعاً، وتكون الروح الطاهرة لإمامنا الجليل راضية عنّا جميعاً إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
124
113
الدرس الثامن عشر:الوحدة في الحركة
الدرس الثامن عشر:الوحدة في الحركة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في مسؤولي الدولة
المناسبة: في مسؤولي الدولة
الحضور: جمع من مسؤولي نظام الجمهورية الإسلامية
المكان: طهران
الزمان: 16/1/1389.ش
20/4/1431.ق
5/4/2010م
125
114
الدرس الثامن عشر:الوحدة في الحركة
بسم الله الرحمن الرحيم
من اللازم بالدرجة الأولى أن أبارك لكم أيها الإخوة والأخوات هذا العيد. قد مرّ وقت طويل على العيد ـ حوالي 15 يوماً ـ لكن عيد النوروز في الواقع هو عيد الربيع، وبمعزل عن العطل الرسمية والتقاليد وأمثالها فإن أيام العيد في الواقع مستمرة. نأمل إن شاء الله أن تكون السنة الجديدة سنة مباركة على كل شعب إيران وخاصة خدام الشعب في الأجهزة المختلفة وفي السلطات الثلاث. وكون السنة مباركة يعني أن الله تعالى يوصل بركاته بواسطتكم إلى هذا الشعب الطيّب والمؤمن في هذا البلد وهذه البقعة. ولا شك بأن هذا يتطلب سعياً هادفاً مفعماً بالاندفاع من قِبلي وقِبلكم. نسعى إن شاء الله لنجعل وجودنا نافعاً للناس.
سوف نُسأل أنا وأنتم عن كل لحظة من لحظات أيام مسؤوليتنا. سوف يُسأل الجميع. غاية الأمر أن من لا يحمل على عاتقه عبئاً ثقيلاً ـ كالذي ليس لديه مالٌ كثير ـ فإنه إذا سُئل وحوسب سوف يشير إلى بعض الأشياء وينتهي حسابه. أما الذي يمتلك المال الكثير والمدّخرات والمداخيل المتعدّدة، فبالطبع لو حوسب فإنه لن ينهي ذلك الحساب بكلمة أو كلمتين. فلو كان المحاسب دقيقاً وأراد أن يسأله عن كل شيء ويتشدد ويعامله بعدلٍ، فبالتأكيد سوف يصعب الأمر كثير، إذ عليه أن يجيب على هذه الأمور واحدة واحدة: فمن هنا حصلتُ على هذا المال، وفي هذا صرفته، وبهذه الوسيلة اكتسبته، ولهذا السبب أنفقته. والمسؤولية هي على هذه الشاكلة أيضاً. وأنتم بحمد الله على الظاهر لستم أصحاب مالٍ وثروة ـ إن شاء الله لا تكونون كذلك ـ لكن ثقل مسؤوليتكم أكبر من ثقل ذلك المال. سوف نُسأل: ماذا كانت مسؤوليتكم في القضية الفلا نية؟ وعليكم أن تعلموا تفاصيل المسؤولية. وإذا لم تعلم، سوف تُسأل لماذا لم تعرف أن مسؤوليتك هي هذه؟ ولماذا غفلت عن الأمر؟ وإذا كنت تعلم سيُقال لك كيف أدّيت هذه المسؤولية؟ وسيطول الأمر حتى تشرح وتبيّن وتقدّم العذر.
الجميع مرتهنون، كل البشر ومخلوقات هذا العالم هم رهائن الحساب الإلهي. فلا يوجد أي إنسان يمكن أن يقول إن ميزان أعمالي قد امتلأ بالقدر المطلوب! حتى الأنبياء لا يمكنهم أن يقولوا ذلك، ولهذا يستغفرون. فالأنبياء والأولياء وإلى آخر لحظة يستغفرون ويطلبون المغفرة. والإمام السجاد يقول في الدعاء: (وعدلك مهلكي). لذلك نقول (عاملنا بفضلك). فلو وُضع ميزان العدالة وأريدَ فصل الشعر من العجين والتدقيق في أعمالنا فواويلاه. ينبغي أن نطلب من الله التفضّل والإغماض والتجاوز.
126
115
الدرس الثامن عشر:الوحدة في الحركة
ولا شك أن هناك كلمة يمكن أن ننطق بها في محضر الله تعالى، وهي: أنني قد سعيت بقدر طاقتي. فإذا أردنا أن نقول هذا فحسناً. بقدر ما فهمت وبمقدار ما استطعت وعلمت سعيت. فاعفُ عما فرط منا وما نقُص، هذا ممكن. فعلينا أن نشحذ هممنا حتى نستفيد من كل طاقتنا واستعداداتنا وإمكاناتنا. ولا شك أن لكل إنسانه ضعفه ومشاكله ونقصه، وعلينا أن نكل هذه الأمور إلى الله، لكن أن نسعى سعينا ولا نقصّر.
وحول ما ذكرناه عن الهمّة المضاعفة والعمل المضاعف، فإن المضاعفة لا تعني الضعفين. فلو رفعنا مستوى الهمّة وصارت عشرة أضعاف لكان لازماً. فما هو مهم جداً تلك الاستعدادات الموجودة في المجتمع. فنحن في جميع المجالات مثل منجمٍ لم يُستخرج أو أنه لا زال قيد الاستخراج. فأهل الاختصاص والخبرة في جميع المجالات ـ الاقتصادية والتقنية والعلمية ـ يقولون لنا إن إمكانات البلد لا نظير لها.
الأصدقاء الذين يعملون في مختلف الفروع ولهم أعمال مهمة في القطاعات المختلفة في المجتمع ولهم اطلاع على القضايا عندما يقدّمون التقارير فيما يتعلق بقطاعهم ويقارنون شعبنا ودولتنا مع الكثير من الدول الأخرى يوصلوننا إلى هذه النتيجة وهي أن استعداداتنا هائلة. ففي المجال الاقتصادي استعداد البلد عظيمٌ جداً. وفي المجال العلمي، هو في الواقع مدهشٌ، فإذا أسرع الإنسان في حركته وجدّ أكثر وأصرّ سوف يرى فجأة هذه الورود التي تتفتّح في هذا البستان والشتول التي تنمو في هذه الحديقة ما كانت تخطر على باله أو فكره، لكننا نرى أنها تحققت وتتحقق.
في القطاعات الثقافية المختلفة عندما ينظر الإنسان يرى الاستعدادات الكثيرة والفياضة، أشخاصٌ يمتلكون القابليات وهم كثيرون. وفي المجالات التقنية يرى الإنسان أنّ هذه الحركة الممكنة في البلد عظيمة جداً ومدهشة. فيمكن القيام بأعمالٍ كبرى. هذه هي استعدادات البلد.
وهذه الاستعدادات الآن في القطاعات المختلفة وُضعت بيدي وأيديكم. فإذا لم نتعرّف إلى هذه الاستعدادات نكون قد قصّرن، وإذا تعرّفنا إليها ولم نفعّلها نكون قد قصّرنا أيض، وإذا قنعنا بالحد المتوسط نكون قد قصّرنا أيضاً. فينبغي أن نتحرّك نحو القمّة، تماماً مثل الرياضي الذي يمتلك استعداداً رياضياً وبنية مناسبة وتوجد أمامه الإمكانات والوسائل الرياضية، فلا يحق له أن يقول إنني سأعطي كل يوم نصف ساعة أو عشرين دقيقة لليونة، يجب عليه أن يتحرك نحو البطولة، عليه أن ينظر إلى القمة.
وفي الأعمال الأخروية الأمر كذلك. وهكذا في الأعمال المعنوية والحركة التوحيدية، في طلب الثواب الإلهي الأمر على هذا المنوال، لا ينبغي أن نقنع بالقليل. حسنا.ً إذا لم نُعمِل هذه الهمّة العالية نكون قد ظلمنا وقصّرنا. وتقصيرنا ظلمٌ، ظلمٌ لأنفسنا ـ لأننا سنتعرض للعقاب الإلهي ـ وكذلك ظلمٌ لأولئك الذين لديهم هذا الاستحقاق الذي يؤهّلهم للاستفادة من هذه الاستعدادات والانتفاع بها. فإن لم يصلهم نفعها نكون قد قصّرنا. قول هذه الكلمات سهلٌ. لكن العمل والتحرّك صعبٌ، يحتاج إلى الهمّة.
127
116
الدرس الثامن عشر:الوحدة في الحركة
ولنعلم أن الله تعالى سيعيننا أيضاً. فإن كل من سعى نحو هدفٍ وأعمل قدراته يعينه الله. حتى في الأعمال الدنيوية فإن الله يعين ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء﴾1 فالذين يسعون نحو الدنيا فإن الله تعالى يقول إنه سيمدهم. وإن كانوا إذا خرجوا من الدنيا فلا نصيب لهم من الآخرة.. وأولئك الذين يطلبون الآخرة يمدّهم الله مثلما يمدّ طلّاب الدني، والآخرة ليست مجرّد صلاة ليل ودعاء وذكر وتوسّل وأمثالها. نعم، لا شك بأن هذه وسائل، لكن خدمة الناس والحضور حيث ينبغي هما أيضاً عملان إلهيان.
رأيتم في صدر الإسلام أن أولئك الذين مُدحوا ـ بحسب ثقافتنا وطبق عقيدتنا ـ إنما كان ذلك بسبب مواقفهم السياسية والاجتماعية وجهادهم أكثر مما كان من صلاتهم وعباداتهم. فنحن قليلاً ما نمدح أبا ذر أو عمّاراً أو المقداد أو ميثم التمّار أو مالك الأشتر بسبب عباداتهم. فالتاريخ عرف هؤلاء بمواقفهم التي كانت مواقف مصيرية، وبالحركة العامّة التي تمكّنت من هداية المجتمع وتشكيله والمساهمة في تطوره. وأولئك الذين ذُمّوا إنما كان ذلك لهذا السبب أيضاً. فالكثير من الكبار الذين ذُمّوا لم يكن الأمر بسبب شربهم للخمر أو عدم صلاتهم بل بسبب عدم حضورهم حيث كان ينبغي. هكذا سجّل التاريخ، وانظروا وسترون. فالعمل الإلهي والمعنوي والتوحيدي لا ينحصر في الصلاة. وإن كان أمر الصلاة ليس قليلاً. فالصلاة هي الداعم لكل هذه الأمور، تلاوة القرآن والتدبر في القرآن والتضرّع إلى الله تعالى وقراءة الأدعية المأثورة ـ الصحيفة السجّادية، دعاء الإمام الحسين عليه السلام ودعاء كميل وبقية الأدعية الموجودة فهذه كلّها أمور تعين على المقصد، إنها مشغّلة محرك وجود الإنسان. فلو كان لكم أنسٌ بالله وأصلحتم ما بينكم وبين الله لأمكنكم أن تقوموا بهذه الأعمال بشكل أسهل ورغبة أكثر وشوق أزيد. لهذا فإن الذي يريد أن يقوم بالأعمال الإلهية فإن الله يعينه، كالذي يريد أن يقوم بالأعمال الدنيوية. أولئك الذين جعلوا الدنيا أو مقاماتها أو مالها أو عيشها أو لذّاتها الجنسية وأمثالها هدفاً لأنفسهم ـ حيث نشاهد اليوم الكثير من أمثال هؤلاء ـ فإنهم عندما يتحرّكون على طريق هذا الهدف فإن الله يمدّهم. والمدد الإلهي يكون بجعل الوسائل في أيديهم، يعزمون ويتحرّكون على هذا الطريق وليس هدفهم سوى الهدف المادي لهذا فإنهم يصلون إلى ذلك الهدف. ولا شك بأنهم لمّا أهملوا هذا الجانب الأساس الذي هو البعد المعنوي والإلهي والأخروي فإنهم هناك خاسرون، ولكنهم يتقدّمون في الجانب الذي جعلوه هدفاً.
حسناً، ها أنتم أيها السادة والسيدات، لقد شرفتمونا كمسؤولين، وهذه الكلمات التي أذكرها لكم أنتم تقولونها للناس، هي ليست كلمات جديدة عليكم إنما هي ذكرى فحسب. الإنسان يحتاج إلى التذكّر وفي التذكّر فوائد عظيمة لا توجد في العلم. فالإنسان يعرف أشياء كثيرة ولكن من اللازم أن يذكَّر بها دائماً. فلنلتفت أين نحن وماذا نفعل وما هو هدفنا. فإن الهدف ليس قرشاً من أموال الدنيا بحيث ننسى بسببه تكليفنا الكبير وندوس على أهدافنا السّامية. ليس الهدف مدح وتمجيد هذا وذاك بحيث إنه على سبيل الفرض نعتلي لعدّة أيام هذا الكرسي ويحيط بنا أربعة أشخاص ينحنون لنا أو يطيعوننا.
1- سورة الإسراء، الآية 20.
128
117
الدرس الثامن عشر:الوحدة في الحركة
فمثل هذا الأمر لا قيمة له في جنب الإنسان. الهدف هو الفلاح، والنجاح ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾1 يجب أن يكون الفَلاح هدفاً. يجب التفكير في الحياة الحقيقية حتى تبدأ هذه الحياة الحقيقية، وها نحن عاجلاً أم آجلاً، بعد أيامٍ أو ساعات أو سنوات سنبدأ حياة حقيقية بالموت المادي والجسماني. والهدف هو أن نعمّره، وكل هذه الأشياء أمامنا مقدّمات.
إن أحد الأشياء المهمّة جداً ـ حيث إن رؤساء السلطات الثلاثة تقريباً كلهم حاضرون هنا ـ هو الوحدة في الحركة، ولو لم يكن هناك توحّدٌ في الفكر والرأي والسلائق، حيث إنه غير ممكن وليس مطلوباً إلى هذا الحد. فاختلاف السلائق والآراء يؤدي إلى التباحث، وهذا ينتهي إلى كشف ميادين جديدة. لهذا فإننا لا نوصي بتاتاً بضرورة أن يكون الجميع على فكرٍ واحد في جميع القضايا. كلا، ففي الأساس هذا غير ممكنٍ. الاختلاف في الرأي وفي السليقة وفي الفكر وفي الفهم كان بذاته من بداية الخليقة وسيلة لتقدّم الإنسان. ولكن مع وجود تلك الاختلافات الحاصلة من اللازم وجود الانسجام في التحرّك. لو أن قافلة اختلف أفرادها فيما بينهم، وتباحثوا بشكلٍ علمي وسياسي وتباحثوا في القضايا المختلفة والمعاصرة، فدراسة الآراء فيما بينهم لا إشكال فيه إذا وصلوا إلى نتيجة فَبِها وإذا لم يصلوا إلى نتيجة فلا بأس كذلك، لا إشكال في هذ، لكن هذه الحركة التي يقومون بها لا ينبغي أن تتوقف. فلا ينجرّ الأمر إلى حيث يُؤدي ذلك إلى توقف الوسيلة التي ينبغي أن تنقلهم إلى حيث يريدون، هذا يترك العمل للاشتغال باستمزاج الآراء أو يقول أحياناً بما أننا لم نصل إلى نتيجة موحدة في هذه القضية العلمية فعليك أنت أن تسلك هذا الطريق وأنا أسلك طريقاً آخر. كلا! نحن سائرون والهدف محدّدٌ. وعلى السلطات الثلاث التحرك بهذه الطريقة. أصدقائي الأعزاء، إخواني وأخواتي الأعزاء الموجدون في السلطات الثلاث، انتبهوا إلى وحدة الحركة، الوحدة في التحرّك وفي القرارات الكبرى ينبغي أن تُحفظ، وأن لا تؤدي إلى الإختلاف في العمل الأساس.
أمامنا الآن خطة خمسية. ولهذه الخطة لوازم كثيرة جداً تقع على عاتق الجميع. وفي وسط الميدان هذه الدولة بلا شك التي هي الجهاز التنفيذي، ولكن الجهاز التشريعي والجهاز القضائي والأجهزة المحاذية كلها مسؤولة ومؤثرة. فلو بنينا في كل تحرّك على التوافق في كل شيء لما تحقق شيء، ولا يتحقق أي تعاون، ولن يتقدّم العمل. تعاونوا وقدّموا العون والتسهيلات لهذا الذي يقف وسط ميدان التنفيذ. لا شك بأنه من اللازم أن تأخذوا المصلحة بعين الاعتبار لكن قدّموا العون حتى يتحقق العمل التنفيذي ويتقدّم.
لديّ وصيّة مؤكدة بضرورة تعاون الأجهزة التابعة للسلطات الثلاث، حتى نتمكن إن شاء الله من بلوغ الآفاق. فأهداف الآفاق أهدافٌ مهمّة جداً. ولا شك بأنكم لو بذلتم جهداً مضاعفاً فإنكم لتقدتم أكثر نحو تلك الأهداف، وهذا الأمر ممكنٌ ولا نستبعده بتاتاً. ها نحن نشاهد الآن في بعض القطاعات تقدّماً من حيث الوقت المفترض فيما يتعلّق بأهداف الآفاق. من الممكن أننا في بعض القطاعات قد تخلّفنا قليلاً. ولكن في بعضها الآخر فإننا متقدّمون على الزمان المتوقع في
1- سورة المؤمنون، الآية 1.
129
118
الدرس الثامن عشر:الوحدة في الحركة
أذهاننا، ولا يوجد لدينا أية مشكلة. فيمكننا أن نتقدّم على تلك الأهداف. ونحن نحتاج إلى أن نعرف أننا قادرون على التقدّم أكثر والتحرّك والسعي. فالهمّة المضاعفة ضرورية.
ينبغي السعي في المجالات الأخروية وفي المجالات الدنيوية. وعلى الإخوة أن يضاعفوا في المجالات الفردية وفيما يتعلّق بارتباطهم بالله قدر الإمكان من هممهم وعملهم، فلا ينبغي إغفال هذا الأمر ونسيانه. فالقضايا الشخصية والفردية ـ أي كل ما يكون بين الإنسان وربّه ـ لها أهمّية فائقة. فلو بدأنا بذلك واستأنسنا به، فبمشيئة الله تعالى سيعيننا أكثر، مثلما أنه تعالى ولحدّ الآن قد أمدّنا بالكثير من العون.
إن القضايا الثقافية مهمة جداً. الثقافة العامّة مهمّة للغاية. والمظهر الديني في الحياة العامّة للناس في غاية الأهمية. المظاهر الدينية ـ التي لا شك أنها تكشف عن الباطن إن شاء الله ـ تحوز على أهمية كبيرة.
حسناً، يجب أن أشكر الإخوة الذين بذلوا جهوداً كبيرة في أيام عطلة النوروز، بدءاً من القوى الأمنية مروراً بالإذاعة والتلفزيون وانتهاء اً بالأجهزة الصحية والمستشفيات والطوارئ وغيرها. تحمّلت الأجهزة المختلفة أعباء كثيرة من أجل أن يتمكن الناس من تأمين راحتهم. ففي قطاعات الدولة وغيرها أُنجز الكثير بشكل حسن. بعضهم بذل جهداً وعمل من أجل تأمين الأمن والراحة والطمأنينة للناس، وهذه الأمور لها قيمة كبرى.
وما أجمل أن تبدأ الأجهزة الرسمية أعمالها مع انتهاء أيام العطلة الرسمية. لحسن الحظ فإن بعضهم بذل جهوداً كبيرة وكان لهم حضوراً بشكل واسع. فمع بداية أيام شهر فروردين حيث بدأنا العطلة كنا نرى هؤلاء يبذلون جهوداً كبيرة ويحضرون ويقومون بالأعمال الجيدة، فاسعوا جهدكم لنشر وترويج ثقافة العمل والسعي والحضور في ساحات العمل وخنادقه فإن هذا أمرٌ حسنٌ جد، ويساهم لا في حركة المجتمع ونشاطه.
أملُنا إن شاء الله أن يوفق الله تعالى الجميع فتنالوا تأييده وعونه، إن شاء الله. إن قضية توجيه الدعم الحكومي التي سمعت الآن أن هناك توافقاً عليها ستصل إلى أفضل شكلٍ توافقي وتُنجز الأعمال الجيدة لينعم الناس في ظل تدابيركم ومساعيكم وينتفعوا بها.
آفاق البلاد لعشرين سنة هي الرؤية التي رسمها القائد حفظه الله للبلاد والأجهزة الحكومية وغيرها لتحقيقها على مدى عشرين سنة. وقد ترجمنا الكلمة بشكل حرفي، وربما نجد لها تعبيراً أقرب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
130
119
الدرس التاسع عشر: دور الدين في سعادة الإنسان
الدرس التاسع عشر: دور الدين في سعادة الإنسان
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في الشخصيات العلمية والسياسية
المناسبة: في الشخصيات العلمية والسياسية
الحضور: جمع من المسؤولين والشخصيات العلمية والسياسية
المكان: طهران
الزمان: 1/1/1389.ش
21/4/1431.ق
6/4/2010م . ه
131
120
الدرس التاسع عشر: دور الدين في سعادة الإنسان
بسم الله الرحمن الرحيم
إن شاء الله يكون حلول العام الجديد مباركاً عليكم جميعاً أيها الإخوة والأخوات الأعزاء. في النهاية إنّ مرور الفصول والسنين وطول العمر والتجارب والعِبر يجب أن تعلّمنا. "يا محوّل الحول" الحول هو السنة، وتحويل السنة لا يكون فقط في تحويل فصل الشتاء إلى فصل الربيع، فجميع الفصول في الواقع تُحوَّل. مرّة يكون فصل الربيع ومرّة فصل الصيف ثم بعدهما يبدأ الخريف وتساقط أوراق الأشجار. ثم يأتي الشتاء والبرد الذي ظاهره صعبٌ وقاس، لكن باطنه في الواقع أساس حياة الربيع. تحويل الحول يعني هذا، تتبدّل الفصول فيما بينها. وتتوالى أحوال الطبيعة المتعدّدة وتتغيّر، هذه كلّها آياتٌ إلهية. ولقد اعتدنا عليها فأصبحنا لا نفهم أهميّتها، بينما لو لم يعتد الإنسان على هذا التغيير والتحوّل الموجود في الطبيعة وشاهده لأول مرّة لرأى كم هي مدهشة هذه الحوادث. إن نموّ النباتات وتجدّد الطبيعة وإثمار الأشجار كلّها علائم القدرة الإلهيّة التي نمرّ عليها بهذه الأعين التي اعتادت عليها وببساطة. وفي أنفسنا أيضاً الأمر كذلك. غالباً ما لا يشعر الإنسان بالتغيرات. نحن لا نفهم التغيرات الحادثة. والكثير من هذا الإغفال ينتهي إلى خسائر كبيرة. لو فرضنا أن ماشياً يسير على طريقٍ ويغفل وينحرف عن طريقه بزاوية خمس أو عشر درجات. هذا الإنسان لا يلتفت أبدا،ً فخمس درجات ليست بشيء يجلب انتباه الإنسان. ثمّ فيما بعد كلّما سار مع هذا الانحراف البسيط ـ هذا لو لم تصل هذه الخمس درجات إلى عشر درجات وخمسين درجة وبقيت خمس درجات ـ عن الخط الصحيح الذي ينبغي أن يسير عليه فإن الانحراف يزداد شيئاً فشيئاً. ثمّ يأتي وقتٌ يتنبّه هذا الإنسان ويرى أنه يا للعجب كم صار البعد كبيراً. عندما تُذكر التقوى فلأجل هذا الأمر. فإن التقوى تعني الالتفات والتوجّه إلى الذات لحظة بلحظة ومراقبة النفس والالتفات إلى ما نقوم به. إن هذه الصلاة التي كُتبت علينا خمس مرّات في اليوم هي في الواقع من أعظم نعم الله. فلو لم تكن هذه الصلاة، لغرقنا في غفلة عميقة. هذه الصلاة هي التي توجّهنا إلى أنفسنا. فهذا ما يقتضي أن نؤدّي الصلاة بشكلٍ صحيحٍ وبتوجّه. فإنا لو أدّينا الصلاة بتوجّهٍ، لكانت لنا خير معين على النفس.
انظروا في تحوّل السنة من 88 إلى 89 حيث نحدّد ساعة خاصّة لها ـ التي هي ساعة مثل بقية ساعات العمر، باللحاظ الطبيعي، وبلحاظ التقديرات المختلفة، فإن آخر ساعة من عام 88 لا تختلف أبداً عن أول ساعة من عام 89 ـ لو غفلنا عنها فلن نتوجّه إلى تحوّل الطبيعة وتبدّلها، ولو التفتنا إلى
132
121
الدرس التاسع عشر: دور الدين في سعادة الإنسان
هذا التغيير والتبدّل، فإننا سنفهم ونشعر. هذا الإحساس ينبغي أن يلازم الإنسان في جميع تحوّلات الحياة. ويمكن أن نضيف هذا إلى مضامين النوروز.
إن عيد النوروز الذي يظهر أنه عيدٌ غير ديني، بل هو عيدٌ وطني، ليس له بعدٌ ديني وليس هو ذكرى دينية، وإن كان ورد في بعض الروايات أن النيروز من أيّامنا ـ وأنا لا أعلم مدى اعتبار هذه الروايات وقوة سندها ـ ولكن المضمون الديني موجودٌ في جميع حوادث حياة الإنسان، ومنها في هذا العيد. ولحسن الحظ فإن شعبنا ملتفتٌ ـ ويتلو الأدعية والأذكار ويحضر في المشاهد المشرّفة ـ حتى أولئك الذين يسافرون إلى المدن والمحافظات التي ليس فيها بحسب الظاهر مشاهدٌ مشرّفة معروفة، لو وُجد أحد أولاد أو أحفاد الأئمة، فإنهم يقضون ساعة تحويل السّنة حتماً عند أولاد الأئمة هؤلاء، فلو فرضنا أنّهم مثلاً يسافرون إلى شيراز يوم العيد، فإنّهم يذهبون في ساعة التحويل إلى شاچراغ، وهذه العادة المتبعة بين الناس في غاية الحسن. وكلّما أمكن إضافة المضامين الدينية إلى كافّة حوادث الحياة وظواهرها، فإنّ هذا يعود علينا بالفائدة.
إن الدين، والإيمان الديني والتوجّه الديني، هو ضامن سعادة الإنسان. فالإنسانية بدون الدين تصل إلى وضعية سيئة. وينطبق هذا الأمر على جميع العصور ومنها هذا العصر. ففي يومنا هذا أولئك الذين أرادوا تدبير الدنيا بدون الدين، ابتلوا بمشاكل صعبة وعجيبة. وهذه المشاكل ليست كالمشاكل المادية واليومية التي تظهر للإنسان مباشرة، كلا فإنّها عندما تبرز لا يكون هناك مجالٌ للعلاج. فإذا أُسس البناء على إطلاق العنان للشهوات الجنسية، وأصبحت السياسات هكذا، وكذلك الثقافة، فإن الأمر يصل إلى حيث أنّكم تسمعون اليوم بوزير يجري مراسم الزواج المثلي. ولا يخجل من العالم من ذلك! وسوف ينتهي هذا فيما بعد إلى أن يعاشروا محارمهم جنسياً! اليوم هذا عيبٌ ولا يقبلونه، لكنّهم بلا شك سوف يصلون إليه، فهذا المسار يتبعه هذا الوضع. واليوم فإن هذه الفضيحة موجودة في الغرب. وهذه نتيجة الدنيا بلا دين. إن نتيجة الدنيا بلا دين هي تلاشي الأسرة، وتغرّب الناس عن بعضهم. وهذه المشاكل الهائلة الموجودة في حياة الناس. يجب أن تعود الإنسانية إلى الدين. وسوف ترجع وقد بدأت بالرجوع، شاؤوا أم أبوا سيحصل هذا الأمر. وفي هذه الحركة العظيمة سيكون الإسلام نقطة ساطعة، وله الدور الأساس في عقد ومنظومة التوجهات المعنوية إلى الأديان. الإسلام يسطع. يريدون أن يقفوا بوجه الإسلام، ولن يقدروا.إن العداء للجمهورية الإسلامية يرتبط جزء أساس منه بهذا الأمر، لأنهم يعلمون أنّ هذه حركة دينية، وهذا الإيمان الدين هو الذي حرّك الجماهير وأبقاها في الساحات وهداها في المشاكل والمصاعب والمنعطفات الخطرة.
هم يرون هذا ويفهمونه. لا شك بأن الكثير من هؤلاء السياسيين ليسوا واضعي سياسات في الواقع بل هم منفّذو سياسات، لا يرون إلا الظواهر، أما أولئك الذين يضعون السياسات الدولية حيث يدار العالم المادّي في الواقع بحسب توجيهاتهم، هؤلاء لا بدّ أنهم يفهمون أن القضية هي هذه. لا شكّ أنهم يسعون لإلهاء العالم الإسلامي. فاليوم نجد قضايا فلسطين تحدث في ظلّ إلهاء العالم الإسلامي بالمسائل الفرعية. ففلسطين اليوم في الواقع في فاجعة، وكذلك غزّة، والضفّة الغربية. لا ينبغي أن نقلل من أهمية وقائع الحرم الإبراهيمي فهي في غاية الأهمية. فلأجل إقامة الصلاة يطردون المسلمين
133
122
الدرس التاسع عشر: دور الدين في سعادة الإنسان
من وطنهم وبيوتهم ولا يسمحون لهم بالمرور! وإزالة الطابع الإسلامي عن الآثار الإسلامية هو من الأعمال الخطرة جداً والتي تحدث على مرأى المسلمين في العالم. فالكلّ مشغولون لاهون بأمورٍ فرعية وجزئية، لا يفهمون ماذا يحدث في العالم الإسلامي.
هذه هي المؤامرة التي تُطبق على هذا العالم. واليوم تتحمّل منظّمة المؤتمر الإسلامي التي كان دورها وأساس فلسفة وجودها الدفاع عن فلسطين والقضية الفلسطينية، مسؤولية الوقوف وتعبئة العالم الإسلامي مقابل هذه الحركة الصهيونية المؤذية ومعها حُماتها ـ حيث إن أغلب الدول الغربية المستكبرة وبالرغم من الخلافات الموجودة بينها داعمة وشريكة في هذا الأمر. ينبغي أن ينهض العالم الإسلامي ويمكنه ذلك. فالإمكانات الموجودة في العالم الإسلامي، لأجل النهوض بوجه خبث الصهاينة وأطماعهم، كبيرة جداً.
والكلّ يتوجّه فوراً إلى النفط، فالقضية ليست قضيّة النفط. فهنا مركز العالم. وإن أكبر أسواق المنتجات الغربية موجودة في هذه المنطقة، وإن سمعتهم مرتبطة بهذه المنطقة، وإنّ أهم الممرّات العالمية موجود ضمن هذه المجموعة من الدول الإسلامية، ومثل هذه الأمور تمثّل شرايين حياة العالم وهي بأيدي المسلمين، وعلى المسلمين أن يستغلّوها ويمكنهم ذلك. ولو تجاوزنا كل هذه الأمور، فإنّ المنطق السياسي والتصريح السياسي في عالم اليوم فاعل.
يمكنهم أن يقرروا بدون أن يستعملوا هذه الوسائل. فنفس إرادة الدول والشعوب لها وزنٌ عظيم في حوادث العالم. وللأسف فلا يُستفاد من هذا الأمر وإنما يُغفل عنه. وعلى كل حال فلنأخذ نحن الدرس. ولنقسّم قضايانا إلى قضايا أساس وغير أساس، ولنهتم بالأساس. فالقضايا الأساس في بلدنا كثيرة، قسمٌ منها يتعلق بالمسؤولين، وقسمٌ آخر يرتبط ببُناة الثقافة، وقسمٌ يتعلق بالمؤسسات العظمى والواسعة التي لحسن الحظ هي موجودة في البلد، وكلٌّ من هؤلاء له دوره وعمله. فلنفكّر بهداية هذا الشعب وهذا النظام وبتقدّمه ولنفعل ذلك. بمشيئة الله، يوقظنا الله من سبات الغفلة كي نتمكن من تشخيص تكاليفنا بدقّة ونتعرّف إليها ونعمل على أساسها، إن شاء الله. وإن شاء الله تكون هذه السّنة مباركة على الجميع ويشملكم دعاء حضرة بقية الله عجل الله تعالى فرجه الشريف.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
134
123
الدرس العشرون: منعة القوات المسلّحة
الدرس العشرون: منعة القوات المسلّحة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في كبار قادة القوات المسلحة
المناسبة: في كبار قادة القوات المسلحة
الحضور: رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة وجمع من كبار القادة العسكريين
المكان: طهران
الزمان: 2/1/1389.ش
24/4/1431.ق
11/4/2010م
135
124
الدرس العشرون: منعة القوات المسلّحة
بسم الله الرحمن الرحيم
أبارك لكم أيها الإخوة الأعزاء عيد النوروز وإطلالة الربيع ـ الذي هو فصل اللطافة والبهجة وتجديد الحياة ـ أنتم الذين تضعون على عاتقكم حملاً ثقيلاً، ونحن شهود مساعيكم ومشقّاتكم وجهودكم الكبيرة في القطاعات المختلفة والمرتبطة بكم.
إن شاء الله يتقبّل الله منكم جميعاً هذه الجهود، ويوفّقكم حتى تتمكنوا ـ مثلما أعلنت هذه السنة لشعب إيران ـ بالهمّة المضاعفة أضعافاً عديدة وكذلك بالعمل والسعي المضاعف أضعافاً عديدة أن تفتتحوا المزيد من الميادين الرحبة، وتوصلوا القوات المسلّحة للجمهورية الإسلامية في واقع الأمر إلى المقام الذي يليق بهذا النظام وينسجم مع أفراد مؤمنين وصادقين وخدومين أمثالكم.
في الواقع إن من نعم الله الكبرى في هذا الزمان على القوات المسلّحة وجود مسؤولين صادقين وحريصين، فهذا ما ينبغي أن نعدّه نعمة كبرى توجب الشكر.
إن هذه الظاهرة التي بانت بنفسها في نظام الجمهورية الإسلامية وتجلت في مرحلة الدفاع المقدّس وتبلورت، ظاهرة "اعتبار الذات تابعة للهدف، لا أن الهدف تابعٌ للذات".
إنها ظاهرة مهمة جداً، وهي بحق مورد الشكر. لا يعني هذا أننا لا ولم نعان من أشخاص مشوبين في كل هذه المراحل، ففي المحصلة، هناك مختلف أنواع الروحيات والأخلاقيات في جميع الطبقات والشرائح والأفراد، لكنّ الأغلبية هي ما ذكرت. إنني عندما أنظر إلى القادة الأعزّاء ـ وهم أنتم ـ فإنني أشكر الله تعالى حقاً حيث تفضّل على هذا الشعب وجعل على رأس هذه الأعمال الكبرى مثل هذه العناصر المؤمنة والمخلصة.
حسناً، أنتم الذين ينبغي شكركم كذلك فأنتم نعمة الله علينا، وعلينا أن نشكر الله أن جعل هذا التوفيق وهذه الفرصة من نصيبكم حتى تقوموا بهذه الأعمال المهمّة. فنحن جميعاً ـ أنا وأنتم وكل واحد منا، فرداً فرداً ـ كان بإمكاننا أن نكون أشخاصاً فاعلين في حياتنا الخاصة، تاجراً جيداً، شيخاً صالحاً، جامعياً طيباً، نسعى لأنفسنا ومصالحنا الشخصية دون أن نحمل عند الله تعالى وزراً، فما نقوم به من عمل من الممكن جداً أن يكون فيه وزرٌ ووبال، فعلى عاتقنا حملٌ ثقيل، ومثل هذا أمر لا لزوم له، لأن كل واحد
136
125
الدرس العشرون: منعة القوات المسلّحة
منا كان بإمكانه أن ينصرف إلى حياة عادية، ولكن ما كان له مثل هذا الدور المحوري الذي تمثّلونه اليوم في بلدكم ونظامكم.
فلهذا نشكر الله على أنكم جُعلتم في محلٍّ يمكن أن تكونوا فيه أصحاب دورٍ أساس. فحضوركم وإرادتكم وعرفانكم ودرجة إخلاصكم تترك بصماتها على مصير هذا البلد، وفي تاريخه، وفي مستقبل هذا الشعب ليس على صعيد عشر أو عشرين سنة بل لقرنٍ أو قرنين. بحيث إنه لو كان من أثر حسن فإن هذه الصدقة الجارية ستكون حينها أفضل من جميع الأشياء ولا يعدلها شيء.
وأنتم تستطيعون أن تشقوا طريقاً، وتنجزوا عملاً يَنعم الشعب على أساسه لسنوات متمادية على صعيد الدين والدنيا، وهو أمرٌ لا يمكن أن تعدله أية عبادة أو صلاة ليل أو خدمة متوسطة أو عاديّة تقدّم لخلق الله، إنه هو أمرٌ أسمى من ذلك بكثير. لقد أعطانا الله هذه الفرصة، أنا وأنتم، وعلينا أن نكون شاكرين. غاية الأمر أنه كغيره من الأعمال الكبرى حيث تكون الغنيمة فيها كثيرة. فإن الغرامة فيها ثقيلة وخطِرة، "من له الغنم فعليه الغرم"، أمران متبادلان، مثل الصعود لتسلّق الجبال.
إن خطر سقوط الإنسان من الأعلى أكبر بكثير من أن يسقط مثلاً من على ارتفاع مترٍ أو مترين، ولكن حسناً فذاك المكان هو المرتفع العالي. وكلّما كان المقام أعلى كان الخطر أكبر. وإن السبيل للوقوف في وجه هذه الأخطار هو ملاحظة التكليف ومجاهدة هوى النفس.
فليس الأمر بحيث إن الإنسان موضوع ضمن مجموعة من الأمور المبهمة دون أن يعرف ماذا يفعل، كلا، بل إنّ عليه مخالفة ومجاهدة أهواء النفس المخالفة للشرع والدين ومتابعة التكليف والواجب دوماً. فلو سلكتم هذا الطريق ـ وهو ليس خطاً سهلاً ـ نعلم ماذا ينبغي أن نفعل. لهذا، برأيي، أن من الأعمال التي ينبغي أن يقوم بها من هو مثلي ومثلكم أن نتوجّه إلى الله بالطلب ونقول: إلهنا! لا تبدّل هذه النعمة التي حبوتنا إياها ـ وهي فرصة الحضور في محلٍّ مؤثر على صعيد مصير البلد والشعب ـ إلى نقمة، فلا تجعل ما يوجب الأجر موجباً للوزر. ولا شك بأن هذا مرتبطٌ بسعينا. فلنستمد من الله العون، ولنقوِّ الهمّة وسوف يتحقق ذلك بعونه.
القوّات المسلّحة بحسب كلام أمير المؤمنين عليه السلام، هم حصون هذه الأمة والبلاد. والحصن ينبغي أن يكون قائماً دوماً فلا يُخترق، لهذا يجب على القوّات المسلّحة أن تحافظ دوماً على ثباتها. ففي داخل الحصن تقع أحداثٌ وظروفٌ مختلفة، فهناك نائمون وآخرون مستيقظون، هناك متنازعون وهناك من هو مشغولٌ بزفافه وآخر بعزائه، ولكن هذا الحصن ينبغي أن يبقى في جميع هذه الحالات منيعاً. انظروا بهذه العين إلى القوّات المسلّحة.
يجب أن تبقى هذه المناعة دوماً. فلو تحقق هذا الإحكام وقام الحرّاس القائمون عليه بمهمّتهم وحافظوا على يقظتهم وحذرهم ورصدوا تحرّكات العدو ولم يغفلوا عن أية زاوية فإن الأمن داخل الحصن سيبقى مستتباً. وفي ظل هذا الأمن يمكن للناس أن ينالوا دينهم ودنياهم. وهذا ما لا يمكن بدون هذا الأمن.
إن الحفاظ على منعة القوات المسلّحة هو أصلٌ دينيٌّ لا يمكن غض الطّرف عنه. فعلى الجميع أن يكونوا منتبهين، والقوات المسلّحة نفسها كذلك، والحكومات المتعاقبه وعلى الشعب أن يقدّم الدعم.
137
126
الدرس العشرون: منعة القوات المسلّحة
فهذا الحصن ينبغي أن يكون منيعاً. ومهما حدث في الداخل، فإنّ حصن القوّات المسلّحة ينبغي أن يبقى محفوظاً. حسناً، إن هذا تشبيهٌ للمعقول بالمحسوس. فللحصن في كل مكان معنىً. فأنتم حصونٌ، الجيش حصنٌ من جهة، والحرس حصنٌ من جهة أخرى، وكذلك التعبئة، والقوى الأمنية، وحماية المخابرات، فعلى الجميع في تلك المسؤوليات المعيّنة لهم أن يلتفتوا إلى تلك الجهة المتعلّقة بهم في الحصن وإلى ضرورة الحفاظ عليها.
إنّ العالم هو عالمُ التسلط والظلم. فالدنيا سيئة، دنيا الجاهلية، دنيا يتحكّم فيها أتباع الشهوات والتسلط بأكثر سكّان العالم. ففي مثل هذا العالم ينبغي الانتباه كثيراً والحذر أكثر والعمل بحنكة وتدبيرٍ وشجاعة.
أنتم تشاهدون سلوك زعماء هذه الدنيا، فلأجل أطماعهم وجشعهم ودعمهم للشركات التي تؤيّدهم، ولأجل ملء جيوب أصحاب الشركات والرأسماليين، أنظروا أية فجائع تحدث في العالم، وتحت عنوانٍ حسن، وشعارات فارغة وكاذبة يدقّون طبول الحرب ويأتون على ذكر السّلام ويقفون تحت يافطات السلام. وهم لا يعطون أي اعتبار أو حق للإنسانية والبشرية. لكنهم يقفون تحت يافطات حقوق الإنسان، هم أهل العدوان، والاعتداء من سياساتهم العملية الأساس، ويدّعون الوقوف بوجه العدوان، في سياساتهم وسلوكهم يستعملون جميع الأساليب القذرة ويستفيدون منها، يستعملون الاغتيال وينشئون منظّمات للاغتيالات ويستخدمون شركاتٍ إرهابية ـ وهي من الأمور التي اتّضحت للجميع في عالم اليوم ـ وأنتم قد لاحظتم نموذج هذا الأمر في العراق وتلاحظون ذلك في أفغانستان، وقد شاهدتم ذلك في الأماكن التي قاموا فيها بالانقلابات، ورأيتم تلك الاعتداء ات على الدول، هذا في نفس الوقت الذي يظهرون فيه بمظهر الهدوء والأناقة (بثياب مكويّة وعطرٍ فوّاح) وتعابير رائقة أمام أعين الناس وكرئيس لهذه الدولة أو تلك، يتلاعب بالرأي العام ويخادع وهو في أصل عمله مبنيٌّ على الخداع. هذا هو العالم، عالمٌ قائمٌ على الكذب والخداع والظلم المقنّع، وإن كان يحدث أحياناً أن تنكشف هذه الأقنعة.
فأحياناً يسلبهم الغرور والاعتماد على أركان القدرة الواهية الموجودة بأيديهم الاختيار، فإذ الأمر شيء آخر، فقبل عدّة أيّام هدّد رئيس أمريكا ملوحاً باستعمال السلاح النووي! وهذا كلامٌ عجيبٌ جداً، ولا ينبغي أن يمرّ العالم على هذا الكلام وكأنه لم يصدر. ففي القرن الواحد والعشرين، عصر كل هذه الادعاءات بالسلام وحقوق الإنسان والمنظّمات الدولية والمنظّمات ومواجهة الإرهاب وأمثالها، يأتي رئيس دولة ليهدد بهجوم نووي! هذا كلامٌ غريب في مثل هذا العالم.
إن هذا يعود عليهم بالخسارة وهم لا يفهمون، فإن معناه الواضح أن دولة أمريكا هي دولة شرّيرة لا يمكن الثقة بها. إنهم يسعون منذ عدّة سنوات في ملفّنا النووي إلى أن يثبتوا أن الجمهورية الإسلامية لا يمكن الثقة بها، في حين أن الجمهورية الإسلامية وطوال هذه السنوات الثلاثين لم تهجم على أية دولة، لم تبادر بالهجوم على أي مكان، ولم تحضن الإرهاب. فهم يريدون إن يقولوا إن الجمهورية الإسلامية لا يمكن الثقة بها. حسناً من هو الذي لا يمكن الثقة به في العالم؟ هؤلاء الذين يمتلكون الأسلحة النووية، لا يخجلون أن يقولوا إنه يمكنهم استعمال السلاح النووي أو سوف يستعملونه. هذا كلامٌ عجيب وهو فضيحة لهم.
138
127
الدرس العشرون: منعة القوات المسلّحة
في هذا العالم يجب الحذر كثيراً، ولا شك بأنّ مواجهة هذا الظلم والجور المقنّع وغير المقنّع وبكل أشكاله لا ينحصر بالاستعدادات العسكرية، فما هو أهم من الجهوزية العسكرية الجهوزية المعنوية، الجهوزية الروحية، قوة العزم الشعبية، قدرة صمود شعبٍ قادر على أن يقف مقابل هذه الأعاصير. فالإعصار يأتي ويذهب مهما كانت قوّته، إنّه يأتي وينتهي، المهم هو هل يوجد قدرة أم لا في مواجهة الإعصار. إن مشكلة الأبنية التي تنهار، هي أنها لا تتمكّن من الثبات حيث إنّ الإعصار لا يدوم. فلو شدّ شعبٌ ما عضده وأعطى لنفسه قوّة الصمود وثبّت قدمه في الأرض، فإنّ هذه الأعاصير لن تفعل شيئاً، وهي تُقبل وتُدبر، وهم زائلون وهذا الشعب باقٍ.
إن قوّة وثبات أي نظام يعتمدان على هذه الأمور: الإيمان، القدرة على الصمود، العزم الراسخ، عدم الانخداع بالعبارات المعسولة الممتزجة بالمجاملات التي يتمّ استخدامها في بعض الحالات بسهولة بين المقامات السياسية، في حين أنه وراء هذه الألفاظ الوادعة وجوهٌ قاسية وحقودة مليئة بالنوايا السيّئة. وأمثلتها في زماننا هذا إلى ما شاء الله، ففي هذه العقود الأخيرة شاهدنا الكثير منها فيما يتعلّق بغيرنا من البلدان المختلفة وفيما يتعلّق بنا. فالحنكة وعدم الانخداع، والثقة بالنفس والثقة بالله وتقوية الصمود في النفس، والاعتقاد بإمكانية أن نكون أقوياء وصامدين، هذه كلّها مما يحفظ الشعوب.
لحسن الحظ فإن أرضية هذه الأمور متوفّرة لنا.. ثلاثون سنة والأعاصير المختلفة تأتي وتذهب، وهذا الشعب ثابتٌ، صامد، والثورة تشتد صلابة. فنحن اليوم أقوى بكثير مما كنا عليه قبل عشر سنوات أو عشرين سنة أو ثلاثين سنة. فقدراتنا اليوم هي أكبر بكثير في جميع المجالات، وقد أظهرنا هذا الأمر في مواجهة جميع أنواع العداوات، وقد أظهر شعبنا بفضل الله وتوفيقه هذا الأمر أيضاً. هكذا تكون القدرة الأساس. ولكن كما ذكرنا لا ينبغي أن نسمح باختراق هذا الحصن. أجل إن هذا الشعب صامدٌ وثابتٌ داخله، ولكن الحصن ـ أي القوّات المسلّحة ـ يجب حفظ منعته..
أولاً، على القوّات المسلّحة أن تأخذ هذا التهديد على محمل الجدّ، لقد ذكرت هذا مراراً. فأنتم في تحليلاتكم لا ينبغي أن تعملوا وفق التحليلات السياسية. فالمحلل السياسي يقول مثلاً إن احتمال حصول هجوم للعدو ضعيف، احتمالٌ يبلغ 20 أو 30%، أما أنتم فعليكم أن تقولوا إن هذا الاحتمال 100%. وعليكم أن تحققوا الجهوزية لأنفسكم على الأساس المذكور في جميع القطاعات. فعليكم أن تبقوا على يقظة دائمة.
برأيي يجب أخذ قضية المشاريع الإبداعيّة على محمل الجدّ. ولحسن الحظ هذا موجودٌ في القوات المسلّحة. وكمجموعة من الاستعدادات التي لا يستخدم منها سوى طبقة واحدة مع إهمال الطبقات الأعمق، هكذا هو شعبنا. فالإنسان كان يشعر في الواقع ويرى في بداية الثورة، على صعيد القطاعات المختلفة أنه كان يُستفاد بمقدار قليل من هذه الاستعدادات الفكرية والمهارات الموجودة. وقد أدّت الثورة إلى انبعاث حركة في القطاعات العلمية والتقنية، وفي قطاعات البناء والمجالات الثقافية والسياسية وغيرها تفتحت الاستعدادات وأزهرت. فمن هذه المجموعة المتراكمة طبقات طبقات، تمّ استخدام المزيد من الطبقات، وقد علّمتنا التجارب أن استعداداتنا عظيمة جداً.
اتّجهوا نحو الأعمال الإبداعية، نحو تلك الأشياء التي لم يختبرها العالم أو يجرّبها، في الخطط العسكرية والأمنية (المخابراتية)، في كيفية مواجهة العدوّ، في نوعية الخداع ٍ وأشكال التدابير، فهذه
أعمالٌ مهمّة. وبالخصوص أؤكّد على نوعيّة تنظيم القوّات المسلّحة. ولحسن الحظ فإن الحرس وكذلك الجيش قد تقدّموا على هذا الخط وهم في حال دائمة من التفكيرٍ والسعيٍ. لقد كان هناك إبداع في التنظيم التقليدي إلى يومنا هذا ـ في
139
128
الدرس العشرون: منعة القوات المسلّحة
الحرس على شاكلة وفي الجيش بشكلٍ آخر ـ اتجهوا نحو الأعمال الإبداعية. ولا شك أن ليس كل عملٍ جديد هو أمرٌ مطلوب. فما هو مطلوبٌ هو الإنجاز الجديد المتلازم مع دقّة الملاحظة والتجربة.
كونوا بصدد الأعمال الإبداعية، مثلما كان هذا الأمر إلى اليوم على صعيد القطاعات المختلفة للقوات المسلّحة، فجهاد الاكتفاء الذاتي للجيش يُعدّ من النماذج، وكم قد أنجز من أعمالٍ عظيمة منذ ثلاثين سنة!. في الحرس هناك مساعٍ متعددة وكثيرة في هذه المجالات. الحمد لله إن يدنا لا تخلو من تجارب مؤمّلة وباعثة على التفاؤل. يشاهد الإنسان أعمالاً كبيرة تُنجز. هذه هي مطالبنا. إن شاء الله تكون كل هذه الأشياء التي ذكرناها أو غفلنا عن ذكرها وهي من أمنياتنا، في برامجكم وتتحقق في أعمالكم وتتبلور وتظهر. حسناً، كل هذه الأمور لها روحٌ واحدة وهي عبارة عن المعنويات والبصيرة الدينية وتعميق العقائد الدينية، وهي تتجلّى في عمل إخواننا الطيبين والفاعلين والكادحين في وحدة العقيدة والسياسة بنحوٍ، وفي ممثليات الولي الفقيه في الحرس والأماكن الأخرى بنحوٍ آخر. هؤلاء الإخوة عليهم أن يُعملوا قضية الأولويات هذه والإبداعات والطرق الجديدة والهمّة المضاعفة حتى نكون إن شاء الله ملازمين يوماً بعد يوم للمظاهر الدينية والعمق العملي والاعتقادي في القوّات المسلّحة بشكل أكبر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
140
129
الدرس الواحد والعشرون: أميركا هي الدولة الوحيدة التي ارتكبت الجريمة النووية
الدرس الواحد والعشرون: أميركا هي الدولة الوحيدة التي ارتكبت الجريمة النووية
أميركا هي الدولة الوحيدة التي ارتكبت الجريمة النووية
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله المؤتمر الدولي لنـزع السلاح النووي
المناسبة: المؤتمر الدولي لنـزع السلاح النووي
المكان: طهران
الزمان: 1/5/1431.ق
17/4/2010م
141
130
الدرس الواحد والعشرون: أميركا هي الدولة الوحيدة التي ارتكبت الجريمة النووية
بسم الله الرحمن الرحيم
بعث قائد الثورة الإسلامية سماحة آية الله العظمى السيد علي الخامنئي لا السبت رسالة إلى المؤتمر الدولي لنـزع السلاح النووي وعدم نشره، والذي تستضيفه طهران حالياً. وجاء في نص الرسالة:
أرحب بكم أيها الضيوف المحترمون المجتمعون هنا. وإنها لسعادة أن تستضيف الجمهورية الإسلامية الإيرانية الاجتماع الدولي لنـزع السلاح، على أمل أن تُستغل هذه الفرصة السانحة للوصول إلى نتائج قيمة ومستمرة تقدمونها للبشرية عبر الحوار والتشاور بينكم.
إن علوم الذّرة تعدّ إحدى أكبر النتائج العلمية التي تستطيع أن تكون، ويجب أن تكون، في خدمة رفاه شعوب العالم وتقدّم وتنمية كل المجتمعات الإنسانية. وإن سعة المساحة التي تؤثّر فيها علوم الذرة تغطي مجموعة كبيرة من حاجات الطب والطاقة والصناعة، وكلٌّ منها يمتلك أهمية خاصة.
ولهذا يمكن القول إن التقنية النووية حظيت بمكانة بارزة في الحياة الاقتصادية، وهي تزداد أهمية بشكل ملحوظ على مر الزمان وتزايد الحاجات في مجالات الصناعة والطب والطاقة، وبنفس المقدار تتصاعد الجهود للحصول على الطاقة الذرية والاستفادة منها.
وإن لشعوب منطقة الشرق الأوسط ـ مثلها مثل باقي شعوب العالم المتعطشة للسلام والأمن والتقدم ـ الحق عبر الاستفادة من هذه التقنية لضمان الموقع الاقتصادي لها، والمكانة الأفضل لأجيالها الآتية.
وربما كان الهدف من هذه الضجة واللغط الذي يثار حول البرامج النووية السلمية للجمهورية الإسلامية الإيرانية يتمثل في عرقلة الاتجاه الجاد لشعوب المنطقة للحصول على الحق الطبيعي القيم.
ومما يدعو للسخرية أن المجرم الذري الوحيد في العالم يدّعي اليوم أنه يكافح لمنع انتشار السلاح النووي، في حين أنه لم ولن يقدم حقاً على أي خطوة جادة في هذا السبيل. ولو لم يكن الإدعاء الأمريكي كاذباً في منع انتشار السلاح النووي فهل كان بمقدور النظام الصهيوني ـ بالإضافة إلى امتناعه عن قبول القوانين الدولية في هذا المجال ولا سيما قرارات معاهدة ال (ان بي تي) ـ أن يحول الأرض الفلسطينية المحتلة إلى ترسانة لكمية هائلة من الأسلحة الذرية؟
142
131
الدرس الواحد والعشرون: أميركا هي الدولة الوحيدة التي ارتكبت الجريمة النووية
إن الحديث عن الذّرة كما يوضح مدى التقدّم العلمي الإنساني يذكّر بكل أسف بأسوأ واقعة تاريخية وأكبر عملية تصفية عرقية، واستغلال سيىء للمعطيات العلمية والإنسانية.
ورغم أن هناك أقطاراً متعددة أقدمت على إنتاج وتخزين الأسلحة النووية، وهذا بنفسه قد يعد مقدمة لارتكاب الجريمة، وتهديداً للسلام العالمي، ولكن دولة وحيدة فقط ارتكبت الجريمة النووية وهي الولايات المتحدة الأمريكية التي هاجمت الشعب الياباني المظلوم في هيروشيما وناكازاكي في حرب غير متكافئة وغير إنسانية.
ومنذ أن أدّى تفجير أول سلاح ذرّي بواسطة الولايات المتحدة في هيروشيما وناكازاكي إلى كارثة إنسانية ذات أبعاد غير مسبوقة في التاريخ، والأمن الإنساني يواجه تهديداً عظيماً، ما دعا العالم للإجماع القاطع على ضرورة القضاء على هذا السلاح.
إن استخدام السلاح الذري لم يؤدّ إلى القتل والخراب الواسع فحسب، بل لم يميز بين أفراد الشعب، العسكريين وغيرهم، الصغار والكبار، النساء والرجال، اليافعين والطاعنين في السن، وتجاوزت آثاره كل الحدود السياسية والجغرافية، بل وجهت آثاراً كارثية لا جبران لها إلى الأجيال الآتية. ولذا فإنّ أي استخدام بل وأيّ تهديد باستخدام هذا السلاح، يُعد خرقاً حقيقياً مسلماً به للقواعد الإنسانية، ومصداقاً بارزاً للجرائم الحربية. ومن زاوية عسكرية وأمنية، وبعد حصول بعض القوى على هذا السلاح المعادي للإنسانية، لم يبق أي ريب في أنّ النصر في الحرب النووية غير ممكن، وأن الخوض في مثل هذه الحرب أمر غير عقلاني ولا إنساني.
ولكن، ورغم البديهيات الأخلاقية والعقلانية والإنسانية وحتى العسكرية فإنّ الحاجة الإنسانية المؤكّدة والمتكررة للمجتمع الإنساني لمحو هذه الأسلحة تم تجاهلها من قِبَل ثلة من الدول التي بَنَت أمنها الوهمي على أساسٍ من التهديد الجماعي للعالم.
إن إصرار هذه الدول على حفظ ومضاعفة القدرة التخريبية لهذه الأسلحة التي لم ولن يكون لها أثر عملي إلا الإرعاب والإرهاب الجماعي وتحقيق الأمن الوهمي القائم على الردع الناشئ عن الدمار الشامل المضمون، سيؤدي إلى استمرار الكابوس الذري في العالم.
لقد تم صرف الموارد المالية والإنسانية التي تفوق حدّ الإحصاء في تنافس غير عقلاني ولا منطقي لتحصل القوى الكبرى على قدرة وهمية تستطيع معها أن تقضي عشرات آلاف المرات على القوى المنافسة لها وباقي سكان العالم وحتى ما يشملها هي أيضاً. وليس من الغريب أن تسمّى هذه السياسة الإستراتيجية بالردع المبني على الدمار الشامل المتبادل والمضمون أو توصف بالجنون.
وراحت بعض الدول النووية في السنوات الأخيرة تتخطى نظيرة الردع تجاه القدرات النووية الأخرى والتي ترتكز على الدمار المتبادل المضمون، فتؤكد في إستراتيجيتها النووية على الاحتفاظ بالخيار النووي حيال التهديدات المتعارفة من قِبَل الذين ينقضون معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، في حين أن أكبر المنتهكين لهذه المعاهدة هو القوى التي تقوم بالإضافة إلى خرق تعهداتها في المادة السادسة بالنسبة إلى سلاحها النووي ـ وحتى بالتنافس وإحراز قصب السبق دون غيرهما بنشر هذه
143
132
الدرس الواحد والعشرون: أميركا هي الدولة الوحيدة التي ارتكبت الجريمة النووية
الأسلحة على كل صعيد ومنها ما قدمته من مساعدات لتزويد النظام الصهيوني بالأسلحة النووية ودعم سياسات هذا النظام مما أعطاها الدور المباشر لنشر هذا السلاح وهو ما ينافي تعهداتها على أساس المادة الأولى للمعاهدة ويجعل منطقة الشرق الأوسط والعالم كله في مواجهة تهديد جاد، ونظام الولايات المتحدة المتعنت والمعتدي يقف على رأس هذه الدول. ولذلك فمن الأجدر للمؤتمر الدولي لنـزع السلاح بالإضافة لتحري الأخطار الناتجة من إنتاج وتخزين الأسلحة النووية في العالم، أن يدرس بشكل واقعي الأساليب العلمية لمواجهة هذه التهديدات ضد الإنسانية ليكون بالإمكان التقدم خطوة عملية في مسيرة الدفاع عن الأمن والاستقرار العالمي.
ونحن نرى أن باقي أنواع أسلحة الدمار الشامل كالأسلحة الكيماوية والأسلحة الجرثومية أيضاً بالإضافة للأسلحة الذرية تشكل تهديداً حقيقياً للإنسانية.
والشعب الإيراني الذي يُعدّ ضحية لاستخدام الأسلحة الكيماوية يشعر أكثر من غيره من الشعوب بخطر إنتاج وتخزين مثل هذه الأسلحة وهو مستعدٌ لوضع كل إمكانياته بغية مواجهتها.
نحن نقول بحرمة استخدام هذه الأسلحة ونرى أن السعي نحو حماية أفراد البشرية من خطر هذا البلاء العظيم يشكل مسؤولية وواجباً عاماً على جميع المسلمين.
السيد علي الخامنئي
الأول من جمادى الأولى 1431.ق
144
133
الدرس الثاني والعشرون: الممرّضات النموذجيات
الدرس الثاني والعشرون: الممرّضات النموذجيات
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ولادة السيدة زينب عليها السلام
المناسبة: ذكرى ولادة السيدة زينب عليها السلام ويوم الممرضة.
الحضور: جمع غفير من الممرضات النموذجيات.
المكان: طهران
الزمان: 6/5/1431.ق.
1/2/1389.ش.
21/4/2010م.
145
134
الدرس الثاني والعشرون: الممرّضات النموذجيات
بسم الله الرحمن الرحيم
بداية أبارك لكم جميعاً إخواني وأخواتي الأعزاء والممرضات المحترمات يوم الممرضة وأيام ولادة زينب الكبرى، هذه المرأة التي هي أنموذج لتاريخ البشرية. وكلّنا رجاء من الله أن يثيبكم على هذه الخدمة الكبرى، وهذه المساعي الفائقة الأهمية فيشملكم برحمته وهدايته وفضله أنتم وجميع الممرضين في البلد وقطاع العاملين في ملف الصحة.
إنّ أساس كلامنا ولقائنا اليوم يتوجّه إلى تقديم الشكر على جهود الممرضين. وإنه لمن المناسب حقاً أن يقدّم الإنسان شكره لكل قطاع التمريض في البلاد، ويقدّر هذا العمل الكبير ذا العناء الكثير والمسؤولية الثقيلة التي تحمّلتموها.
إنّ قضية الصحة تُعدّ من أولى القضايا المهمّة في حياة المجتمعات. فالحديث المعروف: "نعمتان مجهولتان الصحة والأمان" يشير بحق إلى أمرٍ أساس وحياتيّ. فالصحة والأمان من النعم الكبرى التي ما لم يُحرم الإنسان منهما لن يدرك أهميتهما وقيمتهما، كالهواء والتنفّس، فما دام الإنسان متنفساً، لا يدرك أهمية هذه النعمة المجّانية المتوافرة، وإذا صعُب عليه التنفّس يدرك عندها أية نعمة كبرى قد أضاعها. وقطاع الطب والتمريض وسائر الأجهزة الصحية هو في الواقع سبب تأمين هذه النعمة الكبرى للمجتمع. وإن دور الممرضة في هذا المجال يُعدّ دوراً بارزاً جداً، فالممرّض يبقى في سعيٍ وتحدٍّ مستمرٍّ على المستوى الروحي والنفسي، فليست القضية منحصرة ببدنه. فالتعب الروحي للتعامل مع المريض والشعور بالمسؤولية بأن يقدّم لهذا المريض ـ بالإضافة إلى العلاج الجسماني ـ العلاج الروحي والمعنوي هو قضية مجهدة جداً وعملٌ ثقيل، فمثل هذه المسؤولية الثقيلة يتحمّلها الممرضون.
تأكّدوا أن كل لحظة، وثانية أو دقيقة تقضونها في مثل هذا العمل ـ ومع الالتفات إلى الشعور بالتكليف تجاه المريض، هذا الإنسان المبتلى ـ تُعدّ حسنة من الله تعالى ولها ثوابٌ وأجرٌ تنالونه من الرب المتعال. وفي الحسابات الإلهية لا تضيع أية ثانية. فلا يجوز أن نظن أنّ هذه اللحظات الصعبة التي يقضيها الممرّض إلى جنب المريض سيتمّ إغفالها في الحسابات الإلهية. كلا ليس الأمر كذلك. فكل لحظة تقضونها، وكل سعي تبذلونه، وكل نفَسٍ يصدر عنكم مقابل المشقّات التي تعانون منها هو
146
135
الدرس الثاني والعشرون: الممرّضات النموذجيات
حسنة وعملٌ يستحقّ أجراً، والله تعالى يسجّل كل هذه اللحظات. فيجب تقدير هذه الأعمال الشاقّة ذات الآثار الكبرى والمهمة.
لا شك بأن التكاليف ثقيلة أيضاً. فيجب الاعتناء بها. فالأخلاق التمريضية كالأخلاق الطبية، تُعد فريضة وتكليفاً. وإن أجركم عظيمٌ جداً مثلما أن تكليفكم أيضاً عظيم كذلك، لأن المريض إنسانٌ وليس سيارة، وهو ليس عبارة عن قطع من الحديد والفولاذ والبراغي، وليس مجرّد جسمٍ. إن روح الإنسان وأحاسيسه ومشاعره وخصوصاً إذا مرض تصبح متألّمة وتحتاج إلى الكثير من اللطف والكثير من المواساة، فابتسامة منكم أحياناً تكون أثمن من الدواء الذي يُعطى لهذا المريض ولها أثرٌ أكبر وقيمة أعلى، فالمريض يُبتلى بالاضطراب والانزعاج وخاصّة ذوو الأمراض الصعبة، وتقديم المساعدة له لا تكون مساعدة لجسمه فقط، إن البدن ينبغي أنّ يُعالج بالأدوية والحقن والعلاجات الطبية، أما الروح فتعالج بالمحبة والرأفة والملاطفة. وفي بعض الأحيان يحلّ هذا العلاج الروحي محلّ العلاج الجسماني، وهذا أمرٌ علميٌّ أثبتته التجربة حيث إنّ سرور روح الإنسان وأعصابه ومشاعره له تأثيرٌ إيجابي على بدنه. وهذا بأيديكم، بأيدي الممرّضين.
يقع على عاتق الممرّض عملٌ صعب وله أجرٌ عظيم، لكن عمله مسؤولية عظيمة كذلك. وهذا التقابل بين الوظيفة والأجر، وبين الحق والتكليف، من الأركان الكبرى للمفاهيم والمبادئ الإسلامية. وإعادة التأهيل التي تحدّث عنها الوزير المحترم ـ مما له أهميّة فائقة ـ من المناسب تحقيقه، ليس فقط في مجال القضايا العلميّة بل في مجال أخلاق التمريض. وفي الحقيقة ينبغي إعداد ميثاق للأخلاق التمريضية وميثاق للتمريض وعهد يتمّ تدريسه وتعليمه. الممرّض ينبغي أن يعرف عظمة عمله ــ والذي هو بالطبع متلازمٌ مع أهمية شخصيّته ـ فيؤدّي العمل كما يليق به.
وأقول لكم: عافاكم الله أيها الممرضون الأعزّاء في كل البلاد ـ وخصوصاً أنتنّ الممرّضات النموذجيات ـ، وأسأل الله تعالى أن يُعِينكم ويوفّقكم لحفظ هذه القيمة السامية التي اخترتموها لعملكم، وأن يكتب لكنّ ذلك في سِجلّ أعمالكم بواسطة الكرام الكاتبين، فتؤجرون، وتكون لكم عقبى الخير إن شاء الله.
ويتفق في الجمهورية الإسلامية يوم الممرضة مع ذكرى ولادة زينب الكبرى عليها السلام، ولهذا معنىً عظيمٌ، فزينب الكبرى أحد نماذج التاريخ البارزة التي تُظهر عظمة حضور إمرأة في إحدى أهم قضايا التاريخ. عندما يُقال إنّ الدم انتصر على السيف في عاشوراء وفي واقعة كربلاء وهو كذلك، فإن عامل هذا الانتصار هو زينب عليها السلام، وإلا فإنّ الدم في كربلاء قد انتهى. واقعة عسكرية تنتهي بهزيمة ظاهرية لقوى الحق في ميدان عاشوراء، أما ذلك الشيء الذي أدّى إلى تبديل هذه الهزيمة العسكرية الظاهرية إلى انتصار قطعيٍّ دائم فهو زينب الكبرى عليها السلام بمفردها، الدور الذي قامت به زينب عليها السلام، أمرٌ في غاية الأهمية. وقد دلّت هذه الواقعة على أن المرأة ليست موجودة على هامش التاريخ، بل هي في صلب الأحداث التاريخية الهامة.
القرآن أيضاً نطق بهذه المسألة في موارد متعددة، لكن هذا متعلق بالتاريخ القريب وليس مرتبطاً بالأمم الماضية، فحادثة حيّة ومحسوسة يشاهد فيها الإنسان زينب الكبرى تظهر بهذه العظمة المحيّرة
والساطعة في الميدان، تقوم بعملٍ يذلّ ويحقّر العدوّ الذي بحسب الظاهر قد انتصر في المعركة العسكرية واقتلع المعارضين وقمعهم وجلس على عرش النصر في مقرّ قدرته وفي قصر رئاسته، فتسِم جبينه بوصمة عارٍ أبدية وتبدّل انتصاره إلى
147
136
الدرس الثاني والعشرون: الممرّضات النموذجيات
هزيمة، هذا هو عمل زينب الكبرى. أظهرت زينب عليها السلام أنها يمكنها أن تبدّل الحجاب وعفاف المرأة إلى العزة الجهادية إلى جهاد كبير.
وما بقيَ من خطب زينب الكبرى، مما هو في متناول الأيدي، ما يظهر عظمة حركة زينب الكبرى. فخطبتها التي لا تُنسى في أسواق الكوفة لم تكن كلاماً عادياً، ولم تكن موقفاً عادياً لشخصية كبرى، بل بيّنت بتحليل عظيم أوضاع المجتمع الإسلامي في ذلك العصر بأجمل الكلمات وأعمق وأغنى المفاهيم في مثل تلك الظروف. لاحظوا قوة الشخصية، كم هي قوية هذه الشخصية. فقدت في تلك الصحراء أخاها وقائدها وإمامها مع كل هؤلاء الأعزاء والشباب والأبناء، وهذا الجمع المؤلف من بضع عشرات من النساء والأطفال قد أُسروا وأُحضروا على مرأى من أعين الناس وحُملوا على نياق الأسْر، وجاء الناس ينظرون إليهم، وكان البعض يهلل والبعض كان يبكي، ففي مثل هذه المحنة، تسطع فجأة شمس العظمة. فتستعمل نفس اللهجة التي كان يستعملها أبوها أمير المؤمنين وهو على منبر الخلافة مخاطباً أمّته، تنطق بنفس الطريقة وبنفس اللهجة والفصاحة والبلاغة وبذلك السمو في المضمون والمعنى: "يا أهل الكوفة، يا أهل الغدر والختل"، أيها المخادعون، أيها المتظاهرون! لعلكم صدّقتكم أنكم أتباع الإسلام وأهل البيت، لقد سقطتم في الامتحان وصرتم في الفتنة عمياً، "هل فيكم إلا الصَّلف والعُّجب والشَّنِف والكذب ومَلَقُ الإماء، وغمز الأعداء "، إنّ تصرّفكم وكلامكم لا ينسجم مع قلوبكم. لقد غرّتكم أنفسكم، وظننتم أنكم مؤمنون، وتصوّرتم أنكم لا زلتم ثوريين، ظننتم أنكم لا زلتم أتباع أمير المؤمنين، في حين أن واقع الأمر لم يكن كذلك. لم تتمكنوا من الصمود والنجاح في الفتنة، ولم تتمكنوا من النجاة بأنفسكم ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا﴾1 فقد أصبحتم كالتي بدّلت الحرير أو القطن إلى خيوط، ثم أرجعت تلك الخيوط ونقضتها إلى قطن أو حرير، فبدون بصيرة ووعيٍ للظروف وبدون تمييز بين الحق والباطل أبطلتم أعمالكم وأحبطتم سوابقكم. الظاهر ظاهر الإيمان واللسان مليء بالادعاءات الجهادية، أم الباطن فهو باطنٌ أجوف خالٍ من المقاومة مقابل العواصف المخالفة. فهذا ما يُعدّ تحديداً آفات تصيب المجتمع.
بهذا البيان القوي والكلمات البليغة، وفي تلك الظروف الصعبة، تحدّثت زينب الكبرى. فلم يكن الأمر بحيث نرى مجموعة من المستمعين يجلسون أمام زينب ويستمعون إليها وهي تتحدث معهم كخطيب عادي، كلا، فالجماعة هم من الأعداء، وحملة الرماح يحيطون بهم، وكان هناك جماعة في ناحية أخرى كهؤلاء الذين سلّموا مسلم إلى ابن زياد، وأولئك الذين كتبوا الرسائل وبعثوا بها إلى الإمام الحسين عليه السلام وتخلّفوا، ومنهم من كان ينبغي أن يواجه ابن زياد وقد اختبأوا في بيوتهم ـ هؤلاء كانوا في سوق الكوفة ـ وجماعة ظهر منهم ضعف النفوس وهم الآن يشاهدون ابنة أمير المؤمنين ويبكون. لقد كانت زينب الكبرى عليها السلام في مواجهة هذه الجماعات المختلفة التي لا يمكن الثقة بها، ولكنها كانت تتحدث
1- سورة النحل، الآية 92.
148
137
الدرس الثاني والعشرون: الممرّضات النموذجيات
ببيان مُحكم ورائع. فهي امرأة تاريخية، هذه المرأة لم تعد ضعيفة، ولا يصح عدّها امرأة ضعيفة. فهذا جوهر المرأة المؤمنة حيث تُظهر نفسها في مثل هذه الظروف الصعبة. هذه هي المرأة التي تُعد قدوة.
قدوة لكل الرجال العظماء والنساء العظيمات في العالم. فهي تبيّن أسباب الثورة النبوية والثورة العلوية، وتقول إنكم لم تتمكنوا من معرفة الحق في الفتنة، ولم تستطيعوا أن تعملوا بتكليفكم، وكانت النتيجة أن يُرفع رأس فلذة كبد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الرماح.. من هنا يمكن فَهم عظمة زينب عليها السلام.
إن يوم الممرضة، هو ذكرى ولادة زينب عليها السلام، وهو تحذيرٌ لنسائنا أن اكتشِفن أدواركن. فأدركِنَ عظمة كونكنَّ نساء في جعل الحجاب والحياء والعفة مع العزة الإسلامية والإيمانية سبيلاً من سبُل المقاومة. هذه هي المرأة المسلمة عندنا.
وإن عالم الغرب الفاسد أراد أن يحشو أذهان العالم حول تعري المرأة وشخصيتها من خلال الأساليب الخاطئة والمنحرفة التي تتلازم مع تحقير جنس المرأة: فلأجل أن تظهر المرأة شخصيتها ينبغي أن تمتع أنظار الرجال. فهل هذه هي شخصية المرأة؟! وأن تضع حجاب العفاف جانباً وتتظاهر لكي يستمتع الرجال. فهل هذا تعظيمٌ أم تحقيرٌ للمرأة؟ هذا الغرب المستغرق في سكرته وخباله لا يعرف شيئاً مما يجري، وتحت تأثير الأيادي الصهيونية رفع ذلك كعنوان لإجلال المرأة، وقد صدّق بعض الناس هذا الأمر.
إنّ عظمة المرأة لا تكمن في جذب أنظار الرجال وهوس المهووسين إلى نفسها، وليس هذا فخراً للمرأة، وليس هذا تعظيماً لها بل هو تحقير للمرأة. إن عظمة المرأة في تمكّنها من الحفاظ على الحجاب والحياء والعفاف الأنثوي الذي أودعه الله في جبلّتها، فتقوم بجعل هذا كله مع العزة الإيمانية، وتضيف إليه الشعور بالتكليف والمسؤولية، فتُعمل تلك اللطافة في محلّها وذاك الحزم الإيماني في محلّه. فمثل هذا التركيب الدقيق مختصٌّ بالنساء فقط، ومثل هذا العمل الدقيق من اللطف والحزم من خصائص النساء. هذا هو الامتياز الذي أعطاه الله تعالى للمرأة. لهذا يضرب في القرآن مثلاً للإيمان ـ ليس نموذجاً لإيمان النساء، بل نموذجاً لإيمان كل الناس نساء ورجالاً ـ امرأتين: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ﴾1، ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ ﴾2 فهاتان إشارتان ودلالتان على منطق الإسلام.
إنّ ثورتنا هي ثورة زينبية. منذ بداية الثورة قامت النسوة بأحد أبرز الأدوار فيها، سواء في نفس واقعة الثورة الكبرى أو في تلك الواقعة العظيمة للدفاع المقدّس طيلة السنوات الثماني، ودور الأمهات، ودور الزوجات، وإذا لم يكن أكثر ثقلاً من دور المجاهدين وأكثر إيلاماً وتحمّلاً فهو يقيناً ليس بأقل. إن الأم التي ربّت ولدها وعزيزها طيلة ثماني عشرة أو عشرين سنة حتى نضج بتلك العاطفة الأمومية، ها نحن نراها ترسله إلى ميدان الحرب حيث لا يَعلم أحد إذا كان جسده سيرجع أم لا، فأين هذا العمل من نفس ذهاب هذا الشاب؟ إن هذا الشاب يتحرك بحماس مع الإيمان والروحية الثورية. فلو لم يكن عمل هذه الأم أكبر من عمل هذا الشاب فهو ليس بأقل. وإذا أرجعوا جسده فإنها تفتخر بأن ولدها شهيد. فهل أن هذه الأمور قليلة؟ إن هذه الحركة النسوية هي حركة زينبية في ثورتنا.
1- سورة التحريم، الآية 11.
2- سورة التحريم، الآية 12
149
138
الدرس الثاني والعشرون: الممرّضات النموذجيات
أعزائي، أخواتي، إخواني! إن ثورتنا قد مضت هذا الطريق قُدُماً. وقدرتها وعظمتها إنما كانت بهذه الأمور، بالتمسك بالمعنويات المدعومة من اللطف الإلهي. وعندما أراد العدو أن يشمت بزينب الكبرى لما جرى عليها قالت: "ما رأيت إلا جميلاً"، فقد قطّعوا إخوتها وأبناءها وأعزاءها وأقرب أنصارها أمام ناظريها إرباً إرباً، وسفكوا دماءهم ورفعوا رؤوسهم فوق الرماح وهي تقول: جميل! فأي جميل هو هذا؟ لاحظوا هذا الجميل بما نُقل من أن زينب الكبرى لم تترك صلاة الليل حتى في ليلة الحادي عشر. طول مرحلة الأسر لم يضعف انقطاعها إلى الله وتوجهها إليه وتعلقها به، نعم، لم يقلّ بل ازداد. هذه المرأة هي القدوة.
إنّ تلك الرشحات الربانية التي تنزّلت من هذه الحقيقة في مجتمعنا وفي ثورتنا هي التي أعطت العظمة لهذه الثورة. فهذه الأمور هي التي جعلت شعب إيران في هذا الزمان ـ ورغم كل العداوات ـ ملهماً للشعوب ورغم أنف العدو. إنّ شعب إيران اليوم يعدّ شعباً ملهماً بين الشعوب المسلمة. ولا شك بأن الأعداء لا يعجبهم هذا الأمر ولهذا يسعون إلى خنق صوته، ولكن واقع القضية هو هذا.
ليست قدرة هذا الشعب بالصاروخ والقذيفة والدبابة والطائرة والآلات الحربية، فهذه أمورٌ لا بدّ منها ونحن نمتلكها والحمد لله، ولكن قدرة هذا الشعب بإيمانه. فشعبنا بتوفيق الله وهدايته وعونه قد تقدّم تقدّماً نوعياً في المجالات المتعلقة بالصناعات الثقيلة. فالإمكانات التي نمتلكها اليوم، كما أنها لا تُقاس بما كان موجوداً في بدايات ثورتنا ـ وبطريق أَولى قبل الثورة ـ كذلك لا تُقارن بما هو موجود في الكثير من الدول التي لم تعانِ طيلة سنوات مديدة ما عانيناه من مشاكل، لقد كانوا متشبثين بمعونات الأجانب والأعداء. والحمد لله فإن شعب إيران متقدّمٌ جداً في هذه الجهات، ولكن هذه الأمور ليست أساس قدرتنا. إن قدرة الدولة الإسلامية والشعب الإسلامي تكمن في إيمانه، ذلك الجوهر الإيماني الموجود فيه. وبالنسبة إليه لا يهم إذا كان يمتلك هذه الإمكانات المادية أم لا. فقبل ثلاثين سنة وقف هذا الشعب.
واليوم وبعد ثلاثين سنة من الحظر والتهديد والاجتياح العسكري والتآمر والشبكات السياسية والأمنية، لا زال هذا الشعب ويوماً بعد يوم وبشكل تصاعدي في حالة النمو والتقدّم، وهو لم يعرف التراجع ولا التوقف، بل إن تطوره ونموه كان بصورة استثنائية غير عادية. لهذا فإنّ عظمة شعب إيران تعود إلى هذا الجوهر الإيماني.
والآن يأتي الذين لا يعقلون ليهددوا شعب إيران! فرئيس الولايات المتحدة هدّد الأسبوع الماضي تلميحاً وإشارة بالنووي. إنّ مثل هذه التهديدات لا تنفع مع شعب إيران، لكنها صارت وصمة عار في التاريخ السياسي لأمريكا، وقد أضحى نقطة سوداء في سجلّ دولة أمريكا، أيهددننا بالنووي؟! ها قد انكشف ما يجري وراء كواليس الاستعراضات المطالبة بالسلام واحترام الإنسان والمصرة على المعاهدات النووية.
لقد عُلم ما هو الشيء الذي يختفي وراء استعراض مد يد الصداقة. فأدبيات الثعالب تبدّلت إلى أدبيات الذئاب. حتى اليوم كانوا يقولون إننا نمدّ يد الصداقة، ونحن كذا وكذا، وقد عُلم ماذا تخفي القضية. لقد عُلم ماذا تريد تلك الطبيعة الدموية والتسلطية.
150
139
الدرس الثاني والعشرون: الممرّضات النموذجيات
إنّهم يريدون أن يجعلوا النووي والقدرة النووية وسيلة للتسلط على العالم. فهم القوى النووية، هذه حقيقة الأمر. هدفهم أن يجعلوها وسيلة وأداة للتسلّط على الشعوب والعالم. فلا يوجد أي واحد من هؤلاء قد وقّع على المعاهدات النووية للوكالة الدولية للطاقة النووية ولا قَبِل بها، ولا عمل بها. هذه أكاذيب واضحة. هؤلاء إذ يعترضون على غيرهم من الدول لأنّها لم تعمل بهذا البند من المعاهدة أو ذاك البند، هم أنفسهم لا يقبلون بها، إنّهم لا يريدون أي منافس يقف بوجههم في ميدان القدرة النووية والسلاح النووي، هذه هي القضية.
إنّ سياستنا النووية واضحة، فلقد قلنا مراراً وتكراراً: نحن لسنا ممن يستعمل أسلحة الدمار الشامل، ولكن فليعلموا أنهم لن ينتصروا في مواجهة الشعب بمثل هذه التهديدات والأراجيف. فإن شعب إيران سوف يذلّهم ويركّعهم أمامه، رغم كلّ ادعاء اتهم. لا يحقّ للمجامع العالمية أن تتجاهل هذا التهديد الصادر عن رئيس الولايات المتحدة، ولا يحق لهم أن يتناسوه، وعليهم أن يتابعوه، لماذا تهدد بالنووي؟ لماذا تهدد بتخريب العالم؟ لماذا تجرؤ على مثل هذا الخطأ؟ لا ينبغي لأي أحد أن يتجرّأ على مواجهة البشرية بمثل هذه التهديدات، فنفس التفوه بهذا الكلام خطأ. وحتى لو قالوا بأنفسهم: كلا، نحن لا ننوي ذلك، وقد أخطأنا إذ تفوّهنا بذلك. لا ينبغي أن يُجْروه على ألسنتهم. ولا يجوز المرور بهذه البساطة على هذه التصريحات التي تهدد السلم الإنساني وأمن المجتمع العالمي.
ولا شك بأنّ شعب إيران لا يمكن أن يُهزم مقابل هذه الكلمات. فلا يمكنهم أن يدفعوا شعب إيران إلى التراجع بمثل هذه الأمور. نحن لن نسمح للأمريكيين بهذه الوسائل والأدوات أن يعودوا للتسلط الجهنمي على بلدنا، فلن يسمح شعب إيران بهذا.
لا زال من أمانيهم ذاك التسلّط الذي مارسوه على هذا البلد لسنوات متمادية وبواسطة خيانة الحكومة البهلوية الطاغوتية، لعنة الله وعباد الله عليها. إنهم يرون ذلك في منامهم وشعب إيران لن يسمح بمثل هذه الأمور. ونحن رغماً عن العدو، سوف نتقدّم في جميع الميادين بتوفيق الله وعونه وفضله، فاعلموا ذلك، إن شبابنا يبذلون المساعي. وبمشيئة الله سيتغلّب الإيمان المتزايد لشبابنا وبصيرة شعبنا المتصاعدة على هذه التهديدات، وسوف يتغلّب على تلك الأراجيف التي استعملوها من أجل إيجاد الاضطرابات في الأوضاع الداخلية للبلاد، من قبيل ما حدث في السنة الماضية إن شعبنا هو شعبٌ بصير، شعبٌ مؤمن.
ونسأل الله تعالى أن يزيد هذه البصيرة يوماً بعد يوم ببركة الأدعية الزاكية لحضرة بقية الله عجل الله تعالى فرجه الشريف، وأن ينتصر شعب إيران إن شاء الله في جميع الميادين ويشمخ بعزّة.. وستشعرون وترون أنتم الشباب إن شاء الله في المستقبل غير البعيد عظمة بلدكم وتقدّم بلدكم واحتياج هذه القوى العظمى نفسها.
رحمة الرب المتعال على روح إمامنا العظيم المطهّر وأرواح شهدائنا الأطهار.
ونسأل الله تعالى أن يوفقكم جميعاً ويؤيدكم وينصركم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
151
140
الدرس الثالث والعشرون: التقدّم، العلم، والإنتاج
الدرس الثالث والعشرون: التقدّم، العلم، والإنتاج
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة يوم العامل
المناسبة: بمناسبة يوم العامل
الحضور: العمال النموذجيون من جميع أنحاء البلد.
المكان: طهران
الزمان: 8/2/ 1389.ش
13/5/1431.ق
28/4/2010م
153
141
الدرس الثالث والعشرون: التقدّم، العلم، والإنتاج
يسم الله الرحمن الرحيم
إنّ أيّام أسبوع العامل لا تتعلّق بعمّالنا الأعزاء فقط، بل هي مرتبطة بجميع الإيرانيين، لأن شريحة العمّال في الواقع تمثّل أحد الصفوف الأمامية في الحركة العامة للبلد والشعب من أجل بناء المستقبل. وما يبيّنه الإسلام فيما يتعلّق بالعامل ـ بالمعنى العام للكلمة ـ ليس مجاملة وليس لأجل الإرضاء. فعندما ينحني نبي الإسلام العظيم ويقبّل يد عاملٍ فلا ينبغي حمل هذا الفعل على مجرد المجاملة، إنّه تأسيسٌ ثقافي، ويُعدّ درساً، وهذا كله من أجل تقدير قبضة العامل الماهر وعضده النشيط في الأمة الإسلامية وعلى مرّ الزمان والتاريخ. إننا ننظر بهذه العين إلى شريحة العمّال. العامل العادي، العامل الماهر، المهندس، المصمّم، وكل أولئك الذين يبذلون الجهود في كل مراحل الإنتاج هم مشمولون بهذا التكريم والإجلال في الإسلام.
إن مطالب العمّال ـ التي هي مطالب ماديّة ـ محفوظة في محلها، وعلى الجميع أن يتابعوا هذه المطالب المادية التي هي حق، وعليهم أن يؤمّنوها، لكن هناك مطالب معنوية وهي تتعلق بشأن العامل، الاهتمام بنشاطه وسعيه، من أجل أن يُفهم أن هذا جهادٌ، فهذا أمرٌ مهم. فالعامل خلف الآلة أو حين التصميم والتخطيط، أو في العمل في المزرعة، أو في أي مكانٍ يعمل فيه على الإنتاج ويؤدي إلى الإنتاجية، يجب أن يشعر بأنّه يحقق عملاً كبيراً مهماً قيّماً، هذا ما يريد الإسلام بيانه، وهذا هو اعتقادنا القلبي. ويوجد فارق كبير بين هذه النظرة ونظرة العالم المادي ـ سواء العالم الرأسمالي أو العالم الاشتراكي ـ الذي ينظر إلى العامل كأداة.
فاليوم في العالم الرأسمالي، وبالرغم من تمتّع بعض العاملين من ناحية الامتيازات المادية بوضعٍ جيد ـ فليس هذا الأمر عاماً، وإنما هو لبعضهم ـ لكنه بنظر المدراء وواضعي السياسات في العمل والإنتاج ليس سوى أداة أو آلة، له قيمة ما دام قادراً على إنتاج القيمة المادية والأرباح. ويوجد فارق كبير بين هذه النظرة إلى العامل والنظرة التي تراه مجاهداً في سبيل الله. حيث يتخذ العمل الذي يؤدّيه ما هو أبعد من جميع الأجور المادية، وهو الأجر الإلهي والقيمة والثواب الإلهيين، وما بين هذين الأمرين فاصلٌ عميق، فهذا المطلب لازمٌ، وهو ذاك الاحتياج الحقيقي.
في النظام الإسلامي، في الجمهورية الإسلامية لبلدنا العزيز، فإن شريحة العمّال ومنذ بداية الثورة وإلى اليوم قد عبرت الامتحان بشكلٍ رائع. ففي مرحلة الحرب المفروضة، شاهد كل من كان فيها ورأوا حضور شريحة
154
142
الدرس الثالث والعشرون: التقدّم، العلم، والإنتاج
العمّال العظيمة، سواء عمّال المدن أو القرى، عمّال الصناعة أم الزراعة، عمّال الخدمات وغيرهم، في الميادين العسكرية أو ميادين الدعم العسكري، شاهد الجميع ورأوا كيف أن عمّالنا أدّوا دوراً مبتكراً طوال تلك السنوات الثماني. وبغير هذا، منذ بداية الثورة وإلى اليوم، فإن العمّال في نظام الجمهورية الإسلامية قد نجحوا في أصعب الامتحانات.
أنتم تعلمون أن طبقة العمّال والشعارات السياسية التي تُقدّم لهم في كل أنحاء العالم كانت دوماً إحدى أوراق الضغط بوجه الحكومات. وفي نظام الجمهورية الإسلامية سعى أعداؤنا منذ البداية لاستخدام هذه الورقة ضد الجمهورية الإسلامية. فأنا بنفسي قد ذهبت في أيام 19 و20 و21 و22 بهمن لسنة 57 (أيام انتصار الثورة) بسبب حادثة وقعت أو مشكلة وصلتنا، إلى أحد مصانع جادة مدينة كرج. وأخبرني العمّال أنفسهم، وجاءنا الخبر من ذاك المصنع، أن مجموعة من المرتبطين بالجماعات الماركسية واليسارية قد ذهبوا إلى هناك وهم عازمون على إقامة مقرٍّ لهم حيث إن تلك المنطقة تمثّل موطن العمّال لما فيها من تجمّع كبير للمصانع ـ وجمع العمّال من أجل تحريكهم باتجاه بيت الإمام ونحو المدرسة العلويّة حيث كان الإمام، متصورين أنّهم يتمكّنون من السيطرة على الأوضاع والإمساك بزمام الأمور. فذهبت إلى هناك، وكان في ذلك المصنع حوالي 400 عامل.
اجتمع بعضهم في قاعة الاجتماعات وكان فيها حوالي 800 شخص، مما يعني أن هناك من جاء من غير العمال. ولعدّة أيّام كنت أذهب إلى ذلك المصنع صباحاً وأرجع عصراً، وفي أحد الأيام وقفت على المنبر حوالي 7 ساعات أتحدث وأخطب، فكان يخرج من بينهم من يطلق الشعارات ويحاجج وكنت أجيب وأوجّه. وفي النهاية قام العمّال أنفسهم بطرد تلك الجماعة المخرّبة من المصنع. فمنذ ذلك اليوم وإلى يومنا هذا يُعدّ إيجاد الشعار السياسي، والإمساك بهيكل السلطة بواسطة العمّال، جزء من برامج أعداء الإسلام وأعداء الجمهورية الإسلامية ضد الإسلام والنظام الإسلامي. ثلاثون سنة وهم يسعون من أجل استخدام هذه الورقة ضد نظام الجمهورية الإسلامية ولثلاثين سنة يقوم عمّال بلدنا بردّهم خائبين. هذا ما نعرفه عن طبقة العمّال. فهذه هي العلاقة الحميمة بين العمّال والنظام الإسلامي المبنية على الإيمان، والقائمة على الأساس المحكم الذي بُني عليه النظام الإسلامي ووُجد. لهذا فإنّ الحركة الجماعية للبلد على طريق الإنتاج ستتقدّم من خلال محورية العامل ورب العمل، ولن يتمكّنوا من تحقيق أي إخلالٍ.
لننظر الآن إلى ماهية القضية. إنّ التقدّم المادي للبلد يعتمد بالدرجة الأولى على عنصرين: الأول عنصر العلم، والثاني عنصر الإنتاج. فما لم يوجد العلم سيُخفق الإنتاج. فالبلد يتقدّم بالعلم إذا وُجد العلم، ولكن لم يُبنَ الإنتاج على أساسه في تطوره وتكامله ونموه، فإنّ البلد سيصاب بالجمود أيضاً. لقد كان العيب في مجال العمل في عصر حكومة الطواغيت هو أنّنا لم نكن نمتلك العلم، ولأننا لم نكن نمتلكه فلم يكن لدينا إنتاج متطور ومتكامل يعتمد على أسس العلم. لهذا فإنّ العالَم عندما نزل إلى ميدان الصناعة تطور. قارّة آسيا التي جاءت إلى هذا الميدان متأخرة عن أوروبا تطوّرت، أما نحن وبسبب حكومة هؤلاء الطواغيت وغيرها من الأسباب بقينا متأخرين. إذا أردنا أن نجبر ما فات ـ ونحن نريد، وشعبنا قد تحرّك في هذا الاتجاه وحقّقّ الكثير ـ فعلينا أن نولي اهتماماً للعلم والإنتاج. فيجب
155
143
الدرس الثالث والعشرون: التقدّم، العلم، والإنتاج
المتابعة وفي مراكز العلم، في مراكز الأبحاث بالمناهج الحديثة. ولعدّة سنوات وأنا أؤكد على قضية العلم، والحمد لله فإنّ عجلات التقدّم العلمي والإنتاج العلمي قد انطلقت في البلد، لا شك بأن هذا ينبغي أن يتسارع، فنحن لا زلنا في أول الطريق.
العنصر الثاني هو الإنتاج. الإنتاج، سواء في مجال الصناعة أو الزراعة يتمتّع بالأولوية. فالبلد غير المنتج سيُبتلى بالتبعية شاء أم أبى، ولو كان كل هذا النفط والغاز في العالم موجوداً تحت أرضنا وفي آبارنا فإنّه لن ينفعنا، مثلما أنكم ترون بعض الدول التي تحتوي على ثروات هائلة من المعادن وغيرها ـ سواء كانت ثروات الطاقة، أو المعادن النفيسة والنادرة ـ ومع ذلك فإنّهم يعيشون عيشة مأساوية فوق تلك الأرض المليئة بكل تلك الكنوز الباطنية. ينبغي أن يتقدّم الإنتاج في البلد وخصوصاً الإنتاج القائم على العلم والمعتمد على المهارات العلمية والتجربية، وهذا الأمر بيد العامل ورب العمل، وإدارته بيد الدولة، وعليها أن تقوم بتنظيم الأمور وبذل الجهد. هذه السياسات المطروحة في المادة 44 والتي قمنا بإبلاغها لجميع الأجهزة الحكومية والتشريعية قبل عدّة سنوات، يمكن أن تؤدي الدور المطلوب، غاية الأمر أنّه يلزم من ذلك منتهى الدقة والتحرّي فيها.
الإنسان موجودٌ عجيب. أعزائي.. فأحياناً يمكن أن تصبح العبادة وصلاة الليل وسيلة لنفوذ الشيطان، وسيلة تخدع بها النفس صاحبها الذي يصلي صلاة الليل. فجميع الأفكار الجيدة والشريفة يمكن أن تصبح منفذاً للشيطان. إنّ السياسات المتعلقة بالمادة 44 هي جيدة جداً ولازمة جداً وينبغي أن تُنفّذ بتوسعة تامة، ولكن فلنراقب حتى لا تتحول إلى صلاة الليل تلك التي أصبحت فخاً يستعمله الشيطان. فمن هنا يمكن للشياطين أن ينفذوا. لقد قلت مراراً إنّ أولئك المستغلّين والذين يعرفون القوانين ويخرقونها وأولئك الذين يعرفون كيف يمكن أن يمسكوا بزمام أرباب العمل والمرؤوسين والأشخاص العاديين والبازاريين من أجل تحويلهم إلى فريسة سائغة، فهؤلاء يشترون المصنع ثم يسوونه بالأرض تحت حجج مختلفة ويسرّحون عماله.. وفيما بعد، بعد أن تخرب الآلات في هذا المصنع يبيعونها ويبيعون أرضه بالملايين، ومثل هذه الأعمال قد حدثت وتحدث، فعلى الجميع أن يتنبهوا.
القضية الأخرى في مجال العمل هي علاقة العامل برب العمل. فكلٌّ من المنهجين اللذين كانا مستعملين في عالمنا اليوم ـ المنهج الاشتراكي والمنهج الرأسمالي على خطأ. ففي منطق الفكر الاشتراكي يكون العامل ورب العمل ضدين وعدوين متقابلين يتربص كل منهما بالآخر، هذا كان منطقهم، وسبيل الحل الذي قدّموه كان طريقاً ضالاً وباطلاً وخاطئاً: وهو أن تتملّك الدولة جميع مصادر الإنتاج ووسائله، حيث إنّه بعد مرور عدة عقود وصل إلى تلك الفضيحة.وهذه نظرة كانت قائمة على العداء والصراع بين العامل وربّ العمل. النظرية الأخرى هي نظرية المنطق الغربي الذي يكون فيه رب العمل مسلطاً على العامل وبيده زمامه، ويكون العمال وسيلة بيده وتحت إمرته. وهذا أيضاً يُعدّ تحقيراً لشخصية الإنسان، فهو خطأٌ فوق خطأ، وكلاهما على خطأ. أما نظرة الإسلام فليست كذلك. بل هي مبنية على التعاون.
فهذان عنصران بامتزاجهما يتحقق العمل. وخلافاً للنظرة اليسارية والماركسية التي تعتبر كل شيء مبنياً على أساس التضاد ـ والتي بحمد الله قد مُحيت من صفحة الفكر الفلسفي في العالم ـ فإن نظرة
الإسلام هي نظرة الالتئام والتعاون. فبدلاً من أن يكون العنصران في حالة من التضاد لإنتاج موجود ثالث، فإنهما يلتئمان لأجل إيجاد هذا الموجود الثالث. هذه هي نظرة الإسلام ونظرة الطبيعة والسنّة الإلهية وقوانين الخلقة. وفي كل قضايا العالم الأمر كذلك، سواء في القضايا الطبيعية أو السياسية أو التاريخية أو الاقتصادية وغيرها. فنظرية الإسلام في
156
144
الدرس الثالث والعشرون: التقدّم، العلم، والإنتاج
مقابل نظرية التضاد الماركسية هي نظرية الالتئام والائتلاف والتعاون والانسجام. وفيما يتعلق بقضية العامل ورب العمل، الأمر كذلك.. إنّهما عنصران يجب أن يمسك كل منهما بيد الآخر حتى يتحقق العمل والإنتاج. فالعامل لا يمكنه أن يقوم بعمله بدون رب العمل، ورب العمل لا يمكنه أن يفعل شيئاً بدون العامل. إنّهما جنباً إلى جنب إذا أقاما علاقة سليمة أخلاقية وإنسانية فإنّ الظروف تصبح مهيّئة لزيادة الإنتاج.. وبالإضافة إلى التقدم المادي يؤدي ذلك إلى بعث المعنويات، هذه هي نظرتنا.
نحن لا نعتبر رب العمل، كما يراه التيار اليساري، ملعوناً ومطروداً ولا كالتيار اليميني سلطاناً ومسيطراً، كلا، فربّ العمل يمكن أن يكون عنصراً شريفاً ـ عندما يتعاون بالحقيقة يكون شريفاً ـ إلى جنبِ عنصرٍ شريفٍ آخر هو العامل، فمعاً ويداً بيد يتحركان بعلاقات إنسانية وإسلامية بيّنة. وهذا ما يشكل أساس العمل. وعلى الجميع أن يتحركوا في هذا الإتجاه. المخططون وواضعو السياسات والسياسيون والذين يشرفون على مرحلة التنفيذ يجب أن يتحركوا بهذا الاتجاه ويعملوا.
عندها فإن العامل ورب العمل يجب أن يسعيا بإخلاص كامل للتقدّم بالبلا من خلال نتاج عملهما. نحن متأخرون أيها الأعزاء! لا شك بأننا إذا قارنّا عصرنا بعصر الطاغوت نكون متقدّمين جداً. ففي مرحلة الطاغوت كنا بحاجة إلى الأجانب في أصغر قطعة وجزء من مجموعة الإنتاج والآلات والمصانع والصناعات. كانت المصانع تُنتج، وكانت صناعات تجميعية وتابعة للأجانب 100%.
فما كنّا نعرف كيف نصمّم ولا كيف نصنع، ولا نعرف العناصر اللازمة. كان علينا أن نأخذ كل شيء من الآخرين، وكنا نترجّى وندفع النقد والمال والعزّة والقدرة السياسية ونصبح بعد مدّة تحت سلطتهم من أجل الحصول على الأشياء. واليوم فإن شعب إيران يصدّر الخدمات الفنّية. إن بلدكم اليوم يُعدّ من أبرز البلاد وفي المرتبة الأعلى على صعيد بناء السدود ومحطات الطاقة على مستوى العالم.
فأين هذا وأين ذاك! اليوم الأعمال التي تقومون بها ـ الأعمال الصناعية، الخدمات الصناعية، والخدمات الفنّية ـ لها زبائن في الكثير من الدول. وأنتم الآن تقومون بتأسيس خطوط الإنتاج في الكثير من دول العالم. هذا الكلام لم يكن له أي معنىً من الأساس في زمن الطاغوت، أن نذهب إلى دولة مكتظة بالسكان، أحياناً تكون دولة نفطية عامرة بالثروات، ثم يتم إحداث خطوط إنتاج فيها،! ونقوم أيضاً بالإنتاج الصناعي.! لم يكن لمثل هذه الكلمات معنىً في الأصل، ولكنه قد تحقق اليوم.
لهذا فإنّنا بالنسبة إلى الماضي قد تقدّمنا كثيراً، أما ما يناسب شأن الشعب الإيراني، وبالنسبة لما هو من لوازم إرثنا التاريخي، وبالنسبة لما ينبغي أن تكون عليه إيران ضمن مجموع دول العالم، فنحن متأخرون، وعلينا أن نتقدّم. وهذا ما يحتاج إلى الكثير من العمل. وإنّ ما أذكره حول الهمّة المضاعفة لأجل هذا. فلا ينبغي أن تنحصر همّتنا في أن نرفع هذا العائق من أمامنا ـ فهذا ليس بشيء ـ بل ينبغي أن نصل إلى أعلى القمّة.
هذه هي الهمّة المضاعفة. وهذا لا يتحقّق بالمجّان، فهو لا يتحقّق بالكلام وبالاستحسان والتعليق، بل إنّ هذا يحدث بالنزول إلى ميدان العمل والابتكار بالمعنى الحقيقي للكلمة. على الجميع عمّالاً ومهندسين ومصممين وباحثين في مراكز الأبحاث والدراسات والذين يدعمون هذا العمل من الناحية العلمية، ومسؤولين وداعمين بالمال ومسؤولين في الدولة، على الجميع أن يضاعفوا هممهم لتصبح أضعافاً مضاعفة، وهذا ما يمكن أن يحدث.
157
145
الدرس الثالث والعشرون: التقدّم، العلم، والإنتاج
إنّ استعداداتنا، فرداً فرداً، هي أكثر بكثير من استعدادات غيرنا أعزائي! قد يُطلب من الإنسان أحياناً أن يقوم بعملٍ خلاف قدرته فرداً فرداً، وهذا ليس عقلائياً، ولكنكم أحياناً عندما تنظرون إلى شاب وترون بنيته وتنظرون إلى عضلاته ترون أنه يمكن أن يكون مصارعاً من الدرجة الأولى، أو أنه يمكن أن يكون رياضياً من الطراز الأول، حيث يمكن أن يصبح نجماً في هذا العمل، فتقولون: أيها السيد إذهب واسعَ. وهذا يختلف عن الرجل الضعيف الذي يمارس الرياضة لمدة عشرين سنة فإنّه لا يمكن أن يصبح مصارعاً جيداً.
إنّ شعب إيران يشبه شاباً ملؤه الاستعداد ولديه البنية القوية فلو قام ببذل الجهد المطلوب فإنّه يصل إلى القمّة، ويصبح مشهوراً. وهذا حال الشعب في إيران، وقد أظهر مثل هذا الأمر. فليس هذا الأمر ادّعاء أو شعاراً، إنّها وقائع اتضحت لنا بلحاظ المتابعة والمعلومات، وقد بيّنت لنا تجربة هذه السنوات الثلاثين هذا الأمر كالشمس في رابعة النهار.
إنّ الشعب الذي لا يحصل على عون من أحد وتُغلق بوجهه أبواب المنتوجات الصناعية والتقنيات المتطورة ثمّ يتمكن من تصنيع الجيل الثاني والثالث والرابع من الطارد المركزي، سيدهش كل أولئك الذين يمتلكون الطاقة النووية والتصنيع النووي في العالم، هؤلاء من أين تعلّموا هذا؟ هذا الشعب الذي لم يُعنه أحد في مجال علوم الحياة، فجأة ينظرون فيرون أنّه يتمكّن من استنساخ حيوان بواسطة الخلايا الجذعية. ففي هذا العالم كم هي الدول التي تمتلك هذا؟ ثمان أو تسع أو عشر. من بين جميع هذه الدول؟ وكل هؤلاء المدّعين فجأة تنتقل (هذه الدولة) من المرتبة العشرين ـ على سبيل الفرض ـ إلى المرتبة الثامنة. ما معنى هذا؟ ألا يحكي ذلك عن الاستعداد الاستثنائي؟ في بداية الحرب، لم نكن نعلم ما هي الأر بي جي، هؤلاء الذين كانوا في الحرب شاهدوه واستعملوه كثيراً ـ ولم نكن نمتلك منها شيئاً ولم نكن نعلم ما هي ولم يكن من أسلحتنا العسكرية، والآن وبعد مرور عدّة سنوات ومع الحظر، ها هو بلدنا يصنع صاروخ سجّيل، صاروخاً فضائياً، فيقف العالم كله وينظر مندهشاً.
في البداية أنكروا، وقالوا هذا هذيان وكذب فإنّ إيران لا يمكنها ذلك، وفيما بعد رأوا أن الأمر ليس كما تمنوا. وفي جميع القطاعات الأمر كذلك. فماذا تعني هذه الأمور؟ هذا يعني أن هذا الشباب مليء بالاستعداد والامكانيات، هذا الشعب يحتوي على استعدادات هائلة. هذه الطاقات الإنسانية ذات قيمة عالية وواعدة. ويجب الاستفادة من هذا الأمر. نحن قادرون. والهمة المضاعفة تعني أن نوصل هذا الاستعداد إلى عالم الفعل.
158
146
الدرس الثالث والعشرون: التقدّم، العلم، والإنتاج
العالم الذي يصطف مقابل إيران ويكشّر عن أنيابه ويوجّه إليها مخالبه الدموية يسيء إليها، حيثما تصل يده يفتعل مشكلة هو العالم المستكبر. والعالم واقعٌ تحت تأثير النظام الرأسمالي الظالم وفي قبضته. وهو لا يتحمّل مثل هذا الأمر، لأنّه خارجٌ عن قواعدهم، لهذا يعادي. وأنتم ترون أن هذه العداوات طيلة السنوات الثلاثين لم تكن قليلة. الكلّ رأى بعينه عداوات أعدائنا وخبثهم وعنادهم. وهم لم يتمكّنوا من أن يفعلوا شيئاً. وكونوا مطمئنين إلى أنّهم فيما بعد أيضاً لن يتمكنوا من فعل شيء.
إنّ سندنا هو الألطاف الإلهية واعتمادنا على التوفيقات الإلهية. نستند إلى ذلك الإيمان الذي أشرنا إليه في البداية والذي تعمّق وتأصّل وتجذّر في قلوبكم وقلوب أفراد شعب إيران. وعندما يكون هذا الدعم موجوداً ويسعى الإنسان ويبذل طاقته في ميدان العمل، عندها يكون ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾1، فذاك هو إيمانكم وهذا هو العمل الصالح. وكل تلك الوعود الحسنة التي أُعطيت في القرآن للمؤمن الذي يعمل الصالحات من النصر في الدنيا والفلاح والنجاح في عالم المعنويات وعالم الآخرة، والتقرّب إلى الله تعالى، والرفعة والعزّة والفلاح في الدنيا والآخرة، إن هذه جميعاً نتاجات ذلك الإيمان والعمل الصالح. وعلينا أن نتقدّم على هذا الطريق.
رحمة الله وسلامه على إمامنا العظيم الذي شقّ لنا هذا الطريق وعرّفنا إياه، وجعلنا نسير عليه وأخذ بأيدينا، فبمعدنه الإلهي أيقظنا وتقدّم بنا إلى هذا الطريق. وكلّما تقدّم هذا الشعب، فإن الله تعالى سيزيد من حسناته. وسلام الله ورحمته على شهدائنا ومجاهدينا وأولئك الذين ضحّوا في هذا السبيل، حملوا أرواحهم على أكفّهم وجاؤوا إلى وسط الميدان، سواء هم أو عائلاتهم، وسواء أولئك الذين استُشهدوا، أو أولئك الذين أصيبوا في أبدانهم وأصبحوا معوّقين، أو أولئك الذين بحمد الله بقوا لهذا الشعب.
نسأل الله تعالى أن يؤجرهم جميعاً. ونأمل أن تشملكم التوفيقات الإلهية وأن تشملكم الأدعية الزاكية لحضرة بقية الله عجل الله تعالى فرجه الشريف.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1- سورة لقمان، الآية 8.
159
147
الدرس الرابع والعشرون: ولادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام وسيدة نساء العالمين
الدرس الرابع والعشرون: ولادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام وسيدة نساء العالمين
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله خطبتا صلاة الجمعة
المناسبة: ولادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام سيدة نساء العالمين
المكان: طهران
الزمان: 1431.ق.
1389.ش.
4/5/2010م.
161
148
الدرس الرابع والعشرون: ولادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام وسيدة نساء العالمين
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونتوكل عليه، ونستغفره ونتوب إليه، ونصلي ونسلّم على حبيبه ونجيبه وخيرته في خلقه، حافظ سره، ومبلغ رسالاته، بشير رحمته ونذير نقمته، سيدنا ونبينا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديين المعصومين، سيما بقية الله في الأرضين، وصلّى الله على أئمة المسلمين وحماة المستضعفين والدعاة إلى الله.
أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله.
أوصي جميع الإخوة والأخوات المصلين الأعزاء بمراعاة التقوى، فالله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾1 يجب أن نراعي تقوى الله في سلوكنا، وأقوالنا، وحتى في أفكارنا وظنوننا، أي نراقب ونحذر من أن نتعدّى رضا الله حتى بمقدار ذرة في سلوكنا وأعمالنا وأقوالنا. أتمنى أن يوفقني الله تعالى أنا العبد الضعيف لأن أذكر ما أريد ذكره اليوم على أساس هذا المبدأ القرآني الأساس، أي التحدث والكلام من منطلق التقوى.
هذه الأيام أيام عيد ولادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء، وسيدة نساء العالمين عليها السلام. نستمدّ من الروح الملكوتية لهذه العبدة المخلصة لله. وسوف نقيم إن شاء الله صلاة الجمعة هذه التي صادفت الذكرى الحادية والعشرين لرحيل إمامنا الجليل ƒ باحترام وتكريم لمقام هذه الآية الإلهية العظمى، وكما حفظ شعبنا في قلبه وروحه ولسانه وأجواء حياته الذكرى والاسم المبارك والخالد لإمامنا الجليل طوال هذه الأعوام الإحدى والعشرين وعلى أحسن نحو ممكن، فسوف نحفظه في المستقبل أيضاً، ونتقدم به إلى الأمام.
أذكر اليوم في الخطبة الأولى نقاطاً حول الإمام الجليل. ومنها النظر للإمام باعتباره معياراً. وتكتسب هذه النظرة أهميتها من أنّ التحدي الرئيس في جميع التحوّلات الاجتماعية الكبرى - بما في ذلك الثورات - هو صيانة الاتجاهات الأصلية في هذه الثورة أو هذا التحوّل. هذا هو التحدي الأهم الذي يواجه أي تحوّل اجتماعي عظيم له أهدافه، ويروم التحرك نحو تلك الأهداف والدعوة لها. ينبغي الحفاظ على هذا الاتجاه. إذا لم تجرِ صيانة الاتجاه نحو الأهداف في الثورة أو
1- سورة الأحزاب، الآيتان 70 و71.
162
149
الدرس الرابع والعشرون: ولادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام وسيدة نساء العالمين
المسيرة الاجتماعية، ولم تُحفظ هذه الأهداف، فسوف تنقلب تلك الثورة إلى ضدها وتعمل في الاتجاه المعاكس لأهدافها. لذلك تلاحظون في القرآن الكريم، في سورة هود المباركة، أن الله تعالى يقول لرسوله: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾1. يأمر سبحانه وتعالى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالاستقامة. والاستقامة معناها الصمود ومواصلة الطريق بشكل مستقيم والمسير بالاتجاه الصحيح. النقطة المقابلة لهذه المسيرة المستقيمة، والمذكورة في هذه الآية الشريفة، هي الطغيان.. .﴿وَلَا تَطْغَوْا﴾2 الطغيان بمعنى التمرّد والانحراف يقول للرسول: أنت شخصياً والذين معك واصلوا هذا الطريق بشكل صحيح ولا تنحرفوا ﴿إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾3 يقول المرحوم العلامة الجليل السيد الطباطبائي في تفسير الميزان إن لهجة هذه الآية لهجة تَشدّد، وليس فيها أية علامة من علامات الرحمة واللين. إنها خطاب للرسول نفسه. تخاطب الرسول نفسه بالدرجة الأولى: "فاستقم". لذلك قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن سورة هود: "شيّبتني سورة هود". والسبب هو هذه الآية. جاء في الرواية أن الجزء الذي يقول بسببه الرسول إن سورة هود قد شيّبتني هو هذه الآية المباركة، بسبب الشدة الموجودة في هذه الآية. والحال أنه يوجد في موضع آخر من القرآن: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾4 لكن قول ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ﴾5 خطاب شديد للرسول نفسه، لذلك كان هذا الخطاب يهزّ قلب النبي. وهذا بسبب أن تغيير الاتجاهات والانحراف عن طريق الصواب - والهوية الأصلية لكل ثورة تكمن في هذه الاتجاهات. والواقع أن هذه الاتجاهات الأصلية هي سيرة الثورات - يغيّر السبل تماماً فلا تصل الثورة إلى أهدافها. وتعود أهمية هذه القضية إلى أن تغيير الاتجاهات يحصل بشكل تدريجي وغير محسوس. فتغيير الاتجاه لا يحصل منذ بدايته بـ 180 درجة، بل يحصل بداية بزاوية صغيرة جداً وكلما استمرّ سيحصل الابتعاد أكبر وأكبر عن الطريق الأصلي - وهو الصراط المستقيم - بسبب هذا الانحراف.
هذا وجه، والوجه الآخر هو أن الذين يرومون تغيير هوية الثورة لا يعملون عادة تحت راية رسمية ويافطة صريحة.. إنهم لا يعملون بحيث يتبيّن أنهم يعارضون هذه المسيرة. بل إن بعض خطواتهم ومواقفهم أو تصريحاتهم ظاهرها مناصَرة حركة الثورة، ولكنها تنحرف بالثورة بزاوية معينة عن اتجاهها.
فمن أجل أن لا يحصل هذا الانحراف والاتجاه الخاطئ نحتاج إلى معايير معينة. لا بد من وجود علامات ومؤشرات في الطريق. إذا كانت هذه المعايير واضحة ساطعة ومشهودة من قبل الناس، فلن يحصل الانحراف. وإذا تصرّف شخص باتجاه الانحراف فسوف يُعرَف من قبل عامة الناس، ولكن إذا لم يكن ثمة معيار عندئذ سيكون الخطر جدياً.
فما هو المعيار في ثورتنا؟ هذا شيء على جانب كبير من الأهمية. منذ ثلاثين عاماً ونحن نسير في اتجاه هذه الثورة. لقد أبدى شعبنا بصيرة وشجاعة وجدارة بحق. أنتم الذين تتقدمون بهذه الثورة إلى الأمام منذ ثلاثين عاماً. ولكن ثمة أخطار. أعداء الثورة وأعداء الإمام لن يظلّوا مكتوفي الأيدي،
1- سورة هود، الآية 112.
2- سورة هود، الآية 112.
3- سورة هود، الآية 112.
4- سورة الشورى، الآية 15.
5- سورة هود، الآية 112.
163
150
الدرس الرابع والعشرون: ولادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام وسيدة نساء العالمين
بل يحاولون القضاء على هذه الثورة. كيف؟ بتحريف طريقها. لذلك كان من الضروري أن تكون لنا معاييرنا وموازيننا.
و أقولها لكم: إنّ أفضل المعايير هو الإمام نفسه وخط الإمام. الإمام أفضل معيار ومؤشر بالنسبة لنا. إذا جاز لنا هذا التشبيه رغم كل البون الشاسع بين الشبيه والمشبَّه به، لشبَّهنا الأمر بالكيان المقدس للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول القرآن الكريم: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾1 النبّي نفسه أسوة.. سلوكه وأعماله وأخلاقه كلها أسوة. ويقول تعالى في آية كريمة أخرى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾2 إبراهيم وأنصاره هم أيضاً أسوة لنا. وقد ذكر هنا حتى أنصار وأصحاب النبي إبراهيم حتى لا يقول قائل إن النبي معصوم أو إبراهيم كان معصوماً ولا نستطيع اتّباعه وأن نسير على خطاه، لا، ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ...﴾3 إلى آخر الآية الكريمة.
و هذا المعنى يصدق أيضاً على إمامنا الجليل تلميذ هذه المدرسة والسائر على درب هؤلاء الأنبياء العظام. الإمام نفسه أبرز المعايير والعلامات والمؤشرات. سلوك الإمام وأقواله.. ولحسن الحظ فإن كلمات الإمام وخطبه متوفرة لدينا ومدوّنة، ووصيته تعلن بصراحة ووضوح عمّا في ضميره لمستقبل الثورة. يجب عدم السماح بأن تُعرض هذه المؤشرات بشكل مغلوط أو تُخفى أو تُنسى. إذا عرضنا هذه المعايير والمؤشرات بنحو سيئ ومغلوط فكأننا فقدنا بوصلتنا. لنفترض أن إنساناً في رحلة بحرية أو في صحراء لا طريق فيها، وتعطلت بوصلته عن العمل، سيبقى هذا الإنسان حائراً بالطبع. إذا عُرضت آراء الإمام بشكل سيئ فكأننا فقدنا بوصلتنا أو تعطلت وأضعنا الطريق، وسوف يتحدث كل شخص كما يريد وكما يحلو له. وسوف يستغل المسيئون وأصحاب النوايا السيئة هذه الفرصة ويعترضون الطريق بحيث يلتبس الأمر على الشعب.
ينبغي عرض مواقف الإمام وتبيينها بكل وضوح وجلاء كما قالها هو نفسه وكتبها.. هذا هو ملاك خط الإمام ودربه وصراط الثورة المستقيم. أحياناً يقول قائل بصراحة إنني لا أوافق الإمام ولا أعترف به.. هذا بحث آخر. موقف أتباع الإمام وأنصاره واضح من الشخص الذي يقول بصراحة إنني لا أوافق الإمام ولا أعترف بخطه ودربه. ولكن إذا كان المقرر أن تسير هذه الثورة على خط الإمام وبتأشير من يد الإمام نحو الاتجاه الصحيح فينبغي أن يكون خطه واضحاً وطريقه جلياً ويجب تبيين مواقفه بصورة صحيحة.
يجب عدم التنكر لبعض المواقف الحقيقية للإمام أو إخفائها لإرضاء هذا وذاك. بعضهم يفكر بهذه الطريقة - وهذا تفكير خاطئ - وهي أنه من أجل أن نكسب أتباعاً وأنصاراً أكثر للإمام ونجعل معارضيه ينجذبون ويميلون إليه فعلينا إما إخفاء بعض المواقف الصريحة للإمام أو أن لا نذكرها أو نقلل من أهميتها. كلا، هوية الإمام وشخصيته بهذه المواقف التي أعلنها هو بأكثر التعابير صراحة
1- سورة الأحزاب، الآية 21.
2- سورة الممتحنة، الآية 4.
3- سورة الممتحنة، الآية 4.
164
151
الدرس الرابع والعشرون: ولادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام وسيدة نساء العالمين
ووضوحاً وبأسطع وأجلى الألفاظ والكلمات.. هذه المواقف هي التي هزت العالم. هذه المواقف الصريحة هي التي شدّت القطاعات والكتل الجماهيرية الهائلة للشعب الإيراني وجعلت الكثيرين يتبعون الشعب الإيراني. هذه النهضة العالمية العظيمة التي ترون اليوم علاماتها ومؤشراتها في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، انطلقت بهذه الطريقة.
ينبغي عرض شخصية الإمام بصراحة وسط الساحة وينبغي عرض مواقفه ضد الاستكبار، والرجعية، والليبرالية الديمقراطية الغربية، ومواقفه ضد المنافقين والمتذبذبين بكل صراحة. الذين تأثروا بهذه الشخصية العظيمة شاهدوا هذه المواقف وسلّموا بها. لا يمكن من أجل أن يرتاح زيد وعمرو للإمام ويرضوا عنه أن نتكتم على مواقف الإمام ونخفيها، أو نقلل من حدة الأشياء التي نرى أنها شديدة وحادة. بعضهم في فترة من الفترات - ونحن نتذكر تلك الفترة حيث كنا شباباً - ومن أجل أن يكسبوا أنصاراً للإسلام، كانوا يهوِّنون من أهمية بعض الأحكام الإسلامية ويتجاهلونها، حكم القصاص، حكم الجهاد، حكم الحجاب، كانوا يتنكرون لهذه الأحكام، ويقولون إنها ليست من الإسلام، القصاص ليس من الإسلام، والجهاد ليس من الإسلام، حتى يرضى عن الإسلام المستشرق الفلاني أو العدو الفلاني للمباني الإسلامية الأساسية. هذا خطأ، يجب عرض الإسلام بكليته وجامعيته.
الإمام من دون خط الإمام ليس ذلك الإمام الذي اندفع الشعب الإيراني إلى الأمام بأنفاسه ونفسه وهدايته، فوضعوا أكفهم على الأرواح وقدموا أبناءهم إلى أشداق الموت، ولم يبخلوا بأرواحهم وأموالهم، وخلقوا أعظم أحداث الفترة المعاصرة في هذه المنطقة من العالم. الإمام من دون خط الإمام إمام بلا هوية. وسلب الهوية عن الإمام ليس خدمة للإمام. مباني الإمام مبانٍ واضحة. إذا لم يشأ أحد المجاملة والمحاباة، فإن هذه المباني موجودة في كلمات الإمام وخطبه ورسائله وخصوصاً في وصيته، وهي خلاصة لجميع تلك المواقف. هذه المباني الفكرية هي التي أطلقت تلك الموجة الهائلة العاتية ضد النهب الغربي والتفرد الأمريكي في العالم.
تتصورون أنه حينما يسافر رؤساء أمريكا إلى أي بلد من البلدان في آسيا والشرق الأوسط، وحتى بعض البلدان الأوربية، ويجتمع الناس هناك ويهتفون ضد هؤلاء الرؤساء، هل تتصورون أن الأمر كان كذلك دائماً؟ كلا، إنما هو تحرُّك الإمام وفضحُه للظالمين ومواقفه التي فضحت الاستكبار والصهيونية وأحيت روح المقاومة لدى الشعوب وخصوصاً في المجتمعات الإسلامية.
إنّه لاعوجاج فكري أن ننكر مواقف الإمام. وهو اعوجاج فكري يصدر للأسف عن بعض الذين كانوا يوماً ما من مروّجي وناشري أفكار الإمام أو من أتباعه وأنصاره. والآن تنحرف السبل وتضيع الأهداف لأي سبب من الأسباب، ويعود بعضهم أدراجه بعد أن تحدث وعمل سنوات طويلة للإمام ولهذه الأهداف، فنراه يقف بوجه هذه الأهداف والمباني، ويتحدث بكلام آخر!
إنّ لخط الإمام أجزاء وأقسام. أهم ما يمكن قوله بخصوص خط الإمام وطريقه هو جملة نقاط سوف أذكرها. وأقول للشباب خاصة: إقرأوا وصية الإمام. الإمام الذي هزّ العالم هو الإمام المتجلّي والظاهر في هذه الوصية وفي هذه الآثار والأقوال.
النقطة الأولى والأهم في مباني الإمام الخميني ونظراته هي قضية الإسلام المحمدي الأصيل.. أي الإسلام المقارع للظلم، والإسلام المطالب بالعدالة، والإسلام المجاهد، والإسلام المناصر للمحرومين والفقراء، والإسلام المدافع عن حقوق الحفاة
165
152
الدرس الرابع والعشرون: ولادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام وسيدة نساء العالمين
والمعذبين والمستضعفين. وفي مقابل هذا الإسلام أورد الإمام الخميني مصطلح "الإسلام الأمريكي" في ثقافتنا السياسية وقاموسنا السياسي. الإسلام الأمريكي يعني الإسلام الذي يقتصر على التشريفات فيبتعد عن التطبيق، وهو إسلام عدم الاكتراث مقابل الظلم، ومقابل الجشع، واللامبالاة حيال التطاول على حقوق المظلومين، إنّه إسلام مساعدة العتاة والمتعسفين والأقوياء.. الإسلام الذي يتأقلم مع كل هذه الأمور. هذا الإسلام سمّاه الإمام: الإسلام الأمريكي.
فكرة الإسلام الأصيل كانت الفكرة الدائمة لإمامنا الجليل. وهي ليست فكرة مختصة بفترة الجمهورية الإسلامية، بيد أن تحقق الإسلام الأصيل غير متاح من دون سيادة الإسلام وتأسيس نظام الحكم الإسلامي. إذا لم يقم النظام السياسي في البلاد على أساس الشريعة الإسلامية والفكر الإسلامي، فلن يمكن للإسلام خوض غمار كفاح حقيقي ضد ظلَمة العالم وعتاته ومتغطرسيه، وضد المتعسفين في المجتمع. لذلك اعتبر الإمام الخميني حماية الجمهورية الإسلامية وصيانتها أوجب الواجبات، أوجب الواجبات، وليس من أوجب الواجبات. صيانة الجمهورية الإسلامية أوجب الواجبات. لأنّ صيانة الإسلام - بالمعنى الحقيقي للكلمة - رهن بصيانة النظام السياسي الإسلامي، ولا يمكن ذلك من دون نظام سياسي.
كان الإمام الخميني يعتبر الجمهورية الإسلامية تجسيداً ومظهراً لسيادة الإسلام. لذلك تابع الإمام قضية الجمهورية الإسلامية وبذل في سبيلها كل تلك الجهود، ووقف من أجلها بكل شدة وحزمٍ واقتدار.
لم يكن الإمام يسعى وراء اقتدار شخصي. لم يكن الإمام يريد أن يكسب القوة والاقتدار لنفسه شخصياً، إنما كانت قضيته قضية الإسلام، لذلك وقف وأصرّ على الجمهورية الإسلامية، وعرض هذا النموذج الجديد على العالم.. نموذج الجمهورية الإسلامية.
المسألة الأكثر جذرية وأهمية في الجمهورية الإسلامية هي الكفاح ضد السيادات التعسفية والمتعطشة للقوة في العالم والتي تفصح عن نفسها بأشكال مختلفة. الحكومة الدكتاتورية والسلطوية ليست الحكومة الملكية فقط، فالحكومة الملكية واحدة فقط من أنواع الحكومات الدكتاتورية. كان في ذلك الزمان دكتاتوريات يسارية، وهي دكتاتوريات الحزب الواحد في البلد، وكانوا يفعلون كل ما يحلو لهم بأبناء الشعب، ولم يكن ثمة من يتحمل المسؤولية أمام الشعب. والواقع أن الشعب كان سجيناً لدى أقلية محدودة العدد. هذه أيضاً صورة من صور الدكتاتورية. ونوع آخر من الدكتاتورية هو دكتاتورية الرأسماليين الموجودة في الأنظمة الديمقراطية في ظاهرها، الأنظمة الليبرالية الديمقراطية. هذه أيضاً صورة من الدكتاتورية، لكنها دكتاتورية جدّ ذكية وغير مباشرة. وهي في الواقع دكتاتورية الرأسماليين وأصحاب الثروات الكبيرة.
أسّس الإمام الجمهورية الإسلامية مقابل هذه الطواغيت البشرية. وجعل الإسلام - وثمة في داخل الإسلام استناد واعتماد على الشعب وأصواته وإرادته - المعيار الأصلي لهذا النظام. إذن، الجمهورية
الإسلامية هي جمهورية من ناحية، أي تعتمد على أصوات الشعب، وإسلامية من ناحية أخرى، أي تستند إلى الشريعة الإلهية.
هذا نموذج جديد. هذا من المؤشرات الأساس في خط الإمام. كل من يفكر حول سيادة نظام الجمهورية الإسلامية بخلاف هذه الفكرة فهو يفكر بخلاف رأي الإمام، فلا يدّعِ أنّه من أتباع الإمام الخميني، إنه يحمل فكرة مغايرة، وفكرة الإمام هي هذه التي ذكرناها. هذا هو أوضح خط من خطوط فكر الإمام الخميني.
166
153
الدرس الرابع والعشرون: ولادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام وسيدة نساء العالمين
مؤشر آخر في سياسة الإمام وبرامجه وخطه وطريقه المستقيم هو قضية الجاذبية والدفع والارتقاء. الشخصيات الكبيرة لها جاذبية وتنفير بمساحة وأبعاد ومَدَيات واسعة. كل إنسان له جاذبيته وتنفيره.
إنّكم بسلوككم تجتذبون أحداً إليكم وتجعلونه محباً ميالاً لكم، وتُنفِّرون شخصاً آخر وتجعلونه مستاء منـزعجاً منكم.. هذان هما الجاذبية والتنفير. لكن الشخصيات الكبرى ذات جاذبية تشمل طيفاً واسعاً، وتنفير له مديات واسعة أيضاً. وجاذبية الإمام وتنفيره لافتان للنظر.
المبنى والمعيار في جاذبية الإمام وتنفيره هو أيضاً العقيدة والإسلام. بالضبط كما يقول الإمام السجاد عليه السلام في دعاء الصحيفة السجادية - دعاء دخول شهر رمضان - لله تعالى. قلنا مراراً إن أدعية الإمام السجاد هي حقاً من أرقى كنوز المعارف الإسلامية. ثمة في هذه الأدعية معارف لا يمكن للمرء استخراجها من الروايات والآثار الروائية. وقد جاءت في الأدعية الصريحة.
في الدعاء الرابع والأربعين من الصحيفة السجادية - وهو دعاء الدخول في شهر رمضان وكان الإمام السجاد يقرأه - يطلب الإمام من الله تعالى بعض الأشياء لشهر رمضان، ومنها قوله: "وأن نسالم من عادانا". يقول: اللهم نطلب منك أن نسالم كل أعدائنا ونداريهم، ثم يقول فوراً: "حاشى من عُوديَ فيك ولك فإنه العدو الذي لا نصافيه". باستثناء العدو الذي عاديتُه من أجلك وفي سبيلك. هذا هو العدو الذي لن نتصالح معه أبداً، ولن تصفو قلوبنا معه على الإطلاق.
هكذا كان الإمام. لم تكن له عداوة شخصية مع أحد. وإذا كانت هناك أكدار شخصية كان الإمام يضعها تحت قدميه. لكن العداء في سبيل العقيدة والدين كان عند الإمام مهماً وجدياً للغاية.
الإمام نفسه الذي فتح ذراعيه منذ بداية النهضة في سنة 1341 لكل شرائح الناس بمختلف صنوفهم وأفكارهم وأنواعهم، واحتضنهم من أية قومية أو جماعة أو دين، هذا الإمام نفسه أقصى عن نفسه في بداية الثورة بعض الجماعات وأبعدهم. أبعد الشيوعيين عن نفسه بصراحة.
كان فعل الإمام هذا عجيباً بالنسبة للكثيرين منا نحن العاملين في السياسة والكفاح آنذاك، أي في مطلع الثورة. في مستهلّ الثورة اتّخذ الإمام الخميني موقفه بصراحة من الشيوعيين وفصلهم عنه. وتصرّف بحزم حيال الليبراليين والمفتتنين بالأنظمة والثقافة الغربية، وأبعدهم عن نفسه، ولم تأخذه في ذلك لومة لائم. والرجعيون الذين لم يكونوا على استعداد لتقبل الحقائق الإلهية والروح القرآنية لأحكام الإسلام ولم يتقبلوا التحول العظيم، طردهم الإمام عن نفسه.
لقد أدان الإمام الرجعيين مرات عديدة بتعابير مرّة وشديدة، وطردهم عن نفسه. لم يكن يتردد في التبّري من الأشخاص الذين لا يقفون داخل دائرة فكره ومبانيه الإسلامية، ولم يكن له معهم في الوقت ذاته عداء شخصي. لاحظوا وصيته حيث يخاطب الشيوعيين الذين ارتكبوا في الداخل جرائم معينة وهربوا إلى الخارج. لاحظوا لهجة الإمام معهم. يقول لهم: تعالوا وارجعوا إلى داخل البلاد وتحملوا الجزاء الذي يقرره لكم القانون والعدالة. أي تعالوا وتحملوا الإعدام أو السجن أو سائر العقوبات لتنقذوا أنفسكم من العذاب والنقمة الإلهية.
كان يتكلم معهم بإخلاص وحرص عليهم. يقول: إذا لم تتوفر لديكم الشجاعة للعودة والخضوع للعقوبة فلا أقل من أن تغيّروا - هناك حيث أنتم - طريقكم وتتوبوا ولا تجابهوا شعب إيران والنظام الإسلامي والحركة الإسلامية، ولا تكونوا مشاة وجنوداً للعتاة والمتغطرسين.
167
154
الدرس الرابع والعشرون: ولادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام وسيدة نساء العالمين
ليس للإمام خصام شخصي. ولكنه في إطار العقيدة والدين يبدي جاذبيته وتنفيره بكل حزم. هذا مؤشر رئيس في حياة الإمام ومدرسته. التولّي والتبريّ على صعيد السياسة أيضاً يجب أن يتبع الفكر والمباني الإسلامية والدينية. هنا أيضاً يجب أن يجعل الإنسان الدين ملاكه ومعياره، وينظر ما الذي يريده منه الله تعالى. وفق هذه المنهاج الذي سار عليه الإمام والمنعكس في أقواله وأفعاله، لا يمكن أن يعتبر الإنسان نفسه في خط الإمام وتابعاً للإمام لكنه في ذات الوقت يطرح نفسه في جبهة واحدة مع الذين يرفعون بصراحة راية معارضة الإمام والإسلام.
لا يمكن القبول بأن تجتمع أمريكا وبريطانيا والـ C.I.A والموساد وأنصار الملكية والمنافقون حول محور معين ويتفقوا عليه ثم يدّعي ذلك المحور أنه على خط الإمام، هذا غير ممكن وغير مقبول.
لا يمكن التحالف مع كل من هبّ ودبّ وكل زين وشين. يتوجب أن ننظر ما هو الموقف الذي اتخذه منّا أعداء الإمام بالأمس. إذا وجدنا أن مواقفنا بالشكل الذي يدفع أمريكا المستكبرة والصهيونية الغاصبة ومرتزقة القوى المختلفة ومعارضي الإمام والإسلام والثورة ومعانديها إلى احترامنا وتكريمنا، فيجب أن نشكّ في مواقفنا وصحتها، ويجب أن نعلم أننا لا نسير في الطريق المستقيم. هذا معيار وملاك. وقد شدّد الإمام مراراً على هذه النقطة. كان يقول - وهذا موجود في كتاباته وفي الوثائق الأكيدة لأقواله - إنهم إذا مدحونا فيجب أن نعلم أننا خونة. هذا شيء على جانب كبير من الأهمية.
يأتي بعضهم ويسير في الاتجاه المعاكس تماماً لخط الإمام، ويتخذ تلك المواقف من يوم القدس، ويرتكب تلك الفضيحة في يوم عاشوراء، ثم نبدي مواكبتنا وانسجامنا مع الذين يعارضون أساس مبنى الإمام وحركته، ونجعل أنفسنا إلى جانبهم وفي جوارهم، أو نسكت عنهم، ونقول في الوقت نفسه إننا نتبع الإمام، هذا غير ممكن، وغير مقبول. وقد أدرك الشعب هذا الأمر بدقة، فالشعب يرى هذا ويعلمه ويدركه ويفهمه. المؤشر الآخر في منهج الإمام وخطه، وهو مهم جداً، قضية الحسابات المعنوية والإلهية. كان الإمام يضع الحسابات المعنوية في الدرجة الأولى من الأهمية في قراراته وتدابيره. بأي معنى؟ بمعنى أن الإنسان في أي عمل يريد ممارسته يجب أن يكون هدفه بالدرجة الأولى اكتساب رضا الله. فلا يكون هدفه مثلاً الانتصار، أو تولي السلطة، أو اكتساب الوجاهة عند زيد وعمرو.
168
155
الدرس الرابع والعشرون: ولادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام وسيدة نساء العالمين
ينبغي أن يكون الهدف الأول إحراز رضا الله. هذا أولاً وثانياً يجب أن يثق ويطمئن للوعود الإلهية. إذا كان هدف الإنسان رضا الله ووثق بوعوده واعتمد عليها، عندئذ لن يكون لليأس معنى، ولا للخوف معنى، ولا للغفلة معنى، ولا للغرور معنى. حينما كان الإمام لوحده لم يعترهِ الخوف ولا اليأس، ويوم راح الشعب الإيراني كله ينادي ويهتف باسمه، بل وعشقته سائر الشعوب وأبدت حبها له، لم يصب بالغرور. يوم سقطت مدينة خرمشهر بيد المعتدين العراقيين لم يقنط الإمام، ويوم استردّ جنودنا هذه المدينة بتضحياتهم وبسالتهم لم يصب الإمام بالغرور، وقال: "الله هو الذي حرّر خرمشهر".. أي إننا لا دور لنا. في جميع الأحداث المتنوعة خلال فترة زعامة هذا الرجل الكبير كان على هذه الشاكلة والطريقة. لم يفزع يوم كان لوحده، ولم يغترّ ولم يغفل يوم انتصر وكانت له السلطة والقدرة. هذه هي الثقة بالله. هكذا ستكون القضية إذا كان الهدف رضا الله.
يجب الاعتماد على الوعد الإلهي. يقول الله تعالى في سورة "الفتح": ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ﴾1 من خصوصيات المنافق والمشرك أنّهما يسيئان الظن بالله، ولا يثقان ولا يؤمنان بالوعود الإلهية. حينما يقول الله: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾2، فإن المؤمن يتقبل هذا القول من أعماق وجوده وكيانه، أما المنافق فلا يتقبله. يقول الله: ﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾3 هذا هو حال الذين يسيئون الظن بالله.
كان الإمام مطمئن النفس للوعد الإلهي. إننا نجاهد لله ونسير خطواتنا لله، ونبذل كل جهودنا ومساعينا في الساحة وسوف يحقق الله تعالى لنا النتائج كما وعدنا. إننا نعمل بدافع التكليف، لكن الله تعالى يمنحنا أفضل النتائج على عملنا بالواجب والتكليف. هذه من خصائص منهج الإمام وخطه. وهذا هو طريق الثورة وصراطها المستقيم.
من الأمور التي يمكن ملاحظتها على هذا الصعيد مراعاة الإمام العجيبة للتقوى في كل الأحوال والأمور. التقوى في الشؤون الشخصية شيء، وفي الشؤون الاجتماعية والسياسية والقضايا العامة شيء آخر أصعب وأهم وأكثر تأثيراً وخطورة بدرجات ودرجات. ما الذي نقوله لأصدقائنا ولأعدائنا؟ هنا تترك التقوى أثرها. قد نخالف شخصاً وقد نعاديه، فكيف نحكم عليه؟ إذا كان حكمكم على الشخص الذي تخالفونه أو تعادونه حكماً غير واقعي، فهذا تجاوز لجادة التقوى. أكرر هنا الآية الكريمة التي ذكرتها في البداية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾4 القول السديد هو القول المتين الصحيح الصائب.. يجب أن نتكلم هكذا. أريد أن أقول لشبابنا الأعزاء، الشباب الثوري المؤمن العاشق للإمام أن يراعوا التقوى مراعاة تامة حينما يتحدثون ويكتبون ويبادرون ويعملون. مخالفتنا لشخص يجب أن لا تدفعنا للخروج عن جادة الحق وممارسة الظلم فيما يخص ذلك الشخص، كلا، يجب عدم ارتكاب الظلم. وينبغي عدم ممارسة الظلم ضد أيٍّ كان.
1- سورة الفتح، الآية 6.
2- سورة الحج، الآية 40.
3- سورة الفتح، الآية 6.
4- سورة الأحزاب، الآية 70.
169
156
الدرس الرابع والعشرون: ولادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام وسيدة نساء العالمين
أروي لكم خاطرة عن الإمام الخميني. ذات ليلة كنت عند الإمام وسألته ما هو رأيكم في فلان - ولا أريد ذكر اسمه، وقد كان من الوجوه المعروفة في العالم الإسلامي خلال الفترة القريبة منا، والكل سمع باسمه والكل يعرفه - تريّث الإمام قليلاً ثم قال: لا أعرف. ثم ذكر عبارة في ذمّ ذلك الشخص. انتهى الأمر عند هذا الحد.
ولكن في اليوم التالي أو الذي بعده - لا أتذكر تحديداً - كان لي شأن وعمل مع الإمام صباحاً فذهبت إليه. وبمجرد أن دخلت الغرفة وجلست وقبل أن أطرح الأمر الذي كنت أريد طرحه، قال لي: بخصوص ذلك الشخص الذي سألتني عنه ليلة البارحة أو قبلها، الجواب هو: "لا أعرف". أي إنه محا تلك العبارة التي قالها في مذمة ذلك الشخص بعد قوله "لا أعرف".. لاحظوا، هذا شيء مهم جداً. لم تكن عبارة الذمّ تلك فحشاً من القول ولا بذاءة ولا تهمة، ولحسن الحظ فقد نسيتها تماماً، ومردّ ذلك إما إلى تصرفه المعنوي أو إلى قلة ذاكرتي، لا أدري ما كانت تلك العبارة لكنني أتذكر أنها كانت عبارة ذمّ. قالها في تلك الليلة، وبعد يومين أو يوم واحد محاها وقال: لا، لا أعرف.. لاحظوا.. هذه أسوة.. ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾1
حول زيد من الناس الذي تخالفونه يمكن التحدث بطريقتين: أولاً بطريقة متطابقة تماماً مع الحق، والطريقة الثانية هي خليط من الحق والظلم. وهذه الطريقة الثانية سيئة وينبغي اجتنابها. قولوا الصدق والحق وما تستطيعون إيضاحه والدفاع عنه في محكمة العدل الإلهي، وليس أكثر. هذه من الخطوط الأصلية لحركة الإمام وخط الإمام، والتي يجب أن نتذكرها ولا ننساها.
ومن الخطوط الرئيسة الأخرى في خط الإمام دور الجماهير، سواء في الانتخابات حيث قام الإمام على هذا الصعيد بحركة عظيمة حقاً، أو في غير الانتخابات، أي في القضايا الاجتماعية المختلفة. لا يوجد في أي ثورة خلال فترة الثورات - والنصف الأول من القرن العشرين هو فترة الثورات المختلفة، حيث قامت ثورات بأشكال مختلفة في شرق العالم وغربه - أن أجروا استفتاء عاماً بعد شهرين من انتصار الثورة لانتخاب أسلوب الحكم ونظامه، لكن هذا الشيء حدث في إيران بهمّة الإمام. ولم تمض سنة على الثورة حتى تم تدوين الدستور والمصادقة عليه. في الشهور الأولى حينما لم يكن الدستور قد دُوّن بعد وتأخر الأمر، أتذكر أن الإمام طلبنا ذات يوم فتوجهنا إلى قم - وكان حينها لا يزال في قم - فقال مستاء: أسرعوا في تدوين الدستور. عندها أقيمت انتخابات مجلس الخبراء وانتخب الناس الخبراء لتدوين الدستور. وبعد ذلك عندما دُوّن الدستور عرضوه على التصويت وأُجريَ استفتاء فانتخب الناس هذا الدستور. ثم أُجريت انتخابات رئاسة الجمهورية والمجلس. لم تُلغَ الانتخابات حتى في أصعب فترات الحرب حينما كانت طهران تحت قصف الأعداء. وإلى اليوم لم تتأخر الانتخابات في إيران حتى ليوم واحد. أية ديمقراطية تضاهي هذه في العالم؟ بالإضافة إلى الثورات فإنه لا توجد أية ديمقراطية يدلي فيها الناس بأصواتهم بهذه الدقة وفي الموعد المقرر. هذا هو خط الإمام.
1- سورة الأحزاب، الآية 21.
170
157
الدرس الرابع والعشرون: ولادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام وسيدة نساء العالمين
و ما عدا الانتخابات، اهتم الإمام كثيراً بجماهير الشعب، وأشار إلى دوره، وقال في بعض المناسبات: إذا لم يفعل المسؤولون العمل الفلاني الذي يجب أن يفعلوه فإن الناس أنفسهم سوف ينـزلون إلى الساحة ويفعلونه.
من النقاط الأخرى الساطعة في خط الإمام عالمية نهضته. كان الإمام يعتبر النهضة عالمية، ويرى هذه الثورة ثورة جميع الشعوب المسلمة، بل حتى غير المسلمة. لم يكن الإمام ليحابي في هذه القضية. هذا شيء يختلف عن التدخل في شؤون البلدان الأخرى، وهو شيء لا نفعله، وهو غير تصدير الثورة بالطريقة الاستعمارية القديمة، وهو شيء لا نفعله أيضاً ولسنا من أهله، إنما معناه أنه يجب أن ينتشر الأريج الطيب لهذه الظاهرة الرحمانية في العالم، وتفهم الشعوب ما هو واجبها وتعلم ما هي هويتها. من نماذج هذه النظرة العالمية موقف الإمام من قضية فلسطين.
يقول الإمام صراحة إن إسرائيل غدة سرطانية. حسناً، ماذا يفعلون للغدة السرطانية؟ هل يمكن علاج الغدة السرطانية سوى باستئصالها وقطعها؟ لم يكن يحابي الإمام أحداً. هذا هو منطق الإمام. هذا الكلام ليس شعارات بل هو كلام منطقي. فلسطين بلد تاريخي. كان ثمة بلد طوال التاريخ اسمه فلسطين. جاءت جماعة تدعمها القوى الظالمة في العالم وطردت هذا الشعب من هذا البلد بأعنف وأشد الأساليب وقتلته ونفته وعذبته وأهانته وأخرجته من دياره - حيث يوجد اليوم عدة ملايين من المشردين الفلسطينيين في البلدان المجاورة لفلسطين المحتلة، وفي البلدان الأخرى، ومعظمهم في المخيمات - والواقع أنهم ألغوا بلداً عن الساحة الجغرافية، وألغوا وجود شعب بكامله، وفرضوا وحدة جغرافية أخرى مصطنعة مكانه، وجعلوا اسمها إسرائيل. لاحظوا هنا ما الذي يقتضيه المنطق. كلمتنا بخصوص قضية فلسطين ليست كلاماً لمجرد الشعار، إنما هو كلام منطقي مائة بالمائة.
جماعة من الأقوياء كان على رأسهم في البداية بريطانيا، ثم التحقت بهم أمريكا، واتبعتهم البلدان الغربية يقولون إن بلد فلسطين وشعب فلسطين يجب أن يُلغيا ليحلّ محلهما بلد اسمه إسرائيل وشعب مصطنع اسمه شعب إسرائيل.
هذا كلام، ومقابل هذا الكلام يوجد كلام الإمام الذي يقول: كلا، يجب إلغاء هذه الوحدة المصطنعة المفروضة، ويحل محلها الشعب الأصلي والبلد الأصلي والوحدة الجغرافية الأصلية. أي الكلامين هو المنطقي؟ الكلام المعتمد على عسف السلاح والقوة والقمع والذي يريد إلغاء نظام سياسي ووحدة جغرافية تاريخية لها سابقة عدة آلاف من السنين، يريد إلغاءها تماماً عن المسرح الجغرافي، أم الكلام الذي يقول: كلا، يجب أن تبقى هذه الوحدة الجغرافية الأصلية وتزول الوحدة المصطنعة المفروضة؟ هذا ما كان يقوله الإمام. هذا هو الكلام الأكثر منطقاً الذي يمكن إطلاقه حول إسرائيل الغاصبة وقضية فلسطين. هذا ما قاله الإمام وأعلنه بصراحة. والآن إذا قال أحد هذا الكلام حتى بالإشارة والتلميح يقول بعض أدعياء خط الإمام: لماذا تطلق مثل هذا الكلام؟! هذا هو كلام الإمام ومنطقه وهو منطق صحيح، وعلى جميع مسلمي العالم وكل الأحرار في العالم وكافة الشعوب المحايدة أن توافق على هذا الكلام وتقبله. هذا هو الصحيح وهو موقف الإمام.
171
158
الدرس الرابع والعشرون: ولادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام وسيدة نساء العالمين
و هنا كلمة أخيرة.. لقد تحملتم أيها الإخوة والأخوات الأعزاء حرارة الجو.. آجركم الله.. نقطة أساس أخرى حول خط الإمام وطريقه هي أن الإمام قال مراراً إن إصدار الأحكام عن الأشخاص وتقييمهم يجب أن يكون على أساس وضعهم الحالي الراهن، أي إن ماضي الأشخاص لا يؤخذ بنظر الاعتبار. الماضي يفيد حينما لا يكون الحال معلوماً فيرجع الإنسان إلى الماضي ويتمسك به ويقول: هكذا كان الوضع في السابق ولا بد أن يكون على نفس الشاكلة الآن أيضاً. وإذا كان حاضر الأشخاص على الضد من ماضيهم فلن يعود لذلك الماضي أي فاعلية أو تأثير. وهذا هو التقييم الذي عمل وفقه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مع طلحة والزبير. يجب أن تعلموا أن طلحة والزبير لم يكونا شخصين صغيرين. كان للزبير مواقف وسوابق متألقة قلّما يوجد لها نظير لدى أصحاب الإمام علي. بعد أن تولى أبو بكر الخلافة، وفي الأيام الأولى، قام أمام منبر أبي بكر عدة أشخاص من الصحابة وعارضوه وقالوا: الحق ليس معك! إنما الحق مع علي بن أبي طالب. وأسماء هؤلاء الأشخاص مسجلة في التاريخ. وهذه ليست أشياء يرويها الشيعة، كلا، إنما هي مذكورة في كافة كتب التاريخ. من هؤلاء الأشخاص الذين وقفوا أمام منبر أبي بكر، ودافعوا عن حق الإمام أمير المؤمنين الزبير. هذه هي سابقة الزبير. وبين ذلك اليوم واليوم الذي شهر فيه الزبير سفيه في وجه أمير المؤمنين مدة خمس وعشرين سنة. أخوتنا أهل السنّة يعتذرون لطلحة والزبير، ويقولون إن اجتهادهما أفضى بهما إلى هذه النتيجة.. حسناً، مهما يكن الأمر. لسنا هنا في صدد موقفهما أمام الله تعالى. ولكن ما الذي فعله الإمام أمير المؤمنين لهما؟ الحرب. زحف الإمام أمير المؤمنين بالجيش من المدينة وسار نحو الكوفة والبصرة لحرب طلحة والزبير. أي إن تلك السوابق مُحيت وانتهت. هذا كان ملاك الإمام ومعياره.
بعضهم كان مع الإمام في باريس وجاء معه في الطائرة إلى إيران، لكن أُعدم في زمن الإمام بسبب الخيانة! وبعضهم كانت له علاقاته معه منذ فترة النجف، ثم باريس، وكان موضع عناية الإمام منذ بداية الثورة، لكن سلوكه ومواقفه بعد ذلك أدت إلى أن يطرده الإمام ويبعده عن نفسه. المعيار هو الوضع الذي يكون لي حالياً. إذا أدت النفس الأمارة بالسوء والشيطان إلى حرف الطريق أمامي لا سمح الله، فسوف يختلف الحكم والتقييم. هذا هو مبنى النظام الإسلامي وهذا ما عمل به الإمام الخميني. وثمة خطوط أخرى يمكن ذكرها على صعيد منهج الإمام وخطه. وما ذكرناه هو أهمها وأكثرها تأثيراً.. من المناسب للإخوة والشباب وأهل الفكر والبحث، وطلبة العلوم الدينية وطلبة الجامعات أن يفكروا ويبحثوا في هذه المباني. لا تبقى النصوص نصوصاً بل يجري إيضاحها وتبيينها.
ليعلم الجميع وخصوصاً شبابنا الأعزاء أن ما حدث بعد رحيل الإمام الخميني وإلى اليوم من عداوات وعراقيل وكل ما فعلوه بكل صنوفه وأنواعه لم يستطع خلق أدنى تضعضع وتزلزل في أركان هذا النظام، بل على العكس، كل ضربة وجهها العدو للجمهورية الإسلامية أدت في النتيجة إلى مزيد من متانتها. بالضبط كما هو الحال بالنسبة لثمانية أعوام من الدفاع المقدس. وقفت جميع القوى السياسية والعسكرية والمالية الكبرى في العالم وراء النظام البعثي في العراق لمدة ثمانية أعوام وحاربوا إيران الإسلامية، وأنزلوا كل قدراتهم إلى الساحة حتى يهزموا الجمهورية الإسلامية، أو يقللوا من قوتها، فما كانت النتيجة؟ حينما انتهت هذه الأعوام الثمانية شهد العالم بمنتهى الدهشة نهضة الجمهورية الإسلامية وتحولها إلى قدرة دفاعية وعسكرية أقوى وأعظم بكثير مما
172
159
الدرس الرابع والعشرون: ولادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام وسيدة نساء العالمين
كانت عليه أيام الحرب. لقد سطعت قوة الجمهورية الإسلامية بعد الحرب في العالم بحيث أذهلت العيون. وكذلك الحال اليوم. أيّ حدث يخطط له الأعداء، ومهما تمادى السذّج والغافلون في مواكبة الأعداء، فستكون نتيجة ذلك بفضل صمود الشعب الإيراني تعزيز الجمهورية الإسلامية أكثر فأكثر. لاحظتم أنه حصلت فتنة وأعمال وجهود، ودافعت أمريكا وبريطانيا عن عناصر الفتنة، ودافعت عنهم كذلك القوى الغربية والمنافقون وأنصار الملكية، فماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أمام كل هذا التحالف والاتحاد غير المبارك أن أبدى الشعب الإيراني عن نفسه في يوم التاسع من دي والثاني والعشرين من بهمن عظمة أذهلت العالم. إن إيران اليوم وشبابها ومتعلميها والإيرانيين عموماً في وضع يستطيعون فيه بتوفيق من الله إحباط أية مؤامرة يمهد لها الأعداء ضد نظام الجمهورية الإسلامية. ولكن دققوا جيداً في أننا يجب أن نعمل بالتقوى. التقوى هي التي تقوينا وهي التي تجعلنا لا نتأثر بالضربات، وهي التي تبعث فينا الأمل لمواصلة هذا الدرب حتى الوصول إلى الأهداف النهائية.
اللهم، بمحمد وآل محمد وفقنا جميعاً للتقوى وتفضل بها على كل واحد من أبناء هذا الشعب. اللهم قرب القلوب من بعضها بعضاً وآلف بينها. اللهم زد يوماً بعد يوم من وضوح خط الإمام وشخصيته والهوية الحقيقية لهذه الثورة بين أبناء شعبنا. ربنا أرضِ عنا القلب المقدس لإمامنا صاحب العصر والزمان، وأرضِ عنا أرواح الشهداء الطيبة والروح الطاهرة لإمامنا الجليل..
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾1
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين سيما عليّ أمير المؤمنين، والصدّيقة الطاهرة، والحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي باقر علم الأولين والآخرين، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي الزكي العسكري، والحجة القائم المهدي صلوات الله عليهم أجمعين وصلِّ على أئمة المسلمين وحماة المستضعفين وهداة المؤمنين.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله.
أوصي جميع الإخوة والأخوات مرة أخرى وأدعوهم لمراعاة تقوى الله. يشهد العالم الإسلامي راهناً بل كل العالم تحولات كبيرة تنبىء بتغيُّر في المعادلات العالمية. ولذلك من المهم أن يتنبه الشعب الإيراني لهذه التحولات.
1- سورة العصر، الآيات 1 - 3.
173
160
الدرس الرابع والعشرون: ولادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام وسيدة نساء العالمين
من القضايا قضية فلسطين وغزة، وفي الآونة الأخيرة ـ على وجه الخصوص - قضية الهجوم على القافلة الذاهبة لإمداد غزة وكسر الحصار عنها، والتي هجم عليها الصهاينة الغادرون القساة. ما يلفت النظر أكثر في قضية فلسطين خلال السنة الأخيرة أو الشهور الماضية هو تهويد فلسطين.
تقوم سياسة الكيان الصهيوني على إلغاء تدريجي كامل للآثار الإسلامية عن منطقة فلسطين والضفة الغربية لنهر الأردن - وهم أنفسهم يعترفون بأن هذه المنطقة منطقة محتلة، والعالم يعترف بذلك، وتوجد كل هذه القرارات الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة - وتهويد هذه المنطقة. بناء المستوطنات غير القانوني والظالم، وتهديم بيوت الناس، والتلاعب بمدينة الخليل ومدينة القدس بهدف تهويدها، كلها من أجل استئصال جذور الإسلام من فلسطين كما يتوهمون. هذه نقطة مهمة جداً وعلى العالم الإسلامي الوقوف ضد هذه الحالة بكل كيانه وقدراته، والحيلولة دون ارتكاب هذه الجريمة الكبرى. والشيء الآخر الملفت للنظر هو المحاصرة الظالمة لغزة والتي مضى عليها ثلاثة أعوام. إنها عملية متعجرفة قاسية وحشية، والعجيب جداً أنها تحظى بتأييد ودعم أمريكا وبريطانيا وسائر القوى الغربية التي تتشدق بحقوق الإنسان دوماً.
يحاصرون مليون ونصف المليون إنسان منذ ثلاث سنوات، ولا يسمحون بوصول الدواء إليهم ولا الطعام ويعرقلون وصول مياه الشرب لهم، وكذلك الطاقة الكهربائية، ويعرقلون كذلك وصول الإسمنت والمواد الإنشائية ليبنوا ما هدمته الحرب - كان القسم الأكبر من حمولة القافلة التي ذهبت هو الإسمنت ليستطيع الناس بناء بيوتهم المهدّمة - وبالإضافة إلى ذلك فهم يقصفونهم دوماً ويقتلون البشر... يقتلون الأطفال المظلومين والنساء والرجال. هذا ما يقوم به الكيان الصهيوني. والمنظمات التي تدّعي حقوق الإنسان واقفة تتفرّج. والقوى الغربية لا تتفرج وحسب بل وتدعم. للأسف فإن الكثير من البلدان التي يجب أن تدافع - أي بعض البلدان العربية والإسلامية - اختارت الصمت المطبق إن لم نقل إنها تصرفت بعض التصرفات الخيانية وراء الكواليس. الواقع عجيب جداً.
الخطوة الأخيرة التي قام بها الصهاينة - أي هجومهم على هذه السفن التي تحمل بعض المساعدات إلى غزة لكسر حصار غزة في المياه الدولية وليس في سواحلهم وبيئتهم البحرية - يجب أن تُدرس من بعدين:
الأول الطبيعة الوحشية للصهاينة وهذا ما فهمه العالم. العالم يجب أن يفهم هذه المسألة. يدّعي الصهاينة أنهم دخلوا السفن للتفتيش أو ليقولوا لهم لا تدخلوا غزة - وهم طبعاً يكذبون، فقد ذهبوا للهجوم وخططوا للهجوم وكانت أهدافهم محددة - حتى لو كانوا قد ذهبوا للوعظ والنصيحة لكان ذلك بخلاف كافة الضوابط الدولية. سفينة تتحرك في المياه الدولية، وأقصى ما تستطيعون فعله هو أن لا تسمحوا لها بدخول موانئكم، فلماذا تحركتم إلى وسط البحر وهجمتم عليهم وقتلتم عدداً كبيرا منهمً وأصبتم أكثر، وأسرتم أكثر؟ لماذا؟ إنها الطبيعة الوحشية. إنها الشيء الذي تهتف به الجمهورية الإسلامية منذ ثلاثين سنة ويتجاهله الغربيون المنافقون المراؤون الكاذبون. وقد شاهد العالم برمته اليوم إلى أي درجة هم متوحشون.
174
161
الدرس الرابع والعشرون: ولادة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام وسيدة نساء العالمين
النقطة الثانية التي يتوجب التركيز عليها والاهتمام بها هي أن الصهاينة أخطأوا في حساباتهم. لقد ارتكبوا خطأً كبيراً. إنه خطأ يقع بشكل متكرر في الأعوام الأخيرة. هاجموا لبنان وأخطأوا، وهاجموا غزة وأخطأوا، وهاجموا هذه السفن وأخطأوا. هذه الأخطاء المتتالية تشير إلى أن الكيان الصهيوني الغاصب يسير نحو نهايته المحتومة ويقترب منها خطوة خطوة، ألا وهي السقوط والانهيار في هاوية العدم.