المقدمة
إنّ من أهمّ الغرائز المودعة في الطبيعة البشريّة، هي الرغبة في الزواج، هذه الغريزة التي بُنيت عليها استمراريّة الحياة البشريّة، حيّرت العقول وأدهشت المفكّرين، وما زالت لحدّ الآن موضع اهتمامهم واهتمام الفلاسفة، فهم يتناولونها بالتدقيق والتحليل، منشأً وغايةً وتنظماً.
فالعلاقة الزوجيّة النابعة من الرغبة في القرب من الطرف الآخر، والحبّ الذي يحرّك هذه الرغبة كانت أيضاً محلّ نظر الإسلام، ولم يترك الإسلام هذا الأمر الهامّ والحسّاس دون تنظيم وإدارة، كيف، وهو العُمدة في استمرار الحياة، وهو من أهمّ موارد الابتلاءات الإنسانيّة!
لذلك نجد الإسلام قد أضفى على هذه العلاقة طابع القداسة، مضيفاً معايير التقوى والعفّة وإكمال الدين وغيرها من المفاهيم السامية التي تجعل هذه العلاقة وهذه الغريزة على مسارها الصحيح، فتحقّق غايتها ويتجاوز الإنسان باتباع الدين محنته وابتلاءه، ويحقّق فيهما في نفس الوقت رغبته وملذّاته.
فلا رهبانيّة ولا شهوانيّة ولكن أمّة وسطاً.
وهذا ما تناوله الشهيد السعيد مرتضى مطهّري بالدراسة في محاضراته المطبوعة تحت عنوان "الضوابط الخلقيّة للسلوك
5
1
المقدمة
الجنسيّ"، وقد قامت جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة بإعادة قراءة هذا السفر الفكريّ القيّم قراءة جديدة، واضعة بعض العناوين لبعض الفقرات الطويلة، مرتبة لبعض الأبحاث بما يتناسب مع أسلوب الكتابة، حيث كان ما في الكتاب الأصل يتناسب مع أسلوب المحاضرة، فأجرت الجمعيّة بعض التقديم والتأخير المفيدين في التسلسل الموضوعي للبحث، مقسّمة الأبحاث المطروحة في المحاضرات إلى أبحاث مستقلّة، مجرية بعض التعديلات الفنيّة من حيث الإخراج والترقيم، مقّقة لبعض المسائل المطروحة.
لذلك يمكن القول إنّ ما قدّمته جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة هو حلّة جديدة لكتاب الشهيد مرتضى مطهّري ، واضعة له عنواناً جديداً هو (الحبّ والعفاف) وهو أحد أهمّ أبحاث الكتاب.
وفي الختام تسأل جمعيّة المعارف الإسلاميّة الله سبحانه وتعالى أن يغني بهذا العمل الذي قامت به الساحة الفكريّة في الموضوع المختص، وأن ينال رضاه، إنّه نعم المولى ونعم القدير.
جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
6
2
المبحث الأول: الأخلاق العاطفية
لمحةٌ تاريخيّة
قد يستغرب بعض الناس ما في اعتقاد المسلمين من أنّ العلاقة بين الزوجين إحدى الأدلّة الواضحة على وجود الله سبحانه وتعالى، فقد جاء في القرآن الكريم قول الله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً"1.
وفي هذا الشأن نقرأ ونسمع بوجود شرائع تعتبر العلاقة الجنسيّة شرّاً في الأصل، أو أنها تصوّر العلاقة الزوجيّة بين زوجين شرعيّين على أنها سبب للضياع والسقوط.
1 ـ العلاقة الزوجيّة قديماً
والأعجب من كل هذا ما ذكره وأكّد عليه الفيلسوف الاجتماعي برتراند/ راسل، وهو وجود مذاهب في العصور القديمة خالفت مسألة العلاقة الجنسيّة بين الزوجين، حيث اعتبرت أنّ الخبث والضياع ملازمان لكل علاقة زوجيّة. وفي هذا الاطار أيضاً ظهرت مذاهب دينية مسيحية كانت تدعو إلى التبتّل والعزوبة، ووُجدَت مذاهب أخرى أكدّت على الزهد والتنسّك. وانتشرت من إيران نحو الشرّق عقيدة تعتبر المادة أساسَ الضياع، وأنّ العلاقة الجنسيّة غير طاهرة.
1- الروم:21.
9
3
المبحث الأول: الأخلاق العاطفية
وإذا كانت هذه الحالات موجودة في القديم، فما هو المنشأ في ظهور هذه الأفكار والعقائد؟ وما الذي يدفع البشر إلى سوء الظنّ بشيء تحبّه الطبيعة البشريّة وتميل إليه، بل وتدين بجزء من وجودها إليه؟
2 ـ منشأ فكرة خبث العلاقة
يُذكَر أنّ فكرة خبث العلاقة الجنسيّة قد بدأت بعد الصورة التي قدّمتها الكنيسة للحياة التي عاشها النبي عيسى المسيح عليه السلام. فاعتبروا أنه عاش عازباً بسبب الخبث الذاتي الموجود في العلاقة الزوجيّة. ومن هنا أصرّوا على انتخاب البابا من بين رجال لم يخالطوا النساء مطلقاً.
من جهة أخرى تعتقد هذه المجموعات أنّ التقوى التي يريد البشر الوصول إليها لا تجتمع مع الزواج الذي يحمل طبيعة دنيئة. والأعجب من هذا أنّهم كانوايبيحون الزواج لأجل الانجاب أو لأنّه أهون الشرَّّيْن للحيلولة دون العلاقات المتحللة بين الرجال والنساء.
ويمكن توضيح وفهم جميع الأفكار المتقدمة في خضم العقيدة التي راجت عند البعض الذي كان ينظر باحتقار إلى المرأة، واعتبرها إنساناً ناقصاً، وأنّها مخلوق بين الإنسان والحيوان، أو أنّها لا تمتلك نفساً إنسانيّة ناطقة، ويحرّم عليها دخول الجنة.
3 ـ المنطق الإسلامي والعلاقة الزوجيّة
إنّ هذه الأفكار توضح مدى الغرور المسيطر على هؤلاء واحتقارهم للمرأة. وبالنظر إلى ما تقدم، فإنّ المنطق الإسلامي لم تبدر منه أقلّ إشارة إلى خبث الرباط الجنسي المشروع أو الآثار الناجمة عنه، وبالعكس فقد سعى الإسلام لأجل تنظيم هذه العلاقة.
10
4
المبحث الأول: الأخلاق العاطفية
فالإسلام يرى أنّ مصلحة المجتمع المعاصر أو الأجيال القادمة هي وحدها التي تحدّد مسألة العلاقات الجنسيّة. وفي هذا المجال عمل على وضع أسس لن تؤدّي إلى الشعور بالحرمان أو الاحباط أو كبت الغريزة الجنسيّة.
ومن المؤسف أنْ يتجاهل بعض المفكرين الغربيين أمثال "راسل" رأي الإسلام عند توجيههم النقد لأصحاب الديانات في خصوص العلاقات الجنسيّة.
وعلى كلّ حال فالإسلام لا يرى أيّ تناقض بين العلاقة الشرّيفة والمبادئ المعنويّّة والروحيّّة، بل يرى هذه العلاقة جزءً من طبائع الأنبياء وأخلاقهم.
يُروى أنّ أحد أصحاب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم واسمه "عثمان بن مظعون" قد وصلت به العبادة إلى درجة أنّه كان يصوم كل يوم، ويمضي الليل كلّه بالصلاة، فنقلت زوجته حالته هذه إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الذي خاطبه قائلاً: "يا عثمان، لم يرسلني الله بالرهبانيّة، ولكن بعثني بالحنيفيّة السَمْحة أصوم وأصلي وألمس أهلي، فمَن أَحبَّ فطرتي فليستسنّ بسنّتي، ومن سنّتي النكاح..."1.
4- العلاقة الزوجيّة في الغرب المعاصر
وتجدر الإشارة إلى أنّ المسائل التي ذُكرتْ حول خبث العلاقة الجنسيّة والآثار الناجمة عنها تتعلّق بماضي الغرب، حيث نشهد في زماننا تحولاً كبيراً ومختلفاً على مستوى الأخلاق والضوابط الجنسيّة، فاليوم يتحدّث الجميع عن قدسيّة العلاقة الزوجيّة، ويرون ضرورة
1- الحر العاملي، وسائل الشيعة ج1 باب 48 من أبواب مقدمات النكاح، ج20ص107.
11
5
المبحث الأول: الأخلاق العاطفية
اطلاق الحريّة للميول والرغبات ورفع القيود كافة في هذا المجال.
ولم يكن المسلمون بمأمن من هذه الأفكار الغربيّة، سواء الماضية أو الحاضرة، فقد نفذت بيننا بصورة أو بأخرى، ودخلت أفكارهم الجديدة إلى حياتنا كانسياب السيل.
وإذا كان الإسلام أكدّ على وجود ضوابط تحكم العلاقة العاطفيّة بين الرجل والمرأة، فقد أْعتُبرت جزءاً أساسيّاً من الأخلاق بالمعنى العام. وتشتمل هذه الضوابط على العادات والاستعدادات والوسائل الإنسانيّة التي ترتبط بالغريزة العاطفيّة.
وبعبارة أخرى، فإن الحالة الأخلاقيّة هذه يُعَبَّر عنها من خلال الحياء لدى الرجل والمرأة، وغيرة الرجل على عرضه، والعفّة والاخلاص عند المرأة بالنسبة لزوجها، وهكذا أيضاً ستر العورة وستر جسد المرأة عن غير المحارم، ومنع الزنا، وتحريم النظر الشهوانيّ إلى غير الزوجة، ومنع التزاوج بين المحارم... ومسائل أخرى عالجها الإسلام في إطار الأخلاق التي عمل على إشاعتها بين الأفراد.
12
6
المبحث الثاني: مصدر الأخلاق العاطفية
تمهيد
اهتمّ العلماء والفلاسفة بالبحث عن مصدر الأخلاق العاطفيّة، فأثارت اهتمامهم قضايا الحياء والعفّة والغيرة، فتساءلوا: هل أنّ مصدر هذه الغيرة مثلاً نوع من الحسد المعروف الذي أدانه البشر في كل زمان ومكان؟ أم أنّها أمر آخر؟
هل تعتبر فطرة الإنسان وطبيعته هما الأصل والأساس لكل تلك الضوابط والعادات؟
هل يمكن أن تلعب الفطرة دوراً ما بهدف تنظيم حياة الإنسان الذي هو اجتماعي بالطبع، وبالتالي أوجدت هذه المشاعر والعواطف في نفس البشر؟
هل أنّ هذه الأخلاق والعادات نابعة من طبيعة الإنسان وفطرته؟ وإذا كانت كذلك فلماذا لا نجد تلك الخصائص، بصورتها الموجودة عند الإنسان المتحضر علىالأقل، لدى القبائل البدويّة والمتوحّشة الموجودة في الوقت الحاضر، والتي ما زالت تعيش حالة البداوة القديمة؟
مهما كان أصل تلك الأخلاق والعادات ومصدرها، وكيفما كان ماضي البشريّة، يبقى السؤال مطروحاً وهو: ماذا يجب أن نفعل اليوم؟ وفي أي مسير يجب أن تمشي البشريّة في مجال الأخلاق الجنسيّة لكي تصل إلى السعادة المنشودة؟ وهل يجب التمس،ك بما سنّه القدماء
15
7
المبحث الثاني: مصدر الأخلاق العاطفية
من أخلاق في هذا المجال، أم يجب اختيار مبادئ أخلاقيّة جديدة؟
وفي مقام الجواب على السؤال ننقل أهمّ الآراء الفكريّة حول الأخلاق العاطفيّة.
1-أجوبة وآراء
أ ـ ويل ديورانت
ينكر ويل ديورانت رجوع هذه الأخلاق إلى الفطرة البشريّة، لأنّها تنشأ من حوادث مريرة وقاسية وظالمة للبشر، لكنّه يرى أنّها لا بدّ منها لأنّها إحدى مظاهر اختيار الأصلح في مسير التكامل الإنساني.
ب ـ فرويد
ويعتقد فرويد أنّه يجب نبذ الأخلاق القديمة وبالأخصّ تلك التي تتمحور حول المسائل الجنسيّة، باعتبار أنّ ما أصاب البشر من كوارث هو نتيجة تلك الأخلاق.
ج ـ راسل
وهكذا فعل راسل الذي بنى نظريّته الأخلاقيّة الجديدة على الأساس نفسه. فنراه يدافع عن منطق لا مجال فيه للشعور بالخجل أو العفّة أو التقوى والغيرة.
والنتيجة المُتسالم عليها اليوم هي أنّ العلوم المعاصرة لم تصل إلى معرفة جذور الضوابط الأخلاقيّة للعلاقات الجنسيّة وهل أنّ هذه الأمور تعود إلى فطرة الإنسان أم لا، وكل ما صدر عنها لا يعدو كونه مجرد حدس وتخمين، حتى أن أصحاب هذه النظريات لا يمتلكون اتّفاقاً في الرأي بهذا الخصوص.
16
8
المبحث الثاني: مصدر الأخلاق العاطفية
2 ـ رأي العقل
لو حاولنا أن نتّخذ قراراً أو نحدّد موقفاً في هذا الشأن، بغضّ النظر عن رجوع هذه المشاعر أو الضوابط إلى الفطرة أو عدم رجوعها، وشاهدنا ما يقضي به العقل والفكر، نتساءل: هل يقضي العقل والفكر بكسر كلّ القيود والحدود والممنوعات الاجتماعيّة وإزالتها من أجل توفير السلامة الكاملة للنفس الإنسانيّة، أم لا يقضيان بذلك؟
إنّ المنطق والعقل يدعوان إلى الاعتدال، فيجب محاربة كلّ التقاليد والخرافات المبنيّة على أساس خبث العلاقة الجنسيّة، وفي الوقت نفسه يجب أنْ لا نفسح المجال للتحلُّل ولما يهيج الغريزة ويثيرها ويدفعها إلى التمرّد باسم الحريّة.
3 ـ الفكر المعاصر
لقد وجّه أنصار المذهب الأخلاقيّ الجديد عدّة اعتراضات إلى الأخلاق القديمة. وهذا بحث ذو أهميّة كبيرة، ليس لكونه جذب أفكار الفلاسفة والمفكّرين المشهورين، بل لأنّ هذه الأفكار في حالة تقدّم ونموّ عند طبقة الشباب. وكم من الشباب من لا تسعفه ذخيرته الفكريّة لتناول هذه المسائل بالبحث والدراسة. ولا يُستبعد أن يجذب بريق هذه الأفكار هؤلاء الشباب فيقعوا فريسة الاعتقاد بأنّ هذه الأحاديث مطابقة للمنطق تماماً.
وقد شاهدنا كيف سرت هذه الأفكار الغربيّة داخل مجتمعاتنا، فقبلها الشباب، إمّا عن طيب خاطر حيث وصلت إليهم عن طريق شعارات برّاقة كالحريّة والعدالة، وإمّا لأنّها كانت فوق طاقة الشباب، وهذا ما يدفعنا للتطرّق إليها ولو باختصار.
17
9
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
1- مع دعاة الإصلاح : الرؤية الجديدة للفساد
يقول دعاة الإصلاح إنّ للضوابط والأخلاق الجنسيّة القديمة عللاً وأسباباً غير موجودة في الوقت الحاضر، وبالتالي لا أثر لفاعليّة تلك العلل في الوقت الحاضر.
فالأخلاق القديمة كانت لوجود تيّارات جاهليّة ظالمة، قد ناقضت الحرّية والعدالة الإنسانيّة. ومن جملة مظاهر تلك التّيّارات الجاهليّة: تملّك الرجل للمرأة، ووجود الحسد عند الرجال، وسعي عدة رجال للتأكيد على بنوّة الجنين نفسه لهم، ووجود عقائد تدعو إلى الرهبنة واعتبار العلاقة الزوجيّة مسألة خبيثة... وإلى ما هنالك من القضايا في هذا الخصوص.
ويوضح أصحاب التجديد أنّ جذور الأخلاق القديمة تعود إلى نزعة العدوان والظلم عند الرجال، وإلى الخرافات التي كانت تسيطر في تلك الفترة.
أمّا الآن فقد تحرّرت المرأة من كلّ القيود التي كانت تُشْعرها بالدونيّة، واكتسبت معارف ومعلومات جعلت منها موجوداً مدركاً لحقيقته، فدخلت ميادين متعدّدة في الحياة كالطبّ والعلم ووظائف الدولة، حيث أصبحت المرأة تشعر باستقلاليّتها وعدم حاجتها إلى التبعيّة المطلقة.
21
10
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
إذاً، الإصلاح والتجديد يدعوان إلى إجراء إصلاحات حتميّة في هذا الجزء من الأخلاق الإنسانيّة.
ومن البديهيّ أنّ كلّ الاقتراحات الإصلاحيّة تدور حول محور كسر القيود القديمة وإزالة الموانع والحدود القانونيّة السابقة.
والذي يثير الاهتمام في هذه الرؤية التأكيد على حريّة الرجال والنساء في الحصول على رغباتهم وإشباع غرائزهم، فهم يقولون إنّ الرجل والمرأة، بالإضافة إلى ضرورة نيلهما كلّ المتع والملّذات بحريّة قبل الزواج، فإنّ العلاقة الزوجيّة بينهما يجب أن لا تصبح حائلاً دون تحقّق هذه الملذّات بعد الزواج، لأنّ فلسفة الزواج هي تأكّد الآباء من بنوّة الأجنّة لهم بعد اختيارهم شريكات الحياة بصورة قانونية.
وقد ساهمت هذه الرؤية في الترويج لحالات الفساد، باعتبار أنّ الطبّ الحديث ساهم في حلّ مشكلة البنوّة من خلال منع الحمل، وبالتالي يبقى الشخص حرّاً في ممارسة رغباته وإشباعها كما يشاء. وقد صرّح كبار منظريّ الغرب بهذه المسألة، فها هو "برتراند راسل" يقول: "إنّ الموانع (موانع الحمل) جعلت من عملية الإنجاب شيئاً إرادياً خارجاً عن نتائج العلاقات البيولوجيّة التي لا يمكن تفادي حصولها (الإنجاب القسري للولد)، وبناءً على الأدلّة الاقتصاديّة فإنّ الأب لم يعد بذي أهميّة كبيرة بالنسبة لتربية الأبناء وإعاشتهم، ولهذا فلا ضرورة تقتضي أنْ تختار المرأة الشخص الذي تحبّه كأب لأبنائها".
ويضيف قائلاً أيضاً:
"إنّ" "أمَّ" المستقبل يمكنها التنصّل من هذا الالتزام دون أن يخلّ
22
11
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
ذلك بشيء من سعادتها. وحتى الرجال فإنّهم سيستطيعون اختيار أمٍّ لأبنائهم بطريقة أيسر وأبسط من ذلك".
ثمّ إنّه يصل إلى النتيجة التي أراد تعميمها، فيقول:
"والذين يعتقدون مثلي أنّ العلاقات الجنسيّة تكون أمراً اجتماعيّاً، يجب أن يخرجوا مثلي بهاتين النتيجتين:
أولاً: إنّ ممارسة الحب بدون أطفال مباحة.
وثانياً: يجب أن تقيِّد مسألة الإنجاب بقوانين أكثر صرامة من تلك الموجودة في الوقت الحاضر"1.
2- مبادئ الرؤية الجديدة
يمكن أن نستنتج من الرؤية الجديدة أنّها تعتمد على ثلاثة مبادئ أساسيّة، كلّ مبدأ منها بحاجة إلى دراسة مستقلّة:
المبدأ الأوّل: إنّ حريّة الفرد مصونة ما لم تضرّ بحريّة الآخرين.
المبدأ الثاني: إنّ سعادة البشريّة رهينة تلك الاستعدادات الكامنة في وجودها، وإنّ الأنانيّة والمتاعب الروحيّّة ما هي إلّا نتيجة اضطراب الغرائز، وإنّ أساس اضطراب الغرائز هو حرمانها من الإشباع.
المبدأ الثالث: إنّ نار الميل والرغبة عند البشر تتأجّج بسبب المنع والتقييد، وتخمد هذه النار نتيجة الإرضاء والإشباع.
وكما نلاحظ فإنّ المبدأ الأوّل المذكور يتميّز بطابعه الفلسفيّ، والثاني له صبغة تربويّة. وأمّا الثالث فله خصيصة نفسيّة.
أ ـ المبدأ الأوّل والفهم الصحيح
إنّ قضيّة الحريّة هي المبدأ الأساس والقضيّة المحوريّة التي تدور
1- كتاب زناشوئي وأخلاق, " الزواج والأخلاق" ص 122.
23
12
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
2- حولها الرؤى الحديثة للعلاقات الغريزيّة، وبالأخصّ في العالم الغربي، حيث يعتبرالمجتمع الغربيّ الحريّة هي الأساس لكلّ الحقوق الفرديّة، وذلك لأنّهم كانوا يظنّون أنّ القضايا الجنسيّة لا علاقة لها بالمسائل الاجتماعيّة.
يرى أصحاب الرؤى الحديثة أنّ حريّة الفرد الجنسيّة لا تتعارض مع حريّة أيّ إنسان آخر، إلّا إذا طرأت بعض الموانع، ويقصدون منها بالتحديد مسألة الإنجاب وتحديد البنوّة. وقد أكّد هؤلاء على أنّ المسألة أصبحت في حكم المنتهية مع شيوع العلم والطبّ الحديث ووسائل منع الحمل المتطوّرة، وبالتالي لا يوجد أيّ ضرورة تقتضي التحلّي بالعفّة والتقوى، فالعفّة والتقوى قد يتعارضان في الوقت الحاضر مع الحريّة، لأنّهما يعنيان كبت الغرائز وعدم إشباعها، وهذا يؤدّي بدوره إلى الاضطراب.
ونستطيع في هذا البحث تسليط الضوء على نقطتين رئيسيتين هما:
1ـ إطلاق حريّة الفرد إلاّ في حالة واحدة فقط وهي عند الإضرار بالآخرين.
2ـ انفصال القضايا الجنسيّة عن المجتمع والحياة العامّة والحقوق الاجتماعيّة إلا في مجال إثبات الأبوّة والبنوّة.
النقطة الأولى: حريّة الفرد وحقوق الآخرين
فلننظر في النقطة الأولى: لنرى ما الذي يجعل من الحريّة ما يسمّى بالحقّ الطبيعيّ للفرد.
24
13
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
1ـ تعارض مبدأ الحريّة مع حقوق الآخرين
على عكس ما يتصوّره الكثير من فلاسفة الغرب، فإنّ ميول الفرد ورغباته وإرادته ليست الأصل في إيجاد حقّ الحريّة له، ولا هي الدافع لاحترام هذا الحقّ. إنّ الأصل هو استعداد فطريّ وهبته له الحياة، لكي يتدرّج به في مراتب الرقيّ والكمال. فإذا انسجمت إرادة الفرد مع هذا الاستعداد وأمثاله من الاستعدادات المقدّسة المودَعة في فطرته، عند ذلك تكون هذه الإرادة موضع الاحترام والتقدير، كما أنّها تكون كذلك إذا أصبحت السبب في دفعه إلى الرقيّ والتسامي. وبالعكس فلا احترام لإرادةٍ تدفع صاحبها إلى الفناء أو نحو إهدار طاقاته الكامنة.
من الخطأ تفسير أو تصوّر مسألة خلق الإنسان حرّاً بمعنى أنّه منذ ساعة ولادته يمتلك الإرادة والميل والرغبة الحرّة، وأنّه يجب احترام هذه الأشياء عند الإنسان إلّا إذا تعارضت مع ميول الآخرين ورغباتهم وإرادتهم أو هددّتها بالخطر. كما أنّنا نثبت أنّ مصلحة الفرد العليا هي أيضاً من شأنها تحديد حريّتهبالإضافة إلى حريّات الآخرين وحقوقهم.
وقد أدّى هذا التفسير الخاطئ للحريّة إلى انتكاسةٍ كبيرةٍ في الأخلاق.
وحينما يُسأل "راسل" فيما إذا كان يرى نفسه مقيّداً بأيٍّ من الأنظمة الأخلاقيّة، يردّ بالإيجاب، ولكنّه يدّعي في الوقت نفسه صعوبة الفصل بين الأخلاق والسياسة.
كما أنّه يرى أن تُعرَضَ الأخلاق بهذه الصورة وهي: أن نفترض أنّ زيداً أراد إنجاز عمل يحمل النفع له والضرر لجيرانه، فعند ذلك
25
14
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
سيجتمع الجيران ويُبدون معارضتهم التامّة لهذا العمل، كما سيتّفقون على منع زيد من القيام بأيّ عمل يسيء فيه استغلال حريّته الفرديّة. ويدّعي "راسل" أنّ هذه القضيّة تحمل في طيّاتها حالة جنائيّة تتطابق بصورة كاملة مع العقل والمنطق. ويضيف أنّ طريقته الأخلاقيّة من شأنها توفير التناغم والانسجام بين المصالح العامّة والخاصّة لأفراد المجتمع1.
2 ـ مدى تحرّر رغبات الإنسان
إذا كان في "المدينة الفاضلة" لأفلاطون جانب عمليّ فإنّ طريقة "راسل" الأخلاقيّة لا تقلّ عن هذه في المجال العمليّ نفسه، لأنّ "راسل" ينكر دور المفاهيم المقدّسة في طريقته تلك، كما أنّه لا يقرّ المعاني والمفاهيم التي يقدّمها الإنسان على مصلحته الخاصّة والتي يقيد ويحدّد بواسطتها ميوله ورغباته وإرادته. كما أن "راسل" يعزو سبب قيام الأخلاق على تلك المعاني والمفاهيم المقدّسة إلى "التابو".
وهو يقدّس فقط حريّة الإرادة والرغبة عند الإنسان، ويرى أنّ الشيء الوحيد الذي يحدّد هذه الرغبة والإرادة ويقيدهما هو معارضتهما ومضايقتهما رغبة وإرادة الآخرين من الناس. ثمّ يطرح "راسل" هذا السؤال وهو: ما الذي يضمن قبول الفرد بضرورة احترام حريّات الآخرين؟ وأيّة قوّة تستطيع أن تحدّد حريّته تجاه تلك الحريّات؟
فيجيب بأنّها قوّة الآخرين في التصدّي والمنع أثناء تعرّض مصالحهم للخطر حين قيام الفرد بالاستفادة من حريّته الشخصيّة، عند ذلك لا يرى الفرد بدّاً من أن يذعن ويستسلم للإرادة العامّة،
1- جهانى كه ميشناسم " العالم الذي أعرفه", ص 64,65
26
15
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
وسيحاول مرغماً تنسيق مصالحه الخاصّة مع المصلحة العامّة. ولا يريد "راسل" بكلامه هذا غير الإدعاء بأنّ الحقوق والمصالح العامّة تُحفَظ عن طريق المصلحة الفرديّة. وبهذا يظهر عقم فلسفته الأخلاقيّة بجلاء.
وبديهيّ أنّه لو افترضنا وجود الاستعداد لَدى الأقوياء في كلّ مجتمع للتصدّي لأيّ عدوان بالاتحاد والاتفاق، وأنّ الضعفاء في المجتمع يحاولون دائماً مخالفة تيّار الأغلبيّة، فإنّنا نكون بذلك قد أيّدنا راسل في طريقته الأخلاقيّة السالفة الذكر.
ولكن لنرَ هل هناك تساوٍ في القوّة بين الأفراد والجماعات؟
وهل هناك استعداد دائم عند الأفراد والجماعات للاتفاق والاتحاد إذا تعرّضوا لعدوان؟
وهل صحيح أنّ الفرد يقرّر دائماً مخالفة مصالح الأكثريّة؟
طبيعيّ أنّ من يريد ارتكاب العدوان على الآخرين يجب أن تكون لَديه القوّة والقدرة الكافيتان للاعتماد عليهما أثناء ممارسة العدوان ذاك.
يوحي "راسل" في نظامه الأخلاقيّ أنّ على الضعفاء الخوف من سطوة الأقوياء، وعليهم أنْ يتجنّبوا الاعتداء على حقوقهم، ولكنّ طريقته الأخلاقيّة المقترحة هذه تعجز عن إعطاء ضمان للضعفاء يردع الأقوياء عن الاتحاد ضدّهم. أو عن اعتراض سبيلهم بالقسر في الحياة. أو منع عدوانهم عليهم. بل طريقة "راسل" تبارك في مضمونها عمل الأقوياء وتعتبره لا يتناقض مع الأخلاق أبداً. فلا ضرورة بحسب رأي "راسل" ترغم الأقوياء على تنسيق مصالحهم مع المصلحة العامة. إن هذه الفلسفة الأخلاقيّة تعطي التبرير القويّ للمتسلّطين لفرض آرائهم الباطلة وديكتاتوريّتهم على الضعفاء. والعجب أن "راسل"
27
16
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
واختار الغرب، الذي يعتبره الكثير قدوة له،الطريقة الثانية، وهو اليوم يدفع ثمن ما اختاره وما ارتضاه من ظلم.
وإذا ظنّ بعض الناس أنّ الحياة ما هي إلا مجموعة من المباهج والأفراح والغرائز وإشباعها، واعتبرنا أنّ الذي يحصل على أكبر مقدار من الغرائز هو الأكثر حظوة في الحياة، فمن الطبيعيّ في مثل هذه الحالة أنْ يُصاحب الانتقالمن المحيط العائليّ إلى المجتمع الكبير بلذائذ ومباهج أكثر.
ولو أمكننا تصوُّر بقاء الاتحاد الروحيّ بين الزوج والزوجة واستمرار مشاعرهما الوديّة المخلصة حتى أيام الشيخوخة، فذلك يعطي الحياة قيمة أسمى وأكبر، ولو تمكنّا من تصوُّر الفارق بين علاقة الرجل بزوجته الشرّعية، وعلاقته بامرأةٍ غريبة، عند ذلك لن يساورنا أدنى شكّ في ضرورة حصر المشاعر واللذائذ في الزوجات الشرّعيات، وإبقاء هذه العلاقة في إطار العائلة فقط.
2 ـ الأبعاد الاجتماعيّة للزواج
إنّ الأبعاد الإجتماعيّة للزواج هي المسألة الأهمّ في هذا الشأن، فليس الهدف منه إقامة علاقة خاصّة بين الزوج والزوجة، إذ يتضمّن الزواج قضيّة البناء العائليّ لإعداد جيل المستقبل، وتوفير الرفاه والسعادة للأجيال القادمة، وكلّ ذلك له علاقة بالوضع الاجتماعيّ للعائلة.
إنّ المحيط العائليّ هو البيئة التي تنمو فيها المشاعر والعواطف الإنسانيّة والاجتماعيّة، ودفء المحيط الفطريّ والطبيعي الذي يوفّره الأبوان يمنح الهدوء والطمأنينة للطفل.
29
18
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
حينما نريد إثارة مشاعر شخصين تجاه بعضهما، نتوسّل القولَ أنَّ أبناء الشعب الواحد أخوة فيما بينهم، أو نقول بأنَّ أبناء البشر تربطهم علاقة الأخوّة وهم أفراد عائلة واحدة. وإنّ القرآن الكريم يُشَبّّه المشاعر الإيمانية الطاهرة بالمشاعر الأخوية بقولــه: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ..1". فليس منشأ هذه العواطف القرابة ووحدة الدم فقط بل إنّه المحيط الأخويّ المفعم بالمحبّة. لو زالت مشاعر الأخوّة النابعة من الجوّ العائليّّ المليء بالنقاء والمحبّة، فهل يستطيع أفراد المجتمع أنيوفّروا القليل من الروابط العاطفيّة فيما بينهم؟
يقال إنَّ العدالة تنتشر في أوروبا بصورة واسعة، بينما لا أثر للعواطف الإنسانيّة النبيلة لدى المجتمعات هناك إلا القليل النادر جداً. ولا تلاحَظ مثل هذه العواطف إلا نادراً بين الإخوة والأبناء والآباء، على عكس ما هو موجود عند الشرّقيين، فلماذا؟
السبب هو لأنّ العواطف هذه لا تنمو إلّا في جوّ عائليّ مفعم بالصفاء والإخلاص والمحبّة بين جميع أفراد العائلة.
في أوروبا لا وجود لمثل هذه الخصال بين النساء وأزواجهنّ، وعلّة ذلك عدم وجود حدود للعلاقات الجنسيّة عند المرأة الأوروبيّة وزوجها، فكلاهما لا يحدّه شيء في إيجاد علاقات جنسيّة مع الغرباء خارج نطاق الحياة الزوجيّة، وأقلّها نيل مُتَع الجنس عن طريق النظر واللّمس في وسط المجتمع الكبير.
المبدأ الثاني: مبدأ تربية الاستعدادات الفرديّة
نبدأ الحديث حول مبدأ ضرورة تربية الاستعدادات الفطريّة عند
1- الحجرات: 10.
30
19
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
الإنسان والذي يعتبر الركيزة التربويّة لهذا النظام الأخلاقيّ.
يقال، بناءً على هذا المبدأ، إنّ الإنسان إذا تربى في بيئة تملأها السعادة فَسَيخرجُ فرداً نافعاً للمجتمع، وإنّ هذه البيئة ستساعد استعداداته الفطريّة والطبيعيّة على الظهور والنموّّ والازدهار. وكما يساهم نموّ الاستعدادات في بهجة النفس ومنحها النشاط الكامل فإنّه يحفظ التوازن الروحيّّ للفرد فيبقى في حالة من الهدوء والطمأنينة، وينعكس هذا راحة تامّة في المجتمع. وبالعكس فإنَّ كَبْت الاستعدادات عند الفرد سيولِّد ما لا حصر له من حالات القلق والاضطراب والإنحراف والجريمة في المجتمع.
وإذا كان التركيز في إدانة الأخلاق العاطفيّة القديمة على كونها تعيق تفتُّح الاستعداد الفطريّ الطبيعيّ الخالص أو ما يسمّى بالغريزة العاطفيّة أو غريزة "الحبّ"، فإنّنا لا نخالف ما يقال عن ضرورة تربية الاستعدادات الفطريّة وعدم كبتها، بل نوصي الآخرين بذلك نظراً للآثار الطيّبة التي تنطوي عليها تربية الاستعدادات والآثار السيّئة التي تظهر عند كبتها ومنعها من النموّ، وبالإضافة إلى هذا فلدينا طريقة أخرى للاستدلال بواسطة ما يسمى بالدليل "الفنّي".
1 ـ أهمِيَّة تنمية الاستعدادات الفطريّة
نعتقد، في خصوص تنمية الاستعددات الفطريّة للإنسان، أنّ الله سبحانه وتعالى لم يخلق أيّ عضو من أعضاء جسم الإنسان عبثاً، ولم يوجِد الاستعدادات الروحيّة عند الإنسان بدون فائدة. فكما يجب على الإنسان المحافظة على أعضاء جسمه وتغذيتها بالغذاء المناسب كذلك فإنّ الاستعدادات الروحيّّة يجب ضبطها وإعطاؤها الغذاء
31
20
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
الكافي الذي يساعد على نموّها. ونحن لم نفترض، عن طريق الآثار والنتائج ضرورة تربية الاستعدادات الفطريّة وعدم كبتها، بل معرفتنا بالله هي التي أرشدتنا لذلك. فقبل مائة عام، حين لم يهتدِ الناس إلى النتائج الحسنة لتربية الاستعدادات المذكورة والأضرار الناجمة عن كبتها، أوصى مفكرون- بالاعتماد على الدليل نفسه-، بحفظ أعضاء الجسم وصيانتها، وعدم إهمال القدرات النفسيّة المودعة عند الإنسان، فلا يوجد- بناءً على ذلك- أيّ ترديد في ضرورة تربية الاستعدادات بصورة عامّة، بل إنّ مفهوم كلمة "التربية" التي اختيرت منذ القدم لإيصال هذا القصد تعطي المعنى نفسه، فليس للتربية معنى غير المساعدة على النموّّ والنضج، ولذلك ليس بحثنا في هل نربّي الاستعدادات أم نهملها؟
2 ـ الوسيلة الصحيحة لتربية الاستعدادات الفطريّة
يتركز البحث هنا في معرفة الوسيلة الصحيحة لتربية الاستعدادات الفطريّة عند البشر بحيث لا تؤدّي إلى أيّ نوع من الاضطراب والفوضى والخلل، وإثبات أنّ التعاليم الإسلاميّة هي وحدها القادرة على تنمية هذه الاستعدادات، ومنها الاستعداد الجنسي، نموّاً طبيعيّاً. ويولّد الإنحراف عن هذه التعاليم الاضطراب والفوضى، بل ويؤدّي إلى خَنْق الاستعدادات أو جرحها.
وعلينا الآن أن نلقي نظرة إلى المنطق الإسلاميّ في الأخلاق والتربية بصورة عامّة وموجزة.
أ ـ الأخلاق الإسلاميّة وتطهير الوجدان
يعتقد بعض أصحاب النظرة الضيّقة أنّ الأخلاق والتربية
32
21
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
الإسلاميّة تقف في طريق النموّ الطبيعي للاستعدادات الفطريّة عند الإنسان، ويزعمون أنّها مبنيّة على أساس منع هذه الاستعدادات وكبتها، ويجعلون من التعابير الإسلاميّة في مجال تهذيب النفس وإصلاحها ذريعة ودليلاً لشنّ هجومهم هذا. وقد جاء هذا التأكيد في القرآن الكريم بعد تكرار عبارة القسم، قال الله تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا"، أي أنّ الفلاح يكون من نصيب الذين يطهّرون أنفسهم من كلّ دنس.
ويُفهَم من هذه العبارة القرآنية:
أولاً: احتمال تلوّث وجدان الإنسان.
لا يمكن إنكار أيّ واحد من هذه الأمور الثلاثة، كما لا توجد عقيدة أو طريقة لا ترى احتمال تلوّث الوجدان عند الإنسان، أو لا توصي بضرورة تطهير النفس من ذلك التلوّث. فوجدان الإنسان كسائر أعضاء جسده معرض لحدوث الخلل والاضطراب فيه. والإنسان لا يناله من الطبيعة والناس من الضرر بقدر ما يصيبه من نفسه بسبب ما يطرأ على الروح الإنسانيّة من تلوّث واضطراب، لذلك فإنّ فلاح الإنسان متوقّف على طهارة نفسه وتوازنها. وعلى هذا فلا مجال للشبهة مطلقاً في التعبير القرآنيّ الآنف الذكر.
33
22
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
ب ـ القرآن الكريم والنفس البشريّة
وصف القرآن الكريم النفس البشريّة بأنها "لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ"1، بمعنى أنّها تأمر صاحبها بالشرّّ. وهذا التعبير يُوجد في الأذهان السؤال التالي: هل ينظر القرآن الكريم إلى الطبيعة البشريّة على أنّها شرّيرة؟ فإذا كان القرآن يرى- من جانب فلسفته النظرية- أنّ طبيعة النفس البشريّة شرّيرة بالذات، فلا مناص إذاً من أن يختار في فلسفته العمليّة طريقة تخطّئ تربية هذا الموجود الشرّّير ذاتياً وإنمائه، وتجعل هذا الموجود دائماً ضعيفاً مسلوب القدرة وتضغط عليه وتؤذيه وتمنع كلّ نشاطاته، بل حتى تقضي عليه أحياناً.
ولكنّ القرآن الكريم لا ينظر إلى طبيعة النفس الإنسانيّة من الأساس نظرة نرى أنها شرّيرة بالذات، بل يرى أنّ هذه الطبيعة تتمرّد في ظروف خاصّة ولأسبابٍ وأعراضٍ معيّنة ويصدر عنها الشرّ. ومعنى هذا أنّ القرآن لا يسيء الظنّ في فلسفته النظريّة بطبيعة النفس الإنسانيّة، ولا يَرى أنّها أصل الشرّّ. ولذلك فإنّ الأسلوب الذي يختاره في فلسفته العملية هو الابتعاد عن كلّ ما من شأنه تعريض النفس الإنسانيّة إلى الفناء أو الضعف أو دفعها إلى التمرّد.
ج ـ علل تمرّد القوى النفسيّة
أثناء البحث عن علل تمرّد القوى النفسيّة ينشأ السؤالان التاليان:
1- ما الذي يدفع بالقوى النفسيّة عند الإنسان إلى التمرّد والاضطراب والفوران؟
2- وكيف السبيل إلى إعادة الهدوء لهذه القوى وإرجاعها إلى حالة التوازن؟
1- يوسف: 53.
34
23
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
5- السؤال الأول: ما الدافع إلى التمرّد؟
وثانياً: أنّ تطهير الوجدان من هذا التلوّث يكون في يد الشخص نفسه.
وثالثاً: أنّ القرآن يوجب تطهير الوجدان من التلوّث الحاصل فيه، ويرى أنّ سعادة الإنسان وفلاحه متوقفان على هذا التطهير.
ما الذي يدفع القوى النفسيّة عند الإنسان إلى التمرّد والفوران؟
اكتفى أصحاب النظرة الضيّقة، وبمقدار ما عرفوا أنّ الإسلام قد ذكر النفس البشريّة بأنّها "أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ"، بهذا القدر دليلاً لاتهامهم الأخلاق والتربية الإسلاميّة بأنّها تسيئ الظنّ بالاستعدادات الفطريّة والمصادر الطبيعية للوجود البشري، وأنّها ترى إنّ طبيعة النفس الإنسانيّة شرّيرة بالذات، وأنّها ترى من الخطأ تربية هذه الاستعدادات، وما إلى ذلك.
من الواضح خطأ هذا التصوّر. وإن كان الإسلام قد ذكر حقيقةً أنّ النفس البشريّة "أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ" ولكنه سمَّاها في مكان آخر بـ "النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ" أي أنّها تلوم صاحبها عند ارتكابه الشرّّ، كما وصَفَها في مكان ثالث بـأنّها "النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ" أي التي وصلت إلى مرحلة الهدوء والكمال.
نفهم من ذلك أنّ طبيعة النفس الإنسانيّة (من خلال نظرة القرآن الكريم) يمكن أن تمرّ بثلاث مراحل، ففي إحداها تأمر بالشرّ أو السوء، وفي الثانية تلومه لارتكابه الشرّ، وفي الأخيرة يصيبها الهدوء والسكينة ولا تدور حول محور الشرّ والسوء.
وعلى هذا الأساس فالإسلام لا يرى شرّاً ذاتياً في طبيعة النفس الإنسانيّة، وفلسفته العمليّة لا تتبع طريقة القضاء على القوى النفسيّة أو على الأقلّ كبتها أو حبسها، كبقية الأنظمة الفلسفية أو التربوية.
إذا كان موضوع دفع النفس البشريّة لصاحبها إلى ارتكاب الشرّ
35
24
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
في بعض المراحل أو الظروف وخلقها حالة خطيرة بسبب ذلك، يلفّه الغموض في الماضي البعيد، فاليوم وعلى أثر التقدّم الحاصل في مجال علم النفس والبحوث النفسيّة أصبح شيئاً طبيعياً لا لبس فيه.
اللافت للانتباه أنّ القرآن الكريم عند وصفه للنفس الإنسانيّة لم يطلق عليها "داعية السوء" بل قال عنها إنّها "أَمَّارَةٌ بِالسُّوء"، وهو يريد بهذا التعبير أن يبيّن أنّ العواطف والمشاعر النفسيّة عند الإنسان إذا تمرّدت لا تدفعه إلى الجريمة والأعمال الانحرافيّة بل تتحكّم فيه كسلطة ديكتاتوريّة مستبدّة. والقرآن الكريم بذلك التعبير يبيّن هذه السيّطرة والهيمنة الطاغية للقوى النفسيّة التي تعيش حالة التمرّد على الاستعدادات الإنسانيّة الساميَة. وهذا سرّ لم يكتشفه علم النفس إلاّ في الفترات القريبة.
ثبت اليوم أنّ المشاعر المنحرفة تتحكّم أحياناً وبشكل ظاهر في جهاز الوعي عند الإنسان فتفرض نفسها بالقسر والقوّة عليه. ويقوم جهاز الإدراك عنده وبصورة لا إرادية بتنفيذ الأوامر الصادرة عن هذه المشاعر.
السؤال الثاني: كيف نعود إلى التوازن؟
ما هو السبيل إلى إعادة الهدوء لهذه القوى وإرجاعها إلى التوازن؟
سنتعرّض لبحث للجواب على السؤال الثاني أثناء الحديث عن قاعدة الأخلاق الجنسيّة الجديدة أي في بحث "الأساس النفسي" لهذه الأخلاق تحت عنوان "الشعور بالحرمان أسهل الطرق للأمراض النفسيّة".
يمكن أن يُطرح سؤال نابع من طريقة خاصّة في فهم الدين، وهو: لو
36
25
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
كانت الأخلاق الإسلاميّة ترى أنّ الاستعدادات الطبيعية للإنسان يجب أن لا تُمسَّ بسوء، فما هو معنى قتل النفس، أو إماتتها، هذا التعبير الذي يرد أحياناً في المحافل الدينية أو على الأقلّ على لسان معلّمي الأخلاق الإسلاميّة؟ ماذا يعني هذا التعبير وأي مفهوم فيه؟
والجواب على هذا السؤال هو أنّ الإسلام لا يدعو إلى إبادة الطبيعة النفسيّة أو الاستعداد الفطريّ، بل يأمر بالقضاء على النفس الأمّارة بالسوء.
وكما أسلفنا فإنّ النفس الأمّارة بالسوء تمثّل الاضطراب والفوضى ونوعاً من التمرّد والعدوان اللذَين يظهران على وجدان الإنسان لأسباب معيّنة، فقتل النفس الأمّارة بالسوء ليس معناه إلا إطفاء نار الفتنة والتمرّد في القوى والاستعدادات النفسيّة. وإطفاء نار الفتنة يختلف عن قتل القوى التي تولّد الفتنة. وإنّ إخماد نار الفتنة سواء أكانت اجتماعية أم نفسية لا يستدعي القضاء على الأفراد أو القوى التي سبّبت تلك الفتنة، بل يستلزم إزالة العوامل التي دفعت بالأفراد أو القوى إلى الفتنة.
ويجدر أن نضيف هنا أنّ التعابير الدينية لا تتضمّن عبارة بمعنى "قتل النفس"، وما تتضمنه لا يتجاوز بالطبع الموردَين أو الثلاثة، وقد أتت بصورة "إماتة النفس".
المبدأ الثالث: مبدأ أضرار الكبت
تشير البحوث والاكتشافات التي تمّت في القرن الأخير إلى أنّ كبت الغرائز والميول يسبّب الكثير من الأضرار وحالات القلق والاضطراب، وتبيّن أنْ لا أساس للمبدأ الذي قَبِلَه أكثر المفكّرين القدماء والقائل
37
26
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
بأنّه كلما بقيت الغرائز والميول في حالة الضعف فذلك سيفسح في المجال لغرائز وقدرات أسمى- وخاصّة القوة العاقلة- من أجل البروز والتفتّح أكثر والعمل بدون أي معوّق. فالغرائز التي تُكبت ولا يتمّ إرضاؤها تطوي حوادث غير مُدْركة تكلّف البشريّة أثماناً غالية على الصعيدَين الفرديّ والاجتماعيّ، ومن هنا يفترض تجنّب كبتها وتجنّب عدم إرضائها بالشكل المقبول كي لا تُنتج آثاراً تخريبيّة.
1ـ الشعور بالحرمان أسهل الطرق للأمراض النفسيّة
يعتقد الكثير من علماء النفس أنّ جذور الأمراض النفسيّة والعصبيّة والاجتماعيّة تعود إلى الشعور بالحرمان وبالأخص في دائرة الأمور الغرائزية والجنسيّة.
ويؤدي الحرمان في الكثير من الأحيان إلى عُقَدٍ عند الإنسان تظهر في بعضَ الأوقات على شكل خصال خطيرة كالنزوع نحو الظلم والجريمة والحسد والإنزواء...
إنّ ما تقدَّم هو جوهر وموضوع الأضرار الناجمة عن كبت الغرائز، وهي من أكبر الاكتشافات القيّمة في مجال علم النفس.
والسؤال المطروح: إذا كان الفضل يعود إلى علماء النفس في الكشف عن هذه الأضرار فلماذا لم تتمّ الاستفادة من هذا المبدأ وبالتالي العمل على اجتثاث العديد من الأمراض التي تعاني منها البشريّة؟
الجواب: إنّ تعقيدات المسائل النفسيّة وتعدّد جوانبها من جهة، وعلاقة الموضوع بميول الإنسان التي تتدخّل بصورة أو بأخرى في إعماء البصيرة من جهة أخرى، لم تترك مع الأسف مجالاً للاستفادة التامّة من هذا المبدأ، بل ساهمت طريقتهم في التعامل معه
38
27
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
في ظهور الخلافات بينهم وزيادة ما يكبت الغرائز وإيجاد الآثار النفسيّة والاجتماعيّة الخطيرة الناجمة عن هذا الكبت.
تشير الإحصاءات إلى ارتفاع حالات الأمراض العصبية والجنون والانتحار والجرائم والإرهاب والفوضى واليأس وسوء الظنّ والحسد والحقد بصورة رهيبة بسبب تفسير مبدأ عدم كبت الغرائز بإطلاق الحريّة للميول والأهواء، أي رفع القيود والحدود والقوانين كافة.
والغريب أنّ عبادة الشهوة التي كانت تُعتبَر منافية للأخلاق وعنصراً للإخلال في الهدوء الروحيّ، أصبحت ذات معنى آخر مع تبدّل القيم، وأضحت مخالفة الشهوة والتزام العفّة والتقوى وقبول الحدود والقيود الاجتماعيّة عوامل من شأنها إفساد الهدوء الروحيّّ والإخلال بالنظام الاجتماعيّ.
وعلى وقع هذه الأمور أخذت تتعالى الصيحات لرفع القيود والحدود باعتبار أنّ ذلك يساعد في قلع جذور العدوان، وارتفعت نداءات نبذ العفّة، بدعوى أنّ نبذ العفّة يؤدي إلى استقرار النظام في المجتمع.
لقد جذبت هذه النظريات الكثيرين إليها، الذين أخذوا ينادون بالمطابقة بين الأهواء والنزوات والأخلاق الإنسانيّة. ولكن ما هي النتيجة التي تمخّضت عنها تلك المحاولات؟ هل زالت الأمراض النفسيّة؟ وهل حَلَّ الهدوء الروحيّ مكان الاضطراب والرعب؟
في الواقع كانت النتيجة عكسية، حيث أضيف شقاء جديد إلى شقاء الإنسانيّة، فأدى ذلك إلى تخلّي بعض دعاة الحريّة الجنسيّة عن أقواله متذرّعاً بالتفسير والتأويل والإدّعاء بأنْ لا مفرّ من قبول الحدود الاجتماعيّة والإذعان بعدم إمكانية إشباع الغريزة بصورة كاملة، وأنه لا مناص من صرف الذهن إلى قضايا الفنّ والفكر وترويض الغريزة
39
28
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
حكمة خاصّة به.
إنّ هذه الأمور كلها محدودة ولكنّها تصلح لأن تكون أرضيّة لأمنية كاذبة. فالميل والرغبة إلى أنواع الطعام عند الإنسان مشهودة ومعروفة للجميع.
وتظهر الأمنية الكاذبة في بعض الميول والغرائز ومنها الغريزة الجنسيّة على شكل عطشٍ أو نهمٍ روحيّّ فلا تعرف طريقاً للقناعة والانتهاء. وفي حين يمكن اشباع الغريزة الطبيعيّة يستحيل ذلك في الأمنية الكاذبة وبالأخصّ إذا كانت على صورة عطشٍ أو نهمٍ روحيّّ.
3 ـ الفارق بين الإنسان والموجودات الأخرى
إنّ الخطأ الذي ارتكبه أصحاب الأخلاق الحرّة بهدف الحدّ من كبت الغرائز وتنمية الاستعدادات أنّهم تجاهلوا الفرق بين الإنسان والحيوان، ولم يلتفتوا إلى أن الميل اللامتناهي متأصّل في طبع الإنسان، فالبشر سواء في القضايا الماليّة أو الاقتصاديّة أو السياسيّة أو في الأمور الغريزيّة لو فُسح لها في المجال للمضي قدماً لسارت دون أي توقّف.
إذا قلنا أنّ الإنسان محدود في حاجته إلى الغرائز والتسلّط والتملّك والجنس أو إنّه قابل للاشباع، فنكون بذلك قد نفينا الحاجة إلى كلّ هذه القوانين الموضوعة في المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة، لأن محدوديّة الغرائز وإمكان اشباعها لا تخلق دافعاً لتجاوز الحدّ والذهاب إلى ما بعد حالة الاشباع.
ولكن ولمّا كانت الحاجة موجودة وملحّة للقوانين والحدود والقيود السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وكذلك الحاجة إلى
41
30
المبحث الثالث: مناقشة الرؤية الجديدة للفساد
التحلّي بخصلتَيْ العفّة والتقوى في المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة فكذلك يجب أنْ تكون هناك حاجة إلى الأخلاق التي تحدّد العلاقات الجنسيّة وإلى العفّة والتقوى في هذا المجال.
43
31
المبحث الرابع: الحب والعفاف
واقعية الميول والرغبات
تقدّم أنّ مبدأ الحريّة والديمقراطيّة يحكمان القضايا الأخلاقيّة، كما يحكمان المسائل السياسيّة، وهذا يعني أنْ يتعامل الإنسان مع غرائزه وميوله كحكومة ديمقراطيّة أثناء تعاملها مع جماهير الشعب بالصيغ العادلة. وقد يحلو للبعض الخلط بين الديمقراطيّة والفوضى أثناء الحديث عن القضايا الأخلاقيّة. أما حديث الإسلام عن الأخلاق الغريزيّة فهو يطابق ما يقبله عالم اليوم في الأخلاق السياسيّة والاقتصاديّة.
ويتبيّن من خلال دراسة أنواع الأخلاق وجود علاقة بين الأخلاق الجنسيّة والغريزة الجنسيّة وأنّ جميع أنواع الأخلاق تتّفق في الحاجة إلى الحريّة من جهة والانضباط الصارم من جهة أخرى.
2 ـ ظاهرة الحبّ عند المفكرين
يعتبر "الحبُّ" واحداً من القضايا المهمّة للأخلاق الجنسيّة. وقد أفرد الفلاسفة، ومنذ القدم، كما نعرف، باباً خاصّاً به في كتاباتهم وانبروا للتحقيق في حقيقة هذه الغريزة.
تحدّث "ابن سينا" عن "الحبّ" في أطروحة خاصّة. ورأى الحكماء أنّ "الحبَّ" يجري في كلّ شيء وقالوا إنّ حُبَّ الإنسان للإنسان ظاهرة
45
32
المبحث الرابع: الحب والعفاف
تتجلّى فيها تلك الحقيقة الكليّة.
وذَكرَ الشعراء والأدباء "الحبَّ" بألفاظ التمجيد والمديح. وذهبوا أبعد من ذلك بترجيح الحبّ على العقل عند المقارنة بينهما. ويشهد بذلك قسم كبير من أدبنا بصورة عامة.
إنّ "الحبَّ" الذي أصبح موضع التمجيد ووُصف بأنّه خارج عن مقولة "الشهوة" ليس هو "الحبُّ" الإلهي فقط، بل اعتُبر حبّ الإنسان للإنسان في بعض أشكاله شيئاً سامياً لا يمتّ إلى مقولة "الشهوة" بصلة أيضاً.
وهناك من يعتقد بالإضافة إلى ما ذكر أنّ "الحبَّ" ما هو إلا نوع من الغليان الجنسيّ. فلا يؤمن هؤلاء بقداسة الحبّ ولا يحبّذون استخدامه فيما يخصّ علاقة الفرد بالله تعالى.
يعتقد بعض المفكّرين المعاصرين أنّ منشأ كلّ حبّ يكمن في أمر جنسيّ إلا أنّه يتلبّس بقالب روحيّّ معنويّّ. ويدّعي هؤلاء أنّ "الحبَّ" ثنائيّ الجانب من حيث الحالة والشكل والهدف والنتائج، ولا يرون أيّ غرابة في أن يأخذ أمر ماديّ قالباً وشكلاً معنويّاً، حيث لا جدار يفصل بين المادّيات والمعنويّّات.
والواقع أنّه سواء كانت للحبّ جذور غير جنسيّة أم لم تكن، وسواء كان باستطاعته التلّبس بلباس معنويّ وروحيّ، أم لم يكن، فإنّه لا يمكن الترديد بأنَّ الحبّ من حيث نتائجه النفسيّة والاجتماعيّة وما يحدثه من تغييرات عند الإنسان أو في مجال تأثيره في خلق الابداعات، يختلف كثيراً عن تلك الغريزة الشهوانيّة الحيوانيّة البسيطة التي لا هدف لها سوى أن تجد من يُشبعها ويُرضيها.
46
33
المبحث الرابع: الحب والعفاف
3ـ حقيقة الحبّ
إنّ "الحُبّ" عبارة عن زوال الأنانيّة، حيث يصبح المحبوب أعلى وأعَزَّ من روح المحبّ التي لا يتوانى في تقديمها فداءً للمحبوب، وهذا يعني أن يتحرّر الإنسان المُحِبُّ من قيود الـ"أنا" أو أن تندمج "أناه" في "أنا" المحبوب، ولهذا السبب أطلقوا على الحبّ أسماء "المربّي" و"المعلّم" و"الملهم" و"الكيمياء".
وجد "الحبُّ" الكثير من التمجيد والمديح في الغرب والشرّق، ولكنّ الفرق هو في أن الغربيين مجّدوه لما فيه من حلاوة ولذّة أثناء الوصال، أو ربّما لأنّه يقضي على الأنانيّة الفرديّة التي طالما عكّرت صفو الحياة، وسبّبت العزلة الروحيّة لصاحبها. فالحبّ في الغرب يؤدّي إلى توسّع آفاق شخصَين فيحصل الاندماج فيما بينهما فيعيشان جنباً إلى جنب محاولَيْن جنيَ ما أمكنهما من ثمار الحياة اللذيذة.
أما الشرّقيون فكان تمجيدهم للحبّ بسبب ما يتّصف به من مرغوبيّة وقدسيّة تفيض منها الروح الشخصيّة والعظمة، كما أنّه الملهم والكيمياء، وهو عنصر يكمل الشخصيّة ويهبها النقاء والصفاء. ولم يُمَجَّد "الحبُّ" في الشرّق لكونه يؤدي إلى الوصال أو لأنّه يمهّد لحياة تملأ الروح الإنسانيّة بالرقّة واللطافة. يعتقد الشرّقيون أنْ: لو كان حبّ الإنسان للإنسان مقدّمة لشيء، فهو مقدّمة لمحبوب أسمى وأرفع من الإنسان. ولو كان مقدّمة لإتحاد روحيّن، فمقدّمة الإتحاد توصل إلى حقيقة أسمى مما يسعه الأفق الإنساني1.
والخلاصة أنّ الشرّقيين والغربيين اختلفوا في نظرتهم إلى "الحبّ"،
1- كتاب إلهيات الأسفار.
47
34
المبحث الرابع: الحب والعفاف
فالغربيون ينظرون إليه في مرحلته النهائيّة على أنه ليس مجرّد لذّة أو شهوة، فيعطونه صفات الّرقة والعذوبة، إلّا أنّهم لم يفصلوه عن قضايا الحياة، بينما بحث الشرّقيون عن الحبّ في أمور أسمى من الشؤون العاديّة.
4 ـ العلاقة بين الحبّ والديّن
جرت العادة على القول إنّ ثمّة عداءً بين الدين "والحبّ". ويتجلّى هذا العداء عند القول إنّه: طالما ينظر الدين إلى "الحبّ" علىأنّه والشهوة شيء واحد، وينظر إلى الشهوة على أنَّها شيء خبيث ذاتياً، فالدين بالنتيجة يرى "الحبَّ" شيئاً خبيثاً أيضاً.
وكما نعرف فإنّ هذه التهمة لا يمكن أن تصدق في حقّ العقيدة الإسلاميّة، الإسلام لا يرى أيّ خبث في أصل اللّذة الجنسيّة فكيف يعتبر ذلك في "الحبّ" الذي ما زال موضوع بحث الباحثين في هل أنّه هو الشهوة الجنسيّة أم شيء يختلف عنها.
يحترم الإسلام ويقدر"الحبّ الصادق" القائم بين زوجين، بل يؤكّد على ضرورته في المحيط العائليّ. كما أنّه يوصي بتدابير في سبيل تحقيق الاندماج الروحيّ وتقويته وتعزيزه ووحدة المشاعر بين الزوجين بشكل كبير.
والنقطة التي لم نغفلها هنا هي أنّ سبب إبداء بعض معلّمي الأخلاق معارضتهم للحبّ عبر نظرتهم للأخلاق، أو اعتبارهم إياه أمراً غير أخلاقيّ، السبب هو ذلك التنافر الموجود بين الحبّ والعقل، فالحبّ يحوي قوّة ونفوذاً عظيمين بحيث يشلّ حال سيطرته على شخص معيّن سلطة العقل لديه. والعقل قوّة مطيعة للقانون والنظام بينما الحبّ يميل إلى ما يسمّى بالفوضى ولا يحدّه أو يقيّده أيّ قانون، وهو
48
35
المبحث الرابع: الحب والعفاف
قوّة ثورية لا تعرف الانضباط وتتوق دائماً إلى الحريّة والانعتاق. لذلك فالأنظمة القائمة على أسس عقليّة لا تستطيع أن تجوّز "الحبَّ"، فهي تعتبر "الحبَّ" أمراً لا تجدر التوصية به أو إباحته، وإن تورّط شخص به بالصدفة.
5 ـ العلاقة بين الحبّ والعفاف
لعلّ من أهم الموضوعات التي يمكن التحدّث حولها في هذا الإطار، هو العلاقة الموجودة بين "الحبّ" و"العفاف". حيث يجب تتبّع جذور هذا الاستعداد أو الدافع السامي، لنرى في أيّ محيط أو ظرف يمكن أن ينمو ويزدهر بصورة أفضل.
هل ينشط هذا الاستعداد بشكل أفضل في محيط تحكم فيه روحَيْ الرجل والمرأة مجموعة من القوانين والأعراف الأخلاقيّة تحت عنواني "العفاف" و"التقوى"؟ أم يكون فعالاً في محيط ليس فيه شيء باسم "العفاف" و"التقوى"؟ ممّا لا شكّ فيه أنّ المحيط الذي تتوفّر فيه الإباحيّة لا يمكن أن تظهر فيه حالات حبّ تمتاز بالدفء والعمق، حيث لا تكون هناك أية قيمة معنويّة للقلوب ولا يتوفر لها مستقَرٌّ ثابت.
ومثل هذه الأجواء الحرّة لا تعدو كونها بيئةً تتوفّر فيها وسائل نيل اللّذة وإرضاء النزوات، ولا يمكن أن تظهر فيها حالات حبّ بالمفهوم الذي احترمه الفلاسفة وعلماء الاجتماع، ذلك الحبّ المقرون بالتضحية ونكران الذات ودفء الوصال وألم الحرمان والهجران.
إنّ الحبّ الذي يبعث النشاط في ذهن صاحبه ويركّز قواه النفسيّة
49
36
المبحث الرابع: الحب والعفاف
في شيء واحد هو المحبوب فقط، وتتفتّح لديه آفاق الخيال فيصوّر المحبوب في ذهنه بصورة هو يرغبها ويريدها ولا تمتّ إلى الصورة الحقيقة للمحبوب بصلة، هذا الحبّ هو الذي يهب الفرد القدرة على الإبداع والتفنن والابتكار وخلق الأفكار الساميَة.
6 ـ عوامل إضفاء الصفاء على الحياة الزوجيّة
أمَّا العوامل الرئيسيّة التي توفّر الصفاء والنقاء والوفاء في الحياة الزوجيّة فتبدأ من تحمّل الرجل نفقات المرأة وإشراكها بصورة عمليّة في أمواله. والأهم من ذلك تأمين غريزة الاستمتاع في محيط الزوجيّة، وتميُّز المحيط الكبير للمجتمع بالعمل والنشاط. وإنّ التدابير التي أوصى بها الإسلام في شأن الحياة الزوجيّة وفي كلّ علاقة بين زوجين، كانت السبب في انتشار مثل هذه العلاقات الصادقة من الحبّ والصفاء والودّ بصورة كبيرة في المجتمع الإسلاميّ، وعلى عكس ما هي عليه البيئة الأوروبية اليوم.
يذكر القرآن الكريم لنا في إحدى آياته أنّ العلاقة الزوجيّة علامة من العلامات الدالّة على وجود الله، ويقرن هذا الذكر بعبارتي المودّة والرحمة، وكما نعرف فإنّ: "المودة والرحمة" تختلفان عن الشهوة والميل الطبيعي، فتقول الآية الكريمة: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً"1.
ويصف "ويل ديورانت" هذا الصفاء والإخلاص اللذَين يدومان حتى بعد خمود الشهوة فيقول "إنّ الحبّ لا يصل إلى مرتبة الكمال إلا عندما يعمل بحرارته وتأثيره المرغوب على تخفيف المعاناة
=
1- الروم : 20.
50
37
المبحث الرابع: الحب والعفاف
من حالة العزلة والشيخوخة والاقتراب من ساعة الموت. والذين يصفون الحبّ بالميول والرغبة إنّما ينظرون إلى منشأ الحبّ وشكله فقط. إنّ روح الحبّ ستبقى مع المحبّين حتى بعد زوال الجسد المادي، وفي الأيام الأخيرة للعمر إذ تتعلّق القلوب الشائخة بعضها ببعض ويصل الجسم الجائع إلى كماله بصورة معنويّة يرة للدّهشة".
ومع الفارق الموجود بين رأي الإسلام في الحبّ والعفاف ورأي "ويل ديورانت" إلّا أنّ الحبّ عند "ديورانت" يتميّز بالهجران وفي الإسلام بالوصال، ويكون الأوّل من النوع الهائج المجهد والثاني يكون هادئاً وساكناً، إلا أنّهما يشتركان في خصيصة واحدة: فكلا النوعين زهرة ناعمة تنمو وتتفتّح فقط في مجتمع تحكمه خصلتا العفاف والتقوى...
51
38