أسوار الأمان


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2014-12

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين وبعد.

 

تُمثّل سورة الحجرات نموذجاً من النماذج الإعجازية في القرآن الكريم، حيث تضمّنت كمّاً هائلاً من القوانين والسنن في مجالات مختلفة، وتحتوي بهذا الكم القليل من الآيات الشريفة على كثير من المبادىء الحقوقية، والاجتماعية، والتربوية، والأخلاقية،... فقد أوضحت السورة حقيقة الإيمان، وبيّنت تفاوته عن الإسلام ومراتب كل واحد منهما.

 

وهي على قِصَرِه, إذ لم تتجاوز الثماني عشرة آية، تتضمّن العديد من الحقائق الكونية والتشريعية والكثير من الأسس والمبادىء والقوانين الثابتة لبناء الحياة الاجتماعية في مجالاتها الخُلقية والاجتماعية.ولهذا تمّ اختيار هذه السورة لتكون المضمون الثقافي والتبليغي لهذا الكتاب، الذي يمتاز بمجموعة من الأمور على مستوى المنهج والمضمون والشكل، نشير إليها باختصار:

فعلى مستوى اسم الكتاب: أطلقنا عليه اسم "أسوار الأمان" نظراً إلى الأهداف التي نتوقّع تحقيقها من الكتاب، وهي صون المجتمع من الانحراف من خلال مراعاة الضوابط والقواعد التي تحدّثنا عنها. ولأنّ حفظ الأمن والأمان المجتمعي أعلى قيمة ينبغي المحافظة عليها.

 

وعلى مستوى المضمون: يتضمّن الكتاب تفسيراً كاملاً لسورة الحجرات، اعتمدنا فيه على التحقيقات والجهود العلمية القيّمة لعلمائنا الأبرار في مجالات متعدّدة لغوية، تفسيرية، عقدية، أخلاقية، تربوية...، ومن المصادر التفسيرية التي اعتمدنا عليها: التبيان للطوسي، مجمع البيان للطبرسي، الميزان للطباطبائي،

13


1

المقدمة

 الفرقان للطهراني: وذلك ليتسنّى للإخوة الأعزّاء الاطلاع العلمي الرصين على هذه النتاجات العلمية بُغية توظيفها في المجالات العملية والحياتية، لأنّ المعرفة العلمية الدقيقة والصحيحة هي مقدمة ضرورية للنجاح في مجال التطبيق للفرد والمجتمع.

 

أما على مستوى المنهج: فقد قسّمنا الكتاب إلى إطلالة (13) درساً بشكل استتنائي عن بقية كتب هذه السلسلة, ليضم كل الدروس المستفادة من السورة. وقد اعتمدنا فيها المنهج الآتي:

 

- اعتمدنا على نظرية الوحدة الموضوعية للسور القرآنية واخترنا محوراً محدّداً للسورة.

 

- اعتمدنا تقسيم السورة المباركة إلى مقاطع، وكل مقطع إلى عدد من الدروس، وفي بعض الأحيان قد يستوفي الدرسُ تمام المقطع. كل ذلك مع ملاحظة وحدة المحور في تمام الدروس.

 

- عند نهاية كل مقطع حاولنا ربطه بالمحور وختمنا المقطع بالرسالة التي تريد الآيات أو الآية في بعض الأحيان إيصالها إلينا.

 

- لدواع منهجية مرتبطة بطبيعة سلسلة المتون الثقافية إن من جهة تنوّع مستويات الشريحة المستهدفة، وغزارة المادّة التفسيرية من جهة أخرى، تعمّدنا اختصار حجم الدروس قدر الإمكان ليتمكّن الإخوة من ضبط المادّة بشكل مناسب ويستطيع الأساتذة الكرام إعطاءها ضمن الوقت المحدّد.

 

- اعتمدنا منهجية محدّدة في كل الدروس كانت على الشكل الآتي:

1- تصدير الدرس بالآية أو الآيات مورد الشرح.

 

2- تمهيد يتناسب مع الدرس، هو اختصار للمدلول التفسيري العام للآية أو الآيات، وذلك بهدف تهيئة ذهن الطالب للدخول إلى الدرس وتركيز المعنى التفسيري بعبارات يمكن حفظها ويسهل على الطالب فهمها.

14


2

المقدمة

 3- اعتمدنا في فقرة شرح مفردات الآية بشكل رئيس على التحقيقات القيمة للعلامة الشيخ حسن المصطفوي في كتابه "التحقيق في كلمات القرآن الكريم" بالإضافة إلى كتب لغوية أخرى كمعجم مقاييس اللغة لابن فارس، ومفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، وغير ذلك من الكتب اللغوية ذات الصلة.

 

 

4- المعنى التفصيلي هو توسعة في المدلول التفسيري للآية أو الآيات من خلال التركيز على أهم الآراء التفسيرية، والتربوية، والأخلاقية، وغير ذلك. وقد نذكر المعنى التفصيلي بشكل فقرة واحدة أشبه بالمعنى الإجمالي ولكن بشكل أوسع وقد نذكرها على شكل نقاط وذلك حسب حجم المعلومات المرتبطة بالآية.

 

5- فقرة تأمُّلات حول الآية ليست مطّردة في كل الدروس وقد نذكرها لدواع إثرائية مرتبطة بمضمون الآية ولكنّها لا ترتقي إلى مستوى بحث حول الآية.

 

6- فقرة بحث حول الآية هي عبارة عن أبحاث مستلّة من الآيات الكريمة ولا يستوعبها المعنى التفصيلي.

 

7- الدروس المستفادة من الآيات هي الدروس والعبر والنتائج العلمية التي نستنتجها من الآية ومن الأبحاث حولها.

 

8- وضعنا ختام كل درس صفحة مطالعة تنسجم في أغلب مضامينها مع مضمون الكتاب.

 

والحمد لله رب العالمين

مركز نون للتأليف والترجمة

15


3

إطلالة عامة على سورة الحجرات

 إطلالة عامة على سورة الحجرات

 

مفاهيم محورية:

- تعريف بالسورة.

- فضيلة تلاوتها.

- هدف السورة.

- محور السورة.

- موضوعات ومقاطع السورة.

- أسوار الأمان في السورة.

- معالم المجتمع الإسلامي من خلال السورة.

- منهج السورة.

 17 


4

إطلالة عامة على سورة الحجرات

 تمهيد

 قبل البدء بتفسير السورة نُلفت إلى الموضوعات الإجمالية التي تناولتها الآيات إضافة إلى التعرّف على منهج السورة ومحاورها وهدفها الرئيس، لأنّ ذلك يعيننا على فهم وتدبُّر السورة بشكل أفضل.

 

تعريف بالسورة

نزلت سورة الحجرات بعد سورة المجادلة، آياتها ثمانية عشرة آية بلا خلاف، 343 كلمة و 1496 حرف[1]. وهي مدنية إلا الآية 13 وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ وقال آخرون: كلها مدنية[2].

 

وقد سُمّيت بالحُجرات بسبب ورود لفظ الحُجرات في الآية الرابعة من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ أي  ينادون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وراء الحجرات أي بيته.

 



[1] روض الجنان وروح الجنان في تفسير القرآن (فارسي)، أبو الفتوح الرازي، ج18، ص 1.

[2]  التبيان في تفسير القرآن، محمد بن الحسن الطوسي، ج9، ص 339.

19


5

إطلالة عامة على سورة الحجرات

 وتضمّنت السورة موضوعات متعدّدة[1]، ومباحث متنوّعة ومن المباحث التي يمكن استخراجها من السورة ما يلي:

1- الصفات الإلهية وأثرها على التربية الأخلاقية للفرد والمجتمع.

2- منهج التعامل مع القيادة الربّانية.

3- الإيمان والإسلام حقيقتهما ومراتبهما.

4- أسس بناء المجتمع (الأخوة والتقوى).

 




[1] من هذه الموضوعات: أوصاف الذات الإلهية: توصيف الله تعالى: بالسميع والعليم (الآية 1). بالغفور الرحيم (الآية 5 و 14). توصيف الله تعالى بالعليم الحكيم (الآية 8).أنه بكل شيء عليم  (الآية 16). تواب رحيم (الآية 12). يحب المقسطين (الآية 9). يعلم غيب السموات والأرض (الآية 18). بصير بسلوكيات وأعمال العباد (الآية 18). حول الحضرة الإلهية:إن الله تعالى أخبر بأنه يحب الإيمان ويبغض الكفر، وقد حبّب وزيّن الإيمان في قلوب الناس (الآية 7). لا ينبغي على المسلمين أن يعلّموا الله دينه (الآية 16).إن الله تعالى قد منّ على المسلمين وهداهم إلى نعمة الإيمان (الآية 17). حول رسول الله: التقدّم على الله ورسوله في القول والعمل أمر غير جائز على الاطلاق (الآية 1). رفع الصوت في محضر النبي غير جائز ويؤدّي إلى إحباط العمل (الآية 2).مدح الله تعالى الأشخاص الذين يحترمون الرسول ويغضّون الصوت في محضره ووعدهم بالمغفرة والأجر العظيم (الآية 3). كيفية وآداب معاشرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الآية 5).رسول الله عنده أوقات وبرامج خاصة لخلوته مع نفسه وأسرته (الآية 5).لا ينبغي على المسلمين انتظار طاعة النبي لهم لأن مقامه أعلى منهم أي فوقهم ؛ فهم يطيعونه لا العكس (الآية 7).لا ينبغي على المسلمين أن يمنوا على رسول الله إسلامهم (الآية 17). بطلان أصالة عدالة كل الصحابة (الآية 1 و 2 و 6 و 11). حول الإسلام والإيمان: تفاوت الإيمان والإسلام (الآية 14). بيان حقيقة الإيمان (الآية 15). الإيمان في القلب (الآية 7  و 14). الإيمان وعلاقته بالعمل (الآية 15). كيفية ادخال الناس في الإيمان (الآية 15). قوانين الحياة الاجتماعية: لا ينبغي على المؤمنين الأخذ بقول الفاسق من دون تحقّق من قوله (الآية 6). إذا وقع صراع بين المؤمنين فإن الاصلاح بين المتصارعين واجب على الجميع (الآية 9). لا ينبغي على المسلمين أن يسخر بعضهم من بعض  (الآية 11). لا ينبغي أن يقولوا لبعضهم قولاً سيئاً وقبيحاً "اللمز "  (الآية 11). لا ينبغي استعمال الألقاب القبيحة في حق بعضهم "التنابز بالألقاب"(الآية 11). لا ينبغي على المسلمين سوء الظنّ ببعضهم (الآية 12).لا ينبغي أن يتجسّس بعضهم على بعض (الآية 12).لا ينبغي أن يغتاب بعضهم بعضاً (الآية 12). ينبغي أن يكون دافع العمل عند المسلمين هو التقوى (الآية 12). ينبغي على المؤمنين أن تحكمهم علاقات الأخوة الإيمانية (الآية 10). مباحث حقوقية: قاعدة القضاء هي من أجل إحقاق الحق لا لفصل الخصومة (الآية 9). لا فرق بين أفراد البشر وهم متساوون أمام الله وأمام أنفسهم (الآية 13). إن الاختلافات العرقية وغيرها بين أبناء البشر وجدت بغية التعارف بينهم (الآية 13). ينبغي إلغاء الطبقية بين أبناء البشر فلا فرق بين أبيض وأسود ولا عربي وعجمي (الآية 13). الأفراد متساوون في الحقوق وأمام القانون (الآية 13). إن تساوي المسلمين بين بعضهم هو في الأخوة (الآية 10). المساواة درجتان الأخوة والإنسانية (آيات 10 و 13).  ينبغي أن لا نتوقّع أي شيء أو نفسّر أي أمر متعلّق بالنبوة قبل أن يقوم النبي بذلك وينبغي علينا الانتظار حتى يُحدّد ويبين ويوضّح هو ذلك (الآية 5). مباحث عقائدية: علم الله تعالى بالكائنات علم حضوري (الآية 16 و 18). بطلان الجبر في الأفعال (الآية 7 و 18). إنّ قبول الإسلام هو أمر اختياري وليس جبري (الآية 17). إحباط العمل (الآية 2).

20


6

إطلالة عامة على سورة الحجرات

 5- قواعد وآدب السلوك الاجتماعي.

 

6- منهج تلقّي الأخبار.

7- إحباط العمل في القرآن.

8- الإصلاح الاجتماعي بين المؤمنين.

ثواب قراءة سورة الحجرات

عن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من قرأ سورة الحجرات في كلّ ليلة أو في كل يوم كان من زوّار محمد صلى الله عليه وآله وسلم"[1].

 

ومن الواضح أنّ كلّ هذه الحسنات التي هي بعدد المطيعين والعاصين إنّما تكون في صورة ما لو أخذنا بنظر الاعتبار كلّاً من الفريقين وأن نفكّر جيداً فنجعل مسيرنا وفقاً لمنهج المطيعين ونبتعد عن منهج العاصين.

 

وروي في كتاب (خواص القرآن)[2]: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من قرأ هذه السورة أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله تعالى وعدد من عصاه عشر مرّات، ومن كتبها وعلّقها عليه في قتال أو خصومة أمن خوف ذلك، وفتح الله تعالى على يديه باب كلّ خير"[3].

 



[1]  ثواب الأعمال، الصدوق، ثواب قراءة سورة الحجرات، ص 115.

[2] خواص القرآن تعني باختصار تأثير القرآن أو بعض سوره وآياته على الموجودات ومنها الإنسان سواء على جسده أو روحه. وهناك تعبير أكثر شيوعأ في كتب التفسير وهو فضائل السور أو ثواب قراءتها وهو ما نراه من أحاديث مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن أهل البيت عليهم السلام في كتب التفسير كالتبيان للطوسي، ومجمع البيان للطبرسي، والكتب التفسيرية الروائية:كالقمي، والعياشي، وفرات الكوفي، الثقلين، البرهان، وغيرها من الكتب. ومن الواضح أن هناك ارتباطاً بين خواص القرآن وفضائله وقد يظهر هذا الارتباط الوثيق بينهما فقد يقال إن خواص القرآن جزء من فضائله لأنها توضح وتبين بركة القرآن وفضله ومزاياه ؛ في جلب النعم، ورفع النقم. ولكن جملة من العلماء أفردوا (الخواص القرآنية) عن الفضائل القرآنية، فأصبح لخواص القرآن تعريفاً مستقلاً، ومؤلّفات خاصة وصار عندنا علم باسم "علم خواص القرآن" أو"أسرار القرآن" أو" أسرار ومنافع القرآن " وهذه كلّها تسميات متعدّدة لمعنى واحد. ومن جملة المؤلفات هو كتاب "خواص القرآن العظيم" الذي نقل عنه المحدّث السيد هاشم البحراني وهو كتاب منسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام. هذا الكتاب كتبه الشيخ عفيف الدين أو أبوعبد الله أسعد اليافعي اليمني بعنوان "الدر النظيم في خواص القرآن العظيم" ذكر خواص كل سورة وخواص كل آية منها بالخصوص من خلال ما ورد عن الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام وغيره من المعصومين. وهناك كتب أخرى حول خواص القرآن للسيوطي، والشافعي، والغزالي، والجيلاني وغيرهم.

[3] البرهان في تفسير القرآن، هاشم البحراني، ج5، ح2، ص 99.

21


7

إطلالة عامة على سورة الحجرات

 وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من كتبها وعلّقها عليه في قتال أو خصومة، نصره الله تعالى وفتح له باب كل خير"[1].

 

هدف السورة 

تهدف سورة الحجرات إلى بناء منظومة مفاهيم عقائدية وشبكة علاقات إنسانية تحكمها الآداب العامة والخاصة وتسودها أصول أخلاقية اجتماعية من أجل بناء المجتمع الإسلامي الخالص وصيانته من الانحراف وذلك من خلال تطبيق التوجيهات والقوانين الواردة في السورة والمجتمع الذي ينبغي جعله نموذجاً يُحتذى به وهو المجتمع النبوي المتمثّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام. وبعبارة أوضح: بناء المجتمع الإسلامي على ضوء التربية الأخلاقية التي تضمّنتها سورة الحجرات والاقتداء بالقرآن الناطق وهم محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

محور السورة

هناك ثلاثة سور في القرآن وهي: "محمد والفتح والحجرات" ترتبط بمحور واحد هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ففي سورة محمد كان الهدف اتّباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وفي سورة الفتح مواصفات أتباعه، وفي سورة الحجرات أدب التعامل معه صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو أساس في التعامل مع أفراد المجتمع الإسلامي, لأنّ من تسقط عنده شخصية كرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلن يحترم أيّ قانون أو أيّ فرد في المجتمع وسيكون مثالاً في الانحطاط الأخلاقي، ومن تسمو عنده شخصية كرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنّه سيحاول بكلّ ما أوتي من قوّة أن يتماهي مع هذه الشخصية في المجتمع وتكون هي العنوان الأساس في كلّ علاقاته الدينية والإنسانية مع الآخرين.

 

ومن خلال الاستعراض الدقيق والتحليل المنهجي لمضمون السورة وملاحظة القضايا والقوانين المختلفة التي تعرّضت لها، سندرك أنّها تدور حول محور رئيس

 



[1] البرهان في تفسير القرآن، هاشم البحراني، ج5، ح3، ص 99.

22


8

إطلالة عامة على سورة الحجرات

 وهو "التربية الأخلاقية للمجتمع الإسلامي" وهو بالتالي ما تدور حوله كل آيات ومقاطع السورة المباركة.

 

وهذا ما نلحظه من خلال الحديث عن القيادة الإلهية وآداب التعامل مع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والطاعة المطلقة للقيادة، وآداب وضوابط وقواعد تلقّي الأخبار، حقيقة وقيمة الإيمان، حرمة المؤمن عند الله تعالى، وذلك من خلال عدّة من النواهي التي ذكرتها السورة من حرمة الغيبة، التجسُّس، الاستهزاء، وغير ذلك من الآداب الأخلاقية، وبيان خطورة التنازع بين أفراد المجتمع الإسلامي ورفض هذا الخلاف وكيفية الإصلاح بين المؤمنين إلى آخر ما تضمّنته السورة.

 

موضوعات ومقاطع السورة

إنّ الأمن والأمان والسلام من التطلّعات الكبرى للإنسانية جمعاء، فكلّ شخص يولد ويولد معه الأمل والتطلّع إلى الحياة الآمنة والسالمة، فهو يريد أن يعيش في سلام وأمان مع نفسه، ومع الآخرين، ومع مجتمعه وهذا بالتحديد ما ترسمه وتحدّده "سورة الحُجرات" من أسوار أمان نفسي وديني واجتماعي لتحقيق السلام في دار الدنيا قبل الآخرة.

 

فترسم السورة أسواراً في التعامل مع القيادة الإلهية لأنّها هي المرجع الأساس في حال تعرّضت وحدة المجتمع وأمنه وسلامه للخطر, وبعد أن ترسي احترام القيادة وآداب التعامل معها، وطبيعة العلاقة معهــا، تأمر السورة المؤمنين بالتثبُّت

في أمورهم، وعدم الاسترسال مع أنباء الفاسقين، فهي تؤسّس منهجاً في التعاطي مع الأخبار وترسم سُور أمانٍ جديد يمنع من إثارة الفتنة وشيوع الفوضى في المجتمع، لأنّهم من دون تثبُّت قد يصيبون بذلك قوماً بجهالة ثم يندمون على ذلك.

 

في سياق حديثها عن علاقة المسلمين بعضهم بالبعض تأمرنا في حال  نشوب اقتتال بين فئتين منهم إرجاعهما إلى سور الأمان وهو الإصلاح بينهما مقدّمة

 23 


9

إطلالة عامة على سورة الحجرات

 لإرساء العدالة، وفي حال بغت إحداهما على الأخرى ولم تقبل بالرجوع إلى سور الأمان، فوظيفتنا إرجاعها إليه ولو بالقوة، لأنّ حفظ الأمن والأمان المجتمعي أعلى قيمة ينبغي المحافظة عليها لأنّه من دونها لا يمكن تحقيق العدالة في الأرض، فيجب محاربة الفئة الباغية، حتى تفيء إلى أمر الله وتقبل الصلح والتحاكم الى الشريعة المقدّسة، فإنْ فاءت تقوم الأمة بنشر العدالة في أوساطها والقسط.

 

ثم تُرسي سوراً مهمّاً في العلاقة بين المؤمنين وهو سور الأخوة ليكون محوراً أساسياً للعلاقة بينهم.

 

ثم ترسي لنا مجموعة أسوار لا بد من الرجوع إليها، من خلال جمعها بعنوان: "سور حرمة المؤمن"، فينبغي أن لا يحكم علاقتنا سوء الظنّ، ولا الغيبة، ولا السخرية والاستهزاء، فهذا هو سور "حرمة المؤمن".

 

ثم ترسي لنا سور الإنسانية والذي يؤكّد الأصل الواحد للبشرية فالأب آدم عليه السلام والأم حواء عليها السلام، ترفض أي نوع من التمييز المادّي والعنصري بين البشر، وتُبيّن أنّ الحكمة من جعلنا شعوباً وقبائل هو التعارف والانفتاح والتلاقي وليس التدابر والانغلاق والتحارب، لأنّه اذا عرف بعضهم بعضاً ضبطت المسؤوليات والحقوق وتهيّأت أرضية إقامة العدالة.

 

نعم إنّ هناك تمايزاً واحداً هو سور التقوى. فإنّ أكرم الخلق عند الله أتقاهم. ومن معاني التقوى سلامة الفكر واستقامة السلوك، وبذلك يكون التنافس على إيصال المجتمع إلى أمنه وسلامه، فالتقوى هي المحقّقة لأهداف الله تعالى على الأرض.

 

وتختم السورة الكريمة بمظلّة الأسوار إن صحّ التعبير أي الضابط لتطبيق كلّ الأسوار السابقة والموجد للدافع الذاتي لتطبيق آداب السورة وتحقيق أسوارها وهو "علم الله بغيب السموات والأرض" وأنّ الله "بصير" بأعمال عباده.

 

وما ينتج من خلال تطبيق هذه الأسوار التي دعت لها السورة هو السلام، فالله

 24 


10

إطلالة عامة على سورة الحجرات

 تعالى يدعو إلى دار السلام في الدنيا، وإلى دار السلام في الآخرة, السلام مع النفس، مع الآخرين، مع المجتمع.

 

فالسلام أشبه بشجرة مثمرة، جذورها وأصولها في القلب وثمارها وفروعها في المجتمع, فعندما يتحقّق السلام والاطمئنان في النفس، فستخرج من النفس كلّ الأضداد والأغيار فلا حسد، ولا حقد، ولا ضغينة، ولا عصبية وحمية جاهلية،  فعند ذلك ستبدأ أسوار سورة الحجرات بالتحقُّق في المجتمع.

 

فإذا كان القلب يغمره السلام والأمن، كانت تصرّفات الإنسان وسكناته معبّرة عن الارتياح والاطمئنان الذاتي فنجد بأنّه:

- يبحث لنفسه عما يصلحها وينفعها ويدفعها إلى التطوّر.

- وسيعاشر مَن حوله بسلامٍ خالٍ من البغي والظلم والتكبُّر وسوء الظنّ والتجسُّس والغيبة...

- وستراه ينشر بأقواله وأفعاله تفاصيل الأمن والسلام ويُحقّق كما قلنا أسوار الأمان في المجتمع بل قد يُقاتل من أجل تحقيقها.

 

25


11

إطلالة عامة على سورة الحجرات

 أسوار الأمان في السورة

لقد توزّعت هذه الأسوار على آيات السورة ضمن مقاطع على الشكل التالي:

- المقطع الأول: من الآية (1-5): سور التعامل مع القيادة: 

تُبيّن هذه الآيات طريقة التعامل مع النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وآدابها وما ينبغي على المسلمين مراعاته من أصول في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي تعلّمنا على كلّ حال آداب التعامل مع القيادة وتقنّن طريقة التعامل مع القيادة الصالحة المتوازنة عندما يتعايش معها الفرد المسلم. ويتحرّك في إطارها وفي ظلّ أوامرها ونواهيها، لتخلق الرابط الوثيق مع تلك القيادة الربّانية فتُحدّد آداب التعامل معها. بالشكل الذي يحفظ لها قداستها ومقامها العظيم لأنّ السر في الاستجابة للقائد الإلهي هو مدى احترامه وتقديسه وتوقيره لدى الرعية. وعندما يحصل هذا الترابط ستكتسب القيادة قوة التأثير والفاعلية في الأمة.

 

- المقطع الثّاني: الآيات (6-12):  سور  أصول الأخلاق الاجتماعية:

بيّنت السورة في هذا المقطع سلسلة من أُصول "الأخلاق الاجتماعية" الهامة التي إن عُمل بها وعلى هداها حُفظت المحبّة والصفاء والأمن والاتحاد في المجتمع الإسلامي، وعلى العكس من ذلك لو أُهملت تكون سبباً للشقاء والنفاق والتفرّق وعدم الأمن. وقد حدّدت السورة هذه الأصول على الشكل التالي:

الأصل الأول: منهج تلقّي الأخبار: بيّنت السورة في الآية السادسة  المنهج القرآني في كيفية التعاطي مع الأخبار وكيفية تلقّيها وأهمّية الدقّة في أخذها ونقلها.

 

الأصل الثاني: الإصلاح بين المؤمنين: عرضت السورة جملة من الأوامر الإرشادية المتعلّقة بكيفية مواجهة الاختلافات والتنازع أو القتال الذي قد يقع بين المسلمين أحياناً.

26


12

إطلالة عامة على سورة الحجرات

 الأصل الثالث: الأخوّة بين المؤمنين: لفتت السورة إلى أصل  أساس لا بد من توافره في بناء العلاقات الإنسانية بين أفراد المجتمع وهو أنّ: ﴿الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ..﴾.

 

الأصل الرابع: رعاية حرمة المؤمنين: اشتملت السورة الكريمة على جملة من الأوامر والنواهي الإلهية التي اذا لم تتم مراعاتها في المجتمع فهذا سيؤدّي إلى تحطيم وانهيار العلاقات الاجتماعية وهي ستّ عناوين: ﴿لَا يَسْخَرْ قَومٌ , وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ , وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ, اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ , وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾.

 

- المقطع الثالث: الآية 13: سور التقوى.

تتحدّث عن معيار قيمة الإنسان عند الله وهو التقوى.

 

- المقطع الرابع: الآيتان (14-15): سور  الإيمان.

تعالج هذه الآيات قضية مركزية في طبيعة العلاقة بين الإيمان والعمل وهو أنّ الإيمان ليس بالقول فحسب بل لا بدّ من ظهور آثاره في أعمال الإنسان والجهاد بالمال والنفس، إضافةً إلى الاعتقاد في القلب ـ كما تُبيّن أنّ الإيمان والإسلام هما هدية إلهية للمؤمنين وبدلاً من أن يمنّوا بالإسلام أو الإيمان ينبغي أن يشكروا الله على هذه الهدية إذ شملهم بها. تتحدّث بشكل عام عن الصفات الإلهية التي يجب أن يتحلّى بها الفرد المسلم والذي يتكوّن المجتمع الإسلامي منه.

 

- المقطع السادس: الآية 18: علم الله تعالى:

في هذا المقطع تتحدّث عن علم الله واطلاعه على جميع أسرار الوجود الخفية وأعمال الإنسان، وهذا القسم بمثابة الضامن لتنفيذ جميع هذه الأقسام الواردة في هذه السورة!

 

27 


13

إطلالة عامة على سورة الحجرات

 معالم المجتمع الإسلامي من خلال السورة

تتضمّن السورة مسائل من شرائع الدين بها تتم الحياة السعيدة للفرد ويستقر النظام الصالح الطيب في المجتمع، منها ما هو أدب جميل للعبد مع الله سبحانه ومع رسوله كما في الآيات الخمس في مفتتح السورة، ومنها ما يتعلّق بالانسان مع أمثاله من حيث وقوعهم في المجتمع الحيوي، ومنها ما يتعلّق بتفاضل الأفراد وهو من أهم ما ينتظم به الاجتماع المدني ويهدي الانسان إلى الحياة السعيدة والعيش الطيب الهنيء ويتميّز به دين الحق من غيره من السنن الاجتماعية القانونية وغيرها، وتختتم السورة بالإشارة إلى حقيقة الإيمان والإسلام وامتنانه تعالى بما يفيضه من نور الإيمان[1]. إنّ صورة المجتمع الإسلامي الذي تريد بناءه سورة الحجرات هو على الشكل التالي:

- مجتمع رفيع كريم نظيف سليم متضمّنة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يقوم عليها هذا العالم والتي تكفل قيامه أولاً، وصيانته أخيراً.

 

- مجتمع يصدر عن الله، ويتّجه إلى الله، ويليق أن ينتسب إلى الله.

 

- مجتمع نقي القلب، نظيف المشاعر، عفّ اللسان، وقبل ذلك عفّ السريرة.

 

- مجتمع له أدب مع الله، وأدب مع رسوله، وأدب مع نفسه، وأدب مع غيره. أدب في هواجس ضميره، وفي حركات جوارحه. وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظّمة لأوضاعه، وله نظمه التي تكفل صيانته. يتمثّل هذا الأدب في إدراك حدود العبد أمام الربّ، وأمام الرسول الذي يُبلِّغ عن الربّ. فلا يسبق العبد المؤمن إلهه في أمر أو نهي، ولا يقترح عليه في قضاء أو حكم ولا يتجاوز ما يأمر به وما ينهى عنه ولا يجعل لنفسه إرادة أو رأياً مع خالقه.. تقوى منه وخشية، وحياءً منه وأدباً.

 



[1]  محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان،  ج18، ص 305.

28


14

إطلالة عامة على سورة الحجرات

 مجتمع له منهجه في التثبُّت من الأقوال والأفعال، والاستيثاق من مصدرها، قبل الحكم عليها. يستند هذا المنهج إلى تقوى الله تعالى.

 

- مجتمع له نظمه وإجراءاته العملية في مواجهة ما يقع فيه من خلاف وفتن وقلاقل واندفاعات، تخلخل كيانه لو تُركت بغير علاج. وهو يواجهها بإجراءات عملية منبثقة من قاعدة الأخوّة بين المؤمنين، ومن حقيقة العدل والإصلاح، ومن تقوى الله والرجاء في رحمته ورضاه.

 

- مجتمع له آدابه النفسية في مشاعره تجاه بعضه البعض وله آدابه السلوكية في معاملاته بعضه مع بعض: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾.﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.

 

- مجتمع نظيف المشاعر، مكفول الحرمات، مصون الغيبة والحضرة، لا يؤخذ فيه أحد بظنة، ولا تتبع فيه العورات، ولا يتعرّض أمن الناس وكرامتهم وحريتهم فيه لأدنى مساس.

 

- مجتمع له فكرته الكاملة عن وحدة الإنسانية المختلفة الأجناس المتعدّدة الشعوب وله ميزانه الواحد الذي يقوم به الجميع. إنّه ميزان الله المبرّأ من شوائب الهوى والاضطراب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.

 

والسورة بعد عرض تلك الحقائق التي تكاد تستقلّ برسم معالم ذلك المجتمع الرفيع الكريم النظيف السليم، تُحدّد معالم الإيمان، الذي باسمه دعي المؤمنون إلى إقامة ذلك المجتمع. وباسمه هتف لهم ليلبّوا دعوة الله الذي يدعوهم إلى تكاليفه بهذا الوصف الجميل، الحافز إلى التلبية والتسليم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾. ذلك النداء الحبيب الذي يخجل من يُدعى به من الله أن لا يجيب والذي ييسّر كل تكليف ويهوّن كلّ

 29 


15

إطلالة عامة على سورة الحجرات

 مشقة، ويشوّق كلّ قلب فيسمع ويستجيب: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.

 

أمّا في ختامها فتكشف السورة عن ضخامة الهبة الإلهية للبشر. هبة الإيمان التي يمنّ بها على من يشاء، وفق ما يعلمه فيه من استحقاق: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[1].

 

منهج السورة

اشتملت السورة على القواعد والآداب الأخلاقية لتربية المجتمع الإسلامي ولكي تصل إلى هذه الأهداف التي رسمتها فقد انتهجت منهجاً خاصاً في تقرير آداب وضوابط المجتمع الإسلامي:

 

ولقد تعدّدت وسائل التوجيه التربوي في هذه السورة الكريمة، ولم يكن هذا التعدّد مجرّد تنويع لغرض التنويع، وإنّما غاية التوافق بين الغاية التربوية والطبيعة البشرية وفيما يلي إشارات لجملة من تلك الوسائل: 

أ- الترغيب والترهيب: إذا تأمّلنا مجموع الآيات التي ضمّت الآداب والضوابط المتقدّمة ظهرت لنا مجموعة من إشارات الترهيب والترغيب التي تذيّل تلك الآيات بحيث تعمل مجتمعةً على تحقيق منظومة متّزنة من الدوافع والموانع التي تدفع الفرد المسلم والمجتمع نحو السلوك المرغوب فيه وتحجزه عن السلوك المرغوب عنه.

 



[1] راجع: سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي، في ظلال القرآن،  ج6، ص 3335 - 3337. (بتصرّف وتلخيص).

30


16

إطلالة عامة على سورة الحجرات

 فعلى صعيد الترهيب تجد قوله تعالى: ﴿أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾, تحذير وترهيب من عواقب الافتئات[1] على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي مقابل ذلك قوله تعالى ترغيباً في حال الملتزمين بأدب التوقّف بين يدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.

 

ب- التذكير بنعمة الله وفضله: وهذا التذكير بالفضل مدعاة الالتزام بالهدي الإلهي والوقوف عند توجيهاته، تأمّل على سبيل المثال، قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ فجعل العصيان والفسوق والكفر في مقابل نعمة الإيمان بحيث يُرغّب من استقر الإيمان في قلبه عن أن يجمع إليه من النقائض ما يكون كفراً بنعمة الله عزّ وجلّ.

 

ج- عواقب عدم التزام هذه الآداب: لقد جاءت الآيات في هذه السورة بجملة من التنبيهات على خطورة العواقب المترتّبة على ترك التزام منظومة الأخلاق القرآنية المعروضة، ففي سياق الأمر بالتثبُّت في الأخبار جاء التحذير من عاقبة الندم المترتّبة على التصرّف بغير علم وتثبُّت وتبيُّن، فقال تعالى: ﴿فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾، وفي سياق النهي عن القبائح الاجتماعية - كالسخرية والتنابز واللمز- جاء التحذير من وقوع الظلم بين أفراد المجتمع نتيجة الاستهزاء بالغير والافتراء عليه ومبالغة الغير في الرد على تلك السخرية والافتراءات، فقال تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وهكذا...

 

د- تنمية الوازع النفسي للالتزام بهذه الأخلاق: إنّ أحداً لا يستطيع أن يفرض التزام مبدأ من المبادئ أو خلقاً من الأخلاق بقوةٍ خارجية أو سلطة قانون، فها

 



[1]  افتأت عليه القولَ افتات، اختلقه، افتراه، رماه به كذبًا افتأت عليه الباطل ومن الكلمات القريبة إفتأت عليه الباطل: اختلقه. - إفتأت برأيه: انفرد واستبد به. إِفْتِرَاء، تضْلِيل، تَزْيِيف، تَلْفِيق، كَذِب.

31


17

إطلالة عامة على سورة الحجرات

 هي الدول اليوم تعيش تحت سلطة قوانين وضعية ونظم قضائية وشرطة وقوات عسكرية لكنّها لم تستطع أبداً أن تُحقّق أيّ التزامٍ حقيقي بالأخلاق - إن صحّ أن يُسمّى ما عندهم أخلاقاً - ولهذا كان لا بدّ من حلّ هذه الإشكالية في منظومة الأخلاق الإسلامية، وليس أقدر على ذلك من قوله تعالى في ختام هذه السورة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، إذ أنّ استشعار هذه الرقابة الدائمة من الله عزّ وجلّ كفيلٌ بتنمية الوازع النفسي في كلّ فردٍ بما يُحقّق التزامه بهذه الأخلاق والآداب ولو كان في خلوة من الناس أو معزل عن بطش السلطان وقهر السلطة والقانون، وبهذا فقط تنضبط منظومة الأخلاق في المجتمع.

 

هـ- تكرار النداء بقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾: إنّ خطاب ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ قد تكرّر في سورة الحُجرات خمس مرات وقد يكون هذا مؤشّر على أنّ كلّ قسم سبقه هذا الخطاب فهو دستور إلهي مستقلّ ينبغي مراعاته لضمان أمان المجتمع وصيانته من التحريف. وإنّ عدم الالتزام بهذه الدساتير الإلهية سيؤدّي إلى هدم أسوار الأمان وهذه النداءات هي التالية:

- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. الآية الأولى.

- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾. من الآية الثانية إلى الآية الخامسة.

- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾. من الآية السادسة إلى الآية العاشرة.

 32 


18

إطلالة عامة على سورة الحجرات

 - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾. الآية الحادية عشر.

 

 

- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾. من الآية الثانية عشر إلى آخر السورة.

 33 


19

إطلالة عامة على سورة الحجرات

 للمطالعة

إذا تأمّلنا في القوانين الإلهية الواردة في سورة الحجرات سنجد أنّ عدم مراعاتها سيُحطّم سُور الأمان للمجتمع ويقضي على وحدته وتماسكه كما سنبيّن في طيات مباحث التفسير. ونشير إليها إجمالاً في الرسم التالي:            

 

 

القوانين الإلهية

عدم مراعاتها يؤدي إلى:

التقدم على الله وعلى رسوله, وعد احترام القيادة.

تحطيم سور القيادة وهي أداة نظم المجتمع ومرجعيته.

عدم الدّقة في نقل الأخبار

تحطيم بنية المجتمع وتفكيكه من خلال نشر الفوضى وبثّ الفتنة.

السخرية, واللمز, والتنابز.

تحطيم حرمة المؤمن.

سوء الظن, التجسس, الغيبة.

تحطيم العلاقات الإجتماعية والإنسانية.

 34


20

الانقياد أساس العلاقة بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

 الدرس الأول: الانقياد أساس العلاقة بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

 

مفاهيم محورية:

- معنى التقدُّم على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

- آراء المفسّرين في معنى التقدّم على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

- صور وأشكال التقدّم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

- مصاديق من التقدّم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المجال التشريعي.

- الانضباط في رعاية الأدب مع القيادة.

- الدروس المستفادة من الآية.

 35 


21

الانقياد أساس العلاقة بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

 النص القرآني

 

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.

 

 

تمهيد

 الآية الكريمة باختصار هي خطاب من الله تعالى للمؤمنين الذين اعترفوا بتوحيده وإخلاص عبادته وأقرّوا بنبوة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينهاهم أن يتقدّموا بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يفعلوا خلاف ما أمر به، أو يقولوا في الأحكام قبل أن يقول، أو يخالفوا أوقات العبادة، فإنّ جميع ذلك تقدُّم بين يديه، وأمرهم أن يتّقوا الله بأن يجتنبوا معاصيه ويفعلوا طاعاته ثم بيّن لهم الرقابة الإلهية التي تدعو إلى الرقابة الذاتية وهي قوله تعالى "إن الله سميع" لما يقولونه "عليم" بما ينطوون عليه ويضمرونه.

 

فالآية الكريمة تدريب للمؤمنين على أخلاقية الملائكة لأنّ هولاء لا يسبقون الله تعالى بقول ولا بأمر وهم بأمر الله تعالى يعملون، كما قال تعالى: ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾. وهكذا ينبغي على المؤمنين أن يكونوا مجتمعاً منقاداً ومطيعاً لله ورسوله. ولذا صدّرت السورة الكريمة بخطاب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

 37


22

الانقياد أساس العلاقة بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

 آمَنُواْ﴾ لبيان أنّ هذه السورة الكريمة جاءت لبيان معالم وأسس المجتمع الإيماني، أي تحقيق الأمن الذي أشرنا إليه.

 

شرح مفردات الآية

 قدم: بمعنى تقدّم مِنْ قَدَمَهُ إذا تقدّمه، كقوله تعالى: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ﴾.

﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أي تتقدّموا، وقيل: "لا تعجلوا بأمر ونهي قبله"[1].

 

المعنى التفصيلي للآية

إنّ تصدير خطاب بعض الآيات بـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ سواء في سورة الحجرات أم في غيرها من السور[2] يختزن دلالات عديدة أهمها:

1- أنّ النداء: فيه تنبيه المخاطبين على أنّ ما في حيّزه أمر خطير يستدعي اعتناءهم بشأنه، وفرط اهتمامهم بتلقّيه ومراعاته.

 

2- أنّ وصفهم بالإيمان لتنشيطهم، والإيذان بأنّه داع إلى المحافظة عليه ووازع عن الإخلال به. ثم بعد ذلك يأتي توصيفهم بأي وصف يتناسب مع مضمون الآية.

 

3- بعد النداء والوصف بالإيمان جاء قوله تعالى: ﴿لَا تُقَدِّمُوا﴾ أي: لا تفعلوا التقديم، على ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل من غير اعتبار تعلّقه بأمر من الأمور، على طريقة قولهم: فلان يُعطي ويمنع، أو: لا تقدّموا أموراً من الأمور، على حذف المفعول، للعموم. أو: يكون التقديم بمعنى التقدّم، من "قدّم" اللازم، ومنه: مقدّمة الجيش، للجماعة المتقدّمة.

 



[1] تفسير غريب القرآن، فخر الدين الطريحي، ص 516.

[2] هناك ثلاث سور قرآنية افتتحت بقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾" وتضمّنت الحديث عن المسائل والقضايا الحكومتية والاجتماعية والأخلاقية والتربوية وهي: المائدة، الحُجرات، الممتحنه.

ففي بداية سورة المائدة قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، وفي سورة الممتحنة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء﴾. وفي هذه السورة" ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.

38


23

الانقياد أساس العلاقة بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

 آراء المفسّرين في معنى التقدُّم على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم:

هناك أقوال وآراء متعدّدة لتفسير التقدُّم:

منها: لا تعجلوا بالأمر والنهي دون الله ورسوله، ولا تقطعوا بالأمر والنهي دون الله ورسوله.

 

ومنها: أنّ المراد النهي عن التكلّم قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي إذا كنتم في مجلسه وسُئل عن شيء فلا تسبقوه بالجواب حتى يُجيب هو أولاً.

 

منها: لا تقدّموا أقوالكم وأفعالكم على قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعله ولا تمكّنوا أحداً يمشي أمامه.

 

والرأي الأرجح في تفسير التقدُّم على الله ورسوله هو النهي عن التقديم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقط في هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة مبني على حملهم ذكر الله تعالى مع رسوله في الآية على نوع من التشريف كقوله: أعجبني زيد وكرمه فيكون ذكره تعالى للإشارة إلى أنّ السبقة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أي حال في معنى السبقة على الله سبحانه.

 

الظاهر في أنّ المراد بما بين يدي الله ورسوله هو المقام الذي يربط المؤمنين المتقين بالله ورسوله وهو مقام الحكم الذي يأخذون منه أحكامهم الاعتقادية والعملية.

 

وبذلك يظهر أنّ المراد بقوله: ﴿لَا تُقَدِّمُوا﴾ تقديم شي‏ء ما من الحكم قِبال حكم الله ورسوله، إمّا بالاستباق إلى قول قبل أن يأخذوا القول فيه من الله ورسوله، أو إلى فعل قبل أن يتلقّوا الأمر به من الله ورسوله، لكن تذييله تعالى النهي بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يناسب تقديم القول دون تقديم الفعل ودون الأعم الشامل للقول والفعل وإلا لقيل: إنّ

الله سميع بصير ليحاذي بالسميع القول وبالبصير الفعل، كما يأتي تعالى في كثير من موارد الفعل بمثل قوله: ﴿وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، فمحصّل

 39 


24

الانقياد أساس العلاقة بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

المعنى: أن لا تحكموا فيما لله ولرسوله فيه حكم إلا بعد حكم الله ورسوله أي لا تحكموا إلا بحكم الله ورسوله ولتكن عليكم سمة الاتباع والاقتفاء.

 

عموم دائرة الحكم:

لكن بالنظر إلى أنّ كلّ فعل وترك من الإنسان لا يخلو من حكم له فيه وكذلك العزم والإرادة إلى فعل أو ترك يُدخل الأفعال والتروك وكذا إرادتها والعزم عليها في حكم الاتباع، ويفيد النهي عن التقديم بين يدي الله ورسوله النهي عن المبادرة والإقدام إلى قول لم يسمع من الله ورسوله، وإلى فعل أو ترك أو عزم وإرادة بالنسبة إلى شي‏ء منهما قبل تلقّي الحكم من الله ورسوله. فتكون الآية قريبة المعنى من قوله تعالى في صفة الملائكة: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾.

 

وهذا الاتباع المندوب إليه بقوله: ﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ هو الدخول في ولاية الله والوقوف في موقف العبودية والسير في مسيرها بجعل العبد مشيته تابعة لمشية الله في مرحلة التشريع كما أنها تابعة لها في مرحلة التكوين قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ﴾، وقال: ﴿وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾  وقال: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾.

 

فاللهُ تَعَالى يُؤدِّبُ في هذِهِ الآيَةِ عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ، وَيُعَلِّمُهُمْ أصُولَ مُخَاطَبَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وآله وسلم  والتَّعَامُلِ مَعَهُ، وَتَوْفِيَتِه حَقَّهُ مِنَ التَّوقِيرِ والاحْتِرَامِ. فَيَقُولُ للْمُؤمِنين: "لا تُسْرعُوا في القَضَاءِ في أمْرٍ قَبْل أن يَقْضِيَ لَكُم فِيهِ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَكُونُوا تَبَعاً لِقَضَائِهِما وَأمْرِهما، وَلاَ تَتَكَلَّمُوا في أمْرٍ قَبْلَ أنْ يَأتِيَ الرَّسولُ عَلَى الكَلامِ فِيهِ، وَلا تَفْعَلُوا فِعْلاً قَبْلَ أنْ يَفْعَلَهُ الرَّسُولُ، واتَّقُوا اللهَ يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ، فَإِنَّهُ سَمِيعٌ لما تَقُولُونَ، عَلِيمٌ بِمَا تَفْعَلُونَ"[1].

 

 



[1] راجع: تفسير الميزان، محمد حسين الطباطبائي، ج‏18، ص  307.  (بتصرف).

40


25

الانقياد أساس العلاقة بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

 صور وأشكال التقدُّم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

إنّ التقدّم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأيّ معنى أُخذ قد يُلحظ ببعدين:

- البعد الأدبي الأخلاقي.

- البعد القانوني التشريعي.

 

والداعي لهذا التقسيم هو شخص النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم لأنّه تارة نلحظ الشخصية المباركة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ للكلام معه، وللأكل، وللمشي ولأي حركة معه آداب لا بد من مراعاتها. وعلى كل حال الجنبة الأدبية والأخلاقية هي نوع من التقنين الأدبي في العلاقة معه صلى الله عليه وآله وسلم. فالله تعالى يريد أن يأدّب عباده بضرورة مراعاة الأدب مع رسوله، وهي بالتالي مراعاة أدب مع الله تعالى في كل ملاقاة وعلاقة معه فلمجلسه خصوصية وقدسية ولكلامه ومنامه وخلوته وكل ما يتّصل بوجوده المبارك.

 

وتارة نلحظ ما يصدر منه ببعده التشريعي ونحن نعلم أنّ قول وفعل وتقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجّة وكاشف عن مراد ورضا الله تعالى بلا زيادة ولا نقيصة. وفي هذا البعد التشريعي لا يجوز التقدّم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأيّ شكل من الأشكال ولو على نحو اقتراح تشريعي لأنّ أحكام وقوانين السماء تصل إلينا بطريقين:

الأول: كتاب الله تعالى: وهنا لا يحقّ لنا تغيير حرف واحد من حروف الأحكام القرآنية فضلاً عن الحكم ككل.

الثاني: السنة النبوية الشريفة: وهي قوله وفعله وتقريره. وهذه السنة تُبيّن وتشرح القرآن الكريم أيضاً ولها نفس حكم القرآن من ناحية عدم جواز تحريفها وتبديلها وما شابه ذلك.

 41 


26

الانقياد أساس العلاقة بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

 قال تعالى في شأن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[1]. وفي  آية أخرى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[2]. وفي آية ثالثة: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[3]. إلى غيرها من الآيات الشريفة.

 

إنّ تكليف المسلمين تجاه هذه الجنبة القانونية والتشريعية هو التسليم والانقياد المطلق لأوامر الله ورسوله ولا يحقّ لهم أيّ تدخّل على الإطلاق.

 

بحث حول الآية

مصاديق من التقدُّم على رسول الله في المجال التشريعي:

1- البدعة في الدين:  البدعة في الدين من المعاصي الكبيرة والمحرّمات العظيمة، التي دلّ على حرمتها الكتاب والسنّة، كما وأُوعِد صاحبُها النار على لسان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لأنّ المبتدع ينازع سلطان الله تبارك وتعالى في التشريع والتقنين، ويتدخّل في دينه ويُشرِّع ما لم يُشرِّعه، فيزيد عليه شيئاً وينقص منه شيئاً في مجالي العقيدة والشريعة، كلّ ذلك افتراء على الله.

 

وهناك تعاريف متعدّدة للبدعة نذكر منها[4]:

قال السيد المرتضى رضوان الله عليه: "البدعة: الزيادة في الدين أو نقصان منه من إسناد إلى الدين".

 



[1] سورة النجم، الآيتان 3- 4. 

[2] سورة الحشر، الآية 7.

[3] سورة الأحزاب، الآية 21.

[4] من هذه الكتب: البدع والنهي عنها، لابن وضّاح القرطبي،الحوادث والبدع، للطرطوشي، الاعتصام، لأبي إسحاق الشاطبي الغرناطي في جزءين وقد أسهبَ الكلام فيها، البدعة أنواعها وأحكامها، لصالح بن فوزان بن عبد الله فوزان طبع الرياض، البدعة تحديدها وموقف الإسلام منها، تأليف الدكتور عبد الملك السعدي طبع بغداد، البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق، تأليف الدكتور عبد الملك السعدي طبع بغداد،  البدع المحدثة، للشريف أبو القاسم الكوفي المتوفّى بفسا سنة 352 هـ وطبع باسم الاستغاثة، في النجف الأشرف،البدع، تأليف الدكتور الشيخ جعفر الباقري، وهي دراسة موضوعية لمفهوم البدعة وتطبيقاتها على ضوء منهج أهل البيت.

42


27

الانقياد أساس العلاقة بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

 وقال العلّامة المجلسي رضوان الله عليه: "البدعة في الشرع: ما حدث بعد الرسول ولم يرد فيه نصّ على الخصوص، ولا يكون داخلاً في بعض العمومات، أو ورد نهي عنه خصوصاً أو عموماً فلا تشمل البدعة ما دخل في العمومات مثل بناء المدارس وأمثالها، الداخلة في عمومات إيواء المؤمنين وإسكانهم وإعانتهم، وكإنشاء بعض الكتب العلمية، والتصانيف التي لها مدخل في العلوم الشرعية، وكالألبسة التي لم تكن في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  والأطعمة المحدثة, فإنّها داخلة في عمومات الحليّة، ولم يرد فيها نهي. وما يُفعل منها على وجه العموم إذا قصد كونها مطلوبة على الخصوص كان بدعة... وبالجملة إحداث أمر في الشريعة لم يرد فيه نصّ بدعة، سواء كانت أصلها مبتدعة أو خصوصيتها مبتدعة" ثمّ ذكر كلام الشهيد عن قواعده. وعلى كل حال مقوّم البدعة هو التصرّف في الدين عقيدة وتشريعاً, بإدخال ما لم يعلم أنّه من الدين فيه، فضلاً عمّا علم أنّه ليس منه قطعاً. وتشمل البدعة صورة النقص كحذف شيء من أجزاء الفرائض[1].

 

2- لقياس والاستحسان: القياس المراد هنا هو التمثيل في مصطلح علماء المنطق "التمثيل هو: أن ينتقل الذهن من حكم أحد الشيئين إلى الحكم على الآخر لجهة مشتركة بينهما. وبعبارة أخرى هو: إثبات الحكم في جزئي لثبوته في جزئي آخر مشابه له. والتمثيل هو المسمّى في عرف الفقهاء بـ "القياس" ويرفض الإمامية حجيته والاعتماد عليه في فهم الشريعة.

 

مثاله: "إذا ثبت عندنا أنّ النبيذ يشابه الخمر في تأثير السكر على شاربه، وقد ثبت عندنا أنّ حكم الخمر هو الحرمة، فلنا أن نستنبط أن النبيذ أيضاً حرام، أو على الأقل محتمل الحرمة، للاشتراك بينهما في جهة الإسكار"[2].

 



[1] راجع: البدعة وآثارها الموبقة،جعفر السبحاني، ص 18-26.(بتصرف).

[2] المنطق،  محمد رضا المظفر، التمثيل تعريفه، ص 315.

43


28

الانقياد أساس العلاقة بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

 3- الفتوى من دون فحص: إنّ الفتوى من دون فحص كامل في الكتاب والروايات الشريفة، وتحقيق في المباني الفقهية هو نوع من التقدُّم على الله ورسوله. "لا بد للمجتهد في مقام الاستنباط، وتشخيص وظيفته ووظيفة العامي، من استفراغ الوسع في الفحص عن الأدلة، والمعارضات، والقرائن الدخيلة في تعيين مفاد الدليل. وليس له الاكتفاء بما وصل له من الأدلة، فضلاً عن الرجوع للأصل من دون فحص عن الدليل لو لم يطلع عليه..."[1].

 

 

4- توهين الأحكام الدينية: من معاني الاستخفاف لغةً: الاستهانة، يقال: استخفّ به إذا استهان به وأهانه، واستخفّه خلاف استثقله أي رآه خفيفاً، كما قد يكون الاستخفاف بمعنى التهاون. ولا يخرج الاستعمال الفقهي عن ذلك. وقد يعبّر عن الاستخفاف - بالمعنى الأوّل - بالاستحقار والاحتقار والانتقاص والازدراء.

 

والاستخفاف له صور متعدّدة والمراد به هنا الاستخفاف بالدين والأحكام الدينية ونذكر نموذجاً قد يوضح الموضوع.

 

عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: أتاه رجل فقال: وقعت فأرة في خابية فيها سمن، أو زيت، فما ترى في أكله؟ قال: فقال له أبو جعفر عليه السلام: لا تأكله، فقال له الرجل؟ الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها قال: فقال له أبو جعفر عليه السلام: إنّك لم تستخف بالفأرة، وإنّما استخففت بدينك، إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء[2].

 

5- اتباع الذوق لا الشريعة: (العبادة نموذجاً). على الإنسان أن يتّبع ما تمليه وتأمر به الشريعة في كل خطواته ولا يتقدّم

عليها حتى في تنفيذ الأوامر والبرامج الإلهية، فالشريعة كلٌّ متكامل تراعي كل الجوانب الاجتماعية في تشريعاتها فلا



[1] الكافي في اصول الفقه، ج2، محمد سعيد الحكيم، خاتمة في وجوب الفحص، ص 671.

[2] وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج1، باب نجاسة المضاف بملاقاة النجاسة وإن كان كثيرا...، ص 206.

44


29

الانقياد أساس العلاقة بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

 يحقّ للمؤمن وبحجة توافقه النفسي مع العبادة أن ينعزل عن المجتمع ويتعبّد ويترك عيلولة عياله فهذا النوع من العبادة هو نوع من التقدُّم على الله ورسوله.

 

وفي نهج البلاغة قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "وطَلَباً فِي حَلَالٍ - ونَشَاطاً فِي هُدًى - وتَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ"[1].

 

لعلّ الهدف من إيراد  هذا الكلام من الإمام سواء بعض الروايات المنقولة عنه أم ما ورد في النهج هو دفع توهّم قد يرد في ذهن القارىء عندما يراجع كلام الإمام وخصوصاً عند مطالعة الفقرات السابقة لهذا الكلام حيث ركّز أمير المؤمنين عليه السلام على أوصاف المتقين المرتبطة بعبادتهم وهي كونهم أهل عبادة في الليل والنهار وأجسامهم نحيفة وحوائجهم خفيفة وأنفسهم عفيفة إلى آخر المواصفات، واذا نظر إليه الناظر يحسبهم مرضى، فقد يُظنّ أنّ ذهنهم مشغول بالعبادة وهمّهم الذكر ولا طاقة لهم على الكسب والعيش باعتبار أنّ طاقتهم تلاشت في الذكر والعبادة وما شاكل ذلك، وعليه سيكون تأمين حياتهم من قِبَل غيرهم، والإمام كأنه أراد دفع هذا الدخل المقدّر وهو أنّ شيعته أصحاب همّة ونشاط وفعالية في الحياة الاجتماعية، وأصحاب كسب حلال سواء كانوا تجاراً أم كسبة، على أنّ ما يُميّزهم عن أهل الدنيا أنّهم لا يطمعون فيها كما هو حال الناس العاديين.

 

على كلّ حال الإمام عليه السلام سواء في حياته العملية أم في خطبه ومواعظه يرفض رفضاً باتاً الرهبنة والتنسُّك بمعنى الابتعاد عن العمل والحياة الاجتماعية، وأن يُصبح الإنسان عالة على الآخرين أي يعتمد على غيره فيما يحتاج إليه من طعام وكساء وغيرهما متطفِّلاً عليهم. كما هو حال بعض المتصوّفة. فقد ورد في نهج البلاغة كلاماً يبيّن هذه الحقيقة قال عليه السلام مخاطباً "العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه - يعوده، فلما رأى سعة داره قال: مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِه الدَّارِ فِي



[1] نهج البلاغة، الخطبة 193.

 45


30

الانقياد أساس العلاقة بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

 للمطالعة

 

نماذج تاريخية من التقدّم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

حين تحرّك النّبي صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة كان ذلك في شهر رمضان وكان معه جماعة كثيرة، منهم الفرسان ومنهم المشاة، ولمّا بلغ (منزل) كراع الغميم أمر بإناء ماء، فتناول منه الرّسول وأفطر ثمّ أفطر

من كان معه، إلاّ أنّ العجيب أنّ جماعة منهم "تقدّم على النّبي" ولم يوافقوا على الإفطار وبقوا صائمين فسمّاهم النّبي

صلى الله عليه وآله وسلم  بالعُصاة".

 

ما حدث في حجّة الوداع في السنة العاشرة للهجرة حيث أمر النبيّ أن يُنادي المنادي: "من لم يسق منكم هدياً فليحلّ وليجعلها عمرة، ومن ساق منكم هدياً فليقم على إحرامه" ثمّ يؤدّي مناسك الحج وأنّ من جاء بالهدي (وحجّه حجّ إفراد) فعليه أن يبقى على إحرامه... ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لولا أنّي سقت الهدي لأحللت، وجعلتها عمرةً، فمن لم يسق هدياً فليحلّ". إلاّ أنّ جماعة أبوا وقالوا كيف يمكننا أن نحل وما يزال النّبي صلى الله عليه وآله وسلم محرماً أليس قبيحاً أن نمضي للحج بعد أداء العمرة ويسيل منّا ماء الغسل من الجنابة. فساء النّبي ما قالوا ووبّخهم ولامهم.

 50


31

الانقياد أساس العلاقة بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

 الدُّنْيَا - وأَنْتَ إِلَيْهَا فِي الآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ - وبَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ - تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ - وتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا - فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ - فَقَالَ لَه الْعَلَاءُ - يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ - قَالَ ومَا لَه - قَالَ لَبِسَ الْعَبَاءَةَ وتَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا - قَالَ عَلَيَّ بِه فَلَمَّا جَاءَ قَالَ - يَا عُدَيَّ نَفْسِه لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ - أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ ووَلَدَكَ - أَتَرَى الله أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وهُوَ يَكْرَه أَنْ تَأْخُذَهَا - أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى الله مِنْ ذَلِكَ - قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ - هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وجُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ - قَالَ... إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ - إِنَّ الله تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ - الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ - كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُه"[1].

 

"ففي هذه القصة نرى الإمام عليه السلام يلوم العلاء على سعة داره، ويتّخذ لومه سبيلاً إلى بيان وجوه الانتفاع بها، فيشير إلى أنّه لا حرج على المرء في أن يجمع بين الدنيا والآخرة، فيُمتّع نفسه في الدنيا بمباهجها، ويبلغ في الآخرة عليا الدرجات.

 

ثم يؤنّب عاصماً على فعله حين هجر الدنيا ولبس العباءة، فبيّن له أنّه بفعله هذا أناني يعمل لنفسه، إذ أنّ جدوى عمله لو استطاعه ووالاه لا ترجع إلا إليه، وأما غيره من الناس فلا يصيب منه نفعاً وخاصة أهله وولده وهم ألصق الناس به، وبيّن أنّ من الخير له أن يجمع بين العمل لنفسه والعمل لغيره، وأن يجمع بين الدنيا والآخرة. والطيّبات.؟ هل حرّمها الله؟ كلا إنّ الانسان مدعوّ لأن يُصيب منها شريطة ألا يستغرق فيها على نحو يُلهيه عن الغاية الرفيعة لوجوده.

 

لا حرج على الإنسان أن يطلب الدنيا ويسعى إليها ويُصيب من لذّاتها، ولكن عليه أن يطلب الدنيا من طريق الحلال، ويصيب من لذّتها ما يحلّ ويجمل، ثم لا يتهالك على الدنيا ولذّاتها على نحو غير إنساني، بحيث ينقلب من إنسان ذي مشاعر نبيلة، وإمكانات رفيعة عالية

 



[1] نهج البلاغة (تحقيق صالح)، 209 ومن كلام له عليه السلام بالبصرة - وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي، ص 325.

46


32

الانقياد أساس العلاقة بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

 إلى مجرّد آلة. آلة لجمع النقود وتكديسها، لتنفق في وجوه غير إنسانية. إنّ هذا ليس جديراً بالانسان أن يفعله، أَجمِلْ في الطلب لتُعطي لنفسك حقّها ولربّك حقّه"[1].

 

"والحاصل أنّ ترك الدنيا بالكلَّيّة ليس هو مطلوب الشارع من الزهد فيها والتخلّي عنها لأنّ الشارع يراعى نظام العالم باشتراك الخلق في عمارة الدنيا وتعاونهم على المصالح بقاء النوع الإنسانيّ وترك الدنيا وإهمالها بالكلَّيّة يُعدم ذلك النظام ويُنافيه بل الَّذي يأمر به الشارع القصد في الدنيا واستعمال متاعها على القوانين الَّتي وردت بها الرسل والوقوف فيها عند الحدود المضروبة في شرايعهم دون تعدّيها، كما أشار إليه عليه السلام من منع هذا الرجل...، فأمّا اعتراض عاصم على عليّ عليه السلام في نهيه له، فحاصله أنّه قاس نفسه في ترك الدنيا عليه، وتقديره إنّك إذا نهيتني عن ذلك فكيف بك: أي فكيف بما أرى من هذه الحال وأنت المقتدى به، أو فكيف أصنع بك مع الحال الَّتي أنت عليها، وإنّما ينبغي لي أن أقتدي بك، فأجابه عليه السلام بجواب إقناعيّ بيّن فيه الفرق بينه وبينه، وهو إنّي إنّما فعلت ذلك لكوني إماماً وكلّ إمام فرض الله عليه أن يُقدّر نفسه بضعفة الناس: أي ليسويّها بهم في حالهم كيلا يهيّج بالفقير فقره فيضعف عن حلمه فيكفر أو يفسق، وقد كان عليه السلام قبل الخلافة كذلك، والجواب المحقّق هو ما قلناه من كون هذه الطريق أسلم، وأمّا الفرق بينهما فيرجع إلى أنّ عاصماً سلك على غير علم بكيفيّة السلوك مع ترك الحقوق الَّتي تلزمه لأهله وولده فكانت حالة الَّتي فارقها أولى به"[2].

 



[1] دراسات في نهج البلاغة،  محمد مهدي شمس الدين، موقف الإمام من العمل للدنيا موقفة من الفقر، ص 232.

[2] شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني، ج4، ص 19.

47


33

الانقياد أساس العلاقة بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

 تأمّلات حول الآية

 

رعاية الأدب مع القيادة:

الآية تُبيّن أنّ الذي يتقدّم الله ورسوله يوجد الخلل والاضطراب في المجتمع. وأنّ الأمن والأمان في المجتمع يكون في ظلّ الطاعة والانقياد المطلق للقيادة الإلهية. لأنّ في علم الإدارة يُقال, إنّ مسألة المديرية لا تتم بدون رعاية الانضباط، وإذا أُريد للناس العمل تحت مديرية وقيادة - حسب رغبتهم، فإنّ اتساق الأعمال سينعدم عندئذ وإن كان المديرون والقادة جديرين. وكثير من الأحداث والنواقص التي نلاحظها تحدث عن هذا الطريق، فكم من هزيمة أصابت جيشاً قوياً أو نقصاً حدث في أمر يهمّ جماعة وما إلى ذلك كان سببه ما ذكرناه آنفاً... ولقد ذاق المسلمون أيضاً مرارة مخالفة هذه التعاليم مراراً في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بعده، ومن أوضح الأمور قصة هزيمة المسلمين في معركة أحد لعدم الانضباط من قبل جماعة قليلة من المقاتلين.

 

والقرآن يثير هذه المسألة المهمة في عبارة موجزة في الآية الآنفة وبأسلوب جامع طريف إذ يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ[1].

 

فالقيادة لها خصوصياتها فلا بد من رعاية تلك الخصوصيات والتأدُّب معها بما يتناسب مع موقع تلك القيادة فـإنّ مسؤولية انضباط السائرين إزاء القادة وخاصة إزاء القادة الإلهيين تقتضي ألّا يتقدّموا عليهم في أي عمل وقول ولا يعجل أحد عندهم.

 

وبالطبع فإنّ هذا الكلام لا يعني بأنّه لا يجوز لهم أن يتشاوروا مع النّبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان لديهم شي‏ء يجدر بيانه، بل المراد منه ألّا يعجلوا ويبادروا بالتصميم قبل أن يوافق النّبي على ذلك! حتى أنّه لا ينبغي أن تُثار أسئلة ومناقشات أكثر ممّا يلزم في شأن المسائل، بل ينبغي أن يترك الأمر للقائد نفسه أن يُبيّن المسائل في حينها، لا سيما إذا كان القائد معصوماً الذي لا يغفل عن أي شي‏ء! كما أنّه لو سئل المعصوم

 



[1] الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي، ج16، ص 521.

48


34

الانقياد أساس العلاقة بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

 أيضاً، لا يحقّ للآخرين أن يجيبوا السائل قبل أن يردّ عليه المعصوم، وفي الحقيقة إنّ الآية جمعت كلّ هذه المعاني في طيّها.

 

الدروس المستفادة من الآية

- لأجل تطبيق الأوامر الإلهية في المجتمع لا بد من إيجاد حالة من الاستعداد الروحي والنفسي في الناس لتقبل ذلك ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ تحقيق حالة الإيمان في الفرد والمجتمع.

- إنّ عدم التقدُّم على الله ورسوله هو نوع من الأدب الراقي.

- تحليل الحرام وتحريم الحلال، من التقدُّم على الله ورسوله.

- البدع، والوضع والتزوير والتحريف، والمبالغات وإدخال ما ليس من الدين فيه باسم الدين... هذا كله من التقدّم على الله ورسوله.

- مبادئ فقهنا وسلوكنا ومفاهيمنا الحياتية يجب أن تؤخذ من القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم  وأهل بيته عليهم السلام.

- التجاوز على أوامر الله ورسوله هو نوع من عدم التقوى.

- الحرية الخاطئة وتجاوز حقوق الآخرين هو من التقدُّم على الله ورسوله.

- لأداء الواجبات يحتاج الإنسان إلى أمرين مهمّين: الإيمان والتقوى.

- الالتزام العملي بأوامر الله ورسوله يجب أن يكون متضمّناً للتقوى الداخلية (السلوك يُعبّر عن الباطن). لَا تُقَدِّمُوا... وَاتَّقُوا اللهَ.

- الأشخاص الذين يُفضّلون عاداتهم وأعرافهم الاجتماعية على أوامر الله ورسوله هم بعيدون عن الإيمان والتقوى.

- يجب على المجتمع الإيماني نبذ التطرُّف والانقياد للقيادة الإلهية لأنّ الله تعالى ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿لَا تُقَدِّمُوا... إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.

 49 


35

آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 الدرس الثاني: آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 

مفاهيم محورية:

- الحبط في القرآن.

- العمل بين الحبط والتقوى.

- الذنوب الموجبة لحبط الأعمال في القرآن.

- معنى امتحن الله قلويهم.

- فئات المجتمع الإسلامي بحسب الآية.

- الدروس المستفادة من الآية.

 51


36

آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 النص القرآني

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ[1].

 

تمهيد

القرآن الكريم يكشف لنا في هذه الآية وفي غيرها أنّ هناك مجموعة أسلموا وآمنوا بالله وبالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لكنّهم لم يدركوا قداسة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومدى دائرة وجوب طاعته، إذ كانوا يعاملونه في بعض الأحيان كأدون الناس شأناً، وكانوا يعارضونه ويعترضون عليه ويرفعون أصواتهم فوق صوته، وقد عالج القرآن أمثال هذه السلوكيات الخطيرة ومنها ما ورد في الآية المباركة وفيها تصريح أنّهم آمنوا بالله ورسوله ولكنّهم كانوا يرفعون أصواتهم في محضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا ينادونه بما يكشف عن أنّهم كانوا لا يلتزمون بما يقتضيه شأن النبوة، ولا يعتبرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا شخصاً عادياً مثلهم، فلا حاجة إذن ولا ضرورة للتعبُّد بما يقوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم

 



[1] سورة الحجرات، الآيتان: 2-3.

53


37

آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 كنبي، وهذا ما أوجب التهديد لهم بالإحباط لأعمالهم[1]. بخلاف من يعتقد برسالته ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾.

 

فإن الآية الكريمة تنهى المؤمنين بالله ورسوله أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك عند مخاطبته وتكليمه صلى الله عليه وآله وسلم وأن يكون صوتهم أرفع من صوته وأجهر، لأنّ في ذلك كما قيل أحد شيئين: إما نوع استخفاف به وهو الكفر، وإما إساءة الأدب بالنسبة إلى مقامه وهو خلاف التعظيم والتوقير المأمور به وهو موجب لحبط العمل.

 

شرح مفردات الآيات

الجهر: "الجهر هو ظهور الصوت بقوة الاعتماد ومنه الجهارة في المنطق وجاهر بالأمر مجاهرة ويقال جهاراً ونقيض الجهر الهمس"[2].

 

الغض: الحطّ من منزلة على وجه التصغير له بحالة، يقال: غض فلان عن فلان إذا ضعف حاله عن حال من هو أرفع منه، وغضّ بصره إذا ضعف عن حدّة النظر، وغضّ صوته إذا ضعُف عن الجهر[3]. "هو كفّ في خفض. ومن مصاديقه: الكفّ مع خفض في الصوت، وفي النظر، وغير ذلك..."[4].

 

الحبط: هو السقوط مع المحو، كما أنّ الحطَّ والحتّ معناهما السقوط المطلق، والبطلان ما كان على خلاف شرائط الصحّة وخصوصيّاتها وهو في مقابل الحقّ. والهدر ما لم يكن له نتيجة ولا عائدة. والفساد ما يكون فاقداً لشرط الصحّة حتّى يفسد[5].

 



[1] راجع: وضوء النبي، علي الشهرستاني،  ج2، ص15. 

[2] تفسير غريب القرآن، فخر الدين الطريحي، ص 232.

[3] التبيان في تفسير القرآن، محمد بن الحسن الطوسي، ج9، ص 341.

[4] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج7، ص 235.

[5]  التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج2، ص 159.

54


38

آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 المعنى التفصيلي

الآية الكريمة هي استمرار للسورة في تحديد النهج السلوكي الأدبي الأخلاقي مع القيادة، فتثير نقطةً أخرى حين تمنع عن واحد من سلبيات التخاطب بين الناس، فضلاً عن سلبيته إذا كان تخاطباً مع القيادة.. فكيف إذا تمثّلت القيادة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وهنا تُكرّر الآية النداء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾.. من خلال إثارة النزعة الإيمانية.. التي يحملها المسلم في داخله لتوحي له بضرورة التزامه بمستلزمات الإيمان.. التي من ضروراتها حسن التعامل مع القيادة.. والتخاطب معها بالأسلوب المهذّب الهادئ.. بل التخاطب مع الناس بشكل عام.. إذ أنّ القرآن يُشدّد في بعض المواضع.. على التزام الأسلوب الهادئ في التعامل والتخاطب.. لأنّ رفع الصوت.. من تأثيرات حالة العنف التي يعيشها المتكلّم غالباً.. وهي حالة يرفضها الإسلام.. كخُلق وطريقة حياة.. حتى عندما يواجه الإِنسان أخطاء الآخرين معه.. وإساءتهم له.. ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ[1]، فالإسلام أراد للإِنسان أن يكون موضوعياً في تفكيره.. وفي معالجته للقضايا مع الآخرين.. انطلاقاً من أنّ هدوء الأسلوب.. أقرب لإِقناع الخصم.. بالرأي المطلوب إيصاله.. والفكرة المطلوب تبنّيها والدفاع عنها.. ثم إنّ العنف في أكثر الأحيان.. يُثير العنف المقابل لدى الآخرين. وفضلاً عن كونه أسلوباً مؤذياً.. وانطلاقاً من هذا.. نهى القرآن عن رفع الصوت.. وأعطاه الصورة المقيتة، حين ذكر على لسان لقمان ما يعظ به ولده.. ﴿وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ[2].

 



[1]  سورة المؤمنون، الآية 96.

[2] سورة لقمان، الآية 19.

55


39

آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 إنّ خفض الصوت من آثار حالة الرفق التي يدعو إليها الإسلام.. كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم إِنَّ الرِّفْقَ لَمْ يُوضَعْ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا زَانَه ولَا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَه"[1]. وعَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم لَوْ كَانَ الرِّفْقُ خَلْقاً يُرَى مَا كَانَ مِمَّا خَلَقَ الله شَيْءٌ أَحْسَنَ مِنْه"[2].

 

المهم.. أنّ الآية تشير إلى جانب آخر من حالات الأدب مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومع القيادة الإسلامية الشرعية فتفرض التعامل بأسلوب الاحترام والأدب إذ لا بد من حفظ حرمة القيادة.. ليكون لها تأثيرها في الوسط الشخصي والاجتماعي.. فلا يتم التعامل معها.. بأسلوب التعالي عليها ولو من خلال رفع الصوت.. بالطريقة التي يتعامل بها الإنسان مع أمثاله ونظرائه من حيث الموقع الاجتماعي أو العلمي.. ﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾.

 

كما أنّ الأسلوب الخارجي للتعامل.. يعكس حالة التأثّر النفسي بالقضية أو بصاحب القضية فإنّ من مؤشّرات التقديس والتعظيم والاحترام للشخص.. غضّ الصوت والتزام جانب الهدوء واللياقة في حضرته.. ثم إنّه من الطبيعي.. أنّ تقديس الرسالة.. ينعكس عفوياً.. تقديساً للرسول، وتقديسه النفسي لا بد أن ينطبع على السلوك والتعامل الخارجي معه.

 

ثم تشير الآية إلى نقطة أخرى..حين تحذّر من إهدار قيمة العمل الذي قدّمه الإِنسان بسوء التعامل مع القيادة المتمثّلة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. وبعدم التزام هذا الجانب الأدبي وحين تحذّر من إحباط وإبطال الأجر والحسنات التي اكتسبها الفرد من خلال عمله الإيماني المتقدّم فتقول: ﴿أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أي

 



[1] الكافي، الكليني، ج2، باب الرفق، ح6، ص 119.

[2] الكافي، الكليني، ج2، باب الرفق، ح13، ص 120.

56


40

آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 كراهة أن تحبط، لكي لا تحبط، والحبوط هو البطلان والإِسقاط الذي قد يحصل دون شعور من الإِنسان ممّا يعني تضييع الأجر والحسنات التي يحتاجها عندما يواجه حساب الله سبحانه[1].

 

إمتحان القلوب:

وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ نقاط ينبغي الالتفات إليها، منها:

- "امتحن" مشتقّة من الامتحان، والأصل في استعمالها إذابة الذهب وتطهيره من غير الخالص، كما أنّها تستعمل في بسط الجلد المعدّ للدّبغ، ثمّ استعملت بعدئذٍ في مطلق الاختبار كما هي الحال بالنسبة للآية محل البحث، ونتيجة ذلك خلوص القلب وبسطه لقبول التقوى... وهدف الامتحان والاختبار إنّما يكون لتحصيل العلم بحال الشيء المجهول قبل ذلك، وهذا المعنى مستحيل في حقّه تعالى فالمراد به هنا التمرين والتعويد - كما قيل - أو حمل المحنة والمشقّة على القلب ليعتاد بالتقوى.

 

- ونكّرت كلمة "مغفرة" للتعظيم والأهمية... أي إنّ الله يجعل نصيبهم المغفرة الكبرى والتامة، وبعد تطهيرهم من الذنب يرزقهم الأجر العظيم، لأنّه لا بدّ من التطهير من الذنب أولاً، ثمّ الانتفاع من الأجر العظيم من قِبل الله[2]..

 

- الآية مسوقة للوعد الجميل على غضّ الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد توصيفهم

 



[1] والمعروف بين الفقهاء من الفريقين، وبين المفسّرين والمحدّثين، أنَّ رفع الصوت مُحرَّم في محضر الرسول حياً وميتاً، فكما لا يجوز للمؤمن أن يرفع صوته في محضر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو حي، كذلك لا يجوز له أن يرفع صوته عند قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فالحكم بالحرمة ثابت في حياته ومماته على حدٍّ سواء. 

[2]  راجع: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي، ج16، ص 514.

57


41

آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 بأنّ قلوبهم ممتحنة للتقوى والذي امتحنهم لذلك هو الله سبحانه، وفيه تأكيد وتقوية لمضمون الآية السابقة وتشويق للانتهاء بما فيها من النهي[1].

 

- في التعبير عنه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد التعبير عنه في الآية السابقة بالنبي إشارة إلى ملاك الحكم... وتعظيمه وتوقيره تعظيم لمرسله وتوقير له، فغضّ الصوت عند رسول الله تعظيم وتكبير لله سبحانه، والمداومة والاستمرار على ذلك - كما يستفاد من قوله: ﴿يَغُضُّونَ﴾ المفيد للاستمرار - كاشف عن تخلّقهم بالتقوى وامتحانه تعالى قلوبهم للتقوى[2].

 

- وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾ إشارة إلى أنّ قلوب هؤلاء المؤمنين الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله قد أعدّها الله سبحانه وتعالى وأرادها لتكون مستقراً ومستودعاً للتقوى، وهذا هو السر في تعدية الفعل "امْتَحَنَ" باللام، في قوله تعالى "لِلتَّقْوى" مع أنّ الأصل في فعل الامتحان أن يتعدى بالباء، فيقال: "امتحنه بكذا، لا لكذا". وفي هذا ما يشير إلى أنّ تلك القلوب التي يغضّ أصحابها أبصارهم عند رسول الله، قد امتحنت فعلاً بالتقوى، وقد نجحت في هذا الامتحان، فأصبحت قابلة للتقوى، متجاوبة معها.. فقد يمتحن الإنسان بالشيء، ولا يقبله، ولا يتجاوب معه.. أما إذا امتحن للشيء، واختير له، فإنّ ذلك يعني أنّه أهل لهذا الامتحان، وخاصة إذا كان المتخيّر له، هو الحكيم العليم، ربّ العالمين.. ولهذا، فإنّ قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾ هو خبر لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ بمعنى أنّ الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله هم من أهل التقوى.. فهذا هو حكمهم عند الله.

 



[1] تفسير الميزان، محمد حسين الطباطبائي، ج18، ص 310.

[2] تفسير الميزان، محمد حسين الطباطبائي، ج18، ص 310.

58


42

آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 - وقوله تعالى: ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ خبر ثان لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ بمعنى أنّهم أهل التقوى، وأنّهم مجزيّون من الله سبحانه وتعالى بالمغفرة والأجر العظيم.

 

 

قال بعض المفسّرين:.. وفي التعبير عن خفض الصوت بالغضّ الذي هو من شأن النظر، إذ يقال غضّ فلان بصره ولا يقال غض صوته - في هذا التعبير إعجاز من إعجاز النظم القرآني، الذي تحمله كلمات الله متحدية الجن والإنس جميعاً. ذلك أنّ خفض الصوت إنّما يكون عن مشاعر الحياء، التي من شأنها أن تنكسر معها حدّة البصر، فلا يستطيع المرء أن يملأ عينيه ممّن يهابه، ويجلّه، ويوقّره.. فهو إذا نظر غضّ بصره، وإنّ هذا الغضّ من البصر يستولي على مخارج الصوت أيضاً، فيحبس الصوت عن أن ينطلق إلى غاياته، بل يكسر حدّته، كما كسر حدّة النظر.. ففي قوله تعالى: ﴿يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ﴾ إشارة ضمنية إلى غضّ البصر حياء، وأنّ سلطان الحياء هو المتحكّم في هذا المقام. وهكذا يتسلّط الغضّ على الأبصار، والأفواه جميعاً[1].

 

بحث حول الآية

الحبط في القرآن:

إنّ مراعاة الآداب في محضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليست مجرّد آداب تحسن مراعاتها أو تجب، بل إنّ عدم مراعاتها وإساءة الأدب في محضره لها آثار على أعمال الإنسان وهو ما ذكرته الآية بعنوان: "الحبط" والحبط أو إحباط العمل يقابل مصطلح آخر وهو التكفير فما معنى الحبط والتكفير؟

 



[1] التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم يونس الخطيب، ج13، ص 436.

 59


43

آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 أ- العمل بين الحبط والتقوى: من المسائل التي تُطرح حول علاقة الإيمان والعمل الصالح بالسعادة الأخروية، وكذلك حول علاقة الكفر والعصيان بالشقاء الأبدي، ما يلي: هل أنّ العلاقة بين كلّ لحظة من لحظات الإيمان والكفر مع نتيجتها الأخروية، وكذلك العلاقة بين كل عمل حسن أو سي‏ء مع ثوابه وعقابه، هل هذه العلاقة حتمية وثابتة لا تقبل التغيّر، أم أنها قابلة للتغيّر؟ فمن باب المثال: هل من الممكن جبران أثر المعصية بالعمل الصالح؟ وكذلك العكس فهل من الممكن إزالة أثر العمل الصالح بالمعصية؟ وكذلك هل يمكن القول بأن أولئك الذين قضوا شطراً من عمرهم في الكفر والعصيان، وشطراً آخر في الإيمان والطاعة، سوف يتعرّضون للعقاب فترة، وللثواب فترة أخرى، أو أنّه يوازن بين أعمالهم ويجبر أحدهما بالآخر، ونتيجة لذلك يتعيّن مصير الإنسان، إما إلى السعادة وإما إلى الشقاء في العالم الأبدي الخالد؟ أم أنّ الأمر بشكل آخر؟

 

وهذه المسألة في واقعها هي مسألة (الحبط والتكفير) قال تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا[1] التي بحث فيها ومنذ زمان قديم المتكلّمون من الأشاعرة والمعتزلة، ونحن هنا نستعرض رأي الشيعة في هذا المجال بإيجاز.

 

ب- معنى الحبط: هو سقوط ثواب العمل الصالح بالمعصية المتأخّرة،  والتكفير عكسه أي سقوط الذنوب المتقدّمة بالطاعة المتأخّرة.

 

إنّ مرجع هذه الفكرة هو معرفة مدى التأثير المتبادل بين الأعمال الحسنة والأعمال السيئة فهل يمحو أقواهما أضعفهما؟ أم أنّ كلّاً من أعمال الخير وأعمال الشر سيحفظ في موضعه دون أن يمحو أحدهما   تأثير الآخر  فتكون

 



[1]  سورة النساء، الآيات 110 - 112. وانظر أيضا: السور االتالية: سورة آل عمران، الآية 135، سورة الانعام،الآية 54، سورة الشورى،الآية 25، سورة الزمر،الآية 53.

60


44

آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 أعمال الخير وأعمال الشر التي فعلها الإنسان في الدنيا مشهودة له بأجمعها يوم القيامة بحيث يحصل على الثواب والعقاب في إزاء كل عمل من تلك الأعمال، وعند مراجعة الآراء المختلفة في هذه االمسألة نجد عدّة آراء وهي:

الرأي الأول:  أعمال الخير وأعمال الشر محفوظة في مواضعها دون أن يؤثّر أحدها في الآخر أدنى تأثير أي لا يمكن أن يكون لهما فعل وانفعال مع بعضهما.

 

الرأي الثاني:  جميع الأعمال لها تأثير على بعضها أي هناك تأثير وتأثّر وحبط وتكفير بصورة مستمرة، فإن بقيت آثار الأعمال الإيجابية في نهاية المطاف كان الإنسان من أصحاب الجنة وإن تخلفت آثار الأعمال السلبية صار من أصحاب الجحيم.

 

الرأي الثالث: القول بوجود تأثير في بعض الأعمال حبطاً وتكفيراً وفي موارد أخرى لا يوجد حبط وتكفير، وهذا لا يمكن معرفته إلا من خلال مراجعة نصوص الشريعة فالقاعدة الأساسية لا حبط ولا تكفير فإذا بدرت من الإنسان أعمال صار لكلٍّ منها وجود وأثر في عالم التكوين وفي النفس، وذلك يقتضي بقاء الأعمال وثبوتها وإنّ أي عمل لا يمكنه دونما دليل إحباط العمل أو تكفيره، وعليه يكون ما ورد في  القرآن الكريم والروايات خروج عن القاعدة المشار إليها فنأخذ بمقدار البيان الشرعي ولا نتعدّى إلى غيره.

 

الذنوب الموجبة لحبط الأعمال في القرآن

وبغضّ النظر عن النقاشات التي وردت حول هذا البحث فقد ورد في القرآن الكريم ذنوب متعدّدة توجب حبط العمل أي من آثارها حبط الأعمال نذكر منها:

1- الارتداد عن الإسلام: قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[1].

 



[1]  سورة البقرة، الآية 217.

61


45

آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 فالارتداد عن الدين يحبط ما سبق وما لحق.والآية كما هو واضح مشروطة بالموت على الكفر أولئك حبطت أعمالهم شرط في الإحباط الموت[1].

 

هذا يعني أنه إذا لم يمت على الكفر، بل تاب قبل موته لم تحبط أعماله[2].

 

2- الشرك المقارن بالعمل: قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾.

 

كان المشركون يزعمون أنّ العمل الصالح بنفسه موجب للثواب، غير أنّ القرآن ألغى هذه الفكرة، وصرّح بأنّ الثواب إنّما يترتّب على العمل الصالح، إذا صدر من فاعل مؤمن، ولأجل ذلك أتبع الآية بقوله: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ[3].

 

3- مجادلة الرسول ومشاقته: قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ[4].

 

إنّ هذه العوامل إمّا هي عوامل مستقلّة في الإحباط أي الكفر والصدّ عن سبيل الله تعالى ومشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإما هي ترجع إلى عامل واحد وهو الكفر.

 

وفي بعض الروايات فسّر معنى المشاقة بما نقل عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وشاقوا الرسول" أي قطعوه في أهل بيته بعد أخذه الميثاق عليهم له[5].

 

4- قتل الآمرين بالقسط من الناس: قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ

 



[1] راجع: منتهى المطلب، جمال الدين الحسن بن يوسف الحلي، ج1، ص279.

[2] راجع: الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية،، زين الدين الجبعي العاملي (الشهيد الثاني)، ج2، ص175. 

[3] سورة التوبة،الآية 18.

[4]  سورة محمد،الآية 32.

[5] بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج30، ص164.

62


46

آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ[1].

 

5- إساءة الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ[2].

 

قد يفهم أن رفع الصوت ليس عاملاً مستقلاً في الإحباط وبالتالي يكشف عن كفر الذين يرفعون أصواتهم فوق صوته صلى الله عليه وآله وسلم لأن الآية تخاطبهم بـ يا أيها الذين آمنوا والتي لا يفهم منها شأنية الإيمان بل فعليته.

 

فالذي يوجب إحباط العمل هو الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تعتبر هتكاً في نظر العامة وتنزيلاً من شأنه صلى الله عليه وآله وسلم في أوساط المسلمين، كما هو الظاهر، من أسباب النزول التي ذكرت للآية الكريمة.

 

الذنوب الموجبة لحبط الأعمال في السنة:

إن ما تقدّم هي الأعمال التي توجب الحبط حسبما ذُكر في  القرآن الكريم وإذا راجعنا الروايات الشريفة فنجد مجموعة من الأعمال موجبة للحبط أيضاً منها: عقوق الوالدين، الحسد، عدم إطاعة حاكم الشرع، ظلم المستضعفين، وغيرها...[3].

 

الآثار الإيجابية للتأدّب مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

هذا كله في جانب إساءة الأدب مع رسول الله أما في الجانب الآخر فإنّ التأدّب معه له آثار في الدنيا والآخرة وأصحابه "امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى" فما معنى هذه الجملة؟

 



[1] سورة آل عمران، الآيتان 21-22.

[2]  سورة الحجرات،الآية  2.

[3]  لا بد من لفت النظر أن الكلام هنا عن موجب الحبط لا عن فعليته فلو تحقّقت التوبة النصوح، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى غفران الذنوب وتكفيرها.

63


47

آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 إذا راجعنا المعاجم اللغوية فكلمة الامتحان من أحد معانيها هو الاستعلام، فحين يقال: امتحِنِ الرجل قبل مصاحبته فمعناه هو استعلم حاله لتقف على واقعه وحقيقة أمره قبل مصاحبته. وللامتحان وسائل عديدة تختلف باختلاف الغرض من الامتحان وتختلف باختلاف الممتحِن والممتحَن. قال تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾[1]. ثم إنَّ استعلام الله عزّ وجلّ ليس لأنّه لم يكن عالماً بالواقع تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل إنَّ الغرض من الامتحان هو إيقاف الإنسان على واقعه أو إيقاف الناس على واقع هذا الإنسان الممتحَن. فالله تعالى امتحن هؤلاء في أدب التخاطب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمنهم من ظهرت جرأته على الله ورسوله ومنهم من ظهرت طاعته لله ورسوله ويبدو من الخطاب أنّهم فعلاً امتحن الله قلوبهم للتقوى وهم القدوة في التعاطي مع رسول الله.

 

فالله تعالى يبتلي عباده بأنواع المحن ليتذكّر متذكّر، ويزدجر مزدجر، فمن تذكّر وصبر استخلصه الله وهداه سواء السبيل، وأنعم عليه بالغفران وأجور الصابرين، وتومئ الآية إلى أنّ الخطاب المهذّب والأسلوب اللائق - من الإيمان، قال الإمام علي عليه السلام: "ولَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم - لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُه - ولَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُه حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُه - فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى الله تَعَالَى - وهُوَ نَقِيُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وأَمْوَالِهِمْ - سَلِيمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ فَلْيَفْعَلْ"[2].

 

وإذا دقّقنا في الآيات والروايات سنجد أنّ الطاعة للولي هي الامتحان الذي ابتلي به الجن والإنس, لإنّ طاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تُمثّل روح وجوهر العبادة وهي حقيقة الامتحان الذي سقط فيه إبليس. قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ



[1] سورة آل عمران، الآية 154.

[2] نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام (تحقيق صالح)، نصائح للناس، ص 254.

64


48

آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ[1]. والآية الكريمة من ملاحم الآيات في تبيان حقيقة العبادة والقبلة والصلاة، حيث بيّن تعالى أنّ غاية جعل القبلة السابقة في الصلاة هو اتّباع الرسول وطاعته، وليحصل التمحيص بين المطيع وبين من ينقلب على عقبيه، ولا يخفى ما لصعوبة هذا الامتحان، حيث تمّ تبديل القبلة من البيت الحرام إلى بيت المقدس، أي إلى قبلة اليهود والنصارى، وشُرّعت بعدما كان البيت الحرام في أوائل البعثة في مكّة - هو القبلة، وهو من الخطورة بمكان, حيث إنّ القبلة في العبادة والدين من النواميس العظيمة.

 

ولا سيما وأنّ قبلة البيت الحرام قد توارثتها قريش من ملّة إبراهيم وإسماعيل الحنيف، وكان البيت الحرام هو محور النسك والمناسك المختلفة العبادية في الصلاة والطواف والذبائح والقرابين، وتبديل القبلة حينئذ - التي هي معلم رئيس في الدين يدلّ على مدى موقعية الرسول وولايته وطاعته في الديانة، وأنّ الديانة وطريق العبودية لله تعالى هو باتّباع وطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّ قوام القبلة والعبادة باتّباع الرسول وطاعته، فكانت محنة هذا الامتحان عظيمة جدّاً ليتقرّر معنى الديانة والدين.

 

والنتيجة: أنّ الانقياد والطاعة والتسليم المطلق للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولأهل البيت عليهم السلام يُجسّد روح

وحقيقة العبادة لله تعالى ولذا أي تقدّم أو إساءة أدب مع رسول الله هو في الحقيقة خروج عن عبادة الله تعالى وهذا بالدقة الامتحان الذي سقط فيه إبليس.

 

الدروس المستفادة

1- التأدُّب مع القيادة: الأدب الثاني مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أدبهم معه في الحديث والخطاب, وتوقيرهم له في قلوبهم، توقيراً ينعكس على نبراتهم وأصواتهم, ويُميّز شخص

 



[1] سورة البقرة، الآية 143.

65


49

آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 رسول الله بينهم، ويُميّز مجلسه فيهم, والله يدعوهم إليه بذلك النداء الحبيب, ويُحذّرهم من مخالفة ذلك بـ ﴿أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾.

 

أمّا مبرّرات وأسباب الأدب مع القيادة فكثيرة فلا يشكّ عاقل من أنّه يوجد عدّة مبرّرات للأدب مع القيادة خصوصاً القيادة الإلهية، وهنا نشير إلى أهم تلك المبرّرات:

- لأجل مقامها العالي وفضائلها.

- لأجل المصلحة العامة.

 

أما فيما يرجع إلى الأول: فقد تكون القيادة ممّن يتّصف بصفات مكارم الأخلاق كما في الأنبياء والأئمة والأولياء عليهم السلام وحينئذٍ فإنّ من الأمور الطبيعية أنّ من له الصفات الخيّرة ويمتلك الملكات العالية الفاضلة من العلم والشجاعة والسخاء والتقوى وبقية مكارم الأخلاق فإنّ مثل هؤلاء الأشخاص يجب أن يُقدّروا ويُحترموا لفضائلهم ومواصفاتهم ويدلّ على ذلك العقل قبل النقل وأن النفس تميل وتحترم صاحب الخلق الحسن.

 

وأمّا فيما يرجع إلى الثانية: فلا يخفى على العاقل اللبيب ما للترابط الوثيق المهم بين القيادة على تعدُّد أصنافها وبين الأمة على اختلاف قوّتها وضعفها وتقدُّمها وتأخُّرها وحاجة الأمة إلى القيادة الواعية التي تسهر على مصالح الأمة وقيادتها إلى شاطئ الأمان، وحاجة القيادة للأمة الواعية المنقادة لها وتكون رهن إشارتها، وبما أنّ مصالح الأمة مرهونة ومربوطة، بقوة القيادة وحنكتها وتماسكها مع الأمة، واستجابة الأمة لها والسمع والطاعة لها في مختلف الميادين وأنّ مثل هذه الأمور لا تتمّ إلا باحترام القاعدة الشعبية من الأمة لتلك القيادة  وتقديرها والتأدُّب معها.

 66


50

آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 وينقسم المجتمع حسب مفهوم الآية إلى ثلاث فئات:

الأولى: فئة الملتزمين والمؤدّبين مع الله ورسوله ومن اقتدى بهم فهؤلاء قد مدحهم القرآن ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾. وهؤلاء هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى.

 

الثانية: فئة الذين لم يراعوا آداب العلاقة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل أساءوا الأدب معه في حياته وبعد مماته فهولاء ذمّهم القرآن الكريم وهم من الذين أحبط الله تعالى أعمالهم.

 

الثالثة: فئة مسكوت عنها، وتأخذ الحكم المناسب حسب مراعاتها أو عدم مراعاتها للآداب مع الله ورسوله.

 

2- مراعاة الآداب اللحظية والآنية لا يدل على عمق التقوى بل لا بد من الاستمرار في الآداب مع الله تعالى ورسوله، لأنّ الله تعالى يقول: ﴿يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ﴾ وهي فعل مضارع يدل على الدوام والاستمرارية بلحاظ الزمان ويشمل حال حياته وما بعد مماته.

 

3- الهدوء بالخطاب ونبرات الصوت بشكل عام هو أدب ينبغي مراعاته في كل كلام، لأنّه يؤثّر على قيمة الكلام والمتكلّم لأنّ الهدوء في الكلام ينعكس على شخصية المخاطِب فيؤثّر في فهم المخاطَب، وهناك بعض موارد الاستثناء تُحدَّد بحسبها كالحرب وإظهار القوة وإرعاب العدو وما شابه ذلك ولكن يبقى الأساس هو الهدوء والرزانة في الكلام.

 

4- إنّ التقوى والإيمان لا تلازم الامتناع والعصمة عن المعصية - نعم بعض مراتب التقوى تلازم ذلك كالمرتبة المختصّة بالمعصوم وهي خارجة عن مورد الآية-ولكن هؤلاء لو ارتكبوا ذنباً فإنّهم سرعان ما يتوبون ويرجعون إلى الله تعالى: ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ﴾.

67


51

آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 5- في الآيات القرآنية أينما وردت لفظة ﴿مَّغْفِرَةٌ﴾ و﴿وَأَجْرٌ﴾ تكون المغفرة سابقة للأجر، لأنّ الإنسان إذا لم يتطهّر من ذنوبه لا يمكن أن يكون مورداً للعناية والرحمة الإلهية المتمثّلة بالأجر، وهذا يؤكّد على فكرة أهمية التوبة وديمومتها في كلّ الأعمال حتى لا تكون ذنوبنا من موانع تلقّي الرحمة والفيض الإلهي.

68


52

آداب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الحبط والتقوى

 للمطالعة

 

رحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

قال الإمام العسكري عليه السلام: "قال موسى بن جعفر عليهما السلام: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا قدم المدينة كثر حوله المهاجرون والأنصار، وكثرت عليه المسائل، وكانوا يخاطبونه بالخطاب الشريف العظيم الذي يليق به، وذلك أنّ الله تعالى كان قال لهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾.

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهم رحيماً، وعليهم عطوفاً، وفي إزالة الآثام عنهم مجتهداً، حتى أنّه كان ينظر إلى كلّ من كان يخاطبه فيعمد على أن يكون صوته صلى الله عليه وآله وسلم مرتفعاً على صوته، ليزيل عنه ما توعّده الله به من إحباط أعماله، حتّى أنّ رجلاً أعرابياً ناداه يوماً وهو خلف حائط بصوت له جهوري: يا محمد، فأجابه بأرفع من صوته، يريد أن لا يأثم الأعرابي بارتفاع صوته.

 

فقال له الأعرابي: أخبرني عن التوبة إلى متى تُقبل؟

 

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أخا العرب، إنّ بابها مفتوح لابن آدم، لا ينسد حتى تطلع الشمس من مغربها وذلك قوله عزّ وجلّ: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ[1] وهو طلوع الشمس من مغربها لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً[2].




[1] سورة الانعام، الآية 2.

[2] البرهان في تفسير القرآن، هاشم البحراني، ج1، ص 298.

69


53

إلتزام الأدب علامة العقل

 الدرس الثالث: إلتزام الأدب علامة العقل

 

مفاهيم محورية:

- آداب المعاملة وأثره في بناء منظومة العلاقات الاجتماعية.

- وحدة الأصل الإنساني.

- اتساع مفهوم الأدب لجميع العلاقات الإنسانية.

- فرق الأدب عن الأخلاق.

- الأدب الإلهي.

- الدروس المستفادة من الآيتين الرابعة والخامسة.

- آداب التعامل مع القيادة والتربية الأخلاقية للمجتمع.

 71


54

إلتزام الأدب علامة العقل

 النص القرآني

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾.

 

تمهيد

قال بعض الملوك لبعض وزرائه: ما خير ما يرزقه العبد؟ قال: عقل يعيش به، قال فإن عدمه، قال: أدب يتحلّى به، قال: فإن عدمه، قال مال يستتر به، قال: فإن عدمه، قال: صاعقة تُحرقه فتريح منه العباد والبلاد[1].

 

عندما نسأل ما خير ما يُرزقه العبد في هذه الدنيا ويكون دليله على الآخرة؟  سيكون الجواب حتماً هو العقل، العقل تلك القوة النورانية التي أودعها الله تعالى في عباده والتي تهديهم إلى الخير والصلاح وتنير لهم ظلمات دربهم في الحياة تلك الحياة المعبّدة بكثير من المتاهات والتعرّجات الحادة التي لا تدع لأحد موطىء قدم على الإطلاق، فالعقل هو البوصلة الحقيقية التي يهتدي بها الإنسان.وعليه لا يمكن أن نتصوّر حياة المرء بدون عقل راجح.

 



[1] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج18، ص 188.

73


55

إلتزام الأدب علامة العقل

 والآية الكريمة هي استمرار لموضوع الآداب الذي نزلت سورة الحجرات من أجل إرسائه في المجتمع، وهذه الآية هي أدب من الآداب الاجتماعية  مع القيادة الإلهية، وهي من الآداب الاجتماعية المهمة في علاقة الناس مع بعضهم. وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ...﴾ أي حتى يخرج إليهم بطبعه واختياره، لكان الصبر أدباً وتعظيماً لشأنه صلوات الله عليه وآله، فيثابون لذلك ويؤجرون. وهذه هي حقيقة الخير الذي هو مفيد لهم في دنياهم لأنّهم يوصفون فيها بالعقل والأدب، وفي آخرتهم بنيل الثواب الجزيل.

 

شرح مفردات الآية

الْحُجُرَاتِ: "والحجرات جمع حجرة". وهي القطعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها. ولذلك يقال لحظيرة الإبل: حجرة. وهي فعلة بمعنى مفعول، كالغرفة والقبضة. والمراد حجرات نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكانت لكلٍّ منهنّ حجرة. ومناداتهم من ورائها بأنّهم أتوها حجرة فنادوه من ورائها. أو بأنّهم تفرّقوا على الحجرات متطلّبين له، فأسند فعل الأبعاض إلى الكلّ[1].

 

المعنى التفصيلي

في هذه الآية عدّة نقاط:

- تشير إلى جهل أولئك الذين يجعلون أمر الله وراء ظهورهم، وعدم تعقّلهم فتقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ فأيّ عقل يدفع الإنسان إلى أن ينادي برفيع صوته أمام أعظم سفير إلهي فلا يلتفت الى آداب النداء كما فعلت قبيلة بني تميم، فنادت النّبي بصوت مزعج يا محمّد يا محمّد أخرج إلينا، وهو مركز المحبّة والعطف الإلهي؟! وأساساً كلّما ترقّى عقل الإنسان زيد في أدبه فيعرف القيم الأخلاقية بصورة أحسن.



[1]  زبدة التفاسير، فتح الله الكاشاني، ج6، ص 414.

 74


56

إلتزام الأدب علامة العقل

 ومن هنا فإنّ إساءة الأدب دليل على عدم العقل، أو بتعبير آخر إنّ إساءة الأدب عمل الحيوان، أمّا الأدب أو رعاية الأدب فهو من عمل الإنسان.

 

- الآية استخدمت تعبير النداء دون أي لفظ آخر كالدعوى وما شابه ذلك، لأنّ النداء فيه خصوصية غير موجودة في الكلمات القريبة من النداء، فهو كلام يقتضي استمرار الخطاب ولو بزمان قليل، بخلاف مطلق الدعوة[1].

 

- وراء الحجرات: من خارجها خلفها أو قدّامها على أنّ وراء من المواراة والاستتار فما استتر عنك فهو وراء خلفاً كان أو قداماً إذا لم تره فإذا رأيته لا يكون وراءك، فالوراء بالنسبة إلى من في الحجرات ما كان خارجها لتواريه عمّن فيها. والحجرات جمع حجرة على وزن فعلة بضم الفاء وسكون العين وهي القطعة من الأرض المحجورة أي الممنوعة عن الدخول فيها بحائط والمراد هنا حُجرات نسائه صلى الله عليه وآله وسلم.

 

- جملة (أكثرهم لا يعقلون) "الأكثر" في لغة العرب يُطلق أحياناً بمعنى الجميع، وإنّما استعمل هذا اللفظ رعايةً للاحتياط في الأدب حتى لو أنّ واحداً أستُثني من الشمول لا يضيع حقّه عند التعبير بالأكثر، فكأنّ الله يريد أن يقول: إنّي أنا الله الذي أحطت بكلّ شيء علماً، عند الكلام على مثل هذه الأمور أراعي الأدب في ذلك فعلامَ لا تراعون في كلامكم هذه الناحية؟! أو لأنّه يوجد فيهم أناس يعقلون حقّاً، ولعادة الناس وعدم التفاتهم في رفع الصوت يريد القرآن أن يُحذّرهم بهذا الأسلوب أن لا ينسوا الأدب وأن يستعملوا عقولهم وأفكارهم عند الكلام...[2]. يقول الزمخشري: "والإخبار عن أكثرهم بأنهم لا يعقلون: يحتمل أن يكون فيهم من قصد بالمحاشاة. ويحتمل أن يكون الحكم بقلة

 



[1] ينظر: التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج12، ص 72.

[2]  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي، ج16، ص 515.

75


57

إلتزام الأدب علامة العقل

 العقلاء فيهم قصداً إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل، فإنّ القلّة تقع موقع النفي في كلامهم"[1].

 

- ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ﴾: لو حرف شرط واذا دخلت على الفعل الماضي أفادت امتناع الشرط لامتناع الجزاء. والصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها.

 

﴿حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ﴾ هل من فرق بين حتى تخرج وإلى أن تخرج؟  الجواب: إن "حتى" مختصة بالغاية المضروبة. تقول: أكلت السمكة حتى رأسها، ولو قلت: حتى نصفها، أو صدرها: لم يجز، و"إلى" عامة في كل غاية، فقد أفادت "حتى" بوضعها: أن خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إليهم غاية قد ضربت لصبرهم، فما كان لهم أن يقطعوا أمراً دون الانتهاء إليه. فإن قلت: فأيّ فائدة في قوله إليهم؟ قلت: فيه أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم، للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أن خروجه إليهم، لكان خيراً لهم في "كان" إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو، وإما ضمير مصدر صبروا، كقولهم: من كذب كان شراً له والله غفور رحيم بليغ الغفران والرحمة واسعهما، فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا[2].

 

- مجيء الآية على النمط الَّذي وردت عليه فيه ما لا يخفى على الناظر، من بيّنات إكبار محلّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإجلاله.

 

منها: مجيئها على النظم المسجّل على الصائحين به بالسفه والجهل لما أقدموا عليه.

 

ومنها: لفظ الحجرات، وإيقاعها كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه.

 



[1] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله، ج4، ص 357.

[2] (م.ن).

76


58

إلتزام الأدب علامة العقل

 ومنها: المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الَّذي تبيّن به ما استنكر عليهم. يعني: لم يصف الحجرات بأنّها موضع خلوة ومقيل، بل اقتصر على الحجرات.

 

ومنها: التعريف باللام دون الإضافة.

 

ومنها: أن شفع ذمّهم في خاتمة الآية باستجفائهم، واستدراك عقولهم، وقلَّة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات، تهويناً للخطب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتسلية له، وإماطة لما تداخله من إيحاش سوء أدبهم.

 

وهلمّ جرّا من أوّل السورة إلى آخر هذه الآية. فتأمّل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور الَّتي تنتمي إلى الله ورسوله متقدّمة على الأمور كلِّها، من غير حصر ولا تقييد. ثمّ أردف ذلك النهي عمّا هو من جنس التقديم، من رفع الصوت والجهر، كأنّ الأوّل بساط للثاني ووطاء لذكره. ثمّ ذكر ما هو ثناء على الَّذين تحاموا ذلك فغضّوا أصواتهم، دلالة على عظيم موقعه عند الله. ثمّ جيء على عقب ذلك بما هو أطمّ وهجنته أتمّ، من الصياح برسول الله في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدراً، لينبّه على فظاعة ما أجروا إليه وجسروا عليه، لأنّ من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول، حتّى خاطبه جلَّة المهاجرين والأنصار بأخي السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الَّذي بلغ من التفاحش مبلغاً. ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب، وتقتبس محاسن الآداب.

 

ثمّ أدّبهم الله تعالى بقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا﴾ في محلّ الرفع على الفاعليّة، لأنّ المعنى: ولو ثبت صبرهم، فإنّ "أنّ" وإن دلَّت بما في حيّزها على المصدر، دلَّت بنفسها على الثبوت، ولذلك وجب إضمار الفعل. والصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها. قال الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم﴾. وهاهنا المفعول محذوف. والتقدير: ولو ثبت حبسهم أنفسهم عمّا تنازع إلى هواها من المناداة وراء الحجرات ﴿حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ﴾ أي: الصبر مغيّا بخروجه.

 77


59

إلتزام الأدب علامة العقل

 - (لَكانَ) الصبر ﴿خَيْرًا لَّهُم﴾ من الاستعجال، لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم الرسول الموجبين للثناء والثواب، والإسعاف بالمسؤول، إذ روي أنّهم وفدوا شافعين في أسارى بني العنبر كما مرّ، فأطلق النصف وفادى النصف، فلو أنّهم صبروا لأطلق كلَّهم بغير فداء.

 

 

 - ﴿وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ بليغ الغفران والرحمة، حيث اقتصر على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين للأدب، التاركين تعظيم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا[1].

 

بحث حول الآية:

آداب المعاملة وأثره في بناء منظومة العلاقات الاجتماعية:

إنّ سورة الحُجرات كما تقدّم اشتهرت باسم "سورة الآداب والأخلاق" لما تضمّنته من آداب راقية، وأخلاق سامية في التعامل مع أفراد المجتمع. ولذا نجد الإسلام اهتمّ اهتماماً كبيراً بمسألة رعاية الأدب، والتعامل مع الآخرين مقروناً بالاحترام والأدب سواءً مع الفرد أم الجماعة.

 

فإنّنا حين نقرأ تأريخ حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام ونُمعن النظر فيها نلاحظ أنّهم يراعون أهم النقاط الحسّاسة واللطائف الدقيقة في الأخلاق والآداب حتى مع الأناس البسطاء، وأساساً فإنّ الدين مجموعة من الآداب، الأدب بين يدي الله والأدب بين يدي الرّسول والأئمة المعصومين، والأدب بين يدي الأستاذ والمعلِّم، أو الأب والأم والعالم والمفكّر...ولذا ينبغي من باب المقدّمة شرح مبسّط لمفهوم الآداب وأهميتها في الحياة الاجتماعية وذلك لكون آيات السورة المباركة تدور حول هذا الموضوع.

 



[1] زبدة التفاسير، فتح الله الكاشاني، ج6، ص 415 -416.

78


60

إلتزام الأدب علامة العقل

 1- معنى الأدب:

 

 إنّ الأدب له معنى عاماً وجامعاً لأنواعه المختلفة من آداب الكلام، وآداب المشي، والأكل، والنوم، إلى آخره... والأدب بهذا المعنى خُلُق عام يتناول كثيراً من التصرفات والسلوكيات، إلا أنه أفضل وأكثر ما يكون في الخطاب.

 

الخطاب الذي هو واسطة التفاهم والتعارف بين الناس، لأنّ الإنسان مدنيٌّ بطبعه، ولا يمكنه أن يعيش منعزلاً عن الآخرين، ولا يستغني عن إقامة العلاقات معهم ومحادثتهم في شؤون الحياة. فمن خلال الخطاب والكلام تُحدّد معالم شخصية الإنسان، ويُكشف عن مكنوناتها، والساكت مجهول الهوية، فإذا تكلّم عبَّر عن نفسه، وأبان عن شخصيته.

 

ولذا الكلمات التي ينطق بها الإنسان تسطّر وتكتب عليه، ويراها في صحائف أعماله يوم القيامة. قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾[1]. فالقرآن الكريم يُقرّر مبدأ محاسبة الإنسان على كلّ قولٍ ينطق به.

 

وقد عُنيَ القرآن الكريم بأدب الخطاب، فالناظر في سوره وآياته، يجده شديد الحرص على الأسلوب الذي يُؤدَّى به الكلام، والطريقة التي يُطرح بها، ويجد أنَّه كثيراً ما يُوجِّه نحو الكلمة الطيبة والقول الحَسَن في مناسبات شتَّى.

 

قال تعالى: ﴿ َلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾[2].



[1] سورة ق، الآية 18.

[2] سورة ابراهيم، الآيات 24 - 27.

79


61

إلتزام الأدب علامة العقل

 فالكلمة الطيبة نفحة روحانية تصل ما بين القلوب وتربطها برباط المودّة والتآلف. أمّا الكلمة الخبيثة فهي معول للهدم والتفريق، يعمل تخريباً في أوصال المجتمع فيهدّ كيانه. والكلمة الطيبة تزهر في النفس لتتفتّح بأجمل أزهار الخير والحب التي يعبق شذاها فوّاحاً في كلّ زمان ومكان. والكلمة الخبيثة نتنة الرائحة، تصدر عن بُؤَرٍ نفسية عفنة.

 

وقد أشار القرآن الكريم إلى ما أثمره القول اللين من نجاح دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  وتأثيرها في الناس. قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ[1]. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لم يكن فظَّاً, خشن الكلام، ولم يكن غليظ القلب, أي قاسيه وشديده. بل كان صلى الله عليه وآله وسلم  رفيقاً داعياً إلى الرفق، فقال: مَنْ يُحرم الرِّفقَ يُحرم الخير.

 

2- وحدة الأصل الإنساني:

وإذا رجعنا إلى بينات سورة الحجرات وغيرها من السور المباركة نجد أنها تؤكّد وحدة الأصل الإنساني، فكثيراً ما تتكرّر في القرآن صِيغ النداء بـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ و﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾، مما يشير إلى أنّ الله سبحانه كرّم هذا الإنسان وفضّله على كثيرٍ من خلقه، مُعلناً بذلك مبدأ المساواة بين البشر، فلا فضل لجنس على آخر باعتبار اللون والعنصر والنشأة.

 

وفي سورة الحجرات بيّن لنا نقطة أخرى في تحديده لوحدة الأصل الإنساني وهو أنَّ هذا الأصل تفرَّعت عنه الشعوب والقبائل والأمم، وأنَّ الهدف من هذا التنوّع بين الناس هو التواصل والتفاهم والتعارف فيما بينهم. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾[2].

 



[1] سورة آل عمران، الآية 159.

[2] سورة الحجرات، الآية 13.

80


62

إلتزام الأدب علامة العقل

 فالأصل في دين الإسلام أنه دينُ تجمّعٍ وألفة، لا دينَ عزلةٍ وفرارٍ من تكاليف الحياة، ولم يأت القرآن ليدعو المسلمين إلى الانقطاع في دير، أو العبادة في صومعة، بعيداً عن مشاكل الحياة ومتطلّباتها. بل إنّ نزعة التعرّف إلى الناس والاختلاط بهم أصيلة في تعاليم هذا الدين[1].

 

فقد بيّن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  أنّ الفضل لمن خالط الآخرين وتعرَّف عليهم ولم يتقوقع على نفسه، وذلك في قوله: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط  الناس ولا يصبر على أذاهم"[2].

 

3- اتساع مفهوم الأدب لجميع العلاقات الإنسانية:

والحقيقة أنَّ أدب التعامل مع الآخرين لـه مفهوم شامل، يتسع اتساع العلاقات الإنسانية بين بني البشر. والروابط التي تجمع بين الناس كثيرة، فمن رابطة الدم، إلى رابطة الفكرة والمبدأ، ورابطة العمل والوظيفة، ورابطة الصداقة والصحبة، ورابطة الجنس والعرق، والرابطة التجارية والاقتصادية، ورابطة العقيدة التي تُعدّ من أقوى الروابط وأمتنها. ولكن قوّة رابطة العقيدة، لا تعني أنَّ أدب التعامل مع الآخرين لا يدور إلا في نطاقها، ولا يشمل التعامل مع أصحاب العقائد الأخرى من غير المسلمين، بل إنَّ أدب التعامل يتسع ليشمل الإنسانية كلَّها.

 

ولا بدّ لنا في هذا السياق من التفريق بين أدب التعامل مع الآخرين وبين الولاء لهم. فإنّ الولاء للقيادة الربّانية وللمسلمين مختلف عن الآداب مع الآخرين. فالتبرّؤ من أعداء الله لا يعني الإساءة في معاملتهم، أو أكل حقوقهم، أو سبّهم والفحش معهم في القول، أو عدم ملاطفتهم. فالولاء هو سلوك الباطن، والمحبة القلبية، وما يترتّب على ذلك من نصرة وإعانة وانقياد للقائد، ومن هنا تكون الآداب أهم وأعظم

 




[1] ينظر: خلق المسلم، محمد الغزالي، ص172.

[2] مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، علي الطبرسي، الفصل الثاني: في آداب المعاشرة، ص 337.

81


63

إلتزام الأدب علامة العقل

 في من يربطني بيني وبينهم علاقة الولاء فكيف اذا كان هذا الشخص هو الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الذي تجب طاعته والانقياد له بالمطلق وبأعلى الدرجات المتصوّرة فينبغي أن تكون الآداب في العلاقة معه بأعلى الدرجات الممكنه أما عكسها فهو دليل حقيقي على اللاعقل.

 

فالتعامل الحسن, هو سلوك الجوارح والعلاقة الظاهرية ويكون مع كل البشر. أما الولاء فهو بين المسلمين خاصة. ولعلّ ما ورد في سورة الممتحنة، هو من أوضح الآيات التي تُميّز بين الولاء وبين البرّ وحُسن التعامل، يقول تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *  إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[1].

 

وعلى كل حال هناك تعاريف متعدّدة للأدب فهو ما يتولّد من صفاء القلب وحضوره. أو كما عند بعضهم  هو مجالسة الخلق على بساط الصدق ومطالعة الحقايق بقطع العلايق. أو هو وضع الأشياء موضعها[2].

 

وعرّفه العلّامة الطباطبائي رضوان الله عليه بأنه: الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليه الفعل المشروع إما في الدين أو عند العقلاء في مجتمعهم كآداب الدعاء وآداب ملاقاة الأصدقاء.

 

ولا يكون إلا في الأمور المشروعة غير الممنوعة، فلا أدب في الظلم والخيانة والكذب ولا أدب في الأعمال الشنيعة والقبيحة، ولا يتحقّق أيضاً إلا في الأفعال الاختيارية التي لها هيئات مختلفة فوق الواحدة حتى يكون بعضها متلبّساً بالأدب دون بعض، كأدب الأكل مثلاً في الإسلام، وهو أن يبدأ فيه باسم الله ويختم بحمد

 




[1] سورة الممتحنة، الآيتان: 8- 9.

[2] راجع، شرح أصول الكافي، محمد صالح المازندراني، ج1، ص 292.

 82


64

إلتزام الأدب علامة العقل

 الله ويأكل دون الشبع إلى غير ذلك، وأدب الجلوس في الصلاة، وهو التورك على طمأنينة ووضع الكفّين على الوركين فوق الركبتين والنظر إلى حجره ونحو ذلك.

 

وإذا كان الأدب هو الهيئة الحسنة في الأفعال الاختيارية والحسن وإن كان بحسب أصل معناه وهو الموافقة لغرض الحياة مما لا يختلف فيه أنظار المجتمعات، لكنّه بحسب مصاديقه ممّا يقع فيه أشدّ الخلاف، وبحسب اختلاف الأقوام والأمم والأديان والمذاهب وحتى المجتمعات الصغيرة المنزلية وغيرها في تشخيص الحسن والقبح يقع الاختلاف بينهم في آداب الأفعال.

 

4- فرق الآداب عن الأخلاق:

الآداب ليست هي الأخلاق، فالأخلاق هي الملكات الراسخة التي تتلبّس بها النفوس، والآداب هي هيئات حسنة مختلفة تتلبّس بها الأعمال الصادرة عن الإنسان عن صفات مختلفة نفسية، وبين الأمرين بون بعيد.

 

فالآداب من منشئات الأخلاق، والأخلاق من مقتضيات الاجتماع بخصوصه بحسب غايته الخاصة. فالغاية المطلوبة للإنسان في حياته هي التي تُشخّص أدبه في أعماله، وترسم لنفسه خطّاً لا يتعدّاه إذا أتى بعمل في مسير حياته والتقرّب من غايته.

 

83


65

إلتزام الأدب علامة العقل

 5- الأدب الإلهي:

 

وإذ كان الأدب يتبع في خصوصيته الغاية المطلوبة في الحياة فالأدب الإلهي الذي أدّب الله سبحانه به أنبياءه ورسله عليهم السلام هو الهيئة الحسنة في الأعمال الدينية التي تحاكي غرض الدين وغايته، وهو العبودية على اختلاف الأديان الحقّة بحسب كثرة موادها وقلتها وبحسب مراتبها في الكمال والرقي.

 

والإسلام لمّا كان من شأنه التعرّض لجميع جهات الحياة الإنسانية بحيث لا يشذّ عنه شيء من شؤونها يسير أو خطير دقيق أو جليل فلذلك وسع الحياة أدباً، ورسم في كل عمل هيئة حسنة تحاكي غايته.

 

وليس له غاية عامة إلا توحيد الله سبحانه في مرحلتي الاعتقاد والعمل جميعاً، أي أن يعتقد الإنسان أنّ له إلهاً هو الذي

منه بدأ كل شيء وإليه يعود كل شيء، له الأسماء الحسنى والأمثال العليا، ثمّ يجري في الحياة ويعيش بأعمال تحاكي بنفسها عبوديته وعبودية كل شيء عنده لله الحقّ عزّ اسمه، وبذلك يسري التوحيد في باطنه وظاهره، وتظهر العبودية المحضة من أقواله وأفعاله وسائر جهات وجوده ظهوراً لا ستر عليه ولا حجاب يغطيه. فالأدب الإلهي - أو أدب النبوة - هي هيئة التوحيد في الفعل[1].

 

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "الآداب حُللٌ مجدّدة"[2]. ومعنى كلامه عليه السلام أن الآداب حُللٌ مجدّدة "اى لا يبلى، بل يزداد بكثرة التجارب والممارسة كلّ وقت جدّة. وعنى بالآداب هاهنا آداب الشرع الَّتى هي مكارم الاخلاق"[3].

 

والمحصّل من كلامه كما أنّ الشخص يتزيّن بالحلل كذلك يتزيّن بالآداب مثل العلم وما يتبعه من حسن المجاورة والمعاشرة وأمثالها.

 

الدروس المستفادة من الآيتين الرابعة والخامسة

1- العمل بالأدب علامة العقل، ﴿الَّذِينَ يُنَادُونَكَ.. لَا يَعْقِلُونَ﴾.

 

2- إنّ سوء الأدب في التعامل مع القادة الإلهيين هو مورد ذمٍّ من قِبَل الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنَادُونَكَ... لَا يَعْقِلُونَ﴾.

 

3- إنّ البيت والأسرة لهم حرمتهم الخاصة ولا يحق لأحد انتهاكها حتى ولو برفع الصوت من خارج البيت فكيف إذا كانت هذه البيوت بيوت الأنبياء عليهم السلام. ﴿يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾.



[1] ينظر: تفسير الميزان، محمد حسين الطباطبائي، ج6، كلام في معنى الأدب، وهو بحث تفصيلي حول الأدب الذي أدب الله به أنبياءه ورسله عليهم السلام ويقع في عدة فصول، ص 256-  297.

[2] عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص 40.

[3] معارج نهج البلاغة، علي بن زيد البيهقي، ص 399.

84


66

إلتزام الأدب علامة العقل

 4- ينبغي احترام أوقات الخلوة والراحة للآخرين. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يحتاج إلى أوقات للراحة والهدوء وينبغي على الآخرين احترام هذه الخصوصيات. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا﴾.

 

 

5- إنّ المسؤولية الاجتماعية مهما تعاظمت لا ينبغي أن تضعف الاهتمام بالأسرة. ﴿صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ﴾.

 

6- ينبغي علينا أن لا نيأس من معالجة الأشخاص الذين يسيؤون الأدب مع الآخرين. لأنّ الله تعالى مع كل تقريعه وتوبيخه للذين أساءوا الأدب مع رسوله طرح إمكانية المغفرة والرحمة لهم وهذا قد يؤدّي إلى تغيُّر في سلوكهم، وهذا الأمر ينبغي أن نضعه في الحسبان عندما نقوم بتأديب الآخرين. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا ... وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾‏.

 

رسالة الآيات (1-5):

إنّ ما يجب علينا القيام به هو أن نربط هذه الآيات بواقعنا المعاصر فما أحوجنا إلى التخلُّق بهذه الآداب، فلا نقع بما يخالف هذه الآداب العظيمة، بأن نسستهزء بسنته وتعاليمه الشريفة أو لا نتمسّك بها، لأنّ حقيقة تجسيد الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته أو بعد مماته هو في التمسّك بسنته الشريفة والتمسّك بالثقلين وهما القرآن الكريم والعترة الطاهرة وبذلك نكون قد حقّقنا المقطع الأول من سورة الحجرات.

 

85


67

إلتزام الأدب علامة العقل

 للمطالعة

 

المقدّسات في المفهوم الإسلامي

الآية الكريمة تُبيّن أحد أبرز المقدّسات عند المسلمين وهي شخصية الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعندما نتحدّث عن المقدّسات فنحن نتحدّث عن أمور لها آداب تعاطي خاصة تفرضها طبيعتها المقدسة ومصطلح المقدّسات الدينية مصطلح واسع، ويتضمّن كلٍّ من الشخصيات الإلهية العظيمة كالأنبياء عليهم السلام، والأماكن المقدّسة، كالمساجد، ومراقد الأنبياء والأئمة المعصومين عليهم السلام، والأشياء المقدّسة كالقرآن الكريم  والأوقات الزمنية الخاصة وغيرها. وإنّ انتهاك حرمة المقدّسات الدينية والإساءة اليها لها أبعادها الوسيعة الخاصة بها أيضاً.

 

إنّ جذور القداسة في المفهوم القرآني تنطلق من قرب الشيء إلى الله تعالى فكلّما كان الشيء إلى الله أقرب كانت قداسته أشدّ وأعظم وهذا يفترض احتراماً وتعاملاً خاصاً معه، والصورة التي يرسمها القرآن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تظهر أنّه أقرب الموجودات إلى الله تعالى، وعليه فهو أقدس الموجودات بعد الله تعالى بل في كثير من الآيات ومنها الآية الأولى في الحجرات قرنت بين ذاته صلى الله عليه وآله وسلم والذات الإلهية وبما أنّه لا تشابه بين الذّات الإلهية وأي ذات أخرى بما فيها الذّات النبوية، فهذا يعني الشؤون التي يُمثّلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ كانت هذه الحيثية هي الحكم فحكمه هو حكم الله، وإنْ كانت الطاعة فهي طاعة الله تعالى، وهكذا لأنّه يُمثّل الله, فقداسته واحترامه وتوقيره وتبجيله هي من تقديس وتوقير واحترام الله تعالى. وعلى كل حال المقدّسات في الإسلام متعدّدة نشير إلى أهمها:

 

1- الذّات الإلهية المقدّسة: الله تعالى هو أعلى ذات مقدّسة في التصوّر القرآني والإسلامي، بل هو مصدر القداسة كما قلنا والمشركون كانوا يحاولون دائماً مساواة بعض الموجودات بالله تعالى، كما قال تعالى: ﴿إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ

 86


68

إلتزام الأدب علامة العقل

 * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ﴾[1]. والقرآن الكريم ذكر في كثير من آياته الشريفة التسبيح والتنزيه، وذلك ليُعلّمنا أنّه ينبغي علينا تنزيه الذّات الإلهية عن أي عيب ونقص نتصوّره بل حتى اسمه تعالى فضلاً عن ذاته ينبغي لنا تنزيهه ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى[2].

 

 

2- القرآن الكريم: فالله تعالى يصف كتابه بأنه عظيم: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ[3]. وهذا يعني أنه ينبغي علينا تعظيمه. وفي آية أخرى بأنه كريم: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾[4] وهذا يعني أيضاً أنه ينبغي علينا تكريمه. وفي آية ثالثة بأنّه مجيد: ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ[5]. وهذا يعني أنّه ينبغي علينا تمجيده.

 

3- القادة الإلهيون: كالأنبياء والأولياء والأئمة فالعلاقة مع هؤلاء لها أداب خاصة، ومن أعاظم هؤلاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فله آداب خاصة قد أشرنا لبعضها، ومن هذه الآداب التصدُّق قبل التحدُّث معه.

 

4- المؤمن: إنّ للإنسان المؤمن في الإسلام حُرمة وقداسة خاصة عند الله تعالى تفوق حُرمة الكعبة ولهذه الحُرمة الخاصة أحكام حدّدتها الشريعة ومنها ما جاء في سورة الحجرات.



[1] سورة الشعراء، الآيتان 98- 99.

[2] سورة الأعلى، الآية 1.

[3] سورة الحجر، الآية 87.

[4] سورة الواقعة، الآيات 77 - 79.

[5]  سورة ق، الآية 1.

87


69

منهج تلقي الأخبار أصول الآداب الاجتماعية

 الدرس الرابع: منهج تلقّي الأخبار أصول الآداب الاجتماعية

 

مفاهيم محورية

- العبرة بالوثوق بمضمون الخبر.

- هل الآية مختصة بالنبأ, أي هل يختص وجوب التبيُّن بالنبأ.

- لماذا تحدّثت الآية عن خصوص الفاسق؟

- الدروس المستفادة الآية.

- التثبُّت والتبيُّن من الأخبار وعلاقته بالتربية الأخلاقية للمجتمع الإسلامي.

 

89


70

منهج تلقي الأخبار أصول الآداب الاجتماعية

 النص القرآني

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾

 

تمهيد

تتحدّث هذه الآية عن أهمّ الآداب الجماعية والمؤثِّرة على بنية المجتمع، وهو تلقّي الأنباء والأخبار وتناقلها فيما بينهم، وهنا يجب أن تؤخذ هذه الأنباء من مصادرها الموثوق بها وأمّا إذا كانت من فاسق أو لم تكن ممّا يوثق به فلا يمكن الركون إليه والأخذ منه. ولذا ينبغي الاستقصاء عند نقل الخبر. وإذا لاحظنا هذه الآية مع ما تقدّم فقد كان النداء الأول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لتقرير جهة القيادة ومصدر التلقّي. وكان النداء الثاني لتقرير ما ينبغي من أدب للقيادة وتوقير. وكان هذا وذلك هو الأساس لكافة التوجيهات والتشريعات في السورة. فلا بد من وضوح المصدر الذي يتلقّى عنه المؤمنون، ومن تقرير مكان القيادة وتوقيرها، لتصبح للتوجيهات بعد ذلك قيمتها ووزنها وطاعتها. ومن ثم جاء هذا النداء الثالث يبين للمؤمنين كيف يتلقّون الأنباء وكيف يتصرّفون بها, ويُقرّر ضرورة التثبُّت من مصدرها[1].

 




[1] ينظر: في ظلال القرآن، سيد قطب، ج6، ص 3341.

91


71

منهج تلقي الأخبار أصول الآداب الاجتماعية

 الآية خطاب من الله - عزّ وجلّ - للمؤمنين بأنّه إذا جاءكم فاسق  وهو الخارج من طاعة الله إلى معصيته "بنبأ" أي بخبر عظيم الشأن "فتبيّنوا" صدقه من كذبه ولا تبادروا إلى العمل بما تضمّنه "أن تصيبوا قوماً بجهالة" لانّه ربما كان كاذباً وخبره كذباً، فيعمل به فلا يؤمن بذلك.

 

شرح مفردات الآية

بِنَبَأٍ: هو نقل حديث أو شيء آخر من موضع إلى موضع آخر. - وفي الآية - يراد حكاية من مجارى الأمور الماضية وتلاوة ممّا سبق من الأحاديث والقضايا الجارية[1].

 

فَتَبَيَّنُوا: (بين) وهو بعد الشيء وانكشافه. فالبين الفراق,  وبان الشيء وأبان إذا اتضح وانكشف ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ﴾. ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ[2]. كونوا على حال الانكشاف وتكون الوقائع والأمور منكشفة عندكم[3].

 

بِجَهَالَةٍ: الجهل هو ما يخالف العلم، وفقدان العلم إمّا بالنسبة إلى المعارف الإلهيّة، أو علوم ظاهريّة، أو بالنسبة إلى تكاليف شخصيّة، وكلّ منها إمّا في موضوع كلَّي، أو جزئيّ. وخصوصيّات مفهوم الجهالة تختلف باختلاف الصيغ والموارد: يقال: جهل جهالة، وإذا أريد الإشارة إلى إدامة الجهل فيقال: جاهل، وفي مورد أريد قبول جاهل فيقال: تجاهل. وإذا أريد الطلب فيقال: استجهل. ثمّ إنّ الجهل يلازم الاضطراب، كما أنّ العلم واليقين يلازمان الطمأنينة، فتفسير الجهل بالحركة والاضطراب تفسير باللازم والأثر[4].

 

نَادِمِينَ: ندم إذا حزن أو فعل شيئاً ثمّ كرهه[5].

 

النَّدْمُ والنَّدَامَةُ: التَّحَسُّر من تغيُّر رأي في أمر فَائِتٍ. قال تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ[6].

 



[1] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج12، ص 14. 

[2] سورة النساء، الآية 94.

[3] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج1، ص 368.

[4] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج2، ص 132.

[5] المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، أحمد بن محمد المقري الفيومي، ج2، ص 598.

[6] مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ص 796.

92


72

منهج تلقي الأخبار أصول الآداب الاجتماعية

 المعنى التفصيلي

يقول العلامة الطباطبائي رضوان الله تعالى عليه ومعنى الآية: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بخبر ذي شأن فتبيّنوا خبره بالبحث والفحص للوقوف على حقيقته حذر أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصيروا نادمين على ما فعلتم بهم".

 

وقد أمضى الله سبحانه في هذه الآية أصل العمل بالخبر وهو من الأصول العقلائية التي يبتني عليه أساس الحياة الاجتماعية الإنسانية، وأمر بالتبيُّن في خبر الفاسق وهو في معنى النهي عن العمل بخبره، وحقيقته الكشف عن عدم اعتبار حجيته وهذا أيضاً كالإمضاء لما بنى عليه العقلاء من عدم حجية الخبر الذي لا يوثق بمن يخبر به وعدم ترتيب الأثر على خبره.

 

توضيح ذلك: أنّ حياة الإنسان حياة علمية يبني فيها سلوكه طريق الحياة على ما يشاهده من الخير والشر والنافع والضار والرأي الذي يأخذ به فيه، ولا يتيسّر له ذلك إلا فيما هو بمرأى منه ومشهد، وما غاب عنه مما تتعلّق به حياته ومعاشه أكثر ممّا يحضره وأكثر، فاضطّر إلى تتميم ما عنده من العلم بما هو عند غيره من العلم الحاصل بالمشاهدة والنظر، ولا طريق إليه إلا السمع وهو الخبر.

 

فالركون إلى الخبر بمعنى ترتيب الأثر عليه عملاً ومعاملة مضمونة معاملة العلم الحاصل للإنسان من طريق المشاهدة والنظر في الجملة مما يتوقّف عليه حياة الإنسان الاجتماعية توقّفاً ابتدائياً، وعليه بناء العقلاء ومدار العمل.

 

فالخبر إن كان متواتراً أو محفوفاً بقرائن قطعية توجب قطعية مضمونه كان حجّة معتبرة من غير توقّف فيها، فإن لم يكن متواتراً ولا محفوفاً بما يفيد قطعية مضمونه وهو المسمّى بخبر الواحد اصطلاحاً كان المعتبر منه عندهم ما هو الموثوق به بحسب نوعه، وإن لم يفده بحسب شخصه، وكل ذلك لأنّهم لا يعملون إلا بما يرونه علماً وهو العلم الحقيقي أو الوثوق والظنّ الاطمئناني المعدود علماً عادة.

 93 


73

منهج تلقي الأخبار أصول الآداب الاجتماعية

 إذا تمّهد هذا فقوله تعالى في تعليل الأمر بالتبيُّن في خبر الفاسق: ﴿أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ﴾ إلخ، يفيد أنّ المأمور به هو رفع الجهالة وحصول العلم بمضمون الخبر عند ما يراد العمل به وترتيب الأثر عليه، ففي الآية إثبات ما أثبته العقلاء ونفي ما نفوه في هذا الباب، وهو إمضاء لا تأسيس[1].

 

بحث حول الآية

العبرة بالوثوق بمضمون الخبر:

والجدير بالذكر أنّ المسألة المهمّة هنا هي الوثوق والاعتماد على الخبر ذاته، غاية ما في الأمر قد يحصل هذا الوثوق من جهة الاعتماد على الشخص المخبر تارة، وتارة من القرائن الخارجية... ولذلك فإنّنا قد نطمئن إلى "الخبر" أحياناً وإن كان "المُخبرِ" فاسقاً... فعلى هذا الأساس، فإنّ هذا الوثوق أو الاعتماد كيف ما حصل، سواء عن طريق العدالة والتقوى وصدق القائل، أم عن طريق القرائن الخارجية، فهو معتبر، وسيرة العقلاء التي أمضاها الشارع الإسلامي مبنية على هذا الأساس.

 

فما قرّرته الآية هو سُور الأمان للمجتمع فهو أدب جماعي، يُقرِّر للجماعة المؤمنة كيف يتلقّون الأنباء، فإنّهم لا يشاهدون جمعاء حضور المباشرة، اللهم الا قلة قليلة، ومن ثم تبقى الكثرة الكثيرة غائبة عن الإدراك المباشر ومن المستحيلات في الحياة الاجتماعية الاستقلال بما يشاهده الإنسان، دون استغلال لما يشاهده غيره فيشهد به، وهذه الآية كعديد أمثالها، تنهى عن الركون إلى أنباء الفاسقين إلا إذا تبيّن فيها صدق يجعله علماً كسائر العلم، الذي يعتمد عليه المؤمنون العقلاء، والعقلاء المؤمنون.

 



[1] الميزان فى تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، ج‏18، ص 312.

94


74

منهج تلقي الأخبار أصول الآداب الاجتماعية

 إنّ الأخذ والرفض في الأنباء ليسا فوضى دون حساب، وإنّما لكلٍّ ميزان عادل، فلا يؤخذ خبر الفاسق إلا أن يتبيّن صدقه، ولا يرفض خبر العادل إلا إن تبيّن خطأه، ثم لنا بين الأخذ والرفض وقفة لو لم يتبيّن لا صدق ولا كذب،  ليس ذكر الفاسق هنا إلا لأنه أظهر مظان الكذب، فليشمل الجاهل والناسي والساهي وأضرابهم ممن يتطرّق إلى إنبائهم خلاف الصدق وإن كانوا غير عامدين أو أنّ الفاسق يشملهم كلّهم، لأنّه خروج عما يحقّ من طاعة الله، علماً أو عملاً، نقلاً للأنباء أو تنقلاً أم ماذا، فمن يجهل صحة النبأ ثم ينقله كنبأ صادق، إنّه فاسق علمياً ولو كان زاهداً، بل وعملياً إذ لا يجوز هكذا نقل مغر لمن يتقي الله، وكذلك من ينسى أو يسهو، أو يتقبّل الأنباء دون تبيُّن، فإنّه فاسق في نقله إلا أن يُبيّن حقيقة الحال، فيتبيّن للمنقول له أنّه ينقله مراعياً شرائط الوثوق مجانباً كل جوانب الفسوق في نقله هذا النبأ، والا فتبيّنوا بغية حصول العلم والاطمئنان، مخافة: ﴿أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾"![1].

 

1- هل الآية مختصّة بالنبأ أي هل يختصّ وجوب التبيّن بالنبأ؟ بالخبر العظيم الشأن، الذي جاء به فاسق، إذا كان في اتباعه دون تبين إصابة قوم بجهالة فندم على هذه الإصابة؟

 

كما نلمح من هذه الآية، فلا يجب - إذا - تبيّن في الأخبار غير العظيمة، أو في العظيمة التي يجي‏ء بها المجهول فسقه أو عدله، أو التي يجي‏ء بها فاسق وليست فيها إصابة قوم بجهالة أم ماذا! في الحقّ إنّ آية النبأ لا تُنبئ إلا عمّا أنبأت، لكنّما الآيات في حرمة اتباع الظنّ واقتفاء ما ليس لك به علم، تُعمّم وجوب التبيُّن حتى يحصل العلم والاطمئنان أيّاً كان الخبر ومن أي، إلا إذا كان الاطمئنان - أو النوعي منه - حاصلاً بالإخبار ووجوب التبيُّن في آيتنا في مورد لا ينفي عدمه في سواه، لنزول الآية في مورد خاص بالغ الأهمية، ثم الآيات الأخرى تعمّ فلا تناحر في البين[2].

 




[1] ينظر: الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، محمد الصادقي الطهراني، ج‏27، ص 229.

[2] الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن، محمد الصادقي الطهراني، ج27، ص 230.

95


75

منهج تلقي الأخبار أصول الآداب الاجتماعية

 2- لماذا تحدّثت الآية عن الفاسق مع أنّ وجوب التثبُّت والتبيُّن قد تشمل غيره كما تقدّم؟.

 

لعلّ الآية خصّصت الفاسق لأنّه مظنّة الكذب. وحتى لا يشيع الشك بين الجماعة المسلمة في كل ما ينقله أفرادها من أنباء، فيقع ما يشبه الشلل في معلوماتها. فالأصل في الجماعة المؤمنة أن يكون أفرادها موضع ثقتها، وأن تكون أنباؤهم مصدَّقة مأخوذاً بها. فأمّا الفاسق فهو موضع الشك حتى يثبت خبره. وبذلك يستقيم أمر الجماعة وسطاً بين الأخذ والرفض لما يصل إليها من أنباء. ولا تعجل الجماعة في تصرُّف بناءً على خبر فاسق. فتصيب قوماً بظلم عن جهالة تسرُّع. فتندم على ارتكابها ما يُغضب الله، ويُجانب الحقّ والعدل في اندفاع[1]. ولعل ورود كلمة "فاسق" إشارة إلى أنّ المقولة إنّما يُنظر فيها إلى صاحبها الذي وردت منه، فإن كان من أهل الإيمان والثقة استمع لقوله، وأُخذ به، وإن كان ممّن يُتّهم، استمع إليه ووضع قوله موضع التمحيص، فلا يحكم على قوله بالردّ ابتداء، فقد يكون فى قوله صدق، أو شيء من الصدق ينتفع به المسلمون.

 

وإنّ دوافع الفاسق ومنطلقاته شيطانية فقد يكذب أو يمشي بنميم أو ينقل جانباً من الحقيقة ويسكت عن سائر الجوانب، فإذا قبلناه على علّاته فسوف نقع في أخطاء جسيمة، أبرزها إثارة الفتن في المجتمع.

 

3- من هو الفاسق؟  هو باختصار الذي تجاوز الحدود الالهية وهذا لا يمكنه أن يكون موجّهاً للأمة، ومجرّد الاستماع إلى نبأه دون تحقيق وتثبيت يجعله في مقام التوجيه.

 

إنّ مفردة "فسق" وردت في القرآن الكريم أربع وخمسون مرّة ضمن موضوعات ومصاديق مختلفة منها[2].



[1] ينظر: في ظلال القرآن، سيد قطب، ج6، ص 3342.

[2] يراجع سورة النمل، الآية 12. سورة المائدة، الآية 47. سورة النور، الآية 4. سورة العنكبوت، الآية 34. سورة المائدة، الآية 3. سورة التوبة، الآية 24.

96


76

منهج تلقي الأخبار أصول الآداب الاجتماعية

 والنتيجة: أنّ الفسق: هو الخروج عن مقرّرات دينيّة أو عقليّة أو طبيعيّة لازمة. ومن مصاديقه: خروج العبد عن أمر الربّ، وعن طاعته، وعن الأحكام والمقرّرات الإسلاميّة، وعن المقرّرات الأخلاقيّة المسلَّمة كالحسد والبخل والتكبّر والطمع إذا كانت صريحة واضحة، وعن ضوابط طبيعيّة لازمة كما في الرطبة الخارجة عن القشر...[1].

 

آثار آخبار الفاسقين على المجتمع:

إنّ أكثر الصراعات الاجتماعية التي تعصف بالمؤمنين منشؤها الفاسقون الذين لا تروق لهم وحدة المؤمنين فيثيرون الفتنة بينهم. وحين نتفكّر في واقع المسلمين اليوم نجد أنّ الذين يُذكّون نار الصراع بينهم هم في الأغلب أبعد الناس‏ عن القيم، وقد تكون سوابقهم السيئة وأحقادهم ضد الإسلام، وخشيتهم من الفضيحة هو السبب في تطرُّفهم ضد هذه الطائفة أو تلك. وإذا استطاع المؤمنون إبعاد أثر الفسقة عن تجمُّعاتهم قدروا على سدّ أكبر ثغرة تُهدّد كيانهم!.

 

واليوم حيث يتعرّض المسلمون لغزو ثقافي وهجمة إعلامية عبر ألوف المؤسّسات الدعائية المتنوّعة ترانا أحوج ممّا مضى إلى تنفيذ هذه الوصية الإلهية، أن نتبيّن ما يقولون لأنّهم فسقة لا يتّقون الله فيما يقولون، هذه الوكالات الخبرية التي تموّلها وتقودها الرساميل والأنظمة هل تلتزم بالصدق؟ هذه الصحف الصفراء التي تنطق باسم المترفين والطغاة هل ترعى جانب الحق؟ هذه الإذاعات التي تصبّ في آذاننا وأذهاننا كل يوم شلّالاً من المعلومات المختلطة هل نضمن صدقها؟ كلا.. إذاً لا بدّ من التثبُّت، ولكن كيف؟ لأنّ حجم الأفكار والأخبار التي تُبثّ عبر أجهزة الدعاية كبير، فإنّ قدرة الأفراد

 



[1] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج9، ص 89.

97


77

منهج تلقي الأخبار أصول الآداب الاجتماعية

 على التثبُّت منها محدودة، فلا بدّ إذاً من وجود مؤسّسات موثوق بها تقوم بدور المصفاة وتنتقي السمين وتُقدِّمه للمؤمنين.هذه المؤسّسات قد تكون معاهد ومراكز للدراسات والبحوث، وقد تكون تنظيمات دينية، وقد تكون خبراء أكفاء يرجع إليهم المؤمنون في توثيق المعلومات، وقد تكون مؤسّسات إعلامية بديلة، إذاعة صادقة، صحيفة ملتزمة أو وكالة للأنباء موثوق بها.

 

إنّ خبر العادل حجّة. قالوا بالرغم من أنّ الآية لا تدلّ على حجيّة خبر العادل صراحة وبصورة مباشرة، بل بما يُسمّى لديهم بمفهوم الوصف الذي لا حجيّة فيه عندهم، إلا أن فائدة بيان الوصف هنا ليست إلا أنّ الحكم يدور مداره مثل أن نقول: إذا تعاملت مع أهل الباطل فاشهد عليهم، وإذا ذهبت إلى زيارة المريض فتجنّب مواكلته، وإذا زرت بلاد الكفر فتزوّد بالبوصلة لصلاتك.. وما أشبه.

 

ماذا يعني التبيُّن؟

يبدو أنّه يشمل كلّ أسلوب يؤدّي إلى حالة الوضوح عند الإنسان، ولأنّ الله تعالى قد خاطب عامّة المؤمنين بهذه الكلمة، فإنّ مفهوم التبيُّن يكون عرفياً أيضاً، بمعنى أنّ كلّ ما تطمئنّ إليه نفس الإنسان العادي حتى لا يبقى فيه شك معقول أو ارتياب يعتني به العقلاء - كاف وحجّة عند الله في الموضوعات. فسواء أكانت البينة (شهادة عدلين) أو الشياع المفيد للطمأنينة، أو شهادة الخبراء من خلال مجموعة متراكمة من الشواهد والآثار أو خبر العاقل العادل فإنّه من التبيُّن عند العقلاء.. على أنّ العقلاء لا يعتمدون على بعض هذه الأدلة إذا كانت الظروف المحيطة باعثة للشك الحقيقي، مثلاً: الشياع الذي يُعتقد أنّ منشأه شائعة مغرضة لا يورث طمأنينة في النفس فهو إذاً ليس بحجّة. كما أنّ خبر العادل فيما لا يخفى عند غيره يرتاب فيه العقلاء إذا انفرد به، كما لو أُنبأنا بأنّ الإذاعة الفلانية نشرت هذا الخبر، علماً بأنّها

 98 


78

منهج تلقي الأخبار أصول الآداب الاجتماعية

 لو نشرته لسمع أكثر الناس وتناقلوه.. أو أُخبر برؤية الهلال في ليلة صافية ممّا نعلم أنّه لو رآه هذا العادل لرآه غيره أيضاً، وإذ لم يشهد برؤيته غيره فإنّ العقلاء يشكّون في كلامه. كذلك الحوادث الخطيرة لا يعتمد العقلاء عادة على الخبر الواحد فيها مثل الحروب.. عموماً: حالة التبيُّن تختلف عند العقلاء حسب الموضوعات فلا بدّ من الالتفات إلى ذلك، ولعلّ الحكمة التي سيقت في خاتمة الآية هي محور الحكم فعلينا أن ندور مداره، ونتفكّر كيف نتجنّب الوقوع في الجهالة والندم[1].

 

خطر الجهالة على المجتمع:

الجهالة من أخطر الأمراض التي تُصيب المجتمع، وكلّما سرت في بنيانه فتكت به ودائماً هناك مستفيدون من جهالة الناس وعلى رأس هؤلاء القوى الاستكبارية والاستعمارية، فالاستعمار من أكبر المستفيدين من جهل القاعدة الشعبية، الاستعمار الفكري والثقافي والعسكري حيث يعتبر جهل الأمة أرضية خصبة لاستيلائه عليها، أما مع وعيها فلا يمكن له أن يُخضعها ويستعمرها، وهذا ما دلّت عليه الشعوب الحيّة فإنّها لا تقبل بالذلّ والاستعباد والاستعمار.

 

المستفيد الثاني من جهل الأمة أهل المصالح المادية والمعنوية حيث إنّ دكاكينهم لا يكون لها رواج وسوق إلا مع جهل الأمة وترويج القصص الخرافية والرؤى والمنامات ونقل المعجزات الموضوعة والأحاديث الكاذبة بحجة الدفاع عن الدين والمذهب والخوف عليهما، لذلك يضطّربون من أيّ بحث علمي تؤدّي نتيجته إلى خلاف ما اعتادوا عليه وحملوه في أذهانهم. وهؤلاء موجودون من زمن الأئمة إلى يومنا هذا.

 




[1] من هدى القرآن، محمد تقي المدرسي، ج13، ص 377- 397.

99


79

منهج تلقي الأخبار أصول الآداب الاجتماعية

 الدروس المستفادة من آية النبأ[1]

1- ينبغي على المؤمنين أن يكونوا أهل تحقيق وتثبُّت ولا يطلقوا الكلام على عواهنه. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... فَتَبَيَّنُوا﴾.

 

2- إنّ التمسُّك بالآية الكريمة وعدم الأخذ بقول الفاسق من أحد أهمّ الطرق المانعة للفتنة بين المسلمين. ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ﴾. 

 

3-  إنّ أرضية الفتنة تنشأ من خلال: سعي المنافقين لإحداث الفتنة.

 

4- الأصل في الإسلام هو الاعتماد على الآخرين وعدم سوء الظنّ بهم, ولكنّ الفاسقين خارجون عن هذا الأصل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى خطورة الخبر"النبأ" تستدعي التثبُّت والتبيُّن ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ ... فَتَبَيَّنُوا﴾. ولكن لا بدّ من التنبيه أنّ آية النبأ في صدد بيان وجوب التثبُّت والتبيُّن من النبأ في حال كونه في معرض العمل، فينبغي تقديم التثبُّت والتبيُّن قبل ترتيب أيّ أثر على الخبر، أمّا إذا لم يكن الخبر في معرض العمل وليس مورداً لترتيب الآثار عليه، فهذا المورد ليس خارجاً عن وجوب التثبُّت والتبيُّن بل لعلّه داخل في الآية الثانية عشر الآتية، فلا يجوز التجسُّس على الآخرين لمعرفة صحة وصدق كلامهم من عدمه، لتصنيف الناس على أنّ فلاناً صادقاً وفلاناً كاذب، فوجوب التثبُّت يجب في الموارد التي تشملها آية النبأ وهي الأنباء والأخبار التي لها طابع وأثر اجتماعي لا فردي.

 

5- في الآية الثانية عشر الآتية قال تعالى ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ﴾ وفي هذه الآية ينبغي بل يجب الفحص والتثبُّت والتبيُّن وهو ينافي عدم سوء الظنّ بالآخرين، فكيف يمكن الجمع بينهما؟.الآية الآتية تتحدّث أنّه




[1] ينظر: تفسير النور (فارسي)، محسن قرائتي، ج9، ص 171- 172. وتفسيرسورهْ حُجرات  (فارسي)، رضا الصدر، ص 236- 242.

100


80

منهج تلقي الأخبار أصول الآداب الاجتماعية

 من أخلاقيات المسلم أن لا يُسيء الظنّ بالآخرين وأن يتجنّب هذه الصفة القبيحة، فهي في صدد الكلام عن صِرْف النظرة الإيجابية للأفراد. أمّا آية النبأ فهي في صدد بيان وجوب التثبُّت والتبيُّن في حال إخبار الأفراد أو فرد بخبرٍ ما له أثر عملي وخطير على المجتمع أو حتى على الفرد المتلقّي للخبر، فهنا يجب الفحص لخطورة النبأ الذي يحمله الفرد، وهذا لا علاقة له بسوء الظنّ وعدمه، فلو تجرّد الفرد عن الخبر يدخل في عموم قوله تعالى ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ﴾.

 

6- ينبغي على المؤمنين أن يسرعوا في التبيُّن، وذلك لوجود حرف الفاء في الآية ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾. فلا بد من دقّة وتحقيق وجهد شديد في مورد النبأ، لأنّ التسامح فيه وفي أمثاله يوجب خللاً وفساداً وابتلاء، وقد ينجرّ إلى اختلال عظيم في المجتمع، كما بيّنت الآيات التي تلي آية النبأ وهي مسألة الفتنة.

 

7- الفاسق يحاول دائماً إشاعة الأخبار الكاذبة أو المغلوطة بغية إشاعة الفوضى والفتنة. ﴿جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ﴾.

 

8- الإيمان يقتضي التثبُّت والتبيُّن ﴿آمَنُوا ... فَتَبَيَّنُوا﴾.

 

9- الفاسق قد يُخبر بأخبار صادقة والآية لا تنفي هذا الاحتمال، ولا تطلب منّا تكذيب المُخبِر إذا كان فاسقاً بل تطلب منّا التثبُّت والتبيُّن من صحة وصدق الخبر ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾.

 

10- المجتمع الإسلامي، معرّض دائماً لهجمات الأخبار والدعايات الكاذبة، وعلى أفراد المجتمع أن يتمتّعوا بذكاء ووعي في مواجهة هذه الأخبار. ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾.

 

11.  في مجال إدارة الشائعات والأنباء، ينبغي مواجهة الواقعة قبل وقوعها أي القيام بإجراءات وقائية فلذا لكي لا نقع في جهالة وندامة، علينا التحقيق ثم البناء طبقاً لما توصّلنا إليه من نتائج. ﴿فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ﴾.

101


81

منهج تلقي الأخبار أصول الآداب الاجتماعية

 12- الإقدام العجول وعدم التثبُّت من الأخبار هو نوع من الجهل. ﴿بِجَهَالَةٍ﴾. إنّ العمل بالأوامر الإلهية يمنع من وقوع الناس في الندم والحسرة على أعمالهم ﴿فَتَبَيَّنُوا ... نَادِمِينَ﴾.

 

 

13- المقياس الذي يمكن اعتماده من خلال آية النبأ هو عدم الندامة ﴿نَادِمِينَ﴾.

 

التثبُّت والتبيُّن من الأخبار وعلاقته بالتربية الأخلاقية للمجتمع الإسلامي:

إنّ هذا المقطع يُمثّل جزءاً لا يتجزّء من آداب وأخلاقيات المجتمع المؤمن بالله ورسوله، والذي لا تستقرّ أركانه إلا بتمام أضلاع هذه السورة المباركة، ففي هكذا مجتمع لا مكان للمرجفين والمشكّكين الذين يفترون الكذب والإشاعات المغرضة الهادفة إلى إضعاف وتفكيك بنية المجتمع الإيماني. إنّه مجتمع قائم على أسس ومبادىء تضمن أمنه وسلامته تُحصّنه من أي ريح عاتية تعصف به. وإنّ أيّ تفريط بهذه المبادىء سيُعرّض أمن وسلامة المجتمع لخطر الفتنة ويؤجّج الصراعات بين أبنائه ويُفقده أحد أهمّ أسوار الأمان. وإنّ تجاهل وجود القيادة الحكيمة والعادلة في المجتمع سيؤدّي بهذا المجتمع إلى الفوضى والفساد العقائدي والأخلاقي، وإنّ أمِنَ بعض أفراده من ذلك فإنّ الخلاص الفردي لا يؤدّي إلى الأمان المجتمعي، ولذا ينبغي تربية المجتمع على هذه الأخلاق التي تُمثّل جزءاً رئيساً من أجزاء التربية الأخلاقية للمجتمع الإسلامي.

 

إنّ هذه التربية تعني أن لا ننساق وراء كلّ دعاية وإشاعة وتقوّل، فكم من كلام رُتّبت عليه آثار ومواقف وتصرّفات، وعند البحث عن مصدره ومعرفة مدى صحته، يتبيّن أنه كلام مختلق وكذب لا أصل له. فإنّ من ينساق وراء الكذب من دون تبيُّن سيكون مورد للوم من قِبَل الله ورسوله ومجتمعه الإيماني، وإنّ من يبني على الأخبار الصادقة سيكون مورد مدح من الله ورسوله ومجتمعه وسيضمن سلامة وأمن هذا المجتمع الذي هو أمانة في أعناق كل أفراده وهم مسؤولون عن ذلك يوم القيامة.

102


82

منهج تلقي الأخبار أصول الآداب الاجتماعية

 للمطالعة

خطورة الأخبار الكاذبة والشائعات

إنّ كثيراً من الأحداث المؤلمة والصراعات المدّمرة التي تقع في عالمنا المعاصر وقد وقعت في التاريخ الإسلامي من قتل وسفك دماء ونهب وتدمير، إنّما هي بسبب الإشاعات والأكاذيب التي يروّجها المنافقون والمندسّون في المجتمع الإيماني، بُغية تفكيكه وهدم عُراه وتقويض أركانه, فما أحوجنا لأخلاقيات هذه السورة المباركة وأن نكون على حذر دائم من أخبار هؤلاء المنافقين، خصوصاً أنّنا في مجتمع اختلطت فيه الموازين، ويصعب فيه التمييز بين الحق والباطل، فقد ننخدع ببريق بعض الشخصيات ونأخذ بكلامه ونبني عليه تصرّفات ومواقف معيّنة ثم يتبيّن لنا الخلل الكبير الذي وقعنا فيه بسبب هذا الإنسان أو المحطة الفلانية لأنه كان ظاهره وديعاً كالحمل، ولكن حقيقته كالثعلب في روغانه، والعقرب في لدغاتها. فالمطلوب التثبُّت ثم التثبُّت ثم التثبُّت... فالإشاعة التي يُعرّفها بعضهم بأنّها: "الأحاديث والأقوال والأخبار التي يَتناقلُها الناس، والقَصص التي يَروونها، دون التثبُّت مِن صحَّتها، أو التحقُّق مِن صِدقِها"، ويكون منشأ هذه الإشاعة - غالبًا -: خبرًا مِن شخص، أو خبرًا مِن جريدة، أو مِن مَجلَّة، أو خبرًا من إذاعة، أو خبرًا من تلفاز، أو خبرًا من رسالة خطِّية، أو خبرًا مِن شَريط مُسجَّل". إنّ لهذه الإشاعة آثاراً متعددة فهي تؤثّر على سَعادة الفرد وأمنِه النفسي، تؤثِّر على الأسرة: فكم من أسرٍ تفكَّكتْ مِن جرَّاء هذه الإشاعات، وكم مِن بيوت هُدِّمت، وكم من أموال ضُيِّعت، وأطفال شُرِّدت, كل ذلك مِن أجل إشاعة من مُنافقٍ أو كذَّاب، وتؤثّر على العلاقات والوشائج بين أفراد المجتمع الواحد، وإنّ الله تعالى ومن خلال هذه السورة المباركة وضع أسسًا ومعاييرَ لإقامة المجتمع، ومِن هذه الأُسس والمعايير أن تَسُود روح الحبِّ والأُخوَّة والسلام بين أفراد المجتمَع, فـ "المسلم أخو المسلم, لا يظلمه، ولا يَخذله، ولا يُسلمه"،

 

103 


83

منهج تلقي الأخبار أصول الآداب الاجتماعية

 و"المؤمن للمؤمن كالبُنيان, يشدُّ بعضه بعضًا"، هذه هي الروح التي أراد الله تعالى أن يبثَّها في هذه السورة ويحثّ على اتباعه، أمّا أن تنشأ العلاقات على الفُرقة والتنازُع والاختِلاف والإفساد بين الناس، فهذا ما حاربه الإسلام، والإشاعة سبب رئيس لبثِّ هذه الأخلاق المذمومة التي نهى عنها الإسلام. وقد حدّد الله تعالى في القرآن الكريم منظومة ردعية متكاملة لمحاربة الشائعات تبدأ بالتربية النفسية للأفراد، إلى العلاجات الوقائية والردعية في مواجهة هذه الأخبار، ومنها ما حدّده في هذا المقطع من السورة.

 

104


84

حب الإيمان وبغض الكفر

 الدرس الخامس: حب الإيمان وبغض الكفر

 

مفاهيم محورية:

- وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للأمة.

- الله حبّب إليكم الإيمان.

- الدروس المستفادة من الآية.

- ما الفرق بين الكفر والفسوق والعصيان؟

- الدروس المستفادة من الآية.

105


85

حب الإيمان وبغض الكفر

 النص القرآني

قال الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.

 

تمهيد

هاتان الآيتان مرتبطتان بالآية السابقة التي تحدّثت عن الأدب الجماعي في نقل الأنباء والتثبُّت في قبولها وأن لا ينساق المؤمن وراء كل خبر يسمعه سواء كان مرتبطاً بالدين في الجانب العقدي أو الفقهي أو الأخلاقي أو التاريخي أو في سائر الأخبار الاجتماعية أو السياسية أو غيرها ممّا هو متعلّق بالحياة.

 

والآية تُبيّن أنّ وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني الأمة خير وبركة ورحمة وحصن منيع لها عن الانحراف، فمتى ما حصل زيغ وانحراف فسوف يُقَوّم اعوجاجها كما أنّه أمان لها من نزول العذاب كما قال القرآن الكريم: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[1].




[1] سورة الأنفال، الآية 33.

107


86

حب الإيمان وبغض الكفر

 شرح مفردات الآية

لَعَنِتُّمْ: أصل صحيح يدلّ على مشقّة وما أشبه ذلك، ولا يدلّ على صحّة ولا سهولة. قال الخليل: العنت: المشقّة تدخل على الإنسان وقال الزجّاج: العنت في اللغة: المشقّة الشديدة[1]. والأصل في العنت هو الوقوع في مشقّة مع اختلال.

 

قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ وفي قبالهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحبّ نظم أموركم وصلاحها، وعزيز عليه أن تكونوا في هوان وخبال وأن تقعوا في مشقّة واختلال[2].

 

حَبَّبَ: هو الوداد والميل الشديد، ويقابله البغض والتنفّر[3].

 

وَزَيَّنَهُ: الزِّينَةُ الحقيقيّة: ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله لا في الدنيا، ولا في الآخرة، فأمّا ما يزينه في حالة دون حالة فهو من وجه شين، والزِّينَةُ بالقول المجمل ثلاث: زينة نفسيّة كالعلم، والاعتقادات الحسنة، وزينة بدنيّة، كالقوّة وطول القامة، وزينة خارجيّة كالمال والجاه. فقوله: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ﴾ فِي قُلُوبِكُمْ، فهو من الزّينة النّفسيّة...[4].

 

الْكُفْرَ: هو الستر والتغطية، يقال لمن غطَّى درعه بثوب: "قد كفر درعه"[5]. أنّ الأصل الواحد في المادّة: هو الردّ وعدم الاعتناء بشيء. ومن آثاره: التبرّي، المحو، التغطية. ومن مصاديقه: الردّ وعدم الاعتناء بالإنعام والإحسان، الردّ وعدم الاعتناء والتوجّه إلى الحقّ في أيّ مرتبة كان[6].




[1] معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكريا (ابن فارس)، ج4، ص 150.

[2] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج8، ص  235.

[3] (م.ن)، ج2، ص 152.

[4] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج4، ص 377.

[5] معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكريا (ابن فارس)، ج5، ص 191.

[6] التحقيق في كلمات القرآن، ج 10، ص 79.

108


87

حب الإيمان وبغض الكفر

 وَالْفُسُوقَ: فسق الرطب إذا خرجت عن قشره. فسق فسوقاً من باب قعد: "خرج عن الطاعة، والاسم الفسق. ويقال أصله خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد، يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وكذلك كلّ شيء خرج عن قشره فقد فسق. الفسق الترك لأمر الله. وكذلك الميل عن الطاعة إلى المَعصية، كما فسق إبليس عن أمر ربّه"[1].

 

الْعِصْيَانَ: عصى عصياناً إذا خرج عن الطاعة وعصى:يدلّ على الفرقة.والعاصي:الفصيل إذا عصى أمّه في اتّباعها.

 

والعصيان:خلاف الطاعة،عصى العبد ربّه إذا خالف أمره[2].

 

الرَّاشِدُونَ: الرشد: الصلاح وهو خلاف الغيّ والضلال وهو إصابة الصواب. والاهتداء إلى الخير والصلاح.  فالهداية ضدّ الضلالة، كما أنّ الرّشد ضدّ الغيّ، وهو الانهماك في الفساد. وقوله ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ أي الَّذين يقوم الرشد بهم[3].

 

المعنى الإجمالي

قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ عطف على قوله في الآية السابقة:

﴿فَتَبَيَّنُواْ﴾ وتقديم الخبر للدلالة على الحصر، والإشارة إلى ما هو لازمه فإنّ اختصاصهم بكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم لازمه أن يتعلّقوا بالرشد ويتجنّبوا الغي ويرجعوا الأمور إليه ويطيعوه ويتبعوا أثره ولا يتعلّقوا بما تستدعيه منهم أهواؤهم.

 

فالمعنى: ولا تنسوا أن فيكم رسول الله، وهو كناية عن أنه يجب عليهم أن يرجعوا الأمور ويسيروا فيما يواجهونه من الحوادث على ما يراه ويأمر به من غير أن يتبعوا أهواء أنفسهم.




[1] راجع: مصباح اللغة للفيوميّ، مقاييس اللغة، لابن فارس، مادة فسق.

[2] راجع: مصباح اللغة للفيوميّ، مقاييس اللغة، لابن فارس، لسان العرب لابن منظور، مادة عصى.

[3] التحقيق في كلمات القرآن، ج4، ص 141.

109


88

حب الإيمان وبغض الكفر

 وقوله: ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾ أي جهدتم وهلكتم، والجملة كالجواب لسؤال مقدّر كأنّ سائلاً يسأل فيقول: لماذا نرجع إليه ولا يرجع إلينا ولا يوافقنا؟ فأجيب بأنه ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾.

 

وقوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ استدراك عمّا يدلّ عليه الجملة السابقة: ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾ من أنهم مشرفون بالطبع على الهلاك والغي فاستدرك أنّ الله سبحانه أصلح ذلك بما أنعم عليهم من تحبيب الإيمان وتكريه الكفر والفسوق والعصيان.

 

والمراد بتحبيب الإيمان إليهم جعله محبوباً عندهم وبتزيينه في قلوبهم تحليته بجمال يجذب قلوبهم إلى نفسه فيتعلّقون به ويعرضون عما يُلهيهم عنه.

 

وقوله: ﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾ عطف على ﴿حَبَّبَ﴾ وتكريه الكفر وما يتبعه إليهم جعلها مكروهة عندهم تتنفّر عنها نفوسهم، والفرق بين الفسوق والعصيان - على ما قيل - إنّ الفسوق هو الخروج عن الطاعة إلى المعصية، والعصيان نفس المعصية وإن شئت فقل: جميع المعاصي، وقيل: المراد بالفسوق الكذب بقرينة الآية السابقة والعصيان سائر المعاصي.

 

وقوله: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ بيان أنّ حبّ الإيمان والانجذاب إليه وكراهة الكفر والفسوق والعصيان هو سبب الرشد الذي يطلبه الإنسان بفطرته ويتنفّر عن الغي الذي يقابله، فعلى المؤمنين أن يلزموا الإيمان ويتجنّبوا الكفر والفسوق والعصيان حتى يرشدوا ويتّبعوا الرسول ولا يتّبعوا أهواءهم.

 

ولمّا كان حبّ الإيمان والانجذاب إليه وكراهة الكفر ونحوه صفة بعض من كان الرسول فيهم دون الجميع كما يصرح به الآية السابقة، وقد وصف بذلك جماعتهم تحفّظاً على وحدتهم وتشويقاً لمن لم يتّصف بذلك منهم غيّر السياق والتفت عن خطابهم إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ والإشارة إلى من

110


89

حب الإيمان وبغض الكفر

 اتصف بحب الإيمان وكراهة الكفر والفسوق والعصيان، ليكون مدحاً للمتّصفين بذلك وتشويقاً لغيرهم[1].

 

المعنى التفصيلي

وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للأمة:

فالقرآن يقول: من حسن حظّكم أنّ فيكم رسول الله وهو مرتبط بعالم الوحي، فمتى ما بدت فيكم بوادر الانحراف فسيقوم بإرشادكم عن هذا الطريق، فلا تتوقّعوا أن يطيعكم ويتعلّم منكم ولا تصرّوا وتلحّوا عليه، فإنّ ذلك فيه عنت لكم وليس من مصلحتكم... فمن خلال وجوده المبارك تتصل السماء بالأرض صلة دائمة حية مشهودة, فتقول السماء للأرض, وتخبر أهلها عن حالهم وجهرهم وسرهم، وتقوّم خطاهم أولاّ بأول، وتشير عليهم في خاصة أنفسهم وشؤونهم. ويفعل أحدهم الفعلة ويقول أحدهم القولة، ويسر أحدهم الخالجة, فإذا السماء تطلع، وإذا الله - جل جلاله - يُنبئ رسوله بما وقع، ويوجهه لما يفعل وما يقول في هذا الذي وقع.. إنّه لأمر. وإنه لنبأ عظيم. وإنها لحقيقة هائلة. قد لا يحسّ بضخامتها من يجدها بين يديه. ومن ثم كان هذا التنبيه لوجودها بهذا الأسلوب: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾.. اعلموا هذا وقدّروه حقّ قدره، فهو أمر عظيم. ومن مقتضيات العلم بهذا الأمر العظيم أن لا يقدِّموا بين يدي الله ورسوله. ولكنّه يزيد هذا التوجيه إيضاحاً وقوة، وهو يُخبرهم أن تدبير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم بوحي الله أو إلهامه فيه الخير لهم والرحمة واليسر. وأنّه لو أطاعهم فيما يعنّ لهم أنّه خير لعنتوا وشقّ عليهم الأمر. فاللّه أعرف منهم بما هو خير لهم، ورسوله رحمة لهم فيما يُدبّر لهم ويختار: ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾.. وفي هذا إيحاء لهم بأن يتركوا أمرهم لله ورسوله، وأن يدخلوا في السلم كافة، ويستسلموا لقدر الله وتدبيره، ويتلقّوا عنه ولا يقترحوا عليه[2].




[1] تفسير الميزان، محمد حسين الطباطبائي،ج18، ص 313- 314. (بتصرف). 

[2]  في ظلال القرآن، سيد قطب، ج6، ص 3342.

111


90

حب الإيمان وبغض الكفر

 واعلم أنّ في قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾ إشعاراً بأنّ قوماً من المؤمنين كانوا مصرّين على قبول نبأ الفاسق الذي تشير إليه الآية السابقة، وهو الوليد بن عقبة أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني المصطلق لأخذ زكواتهم فجاء إليهم فلمّا رآهم هابهم ورجع إلى المدينة وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم ارتّدوا فعزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قتالهم فنزلت الآية فانصرف وفي القوم بعض من يصرّ على أن يغزوهم.

 

الله حبّب إليكم الإيمان

ويشير القرآن معقّباً في الآية إلى موهبة عظيمة أخرى من مواهب الله سبحانه فيقول: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾.

 

وفي الحقيقة إنّ هذه التعابير إشارة لطيفة إلى قانون اللطف أي "اللطف التكويني".

 

وتوضيح ذلك: أنّه حين يريد الشخص الحكيم أن يُحقّق أمراً فإنّه يوفّر له جميع ما يلائمه من كلّ جهة ويصدق هذا الأصل في شأن الناس تماماً... فاللّه يريد أن يطوي الناس جميعاً طريق الحق دون أن يقعوا تحت تأثير الإجبار بل برغبتهم وإرادتهم، ولذا يُرسل إليهم الرسل والكتب السماوية من جهة، ويُحبّب إليهم الإيمان من جهة أخرى، ويضرم شعلة العشق نحو طلب الحق والبحث عنه في داخل النفوس ويكرّه إليها الكفر والفسوق والعصيان... وهكذا فإنّ كلّ إنسان مفطور على حبّ الإيمان والطهارة والتقوى، والبراءة من الكفر والذنب.

 

إلّا أنّه من الممكن أن يتلوّث ماء المعنويات المنصبّ في وجود الناس في المراحل المتتالية وذلك نتيجة للاختلاط بالمحيطات الموبوءة فيفقد صفاءه ويكتسب رائحة الذنب والكفر والعصيان...هذه الموهبة الفطرية تدعو الناس إلى اتباع رسول الله

112


91

حب الإيمان وبغض الكفر

 وعدم التقدّم بين يديه.وينبغي التذكير بهذه اللطيفة أيضاً، وهي أنّ محتوى الآية لا ينافي المشاورة أبداّ، لأنّ الهدف من المشاورة أو الشورى أن يُعرب كلٌّ عن عقيدته ووجهة نظره، إلّا أنّ الرأي الأخير والنظر النهائي لشخص النّبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يُستفاد ذلك من آية الشورى أيضاً... وبتعبير آخر: إنّ الشورى هي موضوع مستقلّ، وفرض الرأي موضوع آخر، فالآية محل البحث تنفي فرض الرأي لا المشاورة.

 

والمراد من الفسوق عموم الخروج عن الطاعة فتكون لفظة العصيان تأكيداً لها، كما أنّ جملة ﴿وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ تأكيد على الجملة السابقة لها: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾.

 

وعلى كلّ حال، فإنّ القرآن يقرّر قاعدة كلية وعامة في نهاية هذه الآية لواجدي الصفات المذكورة "فيها" فتقول: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾.

 

أي لو حفظتم هذه الموهبة الإلهية "العشق للإيمان والتنفّر من الكفر والفسوق" ولم تلوّثوا هذا النقاء والصفات الفطرية فإنّ الرشد والهداية دون أدنى شكّ في انتظاركم.

 

وممّا يستجلب النظر أنّ الجمل السابقة في الآية كانت بصيغة الخطاب للمؤمنين لكنّ هذه الجملة: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ تتحدّث عنهم بصيغة "الغائب" ويبدو أنّ هذا التفاوت في التعبير جاء ليدلّ على أنّ هذا الحكم غير مختصّ بأصحاب النبي، بل هو قانون عام، فكلّ من حفظ صفاءه الفطري في أي عصر وزمان هو من أهل الرشد والهداية والنجاة.

 

أمّا آخر الآيات محل البحث فتوضّح هذه الحقيقة وهي أنّ محبوبية الإيمان والتنفّر من الكفر والعصيان من المواهب الإلهية العظمى على البشر إذ تقول: ﴿فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾. فعلمه وحكمته يوجبان أن يخلق فيكم عوامل الرشد والسعادة ويكملها بدعوة الأنبياء إيّاكم ويجعل عاقبتكم الوصول إلى الهدف المنشود..."وهو الجنّة".

113


92

حب الإيمان وبغض الكفر

 والظاهر أنّ الفضل والنعمة كليهما إشارة إلى حقيقة واحدة، هي المواهب الإلهية التي يمنحها عباده، غاية ما في الأمر أنّ "الفضل" إنّما سمّي فضلاً لأنّ الله غير محتاج إليه و"النعمة" إنّما سمّيت نعمة لأنّ العباد محتاجون إليها، فهما بمثابة الوجهين لعملة واحدة!...

 

ولا شكّ أنّ علم الله بحاجة العباد وحكمته في مجال التكامل وتربية المخلوقات توجبان أن يتفضّل بهذه النعم المعنوية الكبرى على عباده وهي محبوبية الإيمان والتنفّر من الكفر والعصيان[1].

 

قوله تعالى: ﴿فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ تعليل لما تقدّم من فعله تعالى بالمؤمنين من تحبيب الإيمان وتزيينه وتكريه الكفر والفسوق والعصيان أي إنّ ذلك منه تعالى مجرّد عطية ونعمة لا إلى بدل يصل إليه منهم لكن ليس فعلاً جزافياً فإنه تعالى عليم بمورد عطيته ونعمته حكيم لا يفعل ما يفعل جزافاً، كما قال سبحانه: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾[2].

 

والآية على ما يفيده السياق من تتمّة الكلام في الآية السابقة تُعمّم ما فيها من الحكم وتؤكّد ما فيها من التعليل، فمضمون الآية السابقة الحكم بوجوب التبيُّن في خبر الفاسق وتعليله بوجوب التحرُّز عن بناء العمل على الجهالة، ومضمون هذه الآية تنبيه المؤمنين على أنّ الله سبحانه أوردهم شرع الرشد ولذلك حبّب إليهم الإيمان وزيّنة في قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، فعليهم أن لا يغفلوا عن أنّ فيهم رسول الله وهو مؤيَّد من عند الله وعلى بيّنة من ربّه لا يسلك إلا سبيل الرشد دون الغي، فعليهم أن يطيعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما يأمرهم به ويريدوا ما أراده ويختاروا ما اختاره، ولا يصرّوا على أن يطيعهم في آرائهم وأهوائهم فإنه لو يطيعهم في كثير من الأمر جهدوا وهلكوا.




[1] الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏16، ص 530.

[2]  سورة الفتح، الآية 26.

114


93

حب الإيمان وبغض الكفر

 بحث حول الآية

 

ما الفرق بين الكفر والفسوق والعصيان؟

هذه أمور ثلاثة هي في مقابلة الإيمان الكامل لأنّ الإيمان الكامل المزيَّن، هو أن يجمع التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان‏.

 

عن الإمام علي عليه السلام: "سُئِلَ عَنِ الإيمان فَقَالَ: الإيمان مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وعَمَلٌ بِالأَرْكَانِ"[1]. بيّن الإمام عليه السلام أنّ الإيمان مركّب من ثلاثة أشياء فهو كلٌّ مركّب من هذه الأجزاء وهي:

مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ: المراد بالمعرفة هنا الاعتقاد الجازم المطابق للواقع سواء أكان عن علم أم عن تقليد.

 

وإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ: لا بدّ من إظهار الإيمان بالقول تماماً كالعمل، لأنه عبادة للَّه، ولكي يُعرف المؤمن ويُعامل بما له من الحقّ.

 

وعَمَلٌ بِالأَرْكَانِ: أي لا بدّ أن يتجسّم الإيمان بالعمل المحسوس، وكلّ عمل ثبت حكمه بضرورة الدين فهو ركن للإيمان، كوجوب الجهاد والصوم والصلاة والحج والزكاة. ويبدو أنّ كلام الإمام محمول على الإيمان الكامل.

 

قوله تعالى: ﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ﴾ وهو التكذيب في مقابلة التصديق بالجنان. والفسوق هو الكذب. وثانيها: هو ما قبل هذه الآية وهو قوله تعالى: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ﴾، سُمّي من كذّب فاسقاً فيكون الكذب فسوقاً. ثالثها: ما ذكره بعد هذه الآية، وهو قوله تعالى: ﴿بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾ فإنّه يدلّ على أنّ الفسوق أمر قولي لاقترانه بالاسم. ورابعها: وجه معقول وهو أنّ الفسوق هو الخروج عن الطاعة على ما علم في قول القائل: فسقت الرطبة إذا خرجت، وغير ذلك لأنّ الفسوق




[1] نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام (تحقيق صالح)، حكم أمير المؤمنين عليه السلام، رقم 227، ص 467.

 115


94

حب الإيمان وبغض الكفر

 هو الخروج زيد في الاستعمال كونه الخروج عن الطاعة، لكن الخروج لا يكون له ظهور بالأمر القلبي، إذ لا اطلاع على ما في القلوب لأحد إلا لله تعالى، ولا يظهر بالأفعال لأنّ الأمر قد يترك إما لنسيان أو سهو، فلا يعلم حال التارك والمرتكب أنه مخطئ أو متعمّد، وأمّا الكلام فإنّه حصول العلم بما عليه حال المتكلّم، فالدخول في الإيمان والخروج منه يظهر بالكلام، فتخصيص الفسوق بالأمر القولي أقرب، وأمّا العصيان فترك الأمر وهو بالفعل أليق، فإذا عُلم هذا ففيه ترتيب في غاية الحسن، وهو أنّه تعالى كرّه إليكم الكفر وهو الأمر الأعظم كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾. ثم قال تعالى: ﴿وَالْفُسُوقَ﴾ يعني ما يظهر لسانكم أيضاً، ثم قال: ﴿وَالْعِصْيَانَ﴾ وهو دون الكل ولم يترك عليكم الأمر الأدنى وهو العصيان"[1]‏. وسيأتي في الآية (15) من السورة بيان معنى الإيمان والإسلام ومراتبهما.

ما الفرق بين الفضل والنعمة:

في قوله تعالى: ﴿فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾. فضل الله إشارة إلى ما عنده من الخير وهو مستغن عنه، والنعمة إشارة إلى ما يصل إلى العبد وهو محتاج إليه، لأنّ الفضل في الأصل يُنبئ عن الزيادة، وعنده خزائن من الرحمة لا لحاجة إليها، ويرسل منها على عباده ما لا يبقون معه في ورطة الحاجة بوجه من الوجوه، والنعمة تنبئ عن الرأفة والرحمة وهو من جانب العبد، وفيه معنى لطيف وهو تأكيد الإعطاء، وذلك لأنّ المحتاج يقول للغني: أعطني ما فضل عنك وعندك، وذلك غير ملتفت إليه وأنا به قيامي وبقائي، فإذن قوله‏ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ‏ إشارة إلى ما هو من جانب الله الغني، والنعمة إشارة إلى ما هو من جانب العبد من اندفاع‏ الحاجة، وهذا ممّا يؤكّد قولنا فضلاً منصوب بفعلٍ مضمر، وهو الابتغاء والطلب[2].




[1] مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، فخر الدين الرازي، ج 28، ص 103.

[2] مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، فخر الدين الرازي، ج 28، ص 103- 104.

116


95

حب الإيمان وبغض الكفر

 ختمُ الآية بقوله‏ ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ فيه مناسبات عدة:

أوّلها: أنه تعالى لما ذكر نبأ الفاسق، قال إنْ يشتبه على المؤمن كذب الفاسق فلا تعتمدوا على ترويجه عليكم الزور، فإن

الله عليم، ولا تقولوا كما كان عادة المنافق لولا يعذبنا الله بما نقول، فإن الله حكيم لا يفعل إلا على وفق حكمته.

 

وثانيها: لمّا قال الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ﴾ بمعنى لا يطيعكم، بل يتبع الوحي، قال فإنّ الله من كونه عليماً يعلمه، ومن كونه حكيماً يأمره بما تقتضيه الحكمة فاتبعوه.

 

ثالثها: المناسبة التي بين قوله تعالى: ﴿عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ وبين قوله‏ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان‏ أي حبّب بعلمه الإيمان لأهل الإيمان، واختار له من يشاء بحكمته.

 

رابعها: وهو الأقرب، وهو أنه سبحانه وتعالى قال: ﴿فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾، ولمّا كان الفضل هو ما عند الله من الخير المستغني عنه، قال تعالى هو عليم بما في خزائن رحمته من الخير، وكانت النعمة هو ما يدفع به حاجة العبد، قال هو حكيم ينزل الخير بقدر ما يشاء على وفق الحكمة[1].

 

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيه عَنْ حَمَّادٍ عَنْ حَرِيزٍ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام عَنِ الْحُبِّ والْبُغْضِ أمِنَ الإيمان هُوَ، فَقَالَ: وهَلِ الإيمان إِلَّا الْحُبُّ والْبُغْضُ، ثُمَّ تَلَا هَذِه الآيَةَ ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾[2].

 

الراشدون: الرشد: الاستقامة على طريق الحقّ مع تصلّبٍ فيه، من الرشادة وهى الصخرة، وكل صخرة رشادة[3]. وقد مرّ أنّ الراشدين بمعنى الَّذين يقوم الرشد بهم.




[1] (م.س)، ص 104.

[2] الكافي، الكليني،ج 2، باب الحب في الله والبغض في الله، ح5، ص 125.

[3] تنزيل الآيات على الشواهد من الأبيات، شرح شواهد الكشاف، محب الدين الأفندي، ص 388.

117


96

حب الإيمان وبغض الكفر

 وإذا تتبّعنا هذه الكلمة في القرآن فنجدها وردت في عدّة موارد منها أنّ الوصول إلى درجة الرشد والكمال هي هداية من الله تعالى للأنبياء ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ[1]. قيل معنى رشده الاهتداء لوجوه الصلاح. وقيل: هو الحجج الموصلة إلى التوحيد. وقيل: النبوّة. ثم إنّ وظيفة هؤلاء إهداء الناس إلى الرشد كما في قوله تعالى: ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ[2]. وإنّ النبيّ موسى عليه السلام قد طلب من الخضر عليه السلام تعليمه ليصل إلى الرشد ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا[3]. والإيمان يُهيّء الأرضية المناسبة للرشد والرشاد ﴿وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾[4]. القرآن الكريم يهدي إلى الرشد ﴿يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ[5]. وفي هذه الآية في سورة الحجرات تبيّن أنّ أهل الإيمان الواقعي هم أهل الرشد ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾. يتبيّن من خلال هذه الآيات أنّ الرشد في القرآن الكريم، هو رشد معنوي وروحي يصل إليه الإنسان من خلال إيمانه وعلاقته بالله تعالى. وفي مجال اتباع القيادة يُبيّن القرآن أنه إن لم تكن القيادة معصومة كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام أو صالحة كالولي الفقيه، فإنّ الأمة ستخضع للحكم الاستبدادي وهذا معناه عدم الرشاد ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ[6]. ولكن اذا كانت القيادة معصومة والقرار يصدر منها أو صالحة وعادلة ستكون الأرضية مهيّئة للرشد وسيصل المجتمع الإيماني في ظلّ هكذا قيادة إلى رشده المطلوب ويصبح مجتمعاً راشداً.



[1] سورة الأنبياء، الآية 51.

[2] سورة غافر، الآية 38.

[3] سورة الكهف، الآية 66.

[4] سورة البقرة، الآية 186.

[5] سورة الجن، الآية 2.

[6] سورة هود، الآية 97.

118


97

حب الإيمان وبغض الكفر

 بطلان الجبر:

إنّ الآية الكريمة تدلّ على بطلان الجبر في الأفعال وصحة نظرية الاختيار التي يؤمن بها الإمامية، فالآيات الآنفة تجسيدٌ بيّن لوجهة نظر الإسلام في مسألة "الجبر والاختيار" والهداية والإضلال، لأنّها توضح هذه اللطيفة ـ بجلاء ـ وهي أنّ الله يُهيّئ المجال "والأرضية" للهداية والرشد، فمن جهة يبعث رسوله ويجعله بين الناس ويُنزل القرآن الذي هو نور ومنهج هداية, ومن جهة يُلقي في النفوس العشق للإيمان ومحبّته, والتنفّر والبراءة من الكفر والعصيان، لكنْ في النهاية يوكل للإنسان أن يختار ما يشاء ويُصمّم بنفسه، ويُشرّع سبحانه التكاليف في هذا المجال!... وطبقاً للآيات المتقدّمة فإنّ عشق الإيمان والتنفّر من الكفر موجودان في قلوب جميع الناس دون استثناء وإذا لم يكن لدى بعضهم ذلك فإنّما هو من جهة أخطائهم وسلوكيّاتهم وأعمالهم، فإنّ الله لم يُلقِ في قلب أيّ شخص حُبَّ العصيان وبغض الإيمان.

توضيح ذلك: إنّ الآية الكريمة تدلّ على بطلان الجبر بهذا البيان، إنّ كلمة ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾. وكلمة ﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾. تدلّ على بطلان الجبر, لأنّ الجبر يعني "الجبر هو الحمل على الفعل والاضطرار إليه بالقهر والغلبة، وحقيقة ذلك إيجاد الفعل في الخلق من غير أن يكون لهم قدرة على دفعه والامتناع من وجوده فيه. ومذهب الجبر هو قول من يزعم أنّ الله تعالى خلق في العبد الطاعة من غير أن يكون للعبد قدرة على ضدّها والامتناع منها وخلق فيه المعصية كذلك"[1].

 

ومن الواضح أنّ الشخص الذي يُحبّ شيئاً ما فإنّ أفعاله وسلوكياته ستكون طبقاً لهذه المحبّة القلبية. وفي المقابل الشخص الذي يكره شيئاً وينفر منه في قلبه سينعكس هذا أيضاً في سلوكياته وسيكون نفوره ممّا يكره واضح في هذا المجال.




[1] تصحيح اعتقادات الإمامية، الشيخ المفيد، الجبر والتفويض، ص 46. (بتصرف).

119


98

حب الإيمان وبغض الكفر

 اذا كان الشخص يُحبّ الإيمان فستكون سلوكياته طبقاً لإيمانه. وإنّ أثر هذا الحبّ سيجعله يُقرّر بإرادته طاعة الله تعالى ومن خلال هذه الإرادة سيقوم بفعل الواجبات وترك المحرّمات، مع قدرته على فعل العكس، ولكنّ الحبّ الذي في قلبه للإيمان يدفعه لاختيار الطاعة وترك المعصية. كما نقلنا عن الإمام قوله: "وهَلِ الإيمان إِلَّا الْحُبُّ والْبُغْضُ".

 

إذا اتّضح هذا البيان نقول: لو افترضنا أنّ العباد مجبورن على الطاعة والمعصية ولا تقع تحت اختيارهم. فإنّ تحبيب الإيمان لهم من قِبَل الله تعالى وتنفيرهم من الكفر والفسوق والعصيان لكي تصدر منهم الأعمال الحسنة ويبتعدون عن الأعمال السيئة، فإذا افترضنا الجبر في أفعالهم فلا معنى لتحبيب الإيمان وتبيغض الكفر، بل تصبح هذه الآية في مقام اللغو ولا ثمرة عملية لهذا الكلام.فإذا اعتبرنا أنّ الناس في حبّ الإيمان وبغض الكفر مجبورون على ذلك، فإنّ هذه المحبّة والبغض لا يكون لها أيّ قيمة حتى تكون محبوبة لله تعالى، ولا يستحقّون أيّ ثواب على أعمالهم. وببيان آخر: نقول نجد  بالوجدان أنّ هناك أفراداً يُبغضون الإيمان ويُحبّون الفسق والكفر والعصيان، إذاً التحبيب والتبغيض من الله تعالى ليس جبريّاً. وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يكون كلّ الناس يُحبّون الإيمان ويبغضون الكفر.

 

الدروس المستفادة من الآية

1- يجب الالتفات إلى شخصية القائد وحكمته فأنتم من هذه الناحية ليس فيكم قائداً عادياً بل رسول الله، ﴿فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾، السائر إلى الله لا إلى أهوائكم،   الذي لا يدعو إلا إلى الله، ومن المحال أن يُطيعكم في كثير من الأمر، و ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ﴾ أمر الشرع وحكمه ﴿لَعَنِتُّمْ﴾ أي أثمتم وهلكتم، فعجزتم أنتم عن إمرار الحياة المريحة، واستمرار الحياة السعيدة، واخلدتم إلى حياة جهنمية فوضى[1].




[1] الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن، محمد الصادقي الطهراني، ج27، ص 232.

120


99

حب الإيمان وبغض الكفر

 2- هذه الآيات تؤكّد مرّةً أخرى أنّ وجود القائد "الإلهي" ضروريّ لرشد جماعةٍ ما، بشرط أن يكون مطاعاً لا مطيعاً وأن يتّبع أصحابه وجماعته أوامره لا أن يؤثّروا عليه ويفرضوا عليه آراءهم "ابتغاء مقاصدهم ومصالحهم" وهذه المسألة لا تختصّ بالقادة الإلهيين فحسب، بل ينبغي أن تكون حاكمة في المديرية والقيادة في كلّ مكان، وحاكمية هذا الأصل لا تعني استبداد القادة، ولا ترك الشورى[1].

 

 

3- إنّ القائد الذي يحمل الحكمة والمعرفة والبصيرة يجب على الرعية الرجوع إليه في توجيه المجتمع وتحصينه من الفتن والشبهات. وأيضاً لا يصحّ من الرعية الضغط عليه لقبول آراءهم وشهوات أنفسهم، لأنّ ذلك ليس من مصلحتهم على الإطلاق.

 

4- اذا أردنا أن لا نصل إلى الندامة التي تحدّثت عنها آية النبأ السابقة فعلينا اتباع تعاليم الأنبياء ﴿نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾. لأنّ لوجود الرسول في الأمة امتيازات خاصة منها أنّه بوصلة الأمان الحقيقية للمجتمع.

 

5- يتوقّع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يشاور الآخرين، ولكن لا بدّ أن لا يتوقّع الآخرون أن يُطيعهم في شوؤنه لأنّ القرآن صرح بالمشاورة ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[2]. أما الآية في الحجرات فتقول بأنّ موقع رسول الله هو موقع من يُطاع لا من يُطيع.

 

﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ ... لَعَنِتُّمْ﴾. والشورى موردها الأمور التي ترجع إلى شؤون الناس لا مانع من أن يشاورهم في الأمر وهم يتشاورون فيما بينهم، أمّا كلّ ما يرجع إلى الله ورسوله فهو ليس مورد للشورى. وقوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾[3] يشير إلى القسم الأوّل، أمّا قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا[4]. فالإمامة منصب إلهي



[1] الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏16، ص 530. 

[2] سورة آل عمران، الآية 159.

[3] سورة الشورى، الآية 38.

[4] سورة البقرة، الآية 124.

121


100

حب الإيمان وبغض الكفر

 يجعله الله لأوليائه وليست مورداً للشورى، لأنّها لا ترجع إلى أمورهم بل إلى الله تعالى.

 

6- إنّ المشكلات الاجتماعية التي تعصف بمجتمعاتنا سببها ابتعادنا عن تعاليم الأنبياء عليهم السلام والعمل بأهوائنا وأذواقنا وعاداتنا وتقاليدنا بعيداً عن رسائل السماء، وهذا ما يؤدّي إلى ضياع المجتمع وتفكيكه. ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ ... لَعَنِتُّمْ...﴾.

 

7- ينبغي على القائد الصالح أن يكون له الاستقلال الكامل في اتخاذ الرأي والقرار المناسب - بعد المشاورة - ولا يتأثّر بضغط الآخرين عليه، هذا هو المفهوم من قوله تعالى: ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ ... لَعَنِتُّمْ...﴾.

 

8- إنّ الدين والإيمان من الأمور الفطرية التي أودعها الله تعالى في باطن الإنسان: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ...﴾.

 

9- الإيمان أمر قلبي، والأمور القلبية لا تتلائم وتتوافق مع الجبر والفرض والحتمية. ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ...﴾.

 

10- إنّ الإيمان هو زينة القلب كما أنّ الجبال والأنهار والأزهار وغير ذلك هي زينة الأرض: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[1]. والفرق بين الأمرين هو أنّ زينة الإنسان المؤمن هي الكمالات المعنوية والترقّي الروحي كما أنّ الأمور المادية زينتها الماديات.

 

11- إذا كان الإنسان من أهل الإيمان فعليه أن يبتعد ويبغض الكفر والفسوق والعصيان. ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ... كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ...﴾.

 

12- إنّ الإنكار القلبي - الكفر - هو مقدّمة لكلّ الشرور والمفاسد فالجحود هو أساس كل المعاصي، ولذا الآية قدّمت "الكفر" ثم ثنّت "بالفسوق والعصيان".




[1] سورة الكهف، الآية 7.

122


101

حب الإيمان وبغض الكفر

 13- التنفّر والبعد عن المعصية والكفر والفسق هو أمر فطري، كما أنّ الإيمان وطاعة الله هي فطرية أيضاً. وإنّ هذا التنفّر هو الذي يوصل المؤمن إلى الرشاد: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾. والعكس صحيح فإنّ عدم التنفّر من هذه الأمور يوصل إلى عدم الرشد: ﴿وَكَرَّهَ... أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾.

 

 

 

123


102

حب الإيمان وبغض الكفر

 للمطالعة

 

آداب الكلام في آيات القرآن[1]

إذا راجعنا الآيات القرآنية نجدها بيّنت جملة من الآداب والأحكام التي ينبغي التمسّك بها اثناء الكلام:

1- أن يكون الكلام واقعياً وحقيقياً: ﴿بِنَبَإٍ يَقِينٍ[2].

2-  أن يكون الكلام ودّياً ونابعاً من القلب: ﴿الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾[3].

3- أن يكون الكلام واضحاً وطليقاً وشفافاً: ﴿قَوْلاً بَلِيغًا[4].

4- أن يكون كلاما ليناً لا غلظة فيه: ﴿قَوْلًا لَّيِّنًا﴾[5].

5- أن يكون كلاماً سمحاً فيه الخير والبركة: ﴿قَوْلاً كَرِيمًا[6].

6- أن يكون الكلام مقبولاً وسهلاً تطبيقه: ﴿قَوْلاً مَّيْسُورًا[7].

7- يجب خلوّ الكلام من أيّ لغو أو باطل: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ[8]، ﴿عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ[9].

8- يجب أن يقترن الكلام بالعمل وإلا يصبح التكلّم مورداً للعتاب واللوم: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[10].




[1] ينظر: تفسير نور، (فارسي)، محسن قرائتي، ادب در كفتار، ج‏9، ص، 164.

[2] سورة النمل، الآية 22.

[3] سورة الحج، الآية 24.

[4] سورة النساء، الآية 63.

[5] سورة طه، الآية 44.

[6] سورة الإسراء، الآية 23.

[7] سورة الإسراء، الآية 28.

[8] سورة الحج، الآية 30.

[9] سورة المؤمنون، الآية 3.

[10] سورة الصف، الآية 2.

124


103

الإصلاح بين المؤمنين

 الدرس السادس: الإصلاح بين المؤمنين

 

مفاهيم محورية:

- من هم المأمورون بالإصلاح؟

- المبادئ الاجتماعية المستفادة من الآية:

- إصلاح ذات البين.

- الانتصار للمظلوم.

- وجوب التصدّي للعدوان.

- قتال أهل البغي وحالات الفئة الباغية.

- الدروس المستفادة من الآية.

125


104

الإصلاح بين المؤمنين

 النص القرآني

قال الله تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.

 

تمهيد

إنّ صلاح العمل من الأمور العظيمة والمهمّة التي ذكرها القرآن الكريم "فالصلاح المطلق في الإنسان: هو القدم الأوّل والمرحلة الأولى في سيره إلى الكمال، وما لم يتحصّل هذا القدم: لا يتيسّر له السلوك والخروج عن عالم الحيوانيّة، بل جريان أمره يكون في اختلال وفساد. نعم قد ذُكر في كلام الله تعالى: أنّ اللقاء وهو آخر مراحل الكمال والسعادة، يتوقّف على حصول أمرين، الصلاح والإخلاص. فقال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾. والإخلاص هو حقيقة التوحيد الحقّ. وأمّا التقييد بصلاح العمل: فانّ الصلاح في العمل هو آخر درجة منه، وهو لا يتحقّق إلَّا بعد صلاح الباطن..."[1].

 

ومن هنا يكتسب الإصلاح بين الناس الأهمية القصوى كما سنبيّن.




[1]  التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج6، ص 266.(بتصرف).

127


105

الإصلاح بين المؤمنين

 شرح مفردات الآية

طَائِفَتَانِ: الطائفة عبارة عن جماعة لهم ارتباط وسابقة وحركة وتردّد إلى الجانب الَّذى هو المنظور[1].

 

فَأَصْلِحُوا: الصَّلَاحُ: ضدّ الفساد، وهما مختصّان في أكثر الاستعمال بالأفعال، وقوبل في القرآن تارة بالفساد، وتارة بالسّيّئة[2]. الإصلاح ينتفي بتحقّق الإفساد[3].

 

بَغَتْ: طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرّى، تجاوزه أم لم يتجاوزه، فتارة يعتبر في القدر الذي هو الكمية، وتارة يعتبر في الوصف الذي هو الكيفية، يقال: بَغَيْتُ الشيء: إذا طلبت أكثر ما يجب، وابْتَغَيْتُ كذلك، قال الله عزّ وجلّ: ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ﴾، وقال تعالى: ﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾. والبَغْيُ على ضربين: أحدهما محمود، وهو تجاوز العدل إلى الإحسان، والفرض إلى التطوّع. والثاني مذموم، وهو تجاوز الحقّ إلى الباطل، أو تجاوزه إلى الشّبه....[4].

 

تَفِيءَ: هو التّحنّي بعد التجبّر. ومن لوازمه: العود، والرجوع، والتقلُّب، والتحوّل. ومن مصاديقه: حصول الظلّ بعد حرارة الشمس. وتحنّي الزوجة وانعطافها بعد قهرها. قوله تعالى: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ﴾ يراد الانعطاف والتحنّي والخضوع بعد الإيلاء والبغي، وليس بمعنى الرجوع، فإنّ مطلق الرجوع من دون خضوع وتحنٍّ وانكسار، لا فائدة فيه. وهذا لطف التعبير بالمادّة[5].




[1]  التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج7، ص 144.

[2] مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، صلح، ص 490.

[3] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج6، ص 266.(بتصرف).

[4] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج1، ص 309.

[5] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج 9، ص 166.

128


106

الإصلاح بين المؤمنين

 بِالْعَدْلِ: عدل: هو توسّط بين الإفراط والتفريط بحيث لا تكون فيه زيادة ولا نقيصة، وهو الاعتدال والتقسّط الحقيقيّ. وبمناسبة هذا الأصل تطلق على الاقتصاد والمساواة والقسط والاستواء والاستقامة، كلّ منها في مورد مناسب مع لحاظ القيد[1].

 

وَأَقْسِطُوا: هو إيصال شيء إلى مورده وإيفاء الحقّ إلى محلَّه. وهذا المعنى إنّما يتحقّق في مقام إجراء العدل وإعماله في الخارج. ومن مصاديقه: إيصال النفقة وتفريقها على العيال. ويظهر من ذكر الإقساط بعد العدل: أنّ الإقساط يغاير العدل ويتحقّق بعده، فإنّه تطبيق العدل في الخارج وإجراؤه[2].

 

المعنى الإجمالي

إنّ الآية الكريمة هي علاج للآثار الخطيرة التي قد يُحدثها خبر الفاسق في المجتمع، فلو حصل بسبب إخباره اقتتال بين المؤمنين، فإنّ الواجب على الآخرين من المجتمع الإيماني الإصلاح بينهم، فالآية تكملة لإبراز أخطر ما يمكن أن يوقعه الفاسق في المجتمع الإيماني، فإنّ نفس التفكير بالوصول إلى هذه النتيجة يُشدّد على المؤمنين كيفية تعاطيهم مع الأنباء.

 

فالآية متّصلة مع ما سبق من آية النبأ بهذا البيان: أنّ الله لمّا حذّر المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق، أشار إلى ما يلزم منه استدراكاً لما يفوت، فقال فإن اتفق أنّكم تبنون على قول من يوقع بينكم، وآل الأمر إلى اقتتال طائفتين من المؤمنين، فأزيلوا ما أثبته ذلك الفاسق وأصلحوا بينهما.

 

ولذلك الآية من الناحية اللغوية بدأت بحرف العطف "واو العاطفة" وهي تدلّ على عطف الجملة الشرطية في هذه الآية على الجملة الشرطية في آية النبأ، ولأنّ العلاقة العاطفة بالواو هو بين جملتين، فلا يوجد بينهما كمال الاتصال ولا يوجد بينهما كمال الانقطاع ومن هنا تظهر لطافة العطف.




[1] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج5، ص 55.

[2] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج 9، ص 259.

129


107

الإصلاح بين المؤمنين

 قوله: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لا يدلّ على أنّهما إذا اقتتلا بقيا على الإيمان، ويطلق عليهما هذا الاسم، بل لا يمتنع أن يفسق أحد الطائفتين أو يفسقا جميعاً، وجرى ذلك مجرى أن تقول: وإن طائفة من المؤمنين ارتدّت عن الإسلام فاقتلوها.

 

ثم قال: ﴿فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ﴾ أي فإن بغت إحدى الطائفتين على الأخرى بأن تطلب ما لا يجوز لها وتقابل الأخرى ظالمة لها متعدية عليها: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي﴾ لأنّها هي الظالمة المتعدّية دون الأخرى ﴿حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ أي حتى ترجع إلى أمر الله وتترك قتال الطائفة المؤمنة. ثم قال "فإن فاءت" أي رجعت وتابت وأقلعت وأنابت إلى طاعة الله: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ يعني بينها وبين الطائفة التى كانت على الإيمان ولم تخرج عنه بالقول، فلا تميلوا على واحدة منهما ﴿وَأَقْسِطُوا﴾ أي اعدلوا ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ يعني العادلين، يقال: أقسط إذا عدل، وقسط إذا جار[1].

 

المعنى التفصيلي

في رواياتنا أن الآية الكريمة نزلت وهي تشير إلى ما سيقع من أحداث بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها مَا ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ: قَالَ عزّ وجلّ‏ ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ الْآيَةُ، قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم  إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى التَّأْوِيلِ مِنْ بَعْدِي كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى التَّنْزِيلِ فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ هُوَ فَقَالَ خَاصِفُ النَّعْلِ بِالْحُجْرَةِ، وَكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام يَخْصِفُ نَعْلَ رَسُولِ اللهِ"[2]. ونذكر معنى الآية الكريمة ضمن النقاط التالية:

 

أوّلاً: تُعالج آيات القرآن عادة أسوء الحالات قبل الحديث عن الحالات العادية، فمثلاً حين تُبيّن سورة النساء العلاقات الاجتماعية تستهلّها بمعالجة حالة




[1] راجع: مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي، ج9، ص 222. (بتصرف). 

[2]  تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، ج2، ص321.

130


108

الإصلاح بين المؤمنين

 الطلاق التي هي عقدة العلاقة الأسرية، وكذلك سورة النور التي ترسم حدود الأسرة الفاضلة تبتدئ ببيان حدّ الزنا، وسورة المائدة التي تبني كيان الحضارة الإسلامية نراها تُحدّثنا في فاتحتها عن حرمة الاعتداء على أموال اليتامى الذين هم أضعف الحلقات الاجتماعية، وهنا أيضاً تعالج الآيات أعقد حالات الخلاف وهي حالة الاقتتال أولاً ثم تتدرّج في الحديث عن سائر الحالات الأقل تعقيداً. لماذا كلّ ذلك؟ يبدو أنّ وراء كلّ ذلك حكمتين:

الأولى: لبيان الغاية التي سوف تنتهي إليها تسلسل الحالات، لكي لا يُستهان بمبدئها، فالخلافات الجزئية التي نستخفّ عادة بها والشائعات التي نبثّها هنا وهناك ضدّ بعضنا بلا وازع، قد تنمو حتى تُصبح صراعاً دموياً بين طائفتين من البشر. فلكي نرى الحقائق لا بدّ أن نضرب لها مثلاً واضحاً ثم نقيس عليه سائر الأمثلة.

 

الثانية: إنّ عظمة الشريعة تتمثّل في معالجة الحالات الشاذّة البالغة حدّها في التعقيد، أما الأوضاع العادية فإنّ التعامل معها سهل ميسور.

 

فمعالجة حالة الطلاق أو الخيانة الزوجية (الزنا) هي المقياس لقدرة الشريعة على وضع نظام صائب لشؤون الأسرة، كما أنّ الحفاظ على أموال اليتيم دليل على مدى صلاحية النظام الاقتصادي في المحافظة على حقوق الناس.

 

كذلك معالجة مشكلة الحرب الأهلية تشهد على مدى صلاحية النظام الاجتماعي في مواجهة التحديات[1].

 

ثانياً: الآية الكريمة تُبيّن قاعدة تشريعية عملية لصيانة المجتمع المؤمن من الخصام والتفكّك، تحت النزوات والاندفاعات. وتأتي تعقيباً على تُبيّن




[1] من هدى القرآن، محمد تقي المدرسي، ج‏13، ص 387.

131


109

الإصلاح بين المؤمنين

 خبر الفاسق، وعدم العجلة والاندفاع وراء الحمية والحماسة، قبل التثبُّت والاستيقان.

 

وسواء كان نزول هذه الآية بسبب حادث معيّن كما ذكرت الروايات، أم كان تشريعاً لتلافي مثل هذه الحالة التي ستحصل وهو الأرجح حسب روايتنا، فهو يُمثّل قاعدة عامّة محكمة لصيانة الجماعة الإسلامية من التفكُّك والتفرُّق. ثم لإقرار الحقّ والعدل والصلاح. والارتكان في هذا كلّه إلى تقوى الله ورجاء رحمته بإقرار العدل والصلاح.

 

والقرآن قد واجه - أو هو يفترض - إمكان وقوع القتال بين طائفتين من المؤمنين. ويستبقي لكلتا الطائفتين وصف الإيمان مع اقتتالهما، ومع احتمال أنّ إحداهما قد تكون باغية على الأخرى، بل مع احتمال أن تكون كلتاهما باغية في جانب من الجوانب.

 

وهو يُكلّف الذين آمنوا - من غير الطائفتين المتقاتلتين طبعاً - أن يقوموا بالإصلاح بين المتقاتلين. فإن بغت إحداهما فلم تقبل الرجوع إلى الحقّ - ومثله أن تبغيا معاً برفض الصلح أو رفض قبول حكم الله في المسائل المتنازع عليها - فعلى المؤمنين أن يقاتلوا البغاة إذن، وأن يظلّوا يقاتلونهم حتى يرجعوا إلى أمر الله. وأمر الله هو وضع الخصومة بين المؤمنين، وقبول حكم الله فيما اختلفوا فيه، وأدّى إلى الخصام والقتال[1].

 

ثالثاً: رغم أنّ الأخوّة الصادقة والصلح البالغ هما لزام الإيمان كما خوطبوا به، إلا أنّ هناك - وبين غير الكاملين في الإيمان، أو الجاهلين والمتجاهلين شرائط الإيمان - نزوات ونزعات واندفاعات فخصامات وحميات وحماسات فتفكّكات ومنازعات شاسعة عن ساحة الإيمان، قد تتخطّى التلاسن والتضارب




[1] ينظر: في ظلال القرآن، سيد قطب، ج6، ص 3343.

132


110

الإصلاح بين المؤمنين

 إلى مقاتلات، ومهما يكن من شي‏ء فالمؤمن لا يحارب أخاه إلا على تكلّف، وعلّ الاقتتال الملمَّح - إليه، دون التقاتل - يعنيه "اقتتلا" لا "تقاتلا" حيث الاقتتال افتعال للقتال متكلّف وليس فعلاً مقصوداً وبين المؤمنين الإخوة!.

 

فلا بدّ إذاً من صيانة إلهية تُصوَّن على هذه الفوارق الدامية، وتعتلج ما تختلج في خلد الإيمان من فكرة الاقتتال، ومن ثم واقعه إذا حصل، ألا وهي استنفار سائر المؤمنين لمواجهة المشكلة الداخلية إصلاحاً، مهما كان الثمن غالياً ولو كان القتال قضاءً على قتال.

 

من هم المأمورون بالإصلاح؟

هذا السؤال في غاية الأهمية لأنّه إن لم نُحدّد مسبقاً من هم الذين لهم شأنية الإصلاح بين المؤمنين فقد نولّد فوضى أصعب في بعض الأحيان من الاقتتال نفسه.

 

وترى من هم المأمورون بالإصلاح، أو القتال إذا لزم الأمر؟ فهل إنّه أمر فوضى بين دويلات صغيرة إسلامية - إن صحّ التعبير- وبين شعوب متشعّبة حسب الدويلات، فيزيد ويلات على ويلات، لأنّهم مختلفون في اجتهادات أو سياسات؟!.

 

كلا! إنّه أمر موجّه إلى سائر المؤمنين العائشين تحت قيادة واحدة إسلامية، دولة إسلامية واحدة بشعبها الموحّد، لا تفصل بينهم قوانين أو حدود، فالآية هذه وأضرابها تلميح أو تصريح بضرورة تأسيس دولة واحدة إسلامية، لا دويلات هي ويلات على المسلمين، وأماكن استعمار للكافرين.

 

المبادئ الاجتماعية المستفادة من الآية

1- إصلاح ذات البين: ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تدعو المسلمين وتأمرهم بالإجماع والتآلف، وتنهى عن التفرُّق والاختلاف المؤدّيين إلى التنازع والفشل، فمن هذه الآيات قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا

133


111

الإصلاح بين المؤمنين

 وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[1]. ومنها قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[2]. ومنها قوله: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[3]. ومنها آية الإصلاح مورد البحث، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى. وهي كلّها تدلّ على وجوب وحدة الأمة والعمل على سلامة هذه الوحدة وصيانتها من العبث والبغي، وهذه الآيات جميعاً جاءت متّفقة على الأمر بالوحدة والنهي عن التشتّت والافتراق والاختلاف، لما ينجم عن ذلك عادة من التنازع والفشل الممقوت، وذلك لا يتأتّى إلا إذا كان إمامها واحداً لا ينازعه أحد، وهو ما يطرحه بعض الفقهاء في الفقه الإمامي بعنوان "وحدة الولي الفقيه" بعد المفروغية عن أصل الولاية العامة له. إذ إنّ وجود إمامين فأكثر يؤدّي إلى التنازع، وينجرّ إلى الشقاق والتناحر لا محالة، وهذا ممّا نهى الإسلام عنه، فدلّ على وجوب أن يكون إمام المسلمين واحداً، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب.

 

وإنّ وجوب إصلاح ذات البين وهو خلق شريف وعمل فاضل حثّ عليه القرآن الكريم. قال تعالى: ﴿وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾. فإنّ إصلاح ذات البين وإيجاد التفاهم وقلع الكدر والبغضاء من صدور المسلمين، وتبديل كل ذلك بالمحبّة، يُعدّ من أهمّ الأغراض الإسلامية. وكلمة "ذات" تعني الخلقة والبنية وأساس الشيء، والبين يعني حالة الارتباط والعلاقة بين شخصين أو شيئين. فبناء على هذا فإنّ إصلاح ذات البين يعني إصلاح أساس الارتباطات، وتقوية العلاقات وتحكيمها، وإزالة عوامل التفرقة والنفاق.



[1] سورة آل عمران، الآية 103.

[2] سورة آل عمران، الآية 105.

[3]  سورة الأنفال، الآية 46.

134


112

الإصلاح بين المؤمنين

 جاء عن الإمام الصادق عليه السلام في كتاب الكافي أنه قال: "صَدَقَةٌ يُحِبُّهَا الله إِصْلَاحٌ بَيْنِ النَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا وتَقَارُبٌ بَيْنِهِمْ إِذَا تَبَاعَدُوا"[1].

 

2- الانتصار للمظلوم (إحقاق الحقّ لا فضّ النزاع): الانتصار للمظلوم حتى ينال حقّه وهذا خلق إذا نما فى الأمة علّمها العزّة ورفع عنها الذلة وزادها ارتباطاً وحباً وأخوّة وقرباً.

 

لأنّه قد يُعتقد أنّ الهدف من الصلح هو إنهاء النزاع مع أنّ المفهوم من سورة الحجرات أنّ الإصلاح بين الأطراف - سواء كانت دائرته بين الأفراد والجماعات، أم بين الأزواج والزوجات والأقارب والأرحام أم بين المتداينين أم في الأموال والدماء وفي النزاع والخصومات، فإنّه في كل هذه الصور - الهدف من الصلح هو إحقاق الحقّ لا فصل الخصومة، فلا نكتفي بفصل الخصام والنزاع بل يجب إحقاق العدل في الخارج وهو ما عبّرت عنه الآية الكريمة "بالقسط" وأن من فعل ذلك صار مورداً للحبّ الإلهي "إنّ الله يُحبّ المقسطين" ولعلّ هذه النقطة هي نقطة فارقة بين القانون المدني والقانون الإسلامي، فالقانون المدني كلّ ما يعنيه هو حلّ النزاع بين الطرفين ولا شغل له بأن تصل الحقوق إلى مستحقّيها أو لا، فهو يقوم بحلّ النزاع بسلطة القانون أمّا الإسلام لا يكتفي بحلّ النزاع لأنّ ذلك عنده مقدمة لأمر أساس وهو إحقاق العدل الاجتماعي بين الناس، ولا يقبل بتضييع حقوق المظلومين وتكريس سلطة الظالمين، بدعوى أنّ القانون يحكم بذلك. على أنّ فضّ الاشتباك أو حلّ النزاع هو حلٌّ مؤقت قد ينتهي بانتهاء الظروف التي انتجت الصلح، أمّا إيصال الحقوق وتحقيق العدل هو حلٌّ دائم، لأنّه إنهاء لمادة النزاع من جذوره لا تأجيل له.

 

3- وجوب التصدّي للعدوان: إنّ الحفاظ على وحدة المجتمع الإسلامي وتماسكه هي من أهمّ الوظائف التي دعت إليها السورة المباركة، وفي سبيل الحفاظ على هذه




[1] الكافي، الكليني، ج2، باب الإصلاح بين الناس، ح1، ص 209.

135


113

الإصلاح بين المؤمنين

 الوحدة والبنية المجتمعية يجب فعل أيّ شيء ممكن ومشروع للوصول إلى ذلك والحيلولة دون تفكيك المجتمع. واعتبرت السورة كما قلنا أنّ الفتنة والاقتتال هي أخطر المظاهر على بنية ووحدة المجتمع، فيجب على المؤمنين الإصلاح بين المتقاتلين، وإذا لم ينفع ذلك فعليهم قتال الفئة الباغية وصدّ عدوانها، لأنّ الهدف من هذا القتال إرجاع وحدة وتماسك المجتمع في قبال القتال الذي يستهدف تفكيك المجتمع وجعله دويلات فهو ردع للقتال المفسد والفاسد بقتال مصلح وصالح. ولذا يجب التصدّي للعدوان وتغييره وإقامة العدل مهما كانت العوائق فى سبيل ذلك[1].

 

بحث حول الآية

قتال أهل البغي:

هل الآية تشمل حالة القيام ضدّ الحكم الإسلامي أم تخصّ الاختلاف بين طائفتين من المسلمين ليس بينهما إمام؟ المعروف بين المفسّرين أنّها تشمل الحالة الأولى ولذلك فقد تحدّثوا في تفسيرها عن حكم البغاة، وعمّا حدث في الصدر الأول من اقتتال الأصحاب ممّا كان مظهراً واضحاً للبغي ضدّ الإمام الحاكم.

 

وقد يُفهم هذا الحكم أي قتال البغاة من رواية السيوف عن الإمام الباقر عليه السلام والتي قال فيها: وأما السيف المكفوف فسيفٌ على أهل البغي والتأويل (ثم قرأ الآية الكريمة: وإن طائفتان..)...

 

وقد استفاد جملة من الفقهاء من قوله تعالى ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾




[1] أجوبة الاستفتاءات، الإمام الخامنئي، ج1، مسألة 66، ص 24.

136


114

الإصلاح بين المؤمنين

 ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾ عدّة أحكام متعلّقة بقتال البغاة منها:

 

الأول: أنّ البغاة على الإيمان لأنّ الله سمّاهم مؤمنين، وهذا عندنا باطل, لأنّه إنّما سمّاهم مؤمنين في الظاهر كما قال: ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ[1] وهذه صفة المنافقين بلا خلاف.

 

الثاني: وجوب قتالهم فقال: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي﴾ وهذا صحيح عندنا.

 

الثالث: القتال إلى غاية وهو أن يفيئوا إلى أمر الله بتوبة أو غيرها، وهذا صحيح لأنّه قال: ﴿حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾.

 

الرابعة: ذهب بعض الفقهاء إلى أنّه ليس المقصود من الآية قتال أهل البغي بل الاقتتال بين المؤمنين من دون النهوض في وجه الإمام المعصوم أو الحاكم العادل.

 

وهناك باب في الفقه الإسلامي بعنوان: "قتال أهل البغي"[2] ضمن كتاب الجهاد، والمراد منه قتال الظلَمة الذين ينهضون بوجه "الإمام العادل في المسلمين" وقد وردت فيهم أحكام كثيرة في هذا الباب... إلاّ أنّ ما أثارته الآية الآنفة موضوع آخر، وهو النزاع الواقع بين الطائفتين المؤمنين، وليس في هذا النزاع نهوض بوجه إمام المسلمين العادل ولا نهوض بوجه الحكومة الإسلامية الصالحة، وقد أراد بعض الفقهاء أو المفسّرين أن يستفيدوا من هذه الآية "في المسألة السابقة" إلاّ أنّ هذا الاستدلال كما يقول الفاضل "المقداد" في "كنز العرفان" خطأ بيّن.

 

لأنّ القيام




[1] سورة الأنفال، الآية 6.

[2] تنظر الكتب التالية: النهاية في مجرد الفقه والفتاوى، الشيخ الطوسي، باب قتال أهل البغي والمحاربين وكيفية قتالهم والسيرة فيهم، ص 296. مسالك الأفهام، الشهيد الثاني، ج3، قتال أهل البغي، ص 91. وغيرها من الكتب الفقهية كالجواهر، والسرائر، والحدائق، تذكرة الفقهاء، الخ.

137


115

الإصلاح بين المؤمنين

 والنهوض بوجه الإمام العادل موجب للكفر، في حين أنّ النزاع بين المؤمنين موجب للفسق فحسب لا الكفر، ولذلك فإنّ القرآن المجيد عبّر عن الطائفتين بالمؤمنين وسمّاهم إخوةً، فلا يصحّ تعميم أحكام أهل البغي على أمثال هؤلاء!...

 

ومن المؤسف أنّنا لم نعثر على بحث في الفقه في شأن أحكام هذه الطائفة، إلاّ أنّ ما يُستفاد من الآية المتقدّمة بضميمة القرائن الأُخَر وخاصةً ما ورد من إشارات في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي الأحكام التالية:

1- إنّ الإصلاح بين الطوائف المتنازعة "من المسلمين" أمر واجب كفائي.

2- ينبغي لتحقّق هذا الأمر أن يُشرع أوّلاً من المراحل البسيطة وأن تراعى قاعدة "الأسهل فالأسهل" إلاّ أنّه إذا لم ينفع ذلك فيجوز عندئذ المواجهة المسلّحة بل تلزم أحياناً...

3- ما يسفك من دم البغاة في هذا السبيل وما تذهب منهم من أموال كلّها هدر، لأنّ حكم الشرع قد امتثل وأُديّت الوظيفة الواجبة، والأصل في مثل هذه الموارد عدم الضمان!

4- حيث إنّ الهدف من هذه المقاتلة والحرب حمل الطائفة الباغية على قبول الحق، فعلى هذا لا تُثار في الحرب مسألة "أسرى الحرب والغنائم" لأنّ الطائفتين بحسب الفرض مسلمتان، إلاّ أنّه لا مانع من الأسر مؤقّتاً لإطفاء نائرة النزاع ولكن بعد حل النزاع والصلح يجب إطلاق الأسرى فوراً...

 

وفي ختام هذا الكلام نؤكّد مرّةً أخرى أنّ حكم هؤلاء البغاة منفصل عن حكم الذين يقفون بوجه الإمام المعصوم أو الحكومة الإسلامية العادلة، فإنّ لهذه الطائفة الأخيرة أحكاماً أشدّ وأصعب واردة في كتاب الجهاد من الفقه الإسلامي[1].




[1] الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي، ج16، ص 538- 540.

138


116

الإصلاح بين المؤمنين

 حالات الفئة الباغية:

ثم الطائفتان المتقاتلتان لهما حالات من حيث البغي المقصود وسواه:

1- أنهما باغيان من كل جهة مقصودة ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ إزالة للبغي بينهما ﴿فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى﴾ إن استمرت في البغي، أو تحوّلت إلى بغي آخر أو بغي الأخرى‏ ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾.

 

2- أو أنهما باغيان جهلاً وسوء تفاهم دون تقصّد؟ فكذلك الأمر، كما وإذا استمرا في بغي مقصود وسواه (فقاتلوهما حتى يفيئا إلى أمر الله) قتال هو نضال للإصلاح وإن شملهما إذا بغتا.

 

3- أو أنّ إحداهما باغية قصداً أو سواه، ثم عند الإصلاح استمرّت أو غيّرت بغيها إلى وجه آخر، أم تابت ولكن الأخرى بغت‏ ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي﴾ سواء أكانت البادئة هي المستمرة، أو الأخرى هي البادئة بعد الأولى، فلا يكون القتال إلا مع التي تبغي بعد محاولة الإصلاح.

 

فالمصلحون يبتدئون بالإصلاح الموعظة والإيضاح‏ ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ بأية وسيلة ممكنة عظة وبرهاناً، فمن يتجاهل هذه اللغة الواعظة، فلغة القتال‏ ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي﴾ ولكن إلى حدّ وليس فوضى انتقام: ﴿حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ الذي تحقّقونه في الإصلاح، والذي أُمر من تحقيق الأخوة الإيمانية ﴿فَإِن فَاءتْ﴾ الباغية: كرهاً هنا ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ حيث الفي‏ء إلى أمر الله طوعاً هناك هو الصلح بعينه فلا حاجة في الإصلاح، ولكنما الفي‏ء كرها هنا بحاجة إلى إصلاح بعده، يُحدّده عند حدّه لكي لا يتكرّر، وذلك بتحكيم بنود الاتفاق، ولكنّه "بالعدل" دون أن تتحكّم فيه روح الانتقام ﴿وَأَقْسِطُوا﴾ هنا وهناك‏ ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.

 

فهنا إصلاح أول طوعاً، وإصلاح ثان كرهاً، وقتال قبل الثاني إذا لزم الأمر،

139


117

الإصلاح بين المؤمنين

 وليكن هذا المثلّث المصلح عدلاً وقسطاً، وهكذا ينتهي دور الإصلاح بين المؤمنين إلى حفاوة وحنان وعدل وإحسان[1].

 

الدروس المستفادة من الآية

1- إنّ وقوع النزاع بين المؤمنين هو أمر مؤقّت وليس دائماً. لأنّ الآية الكريمة عبّرت ﴿اقْتَتَلُوا﴾ ولم تُعبّر "يقتتلون".

 

2- لا بدّ إذاً أن يتحمّل الناس جميعاً مسؤولية الحفاظ على السلام ووقف نزيف الدم.ولا فرق في المسؤولية بين أحد منهم وذلك لقوله ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾.

 

3-  ينبغي عدم تأخير الصلح بين المتنازعين والمبادرة الفورية إلى الإصلاح مهما أمكن وذلك لوجود حرف الفاء في قوله ﴿فَأَصْلِحُوا﴾.

 

4-  إذا لم توافق الأطراف المتنازعة (النزاع المسلح) على الصلح أو طائفة من الطائفتين فينبغي على المسلمين قتالهم، وقد أشرنا أنّ قتال الفئة الباغية في حال انطباق الآية عليهم تكون تحت إمرة وقيادة الإمام المعصوم أو الحاكم العادل المتمثّل في وقتنا الحاضر بالولي الفقيه ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي﴾.

 

5- من أجل الحفاظ على أمان وسلامة ووحدة المجتمع الإيماني ينبغي على المسلمين إعلان الحرب على هؤلاء البغاة حتى لو أدّى ذلك إلى قتلهم أي قتل البغاة، فإنّهم مهدوري الدم أي لا قيمة لدمائهم فلا يلزم أي دية لقتلهم سواء حكمنا بكفر البغاة أم لم نحكم بذلك، فهم في حال اختيارهم الحرب على الصلح مهدورو الدم.

 

6- إنّ القتال والحرب لا يوقفها إلا القتال والحرب، وإن كان لا فرق بين الحربين ظاهراً إلا أنّ لكل واحد منهما  أهداف خاصة، فهدف البغاة هو الإفساد في




[1] الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏27، ص 237.  

140


118

الإصلاح بين المؤمنين

 الأرض وهدف المقاتلين لهم من المسلمين هو الإصلاح في الأرض، لأنّه قد يتعذّر الإصلاح بالوسائل السلمية فلا بد من إعمال القوّة العسكرية ﴿فَقَاتِلُوا﴾.

 

7- ينبغي عدم التهاون مع البغاة وعدم إمهالهم والمبادرة الفورية إلى قتالهم بعد رفضهم الصلح، لأنّ التقاعس أو التمهّل في ذلك قد يزيد من خطرهم على الأمة، فيجب محاربتهم فوراً. وذلك لوجود حرف الفاء في قوله: ﴿فَقَاتِلُوا﴾.

 

8- لا يوجد في الإسلام حرب أهدافها ودوافعها حزبية أو قومية أو انتقامية، إنّما الحرب في الإسلام لها هدف مقدّس واحد وهو قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾.

 

9- إذا قمنا بتحليل لقوله تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾. نستنتج الأمور التالية:

 

- في حال وقوع الاقتتال يجب الإصلاح وبشكل فوري وهدف هذا الإصلاح إطفاء الفتنة المشتعلة.

 

- في حال عدم قبولهم للصلح (والظاهر أنه بعد إبرامه وخرقهما أو خرق أحدهما للصلح) يجب قتالهم أو قتال الفئة الباغية وبشكل فوري وهدف هذا القتال هو ﴿حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ أي ترجع الفئة الباغية إلى حكم الله تعالى منكسرة وضعيفة.

 

- بعد مرحلة "الفيء" الرجوع الذي فيه انكسار وذلة تأتي مرحلة الصلح الثانية ﴿فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ﴾ وهذا الصلح أهدافه ومنهجه وأساليبه مختلفة، ولكن يتفق مع المرحلة الأولى أنّه صلح وفوري ولكن الهدف الأساس هو إحقاق العدل في الخارج وإيصال الحقوق إلى مستحقّيها بشكل

141


119

الإصلاح بين المؤمنين

 كامل أي صلح تام يمنع أي شكل من أشكال الفساد ويوصل إلى المظلومين والمستضعفين حقوقهم من الظالمين والمستكبرين وهو معنى ﴿وَأَقْسِطُوا﴾ ولم يستعمل هنا الفورية، لأنّ نار الفتنة قد أنطفئت بل قد يكون المطلوب في هذه المرحلة هو الهدوء والدقة في العمل والمفاوضات الجادة حتى تصل الحقوق إلى أهلها، وهذا يحتاج إلى وقت عادة، ولذا لم يأمر به الله تعالى على نحو الفورية. ويمكن القول باختصار أنّ الصلح في المرحلة الثانية هو بنود الاتفاق بين الطرفين بالعدل أي إرجاع الحقوق إلى أهلها. والإقساط هو تطبيق بنود الصلح في الخارج.

 

10- إنّ على المؤمن أن يضع نصب عينه أنّه مهما تعرّض لصعوبات في مجال إرساء الصلح والعدل بين المتنازعين فإنه سيكون محطاً لعناية وحب الله تعالى: ﴿يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.

142


120

الإصلاح بين المؤمنين

 للمطالعة

 

وصايا أمير المؤمنين عليه السلام في الحرب

وفي وصايا أمير المؤمنين عليه السلام في حروبه (الجمل، وصفين،  والنهروان) مسائل كثيرة نُلخّص منها ما يرتبط بالمقام:

- لا تقاتلوا القوم حتى يبدأوكم فإنّكم بحمد الله على حجة وترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة أخرى لكم عليهم.

- انهدوا إليهم وعليكم السكينة ووقار الإسلام، استشعروا الخشية وتجلببوا السكينة.

- لا تُمثّلوا بقتيل إذا قاتلتموهم وهزمتموهم بإذن الله.

- فلا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح أي لا تقتلوهم سريعاً.

- وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تكشفوا عورة والعورة كل ما يستحيي منه إذا ظهر.

- ولا تهتكوا ستراً.

- ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم.

- لا تتبعوا مولّياً ولا تطلبوا مدبراً.

- ولا تقتلوا أسيراً.

- ولا تصيبوا معوراً، من أعور الفارس إذا بدأ فيه موضع خلل.

- ولا يطلب المبارزة إلا بإذن الإمام.

- ومن ألقى إليكم السلم فاقبلوا منه.

- قال عليه السلام للأشتر: إياك وأن تبدأ القوم بقتال إلا أن يبدأوك حتى تلقاهم وتسمع منهم ولا يجرمنّكم شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرّة بعد مرّة.

- وعليك بالتأنّي في حربك وإياك والعجلة إلا أن تمكنك فرصة.

143


121

الأخوة الإيمانية

 الدرس السابع: الأخوة الإيمانية

 

مفاهيم محورية:

- الأخوة في القرآن الكريم والروايات الشريفة.

- أهمية التآخي في بناء المنظومة الاجتماعية.

- دور التآخي في بناء المجتمع.

- كيفية معرفة الإخوان.

- الدروس المستفادة من الآية.

 

145


122

الأخوة الإيمانية

 النص القرآني

قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.

 

تمهيد

هذه الآية تعقيب على الآية السابقة، وعلى ما دعت إليه المؤمنين من حسم الخلاف الذي يقع بين جماعاتهم، ثم هو إلفات إلى أنّ الأخوّة القائمة بين المؤمنين لا تتغيّر صفتها، ولا تنقطع آثارها بتلك العوارض التي تعرض لهم فى حياتهم، فإنّما هى موجات من ريح عابرة، لا تلبث أن تفتر، ثم يعود إلى البحر سكونه، وصفاؤه، وجلاله... ومن جهة أخرى، فإنّ الفئة الباغية، لا يزال لها مكانها فى المؤمنين، ولا تزال لها أخوّتها فيهم، وإذن فلا يجار عليهم لأنّهم جاروا، ولا يعتدى عليهم، لأنّهم اعتدوا، وإنّما يُقبل منهم قبولهم لما قضى به المؤمنون عليهم، ثم إنّ لهم بعد هذا حقهم كاملاً لا ينقص منه شيء.. فالمعتدون والمعتدى عليهم إخوان للمؤمنين جميعاً[1]..

 




[1] التفسير القرآني للقرآن، ج13، ص 447.

147


123

الأخوة الإيمانية

 مفردات الآية

إِخْوَةٌ: الأخ وهو المشارك آخر في الولادة، من الطرفين أو من أحدهما أو من الرضاع، ويُستعار في كلّ مشارك لغيره في القبيلة أو في الدين أو في صنعة أو في معاملة أو في مودّة أو في غير ذلك من المناسبات... والفرق بين الإخوة والإخوان: أنّ استعمال الإخوة في ابتداء مراحل الأخوّة، ولمّا تحقّقت المحبّة بينهم وكملت الألفة وخلصت المودّة تطلق كلمة الإخوان، وكذلك إذا أُريد تحقّق المحبّة وجلب الألفة وإيجاد الأخوّة بينهم. ويؤيّده وجود حرف المدّ واللين فيه. هذا ما يظهر ويستكشف من تحقيق موارد استعمال الكلمتين.

 

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾. نزلت في موارد حدوث الاختلاف والبغض بينهم، فيشار إلى دفعه بالاشتراك في الإيمان[1].

 

وَاتَّقُوا: وقى: الوِقَايَةُ: حفظُ الشيءِ ممّا يؤذيه ويضرّه. والتَّقْوَى جعل النّفس في وِقَايَةٍ مما يخاف، هذا تحقيقه، ثمّ يسمّى الخوف تارة تَقْوًى، والتَّقْوَى خوفاً حسب تسمية مقتضى الشيء بمقتضيه والمقتضي بمقتضاه، وصار التَّقْوَى في تعارف الشّرع حفظ النّفس عمّا يؤثم، وذلك بترك المحظور[2]. هو حفظ الشيء عن الخلاف والعصيان في الخارج وفي مقام العمل، كما أنّ العفّة حفظ النفس عن تمايلاته وشهواته النفسانيّة. والتقوى تختلف خصوصيّاته باختلاف الموارد، والجامع هو صيانة الشيء عن المحرّمات الشرعيّة والعقليّة، والتوجّه إلى الحقّ والى تطهير العمل والى الجريان الطبيعيّ المعروف. ويقابله الفجور: وهو انشقاق حالة الاعتدال والجريان الطبيعيّ المعروف وخروج أمر مخالف يوجب فسقاً وطغياناً[3].

 




[1] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج1، أخو، ص 49. 

[2] مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، وقى، ص 881.

[3] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج13، وقى، ص 184.

148


124

الأخوة الإيمانية

 تُرْحَمُونَ: رحم: أصل واحد يدلّ على الرقّة والعطف والرأفة.  ولكلّ واحد منها خصوصية: فإنّ النظر في الرقّة إلى ما يقابل الغلظة، وفي اللطف إلى الدقّة والتوجّه إلى الخصوصيّات، وفي العطوفة إلى التمايل وجلب التوجّه، وفي الرأفة إلى شفقة شديدة، وفي الحبّ إلى مطلق المحبّة، وفي الحنّة إلى رقّة مخصوصة كما سبق في مادّتها. فالرقّة توجد في القلب أوّلاً، ثمّ يحصل اللطف، ثمّ العطوفة، ثمّ الحنّة، ثمّ المحبّة، ثمّ الشفقة، ثمّ الرأفة، ثمّ الرحمة. فالرحمة: إنّما هي تجلَّي الرأفة وظهور الحنّة والشفقّة، وفي مقام التعلُّق والإظهار، ويلاحظ فيها الخير والصلاح، ولو أوجدت كراهة أو ألماً أو ابتلاء، كما في إسقاء الدواء المرّ للمريض[1].

 

المعنى التفصيلي

1- ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾: الآية استخدمت أداة الحصر "إنّما" وهي تدلّ على قصر المسند على المسند إليه فلا يوجد بين المؤمنين إلا علاقة الأخوة. "فالإيمان الذي لا يرفع المنتمين إليه إلى حالة الأخوة إيمان ضعيف ناقص، فها هنا تقاس التقوى، وتُمحّص النفوس للإيمان، ويستبين الصادقون عن المنافقين. هناك عشرات الأنظمة الاجتماعية، ومئات الوصايا الأخلاقية توالت في الدين ليبلغ المسلمون حالة الأخوة الإيمانية، ومتى ما خالفنا بعضها انماث الإيمان في القلوب كما تنماث حبة الملح في كفّ المحيط.. وجاءت الروايات تترى وهي توصينا بحقوق إخوتنا في الإيمان"[2].

 

2- ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾: حينما اختار الغرب مبدأ المواطنة لبيان العلاقة بين أبنائه انطلق من فكرة تقديس الأرض وربط الناس بها وبالمصالح المشتركة التي



[1] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، رحم، ج4، ص 92.

[2] من هدى القرآن، ج13، ص 402.

149


125

الأخوة الإيمانية

  

تشدّ مجموعة من البشر ببعضهم، وحينما انتخب بعض الشرق كلمة "الرفيق" فقد اعتمد على دور المسيرة النضالية في علاقاته الاجتماعية. أمّا الإسلام فقد اجتبى لنا كلمة "الأخ" لنعلم أنّ صلتنا ببعضنا ليست مادّية قائمة على أساس تقدير الأرض والمصالح، كما أنّها لا تخصّ حالة النضال ورفاقة المسيرة، وإنّما هي مبدئية ناشئة من صلة كل واحد منّا بدينه، حتى ليصبح الدين كالأب الذي هو أصل وجود الابن، وكلّما قويت واشتدّت صلتنا بالأصل كلّما قويت وتنامت صلتنا ببعضنا. وإنّما نسب الوحي الأخوة إلى الإيمان (وليس الإسلام) لأنّ الإسلام مجرّد التسليم للدين بينما الإيمان وقر في القلب يفيض على كل جوانب حياة الإنسان، والذي يرفع الناس إلى مستوى الأخوة ليس مجرّد التصديق المبدئي بالدين وإنّما تطبيق تلك التعاليم القيمة التي تسقط الحواجز المادّية والمصلحية التي تفصلهم عن بعضهم[1]. وهناك وجه آخر لأخوة المؤمنين هو انتسابهم إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والوصيّ عليه السلام فقد ورد أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يا علي، أنت أخي، وأنا أخوك، أنا المصطفى للنبوة، وأنت المجتبى للإمامة، وأنا صاحب التنزيل، وأنت صاحب التأويل، وأنا وأنت أبوا هذه الأمة..."[2].

 

3- وممّا يترتّب على هذه الأخوة - في الآية - أو القاعدة الإيمانية ما يلي:

- أن يكون الحبّ والسلام والتعاون والوحدة هي الأصل في الجماعة المسلمة، وأن يكون الخلاف أو القتال هو الاستثناء الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه.

 



[1] (م.ن)، ص 403.

[2] الأمالي، الصدوق، فضائل علي عليه السلام، ص 411.

150


126

الأخوة الإيمانية

 - ومع قيام هذا الأصل فإنّ النص القرآني يمكن إعماله في جميع الحالات - بما في ذلك الحالات الاستثنائية التي يقوم فيها إمامان أو أكثر في أقطار متفرّقة متباعدة من بلاد المسلمين، وهي حالة ضرورة واستثناء من القاعدة - فواجب المسلمين أن يحاربوا البغاة مع الإمام الواحد، إذا خرج هؤلاء البغاة عليه. أو إذا بغت طائفة على طائفة في إمامته دون خروج عليه. وواجب المسلمين كذلك أن يقاتلوا البغاة إذا تمثّلوا في إحدى الإمامات المتعدّدة في حالات التعدّد الاستثنائية، بتجمّعهم ضدّ الفئة الباغية حتى تفي‏ء إلى أمر الله. وهكذا يعمل النص القرآني في جميع الظروف والأحوال. وواضح أنّ هذا النظام، نظام التحكيم وقتال الفئة الباغية حتى تفي‏ء إلى أمر الله، نظام له السبق من حيث الزمن على كل محاولات البشرية في هذا الطريق. وله الكمال والبراءة من العيب والنقص الواضحين في كل محاولات البشرية البائسة

 

القاصرة التي حاولتها في كلّ تجاربها الكسيحة! وله بعد هذا وذاك صفة النظافة والأمانة والعدل المطلق، لأنّ الاحتكام فيه إلى أمر الله الذي لا يشوبه غرض ولا هوى، ولا يتعلّق به نقص أو قصور.. ولكن البشرية البائسة تطلع وتعرج، وتكبو وتتعثّر. وأمامها الطريق الواضح الممهّد المستقيم‏[1].

 

4- استئناف مؤكّد لما تقدّم من الإصلاح بين الطائفتين المتقاتلتين من المؤمنين، وقصر النسبة بين المؤمنين في نسبة الأخوة مقدّمة ممهّدة لتعليل ما في قوله: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ من حكم الصلح فيفيد أنّ الطائفتين المتقاتلتين لوجود الأخوة بينهما يجب أن يستقر بينهما الصلح، والمصلحون لكونهم إخوة للمتقاتلين يجب أن يسعوا في إصلاح ما بينهما.

 




[1]  فى ظلال القرآن، ج‏6، ص 3344.

151


127

الأخوة الإيمانية

 5- وقوله: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ ولم يقل: فأصلحوا بين الأخوين من أوجز الكلام وألطفه، حيث يفيد أنّ المتقاتلتين بينهما أخوة فمن الواجب أن يستقر بينهما الصلح وسائر المؤمنين إخوان للمتقاتلتين فيجب عليهم أن يسعوا في الإصلاح بينهما[1].

 

 

بحث حول آية

الأخوة الأخوة في القرآن الكريم والسنة الشريفة:

1- معنى الأخوة:

الأخوة: هي جعل تشريعي لنسبة الأخوة بين المؤمنين لها آثار شرعية وحقوق مجعولة، كالأبوة والبنوة وسائر أنواع القرابة، ومنها ما هو اعتباري مجعول يعتبره الشرائع والقوانين‏ لترتيب آثار خاصة عليه كالوراثة والإنفاق وحرمة الازدواج وغير ذلك، ومنها ما هو طبيعي بالانتهاء إلى صلب واحد أو رحم واحدة أو هما. والاعتباري من القرابة غير الطبيعي منها فربما يجتمعان كالأخوين المتولّدين بين الرجل والمرأة عن نكاح مشروع، وربما يختلفان كالولد الطبيعي المتولّد من زنا فإنه ليس ولداً في الإسلام ولا يلحق بمولده وإن كان ولداً طبيعياً، وكالدعي الذي هو ولد في بعض القوانين وليس بولد طبيعي.

 

واعتبار المعنى الاعتباري وإن كان لغرض ترتيب آثار حقيقته عليه كما يؤخذ أحد القوم رأساً لهم ليكون نسبته إليهم نسبة الرأس إلى البدن، فيدبّر أمر المجتمع ويحكم بينهم وفيهم كما يحكم الرأس على البدن.

 

لكن لمّا كان الاعتبار لمصلحة مقتضية كان تابعاً للمصلحة، فإن اقتضت ترتيب جميع آثار الحقيقة ترتّبت عليه جميعاً، وإن اقتضت بعضها كان المترتّب على

 



[1] الميزان في تفسير القرآن، ج18، ص 317.

152


128

الأخوة الإيمانية

 الموضوع الاعتباري ذلك البعض، كما أنّ القراءة مثلاً جزء من الصلاة والجزء الحقيقي ينتفي بانتفائه الكلّ مطلقاً، لكن القراءة لا ينتفي بانتفائها الصلاة إذا كان ذلك سهواً وإنما تبطل الصلاة إذا تُركت عمداً.

 

ولذلك أيضاً ربما اختلفت آثار معنى اعتباري بحسب الموارد المختلفة كجزئية الركوع حيث تبطل الصلاة بزيادته ونقيصته عمداً وسهواً بخلاف جزئية القراءة كما تقدم فمن الجائز أن يختلف الآثار المترتبة على معنى اعتباري بحسب الموارد المختلفة، لكن لا تترتّب الآثار الاعتبارية إلا على موضوع اعتباري، كالإنسان يتصرّف في ماله لكن لا بما أنه إنسان بل بما أنه مالك، والأخ يرث أخاه في الإسلام لا لأنّه أخ طبيعي يشارك الميت في الوالد أو الوالدة أو فيهما - فولد الزنا كذلك ولا يرث أخاه الطبيعي - بل يرثه لأنّه أخ في الشريعة الإسلامية.

 

والأخوة من هذا القبيل فمنها أخوة طبيعية لا أثر لها في الشرائع والقوانين وهي اشتراك إنسانين في أب أو أم أو فيهما، ومنها أخوة اعتبارية لها آثار اعتبارية وهي في الإسلام أخوة نسبية لها آثار في النكاح والإرث، وأخوة رضاعية لها آثار في النكاح دون الإرث، وأخوة دينية لها آثار اجتماعية ولا أثر لها في النكاح والإرث، كما يقول الصادق عليه السلام: المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه، ولا يظلمه ولا يغشّه، ولا يعده عدة فيخلفه.

 

2- الإيمان علاقة اجتماعية:

الإيمان ليس علاقة شخصية بين المؤمن وربّه فقط، بل علاقة أخوية جماعية أيضاً بينه وبين سائر المؤمنين، بل وليست بينهم أيّة علاقة ورباط إلّا أخوة إيمانية، كلّ ذلك بدافع الإيمان وسناده، يلمح له الحصر: "إِنَّمَا" كما تقدّم التي تحصر كافة المناسبات بين المؤمنين بالأخوَّة ولذا قالت الآية: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ "إنّما الأخوة المؤمنون" فإنّ هناك أُخوَّات أخرى بين سائر الناس ليست بالتي

 153


129

الأخوة الإيمانية

 تحصر مناسباتهم بالأخوة الألفة الخلة، بل وتتبدلّ وعلى أقصى الحدود بعد الموت بالعداوة: ﴿الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾[1] وإذ كانت هذه حالة الخلّة غير الإيمانية، فما هي حالة سائر الأُخوّات التي لا تستلزم الخلّة؟.

 

إنّ أخوَّة الإيمان تشريعية، وواقعية بدافع الإيمان، يؤمر المؤمن أن يؤصّلها في حياته الجماعية لحد لا تبقى بين المؤمنين إلا الأخوة، وليست هي الأخوة الخلقية كما بين الناس أجمعين، ولا أخوة القرابة الشرعية التي تحرم فقط النكاح، ولا الإقليمية أو العنصرية أو الحزبية أو غير ذلك من أُخوَّات غير إيمانية، فإنّها ليست لزاماً بين هكذا أخوة الإيمان. عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام يَقُولُ "الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِنِ اشْتَكَى شَيْئاً مِنْه - وَجَدَ أَلَمَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ جَسَدِه وأَرْوَاحُهُمَا مِنْ رُوحٍ وَاحِدَةٍ وإِنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ لأَشَدُّ اتِّصَالاً بِرُوحِ الله مِنِ اتِّصَالِ شُعَاعِ الشَّمْسِ بِهَا"[2].

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ عَيْنُه ودَلِيلُه لَا يَخُونُه ولَا يَظْلِمُه ولَا يَغُشُّه ولَا يَعِدُه عِدَةً فَيُخْلِفَه"[3].

 

فالقاعدة التي يأسّسها القرآن في هذا المجال هي أنّ "النسب الصحيح بالدين لا بالطين‏" والأخوّة التي يريدها القرآن الكريم هي أخوة الصفة، وهي أحقّ مراتب الأخوة، فإنّ بها يقع التوارث، فبأخوّة الإيمان ترث، فلا تأسف على أخوّة النسب ولا تكترث، المؤمن أخو المؤمن لا يسلمه، وما ترك فهو يتسلّمه.

 

وروي عن الإمام زين العابدين عليه السلام في رسالة الحقوق: "وحقُّ أخيكَ، أن تعلمَ أنَّه يدكَ الّتي تبسطُها، وظهرُك الّذي تلتجىءُ إليهِ، وعزُّك الّذي تعتمدُ عليهِ، وقوَّتك الّتي تصولُ بها، فلا تتّخذْهُ سلاحًا على معصيةِ اللهِ، ولا عُدَّةً للظلمِ لخلقِ

 



[1] سورة الزخرف، الآية 67.

[2]  الكافي، الكليني، ج2، باب أخوة المؤمنين بعضهم لبعض، ح4، ص 166.

[3] الكافي، الكليني، ج2، باب أخوة المؤمنين بعضهم لبعض، ح3، ص 166.

154


130

الأخوة الإيمانية

 اللهِ، ولا تدعْ نصرتَه على نفسِه ومعونَتَه على عدوِّهِ، والحؤولَ بينَه وبينَ شياطينِه، وتأديةَ النصيحةِ إليهِ، والإقبالَ عليهِ في اللهِ، فإنِ انقادَ لربِّهِ وأحسنَ الإجابةَ لهَ، وإلَّا فليكُن اللهُ آثرَ عندَكَ وأكرمَ عليكَ منهُ"[1].

 

والإمام عليه السلام هنا يريد أنّ الأخ هو الذي اتحد بأخيه اتحاداً تاماً، حتى أصبحت يد أحدهما يد الآخر، وعزّ أحدهما عزّ الآخر. فالأخ للإنسان يد تبسط، وظهر يستند إليه، وقوة يستعين بها على مناهضة الأيام ومغالبة الخطوب،

لا أن يتخذ سبيلاً إلى معصية الله أو يتخذ عدة للظلم لخلق الله. ومن حق الأخ أن يحال بينه وبين الشيطان، وأن تؤدّى إليه النصيحة وليس حقّ الأخ بمقدّم على حقّ الله، بل الله آثر منه وأكرم.

 

3- الوحدة من أركان المجتمع الإيماني:

واعلم أنّ الله قد واخى بين المؤمنين كما واخى بين أعضاء جسد الإنسان، فالمؤمن إذا أصيب أخوه المؤمن بمصيبة فكأنّه هو الذي أُصيب بها، فيتألّم لتألّمه، ومتى لم يفعل ذلك المؤمن مع المؤمنين، فما ثبتت أخوة الإيمان بينه وبينهم، والمؤمن أخو المؤمن لا يسلمه ولا يخذله، فالمؤمن لا يبغض المؤمن، والمؤمن لا يقتل المؤمن لإيمانه، فآية الأخوة جعلت أباهم الإيمان، فهم أخوة لأب واحد، بنص هذه الآية.

 

وللإمام الخميني قدس سره توجيهات كثيرة تبيّن أهميّة الوحدة في المجتمع الإيماني وأنّ المجتمع مبني على فكرة وقاعدة واضحة وهي "الأخوة" ننقل بعضاً من هذه الكلمات المباركة.

 

"نحن إخوة في الإسلام. واجب الدول الإسلامية حسب أحكام الإسلام وتوحد الكلمة تحت راية التوحيد"[2].

 




[1] تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ابن شعبة الحراني، رسالته عليه السلام في جوامع الحقوق، ص 263.

[2]  صحيفة الإمام، ج‏10، ص 355.

155


131

الأخوة الإيمانية

 "إنّ بعض المسلمين شيعة وبعضهم سنة وهذا حنفي وذلك حنبلي والآخر إخباري. في الواقع إنّ طرح هذه الأمور ليس صحيحاً ولا يجب أن نشير إلى أمور كهذه في ظل مجتمع يسعى جميع أفراده لخدمة الإسلام وعزّته. فالجميع إخوة في الدين والفرق الوحيد بينهم هو أنّ البعض عمل بفتوى معيّنة فصار حنفياً والآخر شافعيياً والثالث شيعياً وهذا كله ليس مسوّغاً للاختلاف، فنحن إخوة ولا يجب أن نختلف فيما بيننا. وعلى كل الإخوة من شيعة وسنة أن يحترزوا من وقوع الاختلاف... فالجميع مسلمون والكل يؤمن بالقرآن والتوحيد ويجاهد في سبيل القرآن ويخدم الإسلام"[1].

 

 

"لا يُفر‏ق الإسلام أبداً بين الشيعة والسنة، فلا ينبغي التفريق بين الشيعة والسنة، عليكم الحفاظ على وحدة الكلمة. لقد أوصانا الأئمة الأطهار بأن نتعاضد فيما بيننا وأن نحفظ مجتمعنا وأنّ من يسعى إلى بثّ الاضطراب في هذا المجتمع إمّا جاهل أو مغرض ولا ينبغي الاستماع لكلامه... وهذه البلاد للجميع، للاقليات الدينية، ولإخواننا من أهل السنة، لنا جميعاً"[2].

 

"مسألة السنة والشيعة غير مطروحة في الإسلام، في الإسلام الجميع أخوة فلا أنتم أعداؤنا ولا نحن أعداؤكم، لأن الإسلام دين الأخوة والمساواة"[3].

 

4- آثار الأخوّة الإيمانية:

وتُبرز بعض الروايات عنصراً مهماً في موضوع التآخي هو السكينة والاطمئنان، لأنّ المؤمن يشعر شعورًا صادقًا براحة نفسيّة مع أخيه المؤمن. السكينة التي أنزلها الله تعالى على المؤمنين: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾[4]. ﴿فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ

 




[1] صحيفة الإمام، ج‏13، ص 49.

[2] صحيفة الإمام، ج‏6، ص 72.  

[3] صحيفة الإمام، ج‏9، ص327.

[4] سورة الفتح،الآية 4.

156


132

الأخوة الإيمانية

 عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا[1]. وقال بعض المفسّرين بأنّ السَّكِينَةَ وهي الرحمة التي تسكن إليها النفس ويزول معها الخوف[2]. وهي تدلّ في بعض استعمالاتها على الثبات والطمائنية.على كلٍّ وصفت الروايات علاقة المؤمن مع أخيه المؤمن بالسكن وهو تعبير يدلّ على أهمية التآخي.

 

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام "قَالَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَسْكُنُ إِلَى الْمُؤْمِنِ كَمَا يَسْكُنُ الظَّمْآنُ إِلَى الْمَاءِ الْبَارِدِ"[3]. كما أنّ للظمآن اضطراباً في فراق الماء وكمال ميل إلى طلبه وسكوناً واستقراراً عند وجدانه وانتفاعاً به في حياة روحه، كذلك للمؤمن بالنسبة إلى المؤمن، وفيه تشبيه للمعقول بالمحسوس لزيادة الإيضاح...

 

أهمية التآخي في بناء المنظومة الاجتماعية:

من أكبر النعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده نعمة الأخوة في الله، التي سببها الإيمان، فهي قائمة على أوثق عرى الإيمان كما في الحديث عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام قَالَ: "مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الإيمان أَنْ تُحِبَّ فِي الله وتُبْغِضَ فِي الله وتُعْطِيَ فِي الله وتَمْنَعَ فِي الله"[4] العروة الكوز ونحوه والمراد بها هنا الأحكام والأخلاق والآداب اللازمة للإيمان على سبيل المكنية والتخييلية أي كل عروة يتمسّك بها متمسّك رجاء نجاة من مهلكة أو ظفر بغنيمة ونعمة ومنزلة، فأوثقها الحبّ في الله والبغض في الله والإعطاء في الله والمنع في الله، لأنّ من تمسّك بها تكامل إيمانه واستقام لسانه واستقرّ جنانه، وبه يتحقّق التودّد والتآلف بين المؤمنين، ويتمّ ويكمل نظام الدنيا والدين، فهذه العلاقة هي أسمى علاقة وأقوى رابطة يمكن أن تكون في مجموعة من البشر، لأنّ لها سببًا سماويًّا رفيعًا، وما دونها من علاقات النسب

 




[1] سورة الفتح،الآية 18.

[2] التبيان في تفسير القرآن، الطوسي، ج5، ص 199.

[3]  الكافي، الكليني، ج2، باب في سكون المؤمن إلى المؤمن، ح1، ص 247.

[4]  الكافي، الكليني، ج2، باب الحب في الله والبغض في الله، ح2، ص 125.

157


133

الأخوة الإيمانية

 والمصاهرة قد لا تبلغ معشار ما فيها من خير, فهي علاقات جبرية تنقصها أحيانًا الرابطة الإيمانية التي تهزّ القلب وتغيّر توجهاته.

 

إنّ للأخوّة الدينيّة دورًا رائدًا في بناء الشخصيّة المؤمنة، حيث تساعدها على الاتّصاف بمجموعة من الفضائل وتشعرها بمسؤوليّة ولو على نطاق خاصّ، انطلاقًا من معرفة ما لها من مدلول وعمق في الإسلام، فيعرف الإنسان قدره من خلال معرفة قدر أخيه وما له من حقّ عليه.

 

ويكون الالتزام بآداب العلاقة بالآخرين باعثًا على إنتاج صورة متكاملة ومسلك مستقيم، أوّل المستفيدين منه صاحب هذا الدور مع ما يتركه من ذكر حسن وسمعة طيّبة، إن هو بقي على ما بدأ به في بداية الطريق. لذلك من وُصِفَ بأنّه أخٌ حقًّا وصِدقًا، بحيث إنّه أقام حدود الأخوّة وراعى حقوقها والتزم آدابها، فهو على الصعيد الفرديّ في سعادة وتقدّم دائمين، كما أنّ النجاح في هذه المدرسة الأخويّة سيفتح له نجاحًا في مدارس ومجالات أخرى، ربما اتّسعت ميادينها إلى ساحة حياته جمعاء، وأمّا إذا لم يوفّق لاكتساب الإخوان وفشل في هذه المهمّة الّتي تعتبر مفصلًا في دورة حياته، فإنّ ذلك سيترك عوامل سلبيّة ونتائج غير مرضية سرعان ما تظهر في كثير من قضاياه وربما حوّلتها إلى مشاكل مستعصية، لا سيّما وأنّ هذا العجز ليس بالشيء الّذي يُمكن التغاضي عنه، وقد اعتبره أمير المؤمنين عليه السلام خطيرًا ووصف صاحبه بأعجز الناس، يقول عليه السلام: "أعجزُ الناسِ من عجزَ عن اكتسابِ الإخوانِ، وأعجزُ منهُ من ضيّعَ من ظفرَ بهِ منهُم"[1].

 




[1] نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام (تحقيق صالح)، حكم أمير المؤمنين عليه السلام، رقم 12، ص 470.

158


134

الأخوة الإيمانية

 حقوق الإخوة الإيمانية:

وضع الإسلام للأخوة الدينية حقوقاً ألزم المسلمين بمراعاتها، وتطبيقها، وقد تظافرت الروايات في بيانها ومن أجمعها ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  حيث يقول: "للمسلم على أخيه ثلاثونَ حقًّا، لا براءةَ لهُ إلَّا الأداءُ أو العفوُ: يغفرُ زلّتَه، ويرحمُ عبرتَه، ويسترُ عورتَه، ويُقيلُ عثرتَه، ويقبلُ معذِرتَه، ويردُّ غيبتَه، ويُديمُ نصيحتَه، ويحفظُ خلّتَه، ويرعى ذِمّتَه، ويعودُ مرضَتَه، ويشهدُ ميتتَه، ويجيبُ دعوتَه، ويقبلُ هديّتَه، ويكافىءُ صِلتَه، ويشكرُ نعمتَه، ويُحسنُ نصرتَه، ويحفظُ خليلتَه، ويقضي حاجتَه، ويشفعُ مسألتَه، ويُسمِتُ عطستَه، ويُرشِدُ ضالَّتَه، ويردُّ سلامَه، ويطيبُ كلامَه، ويبرُّ أنعامَه، ويصدِّقُ أقسامَه، ويوالي وليَّه ويعادي عدوَّه، وينصرُه ظالمًا أو مظلومًا ــ فأمّا نصرتُه ظالمًا فيردُّه عن ظلمِه، وأمّا نصرتُه مظلومًا فيُعينُه على أخذِ حقِّه ــ ولا يسلمُه، ولا يخذلُه، ويحبُّ له من الخيرِ ما يحبُّ لنفسِه... ويكرهُ له من الشرِّ ما يكرهُ لنفسِه، ولا يبرأُ المسلمُ يومَ القيامةِ من هذهِ الحقوقِ إلَّا إذا أدّاها أو نالَ من صاحبِه العفوَ"[1].

 

كيفية معرفة الإخوان:

يُمكننا أن نعرّف إخوان الثقة بخصلتين هامّتين، من خلالهما نرى من هو الأخ حقًّا:

الأولى: الإصلاح، وهو أن يلتزم الأخ سبيلًا بنّاءً في علاقته بأخيه من خلال مكاشفته بعيوبه، وعدم مداهنته وكثرة إطرائه مع ما يراه من أعماله غير المرضية، ومعاونته على التغيير ليكون على أحسن ما يرام، فيحبّ له أن تجتمع الأوصاف الحميدة فيه بأجمعها.

 



[1] وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج12، 122 - باب وجوب أداء حق المؤمن، ص 203.

 

159


135

الأخوة الإيمانية

 الثانية: الإخلاص، بمعنى أن يكون صادقًا معه مخلصًا له في باطنه وسريرته، فلا يُظهر له خلاف ما يُضمره، ولسانه ترجمان قلبه على الدوام. فإذا توفّرت هاتان الخصلتان في رجل كان لا محيصَ عن معاشرته، هذا ما أوصانا به مولانا الإمام الكاظم عليه السلام وهو يعرّفنا إخوان الثقة من خلال الركيزتين المتقدّمتين قائلًا: "اجتهدوا في أنْ يكونَ زمانُكم أربعَ ساعاتٍ: ساعةً لمناجاةِ اللهِ، وساعةً لأمرِ المعاشِ، وساعةً لمعاشرةِ الإخوانِ والثقاتِ الّذين يعرّفونَكُم عيوبَكُم ويُخلصونَ لكُم في الباطنِ، وساعةً تخلونُ فيها للذّاتِكم في غيرِ محرّمٍ".

 

لقد جمع الإمام الحسن عليه السلام أوصاف إخوان الصدق وخلّان الوفاء في وصيّته لجنادة قبيل شهادته، حيث قال عليه السلام: "اصحبْ من إذا صحِبْتَه زانَك، وإذا خدمْتَه صانَك، وإذا أردتَ منهُ معونةً أعانَك، وإنْ قُلْتَ صدّقَ قولَك، وإن صُلْتَ شدَّ حولَك، وإنْ مدَدْتَ يدَكَ بفضلٍ مدَّها، وإن بدَت عنكَ ثلْمَةٌ سدَّها، وإن رأى منك حسنةً عدَّها، وإن سألْتَه أعطاكَ، وإن سكتَّ عنْهُ ابتداكَ، وإنْ نزلْت إحدى المُلمّاتِ به ساءَك"[1].

 

الدروس المستفادة من الآية

1- إن رابطة الأخوة بين أفراد المجتمع الإيماني هي رابطة عميقة وقوية ومتينة بين أبنائه.

2- إنّ رابطة الأخوة بين أبناء المجتمع هي علاقة متبادلة من الطرفين.

3- إنّ رابطة الأخوة هي رابطة طبيعية وفطرية وتقوم على أسس معنوية لا مادية من عرق ولون وما شابه ذلك.

 




[1]  بحار الأنوار، ج44، فيما قاله جنادة بن أبي أمية وكان عائدا لمولانا الإمام المجتبى عليه السلام في مرضه الذي توفي فيه، وما قال عليه السلام له في الموعظة، ص 138.

160


136

الأخوة الإيمانية

 4- الأخوة جسد واحد متماسك تمنع أي خرق من الآخرين لهذا الجسد، وفي حال حصوله تتداعى أعضاء هذا الجسد لمواجهة هذا الخطر.

 

 

5- الإصلاح بين أبناء المجتمع مرتبط بحقيقة هذه الأخوة، فالخلافات والنزاعات هي تضعيف أو إعدام لهذه الأخوة الإيمانية، وعلى المصلحين إرجاع المتنازعين إلى أسس هذه الأخوة.

 

6- إنّ رابطة الأخوة تنطلق من الإيمان فلذا نوصّفها بالأخّوة الإيمانية أي المنبثقة من حقيقة الإيمان فلا تحكمنا في العلاقة مع الآخرين الحدود الجغرافية أو السياسية أو القومية وما شابه ذلك فعلاقة الأخوة مبنية على أسس إيمانية تتعدّى كل هذه الحواجز المادية.

 

7- لا فرق بين أفراد المجتمع من ناحية الأخوة، فالكل أخوة نعم الفوارق التي طرحها الإسلام كالعلاقة بين الأب والابن، العالم والمتعلِّم، والقائد والرعية، لها آدابها وأحكامها الخاصة تفرضه طبيعة هذه المواقع في المجتمع، ولكن هذا لا يعني تفاوت حقيقة الأخوة فالمجتمع بكل أفراده وطبقاته متساوي في الأخوة.

 

رسالة الآية (الإصلاح والأخوة):

إنّ واقعنا المعاصر مليء بالنزاعات والاختلافات سواء بين الشعوب أم بين أبناء الشعب الواحد بل البلد الواحد بل القرية والحي والجيران والأقرباء إلى أن نصل إلى خلافات الأزقة، ولا بدّ أن نعلم أنّ كلّ خلاف مهما صغر أو كبر هو نهش وإضعاف لجسد الأمة. وإذا نظرنا إلى جذور الصراعات والخلافات الكبيرة أو الصغيرة سنجد أن جذورها الأساسية ترجع إلى تحكيم الأهواء والمصالح الشخصية والضيقة، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على ضعف الحالة الإيمانية وانعدام الضوابط الأخلاقية بين هؤلاء المتنازعين، وإنّ هذه الظواهر لا تُعالج إلا من خلال إرساء الأخلاق الإيمانية في المجتمع حتى يتمكّن أفراده من حلّ هذه النزاعات بتلك

161


137

الأخوة الإيمانية

 الروحية الأخلاقية العالية. فعلينا أن نربّي المجتمع تربية أخلاقية تجعلهم يستبدلون روح العدوان والاقتتال إلى روح المحبّة والوئام والسلام وكل ذلك على ضوء هذه الآيات المباركة من سورة الحجرات.

 

 

 

162


138

الأخوة الإيمانية

 للمطالعة

 

كيف تؤدّي حقّ أخيك المؤمن؟

للمؤمن على المؤمن مجموعة من الحقوق منها بحسب الروايات:

1ـ يغفرُ زلّتَه: الزلة: استرسال الرجل من غير قصد، يقال زلَّت رجل تزلّ. فمن حقّ أخيك عليك أن تغفر له زلّته وتتجاوز عن خطيئته. ومعنى الغفر هو محو الأثر ومن لوازم محو الأثر انّه يوجب ستر الخطأ الواقع من الأخ والصفح عنه والإصلاح.

 

2- يسترُ عورتَه: العورة في القرآن هي الشيء الذي تجب حمايته لأنّ عدم حمايته تستتبع وقوع الضرر، فكل ما لا يحقّ لكلّ الناس هو عورة لإنسان. والعورة بعامة تشمل ما يسوء الإنسان انكشافه أو نيله سواء كان من بدنه أو من أسرار حياته الخاصة أو علاقته بزوجه او من ماله وما يملك. فإنّه من واجب الأخ إذا رأى بادرة سيّئة من أخيه أن يسترها.

 

3- يُقيلُ عثرتَه: إنّ من أخلاق المؤمن أن يمتلك قلبًا كبيرًا وروحًا سامية، يستوعب بهما عثرات إخوانه، ولا يعطي الأمور أكثر ممّا هي عليه، بل يتسامح ويقبل عذر الآخر، والأفضل أن يتغاضى دون الحاجة إلى الاعتذار "شرُّ إخوانِكَ من أحوجَك إلى مداراةٍ وألجأَك إلى اعتذارٍ"[1].

 

4ـ يردُّ غيبتَه: يظهر من الأخبار المستفيضة وجوب رد الغيبة: فعن المجالس بإسناده عن أبي ذر رضوان الله عليه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من اغتيب عنده أخوه المؤمن وهو يستطيع نصره فنصره، نصره الله تعالى في الدنيا والآخرة، وإن خذله وهو يستطيع نصره، خذله الله في الدنيا والآخرة"[2].

 



[1] عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص 294.

[2] بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج74، ص90.

163


139

الأخوة الإيمانية

 5ـ يقبلُ معذِرتَه : من المهم أن يتحوّل الاعتذار إلى ثقافة مجتمعية، وأن يتحوّل قبول العذر إلى ثقافة أيضاً، فليس من الصواب ألاّ يعترف إليك أخوك بخطئه إذا كان، ولكن الأسوء أن لا تقبل معذرته حينما يأتيك نادمًا. يقول الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام: "واقبلْ عذرَ أخيكَ فإن لم يكن له عذرٌ فالتمس له عذرًا"[1].

 

 

6ـ يُديمُ نصيحتَه : المراد بنصيحة المؤمن للمؤمن إرشاده إلى مصالح دينه ودنياه وتعليمه إذا كان جاهلاً وتنبيهه إذا كان غافلاً وعدم غشّه ودفع الضرر عنه وجلب النفع إليه، ولو لم يقبل نصيحته سلك طريق الرفق حتى يقبلها، ولو كانت متعلّقة بأمر الدين سلك به طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه المشروع.

 

7ـ يحفظُ خلّتَه: (حفظ الأخوَّة): والخليل بمعنى الصديق: "الأصل فيه كون الشخص ذا انفراج، وهذا كناية عن كونه صاحب أسرار ورموز يلقى إليه ما يستر عن غيره. ومن لوازم هذا المعنى: المصادقة والمؤاخاة والاختصاص والمودّة، وهذا هو الفرق بينه وبين الصديق والرفيق والحبيب والمؤاخي وغيرها"[2].

 

8ـ يعودُ مرضَتَه : ورد عن الإمام موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يُعَيِّرُ اللهُ عزّ وجلّ عَبداً مِن عِبادِهِ يَومَ القِيامَةِ فَيقَولُ: عَبدي ما مَنَعَكَ إذ مَرِضتُ أن تَعودَني؟ فَيقَولُ: سُبحانَكَ! أنتَ رَبُّ العِبادِ لا تَألَمُ ولا تَمرَضُ. فَيَقولُ: مَرِضَ أخوكَ المُؤمِنُ فَلَم تَعُدهُ، وَعِزَّتي وجَلالي لَو عُدتَهُ لَوَجَدتَني عِندَهُ، ثُمَّ لَتَكَلَّفتُ بِحَوائِجِكَ فَقَضَيتُها لَكَ، وذلِكَ مِن كَرامَةِ عَبدِيَ المُؤمِنِ، وأنَا الرَّحمنُ الرَّحيمُ"[3].



[1]  كنز الفوائد، أبي الفتح الكراجكي، ص 34.

[2] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج3، خلّ، ص 120.

[3]  وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج2، باب استحباب عيادة المريض المسلم وكراهة ترك عيادته، ح10، ص 417.

164


140

الأخوة الإيمانية

 9ـ ويشهدُ ميتتَه: إنّ من حقّ الأخ على إخوانه أن يحضروا جنازته ويشيّعوه إذا مات. عن الإمام علي عليهم السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دعيتم إلى العرسات فأبطأوا، فإنّه يُذكّر الدنيا، وإذا دعيتم إلى الجنائز فأسرعوا فإنّها تذكرة الآخرة"[1].

 

 

10- يجيبُ دعوتَه: يستحبّ للمؤمن أن يجيب دعوة أخيه المؤمن إذا دعاه إلى منزله، وأن يأكل عنده، وإنّ استحباب إجابة دعوة المؤمن مشهور بين الفريقين والظاهر عدم الخلاف بيننا في ذلك. نعم قد ورد في بعض الأخبار، التعبير بوجوب الإجابة كقوله عليه السلام: من الحقوق الواجبة: للمسلم أن يجيب دعوته. وفي آخر: من حقّ المسلم الواجب على أخيه إجابة دعوته[2]

 

11ـ يقبلُ هديّتَه : للهدية عظيم الأثر في استجلاب المحبة وإثبات المودّة وإذهاب الضغائن وتأليف القلوب. وقد حثّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم  وأهل البيت عليهم السلام على التهادي وعلى قبول الهدايا ولذا إذا قدَّم لك أخوك هديّة فمن حقِّه عليك أن تقبلها منه. ويستحبّ قبول الهديّة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ[3] لَقَبِلْتُه"[4]، كما يستحبّ فعلها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم "تهادوا تحابّوا تهادوا فإنّها تُذهب بالضغائن"[5] أي الهدية تذهب العداوة والحقد.



[1] مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري الطبرسي، ج2، ص 119.

[2] مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري الطبرسي، ج16، ص 236. وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج24، 16 - باب تأكد استحباب إجابة دعوة المؤمن والمسلم، ح 9، ص 271. بحار الأنوار، ج72، الباب التاسع والثمانون، الحث على إجابة دعوة المؤمن، والحث على الاكل من طعام أخيه، ح1، ص 447. عيون أخبار الرضا عليه السلام، الصدوق، في فضل السخاء والصمت، ح26، ص 15.

[3] الكراع هو ما دون الركبة من ساق البقر والغنم. وقيل: كراع الغميم وهو اسم موضع بين مكة والمدينة على ثلاثة أميال من غسفان والأول مبالغة في القلة والثاني في البعد. ينظر: الوافي، الفيض الكاشاني، ج 17، ص 371. 

[4] الكافي، الكليني، ج5، باب الهدية، ح 14، ص 144.

[5] الكافي، الكليني، ج5، باب الهدية، ح 14، ص 144.

165


141

حرمة المؤمن السخرية

 الدرس الثامن: حرمة المؤمن - السخرية

 

 

مفاهيم محورية:

- تفسير الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾.

- مفهوم السخرية ومنشؤها.

- قواعد ثلاث في صيانة المجتمع الإسلامي.

- خطر السخرية على الأمة.

- الدروس المستفادة من الآية.

 

167


142

حرمة المؤمن السخرية

 النص القرآني

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.

 

تمهيد

الآية الكريمة وما بعدها تُكرّس ثقافة احترام وتقديس المؤمن وأنّ لهذا المؤمن بلحاظ إيمانه - لا لشيء آخر - حرمة يُمنع انتهاكها تحت أي عنوان وذريعة، لكلّ إنسان في المجتمع المسلم احترامه، فليس للمؤمن أن يُسي‏ء إلى حرمة مؤمن آخر، فيقول كلمات تُسي‏ء إلى كرامته أو تؤذي مشاعره، سواء كان‏ ذلك من خلال مضمونها، أم من خلال طريقة قولها، أو استخدام الإشارة بأسلوب يوحي بالإذلال والانتقاص. فالآية تحدّثت عن ثلاثة عوامل تؤدّي إلى هتك حرمة المؤمن والإساءة إلى شخصيته ما يؤدّي إلى انتهاك سور حرمة المؤمن كما تقدّم وهذه العوامل هي: السخرية، اللمز، التنابز بالألقاب.

 

شرح مفردات الآية

- يَسْخَرْ: هو الحكم والتقدير مع القهر تكويناً أو تشريعاً، يقال سخّر الله الشمس والقمر والسماء والأرض، إذ جعلها تحت حكمه وقهرها بتقديره

 

169


143

حرمة المؤمن السخرية

 تكويناً. ومن لوازم هذا المعنى الإطاعة، والاستذلال تحت الأمر، والإرادة والتكليف بما يريده، والاستعمال مجّاناً وبلا أجرة[1].

 

قَومٌ: القاف والواو والميم أصلان صحيحان، يدل أحدهما على جماعة ناس، وربما استعير في غيرهم. والآخر على انتصاب أو عزم. فالأول: القوم، يقولون: جمع امرئ، ولا يكون ذلك إلا للرجال. قال الله تعالى: لا يسخر قوم من قوم (الحجرات 11)، ثم قال: ولا نساء من نساء. ويقولون قوم وأقوام، وأقاوم جمع جمع. وأمّا الآخر - قام قياماً، إذا انتصب. ويكون قام بمعنى العزيمة[2]. الأصل الواحد في المادّة: هو ما يقابل القعود، أي الانتصاب وفعليّة العمل، مادّيّاً أو معنويّاً. وتفسير القوم بالرجال تغليب لا تخصيص.

 

﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ[3]. ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ[4].

 

﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ[5]. فالإنذار والقرآن والسجدة غير مختصّة بالرجال، بل تعمّ الرجال والنساء[6].

 

تَلْمِزُوا: الغمز هو إشارة إلى شيء بجفن أو حاجب أو عين في مقام التعييب والتضعيف. واللمز كالغمز في المواجهة، كما أنّ الهمز هو تعييب في غير المواجهة بل بالغيب. والباعث في الهمز واللمز: هو التعلُّق بالأمور الدنيويّة والمحبّة الشديدة بالمال واللذّات المادّيّة والاضطراب والوحشة عن المحروميّة فيها كلّاً أو جزءاً: فعرّف الَّذين همزوا ولمزوا بقوله - الَّذي جمع مالاً وعدّده[7].




[1] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج5، ص 76.

[2] معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، ج5، قوم، ص 43. 

[3] سورة الرعد، الآية 7.

[4] سورة فصلت، الآية 3.

[5] سورة النمل، الآية 24.

[6] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج9، قوم، ص 345.

[7] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج10، لمز، ص 234.

170


144

حرمة المؤمن السخرية

 تَنَابَزُوا: النبز هو الدعوة السيّئة، واللقب أعم ليس هو نفس النبز بل هو اسم يدلّ على مدح أو ذمّ. فالسخر: حكم مع قهر وتذليل. واللمز: هو تعييب وتضعيف شديد. والنبز: هو الدعوة السيّئة. والفُسوق: هو الخروج عن مقرّرات دينيّة أو عقليّة أو عرفيّة.

 

بالْأَلْقَابِ: اللقب اسم يدلّ على مدح أو ذمّ.

 

يَتُبْ: توب: كلمة واحدة تدلّ على الرجوع. يقال تاب من ذنبه أي رجع عنه، يتوب إلى الله توبة ومتاباً، فهو تائب، والتوب التوبة، قال الله تعالى ﴿وَقَابِلِ التَّوْبِ[1].

 

الظَّالِمُونَ: ظلم: أصلان صحيحان، أحدهما - خلاف الضياء والنور، والآخر - وضع الشيء غير موضعه تعدّياً. هو إضاعة الحقّ وعدم تأدية ما هو الحقّ، سواء كان في مورد نفسه أو غيره أو في حقوق الله المتعال، وبالنسبة إلى ذوي العقلاء أو غيرهم، وفي حقوق مادّيّة ومعنويّة أو روحانيّة. فالظلم في مورد النفس أعظم أنواع الظلم، فإنّ مرجع جميعها إلى هذا النوع، وهو التقصير في تأدية حقوق النفس وإضاعتها، والمنع عن سيره إلى جهة الكمال، بالتعلُّق بالأمور المادّيّة الدنيويّة[2].

 

المعنى الإجمالي

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ﴾ نهى الله بهذه الآية عن عَيْب من لا يستحقّ أن يُعاب على وجه الاحتقار له, لأنّ ذلك هو معنى السخرية، وأخبر أنّه وإن كان أرفع حالاً منه في الدنيا فعسى أن يكون المسخور منه خيّراً عند الله. لا يسخر بعض الرجال من بعض ولا بعض النساء من بعض، فربما كان المسخور منه أتقى عند

 



[1] معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، ج1، ص 357.

[2] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج7، ظلم، ص 170- 171.

171


145

حرمة المؤمن السخرية

 الله وأبرّ من الساخر، هذا إلى أنّ من سخر من الأبرياء فهو ظالم وسفيه، وقد هدده الله بأشدّ العقوبات، من ذلك: ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[1].

 

﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾ لا يطعن بعضكم بعضاً، ويذكره بمكروه.  ولأنّ المؤمنين كنفس واحدة قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا[2] فكأنّه بقتله أخاه قاتل نفسه، وكقوله: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ[3] يعني يسلّم بعضكم على بعض.

 

وفي الآية الشريفة تدرّج التعييب وتنقيص عباد الله، ولا سيّما في الحضور والمواجهة من أعظم الأعمال السيّئة وأشدّ الأخلاق الرذيلة الَّتي تنبعث عن صفات حيوانيّة مختلفة، كالكبر والبخل والحسد والطمع والغفلة عن الله عزّ وجلّ والتعلُّق بالدنيا، وقد قال تعالى في هذا المعنى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ﴾، ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾ السخر أعمّ مورداً ثمّ بعده اللمز، وبعده التنابز بالألقاب، فإنه تصريح باللسان في التعييب حضوراً أو كالحضور، فانّ اللقب تثبيت العيب وإدامته، وليس كاللمز المحدود بمحيط اللمز زماناً ومكانا[4].

 

﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾: التنابز: التعاير، أي لا يخاطب أحدكم أخاه بلقب يكرهه، ولا بأس بلقب أعرج وأحدب وما أشبه لمن اشتهر بذلك مع عدم قصد النقص والاستخفاف فلا تقل لأخيك المسلم يا فاسق يا منافق وما شابه ذلك.

 

﴿بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾: من عاب آخر بما يكره يصير فاسقاً بعد أن كان مؤمنا.أو بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسق بعد دخولهم الإيمان واشتهارهم به.

 




[1] سورة التوبة، الآية 79.

[2] سورة النساء، الآية 29.

[3] سورة النور، الآية 61.

[4] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج10، لمز، ص 234.

172


146

حرمة المؤمن السخرية

 ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ﴾ يعني من معاصيه ويرجع إلى طاعة الله ومات مصرّاً ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ الذين ظلموا نفوسهم بأن فعلوا ما يستحقّون به العقاب وظلموا الآخرين بما فعلوا بهم من سخرية ولمز ونبز، فالظالم من حيث هو إنّما يكون في قبال المتّقي، وهو من لا يبالي تضييع حقّ ولا يهتمّ برعاية حقوق الله وحقوق الناس وحقوق نفسه.

 

 

المعنى التفصيلي

لا تزال السورة تتحدّث عن إرساء قواعد المجتمع المثالي الذي ينشده الإسلام.

 

فيتحدّث القرآن الكريم عن بناء المجتمع الإسلامي على أساس المعايير الأخلاقية، فإنّه بعد البحث عن وظائف المسلمين في مورد النزاع والمخاصمة بين طوائف المسلمين المختلفة بيّن في الآيتين محل البحث قسماً من جذور هذه الاختلافات ليزول الاختلاف (بقطعها) ويحسم النزاع! ففي كلٍّ من الآيتين الآنفتين تعبير صريح وبليغ عن ثلاثة أمور يمكن أن يكون كلّ منها شرارة لاشتعال الحرب والاختلاف بين المؤمنين وهي: السخرية، اللمز، التنابز بالألقاب.

 

والآية (12) تحدّثت عن ثلاثة عوامل أخرى تؤدّي نفس مؤدّى الآية (11) ولكن بالإضافة إلى البعد الشخصي لها هناك بعدٌ اجتماعي كما سنبيّن  وهذه العوامل هي: سوء الظنّ، التجسُّس، الغيبة.

 

ومن هنا، حرّم الإسلام السخرية التي يمارسها بعض الناس ضدّ بعضهم الآخر لشعورهم بالتفوّق عليهم في بعض الصفات، أو في بعض الأفعال، أو في بعض المناصب، ممّا يتفاضل به الناس في درجاتهم وأوضاعهم، الأمر الذي يجعل صاحب الصفة الجيّدة وبإيحاء شيطاني أن يتعالى على الآخرين ويحتقرهم باعتبارهم أقلّ منه درجة، وهذا ما يدفعه إلى السخرية والهزء به، وهذا ما تعالجه الآية (11) من السورة المباركة.

 

173


147

حرمة المؤمن السخرية

 1- تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾:

 

الخطاب عام لكل المؤمنين فهو يعم الرجال والنساء وينذر الجميع أن يجتنبوا هذا الأمر القبيح.

الخطاب يؤكد أن من مقتضيات حقيقة الإيمان أن يتحوّل إلى سلوك أخلاقي في التعامل مع الآخرين مبني على احترامهم وتقديرهم فالمؤمن لا يقوم بأي سلوكيات تنافي حقيقة إيمانه.

 آداب علاقة المؤمن بالمؤمن. (حرمة المؤمن).

 

2- تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ﴾:

أ- مفهوم السخرية: هي أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال ولا يلتفت إليه، ويسقطه عن درجته، وحينئذٍ لا يذكر ما فيه من المعايب، وهذا كما قال بعض الناس تراهم إذا ذكر عندهم عدوهم يقولون هو دون أن يذكر، وأقل من أن يلتفت إليه، فقال لا تحقروا إخوانكم ولا تستصغروهم[1].

 

خاصة وأنّ بداية فساد العلاقة بين الإنسان ونظيره تضاؤل قيمة الإنسان كإنسان في عينه، وعندئذٍ لا يحترم الناس بعضهم، ويبحث كلٌّ عن منقصة في صاحبه يسخر بها منه، ويدّعي لنفسه مكرمة يفتخر بها.

 

ب- منشأ السخرية: إنّ أساس السخرية والاستهزاء هو الإحساس بالاستعلاء والغرور والكبر وأمثال ذلك. وهذا الاستعلاء أو التكبّر غالباً ما يكون أساسه القيم المادية والظواهر المادية. وإن الاستهزاء والسخرية بالآخرين هي من تسويلات الشيطان للإنسان ليقطع روابط الأخوة مع المؤمنين، فيدفع الإنسان ويحثّه على

 



[1] مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، ج28، ص 108.

174


148

حرمة المؤمن السخرية

 الاستهانة بالآخرين، وتصغير قدرهم، والتصوير بأنّهم أقلّ منه فيحقّ له إذا تجاوز حقوقهم بل والاعتداء عليهم. ومن هنا يبدأ القرآن بعلاج هذا المرض الاجتماعي بالنهي عن السخرية لتكريس قيمة المؤمن في المجتمع، لأنّه هو اللبنة الأساسية لبناء المجتمع ومن دونه لا يتحقّق المجتمع الإيماني على الإطلاق.

 

ج- السخرية من الجهل: والسخرية من شيم الجاهلين فلا يستهزأ المؤمن العارف ولو بغير المؤمنين الذين هو خير منهم، فكيف بمن‏ ﴿عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ﴾ ولهذا إنّ السخرية من أي إنسان والهزء به جهل عارم: ﴿قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾[1]، وإنّه ليست السخرية على أية حال إلا جهالة حتى مع الكافر، لأنها تزيد في نفوره وكفره[2].

 

وفي الروايات ما يدلّ على أنّ السخرية دليل على الجهل وعدم العقل.  في حديث مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نقرأ أنّ من علامات عقل المرء تركه التعالي على الناس، عن أبي جعفر عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يعبد الله عزّ وجلّ بشيء أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلاً حتى تجتمع فيه عشر خصال: الخير منه مأمول، والشر منه مأمون، يستكثر قليل الخير من غيره، ويستقلّ كثير الخير من نفسه، ولا يسأم  من طلب العلم طول عمره، ولا يتبرّم بطلّاب الحوائج قبله، الذلّ أحبّ إليه من العزّ، والفقر أحبّ إليه من الغنى. نصيبه من الدنيا القوت، والعاشرة لا يرى أحداً إلا قال: هو خير منّي وأتقى. إنّما الناس رجلان: فرجل هو خير منه وأتقى، وآخر هو شرّ منه وأدنى، فإذا رأى من هو خير منه وأتقى تواضع له ليلحق به، وإذا لقي الذي هو شرّ منه وأدنى قال: عسى خير هذا باطن، وشرّه ظاهر، وعسى أن يُختم له بخير، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده وساد أهل زمانه"17.

 



[1] سورة البقرة، الآية 67.

[2] الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن، محمد الصادقي الطهراني، ج27، ص 244.

175


149

حرمة المؤمن السخرية

 3- تفسير قوله تعالى: ﴿عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ﴾:

 

تنكير قَوْمٌ‏ في الموضعين لإفادة الشياع، لئلّا يتوهّم نهي قوم معيّنين سخروا من قوم معيّنين. وإنّما أسند يَسْخَرْ إلى‏ (قَوْمٌ)‏ دون أن يقول: لا يسخر بعضكم من بعض كما قال: ﴿لَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾. للنهي عما كان شائعاً بين العرب من‏ سخرية القبائل بعضها من بعض فوجّه النهي إلى الأقوام. ولهذا أيضاً لم يقل: لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة. ويفهم منه النهي عن أن يسخر أحد من أحد بطريق لحن الخطاب. وهذا النهي صريح في التحريم.

 

وخصّ النساء بالذكر مع أنّ القوم يشملهم بطريق التغليب العرفي في الكلام، كما يشمل لفظ المؤمنين والمؤمنات في اصطلاح القرآن بقرينة مقام التشريع، فإنّ أصله التساوي في الأحكام إلا ما اقتضى الدليل تخصيص أحد الصنفين به، دفعاً لتوهّم تخصيص النهي بسخرية الرجال إذ كان الاستسخار متأصِّلاً في النساء[1].

 

والتعبير بالجمع أي الرجال (بناءً على أن المراد من القوم الرجال) والنساء، إشارة إلى أنّ هذه السخرية إنّما تكون على غايتها من الشناعة والسوء، حين تكون فى صورة جماعية، إذ أنّها تشدّ أعداداً كثيرة من الناس إلى هذا الشر، وتوقعهم فى هذا البلاء.

 

"لعل التعبير القرآني هنا يعكس طبيعة الاستهزاء عند الرجال، حيث إنّهم يفتخرون عادة بتجمُّعهم ويسخرون من سائر الناس، فترى أهل هذا الحي يقولون من مثلنا؟ أو أهل هذا النادي أو ذلك الحزب أو هذا المصر أو ذلك الإقليم، أنّهم يفتخرون بما لديهم ويفرحون بما أوتوا من نصيب الدنيا فيسخرون ممّن لا يملك ذلك‏ حتى ولو ملك ما هو أفضل منه. أما النساء فتجري مفاخرتهنّ في أمور شخصية كالجمال والزينة أو النسب أو السبب، وأساس الاستهزاء بالآخرين عجب كل قوم بما يملكون من ميّزات، وفرحهم بها، ثم تعاليهم على من سواهم بذلك"[2].



[1] بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج1، ص 108.

[2]  التحرير والتنوير، ابن عاشور التونسي، ج26، ص 207.

176


150

حرمة المؤمن السخرية

 4- تفسير قوله تعالى: ﴿عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ﴾:

 

إنّ الغرور والعجب ربما يسوق الإنسان أن يتصوّر أنّه أفضل من الجماعة الفلانية علماً وعبادة ومعنوية إلى السخرية منهم، في حين أنّ المعيار الواقعي عند الله هو "التقوى" التي تنسجم مع طهارة القلب وخلوص النيّة والتواضع والأخلاق والأدب!. كما سيأتي في الآية (13) ولا يصحّ لأيّ أحد أن يقول: أنا أفضل عند الله من سواي، ولذلك عُدّ تحقير الآخرين والتعالي بالنفس من أسوأ الأمور وأقبح العيوب الأخلاقية التي يمكن أن تكون لها انعكاسات سلبية في حياة الناس جميعاً.

 

5- تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾:

اللمز هو ذكر ما في الرجل من العيب في غيبته وهذا دون السخرية، لأنّ في السخرية لم يلتفت إليه ولم يرض بأن يذكره أحد وإنّما جعله مثل المسخرة الذي لا يغضب له ولا عليه[1]. وهو ذكر ما يعده الذاكر عيباً لأحد مواجهة فهو المباشرة بالمكروه. فإن كان بحق فهو وقاحة واعتداء، وإن كان باطلاً فهو وقاحة وكذب، وكان شائعاً بين العرب في جاهليتهم قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ[2] يعني نفراً من المشركين كان دأبهم لمز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويكون بحالة بين الإشارة والكلام بتحريك الشفتين بكلام خفيّ يعرف منه المواجه به أنّه يذمّ أو يتوعد، أو يتنقّص باحتمالات كثيرة، وهو غير النبز وغير الغيبة[3].

 

وتعبير أنفسكم باعتبار أنّ من يلمز ويعيب أخاه المؤمن، هو لامز نفسه، لأنه منه أو هو هو، لا يفصل بينهم إلّا فاصل الجسم، والروح واحدة، فكيف يعيب مؤمن نفسه، اللهم إلا أن تحاول علاج أخيك كما تعالج نفسك، بكلّ حنان وأمان، ودون إيذاء وتشهير، وإنما كمرآة تريك مساويك دون أن تجاهر بها لسواك فإنّ "المؤمن مرآة المؤمن".



[1] مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، ج28، ص 108.

[2] سورة الهمزة، الآية 1.

[3] التحرير والتنوير، ابن عاشور التونسي، ج26، ص 207.

177


151

حرمة المؤمن السخرية

 وكما توحي "أنفسكم" بأنّ لمز البعض لمز للكل، فإنّه مسّ من كرامة الإيمان، فهل من عاقل بعد يلمز أخاه بعدُ أنّه نفسه حيث الوحدة الإيمانية، فلذلك تتركّز الاستجاشة هنا وهناك بروح الإيمان‏ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ...﴾ وشعور الاندماج في نفس واحدة[1].

 

6- تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾:

النبز وهو دون الثاني، لأنّ في هذه المرتبة يضيف إليه وصفاً ثابتاً فيه يوجب بغضه وحط منزلته، وأمّا النبز فهو مجرّد التسمية وإن لم يكن فيه، وذلك لأنّ اللقب الحسن والاسم المستحسن إذا وضع لواحد وعلّق عليه لا يكون معناه موجوداً، فإنّ من يُسمّى سعداً وسعيداً قد لا يكون كذلك، وكذا من لُقّب إمام الدين وحسام، الدين لا يُفهم منه أنه كذلك وإنّما هو علامة وزينة، وكذلك النبز بالمروان ومروان الحمار لم يكن كذلك وإنّما كان ذلك سمة ونسبة، ولا يكون اللفظ مراداً إذا لم يرد به الوصف، كما أنّ الأعلام كذلك، فإنّك إذا قلت لمن سُمّي بعبد الله أنت عبد الله فلا تعبد غيره، وتريد به وصفه لا تكون قد أتيت باسم علمه إشارة، فقال لا تتكبّروا فتستحقروا إخوانكم وتستصغروهم بحيث لا تلتفتوا إليهم أصلاً، وإذا نزلتم عن هذا من النعم إليهم فلا تعيبوهم‏ طالبين حطّ درجتهم والغضّ عن منزلتهم، وإذا تركتم النظر في معايبهم ووصفهم بما يعيبهم فلا تُسمّوهم بما يكرهونه ولا تقولوا هذا ليس بعيب يذكر فيه إنّما هو اسم يتلفّظ به من غير قصد إلى بيان صفة.

 

لم يقل لا تنبزوا، وذلك لأنّ اللمّاز إذا لمز فالملموز قد لا يجد فيه في الحال عيبا يلمزه به، وإنّما يبحث ويتبعه ليطلع منه على عيب فيوجد اللمز من جانب، وأما النبز فلا يعجز كل واحد عن الإتيان به، فإن من نبز غيره بالحمار وهو ينبزه بالثور وغيره، فالظاهر أنّ النبز يفضي في الحال إلى التنابز ولا كذلك اللمز. ولذا كانت الصياغة هي التنابز باب المفاعلة من النبز بأن يجعل كلّ



[1] الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن، محمد الصادقي الطهراني، ج27، ص 245.

178


152

حرمة المؤمن السخرية

 واحد منهما للآخر لقباً سيّئاً، وإنّما جاء بلفظ التنابز للدلالة على أنّ النبز لا بد وأن ينتهي الى المنابزة.

 

ورد في الروايات الشريفة أنّه يُستحبّ أن ينادي الأخ أخاه بأحبّ الأسماء إليه.

 

7- تفسير قوله تعالى: ﴿بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾:

قيل فيه إنّ المراد بئس أن يقول للمسلم يا يهودي بعد الإيمان أي بعد ما آمن، فبئس تسميته بالكافر، ويحتمل وجهاً أحسن من هذا: وهو أن يقال هذا تمام للزجر، كأنّه تعالى قال: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ولا تلمزوا ولا تنابزوا فإنه إن فعل يفسق بعد ما آمن، والمؤمن يقبح منه أن يأتي بعد إيمانه بفسوق فيكون قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[1] ويصير التقدير بئس الفسوق بعد الإيمان، وبئس أن تسموا بالفاسق بسبب هذه الأفعال بعد ما سميتموهم مؤمنين.

 

8- تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ[2]:

إنّ الآية الكريمة علّقت الوصف على عدم التوبة أي من لم يرجع إلى الله تعالى ويتوب من هذه الذنوب فهو من الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالمعصية وظلموا غيرهم بالسخرية والإساءة، ممّا يجعلهم في موقع العقوبة التى توعّد بها القرآن للظالمين.

 

والمعنى المحصّل من الآية: إذ كان كل من السخرية واللمز والتنابز معاصي فقد وجبت التوبة منها فمن لم يتب فهو ظالم: لأنّه ظَلَمَ الناس بالاعتداء عليهم، وظَلَمَ نفسه بأن رضي لها عقاب الآخرة مع التمكّن من الإقلاع عن ذلك فكان ظلمه شديداً جداً. فلذلك جي‏ء له بصيغة قصر الظالمين عليهم كأنه لا ظالم غيرهم لعدم الاعتداد بالظالمين الآخرين في مقابلة هؤلاء على سبيل المبالغة ليزدجروا. والتوبة واجبة من كل ذنب وهذه الذنوب المذكورة مراتب وإدمان الصغائر كبيرة.

 




[1] سورة الأنعام، الآية 82.

[2] سورة الأنعام، الآية 82.

179


153

حرمة المؤمن السخرية

 وتوسيط اسم الإشارة لزيادة تمييزهم تفظيعاً لحالهم وللتنبيه، بل إنّهم استحقّوا قصر الظلم عليهم لأجل ما ذكر من الأوصاف قبل اسم الإشارة[1].

 

الخلاصة أن  هذه الآية تحدّثت عن أربع مراتب في ما يرتبط بالتحقير والإيذاء من المؤمنين المعتقدين بالله عزّ وجلّ بالنسبة إلى قوم آخرين مؤمناً أو غير مؤمن.

 

فالأوّل: هو الأشدّ قبحاً وذمّاً، وهو السخر.

والثاني: بعده وليس فيه قهر وتذليل.

والثالث: مخصوص بالدعوة فقط وليس فيه تعقيب شديد.

والرابع: ما فيه خروج عن المقرّرات المضبوطة.

 

فالآية الكريمة فيها جميع ما يتعلَّق بآداب المعاشرة بين المؤمنين. ولا يخفى أنّ منشأ هذه الأمور: هو العجب والأنانيّة والمحروميّة عن مقام العبوديّة الحقيقيّة الباطنيّة[2].

 

بحث حول الآية

قواعد ثلاث في صيانة المجتمع الإسلامي:

القاعدة الأولى: عدم السخرية بين طوائف المجتمع الإسلامي:

فقد لعبت السخرية والاستهزاء بالآخرين دوراً كبيراً في تسقيط الآخرين والتشهير بهم. قال الطبرسي في تفسير الآية: "لمّا أمر سبحانه بإصلاح ذات البين ونهى عن التفرّق عقّب ذلك بالنهي عن أسباب الفرقة من السخرية والازدراء بأهل الفقر والمسكنة"[3].

 

القاعدة الثانية: عدم الطعن بالآخرين:

عدم طعن بعضكم على بعض ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾. "المؤمن مرآة المؤمن".

 



[1] ينظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور التونسي، ج26، ص 208.

[2] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج12، نبز، ص 26.

[3]  تفسير مجمع البيان، الطبرسي، ج9، ص 226.

180


154

حرمة المؤمن السخرية

 القاعدة الثالثة: التعيير بالألقاب السيئة يدل على انحطاط المجتمع.

فما يرسيه القرآن لتكوين المجتمع الإسلامي الفاضل وصيانته عن الانحطاط والتخلّف، هو مخاطبة الناس بعضهم مع بعض بالتقدير والاحترام والمحبة والمودّة, فينبغي أن يشيع فيما بينهم استعمال الألقاب الحسنة التي تدلّ على العقلانية والرفعة والتقدّم وتكشف عن تمسّك المجتمع بأصالته الإسلامية، وأما تخاطبهم بالألقاب السيئة كما يُعبّر القرآن الكريم بالتنابز, فبالإضافة إلى أنّها من الأمور المحرّمة تكشف عن تخلّف ذلك المجتمع وانحطاطه، فيقول عزّ وجلّ: ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾.

 

تهديد المجتمع بالضعف والفوضى:

"إنّ من أفتك الآفات التي تغتال مشاعر الإخاء والمودّة بين المجتمعات، استخفاف جماعة بجماعة، والنظر إليها نظراً ساخراً، فإنّ ذلك من شأنه أن يُغري هؤلاء المستخفّين المستهزئين بمن استخفّوا بهم، ونظروا إليهم باستصغار واستهزاء، ثم هو من جهة أخرى يحمل الجماعة المستخفّ بها، المستصغر لشأنها - على أن تدافع عن نفسها، وأن تردّ هذه السخرية، وهذا الاستهزاء بالسخرية والاستهزاء، ممن سخروا منهم، وهزءوا بهم.. وهذا أول قدح لشرارة الحرب.. فإنّ الحرب أولها الكلام، كما يقولون.

 

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ هؤلاء المستهزئين الساخرين قد يكونون أقل عند الله شأناً، من هؤلاء الذين اتخذوهم غرضاً للهزء والسخرية.

 

فلا ينبغي الانخداع بالظاهر، ووزن الأمور عليها، فكيف يكون الحال لو أنّ هؤلاء المستهزأ بهم كانوا عند الله أفضل وأكرم من هؤلاء المستهزئين؟

 

ألا يخافون أن ينتقم منهم الله لأوليائه؟ ألا يستحون أن يستخفّوا بمن هم أثقل منهم ميزاناً، وأكرم منهم معدناً؟ إنّ هذا أمر لو لم يؤثمه الدين، لأنكره العقل، ورفضته المروءة، وجفاه المنطق، ولفظه العدل والإنصاف. ومن الآفات التي تُهدّد كيان المجتمع، وتقوّض

 

181


155

حرمة المؤمن السخرية

 بنيانه، شيوع الاستخفاف بأنفسهم، وعدم التحرُّج من ذكر بعضهم بعضاً بالمقابح والمساوئ، فهذا إنّما يكون من إفرازات الجماعات المتحلّلة من القيم الخلقية، التي تتبادل المنكرات كما تتبادل السلع الرخيصة في البيع والشراء"[1].

 

الدروس المستفادة من الآية

1- الإيمان بالله تعالى لا يجتمع مع السخرية بالآخرين. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ﴾.

 

2- السخرية بالآخرين هي مفتاح للفتنة والعدواة بين المؤمنين.

 

3- ينبغي في طريقة إعلان الأحكام أو الآداب الأخلاقية من ملاحظة تنوّع المخاطبين وهذا قد يقتضي التكرار ﴿قَومٌ مِّن قَوْمٍ ... وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء﴾.

 

4- إنّ القضاء على الظواهر المنحرفة والعادات السيئة يكون بالقضاء على جذورها، وهكذا فعل القرآن الكريم فإنّ جذور السخرية على الآخرين هو التعالي عليهم والاعتقاد بأنّنا أفضل منهم.

 

5- وبما أنّ الإنسان لا يعرف بواطن الآخرين، فعليه أن لا يبني أحكامه على الظاهر، فلعلّ من اسُتهزء به هو ولي عند الله تعالى ﴿عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا﴾.

 

6- إنّ العيب الذي يصدر منّا تجاه الآخرين هو في الحقيقة يرجع إلى أنفسنا باعتبار وحدة الأخوة بين المؤمنين. ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾.

 

7- إنّ نقل عيوب الآخرين هو من العوامل لكشف عيوبنا باعتبار الوحدة المشار إليها. ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾.

 

8- إنّ السخرية بالآخرين واللمز والتنابز بالألقاب هي من الذنوب التي تستوجب التوبة ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.

 

9- في حال عدم التوبة من هذه المعاصي، سيكون الإنسان ظالماً وتترتّب عليه كل أحكام الظالم. ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.

 



[1]  التفسير القرآني للقرآن، ج13، ص 448.

182


156

حرمة المؤمن السخرية

 للمطالعة

جذور ومناشىء السخرية بالآخرين

1- إن من جذور الاستهزاء والسخرية بالآخرين هو امتلاك الثروة كما يقول القرآن: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ[1].

2- أحياناً يكون جذر الاستهزاء بالآخرين هو امتلاك بعض الأفراد للعلم والمعرفة كما يقول تعالى: ﴿فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون[2].

3- أحياناً يكون جذر الاستهزاء هو القوة الجسمانية يقول تعالى: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً[3].

4- أحياناً تكون جذور ذلك، الألقاب والمواقع الاجتماعية التي يكتسبها بعض الأفراد في المجتمع فينطلق من خلالها لتحديد علاقته مع الآخرين كما صوّر القرآن موقفهم من اتباع الأنبياء. ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا[4].

5- أحياناً تكون الدوافع التي تدفع الآخرين بالاستهزاء والسخرية بالمؤمنين هو محض التسلية واللهو.

6- أحياناً يكون السبب والدافع هو الطمع بالمال والمنصب فهذه الدوافع قد تجعل بعض الناس ينتقد الأشخاص الأتقياء والعلماء في المجتمع بل قد تصل الجرأة إلى انتقاد الرسول كما حصل فعلاً من بعض السفهاء. ﴿وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾[5].

7- أحياناً وفي الغالب تكون جذور الاستهزاء والسخرية هو الجهل. ﴿أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ[6].

8- أحياناً يكون مصدر الاستهزاء والسخرية هو نفس الأعمال التي يقوم به الآخرون فيستهزؤون بأعمالهم. ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ[7].




[1] سورة الهمزة، الآية 1.

[2] سورة غافر، الآية 83.

[3] سورة فصلّت، الآية 15.

[4] سورة هود، الآية 27.

[5] سورة التوبة، الآية 58.

[6] سورة البقرة، الآية 67.

[7] سورة التوبة، الآية 79.

183


157

حرمة المؤمن سوء الظن والتجسّس

 الدرس التاسع: حرمة المؤمن - سوء الظنّ والتجسّس

 

مفاهيم محورية:

- معنى سوء الظنّ.

- أقسام سوء الظن.

- بحث حول التجسُّس.

- القاعدة الكلية فيما بين المسلمين أنّهم سواسية.

- كشف عورات المؤمنين.

- متى يجوز التجسُّس؟

 

185


158

حرمة المؤمن سوء الظن والتجسّس

 النص القرآني

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾.

 

تمهيد

ثلاثة أمور من المحرّمات وتؤدّي إلى مفاسد اجتماعية كثيرة ومخاطر كبيرة وهي: سوء الظنّ، التجسُّس، الغيبة.

الأمر الأول: اجتناب سوء الظنّ، والمراد بالظنّ المأمور بالاجتناب عنه ظنّ السوء، فإنّ ظنّ الخير مندوب إليه كما يستفاد من قوله تعالى: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا[1].

 

الأمر الثاني: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ التجسُّس: تتبُّع العورات والعثرات والبحث عنها في الخفاء - غالباً - وهو محرّم كتاباً وسنة وعقلاً وإجماعاً. وقوله: ﴿لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾ إلى قوله ﴿حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ[2].

 




[1] سورة النور، الآية 12.

[2] سورة النور، الآيتان 27- 28.

187


159

حرمة المؤمن سوء الظن والتجسّس

 الأمر الثالث: الغيبة. وسيأتي بحث الغيبة بالتفصيل.

 

"يا كميل ذُبّ عن المؤمن فإنّ ظهره حمى الله، ونفسه كريمة على الله، وظالمه خصم الله، وأحذّركم من ليس له ناصر إلا الله"[1].

 

شرح مفردات الآية

اجْتَنِبُوا: جنب هو الميل والتنحية، بمعنى جعل الشيء في جنبه وانصرافه عنه، والجنب هو ما يلي الشيء من غير انفصال، أي الخارج الملاصق، كما أنّ الطرف هو منتهى الشيء داخلاً فيه[2].

 

الظنّ: هو اعتقاد ضعيف غير جازم ليس فيه يقين مستند إلى دليل قاطع، والأغلب فيه مخالفته للواقع وبهذا اللحاظ يكون اتّباعه مذموماً، وإن صادف موافقة للواقع[3].

 

تَجَسَّسُوا: جسّ: أصل واحد وهو تُعرّف الشيء بمسّ لطيف. يقال جسست العرق وغيره جسّاً. والجاسوس فاعول من هذا لأنّه يتخبّر ما يريده بخفاء ولطف. أنّ الجسّ هو التعرّف والتخبّر بتدبير ولطف[4].

 

يَغْتَبْ: والغِيبةُ: أَن يتكلّم خَلْفَ إنسان مستور بسوء، أَو بما يَغُمُّه لو سمعه وإِن كان فيه، فإِن كان صدقاً، فهو غِيبةٌ, وإِن كان كذباً، فهو البَهْتُ والبُهْتانُ[5].

 

المعنى التفصيلي

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾

 

- المراد بالظنّ المأمور بالاجتناب عنه ظنّ السوء فإنّ ظنّ الخير مندوب إليه.

 



[1] مصادر نهج البلاغة وأسانيده، عبد الزهراء الحسيني الخطيب، ج4، ص 11.

[2] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، ج2، ص 114- 115.

[3] (م.ن)، ج7، ص 180.

[4]  (م.ن)، ج2، ص 87.

[5] لسان العرب، ابن منظور، ج1، ص 656.

188


160

حرمة المؤمن سوء الظن والتجسّس

 والظنّ على قسمين: ظنٌّ حسن، وظنٌّ سيّء، الظنّ الحسن: فمن أحسن الظنّ بأخيه المؤمن فلا بأس عليه، وإن أخطأ بل هو المطلوب حسب الروايات. عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِه حَتَّى يَأْتِيَكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْه ولَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءاً وأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمِلًا"[1].

 

- ظنّ السوء: ومن أساء به الظنّ أيضاً لا بأس عليه وإن كان مخطئاً في ظنّه حيث لا حرية للإنسان في ظنونه وتصوّراته، أجل عليه أن لا يعوّل على سوء الظنّ ولا يرتّب عليه أيّ أثر في قول أو فعل وإلا استحقّ الذمّ والعقاب.فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاث لا ينجو منهنّ أحد: الظنّ، والطيرة، والحسد، وسأُحدّثكم بالمخرج من ذلك: إذا ظننت فلا تُحقّق، وإذا تطيّرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغِ"[2].

 

- الاجتناب عن الظنّ: يعني الاجتناب عن ترتيب الأثر عليه، كأن يظنّ بأخيه المؤمن سوءً فيرميه به ويذكره لغيره ويرتّب عليه سائر آثاره[3]. ومعنى عدم ترتّب الأثر أي لا ينبغي الاعتناء به عمليّاً، ولا ينبغي تبديل أسلوب التعامل مع المؤمن ولا تغيير الروابط معه، فعلى هذا الأساس فإنّ الإثم هو تفعيل الأثر في الواقع والبناء عليه.

 

- الظنّ بما هو نوع من الإدراك النفساني: هو أمر يفاجئ النفس لا عن اختيار فلا يتعلّق به النهي إلا إذا كان بعض مقدّماته اختيارياً. ويمكن للإنسان أن يُبدّل ظنّ السوء بظنّ الخير من خلال طريقة ومنهج تفكيره، بمعنى أن يُبعد عن نفسه سوء الظنّ بالتفكير في المسائل المختلفة، بأن يُفكّر في طريق الحمل على الصحة، وأن يُجسّد في ذهنه الاحتمالات الصحيحة الموجودة

 




[1] الكافي، الكليني، ج2، باب التهمة وسوء الظنّ، ح3، ص 362.

[2]  البرهان في تفسير القرآن، هاشم البحراني، ج5، الحجرات، ص 113.

[3] الميزان في تفسير القرآن، ج18، ص 325.

189


161

حرمة المؤمن سوء الظن والتجسّس

 في ذلك العمل، وهكذا يتغلّب تدريجاً على سوء الظنّ! فبناء على هذا ليس سوء الظنّ شيئاً خارج بالكلية عن اختيار الإنسان بل مقدّماته اختيارية فيمكن التدقيق بهذه المقّدمات قبل حصول سوء الظنّ في النفس.

 

المراد من ﴿كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ﴾ الظنّون السيّئة التي تغلب على الظنّون الحسنة بين الناس، لذلك عبّر عنها بـ "الكثير" وممّا يلفت النظر أنّه قد نُهي عن كثير من الظنّ، إلّا أنّه في مقام التعليل تقول الآية: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾،‏ ولعلّ هذا الاختلاف في التعبير ناشئ من أنّ الظنّون‏ السيّئة بعضها مطابق للواقع وبعضها مخالف له، فما خالف الواقع فهو إثم لا محالة، ولذلك قالت الآية: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾،‏ وعلى هذا فيكفي هذا البعض من الظنّون الذي يكون إثماً أن نتجنّب سائر الظنّون لئلّا نقع في الإثم!

 

سوء الظنّ هو نقطة وصل بين ما تقدّم من لمز واستهزاء وما سيأتي من تجسُّس وما شابه ذلك، فالظنّ هو السبب فيما تقدّم وعليه تُبنى القبائح، ومنه يظهر العدو المكاشح والقائل إذا أوقف أموره على اليقين فقلّما يتيقّن في أحد عيباً فيلمزه به، فإنّ الفعل في الصورة قد يكون قبيحاً وفي نفس الأمر لا يكون كذلك، لجواز أن يكون فاعله ساهياً أو يكون الرائي مخطئاً، وهكذا سوء الظنّ باعث على التجسُّس، والتجسُّس باعث على كشف الأسرار الى آخره.

 

روي عن الامام الصادق عليه السلام: "حسن الظنّ أصله من حسن إيمان المرء وسلامة صدره، وعلامته أن يرى كلّ ما نظر إليه بعين الطهارة والفضل، من حيث ركب فيه، وقذف في قلبه، من الحياء، والأمانة، والصيانة والصدق، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أحسنوا ظنونكم بإخوانكم، تغتنموا بها صفاء القلب، ونماء الطبع"[1].



[1] مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة، المنسوب للإمام الصادق عليه السلام، في حسن الظنّ، ص 173.

190


162

حرمة المؤمن سوء الظن والتجسّس

 فهذه هي عناصر الإيمان حقاً، فالمؤمن حييّ أمين يصون سرّ الناس ويتعامل معهم بالصدق، يصدق هذا فقط عند صلاح الزمان أو بين التجمع الصالح الذي تتسم علاقاتهم بالأخوة الإيمانية.

 

إنّ المضاد لسوء الظنّ هو حسن الظنّ بالآخرين ويقصد به توجيه النظر إلى الجانب الإيجابيّ كاحتمال معقول يمنع عن الحكم المرتكز على الظنّ، كما ورد في الحديث المتقدّم: "لا تظنَّنَّ بكلمة خرجت..." ممّا يوحي بأنّ الاحتمال الواحد في المائة لا بدّ من أن‏ يوقف المؤمن عن الحكم بنسبة التسعة والتسعين بالمائة، فلعلّ الحقّ في الواحد، ولكن ليس معنى ذلك أن يكون المؤمن ساذجاً لا يحذر من الاحتمالات المضادة.

 

بحث حول الآية

أقسام سوء الظنّ:

سوء الظنّ على ثلاثة أقسام:

1- سوء الظنّ بالله تعالى: هو الأمر الذي يقابل حسن الظنّ بالله تعالى. عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام "قَالَ أَحْسِنِ الظنّ بِالله فَإِنَّ الله عزّ وجلّ يَقُولُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ بِي إِنْ خَيْراً فَخَيْراً وإِنْ شَرّاً فَشَرّاً"[1]. ومعنى حُسن الظنّ بالله عزّ وجلّ هو اعتماد الإنسان المؤمن على ربِّه في أموره كلها، ويقينه الكامل وثقته التامة بوعد الله ووعيده، واطمئنانه بما عند الله، وعدم الاتكال المُطلق على تدبير نفسه وما يقوم به من أعمال. وكما أنّ حسن الظنّ بالله تعالى هو منشأ الخيرات فسوء الظنّ بالله هو منشأ الشرور، فقد جاء في كتاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الذي كتبه للأشتر النخعي لمّا ولّاه على مصر: "... فَإِنَّ الْبُخْلَ والْجُبْنَ والْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى - يَجْمَعُهَا سُوءُ الظنّ بِالله..."[2].

 



[1] الكافي، الكليني، ج2، باب حسن الظنّ بالله عزّ وجلّ، ح3، ص 72.

[2] نهج البلاغة،  53 ومن كتاب له عليه السلام كتبه للأشتر النخعي، ص 430.

191


163

حرمة المؤمن سوء الظن والتجسّس

 وعلى كلّ حال فإنّ سوء الظنّ بالله ينشأ من عدم معرفته تعالى بما هو أهله، فالجاهل به لا يعرفه من جهة ما هو جواد فيّاض بالخيرات لمن استعدّ لذلك فيسوء ظنّه.

 

2- سوء الظنّ بالآخرين: وهو مورد الآية الكريمة وقد تقدّم بحثه.

 

3- سوء الظنّ بالنفس: وهي من الموارد الممدوحة في الروايات كما وصف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام المتقين: "فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ"[1] والمراد أنهم يظنّون بأنفسهم التقصير أو الميل إلى الدنيا، أو عدم الإخلاص في النية أو الأعم، أو يشكّون في شأنها ونياتها، ويخافون أن يكون مقصودها في العبادات الرئاء والسمعة، وأن تجرها العبادة إلى العجب، فلا يعتمدون عليها. والإشفاق، الخوف، وإشفاقهم من السيئات وإن تابوا منها لاحتمال عدم قبول توبتهم، ومن الحسنات لاحتمال عدم القبول، لاختلال بعض الشرائط، وشوب النية، أو للأعمال السيئة وقد قال الله عزّ وجلّ:﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾[2] [3].

 

عندما ندرس ظاهرة "سوء الظنّ" من الناحيتين النفسية والاجتماعية بمجمل تأثيراتها على الفرد والمجتمع  نكتشف أنها هي ذلك (المرض) الخطير الذي يُحطّم جهاز المناعة لدى المجتمعات والأفراد ليحوّل رياضها النضرة وجنانها الغنّاء إلى صحارى قاحلة تحرقها أشعة الشمس اللافحة والى خرائب تنعق فيها الغربان.

 

إنّ (سيّء الظنّ) يرصد كلّ تحرّك وكلّ همسة وكلّ نظرة ويحسب لها ألف حساب ثم تراه لا يحملها إلا على أسوأ المحامل. فيا ترى ما هو السبب الذي دعا (زيداً) لكي يؤسّس مدرسة بالقرب من مدرستي! أو مسجداً أو مكتبة أو متجراً أو غير ذلك؟

 



[1] نهج البلاغة، 193 ومن خطبة له عليه السلام يصف فيها المتقين، ص 304.

[2] سورة المائدة، الآية 27.

[3] ينظر: بحار الأنوار، ج64، ص 325.

192


164

حرمة المؤمن سوء الظن والتجسّس

 إنّ هدفه واضح وضوح الشمس, لقد أراد أن ينافسني ويحطّم مدرستي! ولماذا ـ يا ترى ـ لم يقم (عمرو) لي، عندما دخلت المجلس؟ إنّ من الواضح أنه رآني وتعمّد أن لا يقوم لي استخفافاً بي وهدراً لكرامتي أمام الناس! وأرأيت كيف نظر (بكر) إليّ؟ وكيف تغامز مع (خالد)؟ ثم كيف عاملني صديقهما (أحمد) ببرود؟.  ويمكن تلخيص قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾. بجملة واحدة هي: كلّ إنسان بري‏ء حتى تثبت إدانته.

 

الأمن الاجتماعي الكامل[1]:

إنّ النهي عن سوء الظنّ بالآخرين هو من أهمّ الأمور لتكوين الأمن الاجتماعي للمجتمع المسلم فإنّ ما تحدّثت به هذه الآية والآية السابقة من النهي عن الأمور الستة، إذا نُفّذ ذلك النهي شعر المجتمع بالعزّة والكرامة والترابط الأخوي وساده المحبّة والمودّة والوئام (فإنّ سمعة وكرامة الأفراد في ذلك المجتمع تكون مضمونة من جميع الجهات، فلا يستطيع أحد أن يسخر من الآخرين -على أنه أفضل- ولا يمدّ لسانه باللمز، ولا يستطيع أن يهتك حرمتهم باستعمال الألقاب القبيحة ولا يحقّ له حتى أن يسي‏ء الظنّ بهم، ولا يتجسّس عن حياة الأفراد الخاصة ولا يكشف عيوبهم الخفية (باغتيابهم)، وبتعبير آخر إنّ للإنسان رؤوس أموال أربعة ويجب أن تُحفظ جميعاً في حصن هذا القانون وهي: "النفس والمال والناموس وماء الوجه". والتعابير الواردة في الآيتين محل البحث والروايات الإسلامية تدلّ على أنّ ماء وجه الأفراد كأنفسهم وأموالهم بل هو أهم من بعض الجهات. الإسلام يريد أن يحكم المجتمع أمنٌ مطلق، ولا يكتفي بأن يكفّ الناس عن ضرب بعضهم بعضاً فحسب، بل أسمى من ذلك بأن يكونوا آمنين من ألسنتهم، بل وأرقى من ذلك أن يكونوا آمنين من تفكيرهم وظنّهم أيضاً... وأن يحسّ كل منهم أنّ الآخر لا يرشقه بنبال

 




[1] ينظر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي، ج16، ص 551- 552.

193


165

حرمة المؤمن سوء الظن والتجسّس

 الاتهامات في منطقة أفكاره. وهذا الأمن في أعلى مستوى ولا يمكن تحقّقه إلّا في مجتمع رسالي مؤمن. يقول النّبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الصدد: "إنّ الله حرّم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظنّ به السوء" إنّ سوء الظنّ لا أنّه يؤثّر على الطرف المقابل ويسقط حيثيّته فحسب، بل هو بلاء عظيم على صاحبه لأنّه يكون سبباً لإبعاده عن التعاون مع الناس ويخلق له عالماً من الوحشة والغربة والانزواء، كما ورد في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: "من لم يُحسن ظنّه استوحش من كلّ أحد"  وبتعبير آخر، إنّ ما يفصل حياة الإنسان عن الحيوان ويمنحها الحركة والرونق‏ والتكامل هو روح التعاون الجماعي، ولا يتحقّق هذا الأمر إلّا في صورة أن يكون الاعتماد على الناس (وحسن الظنّ بهم) حاكماً... في حين أنّ سوء الظنّ يهدم قواعد هذا الاعتماد، وتنقطع به روابط التعاون، وتضعف به الروح الاجتماعية.

 

بحث حول التجسُّس:

1- التجسُّس‏ بالجيم تتبُّع ما استتر من أمور الناس للاطلاع عليها، ومثله التحسُّس بالحاء المهملة إلا أن التجسُّس بالجيم يُستعمل في الشر، والتحسُّس بالحاء يُستعمل في الخير، ولذا قيل: معنى الآية لا تتبعوا عيوب المسلمين لتهتكوا الأمور التي سترها أهلها[1]. والتحسُّس كما ورد على لسان يعقوب في وصيته ولده!

 

﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ[2].

 

2- ﴿...وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ عن معايب المؤمنين، وإنّما تحسّسوا عن محاسنهم، إظهاراً للجميل وستراً للقبيح، فالتفتيش عمّا استتر من أمور الناس أو عيوبهم محظور جماعي عارم، يُعكّر جو الطمأنينة والراحة، ويبدله إلى الاضطراب والعاهة، وإنّ التجسُّس عن أسرار المؤمنين محظور بأي لون وعلى أية حال.

 




[1] الميزان في تفسير القرآن، ج18، ص 325.

[2] سورة يوسف، الآية 87.

194


166

حرمة المؤمن سوء الظن والتجسّس

 فالآية نهت عن التجسُّس مطلقاً، والبحث عن أسرار الآخرين الخفية، ممّا لا يريدون اطلاع الناس عليها يشمل قضاياهم الذاتية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو العسكرية وغير ذلك، لأنّ الله أعطى الحياة الخاصة حرمة شرعية لم يجز للغير اقتحامها، وجعل للإنسان الحق في منع غيره من الاعتداء عليها بأيّة وسيلة من وسائل المعرفة الظاهرة أو الخفية.

 

3- كما تُحرِّم الآية التجسُّس الفردي تُحرِّم تجسُّس الدولة على رعاياها، إلا إذا اقتضت مصلحة الأمة، فلا بد أن يخضع ذلك للقضاء القائم على أساس أحكام الشريعة. كما سيأتي في الاستثناء.

 

4- القاعدة الكلية فيما بين المسلمين أنهم سواسية انطلاقاً من مبدأ ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ فإنّ المسلمين سواسية فيما بينهم لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود ولا لغني على فقير ولا لرئيس على مرؤوس إلا بالتقوى، فالجميع أمام القانون وفي الأحكام الشرعية على حدٍّ سواء، وقد دلت على ذلك الآيات التي خاطبت المؤمنين والمسلمين، والروايات والتشريعات للأحكام فهي شاملة للجميع على حدٍّ سواء.

 

فالإنسان المسلم محترم الكرامة ومصون العرض والمال والدم ومكفول الحرية في المجتمع الإسلامي الذي يتكافأ فيه الجميع ويعيشون فيه متساوين ولا يجوز لأحد أن يتعدّى على أحد بأي ذريعة كانت، فلا يجوز التجسُّس ولا سوء الظنّ ولا الغيبة ولا الإهانة لبعض الأفراد أو الجماعات وكشف عوراتهم وأسرارهم الفردية أو العائلية أو الزوجية أو الأخلاقية، وقد شدّد الإسلام على ذلك أيّما تشديد حتى في الأمور الصغيرة التي يكرهها المسلم والمسلمة وحتى من أقرب المقرّبين إليه فضلاً عن الأجانب، وبهذا يضع قاعدة كلية عامّة وشاملة لكلّ أفراد المجتمع يتساوى فيها الضعيف والقوي والرجل والمرأة والرئيس والمرؤوس والعربي والأعجمي.

 

195


167

حرمة المؤمن سوء الظن والتجسّس

 قال بعض المفسّرين: هذا مبدأ من مبادئ الإسلام الرئيسية في نظامه الاجتماعي، وفي إجراءاته التشريعية والتنفيذية. إنّ للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز أن تُنتهك في صورة من الصور، ولا أن تُمسّ بحال من الأحوال.

 

ففي المجتمع الإسلامي الرفيع الكريم يعيش الناس آمنين على أنفسهم، آمنين على بيوتهم، آمنين على أسرارهم، آمنين على عوراتهم. ولا يوجد مبرّر - مهما يكن- لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار والعورات. حتى ذريعة تتبُّع الجريمة وتحقيقها لا تصلح في النظام الإسلامي ذريعة للتجسُّس على الناس. فالناس على ظواهرهم، وليس لأحد أن يتعقّب بواطنهم. وليس لأحد أن يأخذهم إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم.

 

وليس لأحد أن يظنّ أو يتوقّع، أو حتى يعرف أنّهم يزاولون في الخفاء مخالفة ما، فيتجسُّس عليهم ليضبطهم! وكل ما له عليهم أن يأخذهم بالجريمة عند وقوعها وانكشافها، مع الضمانات الأخرى التي ينصّ عليها بالنسبة لكل جريمة[1].

 

5- كشف عورات المؤمنين. العورة ليست هي مجرّد القبل والدبر للرجل والمرأة التي لا يجوز أن تكشف للآخرين، ولا يجوز للأجنبي أن ينظر إليها، وهناك جملة من الروايات تُنبّه أنّ العورة أعمّ من ذلك وتشمل أسرار الآخرين.

 

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ قَالَ "قُلْتُ لَه عَوْرَةُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَرَامٌ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ تَعْنِي سُفْلَيْه قَالَ لَيْسَ حَيْثُ تَذْهَبُ إِنَّمَا هِيَ إِذَاعَةُ سِرِّ"[2]. والضمير في له للصادق عليه السلام، وفي النهاية العورة كل ما يستحيي منه إذا ظهر، انتهى.

 

وغرضه عليه السلام أنّ المراد بهذا الخبر إفشاء السر لا أنّ النظر إلى عورته ليس بحرام، والمراد بحرمة العورة حرمة ذكرها وإفشائها والسفلين العورتين، وكنّى عنها لقبح التصريح بهما[3].

 



[1] ينظر: في ظلال القرآن، ج6، ص 346.

[2] الكافي، الكليني، ج2، باب الرواية على المؤمنين، باب الرواية على المؤمنين، ح2، ص 359.

[3] مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، محمد باقر المجلسي، ج11، ص 3.

196


168

حرمة المؤمن سوء الظن والتجسّس

 والتجسُّس كما تقدّم هو تتبُّع عثرات المسلمين والقرآن يرفض هذا العمل الدنيء من الناحية الأخلاقية، لتطهير القلب من مثل هذا الاتجاه اللئيم لتتبُّع عورات الآخرين وكشف سوآتهم. وتمشّياً مع أهدافه في نظافة الأخلاق والقلوب. وقد وردت الروايات الكثيرة التي تُندّد بهذا العمل الإجرامي وتوضح أنّ التجسُّس هو تتبُّع عثرات المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وإحصاء زلّاتهم وسلبياتهم سواء لمجرّد الرغبة وتجميع المعلومات أو كان بقصد أخذ مستمسكات عليهم وقت الحوار والمخاصمة والتغلّب عليهم في القضاء وإثار النعرات الطائفية والمذهبية كل ذلك نهى عنه الدين الإسلامي ووخّمه وبيّن أن من يتصرّف مثل هذا التصرُّف فسوف يقع هو في نفس المحذور بمعنى إذا تتبّع عثرات الآخرين فإنّ الله سيتتبّع عثراته وسوف يفضحه عاجلاً أم آجلاً.

 

عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام يَقُولُ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم "يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِه ولَمْ يُخْلِصِ الإيمان إِلَى قَلْبِه لَا تَذُمُّوا الْمُسْلِمِينَ ولَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّه مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِهِمْ تَتَبَّعَ الله عَوْرَتَه ومَنْ تَتَبَّعَ الله تَعَالَى عَوْرَتَه يَفْضَحْه ولَوْ فِي بَيْتِه"[1].

 

و"العورة كل أمر قبيح يستره الإنسان أنفة أو حياء، والمراد بتتبُّعها تطلُّبها شيئاً بعد شيء في مهلة والفحص عن ظاهرها وباطنها بنفسه أو بغيره، والمراد بتتبُّع الله تعالى عورته إرادة إظهارها على خلقه ومن أراد الله تعالى إظهار عورته وإعلان بواطن ما يكره إظهاره يفضحه بإظهارها ولو في جوف بيته إذ لا مانع لإرادته تعالى ولا دافع لها"[2].

 



[1]  الكافي، الكليني، ج2، باب من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم، ح2، ص 354.

[2] شرح أصول الكافي، محمد صالح المازندراني، ج10، ص 4.

197


169

حرمة المؤمن سوء الظن والتجسّس

 وما يلفت النظر في هذه الرواية أنّ من يتتبّع عثرات المسلمين ويشوّه سمعتهم ولتفريق كلمتهم وإسقاطهم من أعين الناس لم يدخل الإسلام ولا الإيمان في قلبه ولم يتديّن بإسلامه بل هو مسلم بالجنسية دون الواقع مهما ادعى الإيمان أو اتباع أهل البيت عليهم السلام.

 

الحالات الاستثنائية في التجسّس:

حيث إنّ حفظ نظام المسلمين من أهمّ ما اهتمّ به الشرع فلا محالة وجبت مقدّماته بحكم العقل والفطرة. فعلى الدولة الإسلاميّة أن تحصل على الاطلاعات الكافية حول أوضاع الدول والأُمم الأجنبية وقراراتهم ضد الإسلام والمسلمين، وتجمع الأخبار حول تحرّكاتهم وتحرّكات عملائهم وجواسيسهم، ومؤامرات الكفّار وأهل النفاق والبغي والطغيان، وأن تراقب رجال الدولة والموظّفين وأحوال الناس وحوائجهم العامّة.

 

وهذه المسؤولية تُفوّض لا محالة من قِبَل الدولة إلى مؤسّسة عادلة صالحة من جميع الجهات، ويطلق عليها في اصطلاح عصرنا: "إدارة الأمن والاستخبارات". والهدف من هذا الجهاز ليس إلاّ حفظ مصالح الإسلام والمسلمين وتحكيم نظام العدل وإيجاد الاطمئنان للنفوس لا الحفاظ على منافع الرؤساء وتحكيم سلطتهم كيف ما كانوا وأرادوا ولو بالإخافة وكمّ أفواه الأُمّة المظلومة وسلب حرياتهم المشروعة، كما قد يتوهّم من سماع هذا اللفظ في أكثر البلاد. وعلى هذا فيجب أن يفوّض هذه المسؤولية إلى أهلها، وأن يدقّق في انتخاب الأعضاء لها، واختيارهم من بين العقلاء الأذكياء الملتزمين بالموازين الشرعية المهتمّين بمصالح الأفراد والمجتمع، ويجب أن يتعرّف كلّ منهم على ما يجب الاطّلاع عليه وما يحرم، ويميّز الخطّ الدقيق الفاصل بينهما، فإنّ الأمر في كثير من الموارد دائر بين الواجب المهمّ والحرام المؤكّد[1].

 




[1] نظام الحكم في الإسلام، حسين المنتظري، الاستخبارات العامة والهدف منها، ص 360.

198


170

حرمة المؤمن سوء الظن والتجسّس

 "... ومن هذا المنطلق أيضاً يمكن للحكومة الإسلامية أن تتّخذ أشخاصاً يكونون عيوناً لها أو منظمة واسعة للإحاطة بمجريات الأمور، وأن يواجهوا المؤامرات ضدّ المجتمع أو التي يُراد بها إرباك الوضع الأمني في البلاد، فيتجسّسوا للمصلحة العامة حتى لو كان ذلك في إطار الحياة الخاصة للأفراد! إلّا أنّ هذا الأمر لا ينبغي أن يكون ذريعة لهتك حرمة هذا القانون الإسلامي الأصيل، وأن يسوّغ بعض الأفراد لأنفسهم أن يتجسّسوا في حياة الأفراد الخاصة بذريعة التآمر والإخلال بالأمن، فيفتحوا رسائلهم مثلاً، أو يراقبوا الهاتف ويهجموا على بيوتهم بين حين وآخر!!. والخلاصة: أنّ الحدّ بين التجسُّس بمعناه السلبي وبين كسب الأخبار الضرورية لحفظ أمن المجتمع دقيق وظريف جداً، وينبغي على مسؤولي إدارة الأمور الاجتماعية أن يراقبوا هذا الحدّ بدقّة لئلّا تهتك حرمة أسرار الناس، ولئلّا يتهدّد أمن المجتمع والحكومة الإسلامية!."[1].

 

 

فهذا المبدأ الاجتماعي لا يشمل الحالات التي تمسّ فيها المصلحة العليا للإسلام والمسلمين والتي قد تستدعي الاطلاع على بعض الأوضاع الخفية للأشخاص والمواقع والأحداث المتعلّقة بالآخرين، ممّا يخاف ضرره، أو يُراد نفعه، فيجوز لوليّ أمر المسلمين اللجوء إلى هذا الأسلوب في نطاق الضرورة الأمنية والسياسية والاقتصادية، انطلاقاً من قاعدة التزاحم بين المهمّ والأهمّ، لتغليب المصلحة التي تقف في مستوى الأهمية القصوى على المفسدة الناشئة من التجسُّس، فإنّ حرمة المسلمين تتقدّم على حرمة الشخص أو الأشخاص في ذلك كله.




[1] الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، ج16، ص 554.

199


171

حرمة المؤمن سوء الظن والتجسّس

 للمطالعة

 

التجسُّس أقرب إلى الكفر

إنّ التجسُّس الذي يصدق عليه عنوان تتبُّع عثرات المسلمين هو أقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان ففيما إذا تآخى مع أحد من المسلمين على الدين والإيمان ثم أحصى عليه عثراته وزلّاته حتى يجعلها مستمسكاً عليه ليُعنّفه بها ويُعيّره عليها ويلومه من أجلها في يوم من الأيام فإنّ هذا العمل الدنيء أقرب ما يكون إلى خط الباطل والانحراف. كما جاء في الحديث الصحيح عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الباقر عليه السلام قَالَ: "إِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى الْكُفْرِ أَنْ يُوَاخِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَلَى الدِّينِ فَيُحْصِيَ عَلَيْهِ عَثَرَاتِهِ وَزَلَّاتِهِ لِيُعَنِّفَهُ بِهَا يَوْماً مَا"[1].

 

حكم  التجسُّس؟

الأصل هو حرمة التجسُّس ولا يجوز الخروج عن هذا الأصل إلا لعناوين ثبت من الشرع أهميتها القصوى والتي تمسّ بأمن المجتمع يقول بعض الفقهاء: "الأصل وهو عدم ولاية أحد على أحد, فمراقبة الغير والتجسُّس عليه وإذاعة عيوبه وأسراره نحو تصرّف في شؤون الغير والأصل يقتضي عدم جوازه. والآية الكريمة تدرّجت على هذا الشكل نهى الله تعالى أوّلاً: عن سوء الظنّ بالمؤمنين، وثانياً: عن التفتيش والتجسُّس على دخائلهم، وثالثاً: عن إذاعتها وإشاعتها على فرض الاطّلاع عليها، ولعلّ المستفاد من الآية أنّ حياة الإنسان إنّما هي بِعِرضِه وشخصيته الاجتماعية، والهتك لهما كأنه سلب لحياته هذه[2].




[1] الكافي، الكليني، ج2، باب من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم، ح6، ص 355.

[2] نظام الحكم في الإسلام، حسين المنتظري، وجوب حفظ أعراض المسلمين وأسرارهم، ص 357.

200


172

حرمة المؤمن الغيبة

 الدرس العاشر: حرمة المؤمن – الغيبة

 

 

مفاهيم محورية:

- مفهوم الغيبة وضررها.

- بشاعة الغيبة.

- اتساع نطاق الغيبة.

- مستثنيات حرمة الغيبة

- آثار الغيبة.

- علاج الغيبة.

- الدروس المستفادة من الآية.

201


173

حرمة المؤمن الغيبة

 النص القرآني

قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾.

 

تمهيد

إنّ حرمة الغيبة تُعدّ من بديهيات الفقه، وهي من المعاصي الكبيرة والموبقات المهلكة. وإنّ لهذه الخطيئة الكبيرة في عالم الغيب وراء حجاب الملكوت، صورة قبيحة وبشعة تفضح الإنسان في الملأ الأعلى أمام الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين. وهذه الصورة البشعة التي أشار إليها الآية: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ وإنّ لأعمالنا صوراً وأشكالاً تناسبها ستظهر بتلك الصور والأشكال لتعود إلينا في العالم الآخر،والمغتاب يضاهي الكلاب الجارحة في افتراسه لأعراض الناس ولحومهم، وسيظهر بهذه الصورة كلب ينهش لحم ميت في نار جهنّم.

 

والغيبة تُفسد أجزاء المجتمع واحداً بعد واحد فتسقطها عن صلاحية التأثير الصالح المرجو من الاجتماع وهو أن يخالط كلٌّ صاحبه ويمازجه في أمن وسلامة بأن يعرفه إنساناً عدلاً سوياً يأنس به ولا يكرهه ولا يستقذره، وأما إذا عرفه بما يكرهه ويعيبه به انقطع عنه بمقدار ذلك وضعفت رابطة الاجتماع فهي كالأكلة التي

203


174

حرمة المؤمن الغيبة

 تأكل جثمان من ابتلي بها عضواً بعد عضو حتى تنتهي إلى بطلان الحياة.‏ والإنسان إنّما يعقد المجتمع ليعيش فيه بهوية اجتماعية أعني بمنزلة اجتماعية صالحة لأن يخالطه ويمازج فيفيد ويستفاد منه، وغيبته بذكر عيبه لغيره تسقطه عن هذه المنزلة وتبطل منه هذه الهوية، وفيه تنقيص واحد من عدد المجتمع الصالح ولا يزال ينتقص بشيوع الغيبة حتى يأتي على آخره فيتبدّل الصلاح فساداً ويذهب الأنس والأمن والاعتماد وينقلب الدواء داء[1].

 

شرح مفردات الآية

الغيبة: ذكر العيب بظهر الغيب على وجه يمنع الحكمة منه[2] بكتابة أو إشارة أو لسان أو أيا كان. بمعنى أن يذكر من الإنسان في ظهر الغيب ما يسوءه لو ذكر به ولذا لم يعدّوا من الغيبة ذكر المتجاهر بالفسق بما تجاهر به.

 

علة تحريم الغيبة: الغيبة إساءة إلى المغتاب إذ تغضبه إذا سمع وتخلق فيه الضغينة والعداء لمن اغتابه، وإساءة إلى المجتمع الإسلامي السامي، إذ تخلق فيه جوّ اللّاأمن والفوضى كدراً قذراً، إفشاء للفاحشة في الذين آمنوا فجرأة جماعية على فعل الفاحشة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[3]. ففيها تضييع لحق فردي وآخر جماعي، فما أفحشها فاحشة وما أنكاها[4].

 

المعنى التفصيلي

صوّر الأسلوب القرآني رفض هذا السلوك بطريقة تصوير تخييلية فظيعة تثير النفور في النفس بصورة عفوية، باعتبارها تجسيداً حيّاً لوحشية هذا التصرُّف الذي يرفضه الوجدان الإنساني على مستوى الفرد والجماعة، لإثارة النفور في الوجدان




[1] تفسير الميزان، ج18، ص 324.

[2] تفسير مجمع البيان، الطبرسي، ج9، ص 228.

[3] سورة النور, الآية 19..

[4] الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن، ج 27، ص 251.

204


175

حرمة المؤمن الغيبة

 العام من ذاك السلوك. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ‏. فحبّ الغيبة تفكهاً يضاهي حبّ أكل لحم أخيك الميت، فالنيل من عرضه كأكل لحمه، وهو في غيابه، كأكل لحمه ميتاً أفلا تكرهونه؟ "فكرهتموه": ثالوث الكراهية العريقة في كل أحد وإن كان في أدنى درجات الإيمان، فلم يقل "فتكرهونه" كفعل مستقبل، وإنّما "فكرهتموه"، كماض، إيحاء بثبات هذه الكراهية: أن يأكل الإنسان لحم أخيه ميتاً، ثباتاً في الفطرة لكل أحد: "فكرهتموه": عافته أنفسكم وإن كنتم جائعين غرثى[1].‏

 

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾: المراد بالتقوى هو التجنّب عن هذه الذنوب التي كانوا يقترفونها بالتوبة إلى الله سبحانه فالمراد بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ أنّ الله كثير القبول للتوبة رحيم بعباده التائبين إليه اللائذين به. فالمراد بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ أنّ الله كثير الرجوع إلى عباده المتقين بالهداية والتوفيق والحفظ عن الوقوع في مهالك الشقوة رحيم بهم. وذلك أن التوبة من الله توبتان: توبة قبل توبة العبد بالرجوع إليه بالتوفيق للتوبة كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ﴾[2]، وتوبة بعد توبة العبد بالرجوع إليه بالمغفرة وقبول التوبة كما في قوله: ﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ[3].

 

بحث حول الآية

بشاعة الغيبة:

الغيبة من الأمراض الاجتماعية الفتّاكة التي تقضي على المجتمع وتحوّله إلى أحزاب وفئات متناحرة يأكل بعضها بعضاً، وقد عبّرت بعض الروايات أنّها الآكلة في دين الرجل كالآكلة في جسد الإنسان، ولذلك صوّر القرآن الكريم جريمة الغيبة بصورة بشعة ومقزّزة للنفس لم يصوّر غيرها من المحرّمات بهذه الصورة كما تقدّم.




[1] الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن، ج 27، ص 251- 252.

[2] سورة التوبة، الآية 118.

[3] سورة المائدة، الآية 39.

205


176

حرمة المؤمن الغيبة

 1- الغيبة في الاصطلاح:

 

الغيبة هي  ذكر الإنسان حال غيبته بما يكره نسبته إليه ممّا يعد نقصاً في العرف، بقصد الانتقاص والذم.

أو التنبيه على ما يكره نسبته إليه ممّا يُعدّ نقصاً في العرف، بقصد الانتقاص والذم  وهو أعم من الأول، لشمول مورده اللسان والإشارة والحكاية وغيرها لعموم الأدلّة الشاملة للسان وغيره وهذا التعريف قد اختاره الشهيد الثاني وهو الأولى.

 

2- اتساع نطاق الغيبة:

مع الأسف الشديد إنّ سرطان الغيبة قد انتشر في مختلف طبقات المجتمع وصار يجري فيها كما يجري الدم في العروق، ولم تسلم منه حتى بيوت بعض العلماء ومجالسهم الخاصة فهؤلاء لم يمارسوا السرقة أو الزنا وشرب الخمر ولكن البعض منهم يمارس الغيبة بكل سهولة وبأي مبرّر، وأقصد من هؤلاء البعض الذين قد تلبّسوا بلباس الدين ويعيشون على تسقيط الآخرين, هذا الصنف الذين ألّف الشهيد الثاني زين الدين العاملي قدس سره المتوفى 965 هـ بسببهم كتابه (كشف الريبة عن أحكام الغيبة) وقال حول هؤلاء في مقدمة كتابه ما نصّه:

"فلمّا رأيت أكثر أهل هذا العصر ممّن يتّسم بالعلم ويتّصف بالفضل وينسب إلى العدالة ويترشّح للرئاسة يحافظون على أداء الصلوات والدّؤوب في الصيام وكثير من العبادات والقربات ويجتنبون جملة من المحرّمات كالزناء وشرب الخمر ونحوهما من القبائح الظاهرات ثم هم مع ذلك يصرفون كثيراً من أوقاتهم ويتفكّهون في مجالسهم ومحاوراتهم ويغذّون نفوسهم بتناول أعراض إخوانهم من المؤمنين ونظرائهم من المسلمين، ولا يعدّونه من السيئات ولا يحذرون معه من مؤاخذة جبّار السماوات في سبب إقدام الناس على الغيبة والسبب المقدم لهم على ذلك دون غيره من المعاصي الواضحة، إمّا الغفلة عن تحريمه وما ورد فيه من الوعيد والمناقشة

206


177

حرمة المؤمن الغيبة

 في الآيات والروايات وهذا هو السبب الأقل لأهل الغفلات، وإمّا لأنّ مثل ذلك في المعاصي لا يخل عرفاً بمراتبهم ومنازلهم من الرئاسات لخفاء هذا النوع من المنكر على من يرومون المنزلة عنده من أهل الجهالات، ولو وسوس إليهم الشيطان أن اشربوا الخمر أو زنوا بالمحصنات ما أطاعوه لظهور فحشه عند العلة وسقوط محلّهم به لديهم بل عند متعاطي الرذائل الواضحات ولو راجعوا عقولهم واستضاؤوا بأنوار بصائرهم لوجدوا بين المعصيتين فرقاً بعيداً وتفاوتاً شديداً بل لا نسبة بين المعاصي المستلزمة للإخلال بحقّ الله سبحانه على الخصوص وبين ما يتعلّق مع ذلك بحقّ العبيد خصوصاً أعراضهم فإنّها أجل من أموالهم وأشرف ومتى شرف الشيء عظم الذنب في انتهاكه مع ما يستلزمه من الفساد الكلّي، كما ستقف عليه إن شاء الله، أحببت أن أصنع في هذه الرسالة جملة من الكلام على الغيبة وبما ورد فيها من النهي في الكتاب والسنة والأثر ودلالة العقل عليه وسمّيتها كشف الريبة عن أحكام الغيبة"[1].

 

3- أقسام الغيبة:

لمَّا عرفت أنَّ المراد منها ذكر أخيك بما يكرهه منه لو بلغه أو الإعلام به أو التنبيه عليه، كان ذلك شاملاً لما يتعلَّق بنقصان في بدنه أو نسبه أو خُلقه أو فعله أو قوله أو دينه أو دُنياه حتى في ثوبه وداره ودابَّته.

 

وقد أشار الإمام الصادق عليه السلام إلى ذلك بقوله: "وجوه الغيبة تقع بذكر عيب في الخلق والفعل والمعاملة والمذهب والجهل وأشباهه"[2]. فالبدن كذكرك فيه العَمَش و... وأمَّا النّسب بأن يقول أبوه فاسق أو خبيث أو... 

 

وأما الخلق بأن يقول إنّه سيّئ الخلق محيل متكبِّر... وأمَّا في أفعاله المتعلِّقة بالدِّين كقولك سارق



[1] كشف الريبة عن أحكام الغيبة، الشهيد الثاني، في سبب اقدام الناس على الغيبة، ص 3-4.

[2] مستدرك الوسائل، ج9، ص117.

207


178

حرمة المؤمن الغيبة

 كذَّاب، مُتهاون بالصلاة،... وأمَّا فعله المتعلِّق بالدنيا كقولك: قليل الأدب، متهاونٌ بالناس،.... وأمَّا في ثوبه كقولك: إنَّه وسخ الثياب،... واعلم أنَّ ذلك لا يقصر على اللسان بل التلفّظ به، إنَّما حُرِّم لأنَّ فيه تفهيم الغير نقصان أخيكَ، وتعريفه بما يكرهه، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول، والإشارة والرمز والإيماء والغمز واللمز والكتابة والحركة، وكلّ ما يُفهم المقصود داخل في الغيبة مساوٍ للسان في المعنى الذي حُرِّم التلفُّظ به لأجله. ومن ذلك المحاكاة بأن يمشي متعارجاً...

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إذا كرِهَ من إنسانٍ شيئاً قال: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، ولا يُعيِّن، ومِن أضرِّ أنواع الغيبة غيبة المتّسمين بالفهم والعلم المرائين، فإنّهم يفهمون المقصود على صفة أهل الصلاح والتقوى ليظهروا من أنفسهم التعفّف عن الغيبة ويفهمون المقصود ولا يدرون بجهلهم أنَّهم جمعوا بين فاحشتين: الرِّياء والغيبة، وذلك مثل أن يذكر عنده إنسان فيقول: الحمد لله الذي لم يبتلنا بحبّ الرياسة أو حبِّ الدُّنيا، أو بالتكيّف بالكيفيَّة الفُلانيَّة أو بقول نعوذ بالله من قلَّة الحياء أو من سوء التوفيق، أو نسأل الله أن يعصمنا من كذا، بل مجرَّد الحمد على شيءٍ إذا عُلمَ منه اتّصاف المحدَّث عنه بما ينافيه ونحو ذلك فإنّه يغتابه بلفظ الدعاء وسمت أهل الصلاح، وإما قصده أن يذكر عيبه بضربٍ من الكلام المشتمل على الغيبة والرياء ودعوى الخلاص من الرذائل، وهو عنوان الوقوع فيها، بل في أفحشها، ومن ذلك أنَّه قد يُقدّم مدح من يريد غيبته فيقول: ما أحسن أحوال فلان ما كان يُقصّر في العبادات ولكن قد اعتراه فتورٌ وابتُليَ بما يُبتلى به كلّنا وهو قلَّة الصبر، فيذكر نفسه بالذمّ ومقصوده أن يذمّ غيره وأن يمدح نفسه بالتشبّه بالصالحين في ذمّ أنفسهم فيكون مغتاباً مرائياً مزكّياً نفسه فيجمع بين ثلاث فواحش وهو يظنّ بجهله أنَّه من الصالحين المتعفّفين عن الغيبة، هكذا يلعب الشيطان بأهل الجهل إذا اشتغلوا بالعلم والعمل من غير أن يتقنوا الطريق فيتبعهم ويحبط بمكائده عملهم ويضحك عليهم ويسخر منهم.

208


179

حرمة المؤمن الغيبة

 ومن أقسامها الخفيَّة الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجُّب، فإنّه إنّما يظهر التعجُّب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيزيد فيها فكأنّه يستخرج منه الغيبة بهذا الطريق، فيقول: عجبت ممَّا ذكرته ما كنت أعلم بذلك إلى الآن ما كنت أعرف من فلان ذلك، يريد بذلك تصديق المغتاب واستدعاء الزيادة منه باللّطف والتصديق لها غيبة بل الإصغاء إليها بل السكوت عند سماعها[1].

 

4- حكم المستمع للغيبة:

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "السامع للغيبة أحد المغتابين"[2].

ومراده السَّامع على قصد الرِّضا والإيثار لا على وجه الاتّفاق، أو مع القدرة على الإنكار ولم يفعل. ووجه كون المستمع والسامع على ذلك الوجه مغتابين لمشاركتهما للمغتاب في الرضا وتكيّف ذهنهما بالتصوّرات المذمومة التي لا تنبغي وإن اختلفا في أنَّ أحدهما قائل والآخر قابل.

 

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن رَدَّ الخلائق عن عرض أخيه بالغيب كان حقَّاً على الله أن يَردَّ عن عرضه يوم القيامة"[3].

 

مستثنيات حرمة الغيبة:

إذا كان الله قد حرّم الغيبة للأضرار الناجمة عنها على مستوى الفرد والمجتمع، فقد ذكر الفقهاء بعض الاستثناءات لحرمة الغيبة وذلك  في الموارد التي قد تكون المصلحة فيها في جانب الغيبة أكثر من المفسدة التي تختزنها الحرمة.

 

ويذكر الفقهاء نماذج من ذلك، منها: النصيحة للناس، فقد يحتاج كثير من الأفراد والجماعات إلى النصيحة في القضايا المتصلة بالعلاقات العامة والخاصة




[1] ينظر: كشف الريبة عن أحكام الغيبة، ص 13- 15.

[2]  مستدرك الوسائل، حسين النوري الطبرسي، ج9، ص 199.

[3]  (م.ن).

209


180

حرمة المؤمن الغيبة

 في مسائل الزواج والمشاركة والمسؤولية، ما قد يفرض الحاجة إلى التعرف على مواصفات الأشخاص المعنيين بالموضوع في عيوبهم الشخصية ونقاط ضعفهم العامة، لتفادي الوقوع في المشاكل المستقبلية إذا قدّر للعلاقة أن تنشأ معهم، ليكتشفوا العيوب بعد ذلك، فتكون الغيبة في هذه الدائرة أسلوباً وقائياً يمنع المشاكل قبل حدوثها، ويجنّب المجتمع من الوقوع في المهالك المرتقبة.

 

ومنها: حالة الظلم التي يحتاج فيها المظلوم إلى الحديث عن ظالمه بعيوبه الخفية المتصلة بمسألة الظلم، على رأي بعض، ليرفع الظلم عن نفسه بذلك، أو في مطلق عيوبه، على رأي بعض آخر، ليملك فرصة الدفاع عن نفسه بالهجوم على ظالمه والضغط على سمعته في نقاط ضعفه، ليتراجع عن ظلمه، أو ليضغط الآخرون في ذلك، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ‏، في ما استثناه من كلام المظلوم بالسوء ضد ظالمه.

 

ومنها: الحالات التي قد يكون فيها التستُّر على عيب الشخص مصدر خطر على المجتمع، لأنّ العيب قد يؤثّر تأثيراً سلبياً على سلامته، كما إذا كان هذا الشخص جاسوساً خفياً للأعداء الذين يكيدون للأمة أو للشخص البري‏ء، ممّا يجعل من إخفاء صفته خطراً محقّقاً على سلامة الفرد أو المجتمع، أو لأنّ إخفاء العيب يؤثّر على نفس صاحبه، باعتبار أن ظهوره قد يدفعه إلى إصلاحه، وإلى تغيير موقفه أو شخصيته، فتكون الغيبة مصدر خير له، كما تكون مصدر سلامة وخير للفرد والمجتمع في الفرضية الأولى.

 

فموارد الاستثناء لا تنحصر في عدد. نعم، الظاهر استثناء موضعين لجواز الغيبة من دون مصلحة:

أحدهما: ما إذا كان المغتاب متجاهراً بالفسق، فإن من لا يبالي بظهور فسقه بين الناس لا يكره ذكره بالفسق. نعم، لو كان في مقام ذمّه كرهه من حيث المذمّة، لكن المذمّة على الفسق المتجاهر به لا تحرم، كما لا يحرم لعنه.

210


181

حرمة المؤمن الغيبة

 الثاني: تظلُّم المظلوم وإظهار ما فعل به الظالم وإن كان متستّراً به - كما إذا ضربه في الليل الماضي وشتمه، أو أخذ ماله - جاز ذكره بذلك عند من لا يعلم ذلك منه[1].

 

آثار الغيبة:

إنّ الآثار الوضعية للغيبة تظهر في عالم الدنيا وفي البرزخ ويوم القيامة، ومنها:

1- إنّ المغتاب يأكل من لحمه يوم القيامة: روي عن الإمام علي عليه السلام: "اجتنب الغيبة فإنّها إدام كلاب النار, ثم قال: يا نوف (السائل) كذب من زعم أنه وُلد من حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة"[2]، ولا منافاة بين أن يأكل لحم الميتة أو أن يأكل لحم جسده.

 

2- الفضيحة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "... ومن مشى في غيبة أخيه وكشف عورته كانت أول خطوة خطاها وضعها في جهنّم وكشف الله عورته على رؤؤس الخلائق"[3].

 

3- حال المغتاب في عالم البرزخ: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مررت ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظافيرهم، فقلت: يا جبرئيل! من هؤلاء، قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم"[4].

 

4- الفضيحة في الدنيا: إنّ بعض مراتب الغيبة يدفع بصاحبها إلى الفضيحة في عالم الدنيا، عن إسحاق بن عمّار، قال: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذمّوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنّ من تتبّع عوراتهم تتبّع الله عورته، ومن تتبّع الله عورته يفضحه ولو في بيته"[5].




[1] ينظر: كتاب المكاسب، الشيخ مرتضى الأنصاري، الأمر الثالث: مستثنيات الغيبة، ص 342- 348.

[2] وسائل الشيعة، ج12، ص 283.

[3]  كشف الريبة، ص15.

[4] بحار الأنوار، ج 72، ص222.

[5] الكافي، ج2، ص354.

211


182

حرمة المؤمن الغيبة

 علاج الغيبة[1]:

- إنّ علاج هذا المرض الأخلاقي الخطير يحتاج إلى مجاهدة كبيرة، ومتابعة دقيقة، ولا بد من رعاية الأمور التالية للوقاية

من الوقوع في هذا المرض أو علاجه:

 

- أن يُفكّر في الآثار المفيدة التي تترتّب على معالجة هذه الموبقة، ويقارنها مع الآثار السيئة التي تترتب على الغيبة.

 

- أن يُفكّر ويتأمّل في الروايات التي تحدّثت عن الآثار الغيبية لهذه المعصية.

 

- أن يُفكّر في الآثار الدنيوية للغيبة كسقوط الإنسان من أعين الناس.

 

- من الناحية العملية فلا بد من كفّ النفس عن هذه المعصية لبعض الوقت مهما كان صعباً، ولجم اللسان، والمراقبة الكاملة للنفس، ومعاهدة النفس بعدم اقتراف هذه الخطيئة، ومراقبتها، والحفاظ عليها ومحاسبتها.

 

- معالجة العوامل والأسباب والجذور التي تؤدّي بالشخص أن يرتكب الغيبة، كالحسد والحقد والأنانية وحبّ الانتقام والتكبّر والغرور وأمثال ذلك.

 

- أن يُفكّر ويستحضر دائماً هذه الحقيقة وهي أنّ الغيبة حقّ الناس لأنها تتسبب في هدم سمعتهم والذهاب بماء وجوههم.

 

الدروس المستفادة من الآية

1- الإيمان الحقيقي يقتضي أن يتجنّب الإنسان الأفكار السيئة تجاه الآخرين وكل ما من شأنه هتك حرمة المؤمن ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا...﴾ (سوء الظنّ - التجسُّس - الغيبة).

 

2- من أجل الابتعاد وعدم الوقوع  بالمعصية حتماً، ينبغي الابتعاد والتجنُّب عن كلّ




[1] راجع: الأربعون حديثاً، روح الله الخميني، ص 290، (بتصرّف)، الأخلاق في القرآن، ناصر مكارم الشيرازي، ج 3، ص 91-93 (بتصرّف).

212


183

حرمة المؤمن الغيبة

 ما يُحتمل أنه معصية فينبغي الاجتناب عن الكثرة الإفرادية للظنّ المحتملة المعصية بلحاظ كلّ الأفراد، لكي لا نقع في بعض أفرادها القطعي الحرمة.

 

﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا ... إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ﴾.

 

3- في المجتمع الإيماني، الأصل هو الثقة والاعتماد على الآخرين وبرائته حتى يثبت بالدليل القاطع خلاف ذلك ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ﴾.

 

4- من أجل الابتعاد عن الغيبة لا بدّ من سدّ كلّ أبواب الغيبة، أيّ كلّ ما يُمهدّ الأرضية لهذه المعصية.﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ ... وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَ﴾.

 

5- المعصية في ظاهرها قد تبدو جميلة ولذيذة ويلتذّ بارتكابها الإنسان كالغيبة، ولكنّها في الباطن والصورة الملكوتية هي من أخبث الصور ومن أنتن الروائح ومن أبشع الأعمال ﴿يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا﴾.

 

6- من طرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الاستفادة من الأمثلة التي تُحرّك العواطف. ﴿وَلَا يَغْتَب ... بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ﴾.

 

7- الغيبة حرام لكلّ الأفراد من غير فرق بين صغير وكبير ولا بين عرق وعرق ولا بين مقام ومقام فالكلّ حرام. "لا يَغْتَبْ‏...أَحَدُكُمْ" هو شامل للجميع.

 

8- كما أنّ الميت لا يمتلك قدرة الدفاع عن نفسه فالمستغَاب هكذا من هذه الناحية "مَيْتاً".

 

9- الغيبة نوع من الافتراس الذي هو من علامات الحيوانات وبالفعل الذي يقوم بهذه المعصية فهو يُغلّب قواه الحيوانية على قواه العقلية. ﴿يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا﴾.

 

10- طلب التوبة والمعذرة من الله يترافق دائماً مع الرحمة الإلهية. ﴿تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾.

 

11- إن قبول التوبة من الله تعالى هو مظهر من مظاهر الرحمة. ﴿تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾.

213


184

حرمة المؤمن الغيبة

 ربط الآية (11) و (12) بالمحور:

هذا المقطع من سورة الحجرات يتضمّن المنهيات التي لا تتناسب مع أخلاقية المجتمع الإسلامي فينبغي على أفراد المجتمع اجتناب هذه الرذائل الأخلاقية من سخرية، ولمز، وتنابز بالألقاب، وسوء الظنّ، وتجسُّس، وأخيراً الغيبة. ودعى الله تعالى المؤمنين إلى التوبة من هذه الأعمال الشنيعة والموجبة لانفصام عُرى الأخوة بين المؤمنين وبالعمل بهذه المنهيات يجانب التقوى، والابتعاد عنها هو التقوى بعينها وكما هو واضح كل ذلك لا يتم إلا من خلال التربية الأخلاقية للمجتمع على ضوء سورة الحجرات.

 

رسالة الآية:

إنّ واقع أمتنا الإسلامية هي في أمسّ الحاجة لهذه الأخلاق الفاضلة والحفاظ على حرمات المؤمنين، لأنّه في رصد بسيط للأفراد المجتمع الإسلامي، نرى كم يعاني هذا المجتمع من أمراض أصبحت وللأسف من عاداته السلوكية والتي قد لا يستنكرها أغلب أفراده بل يمارسونها على أنّها أمور مألوفة وطبيعية فالسخرية والاستهزاء والهمز واللمز والغيبة هي مواد سفرنا واجتماعاتنا ومحادثاتنا وهذا إنْ دلّ على شيء فيدلّ على مدى الانحطاط الأخلاقي في المجتمع ممّا يجعله بحاجة إلى علاج هذه الأمراض المزمنة من خلال التزامه بالمبادىء العظيمة التي جاءت في سورة الحجرات.

214


185

حرمة المؤمن الغيبة

 

 

 

215 


186

حرمة المؤمن الغيبة

 للمطالعة

 

رواية جامعة في الغيبة

روي عن الإمام الصادق عليه السلام الغيبة حرام على كلّ مسلم، مأثوم صاحبها في كلّ حال، وصفة الغيبة: أن تذكر أحداً بما ليس هو عند الله عيب أو تذمّ ما تحمده أهل العلم فيه، وأمّا الخوض في ذكر الغائب بما هو عند الله مذموم وصاحبه فيه ملوم فليس بغيبة، وإن كره صاحبه إذا سمع به وكنت أنت معافاً عنه وخالياً منه ويكون في ذلك مبيّناً للحقّ من الباطل ببيان الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن على شرط أن لا يكون للقائل بذلك مراد غير بيان الحقّ والباطل في دين الله عزّ وجلّ، وأمّا إذا أراد به نقص المذكور بغير ذلك المعنى فهو مأخوذ بفساد مراده وكان صواباً، وإن اغتبت مبلغ المغتاب فاستحلّ منه، فإن لم تبلغه ولم تلحقه فاستغفر الله له. والغيبة تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى بن عمران عليه السلام المغتاب هو آخر من يدخل الجنة، إن تاب وإن لم يتب فهو أول من يدخل النار، قال تعالى: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ ووجوه الغيبة تقع بذكر عيب في الخلق والعقل والفعل والمعاملة والمذهب والجهل وأشباهه.

 

وأصل الغيبة متنوّع بعشرة أنواع:

1- شفاء غيظ.         2- ومساعدة قوم.

3- وتهمة.             4- وتصديق خبر بلا كشفه.

5- وسوء ظن.        6- وحسد.

7- وسخرية.          8- وتعجّب.

9- وتبرّم..           10- وتزيّن.

 

فإنْ أردت الإسلام فاذكر الخالق لا المخلوق فيصير لك مكان الغيبة عبرة ومكان الإثم ثواباً[1].

 

 



[1] مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة، المنسوب للإمام الصادق عليه السلام، في الغيبة، ص 204- 205.

216


187

التقوى معيار التفاضل

 الدرس الحادي عشر: التقوى معيار التفاضل

 

مفاهيم محورية: 

- نفي التفاخر في الإسلام.

- نفي العنصرية في الإسلام.

- قيمة التسابق في العمل الصالح.

- وظيفة التقوى في الإسلام.

- تلازم العمل والتقوى.

- موارد التقوى في القرآن.

- الدروس المستفادة من الآية.

217


188

التقوى معيار التفاضل

 النص القرآني

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.

 

تمهيد

قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، والآية استئناف مبيّن لما فيه الكرامة عند الله سبحانه، وذلك أنّه نبّههم في صدر الآية على أنّ الناس بما هم ناس يساوي بعضهم بعضاً لا اختلاف بينهم ولا فضل لأحدهم على غيره، وأنّ الاختلاف المترائي في الخلقة من حيث الشعوب والقبائل إنّما هو للتوصّل به إلى تعارفهم ليقوم به الاجتماع المنعقد بينهم إذ لا يتمُّ ائتلاف ولا تعاون وتعاضد من غير تعرّف، فهذا هو غرض الخلقة من الاختلاف المجعول، لا أن تتفاخروا بالأنساب وتتفاضلوا بأمثال البياض والسواد، فيستعبد بذلك بعضهم بعضاً، ويستخدم إنسان إنساناً، ويستعلي قوم على قوم، فينجرّ إلى ظهور الفساد في البر والبحر وهلاك الحرث والنسل فينقلب الدواء داء. نبَّه سبحانه في ذيل الآية بهذه الجملة أعني قوله: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ على ما فيه الكرامة عنده، وهي حقيقة الكرامة.

 219


189

التقوى معيار التفاضل

 شرح مفردات الآية

النَّاسُ: اسم للجمع من بني آدم، واحده: إِنْسَانٌ من غير لفظه، وقد يراد به الفُضلاء دون غيرهم، مراعاةً لمعنى الإِنسانيّة، وفي التنزيل العزيز:

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ[1]. إذا راجعنا المعاجم اللغوية نجدها ذكرت استعمالات ومعاني متعدّدة لكلمة "الناس". فمن معاني الناس في اللغة الحركة. كقول أم زرع "أناسَ من حلي أذني" يعني: أنّ زوجها أكرمها بحلي حتى أنّ هذه الحلي قد ملأت أذنيها فأصبحت هناك حركة لهذه الحلي قالت: أناس يعني: ظهرت حركة من هذه الحلي. ومنها: النسيان. ومنها: الأنس لأنّ بعضنا يأنس ببعض. منها: الظهور والبروز لأنّنا نبرز ونظهر، قال عزّ وجلّ عن موسى: ﴿إِنِّي آنَسْتُ نَارًا[2] يعني أبصرت ورأيت ناراً قد ظهرت[3].

 

خَلَقْنَاكُمْ: هو إيجاد شيء على كيفيّة مخصوصة وبما أوجبته إرادته واقتضته الحكمة. والفرق بين الخلق والإيجاد والأحداث والإبداع والتقدير والجعل والاختراع والتكوين: أنّ النظر في الإيجاد إلى جهة إبداع الوجود فقط، وفي الأحداث إلى الإيجاد من جهة الحدوث وكونه حادثاً، وفي الإبداع إلى الإيجاد على كيفيّة لم يسبقها غيرها، وفي الخلق إلى كون الإيجاد على كيفيّة مخصوصة، وفي الاختراع إلى جهة الاشتقاق بسهولة، وفي التقدير إلى جهة التحديد وتعيين الحدود فقط، وفي التكوين إلى الإيجاد ومن جهة حالة الكون والبقاء إجمالاً، وفي الجعل إلى جهة إحداث تعلُّق وارتباط[4].

 

جَعَلْنَاكُمْ: إضفاء حالة وهيئة وتقدير وصيرورة معيّنة على الخلق. ثانياً: تحويل المخلوق من هيئة لأخرى. فالمعنى المحصّل من الجعل هو ما يقرب من التقدير




[1] سورة البقرة، الآية 13. 

[2] سورة النمل، الآية 7.

[3] التحقيق في كلمات القرآن، ج1، أنس، ص 158، 163.

[4] التحقيق في كلمات القرآن، ج3، خلق، ص 115.

220


190

التقوى معيار التفاضل

 والتقرير والتدبير (ويجمعها تصيير الشيء على حالة) بعد الخلق والتكوين[1].

 

شُعُوبًا وقَبَائِلَ: الشعوب هو ما ينشعب من أصل نوع الإنسان، كالأسود والأحمر والأبيض والأصفر. الشعوب باعتبار الامتيازات الطبيعيّة الخارجيّة، والقبائل باعتبار الخصوصيّات الحاصلة بالنسب، وهذه الامتيازات لا توجب فضيلة ولا شرفاً في مقاماتهم المعنويّة - ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[2].

 

أَكْرَمَكُمْ: الأصل في الكرم هو ما يقابل الهوان، كما أنّ العزّة ما يقابل الذلَّة، والكبر ما يقابله الصغر. والذلَّة هو هوان بإذلال من هو أعلى منه، بخلاف الهوان، فيعتبر في العزّة مفهوم الاستعلاء والتفوّق، بخلاف الإكرام[3].

 

أَتْقَاكُمْ: وقى: كلمة واحدة تدلّ على دفع شيء عن شيء بغيره، ووقيته أقيه وقياً، والوقاية: ما يقي الشيء. واتّق الله: توقّه، أي اجعل بينك وبينه كالوقاية[4].

 

المعنى التفصيلي

نفي التفاخر:

التفسير الأول: الآية مسوقة لنفي التفاخر بالأنساب، وعليه فالمراد بقوله: "من ذكر وأُنثى" آدم وحوّاء.

على التفسير الأول معنى الآية: أَنَّا خلقناكم من أب وأُمّ تشتركون جميعاً فيهما من غير فرق بين الأبيض والأسود والعربي والعجمي وجعلناكم شعوباً وقبائل مختلفة لا لكرامة لبعضكم على بعض بل لأن تتعارفوا فيعرف بعضكم بعضاً ويتم بذلك أمر اجتماعكم فيستقيم مواصلاتكم ومعاملاتكم فلو فرض ارتفاع المعرفة من بين




[1]  التحقيق في كلمات القرآن، ج2، جعل، ص 89.

[2] التحقيق في كلمات القرآن، ج6، شعب، ص 68.

[3] التحقيق في كلمات القرآن، ج10، وقى، ص 47.

[4] التحقيق في كلمات القرآن، ج13، وقى، ص 184.

221


191

التقوى معيار التفاضل

 أفراد المجتمع انفصم عقد الاجتماع وبادت الإِنسانية، فهذا هو الغرض من جعل الشعوب والقبائل لا أن تتفاخروا بالأنساب وتتباهوا بالآباء والأمهات.

 

التفسير الثاني: وقيل: المراد بالذكر والأنثى مطلق الرجل والمرأة، والآية مسوقة لإِلغاء مطلق التفاضل بالطبقات كالأبيض والأسود والعرب والعجم والغني والفقير والمولى والعبد والرجل والمرأة.

 

وعلى الثاني معنى الآية: يا أيها الناس إنا خلقناكم من رجل وامرأة فكل واحد منكم إنسان مولود من إنسانين لا تفترقون من هذه الجهة، والاختلاف الحاصل بالشعوب والقبائل - وهو اختلاف راجع إلى الجعل الإِلهي - ليس لكرامة وفضيلة وإنّما هو لأن تتعارفوا فيتمّ بذلك اجتماعكم[1].

 

1- قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾:

 فيه تأكيد لمضمون الآية وتلويح إلى أنّ الذي اختاره الله كرامة للناس كرامة حقيقية اختارها الله بعلمه وخبرته بخلاف ما اختاره الناس كرامة وشرفاً لأنفسهم فإنّها وهمية باطلة فإنّها جميعاً من زينة الحياة الدنيا قال تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾[2]. وفي الآية دلالة على أن من الواجب على الناس أن يتَّبعوا في غايات الحياة أمر ربّهم ويختاروا ما يختاره ويهدي إليه وقد اختار لهم التقوى كما أنّ من الواجب عليهم أن يختاروا من سنن الحياة ما يختاره لهم من الدين[3].

 

2- قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾:

النداءات التي تكرّرت في الآيات السابقة كانت بلفظ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ وفي هذه الآية الكريمة جاء الخطاب بلفظ (أيها الناس). والسبب في تبديل الخطاب هو:




[1] تفسير الميزان، ج18، ص 226.

[2] سورة العنكبوت، الآية 64.

[3] تفسير الميزان، ج18، ص 227.

222


192

التقوى معيار التفاضل

 أوّلاً: هو تعقيب عام على هذه الأحكام وتلك الآداب، التي كانت خطاباً للذين آمنوا، ليرتّلوها، ويأخذوا أنفسهم بها.. وليس هذا فحسب، بل إنّ عليهم أن يراعوا هذه الأحكام وتلك الآداب مع غير المؤمنين.. مع الناس جميعاً، من كلّ أمّة، ومن كلّ دين.. إنّها أخلاق إنسانية، يجب أن تكون طبعاً وجبلّة فى المؤمن، يعيش بها فى الحياة كلّها، ومع الناس جميعاً، فلا تكون ثواباً يلبسه مع المؤمنين، حتى إذا كان مع غير المؤمنين نزعه فإنّه بهذا إنما ينزع كمالاً خلعه الله عليه، و يتعرّى من جلال كساه الله إياه[1]..

 

ثانياً: الخطاب هو للإنسانية جمعاء، فإنّ كلّ الناس لهم مرجعية واحدة وهم خلقوا من ذكر وأنثى ولا تفاضل بينهم من هذه الجهة أصلاً، وهذا يدلّ على الوحدة الإنسانية وهي قاعدة مهمة في فهم كل التشريعات الإسلامية فأنتم أيّها الناس- مؤمنين وغير مؤمنين- إخوة فى الإنسانية. كما كان المؤمنون إخوة في الإيمان. بناء على هذه القاعدة فإنّ علاقة المؤمنين بغيرهم ينبغي أن تقوم على أساس هذه الوحدة الإنسانية، فلا يجوز أن يتعالى العرب على العجم منهم بلغتهم أو عنصرهم، لأن هذه العقيدة الجاهلية ستُشكّل حاجزاً دون دخول سائر الشعوب في دين الله.

 

تنفي العنصرية:

هذه الآية الكريمة تهدينا إلى الأمور التالية:

أوّلاً: إلى مشروعية هذه التقسيمات الطبيعية وأنّها - في الأساس - نافعة، وعلينا أن نُعيدها الى طهرها، بعيداً عن كل ألوان العصبية والتعالي لنجني ثمارها الطيبة. وهذا ما يدعو اليه الإسلام كما جاء في النصوص الدينية من ضرورة صلة الرحم والتواصل مع العشيرة وما شابه ذلك.




[1] التفسير القرآني للقرآن، ج13، ص 454.

 223


193

التقوى معيار التفاضل

 ثانياً: أنّ التعارف بين الناس واحد من أهم مقاصد الشريعة الغرّاء، لماذا؟. لأنّه لولا معرفة الناس لما اكتملت حكمة الابتلاء في الخلق؟ أو لأنّ الابتلاء لا يتم إلا بالحرية والمسؤولية فلو اختلط الناس ببعضهم كيف يميز الصالح فيثاب عن المجرم فيعاقب؟ أم كيف تتراكم مكاسب المحسنين وتحصّن من أن يسرقها الكسالى والمجرمون؟ كلا. لا بدّ أن يُميَّز الناس عن بعضهم تمييزاً كافياً ليأخذ كلّ ذي حقٍّ حقّه، فيشجعه ذلك على المزيد من العطاء، ويأخذ التنافس دوره في دفع عجلة الحياة قدماً الى الامام.

 

ثالثاً: إنّ حكمة الاختلاف هو التكامل - بعد التنافس على الخيرات - وليس الصراع والتطاحن، وقد قال ربنا سبحانه: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى[1] ومن دون التعارف كيف يتمّ التعاون، إنّ على الناس أن يكتشفوا إمكانات بعضهم ليتبادلوا الخيرات، أما إذا تقوقعت كلّ طائفة في حدودها الجغرافية أو الاجتماعية ولم يتعارفوا فكيف يمكن التعاون بينهم؟.

 

قيمة التسابق على العمل الصالح:

ونفهم من هذه الآية: إنّ التنافس على العمل الصالح والتسابق في الخيرات هو هدف اختلاف الشعوب، وإن لكلٍّ منهم شرعة ومنهاجاً، بل إنّ هذا الاختلاف والتنوّع مطلوب إذا كان وسيلة للتنافس البنّاء، والتعارف والتعاون، كما أنّ الاختلاف بين الناس في مجتمع واحد هدفه التسارع الى الخيرات، والتعاون فيها، كذلك التفرع بين الشعوب والمجتمعات المتنوّعة أليس يقول ربّنا سبحانه: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ[2]. وإذا كان الهدف من هذا التنوّع التسارع في الخيرات، فإنّ أكرم الخلق عند الله من استبق إليها، فالأقرب إلى




[1] سورة المائدة، الآية 2. 

[2] سورة الزخرف، الآية 32.

224


194

التقوى معيار التفاضل

 الصراط المستقيم، والأسبق في الصالحات هو الأكرم، لأنّه الذي يُحقّق الهدف دون غيره، وإلى هذه تشير كلمة التقوى..

أليست‏ التقوى هي المعرفة بالله والعلم بشريعته، والاجتهاد في تنفيذها؟. وأصل الكلمة من الوقاية، أي التحصّن ضدّ أسباب الهلاك ولا تحصل هذه الوقاية من دون معرفة الطريق والاستقامة عليه، بعيداً عن أمواج الفتن، وضغوط الهوى ورياح الشهوات، لذلك كانت التقوى أرفع درجة من الإيمان، كما إنّ الإيمان أرفع درجة من الإسلام كما سيأتي. وإنّما رفع الإسلام قواعد المجتمع الفاضل على أساس التقوى، لأنّه من دونها تُمزّق العصبيات الجاهلية التجمّع البشري، ولا تدعه يتكامل، بل في كثير من الأوقات يتقابل مع بعضه، ويسير في طريق الهدم.

 

قال الله سبحانه: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا[1].

 

 

إنّ كلمة التقوى هي صبغة التجمّع الإيماني ومحوره، وعماد تماسكه، ومبعث قوّته، بينما العصبيات الجاهلية هي صبغة سائر المجتمعات غير الإيمانية.. وحين حارب الإسلام هذه العصبيات استطاع أن يصهر المجتمع الجاهلي المتشرذم في بوتقة التوحيد، ويبني منه تلك الحضارة التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً[2].

 

وظيفة التقوى في الإسلام:

1- حقيقة التقوى: التقوى من الوقاية بمعنى: التوقّي. وفي عرف المتشرّعة يقصد بها: التوقّي من عذاب الآخرة، أو من غضب الرحمن، أو من الابتعاد عن الله تعالى أو ما إلى ذلك.

 

ويستفاد من مجموع الآيات القرانية أنّ التقوى هي الإحساس بالمسؤولية والتعهُّد




[1]  سورة الفتح، الآية 26.

[2] ينظر: من هدى القرآن، ج13، ص 436 - 437 – 438.

225


195

التقوى معيار التفاضل

 الذي يحكم وجود الإنسان وذلك نتيجة لرسوخ إيمانه في قلبه حيث يصدّه عن الفجور والذنب ويدعوه إلى العمل الصالح والبرّ ويغسل أعمال الإنسان من التلوّثات ويجعل فكره ونيته في خلوص من أية شائبة. وحين نعود إلى الجذر اللغوي لهذه الكلمة نصل إلى هذه النتيجة أيضاً لأنّ "التقوى" مشتقة من "الوقاية" ومعناها المواظبة والسعي على حفظ الشيء، والمراد في هذه الموارد حفظ النفس من التلوّث بشكل عام، وجعل القوى تتمركز في أمور يكون رضا الله فيها.

 

2- مراتب التقوى: وقد قسّمها العلامة المجلسي رضوان الله عليه  إلى ثلاث مراتب:

- حفظ النفس من "العذاب الخالد" عن طريق تحصيل الاعتقادات الصحيحة.

- تجنُّب كلّ إثم وهو أعمّ من أن يكون تركاً لواجب أو فعلاً لمعصية.

- التجلُّد والاصطبار عن كلّ ما يشغل القلب ويصرفه عن الحقّ، وهذه تقوى الخواص بل خاص الخاص.

 

واستظهر أن يكون المقصود بالتقوى في الروايات التي جعلتها فوق الإيمان وجعلت اليقين أعلى منها: المعنى الثاني, إذ لو كان المقصود هو الأوّل لمّا صحّ جعلها فوق الإيمان، ولو كان المقصود الثالث لأشكل الفرق عن اليقين وكون اليقين فوقه. ثمّ قال: لكن درجات المرتبة الأخيرة ـ أيضاً ـ كثيرة، فيمكن حمل اليقين على أعلى درجاتها، فيجتمع مع تفسير التقوى بالمعنى الثالث أيضاً.

 

نماذج من موارد التقوى في القرآن:

إنّ القرآن جعل التمايز الأكبر بين البشر هو للتقوى، وعدّها معياراً لمعرفة القيم الإنسانية فحسب!.والعناوين التي تحدّثت عنها الآيات عن التقوى كثيرة منها:

1- خير الزاد: عدها خير الزاد إذ يقول: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ[1].




[1] سورة البقرة، الآية 197.

226


196

التقوى معيار التفاضل

 2- اللباس:  فقد عبّر عنها باللباس: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ[1].

 

 

3- أسس الدعوة: كما أنّه عبّر عنها في آيات آخرى بأنّها واحدة من أول أسس دعوة الأنبياء.

 

4- نسبها الله الى نفسه: ويسمو بها في بعض الآيات إلى أن يُعبّر عن الله بأنه أهل التقوى فيقول: ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾[2].

 

5- التقوى باب العلم: والقرآن يعدّ التقوى نوراً من الله، فحيثما رسخت التقوى كان العلم والمعرفة إذ يقول: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[3].

 

6- التقوى والبر: ويقرن التقوى بالبر في بعض آياته فيقول: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى﴾. أو يقرن العدالة بالتقوى فيقول: ﴿اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[4].

 

يعدّ القرآن كلّ عمل ينبع من روح الإيمان والإخلاص والنية الصادقة أساسه التقوى، كما جاء في وصفه في شأن "مسجد قبا" في المدينة حيث بنى المنافقون في قباله "مسجد ضرار" فيقول: ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ﴾[5].

 

تلازم العمل والتقوى:

عنْ مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام فَذَكَرْنَا الأَعْمَالَ فَقُلْتُ: أَنَا مَا أَضْعَفَ عَمَلِي فَقَالَ: "مَه اسْتَغْفِرِ الله ثُمَّ قَالَ لِي إِنَّ قَلِيلَ الْعَمَلِ مَعَ التَّقْوَى



[1] سورة الأعراف، الآية 26.

[2] سورة المدثر، الآية 56.

[3] سورة البقرة، الآية 282. 

[4] سورة المائدة، الآية 8.

[5]  سورة التوبة، الآية 108.

227


197

التقوى معيار التفاضل

 خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْعَمَلِ بِلَا تَقْوَى، قُلْتُ: كَيْفَ يَكُونُ كَثِيرٌ بِلَا تَقْوَى؟ قَالَ: نَعَمْ مِثْلُ الرَّجُلِ يُطْعِمُ طَعَامَه ويَرْفُقُ جِيرَانَه ويُوَطِّئُ رَحْلَه" كناية عن كثرة الضيافة وقضاء حوائج المؤمنين بكثرة الواردين إلى منزله "فَإِذَا ارْتَفَعَ لَه الْبَابُ مِنَ الْحَرَامِ دَخَلَ فِيه فَهَذَا الْعَمَلُ بِلَا تَقْوَى ويَكُونُ الآخَرُ لَيْسَ عِنْدَه فَإِذَا ارْتَفَعَ لَه الْبَابُ مِنَ الْحَرَامِ لَمْ يَدْخُلْ فِيه"[1].

 

وقد بيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة وهي أنّ العمل يُتقبّل من المتقين، ومن يسلب صفة التقوى لا يُقبل عمله قلّ أم كثر فلا عبرة بذلك قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[2].

 

واعلم أنّ الصادق عليه السلام سُئل عن تفسير التقوى فقال عليه السلام: أن لا يفقدك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك. وهذا هو بعينه قوله عليه السلام في أول الباب: ولكن ذكر الله عندما أحلّ وحرّم، فإن كان طاعة عمل بها، وإن كان معصية تركها. وهذا هو حدّ التقوى وهي العدّة الكافية في قطع الطريق إلى الجنة، بل هي الجنة الواقية من متالف الدنيا والآخرة، وهي الممدوحة بكل لسان. والمشرِّفة لكلّ إنسان، ولقد شُحن بمدحها القرآن، وكفاها شرفاً قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ[3] ولو كان في العالم خصلة أصلح للعبد وأجمع للخير وأعظم في القدر، وأنجح للآمال من هذه الخصلة التي هي التقوى لكان الله سبحانه أوصى بها عباده لمكان حكمته ورحمته، فلما أوصى بهذه الخصلة الواحدة جمع الأولين وآخرين واقتصر عليها علم أنها الغاية التي لا يتجاوز عنها ولا مقتصر دونها.



[1] الكافي، ج2، باب الطاعة والتقوى، ح 7، ص 76.

[2] سورة المائدة،الآية27. 

[3] سورة النساء، الآية 131.

228


198

التقوى معيار التفاضل

 الدروس المستفادة من الآية

1- الذكورة والأنوثة والأعراق والقبائل وما شابه ذلك ليست مورد افتخار وتفاضل بين الناس "خلقنا، جعلنا".

 

2- إنّ الحكمة من خلق البشر مختلفين في الأجناس والأعراق والألوان واللغات هو التعارف لا التفاخر. ﴿لِتَعَارَفُوا﴾.

 

3- إنّ الكرامة الظاهرية التي يكتسبها الإنسان في المجتمع من خلال بعض العناوين الاجتماعية هي زائلة لا محالة ولا ثبات لها، إنّما العبرة بالكرامة الحقيقية التي يكتسبها الإنسان عند الله تعالى ومدى قربه منه. ﴿أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ﴾.

 

4- القرآن الكريم لا يعترف بأي تميُّز عنصري أو قبلي أو اقتصادي أو ثقافي أو اجتماعي أو فكري أو سياسي بل يعتبر كل هذه الأمور وغيرها ليست مورداً للتمايز والتفاضل، إنّما ملاك التمايز والتفاضل عنده هو التقوى. ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.

 

5- إنّ التمايز موجود في الفطرة الإنسانية والقرآن الكريم حدّد المسار التصاعدي لهذا التمايز الفطري بالتقوى. ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.

 

6- لا يمكن ادعاء التقوى لأنّه حالة باطنية تتجسّد بالأعمال الصالحة، لأنّ الله ﴿عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.

 

ربط آية التقوى بالمحور:

إنّ المقطع السابق تضمّن المنهيات التي لا تتناسب مع أخلاقية المؤمن والمجتمع الإيماني، وهذه الآية الكريمة دعت إلى التقوى وجعلته المعيار الأساس للتفاضل بين البشر، وبيّنت أنّ أصل البشر واحد وهو الإنسانية، فترك المنهيات السابقة والعمل يما يوجب التقوى هو الذي يُجسّد الأخلاق في مجتمعنا الإسلامي وهذا ما دعت له سورة الحجرات في كلّ آياتها.

229


199

التقوى معيار التفاضل

  رسالة آية التقوى:

إنّ على الناس أن يتقرّبوا إلى الله تعالى كما يريد وذلك من خلال  العمل الصالح في المجتمع وأن يسارعوا إلى عمل ما يُقرّبهم من الله تعالى وأن يعلموا أنّ الأساس في علاقتهم مع بعضهم بعضاً هو تقوى الله وأن لا يتفاخروا ويتفاضلوا بالأعراق والأجناس والألوان والتي لا قيمة لها عند الله تعالى لأن ﴿أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.

 

230



200

التقوى معيار التفاضل

 للمطالعة

 

أهمية التقوى

قد لاحظت من خلال التدبّر في القرآن والروايات أخيراً أنّ المعيار الذي تؤكّد عليه الآيات والروايات أكثر من أيّ شيء آخر - حتّى من الإسلام نفسه - هو مسألة التقوى، فالتقوى هي التي تُرشد الناس - منذ بداية تديُّن الفرد أو المجتمع - إلى قبول دين الحقّ والاستجابة للأوامر الإلهية, ولذا يصف الباري عزّ وجلّ القرآن الكريم بأنّه ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾.

 

ومن البديهي أنّ الإنسان عندما يريد الاجتناب عن شيء ما فإنّ اجتنابه ذلك مستند على أصول ومعايير معيَّنة ومرتكز على مبنى فكرياً يؤمن به, ولهذا قد تجد إنساناً آخر - واستناداً إلى مبنى فكري آخر - لا يكتفي بعدم الاجتناب عن ذلك الشيء بل يمارسه وينجذب إليه، إذن فالمبنى الذي تستند إليه التقوى عند الإنسان المتديّن هو الدين. والتقوى الدينية تعني أنّ الإنسان أينما حلّ يجب عليه أن يكون مراقباً لنفسه لكي يصونها من الانحراف عن الطريق الصحيح، ويجب أن تكون تلك المراقبة شاملة لجميع الأعمال التي يمارسها الإنسان ولا سيّما الأعمال المهمة والأمور التي تعتبر معالِمَ في حياة الناس، وبالإخص لمسؤولي الدولة فيما يمارسونه من أمور ترتبط بإدارة شؤون البلاد.

 

فيجب على الإنسان رعاية الموازين الدينية في جميع تلك الشؤون، أن يرى ما هي الأمور التي تنسجم مع الأسس الدينية وتجلب رضا الله سبحانه وتعالى، فيأخذ بها من دون أي مجاملة، ويلاحظ الأمور المخالفة لرضا الباري عزّ وجلّ فيتركها، هذا هو المعيار الأساس[1].




[1] من كلمة للإمام الخامنئي دام ظله, ألقاها بتاريخ 22 ربيع الأول 1415هـ.ق.

231


201

الأعراب والصادقون

  

الأعراب والصادقون:

 

مفاهيم محورية:

- حقيقة الإيمان والإسلام.

- الفرق بين الإيمان والإسلام.

- تحقيق حول مراتب الإسلام والإيمان.

- من هم الأعراب؟

- قيمة العلاقة بالصادقين.

- اتباع الصادقين وبناء المجتمع الفاضل.

233


202

الأعراب والصادقون

 النص القرآني

قال الله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾.

 

تمهيد

كان الكلام في الآية المتقدّمة عن معيار القيم الإنسانية أي التقوى، وحيث إنّ التقوى ثمرة لشجرة الإيمان، الإيمان النافذ في أعماق القلوب، ففي الآيتين الآنفتين بيان لحقيقة الإيمان إذ تقول الآية الأولى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾‏.

 

وطبقاً لمنطوق الآية فإنّ الفرق بين "الإسلام" و "الإيمان" في أنّ: الإسلام له شكل ظاهري قانوني، فمن تشهّد بالشهادتين بلسانه فهو في زمرة المسلمين وتجري عليه أحكام المسلمين. أمّا الإيمان فهو أمر واقعي وباطني، ومكانه قلب الإنسان لا ما يجري على اللسان أو ما يبدو ظاهراً! الإسلام ربّما كان عن دوافع متعدّدة ومختلفة بما فيها الدوافع الماديّة والمنافع الشخصية، إلّا أنّ الإيمان ينطلق من دافع معنوي،

235


203

الأعراب والصادقون

 ويسترفد من منبع العلم، وهو الذي تظهر ثمرة التقوى اليانعة على غصن شجرته الباسقة!.

 

﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا﴾ إذ الإيمان تصديق مع ثقة وطمأنينة قلب، ولم يحصل لكم وإلا لمّا مننتم على الرسول بالإسلام وترك المقاتلة كما دلّ عليه آخر السورة ﴿وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ فإن الإسلام - الَّذي هو انقياد - دخول في السلم وإظهار الشهادة. وترك المحاربة يشعر به.

 

شرح مفردات الآية

الْأَعْرَابُ: العرب: اسم جنس كالعجم، وإذا نسب اليه بياء النسبة يقال عربيّ كالعجميّ والأعجميّ، فيدلّ على الإفراد. والأعراب: في الأصل جمع عرب، ثمّ يطلق على البدويّين، فإنّ الجمع فيه دلالة على التكثير والأفراد المختلفة المجتمعة، وهذا يلازم تحقيراً وتعميماً في قبال التشخّص والتعزّز والاختصاص. وفي الواحد يلحقه ياء النسبة، فيقال أعرابيّ، أي من ينسب إلى الأعراب. فالمراد هنا من الأفراد معناه اللغوي لا الاصطلاحيّ.

 

﴿وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ[1]. ﴿الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا[2].

 

﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ[3]. ﴿وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا[4]. يراد الأفراد العامّة الَّتى لا امتياز لهم ولا خصوصيّة ولا شخصيّة، وليس مخصوصاً بالبدويّين[5].



[1]  سورة التوبة، الآية 90.

[2] سورة التوبة، الآية 97.

[3] سورة التوبة، الآية 120.

[4] سورة التوبة، الآية 98.

[5] التحقيق في كلمات القرآن، ج8، عرب، ص 75.

236


204

الأعراب والصادقون

 آَمَنَّا: الأصل الواحد في مادة "أمن" في أي معنى استخدمت هو "الأمن والسكون ورفع الخوف والوحشة والاضطراب. يقال: أمن يأمن أمنا، أي اطمأنّ وزال عنه الخوف، فهو آمن، وذاك مأمون، ومأمون منه، والأمانة مصدر ويطلق على العين الخارجيّ الَّذى يتعلَّق به الأمن كالوديعة فهي مورد الأمن والمأمون عليها. والآمن هو المطمئنّ وبلدة آمنة إذا لم تكن فيها خوف ولا وحشة"[1].

 

أَسْلَمْنَا: الإسلام عبارة عن جعل شيء سلمًا أي موافقاً متلائماً لا يبقى خلاف ولا ترى جهة مغايرة ومنافرة. وللإسلام مراتب: الأوّل إسلام في الأعمال الظاهريّة وفي الأركان البدنيّة والجوارح والأعضاء الجسمانيّة، كما في: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾[2].

 

قُلُوبِكُمْ: قلب: أصلان صحيحان، يدلّ أحدهما على خالص شيء وشريفه، والآخر على ردّ شيء من جهة إلى جهة، فالأوّل - القلب، قلب الإنسان وغيره، لأنّه أخلص شيء فيه وأرفعه، وخالص كلّ شيء وأشرفه قلبه. والأصل الآخر - قلبت الثوب قلبا. والقلب: انقلاب الشفة، وهي قلباء، وصاحبها أقلب[3]. الأصل الواحد في المادّة: هو التحوّل المطلق في مادّيّ أو معنويّ، زمانيّ أو مكانيّ أو في حالة أو في صفة أو في موضوع[4].

 

لَا يَلِتْكُمْ: ليت يقال: لَاتَه عن كذا يَلِيتُه: صرفه عنه، ونقصه حقّاً له، لَيْتاً. قال تعالى: ﴿لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا﴾ أي: لا ينقصكم من أعمالكم، لات وأَلَاتَ بمعنى نقص، وأصله: ردّ اللَّيْتِ، أي: صفحة العنق[5].



[1] راجع: التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي،ج1، ص 151.

[2] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي،ج5، سلم،  ص 187- 188.

[3] معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكريا (ابن فارس)،ج5، ص 17.

[4] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج9، قلب،  ص 303. 

[5] مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ليت، ص 749.

237


205

الأعراب والصادقون

 يَرْتَابُوا: ريب: أصيل يدلّ على شكّ، أو شكّ وخوف[1]. الفرق بين الشكّ والارتياب: أنّ الارتياب شكّ مع تهمة، والشاهد أنّك تقول إنّى شاكّ اليوم في المطر، ولا يجوز أن تقول إنّى مرتاب بفلان: إذا شككت في أمره واتّهمته[2]. الأصل الواحد في هذه المادّة: هو التوهّم مع الشكّ، والتوهّم هو التخيّل والتصوّر والتمثّل مأخوذاً من أمور مشاهدة محسوسة أو معقولة، وهو يلازم الشكّ أو الظنّ، وعلى هذا فهو لا يقبل الاعتماد والاستناد إليه. ومن يطمئنّ عليه: يذمّ عند العقلاء. والتوهّم في مقابل اليقين والتصديق والتحقيق، ولا ينتج من الحقّ شيئاً. وبناء على هذا، فلا توجد الريبة في الله عزّ وجلّ وفي أسمائه وصفاته وأفعاله، ولا في مراتب تكوينه وخلقه، ولا في ما يظهر من جانبه كالوحي والإلهام والرسالة والأحكام الالهيّة والكتب المنزلة[3].

 

وَجَاهَدُوا: هو بذل الطاقة والسعي البليغ إلى أن ينتهي النهاية الممكنة ويبلغ غاية وسعه. ثمّ إنّ الاجتهاد إمّا بالمال أو بالبدن والأعضاء أو بالفكر، وكلّ منها إمّا في سبيل الله تعالى أو في طرق دنيويّة وأغراض شخصيّة. فالمجاهدة هو إدامة الجهد، والاجتهاد هو الجهد بالطوع والرغبة. ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ[4]، ﴿وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ[5]، ﴿فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ[6]، ﴿وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ[7] [8].



[1]  معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكريا (ابن فارس)،ج2، ص 463.

[2] الفروق، أبو هلال العسكري، الفرق بين الشكّ والارتياب ، ج1، ص 107.

[3] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج4، ريب، ص 292. (بتصرف).

[4] سورة المائدة، الآية 54.

[5] سورة التوبة، الآية 24.

[6] سورة النساء، الآية 95.

[7] سورة الأنفال، الآية 72.

[8] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج5، سبل، ص 44.

238


206

الأعراب والصادقون

 سَبِيلِ: سبل: هو إرسال شيء بالتطويل، كما في إسبال المرأة ذيلها، وإسبال الثوب، وإسبال الشعر، وإسبال الماء، وإسبال الستر، وإسبال السحاب، وإسبال المطر. والسبيل هو ما يمتدّ ويرسل ويسبل من نقطة، فهو الطريق السهل الطبيعيّ الممتدّ الموصل إلى نقطة مقصودة، ماديّة أو معنويّة[1].

 

الصَّادِقُونَ: صدق: أصل يدلّ على قوّة في شيء قولاً وغيره. من ذلك الصدق: خلاف الكذب، سمّي لقوّته في نفسه، ولأنّ الكذب لا قوّة له، هو باطل، وأصل هذا من قولهم - شيء صدق أي صلب ورمح صدق. الأصل الواحد في هذه المادّة: هو التماميّة والصحّة من الخلاف والكون على حقّ[2].

 

المعنى التفصيلي

الإيمان:

1- الإيمان والإسلام: الآية الكريمة نفت الإيمان عنهم وأوضحت بأنّه لم يدخل في قلوبهم بعد وأثبت لهم الإسلام، ويظهر من خلال هذه المقارنة أنّه هناك فرق بين الإيمان والإسلام، بأنّ الإيمان معنى قائم بالقلب من قبيل الاعتقاد، والإسلام أمر قائم باللسان والجوارح، فإنّه الاستسلام والخضوع لساناً بالشهادة على التوحيد والنبوة وعملاً بالمتابعة العملية ظاهراً سواء قارن الاعتقاد بحقية ما شهد عليه وعمل به أو لم يقارن، وبظاهر الشهادتين تُحقن الدماء وعليه تجري المناكح والمواريث، وسيأتي تفصيل البحث حول الإيمان والإسلام.

 

2- إطاعة الله ورسوله قوام حقيقة الإيمان: المراد بالإطاعة الإخلاص فيها بموافقة الباطن للظاهر من غير نفاق، وطاعة الله استجابة ما دعا إليه من اعتقاد وعمل، وطاعة رسوله تصديقه واتباعه فيما يأمر به فيما له الولاية عليه




[1] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج2، جهد، ص 128.

[2] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج6، صدق، ص 215.

239


207

الأعراب والصادقون

 من أمور الأمة، والمراد بالأعمال جزاؤها المراد بنقص الأعمال نقص جزائها. والمعنى: وإن تطيعوا الله فيما يأمركم به من اتباع دينه اعتقاداً، وتطيعوا الرسول فيما يأمركم به لا ينقص من أجور أعمالكم شيئاً، وقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ تعليل لعدم نقصه تعالى أعمالهم إن أطاعوه ورسوله[1].

 

3- صفات صادقي الإيمان: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ تعريف تفصيلي للمؤمنين بعد ما عرفوا إجمالاً بأنّهم الذين دخل الإيمان في قلوبهم كما هو لازم قوله: ﴿لَّمْ تُؤْمِنُوا﴾ و ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾. فقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ فيه قصر المؤمنين في الذين آمنوا بالله ورسوله إلخ، فتفيد تعريفهم بما ذكر من الأوصاف تعريفاً جامعاً مانعاً فمن اتصف بها مؤمن حقاً، كما أنّ من فقد شيئاً منها ليس بمؤمن حقا.ً والإيمان بالله ورسوله عقد القلب على توحيده تعالى وحقية ما أرسل به رسوله وعلى صحة الرسالة واتباع الرسول فيما يأمر به. وقوله: ﴿ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ أي لم يشكوا في حقية ما آمنوا به وكان إيمانهم ثابتاً مستقراً لا يزلزله شك، والتعبير بثم دون الواو - كما قيل - للدلالة على انتفاء عروض الريب حيناً بعد حين كأنّه طري جديد دائماً، فيفيد ثبوت الإيمان على استحكامه الأوّلي ولو قيل: ولم يرتابوا كان من الجائز أن يصدق مع الإيمان أولاً مقارناً لعدم الارتياب مع السكوت عما بعد. وقوله: ﴿وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ المجاهدة بذل الجهد والطاقة وسبيل الله دينه، والمراد بالمجاهدة بالأموال والأنفس العمل بما تسعه الاستطاعة وتبلغه الطاقة في التكاليف المالية كالزكاة وغير ذلك من الإنفاقات الواجبة،




[1] تفسير الميزان، ج18، ص 328 - 329.

240


208

الأعراب والصادقون

 والتكاليف البدنية كالصلاة والصوم والحج وغير ذلك. والمعنى: ويجدون بإتيان التكاليف المالية والبدنية حال كونهم أو حال كون عملهم في دين الله وسبيله. وقوله: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ تصديق في إيمانهم إذا كانوا على الصفات المذكورة[1].

 

4- الإيمان شرط قبول الأعمال: الآية تشير إلى  أصل قرآني مسلّم به وهو أنّ شرط قبول الأعمال "الإيمان"، إذ مضمون الآية أنّه إذ كنتم مؤمنين بالله ورسوله إيماناً قلبياً وعلامته طاعتكم لله والرّسول فإنّ أعمالكم مقبولة، ولا ينقص من أجركم شي‏ء، ويثيبكم الله، وببركة هذه الأعمال يغفر ذنوبكم لأنّ الله غفور رحيم. وحيث إنّ الحصول على هذا الأمر الباطني أي الإيمان ليس سهلاً، فإنّ الآية التالية تتحدّث عن علائمه، العلائم التي تميّز المؤمن حقّا عن المسلم والصادق‏ عن الكاذب، وأولئك الذين استجابوا لله وللرسول رغبة وشوقا منهم عن أولئك الذين استجابوا طمعاً أو للوصول إلى المال والدنيا فتقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾! أجل، إنّ أوّل علامة للإيمان هي عدم التردّد في مسير الإسلام، والعلامة الثانية الجهاد بالأموال، والعلامة الثالثة التي هي أهم من الجميع الجهاد بالنفس. وهكذا فإنّ الإسلام يستهدف في الإنسان أجلى العلائم "ثبات القدم وعدم الشك والتردّد من جهة، والإيثار بالمال والنفس من جهة أخرى". فكيف لا يرسخ الإيمان في القلب والإنسان لا يقصّر عن بذل المال والروح في سبيل المحبوب!؟ ولذلك فإنّ الآية تختتم بالقول مؤكّدة: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ[2].




[1] تفسير الميزان، ج18، ص 328 - 329.

[2] الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج16، ص 573.

 241


209

الأعراب والصادقون

 حقيقة الإيمان والإسلام:

تطلق كلمة "الإسلام" تارة ويراد منها المعنى المصدري، أي اعتناق الإسلام والدخول فيه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ﴾، وقولهم: إسلام الكافر يتحقّق بإظهار الشهادتين.

 

وتطلق تارة أخرى ويراد منها اسم المصدر، وهي الحالة الحاصلة من تحقُّق المصدر، فيقال مثلاً: الإسلام يحقن به الدم والمال، أي حالة كون الإنسان مسلماً تجعل لدمه وماله حرمة تمنع من التعرّض لهما إلا بسبب مبيح، أو الخروج عن الإسلام موجب للكفر وهدر الدم إجمالاً، أو يقال: الإسلام شرط في صحة العبادات.

 

وتطلق ثالثة ويراد منها الدين والشريعة السماوية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾، ومنه قولهم: "الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه".

 

والإسلام بكل هذه المعاني تترتّب عليه أحكام فقهية.

 

وقد يطلق الإسلام أو مشتقاته على الأديان السماوية السابقة كما في قوله تعالى - حكاية عن إبراهيم عليه السلام ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.

 

الفرق بين الإسلام والإيمان:

- الإسلام - بالمعنى الثاني من المعاني الاصطلاحية المتقدّمة - غير الإيمان. ويشهد لذلك قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾.

 

- الإسلام أسبق - من حيث التحقُّق - من الإيمان.

242


210

الأعراب والصادقون

 - الإسلام يتحقّق بمجرّد الإقرار باللسان، وإن لم يقترن بالعمل. لكن الإيمان هو إقرار باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح.

 

 

- بعض الأعمال تتوقّف صحتها - من حيث إسقاط التكليف لا الثواب الأخروي - على الإسلام، وبعضها الآخر على الإيمان.

 

- اتضح من خلال ما تقدّم: أنّ الإيمان قد يُطلق على الاعتقاد بالإسلام بالمعنى الثالث، وهو إرادة مجموعة الدين الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عقيدة وشريعة.

 

الإيمان العام: الاعتقاد بالإسلام بالمعنى الثالث.

 

الإيمان الخاص: الاعتقاد بما تعتقده الإمامية، وهو مجموع ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما فيه الإمامة.

 

والآية الكريمة تتحدّث عن الإسلام الظاهري للأعراب فالإسلام حسب المعنى القرآني كما يذهب بعض المحققين يقول: "الإسلام عبارة عن جعل شيء سلماً أي موافقاً متلائماً لا يبقى خلاف ولا ترى جهة مغايرة ومنافرة.

 

والذي يستفاد من  الروايات  الواردة  عن  الأئمّة  الأطهار عليهم السلام هو وجود  نوع من  الاختلاف المفهومي والمصداقي بين الإيمان والإسلام, فالإيمان هو: التصديق  القلبي  الذي  ينعقد  في  قرارة  النفس، وهو أعلى  رتبة  من  الإسلام، في  حين  أنّ  الإسلام  هو: التشهّد  بالشهادتين  لساناً  والعمل  بالشرع  ظاهراً. وبالتالي ستختلف الشروط والصفات لكل واحد منهما فصفات المسلم، مختلفة الى حد ما عن صفات المؤمن, وإن كانت تتداخل معها في الرتبة المحقّقة للأدنى منهما وتفترق في الرتبة المختصة بأحدهما. وإنّ العلاقة بينهما قد تلحظ باعتبار الصدق أي الانطباق على المصداق فالعلاقة بينهما هي العموم والخصوص المطلق حسب ما يقال في علم المنطق أي أنّ أحدهما أعم مطلقاً من الآخر والثاني أخصّ مطلقاً منه. فالإسلام أعم مطلقاً من الإيمان وهو أخصّ مطلقاً من الإسلام, فكلّ مؤمن هو

243


211

الأعراب والصادقون

 مسلم وليس كل مسلم هو مؤمن، وقد تلحظ بلحاظات أخرى. يقول الشيخ المفيد: "واتفقت الإمامية على أنّ الإسلام غير الإيمان، وأنّ كل مؤمن فهو مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، وأنّ الفرق بين هذين المعنيين في الدين كما كان في اللسان، ووافقهم على هذا القول المرجئة وأصحاب الحديث. وأجمعت المعتزلة وكثير من الخوارج والزيدية على خلاف ذلك، وزعموا أنّ كل مسلم مؤمن وأنّه لا فرق بين الإسلام والإيمان في الدين"[1].

 

وهذا ما أشارت له  بعض الروايات كرواية، "فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام قَالَ الإيمان يُشَارِكُ الإسلام والإسلام لَا يُشَارِكُ الإيمان"[2].

 

وعن فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام يَقُولُ: "إِنَّ الإيمان يُشَارِكُ الإسلام ولَا يُشَارِكُه الإسلام إِنَّ الإيمان مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ والإسلام مَا عَلَيْه الْمَنَاكِحُ والْمَوَارِيثُ وحَقْنُ الدِّمَاءِ والإيمان يَشْرَكُ الإسلام والإسلام لَا يَشْرَكُ الإيمان"[3].

 

تحقيق العلامة الطباطبائي رضوان الله عليه حول مراتب الإسلام والإيمان:

الإسلام والتسليم والاستسلام بمعنى واحد، من السلم، وأحد الشيئين إذا كان بالنسبة إلى الآخر بحال لا يعصيه ولا يدفعه فقد أسلم  واستسلم له، قال تعالى ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ﴾[4]، وقال تعالى: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[5]، ووجه الشيء ما يواجهك به، وهو بالنسبة إليه تعالى تمام وجود الشيء فإسلام الإنسان له تعالى هو وصف الانقياد




[1] أوائل المقالات، الشيخ المفيد، القول في التوبة وقبولها، 48.

[2] الكافي،الكليني،ج2، بَابُ أَنَّ الإيمان يَشْرَكُ الإسلام والإسلام لَا يَشْرَكُ الإيمان، ح2، ص 25.

[3] الكافي،الكليني،ج2، بَابُ أَنَّ الإيمان يَشْرَكُ الإسلام والإسلام لَا يَشْرَكُ الإيمان، ح3، ص 25.

[4]  سورة البقرة، الآية 112.

[5] سورة الأنعام, الآية 79.

244


212

الأعراب والصادقون

 والقبول منه لما يرد عليه من الله سبحانه من حكم تكويني، من قدر وقضاء، أو تشريعي من أمر أو نهي أو غير ذلك، ومن هنا كان له مراتب بحسب ترتّب الواردات بمراتبها. وهي تقسم إلى أربعة مراتب:

المرتبة الأولى من مراتب الإسلام:

القبول لظواهر الأوامر والنواهي بتلقّي الشهادتين لساناً، سواء وافقه القلب، أو خالفه، قال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا...﴾.

 

المرتبة الأولى من الإيمان بعد المرتبة الأولى من الإسلام:

ويتعقّب الإسلام بهذا المعنى أول مراتب الإيمان وهو الإذعان القلبي بمضمون الشهادتين إجمالاً ويلزمه العمل في غالب الفروع.

 

المرتبة الثانية من الإسلام ما يلي المرتبة الأولى من الإيمان:

ما يلي الإيمان بالمرتبة الأولى، وهو التسليم والانقياد القلبي لجل الاعتقادات الحقة التفصيلية وما يتبعها من الأعمال الصالحة وإن أمكن التخطّي في بعض الموارد، قال الله تعالى في وصف المتقين: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ[1]، وقال أيضاً: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً[2]،

 

المرتبة الثالثة من الإسلام ما يلي المرتبة الثانية من الإيمان:

ما يلي الإيمان بالمرتبة الثانية فإنّ النفس إذا أنست بالإيمان المذكور وتخلّقت بأخلاقه تمكّنت منها وانقادت لها سائر القوى البهيمية والسبعية، وبالجملة القوى المائلة إلى هوسات الدنيا وزخارفها الفانية الداثرة، وصار الإنسان يعبد الله كأنّه يراه فإن لم يكن يراه فإنّ الله يراه، ولم يجد في باطنه وسرّه ما لا ينقاد إلى أمره ونهيه أو يسخط من قضائه وقدره، قال الله سبحانه: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ




[1]  سورة الزخرف، الآية 69.

[2]  سورة البقرة، الآية 208.

245


213

الأعراب والصادقون

 حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾[1]، ويتعقّب هذه المرتبة من الإسلام المرتبة الثالثة من الإيمان، قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ[2]، ومنه قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[3] إلى غير ذلك، وربما عدت المرتبتان الثانية والثالثة مرتبة واحدة. والأخلاق الفاضلة من الرضا والتسليم، والحسبة والصبر في الله، وتمام الزهد والورع، والحب والبغض في الله من لوازم هذه المرتبة.

 

المرتبة الرابعة من الإسلام ما يلي المرتبة الثالثة من الإيمان:

الرابعة ما يلي: المرتبة الثالثة من الإيمان فإنّ حال الإنسان وهو في المرتبة السابقة مع ربه حال العبد المملوك مع مولاه، إذ كان قائماً بوظيفة عبوديته حقّ القيام، وهو التسليم الصرف لما يريده المولى أو يُحبّه ويرتضيه، والأمر في ملك ربّ العالمين لخلقة أعظم من ذلك وأعظم وإنه حقيقة الملك الذي لا استقلال دونه لشيء من الأشياء لا ذاتاً ولا صفة، ولا فعلاً على ما يليق بكبريائه جلّت كبريائه. فالإنسان - وهو في المرتبة السابقة من التسليم - ربما أخذته العناية الربانية فأشهدت له أنّ الملك لله وحده لا يملك شيء سواه لنفسه شيئاً إلا به لا رب سواه، وهذا معنى وهبي، وإفاضة إلهية لا تأثير لإرادة الانسان فيه، ولعل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا[4][5].




[1] سورة النساء، الآية 65.

[2] سورة المؤمنون، الآيات  1 - 3.

[3] سورة البقرة، الآية 131.

[4] سورة البقرة، الآية 128.

[5] تفسير الميزان، ج1، معنى الإسلام - مراتب الإسلام والإيمان، (بحث قرآني)، ص 301- 303.

246


214

الأعراب والصادقون

 ونحاول أن نوضح هذه المراتب الثمانية للإسلام والإيمان في الجدول التالي:

247


215

الأعراب والصادقون

 بحث حول الآية

 

من هم الأعراب؟

الأعراب:هي مجموعة أسلمت في الظاهر ولكنّها لم تؤمن في الواقع وفي باطنها، أي لم يوافق ظاهرها باطنها. والآية لا تريد أن تقول بأنّ الأعراب هم مجموعة من البادية أوصافهم كذا وكذا وينتهي الأمر، بل إنّها تريد أن تُحذّر النبي والمجتمع الإيماني من خطر هؤلاء الأعراب المنافقين كما ذكرتهم الآية السابقة بل وصفتهم بأنهم أشد كفراً ونفاقاً مما يؤكّد خطورة هذه المجموعة على الإسلام، ولذا الآية من الموارد التي فضحهم الله ورسوله وبيّن نفاقهم وأنّهم لم يؤمنوا وإن كانوا من المسلمين بمعنى إظهار الشهادتين. وباقي الآيات توضح حقيقة هؤلاء وأنّهم نخبة المنافقين أو أنهم مجموعة أخرى أشدّ خطراً من غيرهم على كيان الإسلام وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

والأعرابي، العرب: جيل من الناس، والنسبة إليهم عربي بين العروبة، وهم أهل الأمصار. والأعراب منهم سكان البادية خاصة. وجاء في الشعر الفصيح: الأعاريب. والنسبة إلى الأعراب أعرابي، لأنّه لا واحد له. وليس الأعراب جمع العرب، كما كان الأنباط جمعاً لنبط، وإنّما العرب اسم جنس.

 

ويعرّفه الشهيد الثاني رضوان الله عليه الأعرابي بقوله: "وهو المنسوب إلى الأعراب سكَّان البادية، لنقصه بذلك عن مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم المستفادة من الحضر. وقد يطلق الأعرابي على من لا يعرف محاسن الإسلام وتفاصيل الأحكام من سكَّان البوادي المعنيّ بقوله تعالى: ﴿الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ وعلى من عرف ذلك منهم ولكن ترك المهاجرة مع وجوبها"[1].




[1] الفوائد الملية لشرح الرسالة النفلية، الشهيد الثاني، عدم كون الإمام أعرابياً، ص 295.

248


216

الأعراب والصادقون

 وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الأَعْرَابِ﴾ ومن منافقي الأعراب "مَنْ يَتَّخِذُ" يعدّ "ما يُنْفِقُ" يصرفه في سبيل الله ويتصدّق به "مَغْرَماً" غرامة وخسراناً، ولا يحتسبه عند الله تعالى، ولا يرجو عليه ثوابًا، وإنّما ينفق رياء أو تقيّة من أهل الإسلام، لا لوجه الله "ويَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ" دوائر الزمان وحوادث الأيّام وعواقب الأمور من نوب الشدائد، لينقلب الأمر عليكم، وتذهب غلبتكم عليه، فيتخلَّص من الإنفاق.

 

﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ﴾ اعتراض بالدعاء عليهم بنحو ما يتربّصون، من قبيل: ﴿عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ﴾. أو بالإخبار عن وقوع ما يتربّصون عليهم. والدائرة في الأصل مصدر، أو اسم فاعل من: دار يدور. وسمّي به عقبة الزمان. والسّوء بالفتح مصدر أضيف إليه للمبالغة، كقولك: رجل صدق. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: السّوء، هنا وفي الفتح بضمّ السين، وهو العذاب. "وَالله سَمِيعٌ" لما يقولون عند الإنفاق "عَلِيمٌ" بما يضمرون. قيل: هم أعراب أسد وغطفان وتميم. ثمّ بيّن سبحانه من الأعراب المؤمنين المخلصين، فقال: ﴿وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ﴾ سبب قربات. وهي ثاني مفعولي "يتّخذ" "عِنْدَ الله" صفتها، أو ظرف ل‍ "يتّخذ" "وصَلَواتِ الرَّسُولِ" وسبب صلواته، لأنّه كان يدعو للمتصدّقين بالخير والبركة ويستغفر لهم، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى، لمّا أتاه أبو أوفى بصدقته. "أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ" تقرّبهم إلى ثواب الله. وهذا شهادة من الله تعالى بصحّة معتقدهم، وتصديق لرجائهم على الاستئناف، مع حرف التنبيه، و "إنّ" المحقّقة للنسبة، والضمير لنفقتهم. وقرأ ورش: قربة بضمّ الراء. ﴿سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ وعد لهم بإحاطة الرحمة عليهم. والسين لتحقيقه. وقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لتقريره. وهذه الآية في عبد الله ذي البجادين ورهطه[1].




[1] زبدة التفاسير، فتح الله الكاشاني، ج3، ص 154- 155.

 

249

 


217

الأعراب والصادقون

 

 

قيمة العلاقة بالصادقين:

بعد أن بيّنت الآيات القرآنية الشريفة أوصاف الصادقين بشكل لا يقبل اللبس طلبت من المؤمنين والمتقين الكون معهم أي الكون مع الصادقين عندما تتوفّر في الناس مواصفات خاصة تنسجم مع الذين صدقوا، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ[1]. والآية تدل على عدّة أمور:

1- المتقون هم طائفة غير طائفة الصادقين لأنّ الله أمر المتقين أن يكونوا مع الصادقين.

 

2- إنّ استخدام لفظ "مَعَ" يُدلّل على أنّ المتقين لا يمكنهم أن يكونوا من الصادقين وفي عرض واحد معهم بل ينبغي على المتقين الالتحاق بالصادقين.

 

3- معنى أن يكون المتقي مع الصادقين هي المعية الاقتدائية أي أن يكون تابع لهم في أقوالهم ومعتقداتهم وسلوكياتهم.

 



[1] سورة التوبة، الآية 119.

250


218

الأعراب والصادقون

 4- الطلب من المتقين أن يلتحقوا بالصادقين ويكونوا معهم يعني أنّ الصادقين هم الأصل الذي يجب الالتحاق والاقتداء بهم[1].

 

 

تأملات حول الآية الكريمة:

- روي في الأخبار المتواترة أنّ المراد بالصادقين هم الأئمة المعصومون عليهم السلام.

 

- في الكافي، عَنْ عَجْلَانَ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله عليه السلام: أَوْقِفْنِي عَلَى حُدُودِ الإيمان، فَقَالَ: "شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله والإقرار بِمَا جَاءَ بِه مِنْ عِنْدِ الله وصَلَوَاتُ الْخَمْسِ وأَدَاءُ الزَّكَاةِ وصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وحِجُّ الْبَيْتِ ووَلَايَةُ وَلِيِّنَا وعَدَاوَةُ عَدُوِّنَا والدُّخُولُ مَعَ الصَّادِقِينَ"[2]. ولعلّ المراد بالدخول مع الصادقين متابعة أهل بيت العصمة والطهارة في أقوالهم وأفعالهم وهو ناظر إلى قوله سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾.

 

- معنى الصادقين ليس المراد بالصادقين الصادقين في الجملة إذ ما من أحد إلاّ وهو صادق في الجملة حتّى الكافر، والله سبحانه لا يأمر بالكون معه بل المراد بهم الصادقون في أيمانهم وعهودهم وقصودهم وأقوالهم وأخبارهم وأعمالهم وشرايعهم في جميع أحوالهم وأزمانهم وهم الأَئمّة المعصومون من العترة الطاهرة لأَنَّ كلَّ من سواهم لا يخلو عن الكذب في الجملة[3].

 

- إنّ المأمورين باتباع الصادقين هم بعض الأمة بمعنى من توفّرت فيهم صفات الإيمان والتقوى فللتقوى دور مهم وأساس في الكون مع الصادقين يقول الشيخ المفيد قدس سره: "قد ثبت أنّ المنادي به غير المنادي إليه، وأنّ



[1] ينظر: في ظلال العقيدة والأخلاق، كمال الحيدري، مناهج بحث الإمامة، ص 171- 184.

[2] الكافي، الكليني، ج2، باب دعائم الإسلام، ح2، ص 18.

[3] شرح أصول الكافي، محمد صالح المازندراني، ج5، ص 263.

251


219

الأعراب والصادقون

 المأمور بالاتّباع غير المدعوّ إلى اتّباعه. فدلّ ذلك على أنّ المأمورين باتّباع الصادقين ليسوا هم الأمّة بأجمعها، وإنّما هم طوائف منها، وأنّ المأمور باتّباعه غير المأمور بالاتّباع، ولا بدّ من تمييز الفريقين بالنصّ، وإلّا وقع الالتباس وكان فيه تكليف ما لا يطاق. فلمّا بحثنا عن المأمور باتّباعه، وجدنا القرآن دالاً"[1] ثم استعرض الآيات التي أشرنا إليها الدالة على من هم الصادقون.

 

اتباع الصادقين وبناء المجتمع الفاضل:

مرّ في الرواية السابقة أنّ من حدود الإيمان "الدخول مع الصادقين" حسب تعبير الإمام الصادق عليه السلام   والدخول مع الصادقين يكون بطاعتهم المطلقة وفي بعض الروايات: "مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَصْرٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام" قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ قَوْلِ الله عزّ وجلّ ﴿وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ قَالَ: الصَّادِقُونَ هُمُ الأَئِمَّةُ والصِّدِّيقُونَ بِطَاعَتِهِمْ[2]. أي بطاعة الأَئمّة والصِّديق الّذي يُصدِّق قوله بالعمل، والأَمر بالكون معهم باعتبار أنّهم مع الأَئمّة.

 

والآية اشترطت بشكل واضح التقوى كمقدمة إلزامية للكون مع الصادقين، فالصِّدِّيقُونَ لا بدّ أن تتوفّر فيه صفات خاصة تجمعها صفة التقوى، فللتقوى دور أساس في الكون مع الصادقين. وقد ثبت من خلال الآيات والروايات أنّ المراد بالصادقين هم أهل البيت عليهم السلام. وإذا راجعنا كلّ المقاطع المتقدّمة لسورة الحجرات سنصل إلى النتيجة التالية: إنّ الوصول إلى المجتمع الفاضل الذي أرادت سورة الحجرات بناءه، طريقه الوحيد والحصري هو الكون مع الصادقين.




[1] تفسير القرآن المجيد، الشيخ المفيد، ص 157.

[2] الكافي، الكليني، ج1، باب ما فرض الله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم من الكون مع الأئمة عليهم السلام، ح2، ص 208.

252


220

الأعراب والصادقون

 للمطالعة

 

نداءات سورة الحجرات للمؤمنين

سورة الحجرات وجّهت خمس نداءات للمؤمنين وبعد كلّ نداء بيّنت مجموعة من الآداب وبيّنت أيضاً أنّ الالتزام بهذه الآداب من شأن المتقين والهدف من الالتزام بهذه الآداب هو الوصول إلى حقيقة الإيمان، ثم بيّنت أنّ الذين جسّدوا حقيقة الإيمان هم الصادقون، وإذا ضممنا هذه النتيجة إلى الآية مورد البحث والتي قالت بأنّ المتّقي لا بدّ أن يكون مع الصادقين، فالوصول إلى كلّ تلك الأمور المتقدّمة متوقّف على التمسُّك بالصادقين، فلكي نصل إلى مجتمع تُحقّق فيه العدالة الاجتماعية وتحكمه الأخلاق الإيمانية ويسوده الوئام والوفاق بين أفراده بأن يصبح أفراده متوافقون مع أنفسهم في العقيدة والقول والعمل ولا يكونوا كالمنافقين والأعراب الذين لا تتوافق ظواهرهم مع بواطنهم، للوصول إلى كل ذلك لا بدّ من التمسُّك بفكر ونهج وأخلاق الصادقين وهم  من استوت ظواهرهم وبواطنهم.أي من صدّق قوله فعله وصدّق فعله قوله وصدّق اعتقاده فعله في كل الأحوال وعلى حدّ سواء. ولتوضيح ذلك نبينه من خلال آيات السورة:

النداء الأول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.

 

النداء الثاني: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا ... وَلَا تَجْهَرُوا ... إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ ... امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾.

 

النداء الثالث: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ... حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾. ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا... إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾.

 

النداء الرابع: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ .. وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾.

253


221

الأعراب والصادقون

 النداء الخامس: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ ... وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب ..﴾.

 

ملاك التفاضل:..﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.

 

بيان حقيقة الإيمان: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾.

 

النتيجة: إنّ تحقيق المجتمع الفاضل الذي دعت إليه سورة الحجرات يكون باتباع الصادقين وهذا الاتباع لا يتحقّق الا من خلال التقوى.

 

254


222

مظلة الأسوار علم الله تعالى

 الدرس الثالث عشر: مظلة الأسوار علم الله تعالى

 

مفاهيم محورية:

- الإيمان أعظم منّة إلهية.

- الله تعالى بصير بعباده.

- اسم الله البصير وعلاقته ببصيرة المؤمن.

- البصير في اللغة والاصطلاح.

255


223

مظلة الأسوار علم الله تعالى

 النص القرآني

قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

 

تمهيد

إنّه من العجيب بالفعل أن يمنّ الآخذ على المعطي، والتلميذ على الأستاذ، ويطلب المريض الجزاء من الطبيب الذي طبّبه لمرضه، وشفاه من علّته!! ولكن قاتلَ الله الجهل هكذا يفعل بأهله. والله تعالى في القرآن ذكّرهم بأن عائدة هذا الإيمان وثمراته راجعة إليهم، لأنّهم خرجوا بهذا الإيمان من الضلال إلى الهدى، ومن الظلام إلى النور، ومن البلاء والهلاك والعذاب الأليم في الآخرة، إلى العافية، والسلام، و.. وتلك نعمة أو نعم لا يقدر أن يقوم بشكرها إنسان. وهو قوله تعالى: ﴿إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[1].

 

﴿قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم﴾ أي: بإسلامكم. فنصب بنزع الخافض، أو تضمين




[1] سورة آل عمران، الآية 103.

257


224

مظلة الأسوار علم الله تعالى

 الفعل معنى الاعتداد. ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ بل الله يعتدّ عليكم أن أمدّكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم، وادّعيتم أنّكم أرشدتم إليه ووفّقتم له ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين﴾ في ادّعاء الإيمان، إلَّا أنّكم تزعمون وتدّعون ما الله عليم بخلافه. وجواب الشرط محذوف يدلّ عليه ما قبله، أي: فللَّه المنّة عليكم.

 

شرح مفردات الآية

يَعْلَمُ: هو الحضور والإحاطة على شيء، والإحاطة يختلف باختلاف القوى والحدود، ففي كلّ بحسبه. وإن كان العلم مقارناً بالتمييز وإدراك الخصوصيّات: فمعرفة. وإذا وصل العلم إلى حدّ الطمأنينة والسكون: فيقين[1].

 

يَمُنُّونَ: هو ورود النعمة المعيّنة المقطوعة المخصوصة. وبهذه المناسبة تطلق على معنى القطع. قال في الفروق: الفرق بين النعمة والمنّة: أنّ المنّة هي النعمة المقطوعة من جوانبها كأنّها قطعة منها. ثمّ إنّ المنّ له مراتب: الأوّل - منّ فعليّ خارجيّ كما في قولنا - مننت عليه به: أي أنعمت عليه بشيء مخصوص مقطوع بارز. الثاني - إظهار منّ وإبرازه وادّعاء أنّه يمنّ عليه كما في قوله تعالى: ﴿لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى[2] أي بإبراز المنّ وإظهاره والقول بأنّه منّ عليه أو منعم عليه باعتبار إنعامه السابق. وكما في قوله تعالى ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ﴾ أي ينعمون عليك بإسلامهم أو يظهرون الإنعام بإسلامهم عليك. وكما في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى[3] أي لا يأتون بعد الإنفاق بمنّ وإظهار إنعام وإعادته قولاً[4].

 

هَدَاكُمْ: هدى هو بيان طريق الرشد والتمكُّن من الوصول إلى الشيء، أي




[1] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، علم، ج8، ص 0209

[2] سورة البقرة، الآية 264. 

[3] سورة البقرة، الآية 262.

[4] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، علم، ج11، ص183.

 258


225

مظلة الأسوار علم الله تعالى

 دلالة إليه. فالهداية يقابله الضلالة. والرشاد يقابله الغيّ وهو الدلالة إلى الشرّ والفساد، كما أنّ الرشاد هو الاهتداء إلى الخير والصلاح[1].

 

غَيْبَ: يدلّ على تستّر الشيء عن العيون، ثمّ يُقاس، من ذلك الغيب: ما غاب ممّا لا يعلمه إلَّا الله. والغيبة: الوقيعة في الناس من هذا، لأنّها لا تقال الَّا في غيبة[2]. والله تعالى: لا غيب عنده فهو ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ[3].

 

بَصِيرٌ: بصر هو العلم بنظر العين أو بنظر القلب. وإذا أطلق بصير على الله تعالى معناه أنّه ناظر وعالم لا يخفى عليه شيء[4].

 

المعنى التفصيلي

﴿قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ﴾: إنّ الإنسان إذا عرف مدى سعة علم الله عزّ وجلّ تهيَّبه وصار عنده نوع من الرقابة الذاتية والتي هي الأساس في حركة الإنسان تجاه الله تعالى. فالله تعالى هو الخالق والرازق والعالم الذي يعلم غيب السموات والأرض وهو الذي خلقني ولم أكن شيئاً مذكوراً وهو الذي منَّ علي بنعمة الإمداد، وبنعمة الهدى، والإيمان، وبكل شيء فهو يعلم إذا كنت مسلماً أم مؤمناً أم محسناً، يعرف مستوى إيماني وإسلامي وإحساني. ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

 

إنّ الإنسان إذا تحقّق هذا العلم في قلبه وشعر بوجود الله وعلمه في كل شيء وأنّ الله بصير به، سيتحوّل هذا العلم إلى دافعية للعمل ويبدأ بقطف ثمار الإيمان الحقيقي وعند ذلك سيشعر بعظيم المنّة الإلهية والمنحة الربانية ويزداد شكراً أمام عظمة المنة الإلهية، فالمؤمن كلّما ازداد توفيقاً ازداد شكراً لله تعالى لا أنّه يمنّ على الله بعمله، أمّا من لم يصل إلى مرتبة الإيمان




[1] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، هدى، ج11، ص 249. 

[2] معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكريا (ابن فارس)، غيب، ج4، ص 403.

[3] سورة الأنعام، الآية 73.

[4] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي، بصر، ج1، ص 281.

259


226

مظلة الأسوار علم الله تعالى

 فإنّه من جهله وغروره سيمنّ على الله كما تُصوّر لنا الآية سواء كانت تستهدف المناقفين أم الأعراب أم المسلمين لا فرق من هذه الجهة لأنّ الكلّ لم يصل إلى مرتبة الإيمان.

 

وبعد أن ركّزت الآية علم الله تعالى وإحاطته بكلّ شيء والذي وصفته بعض الآيات بأنّه أقرب إليكم من حبل الوريد، ويحول بين المرء وقلبه، فمع هذه الحال لا حاجة لادعائكم، وهو يعرف الصادقين من الكاذبين ومطلع على أعماق أنفسهم حتى درجات إيمانهم المتفاوتة ضعفاً وقوة، وقد تنطلي عليهم أنفسهم، إلا أنّه يعرفها بجلاء، فعلام تصرّون أن تُعلّموا الله بدينكم.

 

وبصياغة علمية الآية تقول: كيف تعلِّمون الله بدينكم؟ ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لا يخفى عليه خافية. وفيه تجهيل لهم، لأنّه العالم بالذات، فيعلم المعلومات كلَّها بنفسه، فلا يحتاج إلى معلِّم يعلِّمه، كما أنّه كان قديماً موجوداً في الأزل بالذات، واستغنى عن موجد أوجده.

 

ثم يعود القرآن لكلمات الأعراب من أهل البادية الذين يمنّون على النبيّ بأنّهم أسلموا وأنهم أذعنوا لدينه في الوقت الذي حاربته القبائل العربية الأخرى.

 

﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾: المنّ: هو القطع بإيصال النفع الموجب للحقّ، ومنه قوله ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ أي غير مقطوع، ومنه قولهم: المنة تُكدّر الصنيعة وقيل: إذا كفرت النعمة حسنت المنة[1].

 

﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا﴾ يعدّون إسلامهم عليك منّة. وهي: النعمة الَّتي لا يستثيب مسديها ممّن يزلُّها إليه. من المنّ بمعنى القطع، لأنّه إنّما يسديها إليه ليقطع بها حاجته لا غير، من غير أن يعمد لطلب مثوبة. ثم يقال: منّ عليه صنعه، إذا اعتدّه عليه منّة وإنعاما.




[1] التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي، ج9، ص 355.

260


227

مظلة الأسوار علم الله تعالى

 ويمكن تعريف المنّ باختصار: الإدلال بالإحسان على من أحسن إليه.. وهو مما يذهب بثواب الإحسان، ويفسد مغارسه.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى[1].

 

﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾: في سرّكم وعلانيتكم، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم؟ وفي هذه الآية بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم. وتوضيح المعنى: أنّه عزّ وجلّ يعلم كلّ مستتر في العالم، ويبصر كلّ عمل تعملونه في سرّكم وعلانيتكم، لا يخفى عليه منه شيء، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم، ولا يظهر على صدقكم وكذبكم؟ وذلك أنّ حاله مع كلّ معلوم واحدة لا تختلف[2].

 

أي يمنّون عليك بأن أسلموا وقد أخطأوا في منّهم هذا من وجهين، أحدهما: أنّ حقيقة النعمة التي فيها المنّ هو الإيمان الذي هو مفتاح سعادة الدنيا والآخرة دون الإسلام الذي له فوائد صورية من حقن الدماء وجواز المناكح والمواريث، وثانيهما: أن ليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من أمر الدين إلا أنّه رسول مأمور بالتبليغ فلا منّ عليه لأحد ممّن أسلم. فلو كان هناك منٌّ لكان لهم على الله سبحانه لأنّ الدين دينه لكن لا منّ لأحد على الله لأنّ المنتفع بالدين في الدنيا والآخرة هم المؤمنون دون الله الغني على الإطلاق فالمنّ لله عليهم أن هداهم له[3].

 

﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾: هو تأكيد يُعلّل




[1] سورة البقرة، الآيتان 262- 263.

[2] زبدة التفاسير، فتح الله الكاشاني، ج6، ص 438.

[3]  تفسير الميزان، محمد حسين الطباطبائي، ج18، ص 330.

261


228

مظلة الأسوار علم الله تعالى

 ويؤكّد به جميع ما تقدّم في السورة من النواهي والأوامر وما بيّن فيها من الحقائق وما أخبر فيها عن إيمان قوم وعدم إيمان آخرين فالآية تُعلّل بمضمونها جميع ذلك[1].

 

الإيمان أعظم منّة إلهية:

الإيمان نعمة كبرى لا تساويها نعمة، وحين يزكّي الإنسان نفسه ويروّضها بالتقوى، ويسعى لرؤية الحقائق، حينئذ يتجلّى الله لقلبه، فيرى الله بنور الإيمان ويرى بنور الله كلّ شي‏ء. الإيمان هو كبرى المنن التي ينعم بها الله على عبد من عباده في الأرض. إنّه أكبر من منّة الوجود الذي يمنحه الله ابتداء لهذا العبد, وسائر ما يتعلّق بالوجود من آلاء الرزق والصحة والحياة والمتاع.

 

وأوّل ما يصنعه الإيمان في الكائن البشري، حين تستقرّ حقيقته في قلبه، هو سعة تصوّره لهذا الوجود، ولارتباطاته هو به، ولدوره هو فيه, وصحة تصوّره للقيم والأشياء والأشخاص والأحداث من حوله, وطمأنينته في رحلته على هذا الكوكب الأرضي حتى يلقى الله، وأنسه بكل ما في الوجود حوله، وأنسه بالله خالقه وخالق هذا الوجود, وشعوره بقيمته وكرامته, وإحساسه بأنه يملك أن يقوم بدور مرموق يرضى عنه الله، ويُحقّق الخير لهذا الوجود كله بكل ما فيه وكل من فيه.

 

فمن سعة تصوّره أن يخرج من نطاق ذاته المحدودة في الزمان والمكان، الصغيرة الكيان، الضئيلة القوة. إلى محيط هذا الوجود كله، بما فيه من قوى مذخورة، وأسرار مكنونة, وانطلاق لا تقف دونه حدود ولا قيود في نهاية المطاف.

 

فالمؤمن يعرف - بقلب مطمئن، وضمير مستريح، وروح مستبشرة- أنّه يلبس ثوب العمر بقدر الله الذي يصرف الوجود كله تصريف الحكيم الخيبر. وأن اليد التي ألبسته إياه أحكم منه وأرحم به، فلا ضرورة لاستشارته لأنّه لم يكن ليشير كما




[1] (م.ن)، ص 331.

262


229

مظلة الأسوار علم الله تعالى

 يشير صاحب هذه اليد العليم البصير. وأنه يلبسه لأداء دور معين في هذا الكون، يتأثّر بكل ما فيه، ويؤثّر في كل ما فيه. وأنّ هذا الدور يتناسق مع جميع الأدوار التي يقوم بها كل كائن من الأشياء والأحياء منذ البدء حتى المصير.

 

ذلك سرّ قوة العقيدة في النفس، وسرّ قوة النفس بالعقيدة. سرّ تلك الخوارق التي صنعتها العقيدة في الأرض وما تزال في كل يوم تصنعها. الخوارق التي تُغيّر وجه الحياة من يوم إلى يوم، وتدفع بالفرد وتدفع بالجماعة إلى التضحية بالعمر الفاني المحدود في سبيل الحياة الكبرى التي لا تفنى, وتقف بالفرد القليل الضئيل أمام قوى السلطان وقوى المال وقوى الحديد والنار، فإذا هي كلها تنهزم أمام العقيدة الدافعة في روح فرد مؤمن.

 

تلك الخوارق التي تأتي بها العقيدة الدينية في حياة الأفراد وفي حياة الجماعات لا تقوم على خرافة غامضة، ولا تعتمد على التهاويل والرؤى. إنّها تقوم على أسباب مدركة وعلى قواعد ثابتة. إنّ العقيدة الدينية فكرة كلية تربط الإنسان بقوى الكون الظاهرة والخفية، وتثبت روحه بالثقة والطمأنينة، وتمنحه القدرة على مواجهة القوى الزائلة والأوضاع الباطلة، بقوة اليقين في النصر، وقوة الثقة في اللّه. وهي تُفسّر للفرد علاقاته بما حوله من الناس والأحداث والأشياء، وتوضح له غايته واتجاهه وطريقه، وتجمع طاقاته وقواه كلّها، وتدفعها في اتجاه واحد. ومن هنا كذلك قوتها. قوة تجميع القوى والطاقات حول محور واحد، وتوجيهها في اتجاه واحد، تمضي إليه مستنيرة الهدف، في قوة،  في ثقة، وفي يقين[1].

 

وهذه القوّة الإيمانية هي التي دفعت  زهير بن القين رضوان الله عليه أن يقول للإمام الحسين عليه السلام فقال: قد سمعنا - هداك الله يا بن رسول الله - مقالتك، ولو كانت الدنيا لنا باقية، وكنا فيها مخلّدين، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها. ومثله هلال بن




[1] في ظلال القرآن، ج6، 3353.

263


230

مظلة الأسوار علم الله تعالى

 نافع البجلي رضوان الله عليه، فقال: والله ما كرهنا لقاء ربنا، وإنا على نياتنا وبصائرنا، نوالي من والاك ونعادي من عاداك. وقال برير بن خضير رضوان الله عليه: والله يا بن رسول الله لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك فيقطع  فيك أعضاؤنا، ثم يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة وغيرهما من عظماء واقعة الطف.

 

بحث حول الآية

الله بصير بعباده:

خُتمت سورة الحجرات بقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ ونحن نختم الأبحاث حول هذه السورة المباركة باسم الله تعالى البصير وعلاقته بسلوكيات المؤمن، وقد قلنا فيما سبق أنّ علم الله تعالى هو مظلة أسوار الأمان التي تحدّثنا عنها في تفسير السورة ولذا كان من المناسب تسليط الضوء على هذا البحث ولو بشكل مختصر.

 

كثيرة هي الآيات التي تحدّثت عن علم الله تعالى وإحاطته المطلقة بالموجودات وأنه لا يخفى عليه شيء، وإلى غير ذلك من التعابير التي سنقف على بعضها من خلال الآيات التالية:  قال الله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ[1].

 

وقال الله تعالى: ﴿قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[2].

 

الله تبارك وتعالى هو العليم بكل شيء، الذي يعلم بكل شيء في السموات والأرض، وفي الدنيا والآخرة، وفي الظاهر والباطن وهو سبحانه العالم بكل شيء في السموات والأرض من الأشياء والأشخاص، والنيات والأعمال، والخواطر والحركات وهو سبحانه العليم الخبير، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم




[1]  سورة الحشر، الآية 22.

[2]  سورة آل عمران، الآية 29.

264


231

مظلة الأسوار علم الله تعالى

 مثاقيل الجبال.. ومكاييل البحار.. وعدد قطر الأمطار.. وعدد ذرات الرمال.. وعدد ورق الأشجار.. وما أظلم عليه الليل.. وما أشرق عليه النهار. لا تواري منه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره.. ولا بحر ما في قعره.

 

وهو سبحانه اللطيف الخبير الذي يعلم القليل والكثير، ويعلم الصغير والكبير، ويعلم القريب والبعيد ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ[1].

 

فسبحان اللطيف الخبير، المطلع على البواطن والأسرار، الذي يعلم خفايا القفار والبحار والجبال والظلام.

 

والله جل جلاله علّام الغيوب، وعلمه محيط بكل شيء، لا يندّ عنه شيء في الزمان ولا في المكان، في الأرض ولا في السماء، في الليل ولا في النهار.

 

يعلم ما في البر والبحر، وما في جوف الأرض، وما في طباق الجو، من حي وميت، ورطب ويابس، يعلم ذلك ويراه، في الليل أو النهار، في النور أو الظلام: ﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ[2].

 

وهو سبحانه الذي يعلم أستار الغيوب المختومة في العالم العلوي وفي العالم السفلي، ويعلم مجاهل البر الواسعة، وغيابات البحر العميقة، ويعلم عدد الأوراق الساقطة من أشجار الأرض، وكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض، وكل رطب ويابس في هذا الكون العظيم، لا يند منه شيء عن علم الله المحيط بكلّ شيء.

 

اسم الله البصير وعلاقته ببصيرة المؤمن:

الْبَصِيرُ كما هو معروف من أسماء الله الحسنى وهذه الأسماء المطلوب أولاً معرفة معانيها، وثانياً معرفة كيفية تجلياتها في قلوب المؤمنين الموحّدين المخلصين.




[1] سورة لقمان، الآية 16. 

[2] سورة السجدة، الآية 6.

265


232

مظلة الأسوار علم الله تعالى

 إذا راجعنا آيات القرآن الكريم فنجد أن اسم "البصير" ورد في أكثر من خمسين آية، ورد معرّفاً بأل وورد منوّناً، ورد مقترناً باسم السميع والخبير، وورد غير مقترن، فمن الآيات التي ورد فيها اسم "البصير" معرّفاً قوله تعالى في مطلع سورة الإسراء: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[1].

 

وورد هذا الاسم أيضاً منوّناً في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ[2]. وقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تصف الله تعالى بأنه ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[3] أو ﴿وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ[4] وتصفه أيضاً بقولها ﴿وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ[5]، ﴿إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ[6] إلى غيرها من التعابير القرآنية.

 

البصير في اللغة والاصطلاح:

البصير على وزن فعيل وهو من أبنية وصيغ المبالغة والتي تعني المبالغة في النوع وفي الكم، فإذا قلنا الله تعالى بصير يعني يبصر في كل الاتجاهات، يبصر كل الأشياء، يبصر كل الأنواع، ولا يمكن حد هذه الصفة في حقه تعالى فهو بصير ويبصر كل شيء على الإطلاق هذا من جهة. ومن جهة أخرى قد قلنا فيما سبق أنّ البصر لا يمكنه رؤية الأشياء من دون الاستعانة بوسائل إرشادية أخرى، صحيح أنّنا نرى الأشياء الخارجية بواسطة البصر، ولكن من دون أن يتوسط النور بين البصر والشيء المُبصر لا تُحقّق الرؤية ويستوي في غرفة مظلمة البصير وغير البصير (الكفيف)، اذاً لا بد من نور




[1] سورة الإسراء، الآية1.

[2]  سورة الحج، الآية 75.

[3] سورة البقرة، الآيات 110 - 233 - 237 وغيرها.

[4] سورة البقرة، الآية 96.

[5] سورة آل عمران، الآيتان 15 - 20 غيرها.

[6] سورة فاطر، الآية 31.

266


233

مظلة الأسوار علم الله تعالى

 يتوسّط بين العين وبين المرئيات كنور الكهرباء أو نور الشمس.

 

وما نريد قوله أنّ عقل الإنسان مهما وصل إلى درجات عالية من الكمال والذكاء والفطنة وكذلك قلبه الذي يبصر به الموجودات الباطنية واللامرئية لا يتمكّن من الاهتداء والوصول إلى الغايات المنشودة منه إلا بواسطة نور الوحي، فنور الوحي المتمثّل بنور المعصوم عليه السلام هو الواسطة بينه وبين عقله وقلبه. فالإنسان من دون نور النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ونور الإمام المعصوم عليه السلام ونور القرآن الكريم هو أعمى ولا يهتدي إلى سواء السبيل فهذه الأنوار هي التي تُحقّق له الهداية والوصول إلى مقصده الذي خلق من أجله فلا بصيرة بلا نور الشريعة قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[1].

 

الْبَصِيرُ: هو الذي يعلم بما يُنظر له، أو يبصر ما يُبصر وما لا يُبصر لنا، ويطلق على من يعلم بما يصلحه أو لأشياء معينه أو عامة وما تحتاجه خلقاً وتكاملاً وهدى.

 

والله تعالى هو البصير: لأنه تعالى محيط بكل الأشياء ما يُبصر وما لا يُرى، وهو الخالق والممد للكائنات بالشكل والصورة وما تتحرك به وتنتقل، سواء لا نبصره بوضوح لكبره كالكون والمجرّات وما يبعد عنا، أو لصغره كالذرة وأجزائها ولطيف الخلق، أو نبصره علماً كصور خيالنا وأوهامنا ونياتنا أو مشاهدة حين ينتقل لنا، فهو بصير بها قبل وحين وبعد وجودها، وبأي صورة وحال وزمان ومكان كانت، ولأي موجود كان صغر أو كبر شكله، لطف أو عظم حجمه، ثقل أو خفّ وزنه، وهو بصير بها وبما تستحقه من نور أسمائه الحسنى حسب شأنها عطاء أو منعاً.

 

ومن تجلّى عليه البصير بالتجلّي الخاص: يقوى بصره، بل يجعل بصره الفكري والعقلي حديد، ويكون على بصيرة من أمره وأمر دينه وهداه، بل يجعله معلماً له ودليلاً عليه، ويرى الله متجلياً في كل شيء عظمة وقدرة وعلماً، قد أتقن صنعه،




[1]  سورة الحديد،الآية 28.

267


234

مظلة الأسوار علم الله تعالى

 وأنه خلقه ليسير لغاية حقّة ونهاية نورانية منعمة ماجدة، وهو كما خص به الأنبياء وبالخصوص نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وكل من أبصر في دين الله بحق: كان بصيراً بهداه إلى الصراط المستقيم، وهذا المهم في معنى البصير، كما أنّ البصر للأشياء له أهمية للمعرفة العلمية بالأشياء، لكن الجزاء والثواب على البصيرة بالهدى الحق والعمل به وهذا ما خص به أولياءه. عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام فِي قَوْلِه "لا تُدْرِكُه الأَبْصارُ" قَالَ "إِحَاطَةُ الْوَهْمِ ألَا تَرَى إِلَى قَوْلِه: ﴿قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ﴾[1] لَيْسَ يَعْنِي بَصَرَ الْعُيُونِ: ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ﴾ لَيْسَ يَعْنِي مِنَ الْبَصَرِ بِعَيْنِه: ﴿وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾ لَيْسَ يَعْنِي عَمَى الْعُيُونِ إِنَّمَا عَنَى إِحَاطَةَ الْوَهْمِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ بَصِيرٌ بِالشِّعْرِ وفُلَانٌ بَصِيرٌ بِالْفِقْه وفُلَانٌ بَصِيرٌ بِالدَّرَاهِمِ وفُلَانٌ بَصِيرٌ بِالثِّيَابِ الله أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُرَى بِالْعَيْنِ"[2].

 

والبصير فهو إن جاء مفرداً كان لرؤية أعمال الخلق ليثيب ويجازي المحسن والعمل الصالح وغيره، وإن جاء مع السميع أو غيره فهو أوسع في بيان عظمة الله تعالى.

 

والمؤمن: بصيراً ومستبصراً ومذعناً بعظمة الله سبحانه البصير به وبكل شيء، وهو يقر له تسليماً وإيماناً، وتهفو روحه للتوجّه لعظمة الله حباً ويقيناً، ويسكن له قلبه تسليماً واطمئناناً، وهو على بصيرة من أمره في دينه وما يجب عليه ليتقرّب لنور رحمة الله وثوابه الجزيل، ولذا تراه لا يبصر إلا للحق ليعمل به ويذعن له، ويغض بصره عن الباطل ولا ينظر به إلا لنقضه أو لهدمه إن استوجب ذلك، ويغض بصره عن الحرام ولا ينظر نظراً مريباً لامرأة أو مال لا حقّ له به ولا حاسداً ولئيماً




[1] سورة الأنعام، الآية 104.

[2] الكافي، الكليني، ج1، باب في إبطال الرؤية، ص 48.

268


235

مظلة الأسوار علم الله تعالى

 لمؤمن ليخيفه، بل ينظر في كل عبادة تقربه لله كالنظر في المصحف ولنبينا ولأئمة الحقّ ومعلّمه وللأب وللأم وللابن وللإخوان وللزوجة وللأصدقاء المؤمنين، ولكل ما يوصل للإيمان بالله تعالى ويقرّب إليه، وينظر للأشياء للعبرة وللاتعاظ بها ولدلالتها على عظمة الله، وفي العلم ليكون بصير بدينه عالماً وعاملاً به، وعن يقين وبصيرة وهدى لا ضلال فيه، وللعلم المادي ليساعده في الطاعة وللكسب الحلال الذي هو أهم أجزاء العبادة.

 

الدروس المستفادة من الآية

1- إنّ الهداية إلى الإيمان والإسلام وقبولهما هي نعمة إلهية كبرى وهي منّة من الله تعالى على عباده ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ﴾.

 

2- إنّ الله تعالى غني مطلق فهو غير محتاج أو منتفع بإسلامكم وإيمانكم ﴿لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ﴾.

 

3- إنّ علامة صدق الإيمان هو الاعتقاد بأنّ الله تعالى يمنّ على عباده ويتفضّل عليهم لا أنّهم هم يمنّون عليه. لا تَمُنُّوا... بَلِ اللهُ يَمُنُ‏... إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ‏.

 

4- إنّ المنّة على رسول الله هي في الحقيقة منّة على الله تعالى. يَمُنُّونَ عَلَيْكَ‏... بَلِ اللهُ يَمُنُ‏...

 

5- إنّ المقصد الأساس لتكامل الإنسان هو وصوله إلى حقيقة الإيمان. ﴿هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ﴾.

 

6- إنّ كل الأشياء في السموات والأرض حاضرة ومنكشفة انكشافاً مطلقاً لدى الله تعالى. ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

269


236

مظلة الأسوار علم الله تعالى

 للمطالعة

 

البصير والبصيرة

1- على المؤمن أن يستحضر دائماً أنّ الله تعالى بصير بعباده أي أنّ الله تعالى يراه ومطّلع على باطن أعماله، وعليه أن يقوم بتربية نفسه وأبنائه على مراقبة الله له، وهذا يستدعي منه مراقبته ومحاسبته لنفسه.

 

2- على المؤمن أن يطلب من الله البصير في دعائه أن يُبَصّره عيوب نفسه ليعمد إلى إصلاحها لكي لا تكون حاجباً وحاجزاً بينه وبين الله تعالى وأن يُبصّره أمور دينه كما ورد في الدعاء عقب صلاة المغرب عنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام قَالَ: "كُنْتُ كَثِيراً مَا أَشْتَكِي عَيْنِي فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام فَقَالَ: ألَا أُعَلِّمُكَ دُعَاءً لِدُنْيَاكَ وآخِرَتِكَ وبَلَاغاً لِوَجَعِ عَيْنَيْكَ قُلْتُ: بَلَى قَالَ: تَقُولُ فِي دُبُرِ الْفَجْرِ ودُبُرِ الْمَغْرِبِ - اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْكَ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ واجْعَلِ النُّورَ فِي بَصَرِي والْبَصِيرَةَ فِي دِينِي والْيَقِينَ فِي قَلْبِي والإِخْلَاصَ فِي عَمَلِي والسَّلَامَةَ فِي نَفْسِي والسَّعَةَ فِي رِزْقِي والشُّكْرَ لَكَ أَبَداً مَا أَبْقَيْتَنِي"[1]. ومعنى الدعاء الشريف: "كنت كثيراً ما أشتكي عيني" كان الاشتكاء من الشكوى وهي المرض.

 

3- أن يتفقه في دين الله تعالى لأن الفقه مفتاح البصيرة.

 

4- أن يحسن ويقوي علاقته بالقرآن والمعصوم وهم الصادقون كما تقدم فأهل القرآن العاملون المتدبرون وأهل الولاية المتمسّكون بالصادقين المعصومين يرزقهم الله البصيرة.

 

5- إنّ الدوافع الخفية في نفس الإنسان هي أعقد بدرجات من غيب السموات والأرض ولعله لهذا استخدمت الآية مفردة "يعلم" للسموات والأرض ومفردة "بصير" للأعمال التي يقوم بها البشر.

 

6- إذا اعتقد الإنسان حقيقة بأن الله عليم بصير سينعكس ذلك على أعماله وسلوكياته.

 

 



[1] مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي، صلاة الصبح، ص 215. الكافي، الكليني، ج2، بَابُ الدُّعَاءِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، ح11، ص 550.

270


237
أسوار الأمان