مبادئ الجهاد الأكبر


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-12

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم

لإنسان هو أهمّ موضوعٍ نال اهتمام المدارس الفكريّة بمختلف توجّهاتها، لأنّه محور الخلقة في الحياة الدّنيا. فقد تناولت هذه المدارس كيانه بالبحث والتّحليل من جميع النّواحي، مثل كيفيّة خلقته وحدود قدرته ومكامن شخصيّته ومكانته في عالم الخلقة وصلته بالآخرين وأبعاده الوجوديّة وحقيقة الكمال الذي يأخذ بيده إلى أُفق السعادة المنشودة. إلا أنّ أهمّ موضوعين يُطرحان على طاولة البحث هنا، هما معرفة مكانة الإنسان وقيمته الحقيقيّة في كلّ واحدةٍ من هذه المدارس، وحقيقة الكمال المنشود حسب متبنّياتها. فكلّ مدرسةٍ تدّعي أنّ نظريّاتها وبرامجها واستراتيجيّاتها الخاصّة من شأنها أن تضع الإنسان في موقعه الذي يستحقّه، وبالتالي تضمن له السعادة وبلوغ برّ الأمان.

المدارس الفكريّة لها رؤى مختلفةٌ حول واقع كمال الإنسان الذي يحقّق له السعادة الأزليّة، وكذلك تختلف في سبيل بلوغ هذا الكمال، لكنّها تتّفق على أنّه مخلوقٌ يطمح لنيل الكمال وبلوغ السعادة. فأتباع كلّ مدرسةٍ قد أدلَوا بدلوهم في هذا المضمار، وذلك طبق معتقداتهم ورؤيتهم بالنسبة إلى عالم الوجود بشكلٍ عامٍّ، وعلم الوجود الإنسانيّ وقيمة الإنسان بشكلٍ خاصٍّ, وأجابوا في نظريّاتهم عن سؤالين في هذا المضمار، 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
5

 


1

المقدمة

 هما:

ما هو الكمال المنشود الذي يحقّق السعادة للإنسان؟
ما هو سبيل بلوغ هذا الكمال؟ أي ما هو طريق السعادة؟

فهذان السؤالان هما أساس نشوء هذه المدارس الفكريّة وسائر النظريّات المتعلّقة بكيان الإنسان.
أمّا المدارس غير الدينيّة فقد طرحت نظريّاتٍ مبتورةً في تعريف الإنسان ومحدودةً ببعض خصاله، متجاهلةً سائر شمائله ومتطلّبات حياته, وذلك يعود إلى عدم قدرتها على الإحاطة بطبيعته وطاقاته المكنونة ومختلف أبعاد وجوده بشكلٍ علميٍّ شاملٍ، وكذلك لعدم إلمامها بواقع هذا المخلوق البديع. لذلك أخفقت في بيان واقع كماله وسعادته المنشودة وعجزت عن توجيهه نحو الهدف الصحيح، فكان عمرها قصيراً لأنّ آراءها نُقضت من قِبَل المدارس التي تلتها.

ونُحيط القارئ الكريم علماً بأن هذا الكتاب يسلّط الضوء على مكانة الإنسان وقيمته بشكلٍ عامٍّ، وكذلك سنطرح فيه تعريفاً للإنسان الكامل وسبيل بلوغ الكمال المنشود، وذلك في رحاب النظرة الإسلاميّة التوحيديّة بالاعتماد على مصادرنا الدينيّة ومعارفنا الإسلاميّة دون التعرّض إلى نظريّات سائر المدارس.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
6

2

المقدمة

 حسب رؤيتنا الدينيّة فإنّ الله تعالى هو محور الكون وأساس الوجود، والإنسان مخلوقٌ يحظى بمقامٍ رفيعٍ يفوق سائر المخلوقات، وبالطبع دون مقام خالقه. فهل يبقى مجالٌ لمحوريّة الإنسان في الكون بالنسبة للموحّد الذي يعتقد أنّ الله تعالى هو محور الكون؟! أو أنّ الواقع هو ما يدّعيه أنصار الحداثة وأدعياء حقوق الإنسان بأنّ الطريق الوحيد لتحقّق كرامة الإنسان ومحوريّته في الكون هو أن يحلّ محلّ الله تعالى ويكون هو الأساس بدلاً عنه تعالى؟!

 
لا يختلف اثنان في أنّ مفاهيم كتاب الله تعالى وتعاليم ديننا الحنيف تؤكّد على عدم وجود أيّ تعارضٍ بين مكانة الإنسان وعظمة خالقه، وكذلك نستلهم منها عدم وجود تضاربٍ بين محوريّة الله تعالى في الكون وكرامة الإنسان وبلوغه الكمال المنشود. وبالطبع، فإنّ ادّعاء هكذا تعارضٍ أو تضاربٍ مرفوضٌ جملةً وتفصيلاً،1 بل الواقع أنّ أوامر الله تعالى وتعاليم الشريعة برمّتها تنصبّ على هداية الإنسان وسموّ شخصيّته، أي إنّه 
 
 
 

1- هناك ادّعاءات بوجود الكثير من التناقضات في هذا المضمار قد طُرحت لأهداف معيّنة كونها تنصبّ في خدمة الأفكار العلمانيّة المتأثّرة بالثقافة الغربيّة وتوجّهات الكنائس في القرون الوسطى، مثل تضادّ العلم مع الإيمان، وتضادّ العقل مع التعبّد، وعدم القدرة على التلفيق بين محوريّة الحقّ والتكليف، والتضارب بين الحكومة الدينيّة والحكومة الشعبيّة، وعدم الانسجام بين السعي للعيش بكرامةٍ في الحياة الدّنيا وإعمار الآخرة، وما إلى ذلك من ادّعاءاتٍ واهيةٍ لا وجود لها في تعاليمنا الإسلاميّة. فنحن نعتقد أنّ العلم والإيمان مكمّلان لبعضهما بعضاً، وأنّ العبادة تستند إلى أقوى أُسس التعقّل والمنطق، وكذلك نؤمن بأنّ محوريّة الحقّ هي أساس التكاليف الدينيّة، وأنّ الطريق الوحيد لإرساء دعائم حكومةٍ شعبيّةٍ يكمن في الخضوع لحكومة الله المطلقة، وبالطبع فإنّ السعي لعمران الدنيا يعدّ مقدّمةً لعمران الآخرة. فمن الضروريّ بيان تفاصيل هذه القضايا في مكانها المناسب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

3

المقدمة

 عزّ وجلّ قد جعل جميع القوانين والأحكام الشرعيّة تتمحور حول الإنسان وسعادته ومصالحه الحقيقيّة. فالله خلق ابن آدم ويعلم بجميع أبعاده الوجوديّة وطاقاته الكامنة ومتطلّباته ومصالحه، لذا حاشى له أن يغفل عنه، حيث لم يترك جانباً من كيان هذا المخلوق إلا وساقه نحو الصراط القويم. فالشريعة المقدّسة التي تقود الإنسان نحو الهدى، لا تتأثّر بأيّة عوامل داخلية، مثل المصالح الشخصيّة والمعتقدات والميول الذاتيّة والمحدودة، أو خارجيّة مثل المصالح الاجتماعيّة والتوجّهات الجماعيّة والعوامل البيئيّة ومختلف الضغوط التي يتعرّض لها الإنسان, لذلك ليس هناك أيّ عاملٍ يؤثّر على التشريع الذي يتمحور حول تلبية حاجات الإنسان وسوقه نحو الكمال المنشود1.

 
وحسب تعاليم ديننا الإسلاميّ، لا يمكن للإنسان أن يحظى بمعرفة الحقيقة وأن يتمتّع بحياةٍ طيّبةٍ، ولن يتسنّى له الخروج 
 
 

1- لا شكّ في أنّ أفضل وأهمّ برنامجٍ من برامج الحياة وأكثرها تاثيراً لا بدّ وأن يتّصف بميزتين أساسيّتين، هما:
أولاً: المعرفة التامّة بالمخلوق الذي وضع هذا البرنامج لأجله, لذا فإنّ هذا البرنامج هو أفضل سبيلٍ يتّبعه الصانع لتوجيه وهداية خلقه.
ثانياً: يجب أن لا يتأثّر بالقضايا الجانبيّة والمصالح الشخصيّة والاجتماعيّة، وأن لا يقع تحت تأثير بعض الضغوط والقضايا الأخرى, لذا لا بدّ للمشرّع من أن يجعل ملاك تشريعه مراعاة المصالح الحقيقيّة والطاقات الموجودة.
وبالطبع لا أحد يمكنه أن يتّصف بهاتين الخصلتين سوى الخالق جلّ شأنه الذي أحاط بكلّ شيءٍ علماً وهو غنيٌّ عن العالمين، إذ لا يمكن لأحدٍ غيره أن يتّصف بذلك وليس من شأن أيٍّ كان وضع قانونٍ متكاملٍ سواه سبحانه وتعالى.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
8

 


4

المقدمة

 عن إطار الجمود المادّي ورغبات النفس الحيوانيّة ولن يبلغ مكانته الأصليّة، إلا بعد أن يُلبّي دعوة الله تعالى ونبيّه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم, إذ قال عزّ وجلّ في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾1.

 
وقد تطرّق هذا الكتاب إلى بيان المكانة الحقيقيّة للإنسان في الحياة الدُّنيا بإيجازٍ اعتماداً على معارف كتاب الله المجيد وأحاديث المعصومين عليهم السلام. إضافة إلى ذكر بعض البرامج الهامّة والمناهج التي وضعها ديننا الحنيف لبلوغ الكمال الحقيقيّ الذي يُحقّق للإنسان السعادة الأزليّة.
 
فكلّ خطوةٍ يخطوها الإنسان في إصلاح ذاته ويسلك من خلالها سبيل الهدى لتهذيب نفسه، هي (الجهاد الأكبر) طبق تعاليمنا الدينيّة, وبالطبع لا بدّ لكلّ مصلحٍ أن يكون في ذاته صالحاً. ولا ريب في أنّ الجهاد الأكبر هو الشغل الشاغل لكلّ مَن يبحث عن الحقيقة، لا سيّما الشباب المتطلّعين إلى سلوك طريق السعادة وأصحاب النهج الصحيح في كبح النفس الأمّارة العاتية.
 
ولا ندّعي إن الكتاب استوفى الموضوع برمّته دون أيّ نقصٍ، لكن نرجو من الله العزيز القدير أن يتقبّل هذا الجهد المتواضع، وأن يحظى برضى إمامنا ومقتدانا صاحب العصر 
 
 
 

1- سورة الأنفال، الآية 24.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

5

المقدمة

 والزمان المهديّ الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف، إذ كلّ ما لدينا من نعَمٍ هي ببركة ولايته. ونسأل الله تعالى أن يكون نقطة انطلاقٍ لتوجيه الشباب الواعين ذوي الفطرة السليمة والروح النـزيهة نحو السبيل القويم.

 

 

 

 

 

 

 

10


6

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 
الإنسانية صنفان
يمكننا تصنيف الآيات الكريمة التي تطرّقت إلى بيان حقيقة الإنسان وذكرت مكانته، بشكلٍ مباشرٍ، إلى مجموعتين، كالتالي:


1- الآيات التي عرّفت الإنسان بأنّه مخلوقٌ ضعيفٌ جاهلٌ ظالمٌ كفورٌ عجولٌ ولا طاقة له، حتّى أنّها جعلته أدنى منـزلةً من الأنعام وأضلّ سبيلاً، وهي قوله تعالى:


﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾1.
﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾2 .


﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ﴾3.
﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾4.
  
 
 

1- سورة النساء، الآية 28.
2- سورة إبراهيم، الآية 34.
3- سورة الزُّخرف، الآية 15.
4- سورة المعارج، الآيات 19-21.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

7

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾1. ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾2.

﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾3. ﴿وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا﴾4.


﴿وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً﴾5. ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾6.
﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾7.
 
2- الآيات التي عرّفت الإنسان بأنّه أفضل المخلوقات وأنّه خليفة الله في الأرض وحامل أمانته، وهو مَن سجد له الملائكة ومَن علّمهم الأسماء، وهو الغاية من خلقة سائر المخلوقات، كالآيات التالية: قال تعالى:


﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾8.
  
 
 

1- سورة القيامة، الآية 5.
2- سورة العلق، الآيتان 6-7.
3- سورة العاديات، الآية 6.
4- سورة الإسراء، الآية 100.
5- سورة الإسراء، الآية 11.
6- سورة الأنفال، الآية 22.
7- سورة الأعراف، الآية 179.
8- سورة الإسراء، الآية 70.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12

8

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾1.

﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ﴾2. ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾3.
 
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾4.
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾5. ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾6.
 
﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ *وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ *وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً
  

 
 

1- سورة البقرة، الآية 30.
2- سورة البقرة، الآية 33.
3- سورة البقرة، الآية 34.
4- سورة البقرة، الآية 29.
5- سورة التين، الآية 4.
6- سورة لقمان، الآية 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

9

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ *وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾1.

 
وبعد أن أشار عزّ وجلّ إلى خلقة الإنسان في سورة (المؤمنون)، قال: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾2.


سرّ اختلاف بني آدم في الإنسانية
إذن، نستلهم من هذه الآيات والكثير من الآيات الأخرى أنّ القرآن الكريم قد عرّف الإنسان وأكّد على أنّه إمّا أن يكون في 
  
 
 

1- سورة النحل، الآيات 5 إلى 17.
2- سورة المؤمنون، الآية 14.
وهناك آياتٌ أُخرى بهذا الصدد، منها: الآية 81 من سورة النحل، الآية 166 من سورة الشعراء، الآية 21 من سورة الروم، الآيتان 32 و33 من سورة إبراهيم، الآية 12 من سورة الجاثية، الآيتان 26 و37 من سورة الحجّ.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

10

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 غاية السموّ أو في غاية الانحطاط, فهو في نظام الخلقة يعدّ أفضل مخلوقات الله تعالى وأشرفها، وفي نفس الوقت أسوأها وأرذلها وأكثرها شرّاً. فما هو سرّ هذه الازدواجيّة الظاهريّة؟! وكيف يمكننا الجمع بين هذين النوعين من الآيات؟! يا تُرى هل أنّ الله تعالى خلق العالم وسخّر ما فيه لهذا الإنسان الكفور الجحود الضعيف العجول الظالم الشرّير، وفي الوقت نفسه جعله خليفته في الأرض؟! وهل أنّ الإنسان هو أفضل المخلوقات وأشرفها أو أنّه أرذلها؟!


وقد أجاب القرآن الكريم على هذه الاستفسارات بتفصيلٍ أحياناً وبشكلٍ إجماليٍّ في أحيان أُخرى، وبيّن مكانة الإنسان في عالم الخلقة واختلاف بني آدم في هذه المكانة.

أمّا الجواب الإجماليّ الذي ساقه القرآن الكريم بهذا الصدد، فيمكن تقريره كالآتي: أكّدت الكثير من الآيات أنّ كلّ مَن يُنكر الطاقات والنِّعم التي وهبها الله تعالى له، سوف يكون مصيره الخسران والحرمان من هذه النِّعم والسقوط في الحضيض، على العكس من يؤمن بمبدأ الخلقة والمعاد ويصلح أمر دينه ودنياه. فالمستلهم من كتاب الله تعالى أنّ مكانة كلّ إنسانٍ مرهونةٌ بمدى إيمانه وتقواه، وبالطبع فإنّ أثر ذلك يبدو جليّاً في حياته, فالإنسان الذي لا يتحلّى بالإيمان والعمل الصالح هو في حقيقته مخلوقٌ ضعيفٌ كفورٌ ظالمٌ، وأتفه من البهائم.
  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

11

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 أمّا المؤمن الذي يتّخذ العمل الصالح منهجاً له، فهو خليفة الله تعالى في الأرض وأشرف مخلوقاته قاطبةً، بل هو الذي خُلقت من أجله المخلوقات. ويمكن تلخيص ما ذُكر في سورة العصر المباركة: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾1. ويقول العلاّمة محمّد حسين الطباطبائيّ في تفسيرها: تُلخّص السورة جميعَ المعارف القرآنيّة وتجمع شتات مقاصد القرآن في أوجزِ بيانٍ2.

 
ومن المؤكّد أنّ تجارة الدنيا لا ربح فيها، وكلّ مَن يتّخذها هدفاً له فهو خاسرٌ, سواءٌ علِم الإنسان أم لم يعلم فإنّه في الحياة الدنيا يستنزف جميع طاقاته الماديّة والمعنويّة، ولا محالة في أنّه سيخسر حياته الدنيويّة في نهاية المطاف. واستناداً إلى هذا القانون الطبيعيّ فإنّ الطريق الوحيد لاجتناب الخسران العظيم هو سلوك طريق الإيمان الذي يتجلّى بالعمل الصالح والدعوة إلى الحقّ والنصيحة للآخرين. فلا يمكننا مقارنة الإنسان الصالح الذي هو مثالٌ للإنسان الكامل مع مَن يتّبع هواه وينتهج سبيل الفسق والفجور، حيث أكّد عزّ شأنه على هذه الحقيقة في كتابه العزيز حين قال: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ
  
 
 

1- سورة العصر، الآيات 1 - 3.
2- العلاّمة محمّد حسين الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، ج20، ص355
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

12

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 كَالْفُجَّارِ﴾1. كما قال سبحانه أيضاً: ﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾2. وبيّن تعالى في آيةٍ أُخرى حقيقة الإنسان الصالح وواقع الإنسان الطالح، حيث قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾3. وأشار سبحانه وتعالى إلى أنّ كلّ إنسانٍ سيحظى بمنـزلةٍ خاصّةٍ نتيجةً لأعماله، فقال: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾،وقال تعالى أيضاً: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ﴾5.

 

 
إضافةً إلى ما ذُكر، هناك كثيرٌ من الآيات قد تطرّقت إلى مكانة بني آدم وأوعزت اختلافهم في ذلك إلى معتقداتهم وأفعالهم، إذ قسّمتهم إلى فئتين أساسيّتين، هما:
1- المنحطّون غاية الانحطاط الذين هم أسوأ الخلق.
2- الشُّرفاء غاية الشرف الذين هم أفضل الخلق.
  
 
 

1- سورة ص، الآية 28.
2- سورة الجاثية، الآية 21.
3- سورة البيّنة، الآيتان -6 7.
4- سورة الأحقاف، الآية 19.
5- سورة غافر، الآية 58.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

13

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 وبالطبع فإنّ الإيمان الحقيقيّ والعمل الصالح هما اللذان يرفعان الإنسان إلى مقام الشرف والسموّ، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ ملائكة الله تعالى هم في خدمة أصحاب هذا المقام الكريم: "ما خَلَقَ اللهُ عزَّ وجلَّ خَلقاً أكرَمُ علَى اللهِ عزَّ وجلَّ من مؤمنٍ، لأنَّ الملائكةَ خُدّامُ المؤمنينَ"1.

 
طبيعة الخلقة الإنسانية
ولكي ندرك مكانة الإنسان في كتاب الله تعالى وسبب تذبذب الخلق بين الكريم غاية الكرم والمنحطّ غاية الانحطاط، فلا بدّ من إدراك طبيعة خلقته وأبعاد ذاته الوجوديّة، أي علينا دراسة علم الوجود الإنسانيّ في نطاق القرآن الكريم.
 
حسب المفاهيم القرآنيّة فإنّ خلقة الإنسان تختلف عن سائر المخلوقات، فكلّ نوعٍ من المخلوقات ما عدا الإنسان، قد خُلق بنسقٍ واحدٍ وله بعدٌ واحدٌ, إلا أنّ خلقة الإنسان تتمتّع ببعدين متعاكسين تماماً، فهو إمّا أن يكون رمزاً للشرّ أو رمزاً للخير. قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾2. وقال سبحانه في آيةٍ أُخرى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾3.
  
 
 

1- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج66، ص19.
2- سورة الحجر، الآيتان 28 - 29.
3- سورة ص، الآيتان 71-72.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

14

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 إنّ البُعدين الوجوديّين للإنسان والمنهجين المختلفين اللذين يسلكهما في الحقيقة، ناشئان من أصل خلقته. فميول البشر وتوجّهاتهم تنقسم إلى قسمين:

 
أوّلاً: الميول الماديّة التي هي من سنخ الطين والحمَأ المسنون، حيث تسوق الإنسان نحو العالم الحيواني السفليّ.
ثانياً: الميول الروحانيّة التي تسوق الإنسان نحو الهدى وعالم الملكوت العلويّ.
 
والإنسان له مطلق الاختيار في أن يتّخذ أحد هذين المنهجين مسلكاً له وأن يسخّره في خدمته, فبنفسه يعيّن مسار حياته. والحقيقة أنّ اختياره يعدّ من مقتضيات هذين البعدين الوجوديّين. ولا ريب في أنّ هدف الأنبياء والرُّسل ترسيخ دعائم البُعد الروحاني لدى البشر، على عكس الشيطان الذي لا هدف له سوى تقوية الميول الماديّة والبُعد الحيواني في أنفسهم. ولكنّ هذا قطعاً لا يعني سلب الاختيار من الإنسان وحرمانه من اتّخاذ القرار، لأنّ الله تعالى قد زرع هذه الإرادة في ذاته. فاتّخاذ القرار من شأنه أن يقود الإنسان نحو الرّفعة والكمال، أو يسحقه ويهوي به في قعر الذلّ والهوان، كما قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾1.
  
 
 

1- سورة الشمس، الآيات 7 إلى 10.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

15

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 وقد تمخّض عن هذين المسلكين صراعٌ عظيمٌ في وجود ابن آدم بين القوى الثلاث التي تحكم ذاته، وهي:

1- القوّة العاقلة.
2- القوّة الشهويّة.
3- القوّة الغضبيّة.
 
فالقوّة العاقلة التي هي رمز الخير والصلاح تستمدّ تعاليمها من وحي الأديان وهدى الأنبياء، أمّا القوّتان الأُخريان فهما رمزا الشرّ والضلال وتستمدّان تعاليمهما من الشيطان إذا لم يتم اخضاعها لحكم العقل والشرع. وميدان الصراع بين هذه القوى والمتمثّل بالخير والشرّ هو النفس الإنسانيّة، كما قال الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام: "العَقلُ صاحِبُ جَيشِ الرّحمانِ، والهوَى قائدُ جَيشِ الشّيطانِ، والنّفسُ متجاذِبةٌ بينهما, فأيّهما غلَبَ كانت في حَيّزهِ"1.
 
نستنتج ممّا ذُكر أنّ الدرجات المختلفة للبشر حسب المفاهيم القرآنيّة تعود في أساسها إلى الصراع القائم بين القوّة العاقلة وهوى النفس. فانتصار العقل في هذا الصراع بفضل اتّباعه تعاليم الشريعة وسيطرته على الأهواء والنـزعات الحيوانيّة، دليلٌ على أنّ النفس خاضعةٌ لأوامر بارئها وجنده، وهي النفس 
  
 
 

1- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، المكتب الإعلامي للحوزة العلميّة، سنة الطبع 1362ش، ج6، ص405.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

16

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 المطمئنّة التي وُعدت الجنّة والنعيم الأبديّ. وأمّا انتصار الجانب الشيطانيّ على العقل والمتجسّد بالحمَأ المسنون والذي يتمخّض عنه تسخير النفس للميول الماديّة الذميمة، فهو دليلٌ على أنّ النفس خاضعةٌ لوساوس الشيطان وجنده، وهي النفس الأمّارة التي لا تتورّع عن ارتكاب القبائح. وعندما تطغى القوى الشهوانيّة والحيوانيّة على النفس الأمّارة وتنقاد إلى وساوس الشّيطان فيؤنّبها العقل ويلومها على عصيانها واستسلامها لهجمات أعدائها، فهي التي تُسمّى النّفس اللوّامة.

 
كمال النفس الإنسانية
الإنسان هو الذي يحدّد مصيرَه ومكانته وذلك بالطبع حسب المنهج الذي يسلكه، فعندما يُدرك أنّ له جانباً روحيّاً أرقى من عالمه الماديّ ويختار سبيل التقرّب إلى بارئه ويجعله هدفاً له فتكون العبوديّة لله تعالى هي الصبغة العامّة لجميع حركاته وسكناته, فهو إنسانٌ كريمٌ عند الله تعالى ولا يُضاهيه أحدٌ من المخلوقات بالفضل، وحتّى أنّ حرمته أعظم من حرمة الكعبة والملائكة المقرّبين.1 ومهما تقدّم هذا الإنسان في سيرته التربويّة نحو معبوده الأوحد وكلّما ازداد مدى شوقه للوصول إليه، فلا شكّ في أنّه سيحظى باللذّة الواقعيّة الأزليّة. لكنّه إذا
  
 
 

1- روي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: " المؤمنُ أعظمُ حُرمَةً من الكعبةِ".(بحارالانوار، ج64، ص 71) و عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "المؤمنُ أعظمُ حُرمَةً عندالله و أكرم عليه من ملَكٍ مُقرَّبٍ".(بحارالانوار، ج64، ص 72)


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

17

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 ما غفل عن حقيقة خلقته، فسوف يكون أسير شهوته الحيوانيّة ويسقط في حبائل أهوائه ونزعاته الماديّة، وبالتالي سيُسخّر طاقاته وقدراته الذاتيّة في خدمة بطنه وبدنه، فيتحوّل إلى أتفه مخلوقٍ وأسوأ مثالٍ للشرّ بين سائر المخلوقات.

 
رُوي أنّ عبد الله بن سنان سأل الإمام جعفر الصادق عليه السلام: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فأجابه عليه السلام قائلاً: "قال أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: إنَّ اللهَ عزّ وجلّ ركّبَ في الملائكة عقلاً بلا شهوةٍ، وركّبَ في البهائم شهوةً بلا عقلٍ، وركّبَ في بني آدم كِلتَيهما, فمَن غلبَ عقلُهُ شهوَتَهُ فهو خيرٌ من الملائكة، ومَن غلبتْ شهوتُهُ عقلَهُ فهو شرٌّ من البهائمِ"1.
 
فالصراع الباطنيّ بين النفس الروحانيّة ذات الميول الربّانيّة والنفس الماديّة ذات النـزعات الشيطانيّة، هو الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بـ(الجهاد الأكبر)، وأكّد على أنّ الشجاعة الحقيقيّة تتجسّد في الظفر في هذا الميدان، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أشجَعُ الناسِ مَن غَلبَ هَواهُ"2.
 
وقد تطرّق الإمام الخمينيّ قدس سره إلى بيان حقيقة هذا الصراع قائلاً: "اعلَمْ أنَّ الإنسانَ كائنٌ عجيبٌ لهُ نشأتانِ 
  
 
 

1- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج1، ص362, محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج6، ص299.
2- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج70، ص68.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

18

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 وعالمانِ، نشأةٌ ظاهريّةٌ ملكيّةٌ دنيويّةٌ هي بدنُهُ، ونشأةٌ باطنيّةٌ غيبيّةٌ ملكوتيّةٌ تكون من عالمٍ آخر. إنَّ لروحِ الإنسانِ التي هي مِن عالمِ الغيبِ والملكوتِ مقاماتٍ ودرجاتٍ قَسَّموها بصورةٍ عامّةٍ إلى سبعةِ أقسامٍ حيناً وإلى أربعة أقسامٍ حيناً ثانياً وإلى ثلاثة أقسامٍ حيناً ثالثاً وإلى قسمين حيناً رابعاً. ولكلٍّ مِن المقاماتِ والدرجاتِ جنودٌ رحمانيّةٌ وعقلانيّةٌ تجذب النفسَ نحو الملكوت الأعلى وتدعوها إلى السعادةِ، وجنودٌ شيطانيّةٌ وجهلانيّةٌ تجذب النفسَ نحو الملكوتِ السُّفليِّ وتدعوها للشقاءِ. وهناك دائماً جدالٌ ونزاعٌ بين هذين المعسكرين، والإنسان هو ساحة حربهما, فإذا تغلّبت جنودُ الرحمنِ كان الإنسانُ من أهل السعادةِ والرحمةِ وانخرطَ في سلكِ الملائكةِ وحُشِرَ في زمرةِ الأنبياءِ والأولياءِ والصالحينِ.

 
وأمّا إذا تغلّب جندُ الشيطانِ ومعسكرُ الجهلِ، كان الإنسانُ من أهلِ الشقاءِ والغضبِ - غضوبٌ لله سبحانه - وحُشِرَ في زمرةِ الشياطينِ والكفّارِ والمحرومينِ"1.
 
إذن، حسب الرؤية الدينيّة وطبق أُسس علم الوجود الإنساني الإسلاميّ، فإنّ العبد سيبلغ أرقى درجات السموّ والكمال في عالم الملكوت وينال فضل بارئه، عندما ينتصر في نفسه الجانب المعنويّ الروحانيّ على الجانب المادّي الحيوانيّ في حياته
  
 
 

1- الإمام الخمينيّ قدس سره، الأربعون حديثاً، ص4.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

19

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 الدّنيا. وبالطبع فإنّ نتيجة الصراع الباطنيّ - الجهاد الأكبر - الذي ينتاب النفس الإنسانيّة، هي إمّا أن تصبح مطمئنّةً ويكون صاحبها أشرف المخلوقات وغاية ما في الكون كافّةً وخليفة الله في الأرض، أو أن تصبح أمّارةً بالسوء ويكون صاحبها أرذل المخلوقات وأسفل السافلين. لذا، ليس هناك أيّة ازدواجيّةٍ في كتاب الله تعالى, إذ إنّ الآيات التي وصفت الإنسان بالضعيف والجاهل والعجول وأضلّ سبيلاً من الأنعام، هي في الواقع ناظرةٌ إلى الجانب الشيطانيّ لنفس كلّ مَن كان عبداً للمادّة والغرائز الحيوانيّة وبعيداً عن المعنويّات، كما وصفه تعالى شأنه: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾1. فالابتعاد عن المعنويّات وإهمال الجانب الرّوحي يجعل الإنسان عاجزاً عن إدراك الحقائق ويحوّله إلى حيوانٍ لا يفقه من الحياة سوى الأكل والشهوة، بل يحوّله إلى جمادٍ لا شعور له. وأمّا الآيات التي وصفت الإنسان بأنّه أشرف المخلوقات وخليفة الله في الأرض وغاية الخلقة، فهي ناظرةٌ إلى الجانب الملكوتيّ لنفس كلّ مَن كان عبداً لله تعالى ورجّح دينَه على ملذّاته وشهواته، فانتصر عقله على هواه في جهاده الأكبر.

  

1- سورة الأنفال، الآية 22.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

20

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 الموازنة بين كمالات الروح وحاجات البدن

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي الحلول التي وضعتها الأديان السماويّة، ولا سيّما الإسلام، بالنسبة إلى صراع الإنسان المصيريّ - الجهاد الأكبر - كي يتسنّى له تحقيق متطلّبات حياته الماديّة وتلبية غرائزه المشروعة الضروريّة لديمومة حياته في رحاب العقل والروح السامية؟ فالإنسان بطبيعة الحال يمتلك غرائز حيوانيّة لا بدّ له من إشباعها، والإسلام لم يتجاهل هذا الأمر ولم ينهَه عن ذلك أبداً. وكذلك فإنّ التعاليم الإسلاميّة لا تأمر الإنسان بالاعتزال عن الدنيا اعتزالاً تامّاً والتزام المعنويّات وحسب، بل أمرته بالتّلفيق بين الأمرين دون أن يخالف الشّرع, حيث قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾1. وانتقد عزّ وجلّ الرّهبانية التي ما أنزل بها من سلطان قائلاً: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾2.
 
وقد تطرّق العلّامة الفيض الكاشاني إلى هذا الموضوع في تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾3، وذكر روايةً جاء فيها أنّ ثلاثةً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرادوا 
  
 
 

1- سورة القصص، الآية 77.
2- سورة الأعراف، الآية 32.
3- سورة المائدة، الآية 87.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

21

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 ترك الدنيا بعد تأثّرهم بآيات العذاب، فسلكوا مسلكاً رهبانيّاً نوعاً ما، فأقسم أحدهم أن لا ينام بالليل أبداً وحلف الثاني أن لا يفطر بالنهار أبداً وحلف الثالث أن لا ينكح أبداً. فلمّا وصل الخبر إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جمع الناس وصعد المنبر وقال: "ما بالُ أقوامٍ يُحرِّمونَ علَى أنفسِهم الطّيباتِ؟! إنِّي أنامُ بالليلِ وأنكحُ وأفطرُ بالنهارِ، فمَن رغبَ عن سُنّتي فَليسَ مِنِّي"1.

 
وتعاليمنا الدينيّة تؤكّد على وجوب التعامل مع الغرائز والرغبات النفسيّة بأُسلوبٍ أمثلٍ، أي لا بدّ أوّلاً من توجيهها بشكلٍ صحيحٍ وإشباعها وفقاً لضوابط خاصّةٍ كي لا تكون مُفسدةً تسبب الضرر للإنسان ولمن يحيط به، وحتى لا تحول دون تحقّق توجّهاته المعنويّة التي تقوده إلى السعادة. وثانياً، بما أنّ إطلاق العنان للغرائز والنـزعات النفسيّة سببٌ لطغيان الإنسان ووقوعه في التهلكة، فلا بدّ من وجود رادعٍ يمسك بزمام هذه الغرائز والنـزعات ويحول دون انحرافها وتمرّدها. والحقيقة أنّ هذا العامل هو القوّة العقلانيّة المسدّدة بالوحي المقدّس، حيث من شأنها تلبية رغبات الإنسان في نطاق النفس الروحانيّة وتنقذه من قيود النفس الشّيطانيّة، وتهديه إلى سواء السّبيل.
 
وبالطبع فإنّ أهمّ سببٍ لبعثة الأنبياء وإنزال الكتب السماويّة هو هداية العقل نحو الطريق الصّحيح وصيانته من وساوس الشّيطان
  
 
 

1- الفيض الكاشاني، التفسير الصافي، ج2، ص97. وقد نقل هذه الرواية العلامة محمّد باقر المجلسيّ في بحار الأنوار باختلافٍ يسيرٍ في باب النهي عن الرهبانيّة. بحار الأنوار، ج67، ص116.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

22

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 وطغيان نفسه الحيوانيّة، لذا يجب على الإنسان أن يخوض غمار الجهاد الأكبر اعتماداً على أُصول الوحي السماويّ المقدّس المتجسّد في كتاب الله تعالى الذي هو هدىً للعالمين، فالتعاليم السمحاء التي يزخر بها هذا الكتاب العظيم هي أفضل سبيلٍ للسيطرة على الغرائز والنـزعات الحيوانيّة والرذائل الشّيطانيّة.


فميول الإنسان إلى الغرائز النفسانيّة والنـزوات الحيوانيّة قويّةٌ للغاية كونها تتلاءم مع طبيعته، وأيضاً فإنّ عدوّه اللّدود إبليس يترصّده ويتحيّن الفرص كي يقوّي لديه النـزعة الحيوانيّة والرغبات الشهوانيّة، وبالتالي يصدّه عن بلوغ مراتب الفيض المعنويّ, بل يقوّي في نفسه الأنانيّة وحبّ الدنيا وحبّ المناصب واتّباع الشهوات وروح الهيمنة، وما إلى ذلك من رغباتٍ تهوي به وبأمثاله في الحضيض. وفي خضمّ هذا الصّراع المرير، يا تُرى كيف آزر الأنبياءُ قوى العقل وجندَ الله تعالى، ولاسيّما خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن الكريم؟ وما هي البرامج التي وضعوها للبشر كي يتمكّنوا من تحكيم عقولهم أمام القوى الشّيطانيّة التي تطغى على أنفسهم؟ وما الذي ينبغي للإنسان فعله كي يتصدّى للغرائز الباطنيّة والهجمات الشّيطانيّة حتّى يُفلح وينجو من غياهب الضلال؟ فما هي البرامج التي عرضها القرآن الكريم والسنّة النبويّة لكبح جموح النفس الشهوانيّة وتلبية متطلّباتها الشرعيّة في إطار منهجٍ معنويٍّ متكاملٍ؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

23

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

 وانطلاقاً من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أعدَى عَدوِّكَ نفسُكَ التي بينَ جَنبَيكَ، فَلا تَغفل عنها وأَوثقها بقيدِ التَّقوَى"،1 فما هو السلاح الأنجع الذي يصدّ هذا الخصم العنيد ويكبت جموحه في غمار الجهاد الأكبر؟ فالنفس هي ألدّ عدوٍّ للإنسان، لأنّ الهزيمة أمامها تعني الهزيمة المطلقة والغلبة عليها تعني الغلبة المطلقة. والجواب على هذا السؤال لا يمكن أن يتلخّص في إطارٍ علميٍّ أو دينيٍّ محضٍ، بل لا بدّ أن يكون شاملاً واسع النطاق لأنّه ذو تأثيرٍ كبيرٍ على الإنسان، ومن شأنه تعيين مساره في الحياة.

 
ونحيط القارئ الكريم علماً بأنّنا سوف نتطرّق إلى ذكر بعض السُّبل الكفيلة بنجاة الإنسان من مهالك الشيطان لاحقاً، وذلك استناداً إلى الحقائق السامية التي نستلهمها من تعاليم ديننا ومفاهيم كتاب الله المجيد، راجين أن تكون نقطة انطلاقٍ لعبوديّةٍ أفضل لجميع القرّاء الكرام، خصوصاً الشباب الطامح إلى السعادة والكمال الواقعيّ. ولا ريب في أنّ سموّ مبدأ العبوديّة في نفس العبد سيُحلّق به في أُفق الملذّات المعنويّة الرّحب ويجول به في جنان الحريّة والفلاح، وفي نفس الوقت سيكسر شوكة الشّيطان الذي يترصّد به الحيَل أينما حلّ ونزل. ومن الجدير بالذكر أنّ سبُل الكمال الحقيقي هي دواءٌ ناجعٌ لكلّ ما يلوّث الذات من ذنوبٍ وأدران, لأنّ تعاليمنا الدينيّة قد وضعت علاجاً لكلّ داءٍ.
 
 
 

1- ابن فهد الحلّي، عدّة الداعي، ص295.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

24

معرفة النفس

 معرفة النفس

 
سبيل الهدى
إنّ تهذيب النّفس هو أوّل أمرٍ أوصى الإسلام به الناس للظّفر على جنود إبليس والتخلّص من صفات النّفس الرّذيلة. وبالطبع، فإنّ أوّل خطوةٍ في هذا المضمار هي معرفة حقيقة النّفس ومدى طاقاتها الكامنة وكلّ ما يرتبط بها. فهذه المعرفة تضيء طريق الإنسان في مسيرته نحو الكمال والسعادة المنشودة، كما تحفظه من أن يبيع نفسه بأبخس الأثمان وبذرائع واهيةٍ, فهي أسمى المعارف وأرقاها كما قال الإمام عليّ عليه السلام: "أفضَلُ المعرفَةِ مَعرفَةُ الإنسانِ نفسَهُ"1. كما قال: "نالَ الفَوزَ الأكبَرَ مَن ظفرَ بمعرفةِ النفسِ"2. وقال أيضاً: "أعظَمُ الجهلِ جهلُ الإنسانِ أمرَ نفسهِ"3.
 
والواقع أنّ سبب انحراف الإنسان هو غفلته عن حقيقة ذاته 
 
 

1- محمّدى الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج6، ص140.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق، ص141.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

25

معرفة النفس

 ومكانته العظيمة بين سائر المخلوقات وجهله بالهدف السامي الذي خُلق من أجله، ألا وهو بلوغ درجات الكمال عند مليكٍ مقتدرٍ. فالعبد الذي يزلّ عن طريق الصواب هو في الحقيقة منهمكٌ في بلوغ مآرب وأهداف عبثيّة بعيدةٍ كلّ البعد عن مسلك الكمال المنشود الذي يحققّ له السعادة الأبديّة، بل إنّها تحول دون بلوغه ذلك ويصبح تائهاً حائراً من حيث لا يشعر فيحاول أن ينال مبتغاه، لكن دون جدوى، حيث قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "عَجِبتُ لمـَن يُنشدُ ضالَّتَهُ وقدْ أضلَّ نفسَهُ فَلا يَطلُبُها"1. وقال أيضاً: "مَن لَم يَعرفْ نفسَهُ بَعُدَ عَن سُبُلِ النّجاةِ وخَبَطَ في الضّلالِ والجهالاتِ"2.

 
وعلى الرغم من أنّ الخوض في علم الوجود الإنسانيّ للتعرّف إلى خصائص ابن آدم وطاقاته الكامنة يحظى بأهميّةٍ بالغةٍ بين مختلف المدارس الفكريّة على مرّ العصور، إلا أنّها لم تتمكّن من إشباع رغباته على المستويَين العقائديّ والعمليّ، فأخفقت في طرح منهجٍ متكاملٍ ينسجم مع واقع حاله ويلبّي جميع طموحاته ومتطلّبات حياته، وذلك بالطبع يرجع إلى ضيق نطاقها الفكريّ وعدم إحاطتها بمكامن شخصيّة الإنسان. فكلّ مدرسةٍ قد اكتفت بذكر بعض خصائص الإنسان وحقائق خلقته، ولم تتطرّق إليها كافّةً, لأنّها في الحقيقة لم 
 
 
 

1- عبد الواحد التميميّ الآمديّ، غرر الحِكم ودُرَر الكلِم، ص233.
2- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ص141.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

26

معرفة النفس

 تتمكّن من معرفة واقع الإنسان وبالتالي فشلت في السيطرة على جموح شخصيّته وتهذيبها رغم جهودها الحثيثة، فكانت نظريّاتها مبتورةً تشوبها تناقضاتٌ جذريّةٌ. لذا فإنّ كلّ مدرسةٍ باتت تنقض آراء الأُخرى لعدم إدراكها كُنه شخصيّة الإنسان وعجزها عن طرح نظريّةٍ معرفيّةٍ شاملةٍ بهذا الصدد، كما أنّها لم تطرح تفسيراً واضحاً لماضي الإنسان (مبدأ خلقته) ولمستقبله (معاده يوم القيامة)، واضطرّت لأن تتناول شخصيّته في إطارٍ ماديٍّ بحتٍ، فلم تتمكّن من تسخير طاقاته وتلبية أهدافه إلا في نطاق حياته الدنيويّة1.

 
أمّا المدرسة التوحيديّة، فلا يشوب نظريّاتها أيّ خللٍ أو نقصٍ، وذلك من مبدأ النظرة التوحيديّة التي تتمحور حول وحدانيّة الله تعالى خالق كلّ شيءٍ والمحيط به علماً. فهو العالم بمكامن شخصيّة الإنسان ومتطلّبات روحه وبدنه، لذلك فقد خطّ له سبيل هدايةٍ يلبّي كلّ رغباته ويحقّق آماله في الحياتين الدنيويّة والأخرويّة, وهذا السبيل لا يعتريه أيّ تناقضٍ مطلقاً، باطنيّاً كان أو ظاهريّاً، ولم يُجزّأ الإنسان إلى أبعاض مختلفةٍ كما فعلت المدارس الأخرى. ومن أهمّ النظريّات القرآنيّة التوحيديّة التي تُعدّ أساساً قويماً يرتكز عليه الإنسان في طريقه
 
 
 

1- للاطّلاع على تفاصيل أكثر، راجع كتاب (الإنسان الكامل) للشيهد مرتضى المطهّري، وكذلك كتاب (علم الوجود الإنسانيّ) للشيخ محمود رجبي، الذي تكفّل بنشره معهد الإمام الخميني Mللتعليم والأبحاث عام 1380ش الفصل الأول.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

27

معرفة النفس

 نحو الحقّ والهدى ذهنيّاً وعمليّاً، هي اعتباره أشرف المخلوقات وأعظم آيات الله تعالى.

 
فالصورة الصحيحة التي عرضها كتاب الله تعالى حول حقيقة الإنسان والأُسس التي وضعها لبلوغ غاياته ومقاصده النهائيّة وتأكيده على أنّه كائنٌ يتمتّع بخصالٍ ساميةٍ تفوق سائر المخلوقات، هي قواعد وأصول تحفظه من الضلال والانجرار وراء وساوس الشيطان وملذّات الدنيا الفانية، بل تجعله يسخّر غرائزه وبدنه الماديّ خدمةً لأهدافه النبيلة بكلّ اقتدارٍ، فيتّخذها سلّماً لبلوغ مبتغاه الحقيقيّ. لذلك فقد أمره الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم بالبصيرة والتعقّل، حين قال: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾1. كما أكّد سبحانه وتعالى على أنّ العبد لا يمكنه سلوك سبيل الهدى إلا إذا عرف نفسه وصانها من مسالك الضلال، فخاطب المؤمنين قائلاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾2.
 
ولو عرف الإنسان نفسه حقّ المعرفة، فسوف يعرف مبدأه ومعاده، أي خالقه الذي أنعم عليه بالوجود، كما قال الإمام عليّ عليه السلام: "مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ"3.
 
فالإنسان هو أعظم آيات الله تعالى ومرآة الحقّ وأشبه 
 
 

1- سورة الذاريات، الآية 21.
2- سورة المائدة، الآية 105.
3- محمّدي الرّيشهريّ، ميزان الحكمة، ص142.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

28

معرفة النفس

 المخلوقات به جلّ شأنه، وهو الذي نفخ الله فيه من روحه, لذا فإنّ معرفة ذاته هي في الحقيقة معرفة ذات الله، وقد أكّد عزّ وجلّ على هذه الحقيقة في كتابه المجيد في قوله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾1.

 
وإذا عرف الإنسان حقيقة وجوده وكُنه ذاته، فلن يُسيطر أحدٌ على فؤاده ولن تخدعه النـزوات العبثيّة والآمال الكاذبة. قال سيّد الموحّدين عليّ عليه السلام: "مَن عرَفَ نفسَهُ لَم يُهِنْها بالفانياتِ"2.
 
ينقل الأستاذ الشهيد مرتضى المطهّري رحمه الله عن غاندي قوله: تعلّمت من الـ(أبانيشاد)3 ثلاثة قواعد أساسيّة اتّخذتها منهجاً لي في حياتي، وهي:
1- هناك معرفةٌ واحدةٌ في عالم الوجود، وهي معرفة النفس.
2- كلّ مَن عرف نفسه، فقد عرف ربَّه وعالمَه.
3- هناك قدرةٌ واحدةٌ في الكون، هي قدرة الإنسان على ضبط نفسه, وهناك إحسانٌ واحدٌ يتجلّى في محبّة الإنسان للآخرين4.
 
 
 

1- سورة فصّلت، الآية 53.
2- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ص142.
3- الأبانيشاد هو الجزء الأخير في مجموعة من الكتابات الهندوسية التي تُسمى الفيدات (جمع فيدا). وتكوِّن الأبانيشاد جزءاً أساسياً من مصادر الديانة الهندوسية، كما أثَّرت في معظم الفلسفات الهندية. ويُطلق عليها أحياناً اسم الفيدنتا وتعني الكلمة تجميع الفيدا. أما كلمة أبانيشاد فتعني (الجلوس بالقرب من). وهذا يشير إلى أن هذه المادة كانت سرية في الأصل.
4- الشهيد مرتضى المطهّريّ، مجموعة آثار (باللغة الفارسيّة)، ج22، ص430.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

 


29

معرفة النفس

 إنّ علم الوجود الإنسانيّ في القرآن الكريم والأصول الإسلاميّة، له أبوابٌ مستقلّةٌ وأبحاثٌ مفصّلةٌ، نكتفي هنا بذكر ما يناسب موضوع الكتاب وما من شأنه تربية النفس وترويضها، وذلك بشكلٍ موجزٍ.

 
حقيقة الإنسان
حسب المفاهيم السامية في كتاب الله العزيز وتعاليم ديننا الإسلاميّ الحنيف، فإنّ الإنسان كائنٌ مركّبٌ من بُعدين، هما الجسم والروح، وعليه أن لا يُهمل أيّاً منهما مهما كانت الظروف. لكنّ حقيقة الإنسانيّة هي كون الإنسان روحاً مجرّدةً من سنخ خالقه، والبدن هو مطيّة هذه الروح التي لا يمكنها الاستغناء عنه في الحياة الدنيا.
 
إنّ شرف الإنسان وعظمته يكمنان في نفخ روح الله فيه: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾1، فخلقه في أحسن تقويمٍ وكرّمه وأمر الملائكة بالسجود له: ﴿فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾2، ثمّ جعله خلقاً آخر: ﴿أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾.3 ومن هذا المنطلق فإنّ النصوص الدينيّة من آياتٍ وأحاديث قد اهتمّت بروح الإنسان وبدنه على حدٍّ سواء، وأكّدت على أنّ كمال ابن آدم يتجلّى في سموّ روحه وانهماكه بالأمور المعنويّة التي تقرّبه إلى بارئه عزّ 
 
 
 

1- سورة الحجر، الآية 29, وكذلك سورة ص، الآية 72.
2- تتمّة الآيتين السابقتين.
3- سورة المؤمنون، الآية 14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

30

معرفة النفس

 وجلّ. وهذا التوجّه في الواقع مترسّخٌ في ذاته وفطرته فيرافقه في رحلته الماديّة إلى عالَم الروح والأزل: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾1.

 
فالإنسان قد خُلق من ترابٍ ونُفخت فيه الروح، ثمّ هبط إلى الأرض واستقرّ فيها, لكنّه أُمر أن لا يبقى ماديّ الوجود ويظنّ أنّ الدنيا مقرٌّ له، بل يجب عليه أن يبدأ سيرتَه الروحيّة انطلاقاً من هذا العالم الماديّ وذلك بسعيه الحثيث وعدم استسلامه لملذّات الدنيا وزخرفها، وبالطبع كلّما سار قُدُماً في هذا السبيل وترسّخت في نفسه حقائق إنسانيّته، فإنّ منـزلته سترقى أكثر وأكثر.
 
حريّة الاختيار
إنّ أهمّ صفةٍ تُميّز الإنسان عن غيره من المخلوقات هي إرادته، أي قدرته على الاختيار. ونستلهم من تعاليمنا الدينيّة أنّ الإنسان ليس مخيّراً تكويناً وحسب، بل إنّه مخيّرٌ تشريعاً أيضاً, إذ له الإرادة التامّة في تعيين برنامج حياته واختيار المنهج الذي يسلكه، فدَور الأنبياء والأئمّة عليهم السلام هو توضيح حقائق الدين وهداية الناس إلى الصراط القويم وتحذيرهم من مكائد الشيطان. قال تعالى في كتابه المجيد: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾2.
 
 
 

1- سورة الانشقاق، الآية 6.
2- سورة الإنسان، الآية 3.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

31

معرفة النفس

 فالأنبياء والرسل عليهم السلام يُرشدون الناس إلى الحقّ، أمّا سلوك هذا الطريق أو الانحراف عنه فمرتبطٌ بالناس أنفسهم، كما قال عزّ وجلّ: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾1.

 
وعلى الرغم من اعتراف التعاليم الدينيّة بتأثير بعض العوامل الخارجيّة على شخصيّة الإنسان وحالته النفسيّة، إلا أنّها لا تعتبر ذلك وازعاً لسلب اختياره وإرادته.
 
الالتزام بالمبادئ وقبول المسؤوليّة
طبق أُصول ديننا الإسلاميّ، فإنّ الإنسان يمتلك الإرادة الكاملة في اختيار طريقه في الحياة، ولكنّه في الوقت ذاته مسؤولٌ عن تصرّفاته وسلوكه وكلّ موقفٍ يتّخذه. قال تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾2. إذن، بما أنّ الإنسان يتمتّع بالقدرة على الاختيار، فهو بالطبع مسؤولٌ عمّا يفعل. فالإنسان ليس مكرهاً على اعتناق الدين وله الإرادة المطلقة في ذلك، ولكن لو اعتنقه بتعقّلٍ والتحق بسلك المؤمنين، عليه أن يلتزم بمبادئه ويعمل بتعاليمه، ولا يحقّ له مخالفة أوامره لأنّه اختار هذا النطاق في الدنيا لكي يحظى بالأُفق الرحب في عالم الآخرة وينال السعادة المنشودة. قال الله عزّ وجلّ في كتابه 
 
 
 

1- سورة الكهف، الآية 29.
2- سورة الصافّات، الآية 24.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

32

معرفة النفس

 العزيز: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾1.

 
والله تعالى سوف يسأل جميع البشر يوم القيامة عمّا كانوا يعملون، ولا يستثني أحداً أبداً حتّى رسله وأنبياءه عليهم السلام، حيث قال: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾2. وأكّد على هذه الحقيقة أيضاً في آيةٍ أُخرى قائلاً سبحانه: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾3.
 
خلود الإنسان
من أهمّ ميزات علم الوجود الإنسانيّ الدينيّ أنّه يتضمّن نظرةً منطقيّةً لمسألة بحث الإنسان عن الخلود، وحسب أُصوله فإنّه مخلوقٌ خالدٌ. وهذه الرؤية بذاتها تعدّ وازعاً لتفتّح الأمل لديه وحافزاً لترسيخ روح السعي نحو أُفق السعادة الرحب في نفسه وتجاوز المشاكل التي تعترض طريقه نحو الكمال، وتجعل ذلك من الأمور المحبّبة والمفضّلة في نفسه ولا يخشى حينها الموتَ، بل يعتبره بوّابةً لحياةٍ أزليّةٍ منعّمةٍ قد ادّخر لها ما استطاع في حياته الدنيويّة.
 
فمبدأ الخلود هو أصلٌ شاملٌ لا يُستثنى منه أحدٌ من
 
 
 

1- سورة الأحزاب، الآية 36.
2- سورة الأعراف، الآية 6.
3- سورة الحجر، الآيتان 92-93.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

33

معرفة النفس

 البشر. وبالطبع، فإنّ أعمالهم في الحياة الدنيا هي التي تُحدّد مصيرهم في الحياة الآخرة, فعاقبتهم إمّا الخلود في جنّات النعيم ونيل السعادة الأبديّة، وإمّا الخلود في الجحيم ومكابدة الشقاء الأزليّ.

 
كمال الإنسان
إنّ ابن آدم مخلوقٌ طَموحٌ لا حدّ لرغباته ومتطلّباته، فهو بفطرته يطلب الكمال، وميوله مطلقةٌ لا يُشبعها سوى تطلّعه إلى نعيم جوار ربّه اللامحدود, وهذه بطبيعة الحال من مقتضيات الروح اللاّمتناهيّة التي نفخها الله سبحانه فيه. لذا، فهو لا يحظى بالسكينة والطمأنينة الحقيقيّة إلا بالتقرّب إلى بارئه: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾1.
 
فلو تمتّع الإنسان بكلّ شيءٍ وأُتيحت له جميع السُّبل، ولكنّه لم يلتجئ إلى الله تعالى وابتعد عنه, فسوف يضلّ عن الصراط القويم ويُبتلى بحياةٍ يشوبها القلق ويسيطر عليها الاضطراب، كما قال جلّ شأنه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾2.
 
إنّ الإنسان بطبيعته الذاتيّة وتركيبته الماديّة يميل إلى بارئه عزّ وجلّ ويرى أنّ كماله الحقيقيّ لا يتحقّق إلا بالتقرّب إليه،
 
 
 

1- سورة الرعد، الآية 28.
2- سورة طه، الآية 124.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

34

معرفة النفس

 لأنّه مبدعه ونافخ الروح فيه وسنده في الملمّات والمصائب، لذلك فإنّ التلذّذ بهذا القرب سوف ينتشله من أوهام ملذّات الدنيا الزائلة. فذروة لذّة الإنسان تتحقّق في تقرّبه إلى الله تعالى، وهي القربة التي أكّدها القرآن الكريم ولا يذوق طعمها إلا المؤمنون، إذ يسمو الإنسان من خلالها ويترفّع على نفسه الحيوانيّة وسائر المخلوقات لينعم حقّاً بحياةٍ طيّبةٍ. وأمّا إذا ما ترك ابن آدم نعمة العقل وقوّة الإيمان وانهمك بملذّات الدنيا وشهواته الحيوانيّة والتي هي في حقيقتها فانيةٌ ومزيّفةٌ، فسوف يتحوّل إلى أرذل خلق الله. وقد تمّ التأكيد على هذه الحقيقة في الآيتين التاليتين: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾1، ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾2.

 
إنّ الكمال الذي يُحقّق للإنسان السعادة الأزليّة هو هدفٌ مشتركٌ لجميع المدارس الفكريّة، لكنّها تختلف في كيفيّة بلوغه. أمّا حسب مبادئ وأُصول المدرسة الإسلاميّة، فإنّ سعادة الإنسان الحقيقيّة لا تتحقّق إلا بالتقرّب إلى الله سبحانه وتعالى والانصياع لأوامره، وتؤكّد على أنّه مخلوقٌ ذو فطرةٍ سليمةٍ يمكن أن يسلك طريق الهدى الذي يسوقه نحو الكمال الحقيقيّ. وبالطبع، فإنّه يسلك هذا الطريق بقدرته العقلانيّة 
 
 
 

1- سورة الأنفال، الآية 22.
2- سورة الأنفال، الآية 55.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

35

معرفة النفس

 التي تُعتبر رسولاً باطنياً وبمساعدة أنبياء الله تعالى وأئمّته الكرام. فالأنبياء وأئمّة الهدى، وبمساعدة القوى العقليّة الكامنة في الإنسان، يشذّبون الطاقات الفطريّة الكامنة لديه ويحيونها ليسلك السبيل القويم.


وبعبارةٍ أُخرى، فإنّ الهدى هو تشريعٌ أقرّه الله تعالى ولا يتحقّق إلا عن طريق حمَلة وحيه والعقل الذي أكرم الإنسان به، والهدف منه بلوغ الكمال والسعادة الأبديّة.

الإنسان هو محور الخلقة
إنّ الإنسان هو الغاية من الخلقة، وقد مكّنه الله تعالى من التدخّل في عالم التكوين وتسخير جميع المخلوقات في خدمته لو بلغ الدرجات العُلا وتقرّب إليه.

يقول العلّامة حسن زادة الآملي بهذا الصدد: "إنّ كلّ مَن يتأمّل في قيمة الإنسان التكوينيّة سيُدرك أنّه معيار كلّ شيءٍ والأساس في قيمته، أي أنّ علم الإنسان وأحاسيسه هي معيار كلّ ما هو معلوم ومحسوس، وأنّ قيمة كلّ مخلوقٍ مرتبطةٌ بوجود الإنسان وبمدى استثماره لهذا الوجود وبالحضارة الإنسانيّة بشكلٍ عامٍّ. فالإنسان هو الذي يطوي طريق العلم بين جميع المخلوقات وفي جميع العوالم والدرجات، ولا حدّ لسيره نحو مقام الرفعة والسموّ، فكلّما بلغ درجةً فهو لا يتوقّف فيها بل يعرج إلى درجةٍ أعلى منها فيحظى بصفات كمال جميع المخلوقات ويسيطر عليها، ومن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

36

معرفة النفس

  ثمّ يصل إلى جوار محور الحقيقة ذي الحياة المطلقة والجمال والجلال. ونظراً لما حازه من كمالٍ ومرتبةٍ ساميةٍ، سوف يتمكّن بإذن هذا الربّ الجليل من التصرّف في مادّة الكائنات ويصبح سيّداً للبشر وخليفةً لربّه وتكون جميع أفعاله ربّانيّةً"1.

 
الإنسان بطبعه كائنٌ لا يتأثّر بما حوله ولا يستسلم له، بل هو الذي يصنع ما حوله ويؤثّر فيه، ويسعى لأن يجعل بيئته الخارجيّة متلائمةً مع أفكاره وتوجّهاته. لذا، لو أصبح صالحاً في ذاته فسوف يكون مصلحاً لما حوله، ولو أنّه أفسد ذاته واتّبع أهواءه سوف يكون منحطّاً ومفسداً لما حوله. فإذا سيطرت شهوته على باطنه وسخّرت عقله ومعرفته للأهواء والنـزعات المنحرفة، بالطبع سينعكس ذلك على ظاهر حاله لتكون الشهوات هي الحاكمة على سلوكه وعقله، كما هو الحال بالنسبة إلى تعامله مع الآخرين، حيث يجعل شخصيّته تنسجم مع الآخرين وتتناغم مع توجّهاتهم.
 
فالله تعالى لم يجعل الإنسان مخلوقاً متقوقعاً ومنـزوياً، بل أتحفه بفطرةٍ تشوبها النـزعة الاجتماعيّة، كما أنّ جلّ طاقاته وخصاله الكماليّة لا تتحقّق إلا عن طريق ترسيخ صلته بالآخرين. وحسب رؤيتنا الإسلاميّة فإنّ أحد أفضل طرق التقرّب إلى الله تعالى وأكثرها تأثيراً هو إدراك معاناة الآخرين والتقرّب إليهم وإصلاح أُمور المجتمع.
 
 
 

1- حسن حسن زاده آملي، مئة كلمة في معرفة النفس، الكلمة رقم مئة. (كتاب فارسي)


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

37

اجتناب المعاصي والذنوب

 اجتناب المعاصي والذنوب

 
حقيقة الذنب
إنّ أهمّ سببٍ لارتكاب المعاصي وانحراف الفرد والمجتمع، هو الغفلة عن حقيقة الذنوب التي هي قُبحٌ محضٌ. وحقيقة الذنب هي التنصّل عن أوامر الله تعالى. فهذه الغفلة تسلب الشعور من الإنسان وتجعله كالجسد الذي لا روح فيه، حيث لا يفقه من إعجاز الوحيّ السماويّ شيئاً، كما وصفه تعالى في كتابه المجيد: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾1.
 
ومن جانبٍ آخر، فإنّ الاعتقاد بقبح المعاصي ووخامة نتائجها، يصون الإنسان من ارتكابها ويقوّي فيه الدافع لمقاومة جموح النفس وكبح نزواتها.


حسب تعاليمنا الدينيّة فإنّ الصفات الرذيلة والأعمال القبيحة هي أمراضٌ مهلكةٌ وسموم فتّاكةٌ، حيث حرّمها الله عزّ وجلّ صيانةً لعباده من مفاسدها وعواقبها الوخيمة، لذا يجب على العبد أن يُدرك مدى قبحها ويجتنبها، كما عليه أن يندم لو ارتكبها ثمّ يتوب إلى الله توبةً نصوحاً.
 
 
 

1- سورة النمل، الآية 80.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

38

اجتناب المعاصي والذنوب

 معرفة المذنب مقدمة لعلاجه

الإنسان كائنٌ مركّبٌ من جسمٍ وروحٍ، وبالطبع فإنّ روحه تتعرّض لأمراضٍ حالها حال جسمه، لذا يجب عليه أن يحذر من هذا الخطر المحدق به, فكما أنّه يبذل قصارى جهده لعلاج داءٍ ألمّ به ولا يغفل عنه كي لا يستفحل ويودي بحياته، كذلك عليه أن لا يغفل عمّا يصيب الروح من أمراض مهلكة. فالروح الإنسانيّة تُبتلى بالذنوب والمعاصي، وبالطبع فإنّ من يلتفت إلى هذا الداء ويُدرك ضرَره سوف يعرف مدى خطورته، وبالتالي سيبحث عن العلاج الذي يُنقذه. وإذا ما ابتُلي الإنسان بصفاتٍ نفسيّةٍ ذميمةٍ، كالبخل والحسد والغضب وحبّ الدنيا، وتحوّلت أفعاله الإراديّة إلى معاصٍ وآثام تجعله يعيش لذّةً وهميّةً لا يشعر معها بألم ويغفل عن عواقبها السيّئة, فسوف لا يجد الدافع إلى علاجها والحؤول دون استفحالها. وبالتالي فإنّ هذا المرض الفتّاك سوف يشتدّ يوماً بعد يومٍ ويسوقه نحو المهلكة، لأنّه تنصّل من الأوامر وعطّل مدركاته حاله حال البهيمة التي لا عقل لها، بل أسوأ منها.

لذلك لو أراد الإنسان حفظ سلامة روحه والسيطرة على جموح نفسه الأمّارة، يجب عليه إدراك كلّ ما يدور حوله ومعرفة المخاطر المحدقة به كي يتحقّق في ذاته الدافع لكبحها ويستعدّ لمواجهتها بكلّ ما أُوتي من قوّةٍ، وحتّى يتمكّن في نفس الحين من اتّخاذ الاجراءات اللازمة لعلاجها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

39

اجتناب المعاصي والذنوب

 نذكر مثالاً هنا لبيان هذا الأمر بشكلٍ جليٍّ: الإنسان العاقل لا يتناول طعاماً مسموماً مهما كان جائعاً، فيرجّح الصبر ويتحمّل الجوع. ولو أنّه أخطأ وتناول بعضه، فسوف يبذل ما بوسعه للتخلّص من آثاره فور علمه بذلك، حتّى وإن اقتضى الأمر تجرّع مرّ الدواء. ولكنّ مَن يغفل عن ذلك ولا يشعر بسريان السمّ في بدنه، فسوف تستفحل المشكلة ويتضاعف مفعوله شيئاً فشيئاً إلى أن يقضي عليه.

 
وكذا هو الحال بالنسبة إلى المؤمن الواعي الذي يُدرك الخطر الكامن في استسلامه للغرائز الحيوانيّة والوساوس الشيطانيّة الذي هو أشدّ فتكاً من السمّ المهلك، فيصون نفسه من المنكرات والرذائل، وحتّى إن وقع في الخطأ يوماً وارتكب ذنباً فإنّ النفس اللوّامة ستهيّج فيه الإحساس بالقلق والندم وتحفّزه لأن يبحث عن العلاج ويكافح الشوائب التي هاجمته بأُسلوبٍ منطقيٍّ ومشروعٍ. وحسب الرؤية القرآنيّة، فإنّ أعظم خسرانٍ للإنسان هو قيامه بأفعالٍ قبيحةٍ لا يشعر معها بتأنيب الضمير ولا ألم الذنب حينما يُبتلى بجهلٍ مركّب ويعدّها أفعالاً حسنةً، كما قال جلّ شأنه في كتابه الكريم: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾1. فهكذا شخصٌ هو الأكثر خسراناً بين
 
 
 

1- سورة الكهف، الآيتان 103-104.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

40

اجتناب المعاصي والذنوب

 أقرانه، لأنّ مَن يفعل منكراً وبعد ذلك يُدرك قُبح فعلته فسوف يضع حدّاً لعصيانه ولا يدنّس الحرمات بارتكابه مرّةً أُخرى، وقد يتوب توبةً نصوحاً ويُصلح باطنه.

 
مخاطر الاستخفاف بالذنب
أمّا الأثيم الذي يتهاون في ارتكاب المعاصي ويعتبر إثمه عبادةً ويرى أنّ انحرافه استقامةٌ فهو في الحقيقة يخوض غمار أسوأ أنواع البلاء ولا يكبح جموحه شيءٌ، حيث يُفسد حياته ويهدر كلّ فرص النجاة. وقد وصف الإمام عليّ عليه السلام الاستخفاف بالذنوب في عبارةٍ وجيزةٍ حين قال: "أشَدُّ الذُّنوبِ ما استخَفَّ بهِ صاحِبهُ"1. وأشار في موضعٍ آخر إلى أنّ أعظم الذّنوب هو جهل الإنسان بقبح المعاصي وغفلته عن انحرافه، فالغفلة عن العيوب تسلب منه الدافع لاجتنابها واجتثاثها, فقال: "جَهلُ المرءِ بعيُوبهِ مِن أكبَرِ ذُنوبهِ"2. كما قال الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام: "إيّاكَ والابتِهاجَ بالذَّنبِ، فإنَّ الابتِهاجَ بهِ أعظمُ مِن رُكُوبهِ"3.
 
وقال معلّم الأخلاق السيّد الإمام الخمينيّ قدس سره مخاطباً طلّاب العلوم الدينيّة: "لا قدّر الله أن يُبتلى الإنسانُ بأمراضٍ لا يشعر بآلامها، فالأمراض المؤلمة تدعوه لأنْ يسعى لعلاجها،
 
 
 

1- الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، الحكمة رقم 476.
2- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج75، ص91.
3- المصدر السابق، ص159.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

41

اجتناب المعاصي والذنوب

 فيراجع طبيباً أو مركزاً صحيّاً، بيد أنّ المرض الخفيّ الذي لا يرافقه ألمٌ، مرضٌ خطيرٌ لا ينتبه إليه الإنسان إلا بعد استفحاله وفوات الأوان"1.

 
فيا ابن آدم عليك اجتناب المعاصي واتّباع حكم العقل بعد الاستعانة بالله تعالى. ولو ارتكبت ذنباً فلا يخدعك كيد الشيطان وتأخذك العزّة في الإثم وتبرّر فعلتك الشنيعة, فكم من إنسانٍ هلك بعد أن وقع في حبائل الشيطان! وقد حذّرنا الباري عزّ وجلّ من ذلك بقوله: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾2. كما نبّهنا تعالى إلى أنّ فرعون طغى واستكبر بعد أن زيّن الشيطان له سوء عمله، حيث قال: ﴿وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ﴾3.
 
واعلم أنّ تمييز العمل الطيّب من الخبيث هو أهمّ سببٍ لعصمة أنبياء الله تعالى وأوليائه الصالحين، وهو الركيزة الأساسيّة للتقوى والعدل لدى كلّ مؤمنٍ ومعلّمٍ يستفيض الخلق من حكمته. فقد أدرك هؤلاء الأخيار مدى قُبح المعاصي وعواقبها الوخيمة، وأيقنوا أنّ سلوك طريق السعادة لا يتحقّق بمعصية الربّ التي تنهك العبد وتزلزل قواه, لذلك لم يستسلموا لوساوس الشّيطان وحصّنوا أنفسهم من الذنوب ظاهرها وباطنها.

 
 

1- الإمام الخمينيّ قدس سره، الجهاد الأكبر أو جهاد النفس. ص 52.
2- سورة الأنفال، الآية 48.
3- سورة غافر، الآية 37.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

42

ذكر الله تعالى

 ذكر الله تعالى


معرفة الله أساس الهدى
إنّ العبد لو أراد النجاة من قيود الضلال والخلاص من سلطة الشيطان، فلا بدّ له من عبادة ربّ الأرباب حقّ عبادته والصمود أمام عدوّه اللّدود بكلّ عزمٍ وإحباط محاولاته عبر اللّجوء إلى الله تعالى. 

فالتقرّب إلى الباري عزّ وجلّ هو هدف الإنسان الفطريّ وغايته الأولى، إذ لو عرف ربّه حقّ معرفته وأوكل النفس إليه فلا شيء سيؤثّر عليه أو يسحر قلبه حينها. وبالطبع فإنّ أهمّ سببٍ لرغبة العبد بالماديّات وانجراره وراء الضلال، يكمن في الغفلة عن ذكر الله تعالى, لذا فإنّ الركيزة الأساسيّة للأخلاق الإسلاميّة هي معرفة الله تعالى والأُنس بذكره.

رُوي أنّ إنساناً بسيطاً وقع في حبّ ابنة السلطان، ولكنّه لم يجرؤ على التقدّم لخطبتها بسبب الفارق الطبقي الشاسع بينهما، فاضطرّ لأن يفاتح أحد الوزراء بما يجول في خاطره. فقال له الوزير: إنّ السلطان يحبّ الزاهدين والعُبّاد، لذلك 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

43

ذكر الله تعالى

 اعتكف في معبدٍ وتظاهر بالزهد والورع، حيث سأطلب منه أن يزورك. فإذا زارك لا تستقبله بحفاوةٍ، بل حَيّه كما تُحيّي أيّ إنسانٍ آخر، ثمّ انهمك بالصلاة والعبادة. 

بعد الصلاة سيُصرّ عليك لأن تطلب منه شيئاً، لكنّك في بادئ الأمر لا تطلب شيئاً. ثمّ سيُلحّ عليك أكثر، فاقبل طلبه متظاهراً بغناك فيما لديه وقل له إنّك من داعي حبّك له ترغب في مصاهرته وكأنّه قد أُلهِم إليك ذلك. بعد ذلك سأتولّى الأمر بنفسي وأُقنعه بأن يزوّجك ابنته.

وبالفعل، نُفّذت الخطّة ولكن عندما جاء السلطان إلى المعبد لم يُعره الناسك المزيّف أهميّةً وانهمك في أداء الصلوات واحدةً تلو الأُخرى، فاستاء السلطان من تصرّفه وقفل عائداً إلى قصره.

إثر ذلك أنّب الوزير هذا الرجل لسلوكه وسأله عن سبب ذلك، فأجابه: عندما سجدت أوّل سجدةٍ تبادر إلى بالي أنّ سجدةً كاذبةً لا هدف منها سوى الرياء جعلت سلطاناً ينحني أمام إنسانٍ بسيطٍ, فيا تُرى ماذا تفعل السجدة الخالصة لله تعالى؟! لذلك أحسست بلذّةٍ بين يدي الله تعالى أيقنت معها أن لا حاجة لي معها إليك أو إلى سلطانك وابنته، فقد وجدت معشوقي الأوحد الذي أسر قلبي وكلّ جوارحي.

هذه القصّة بغضّ النظر عن كونها واقعيّةً أو نسج خيالٍ،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

44

ذكر الله تعالى

 نستوحي منها أنّ محبّة الله تعالى تُغني القلب عن محبّةِ أيّ مخلوقٍ آخر وتجعل العبد غنيّاً عن الخلق طُرّاً.

 
يقول الأستاذ الشهيد مرتضى المطهّري رحمه الله: "إنّ معرفة الله تعالى ليست أصل الدّين وحسب، بل هي أساس ومحور الإنسانيّة, إذ لو أُريد للإنسانيّة أن تترسّخ على دِعامةٍ ما فلا بدّ أن لها تترسّخ على أصل التوحيد.
 
إنّ معرفة الله تعالى هي أصل كلّ أمرٍ معنويٍّ، لذا لا يمكن تجاهل المعنويّات ولا تجاهل أصل الدين ومنبعه، أي لا يمكن في الحقيقة الفصل بين القضايا المعنويّة ومعرفة الله تعالى، وكذلك لا يمكن الفصل بين معرفة الله تعالى وسقوط الإنسان باتّباعه نزواته الحيوانيّة وسعيه وراء الماديّات ونهمه في الحياة الدنيا.
 
فالإنسان إمّا أن يكون عبداً لله وإمّا أن يكون عبداً للمادّة المتجسّدة في بطنه وشهواته ومقامه وماله, ولا خيار ثالث له"1.
 
إنّ أساس الهدى يكمن في معرفة الله تعالى وتوحيده، ودونهما لا يمكن ترسيخ دعائم النظام الإسلاميّ على جميع المستويات، أخلاقيّة أو تربويّة أو غيرها. فإيمان الإنسان بالله تعالى وإذعانه بأنّه مدبّرُ كلّ شيءٍ ومسيطرٌ عليه وأنّه محيطٌ بجميع حركات الخلق وسكناتهم، وكذلك إذعانه بأنّ الله هو
 
 
 

1- الشهيد مرتضى المطهّريّ، مجموعة آثار (باللغة الفارسيّة)، ص68 و69.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

45

ذكر الله تعالى

 الرزّاق ولا رازق غيره ويقينه بأنّه تعالى راضٍ عنه, كلّها أُمورٌ تُرسّخ في نفسه الدافع لإصلاح سلوكه وتمنحه القدرة على نظم أُمور دينه ودنياه لينال السعادة المنشودة.

 
ذكر الله هو الهدف
رُوي أنّ العلّامة محمّد حسين الطباطبائيّ رحمه الله صاحب كتاب (الميزان في تفسير القرآن) عندما أتمّ دروسه في الحوزة العلميّة في النجف الأشرف وعزم على العودة إلى إيران، قصد أُستاذه المرحوم آية الله السيّد عليّ القاضي وسأله النصيحة بعد أن انهمك عقداً كاملاً في تحصيل العلوم الدينيّة وطلب منه أن يعلّمه عملاً يهديه ويضمن له السعادة. فقال له: واظب على قراءة الآية الكريمة: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾1.
 
وبالفعل، فإنّ نقطة البداية في سير الإنسان نحو الكمال تكمن في عدم غفلته عن واقع مبدئه ومعاده ومواظبته على ذكر خالقه تعالى، وبالطبع فإنّ الذّكر هو أقوى حافزٍ للفرد والمجتمع لسلوك الصراط المستقيم وهو الهدف من جميع التعاليم الدينيّة. فالعبادات والتكاليف الشرعيّة في حقيقتها ذكرٌ لله تعالى، ونستلهم من القرآن الكريم والأحاديث الكريمة أنّه لا عمل يُضاهي ذكره عزّ وجلّ، وأنّ جميع الأعمال الصالحة هي مقدّمةٌ لذلك. والصلاة التي وُصفت بأنّها عمود الدين،
 
 
 

1- سورة العلق، الآية 14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

46

ذكر الله تعالى

 هي وسيلةٌ لذكر الله تعالى، حيث قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾1. كما قال عزّ شأنه: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾2. كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الصدد: "ليسَ عملٌ أحبَّ إلى اللهِ ولا أنجَى لِعبدٍ مِن كلِّ سيّئةٍ في الدُّنيا والآخرةِ مِن ذِكرِ اللهِ"، فقيل له: ولا القتال في سبيل الله؟! قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لَولا ذِكرُ اللهِ لَم يُؤمَر بالقِتالِ"3.

 
فالكثير من الآيات والأحاديث قد أكّدت على ضرورة الإكثار من ذكر الله تعالى، وذلك نظراً لعظمته ودَوره في تعيين مصير العبد، فقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾4. وقال: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾5. كما وصف عزّ وجلّ عبادَه الصّالحين بأنّهم لا يغفلون عن ذكره، حين قال: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ﴾6. وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اذكُرْ اللهَ عندَ همِّكَ إذا هَمَمتَ وعندَ لسانِكَ إذا حَكمتَ وعندَ يدِكَ إذا قسَمْتَ"7
 
 
 

1- سورة طه، الآية 14.
2- سورة العنكبوت، الآية 45.
3- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج3، ص405.
4- سورة الأحزاب، الآية 41.
5- سورة الجمعة، الآية 10.
6- سورة آل عمران، الآية 191.
7- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج3، ص424.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

47

ذكر الله تعالى

 ورُوي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قوله: "ما مِن شيءٍ إلا وله حدٌّ يُنتهَى إليه، إلا الذِّكر فليسَ لهُ حدٌّ يُنتهَى إليهِ".

 
فرضَ اللهُ عزَّ وجلَّ الفرائضَ، فمَن أدّاهُنَّ فهو حدّهنّ، وشهرُ رمضانُ فمَن صامَهُ فهو حدّهُ، والحجُّ فمَن حجَّ فهو حدّهُ, إلا الذّكر، فإنّ اللهَ عزَّ وجلَّ لَم يرضَ مِنهُ بالقليلِ ولَم يجعلْ لهُ حدّاً يُنتهَى إليهِ.
 
ثُمّ تَلا هذهِ الآيةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾. وقال: لَم يجعلْ اللهُ عزَّ وجلَّ لهُ حدّاً يُنتهَى إليهِ"1. كما قال عليه السلام في موضعٍ آخر: "فَأكثِرُوا ذِكرَ اللهِ ما استطعتُمْ في كلِّ ساعةٍ مِن ساعاتِ اللّيلِ والنهارِ، فإنّ اللهَ أمرَ بكثرةِ الذِّكرِ، واللهُ ذاكرٌ لِمَن ذكرَهُ مِن المؤمنينَ. واعلَموا أنَّ اللهَ لَم يَذكرْهُ أحدٌ مِن عبادِهِ المؤمنينَ إلا ذكَرَهُ بِخيرٍ"2.
 
وأشار بعض الأحاديث إلى أنّ ذكر الله تعالى ثروةٌ عظيمةٌ وأمانٌ للإنسان من وساوس الشيطان، كما قال الإمام عليّ عليه السلام: "ذِكرُ اللهِ مَطرَدةُ الشّيطانِ"3. وقال في موضعٍ آخر: "ذِكرُ اللهِ رأسُ مالِ كلِّ مؤمنٍ وربحُهُ السّلامةُ مِن الشَّيطانِ"4.
 
ومن مواعظ النبيّ يحيى عليه السلام قوله: "وآمُرُكُمْ أنْ تَذكُروا 
 
 
 

1- محمّد بن يعقوب الكُليني، أصول الكافي، ج2، ص498.
2- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج4، ص183.
3- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة،ج3، ص420.
4- المصدر السابق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

48

ذكر الله تعالى

 اللهَ، فإنَّ مَثَل ذلكَ كَمَثَلِ رجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ فِي أثَرِهِ سراعاً حَتّى إذا أتَى على حِصنٍ حَصينٍ فأحرَزَ نفسَهُ مِنهُمْ، كذلكَ العبدُ لا يُحرزُ نفسَهُ مِن الشَّيطانِ إلا بِذِكرِ اللهِ"1.

 
حقيقة الذِّكرِ
إنّ ذكر الله تعالى يحظى بأهميّةٍ بالغةٍ في نصوصنا الدينيّة من آياتٍ وأحاديث، فهو أساس التكاليف الدينيّة وهدفها السامي, وبالطبع فإنّ فوائده لا نظير لها ولا يمكن حصرها بكلماتٍ. فالذكر هو توجّهٌ قلبيٌّ إلى الله تعالى ويقينٌ به. والذكر هو اعتقادٌ باطنيٌّ بولاية الله تعالى وتدبيره وإحاطته بأعمال الإنسان وأفكاره كافّةً. وبالتأكيد فإنّ ترويض اللّسان على ذكر الله عزّ وجلّ ليس سوى وسيلةٍ لإدراك حقيقة الذِّكر لاحقاً.
 
وحسب تعاليمنا الدينيّة فإنّ الذكر يُقابل الغفلة والنسيان، ولا بدّ للإنسان في جميع حركاته وسكَناته أن يطيع الله تعالى ويسعى لذكره ويعبده حقّ عبادته. وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة الذّكر بقوله: "مَن أطاعَ اللهَ فقدْ ذكرَ اللهَ، وَإِنْ قَلَّتْ صَلاتُهُ وَصِيامُهُ وَتِلاوَتُهُ للقُرآنَ, وَمَن عصَى اللهَ فقدْ نَسِيَ اللهَ وَإِنْ كثُرَتْ صَلاتُهُ وَصِيامُهُ وَتِلاوَتُهُ للقرآن"2. قال العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ بعد نقله هذا الحديث: "في الحديث 
 
 
 

1- المصدر السابق، ج9، ص62.
2- المصدر السابق، ج3، ص425.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

49

ذكر الله تعالى

 إشارةٌ إلى أنّ المعصية لا تتحقّق مِن العبد إلا بالغفلة والنسيان، فإنّ الإنسان لو ذكر ما حقيقة معصيته وما لها من الأثر، لم يُقدم على معصيتهِ، حتّى أنّ مَن يعصي اللهَ ولا يبالي إذا ذُكِّر عند ذلك بالله، ولا يعتني بمقام ربِّه هو طاغٍ جاهلٌ بمقام ربِّه وعلوِّ كبريائه وكيفيّة إحاطته، وإلى ذلك تشير أيضاً روايةٌ أخرى في الدُّرِّ المنثور عن أبي هندٍ الداريّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "قالَ اللهُ اذكُرونِي بطاعَتِي أذكركُمْ بمغفِرَتِي، ومَن ذكَرَنِي وهو مُطِيعٌ فحَقٌّ علَيَّ أنْ أذكُرَهُ بمغفِرَتِي، ومَن ذكرَنِي وهو عاصٍ فحَقٌّ علَيَّ أنْ أذكُرَهُ بِمَقْتٍ الحديث، وما اشتمل عليه هذا الحديثُ من الذِّكر عند المعصيةِ هو الذي تُسمِّيه الآيةُ وسائر الأخبار بالنسيان لعدم ترتّبِ آثارِ الذِّكرِ عليه"1.

 

 
ورَوى الحسين البزّاز أنّ الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال له: "ألا أُحدِّثُكَ بأشدِّ ما فرضَ اللهُ عزَّ وجلَّ علَى خلقِهِ؟!"
فقال البزّاز: بلَى.
فقال عليه السلام: "إنصافُ النّاسِ مِن نفسِكَ، ومُواساتُكَ لأخِيكَ، وذِكْرُ اللهِ فِي كُلِّ مَوطِنٍ، أمّا إنِّي لا أقولُ سُبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ ولا إلهَ إلا اللهُ واللهُ أكبرُ، وإنْ كانَ هذا مِن ذاكَ, ولكن ذِكرُ اللهِ فِي كُلِّ مَوطِنٍ إذا هجَمْت علَى طاعَتِهِ أو مَعصِيَتِهِ"2.
 
 
 

1- محمّد حسين الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص342.
2- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج3، ص425.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

50

ذكر الله تعالى

 وقد نهى الإمام عليّ عليه السلام عن ذكر الله تعالى باللّسان فقط، لأنّ الذّكر في حقيقته يعني الإعراض عن أهواء النفس ونزواتها قولاً وفعلاً، لذا أمر بوجوب انسجام الباطن مع الظاهر، حيث قال: "لا تَذكُرْ اللهَ سُبحانَهُ ساهياً ولا تَنْسهُ لاهياً، واذكُرْهُ كامِلاً يُوافِقُ فيهِ قلبُكَ لسانَكَ ويطابِقُ إضمارُكَ إعلانَكَ، ولنْ تَذكُرَهُ حقيقةَ الذِّكْرِ حَتَّى تَنْسَى نفسَكَ فِي ذِكرِكَ وتفقِدُها فِي أمرِكَ"1.

 
إنّ الذِّكر هو فيضٌ نورانيٌّ يغمر كيان الإنسان وانقطاعٌ قلبيٌّ لبارئ الخلائق أجمعين ومدبّر الكون وما فيه، حيث ينتاب الذّاكر شعورٌ بأنّ الله موجودٌ أينما ولّى وجهَه وأنّ عِنانه ليس مطلقاً ليفعل ما يحلو له. 
 
كما أنّ الذِّكر يزرع في نفسه الحياء من ارتكاب المعاصي. ونظراً لهذه الأهميّة، نلاحظ أنّ القرآن الكريم في ما يقارب ثلاثمئة موضعٍ، قد نبّه العباد إلى أنّ الله تعالى مشرفٌ على عباده في كلّ آنٍ ومكانٍ، وأنّه محيطٌ بأقوالهم وأفعالهم وحتّى همهمات نفوسهم ولا يخفى عنه شيءٌ صغيراً كان أم كبيراً ، لذا يجب عليهم أن لا يغفلوا عن ذكره ولا يَعصوه ما داموا أحياءاً.
 
والذِّكر في حقيقته مقامٌ له مراتبٌ يفوق بعضها بعضاً، إذ يبدأ من الذِّكر اللّفظيّ ويتدرّج حتّى يبلغ مرتبة الانقطاع الكامل
 
 
 

1- عبد الواحد التميميّ الآمديّ، غرر الحِكم ودُرَر الكلِم، ص188.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

51

ذكر الله تعالى

 في عالم الشهود حيث يفنى العبد حينها في ذات الله تعالى. فمهما انقطع العبد لبارئه ولم يتعلّق بغيره، سوف يحظى بمرتبةٍ أعلى من مراتب الذِّكر والرياضة الروحيّة حتّى يبلغ مرتبة الشهود التي لا يبلغها إلا من انقطع عن الدنيا وملذّاتها الزائلة. ففي هذه المرتبة تُرفع الـحُجُب وتُزاح الظُّلُمات ولا يرى السالك حينها سوى ربّ الأرباب ولا يرجو سواه مطلقاً, فلذّته الحقيقيّة التي لا تُضاهيها لذّةٌ هي ذكر الله تعالى وبهجته في التقرّب إليه لا تُوصف، فتصبح أقواله وأفعاله طاعةً محضةً وعبوديّةً خالصةً، ويستغفر الله من كلّ ما هو ليس بذكرٍ، فيناجيه قائلاً: "أَستغفِرُكُ مِن كلِّ لَذَّةٍ بغَيرِ ذِكرِكَ ومِن كلِّ راحةٍ بغَيرِ أُنسِكَ ومِن كلِّ سُرورٍ بغَيرِ قُربِكَ ومِن كلِّ شُغلٍ بغَيرِ طاعتِكَ"1.

 
فالذِّكر لا يتحقّق إلا بالانقطاع التامّ إلى الله تعالى، حيث يرى العبدُ ربَّه أينما حلّ ونزل ويُدرك حينها أنّ كلّ صغيرٍ وكبيرٍ في الكون هو آيةٌ من آياته عزّ وجلّ وبرهانٌ على وجوده. وقول سيّد الموحّدين ومولى العارفين عليّ بن أبي طالب عليه السلام خير دليلٍ على ذلك: "ما رَأيتُ شَيئاً إلّا ورَأيتُ اللهَ معَهُ وقبلَهُ وبعدَهُ"2.
 
وبالطبع فإنّ قلب الإنسان هو مركز الذِّكر ومنطلقه في أفعاله وأقواله، ولا يَطهُر من الشوائب إلا إذا خلُص ممّا لا يرتضيه الله تعالى، حيث أكّد الإمام جعفر الصادق عليه السلام
 
 
 

1- الشيخ عبّاس القمّي، مفاتيح الجنان، المناجات الخمس عشرة، مناجاة الذّاكرين.
2- مسند الإمام علي، ج18، ص8.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

52

ذكر الله تعالى

 هذه الحقيقة بقوله: "القَلبُ حرَمُ اللهِ، فَلا تُسكِنُ حرَمَ اللهِ غيرَ اللهِ"1. كما جاء في الحديث القدسيّ: "لَم تَسَعنِي أرضِي ولا سَمائي، ووسِعَنِي قلبُ عبدِيَ المؤمِنُ"2.

 
فيا طالب السعادة، لا تغفل عن ذكر ربّك وأجهد نفسك في ذلك، فإنّك ستتذوّق حلاوته وتنعم ببركته، وستدرك حينها أن لا شيء يُضاهي لذّته. اللّهُمَ ارزُقنا حَلاوَةَ ذِكركَ واجعَلنا مِن أهلِهِ.
 
ثمار ذكر الله تعالى إضافةً إلى الدّور التربويّ لذكر الله تعالى وتأثيره الكبير في كبح هوى النفس وطغيانها، كذلك له ثمارٌ أُخرى تُبيّن مدى أهميّته في تعاليمنا الدينيّة إذ يُعدّ أفضل دافعٍ يسوق الإنسان نحو الخلوص في العبادة وبلوغ الهدف المنشود. ونذكر فيما يلي بعض أهمّ ثمار ذكر الله تعالى بإيجازٍ:
 
1- الذاكر ينعم بلطفٍ من الله تعالى
إنّ القرآن الكريم هو كتاب هدىً للخلق كافّةً، ولكنّ هدايته أهل التقوى شيءٌ آخر. فجميع البشر هم خلق الله تعالى، ولكنّ أصحاب الدرجات الرفيعة من ذوي النفوس المطمئنّة والهِمَم العالية ينعمون بعبوديّةٍ لا يذوق طعمها غيرهم, لأنّ الله عزّ وجلّ 
 
 
 

1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج67، ص25.
2- الفيض الكاشاني، المحجّة البيضاء في تهذيب الأحياء، ص26.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

53

ذكر الله تعالى

 يُكرم خلقه قاطبةً ويغدق عليهم النِّعم، وكذلك يُولي أهل الذِّكر من عباده لطفاً خاصّاً ويفيض عليهم ببركاتٍ إكراماً لهم، لأنّه لا ينسى مَن ذَكره حيث قال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾1. كما رُوي هذا الحديث القُدسيّ عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "يا ابْنَ آدمَ، اذكُرنِي فِي نَفسِكَ أذْكُرْكَ فِي نفسِي, يا ابْنَ آدمَ، اذكُرنِي في خَلأ أذكُرْكَ في خَلأ, يابْنَ آدمَ اذكُرنِي فِي مَلأ أذكُركَ فِي مَلأ خَير مِن مَلإكَ". ثمّ قال عليه السلام: "ما مِن عبدٍ يذكُرُ اللهَ فِي مَلأ مِن النّاسِ إلّا ذكَرَهُ اللهُ فِي مَلأ مَن الملائكَةِ"2.

 
ولا ريب في أنّ غفلة العبد عن ذكر بارئه تحرمه من لطفه وهُداه، بل سينجرف في موج النسيان كما عبّر عن ذلك القرآن الكريم في الآية الكريمة: ﴿نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾3، والآية الكريمة: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾4.

 
2- ذكر الله سكينةٌ للقلوب
لقد خلق الله تعالى الإنسان وجعله محتاجاً إليه بحيث لا يشعر بالسكينة والأمان إلا إذا تقرّب إليه، وجعل قلبَه لا يبلّ ظمأه إلّا بذكره، وفطره على الاتّصال به وتسليم زمام أُموره إليه لكي ينال السعادة وينجو من المهالك، إذ وهبه نفساً لا تستسلم 
 
 
 
 

1- سورة البقرة، الآية 152.
2- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج7، ص159.
3- سورة التوبة، الآية 67.
4- سورة الحشر، الآية 19.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

54

ذكر الله تعالى

 إلى المصاعب ولا تخضع أمام الخشية من خسارة شيءٍ ولا تنبهر بزيف الآثام والمعاصي. لذلك فإنّ العبد لو تمتّع بجميع الإمكانيّات الماديّة وحُرم فيض ذكر الله تعالى، سوف لا ينعم بالراحة والطمأنينة وسينتابه القلق والاضطراب. قال تعالى في كتابه المجيد: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾1. وأكّد عزّ وجلّ على أنّ ذكره دواءٌ لكلّ داءٍ وطمأنينةٌ للقلوب حين قال: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾2.

 
والحقيقة أنّ الاضطرابات النفسيّة وعدم الشعور بالطمأنينة هي أهمّ المشاكل التي يواجهها الإنسان في العصر الحديث، حيث لم يتمكّن من تجاوزها رغم بلوغه أرقى درجات التطوّر. وبالطبع فإنّ العبد مهما ابتعد عن ربّه وانهمك بالماديّات فسوف تستفحل هذه المشاكل وتتجذّر في نفسه، لأنّه غفل عن هدفه الأصيل وانشغل بقضايا تافهةٍ لا تمنحه الطمأنينة.
 
ونستوحي من أحاديث المعصومين عليه السلام أنّ ذكر الله تعالى حياةٌ للقلوب ونورٌ للعقول ونجاةٌ من كلّ مكروهٍ، وبالتأكيد فإنّ الإعراض عنه يميت القلوب ويعطّل العقول ويودي بالإنسان في المهالك. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "بِذكرِ اللهِ تُحيَى القُلوبُ
 
 
 

1- سورة طه، الآية 124.
2- سورة الرعد، الآية 28.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

55

ذكر الله تعالى

 ونِسيانُهُ مَوتُها"1. وقال أمير المؤمنين وسيّد الموحّدين عليه السلام: "الذِّكرُ نورُ العُقولِ وحَياةُ النُّفوسِ وجَلاءُ الصُّدورِ"2. كما قال عليه السلام في موضعٍ آخر: "اذكُروا اللهَ ذِكرَاً خالِصَاً تَحيُوا بهِ أفضلَ الحياةِ وتسلُكوا بهِ أفضلَ طُرُق النّجاةِ"3. وجاء في الحديث القُدسيّ: "يا مُوسَى، لا تَنسَنِي عَلَى كُلِّ حالٍ، فَإنَّ نِسيانِي يُميتُ القلبَ"4.

 
3- ذكر الله تطهيرٌ للقلب من النِّفاق
لا يختلف اثنان في أنّ النّفاق مرضٌ مهلكٌ يفتك بالفرد والمجتمع على حدٍّ سواء. وبالطبع، فإنّ أنجع علاجٍ له هو الانقطاع إلى الله تعالى والإيمان بأنّه مشرفٌ على كلّ شيءٍ ولا يخفى عنه أمرٌ مطلقاً. وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا العلاج الناجع بقوله: "مَن ذكرَ اللهَ كثيراً كُتبتْ لهُ بَراءَتانِ، بَراءَةٌ مِن النّارِ وبَراءَةٌ مِن النِّفاقِ"5. كما تطرّق الإمام عليّ عليه السلام إلى ذلك قائلاً: " مَن أكثَرَ ذِكرَ اللهِ فقَدْ بَرِئَ مِن النِّفاقِ"6.
 
فذكر الله سبحانه وتعالى لا يطهّر قلبَ الإنسان من النّفاق وحسب، بل يهبه بصيرةً ويحفظه من مهاوي الانحراف
 
 
 

1- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج3، ص417.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق، ص431.
5- الشيخ الكليني، أُصول الكافي، ج2، ص500.
6- المصدر السابق، ص431.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

56

ذكر الله تعالى

 والضلال، فيصبح مؤمناً مُسدّد الخُطى نحو المعرفة والصّلاح. وقد وصف عزّ وجلّ الذّاكرين في كتابه الكريم بالمبصرين حين قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾1.

 
4- الله يَذكرُ مَن ذَكره
لو أخلص العبد نيّته لبارئه جلّ شأنه ولم يغفل عن ذكره، فسوف لا يقهره شيءٌ ولا يقع في حبائل الدُّنيا ومكائدها, لأنَّ الله تعالى هو حافظه ومؤنسه. وفي هذا الصدد، نقل العلّامة المجلسيّ  رحمه الله هذا الحديث القدسيّ: "أيُّما عبدٍ أطّلَعتُ علَى قلبهِ فرَأيتُ الغالبَ عليهِ التّمَسُّكَ بذِكري، تَولَّيتُ سياسَتَهُ وكُنْتُ جَلِيسَهُ ومُحادِثَهُ وأنيسَهُ"2. وقال تعالى في كتابه المجيد: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾3.
 
فالقلب المفعم بذكر الله تعالى يصمد أمام المصائب والملمّات ولا يخفق في مكافحتها، وهو عزّ وجلّ قد أمر عباده بالصمود أمام الأعداء وعدم الغفلة عن ذكره، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ﴾4. وكذلك أكّد الإمام عليّ عليه السلام على 
 
 
 

1- سورة الأعراف، الآية 201.
2- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج90، ص162.
3- سورة العنكبوت، الآية 69.
4- سورة الأنفال، 45.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

57

ذكر الله تعالى

 هذا الأمر بقوله: "إذا لَقيتُمْ عَدوَّكُم فِي الحربِ فَأَقِلُّوا الكَلامَ وأكثِروا ذِكرَ اللهِ عزَّ وجلَّ"1.

 
والحقّ أنّ الإيمان بالله تعالى وذكره قبل مكافحة الأعداء يرفع من معنويّات المجاهد في سبيله ويحفّزه على مقارعتهم، وبالتالي يشدّ على أيديهم لتحقيق النصر المؤزّر.
 
5 - ذكر الله يُخفّف من وطأة النوائبيواجه ابن آدم في حياته شتّى أنواع المشاكل، ويؤرّقه الكثير من الملمّات والنوائب، وبالطبع فإنّه لا يتمكّن من مواجهتها وإزاحتها عن طريقه ما لم يتمتّع بقدرةٍ تُتيح له ذلك وتزرع الثقة في نفسه بأنّه غير عاجزٍ. لذا نلاحظ أنّ المحروم من نعمة الإيمان بالله تعالى لا يصمد في المواقف الحرِجة ولا يحسن التعامل مع المشاكل، لأنّه ضعيفٌ في اتّخاذ أيّ قرارٍ. ولكنّ المؤمن الذي أكرمه تعالى بذكره فهو كالجبل الباسق الذي لا تزعزعه الأعاصير مهما عظمت ولا يستسلم لأيّة نائبةٍ تعتريه، ولا سيّما تلك التي تعترض طريقه نحو هدفه الأسمى ومحبوبه الأوحد، حيث يُدرك كُنه ألطاف بارئه ويطرب لما يعاني في طاعته ويتحمّل كلّ ما يواجه وكأنّه يلعق الشهد المصفّى.
 
وإمامنا الحسين بن عليّ عليهما السلام سيّد شباب أهل الجنّة خير مثالٍ على ذلك، ففي أحلك الساعات وأشدّ النوائب عندما 
 
 
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص42.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

58

ذكر الله تعالى

 ارتكب أعداء الله أبشع الجرائم بحقّ أهله وصحبه والتي يندى لها الجبين، بحيث لم يرحموا حتّى طفله الرّضيع وذبحوه من الوريد إلى الوريد، نراه صابراً محتسباً في ذات الله تعالى، وقال: "هَوَّنَ عَلَيَّ ما نَزَلَ بِي أنَّهُ بِعَينِ اللهِ"40.

 
6- الحياة الحرّة الكريمة تتجسّد في ذكر الله تعالى إنّ ارتباط العبد بربّه يعني ارتباطه بمنبع الخير والبركة الذي لا ينضب معينه. ولا شكّ في أنّ هذا الارتباط الحرّ الذي لا يتحقّق إلا بإرادة الإنسان هو أهمّ وسيلةٍ للنجاة من وساوس الشيطان الرجيم والخلاص من مكائده. ومَن يجد ضالّته ويعرف معبوده الأوحد ويوقن بأنّه أساس كلّ خيرٍ ومنشأ كلّ بركةٍ ويرتبط به بصدقٍ وإخلاصٍ، فسوف لا يسحر قلبه أحدٌ ولا يستقطب فكره شيءٌ أبداً. فحريّة الإنسان الواقعيّة لا تتحقّق إلا بعبادة بارئ الخلائق أجمعين وعدم الغفلة عن ذكره في جميع الأحوال، وكذلك لا يمكن طرد الشيطان عن ميدان النفس إلا بالعبادة.
 
ولو ظنّ العبد أنّ الحريّة مطلقةٌ وأرخى العنان لنفسه الجامحة ولم يكبح شهواته الحيوانيّة، فسوف يبتعد عن عبوديّة بارئه ويتحوّل إلى بهيمةٍ لا همّ لها سوى بطنها وشهوتها، حيث يفقد إنسانيّته وعقله وحريّته الحقيقيّة. وحسب تعالمينا الدينيّة فإنّ هذه الحريّة هي في الحقيقة استكبارٌ وعبوديّةٌ للشّيطان والماديّات.
 
 

40- .بحارالانوار، ج45، ص 46.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

59

ذكر الله تعالى

 الكثير من نصوصنا الدينيّة قد بيّنت لنا أهميّة ذكر الله تعالى وآثاره الحميدة التي لا يسعنا المقام هنا لبيانها بالتفصيل. فمن فوائد الذِّكر: تنعّم الذّاكر بأرقى الملذّات وفوزه بمحبّة خالقه جلّ وعلا وبلوغه أسمى درجات التضرّع والدعاء، كما أنّ الله تعالى يُعزّه ويرفع من شأنه لأنّ الذِّكر أفضل الأعمال، وهو بداية تكامل الإنسان وأُنسه بمعبوده الذي يشرح صدره ويقوّي إرادته ويُشذّب سلوكه.

 
العقبات التي تعترض طريق الذِّكر
في ختام هذا البحث نشير إلى أهمّ العقبات التي تعترض طريق العبد وتحول بينه وبين ذكر الله تعالى، علّنا نتمكّن من إزاحتها. ولا ريب في أنّ تلك العقبات كثيرةٌ، إلا أنّ أساسها إبليس وجنوده الذين لا يدّخرون جهداً لقطع السبيل على ابن آدم كي ينحرف عن طريق الحقّ ويغفل عن ذكر ربّه بكرةً وأصيلاً. ويمكن القول إنّ أهمّ تلك العقبات هي ما يلي:
 
1- الشّيطان
قال تعالى في كتابه المجيد وقوله الحقّ: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾1.
فهذا العدوّ اللّدود قد أقسم على أن يسخّر كلّ طاقاته لصدّ بني آدم عن سواء السبيل، فقال: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ
 
 
 
 

1- سورة يوسف، الآية 5.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

60

ذكر الله تعالى

 الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾1. فهذا الرجيم يعلم حقّ العلم أنّ العبد لو ذكر الله تعالى فسوف لا يسعه الوسوسة له. وكما ذكرنا آنفاً فإنّ الذِّكر يطرد الشيطان، لذا فهو يتّبع شتّى السُّبل للحؤول بين العباد وبين خالقهم، حيث يوسوس لهم ويوقعهم في مكائد الغفلة والضلال. وقد أكّد سبحانه وتعالى على هذه الحقيقة في الآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾2.

 
2- الوَله بالمال والأولاد
لو تمسّك العبد بالدُّنيا وسخّر حياته لتحقيق مآربه منها، فسوف يغدو أسيراً لها ويُحرم من نعمة الذِّكر التي تُطهّر النفس من شوائبها. وقد حذّر البارئ تعالى من هذه المهلكة في كتابه المجيد قائلاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾3.
 
وبالطبع فإنّ عبيد الدُّنيا الذين لا يفقهون من الحياة سوى حاجة البطن والشهوة، لا يحرمون أنفسهم من ذكر الله تعالى
 
 
 
 

1- سورة الأعراف، الآيتان 16 و17.
2- سورة المائدة، الآية 91.
3- سورة المنافقين، الآية 9.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

61

ذكر الله تعالى

 وحسب، بل إنّ مَن عاشرهم سينجرّ وراءهم ويخسر هذه النعمة العظيمة، لذلك فإنّ ربّ العزّة والجلال أمرنا بالابتعاد عن الغافلين في الآية الكريمة: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾1.

 
ومن الجدير بالذِّكر أنّ الدّنيا الذميمة هي التي تحول بين العبد وبين ذكره ربّه وبالتالي تُفسد هدفه المنشود في نيل الكمال الأُخروي، أمّا الدّنيا التي تكون مزرعةً للآخرة فهي نعمةٌ عظيمةٌ وهي بالطبع ممدوحةٌ. حسب نظريّتنا الدينيّة فإنّ الدّنيا هي التي خُلقت للإنسان ولم يُخلق الإنسان لها، وهي ليست ذميمةً بذاتها، بل تصبح كذلك إذا ما جعلها العبد هدفاً له ونسي آخرته التي هي الغاية من خلقته.
 
3- الانشغال عن الله تعالى بالخلق
لو سخّر الإنسان حياته لإرضاء الناس وكسب ودّهم وحسب، فلا شكّ في أنّه سيغفل عن ذكر الله تعالى، وسيكون هاجسه الوحيد ماذا يقول أو يفعل لكسب محبّتهم. وقد قال الإمام عليّ عليه السلام في هذا الصدد: "مَن اشتَغلَ بذِكرِ النّاسِ قطعَهُ اللهُ سُبحانَهُ عَن ذِكرِهِ"2. وبالطبع فإنّ المقصود من الانشغال بالناس هو انهماك الإنسان بهم انهماكاً تامّاً وإعراضه عن ذكر 
 
 
 

1- سورة النجم، الآية 29.
2- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج2، ص976.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

62

ذكر الله تعالى

 ربّه، فهذه هي الغفلة المذمومة, لأنّ تعاليم ديننا قد حضّتنا على خدمة الناس وقضاء حوائجهم بنيّةٍ خالصةٍ واعتبرت ذلك من أفضل الذِّكر والعبادة التي تقرّب العبد إلى ربّه.

 
4- اتّباع الشَّهوات
قال سيّد الموحّدين عليه السلام: "لَيسَ فِي المعاصِي أشدُّ مِن اتِّباعِ الشَّهوَةِ، فَلا تُطيعُوها فَتشغَلَكُم عَن ذِكرِ اللهِ"1. فانهماك العبد بملذّات الدُّنيا يُعيقه عن ذكر ربّه ويحرمه من ألطافه الخفيّة، كما أنّ الله تعالى توعّد مَن اتّبع الدُّنيا في قوله: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾2.

 
 
 

1- المصدر السابق.
2- سورة الحجر، الآية 3.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

63

فضيلة ذكر الموت

 فضيلة ذكر الموت

لذكر الموت وعدم الغفلة عمّا سيقع في الحياة الآخرة فوائد جمّة، فهو أفضل وسيلةٍ للسيطرة على جموح النفس وطغيانها، كما يعين العبد على الوقوف بوجه الشيطان ويحفظه من وساوسه. وقد أكّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الحقيقة بقوله: "أفضلُ الزُّهدِ فِي الدُّنيا ذِكرُ الموتِ، وأفصلُ العِبادةِ ذِكرُ الموتِ، وأفضلُ التَّفكُّرِ ذِكرُ الموتِ, فمَن أثقلَهُ ذِكرُ الموتِ وجَدَ قبرَهُ رَوضةً من رياضِ الجنّةِ"1. وأكّد صلوات الله عليه في موضعٍ آخر على أنّ ذكر الموت من العقل، حيث قال: "أكيَسُ النّاسِ مَن كانَ أشدَّ ذِكرَاً لِلمَوتِ"2.
 
إنّ عدم غفلة الإنسان عمّا سيؤول إليه مصيره المحتوم عند حلول أجله الذي لا يعلم موعده إلا الله تعالى وذكره الموت الذي هو بداية حياةٍ أزليّةٍ باكورتها حسابٌ لما اقترفه في حياته الدُّنيا، يعتبر حافزاً له كي يبذل ما بوسعه في دار ممرّه ويستعدّ
 
 
 

1- محمّد الشعيري، جامع الأخبار، ص12.
2- محمّد بن عليّ بن بابويّه القمّي (الشيخ الصدوق)، الأمالي، ص14.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

64

فضيلة ذكر الموت

 لدار مقرّه بعباداته الخالصة وأعماله الصالحة، كما يعدّ وازعاً له كي يترك كلّ ما يُلحق به الضّرر والخسران، ويحفظه من المكائد التي يحوكها له إبليس وجنوده.

 
وبعبارةٍ أُخرى، إنّ أفضل سبيلٍ لترسيخ مبدأ العقل وعدم الانجرار وراء رغبات النفس غير المشروعة يتلخّص في إيمان الإنسان بأصلين ثابتين، وهما:
 
الدُّنيا قصيرةٌ وفانية
إنّ جميع الكائنات في الحياة الدُّنيا، ومن ضمنها الإنسان، تسير بنسقٍ واحدٍ نحو الموت المحتوم شاءت أم أبت، سواء عرّضت لحادثٍ أم مرضٍ يقضي على حياتها أم لم تتعرّض لذلك، فسوف يحين أجلها لا محالة حيث تطوي مراحل العمر من الطفولة وصولاً إلى ريعان الشباب وانتهاءاً بالشيخوخة التي هي بوّابة الحياة الآخرة. وبالطبع لا يُستثنى أحدٌ من قانون الحياة هذا، سواءٌ أكان صالحاً ومعصوماً أم كان طالحاً وطاغوتاً، فالجميع متساوون في ذلك، وهو ما صرّح به تعالى في كتابه المجيد في الآيتين التاليتين: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾1، ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾2.
 
 
 

1- سورة الرحمن، الآية 26 و27.
2- سورة القصص، الآية 88.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

65

فضيلة ذكر الموت

 الموت ليس فناءاً للروح

إنّ الإنسان ليس مخلّداً في الحياة الدُّنيا بل سيُخلّد في الحياة الآخرة، إذ بعد موته سوف ينعم بحياةٍ أزليّةٍ مفعمةٍ بالنعيم والهناء أو مشوبةٍ بالعذاب والشقاء. وبالطبع فإنّ فوز العبد بنعيم الجنّة أو سقوطه في حضيض جهنّم يرتبط بما قدّمه في الحياة الدُّنيا، فأعماله تتجسّد في الآخرة وينال إثرها جزاءَه العادل كما قال جلّ شأنه في كتابه المجيد: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾1.
 
فالمؤمن حقّاً يوقن بأنّ الموت والبرزخ والقيامة والحساب والجنّة والنّار هي حقائق لا مناصّ منها، ويعلم أنّه مكلّفٌ بالاستعداد لها في حياته الدنيويّة لكي يتجاوزها بنجاحٍ. لذلك عليه أن يتوّج أعماله بالحسنات ولا يستسلم لوساوس عدوّه اللّدود إبليس. قال الإمام جعفر الصّادق عليه السلام: "ذِكرُ الموتِ يُميتُ الشَّهواتِ فِي النَّفسِ ويَقلَعُ منابِتَ الغفلةِ ويُقوِّي القلبَ بِمواعِدِ اللهِ ويَرِقُّ الطَّبْعَ ويَكسُرُ أعلامَ الهوَى ويُطفِئُ نارَ الحِرصِ ويُحقِّرُ الدُّنيا، وهو معنَى ما قالَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: فِكْرُ ساعَةٍ خَيْرٌ مِن عِبادةِ سَنَةٍ"2.
 
 
 

1- سورة الزّلزلة، الآيتان 7 و8.
2- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص133.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

66

فضيلة ذكر الموت

 الآخرة في القرآن الكريم

إنّ عدد الآيات التي تطرّقت إلى مسألة الموت والحياة الآخرة يُقارب 2500 آيةٍ، وكثرتها دليلٌ جليٌّ على أهميّتها ودورها الكبير في ترسيخ عقيدة المعاد بذهن العبد وتحفيزه على عدم نسيانه أجله المحتوم.
 
فيما يلي نذكر عدداً من تلك الآيات راجين أن تكون حافزاً لنا على التأمّل في أفعالنا وأقوالنا وعدم الزلل فيها:
سورة الأنبياء التي تتمحور حول أنبياء الله تعالى ورسله وخصالهم وما رافق حياتهم من أحداث، افتتحها سبحانه وتعالى بتحذيرٍ لبني آدم، حيث قال: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ﴾1.


أشار تعالى إلى أنّ الإيمان بالقيامة وعدم إنكارها هو أحد أسباب النجاة من الانحراف، فقال: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾2.
 
كما أنكر جلّ شأنه على الذين لا يعتقدون بالمعاد في قوله: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾3.
 
 
 

1- سورة الأنبياء، الآية 1.
2- سورة المطفّفين، الآيتان 4 و5.
3- سورة المؤمنون، الآية 115.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

67

فضيلة ذكر الموت

 وقد أكّد سبحانه على أنّ الخوف من عذاب الآخرة لا ينفع عامّة الناس وحسب، بل حتّى أنّ أنبياءه وأولياءه الصالحين جعلوه رادعاً لهم أمام أهواء النفس وملذّاتها، فقال: ﴿قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾1.

 
وصّرح تعالى في كتابه المجيد، بأنّ أحد أهمّ أسباب إنكار المعاد من قِبل الملحدين، يكمن في اتّباعهم الهوى وباعتمادهم على تبريرات وأدلّة واهية. ففي سورة طه المباركة يقول الله عز وجل مؤكداً: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى* فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾2. وفي سورة القيامة نقضَ ادّعاءهم بأدلّةٍ علميّةٍ وشدّد على أنّ الشبهة العلميّة لا تعدّ دليلاً على نفي المعاد، بل إنّ الانحراف العلميّ والضلال الذي أعمى بصائرهم هو الذي جعلهم ينكرون يوم الحساب وحرمهم من الإيمان بالجنّة والنار، إذ قال: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾3.
 
ففي أكثر من خمس عشرة آيةً ذكّر الله تعالى النّاس بأنّ الموت أمرٌ حتميٌّ ولا محالة من وقوعه، وفي أكثر من عشر آياتٍ صرّح بأنه لا يُستثنى منه أحد، ونكتفي هنا بذكر ثلاث آياتٍ 
 
 
 

1- سورة الأنعام، الآية 15.
2- سورة طه، الآيتان 15-16.
3- سورة القيامة، الآيات 3 إلى 5.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

68

فضيلة ذكر الموت

 في هذا الصدد: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾1، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾2، ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾3.

 
 

1- سورة النساء، الآية 78.
2- سورة العنكبوت، الآية 57.
3- سورة الأحزاب، الآية 16.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

69

التوبة وتطهير النَّفس

 التوبة وتطهير النَّفس

 
الخطوة الأولى نحو الجهاد
لا أحد ينكر صحّة الحكمة القائلة (الوقاية خيرٌ من العلاج)، لذا فإنّ ترك الذنب واجتنابه أسهل بكثيرٍ من طلب التوبة بعد التدنّس بشوائبه، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "تَركُ الذَّنبِ أهوَنُ مِن طلَبِ التَّوبَةِ"1.
 
والواقع أنّ الإنسان طوال مسيرة حياته يتعرّض للكثير من المغريات وينخدع بوساوس الشيطان فيقع في المحذور بعد ارتكاب المعاصي، ولو يئس من إصلاح ما أفسده ظنّاً منه أنّه سقط في الهاوية التي لا خلاص منها، فسوف يفقد الدافع في العودة إلى الطريق الصحيح، وهو ما يمكن أن يدفعه لارتكاب آثامٍ أكثر وأكبر. أمّا لو اعتقد أنّ طريق التوبة إلى الله عزّ وجلّ مفتوحٌ لجميع العباد في كلّ آنٍ، وأنّه لم يقطع السُّبل عنهم حتّى وإن عصَوه، فسوف لن ييأس من رحمته تعالى ولن يفقد الأمل بالنّجاة من براثن الشيطان الرجيم، ومن ثمّ سيسعى لتطهير
 
 
 

1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج70، ص364.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

70

التوبة وتطهير النَّفس

 ذاته من دنَس المعاصي ويجعل التوبة بلسَماً لدائه وسراجاً يستنير به في غياهب الظلام. وقد قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام منوّهاً بهذه الحقيقة: "التَّوبةُ حَبلُ اللهِ ومَدَدُ عِنايَتِهِ، ولا بُدَّ للعَبدِ مِن مُداوَمةِ التَّوبةِ علَى كُلِّ حالٍ"1.

 
فأوّل خطوةٍ في الجهاد الأكبر لتهذيب النفس، وبالتأكيد أهمّ خطوةٍ، هي تزكية الروح وتطهيرها من الأمراض والرّذائل التي لوّثتها. ولا ريب في أنّ التوبة هي العلاج الأنجع. فقد أكرم الله تعالى عبادَه العاصين بنعمة الإنابة إليه والرجوع عن الذّنب. والتوبة في حقيقتها ثورةٌ باطنيّةٌ تجتثّ كلّ رذيلةٍ وتمحو شوائب المعاصي التي لطّخت النفس الإنسانيّة، كما قال سيّد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم: "لِكُلِّ داءٍ دَواءٌ، ودَواءُ الذُّنوبِ الاستغفارُ"2. وقال سيّد الموحّدين عليه السلام: "التَّوبةُ تُطهِّرُ القُلوبَ وتَغسِلُ الذُّنوبَ"3.
 
فلا عملَ يكسر شوكة إبليس وجنوده من شياطين الإنس والجنّ ويصعقهم صعقاً، مثل التوبة من الذّنوب والرجوع إلى الطريق الصحيح الذي خطّه تعالى لخلقه. فالعبد ومن خلال توبته وعزمه على إصلاح ذاته يُفشل كلّ مساعي هؤلاء الشياطين التي بذلوها لصدّه عن سواء السّبيل لإقحامه معهم في عذاب جهنّم 
 
 
 

1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص31.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج11، ص354.
3- التميمي الآمدي، غرَر الحِكم ودُرَر الكلِم، ص195.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

71

التوبة وتطهير النَّفس

 وبئس المصير، وبالتالي سيحظى بفضلٍ من ربّه ورضوان. قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾1، وقال نبيّنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: "أما واللهِ، اللهُ أشدُّ فرَحاً بتَوبةِ عبدِهِ مِن الرّجلِ بِراحلَتِهِ"2. كما أشار الإمام محمّد الباقر عليه السلام إلى هذا المضمون بقوله: "إنّ اللهَ تعالى أشدُّ فرحاً بتوبة عبده من رجلٍ أضلّ راحلتَهُ وزادَهُ في ليلةٍ ظلماءَ فوَجدَها، فاللهُ أشدُّ فرَحاً بتوبةِ عبدِهِ مِن ذلكَ الرَّجلِ براحلَتهِ حِينَ وجدَها"3.

 
وقد خاطب البارئ عزّ وجلّ العُصاة من بني آدم بعباراتٍ مفعمةٍ بالرأفة والرحمة، فناداهم (يا عبادي) في سورة الزُّمر، وأمرهم بالتّوبة وإصلاح الذّات قبل أن يحلّ عليهم عذابٌ أليمٌ، وبسط لهم رحمته التي لا يحجبها ذنبٌ، فقال: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾4. قال العلّامة محمّد حسين الطباطبائيّ رحمه الله في تفسير هذه الآية المباركة: "الإنابةُ إلى اللهِ الرجوعُ إليهِ، وهو (أي الرجوع) التوبةُ"5.
 
 
 

1- سورة البقرة، الآية 222.
2- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص39.
3- محمّد بن يعقوب الكُليني، أصول الكافي، ج2، ص435.
4- سورة الزُّمر، الآيتان 53 و54.
5- محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسيرالقرآن، ج17، ص280.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

72

التوبة وتطهير النَّفس

 والتوبة النَّصوح لا تمحو الذّنوب وتطهّر النّفس من أدرانها وتُحبّب العبد إلى ربّه وحسب، بل تُصلح ذاته وينال بها كرامةً وفضلاً عظيماً منه تعالى لدرجة أنّه يحوّل سيّئاتِةِ إلى حسناتٍ، كما قال جلّ شأنه: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا﴾1.

 
هناك العديد من الاحتمالات ذُكرت حول مسألة تبديل السيّئات إلى حسناتٍ وهي مقبولةٌ بشكلٍ عامٍّ، حيث ذكرها آية الله مكارم الشيرازي في تفسيره كالتالي:
 
حينما يتوب الإنسان ويؤمن بالله، تتحقّق تحوّلاتٌ عميقةٌ في جميع وجوده، وبسبب هذا التحوّل والانقلاب الداخلي تتبدّل سيّئات أعماله في المستقبل حسناتٍ...
 
فإذا كان زانياً، فإنّه قد يكون بعدها عفيفاً وطاهراً، وهذا التوفيق الإلهيّ يناله العبد في ظل الإيمان والتوبة.
 
وإنّ الله تبارك وتعالى بلطفه وكرمه وفضله وإنعامه يمحو سيّئات أعمال العبد بعد التوبة ويضع مكانها حسناتٍ. نقرأ في روايةٍ عن أبي ذر: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يُؤتَى بالرَّجلِ يومَ القِيامةِ فيُقالُ اعرضُوا صِغارَ ذُنوبهِ، وتُخبَّأ كبارُها, فيُقال: عملتَ يومَ كذا وكذا، وهو يُقِرُّ ليسَ بمنكرٍ، وهو مشفقٌ مِن
 
 
 
 

1- سورة الفرقان، الآيتان 70 و71.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

73

التوبة وتطهير النَّفس

  الكبائرِ أنْ تجيءَ. فإذا أرادَ اللهُ خَيراً قال: أعطُوه مكانَ كلِّ سيّئةٍ حسنَةً، فيقول: يا ربِّ لي ذنوبٌ ما رأيتُها ها هنا" قال: ورأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحك حتّى بدَتْ نواجِذَهُ.

 
التّفسير الثّالت هو أنّ المقصود من السيّئات ليس نفس الأعمال التي يقوم بها الإنسان، بل آثارها السيّئة التي تنطبع بها روح ونفس الإنسان. فحينما يتوب ويؤمن تُجتثُّ تلك الآثار السيّئة من روحه ونفسه، وتُبدَّل بآثار الخير، وهذا هو معنى تبديل السيّئات حسنات1.
 
وهناك أبحاثٌ فرعيّةٌ تتعلّق بالتوبة، نذكر منها ما يلي:
 
أركان التَّوبة
إنّ التوبة التي تُرضي الله تعالى وتُسخط عدوّه إبليس هي التي تقلب موازين شخصيّة العبد وتجعله نادماً على ما فعل وتزرع في نفسه القدرة على سلوك الصراط المستقيم من خلال طاعة خالقه وتهذيب نفسه وإصلاح ما أفسدته المعاصي. وإذا كان مديناً لله تعالى أو لخلقه عليه أن لا يتوانى في أداء تلك الحقوق طرفة عينٍ. وبالطبع فإنّ هكذا توبةً نصوحاً لها أركان خاصّة، يمكن التعبير عنها بمراحل أو شروط التوبة، كما يلي:
 
 
 

1- بتصرف، ناصر مكارم الشيرازي، التفسير الأمثل، ج11، ص314.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

74

التوبة وتطهير النَّفس

 1- النَّدم على ارتكاب الذَّنب

أوّل وأهمّ خطوةٍ يخطوها التائب عند توبته، هي شعوره بالنّدم والخسران إثر ما ارتكب من معاصٍ شوّهت باطنه، فحاله حال المريض الذي يلجأ إلى العلاج فور شعوره بالألم. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "النَّدَمُ تَوبَةٌ"1، وقال الإمام عليّ عليه السلام: "استَرجِعْ سالِفَ الذُّنوبِ بِشدَّةِ النَّدَمِ وكَثرَةِ الاستغفار"2.
 
وكذلك، فإنّ النّدم على ارتكاب الذّنوب يعدّ أفضل محرّكٍ للإنسان يُحفّزه على اجتنابها مستقبلاً، كما قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام نقلاً عن جدّه أمير المؤمنين عليه السلام: "إنَّ النَّدمَ علَى الشَّرِّ يَدعُو إلى تَركِهِ"3.
 
2- الإقرار بالذَّنب
قال الإمام محمّد الباقر عليه السلام: "لا واللهِ ما أرادَ اللهُ مِن النّاسِ إلّا خِصلَتَينِ، أنْ يُقِرُّوا لَهُ بالنِّعَمِ فيزيدُهُمْ، وبالذُّنوبِ فيغفِرُها لَهُمْ"4. وقال أيضاً: "وَاللهِ ما يَنجُو مِن الذَّنبِ إلّا مَن أقرَّ بهِ"5.
 
 
 

1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج74، ص159.
2- المصدر السابق، ج75، ص165.
3- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، كتاب جهاد النفس، ص336.
4- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص36.
5- المصدر السابق.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

 


75

التوبة وتطهير النَّفس

 3- العزم علَى ترك الذُّنوب

رُوي عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام قوله: "التّائبُ مِن الذَّنبِ كَمَنْ لا ذَنبَ لَهُ، والْمُقِيمُ علَى الذَّنبِ وَهُوَ مُستَغفِرٌ مِنهُ كَالْمُستَهزئ"1.


رُوي عن أبي الصباح الكناني أنّه قال: سألت أبا عبد الله الصادق عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا﴾2، قال: "يَتوبُ العبدُ مِن الذَّنبِ ثُمَّ لا يَعودُ فِيهِ"3.
 
4- تدارك ما فات
إنّ التوبة الحقيقيّة لا بدّ وأن تتجلّى آثارها على شخصيّة التائب، وذلك بإصلاح ما أفسد. فعليه فعل ما ترك وأداء ما في ذمّته من حقوقٍ للآخرين ليكسب رضاهم، فإن لم يتسنَّ له ذلك يجب عليه أن يسأل الله الرّحمة والمغفرة لصاحب الحق الذي تجاوز عليه. وكذلك لا بدّ له من قضاء عباداته إن كان قد قصّر فيها. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "التّائبُ إذا لَم يستَبِنْ أثرَ التَّوبةِ فَلَيسَ بتائبٍ، يُرضِي الْخُصماءَ ويُعيدُ الصَّلَواتِ ويَتواضَعُ بَينَ الْخَلقِ ويَتَّقِي نَفسَهُ عَن الشَّهَواتِ ويُهزلُ رقبتَهُ بصيامِ النَّهارِ 
 
 
 
 

1- محمّد بن يعقوب الكُليني، أصول الكافي، ج2، ص435.
2- سورة التحريم، الآية 8.
3- المصدر السابق، ص432.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

76

التوبة وتطهير النَّفس

 ويُصفرُ لونَهُ بقيامِ اللّيلِ ويُخمِصُ بطنَهُ بقِلَّةِ الأكلِ ويُقوِّسُ ظَهرَهُ مِن مَخافةِ النَّارِ ويُذيبُ عِظامَهُ شَوقَاً إلى الجنَّةِ، ويُرِقُّ قلبَهُ مِن هَولِ مَلَكِ الموتِ ويُجَفِّفُ جلدَهُ علَى بدنهِ بتفَكُّرِ الأجَلِ, فَهذا أثرُ التَّوبةِ. وإذا رأيتُمْ العبدَ علَى هذِهِ الصُّورةِ فهُو تائبٌ ناصِحٌ لِنَفسِهِ"1. وقال صلوات الله عليه في مناسبةٍ أُخرى: "أتَدرونَ مَن التّائبُ؟".

 
قالوا: اللّهُم لا.
قال: "إذا تابَ العبدُ ولَمْ يُرضِ الْخُصَماءَ فلَيسَ بتائبٍ، ومَن تابَ ولَمْ يَزِدْ فِي العبادَةِ فلَيسَ بتائبٍ، ومَن تابَ ولَمْ يُغيِّرْ لباسَهُ فلَيسَ بتائبٍ، ومَن تابَ ولَمْ يُغيِّرْ رُفَقاءَهُ فلَيسَ بتائبٍ، ومَن تابَ ولَمْ يُغيِّرْ مَجلِسَهُ فلَيسَ بتائبٍ، ومَن تابَ ولَمْ يُغيِّرْ فِراشَهُ ووِسادَتَهُ فلَيسَ بتائبٍ"2. فبعد تحقّق هذه الشروط يتجلّى المعنى الحقيقيّ للاستغفار.
 
ورُوي أنّ شخصاً قال بحضرة الإمام عليّ عليه السلام: أستغفِرُ اللهَ. فقال له: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! أَتَدْرِي ما الاسْتِغْفارُ؟! إنَّ الاسْتِغْفارَ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ وهُوَ اسْمٌ واقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعانٍ، أوَّلُها النَّدَمُ عَلَى ما مَضَى، والثّانِي الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إلَيْهِ أَبَداً، والثّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إلَى الْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اللهَ أَمْلَسَ لَيْسَ 
 
 
 

1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص35.
2- المصدر السابق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

77

التوبة وتطهير النَّفس

 عَلَيْكَ تَبِعَةٌ، والرّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَها فَتُؤَدِّيَ حَقَّها، والْخامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بالأحْزانِ حَتَّى تُلْصِقَ الْجِلْدَ بالْعَظْمِ ويَنْشَأَ بَيْنَهُما لَحْمٌ جَدِيدٌ، والسّادِسُ أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطّاعَةِ كَما أَذَقْتَهُ حَلاوَةَ الْمَعْصِيَةِ, فَعِنْدَ ذلِكَ تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ"1.

 
ثمار التَّوبة
التَّوبة النَّصوح تُرضي الله تعالى وتدحض الشَّيطان ولها فوائد عظيمة، منها ما يلي:
 
1- التّوبة تطهّر النّفس
التَّوبة دواءٌ يُطهّر القلبَ ويُنظّفه من أدران المعاصي والرّذائل، كما أنّها تُنجي التّائب من مكائد الشّيطان وتزرع في نفسه الطمأنينة لمستقبله وتحفّزه على أداء واجباته وعباداته بأحسن وجهٍ. وحسب ما نستلهمه من أحاديث المعصومين عليهم السلام فإنّ قلب التّائب توبةً نصوحاً نقيٌّ وكأنّه لم يعصِ أبداً، لذلك يمكنه أن يُهيّئ نفسَه لطلب علوم الدّين ومعارفه والانتهال من فيض خالقه وبركة ملائكته بعد أن نجا من حبائل الشّياطين، فقد قال الإمام الباقر عليه السلام: "التّائبُ مِن الذَّنبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ"2.
 
 
 
 

1- الشّريف الرّضي، نهج البلاغة، الحكمة رقم 417.
2- محمّد بن يعقوب الكُليني، أصول الكافي، ج2، ص435.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

78

التوبة وتطهير النَّفس

 2- التّوبة تقوي العزيمة

التّوبة تزيد من عزيمة الإنسان وتُرسّخ إرادته في ذات الله تعالى، وفي نفس الوقت تقطع دابر الشّيطان وتكبح النّفس الأمّارة. فهي تُحرّر العبد من قيود إبليس وجنوده وبالتالي تصونه من الانحراف عن الصراط المستقيم وتضمن له إطاعة الخالق عزّ وجلّ لينال بعد ذلك السعادة المنشودة، الأمر الذي أكّد عليه تعالى في كتابه المجيد حين قال: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ﴾1، وقال الإمام عليّ عليه السلام: "النَّدمُ علَى الذَّنبِ يَمنعُ عَن مُعاوَدَتهِ"2.
 
وبالطبع فإنّ التّائب ما دام تاركاً للذّنب، وصائناً نفسه منها ومن مكائد الشّيطان الرّجيم، فبركة التّوبة ستُفعم نفسه ونورها سيسطع في قلبه، وإلّا فإنّ الآثام والمعاصي ستُكدِّر قلبه وباطنه وتسوقه نحو ظُلمات التَّيه والضّلال، كما قال الإمام محمّد الباقر عليه السلام: "ما مِن عَبدٍ إلّا وفِي قلبهِ نُكتَةٌ بَيضاءُ، فَإذا أذنَبَ ذَنباً خرَجَ فِي النُّكتةِ نُكتةٌ سوداءُ، فإنْ تابَ ذهَبَ ذلكَ السَّوادُ، وإنْ تَمادَى فِي الذُّنوبِ زادَ ذلكَ السَّوادُ حَتَّى يُغطِّي البَياضَ، فَإذا غَطَّى البَياضَ لَمْ يرجِع صاحِبُهُ إلى خَيرٍ أبَدَاً"3.
 
 
 

1- سورة هود، الآية 52.
2- حسن النوري الطبرسي، مستدرك الوسائل، ج2، ص346.
3- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج70، ص332.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

79

التوبة وتطهير النَّفس

 3- التّوبة تُحيي الرّجاء

لولا تشريع الله تعالى التّوبة وإكرامه عباده بغفران ما اقترفوه من ذنوبٍ ومعاصٍ، لاجتاح اليأس كيانَهم ولخاضوا في طغيانهم يعمهون دون أن يفكّروا بالرّجوع إلى سبيل الهدى. فباب التّوبة مفتوحٌ أمام الخلق كافّةً في كلّ آنٍ والطريق أمامهم سالكةٌ لإصلاح ما أفسدته أيديهم.
 
وبالطبع، فإنّ اليأس من رحمة الله تعالى كالكفر لأنّه يقضي على الرّجاء، حيث قال جلّ شأنه: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾1، وقال الإمام عليّ عليه السلام: "أعظَمُ البَلاءُ انقِطاعُ الرَّجاءِ"2، ونقل الشّعبي عنه أيضاً: "عَجِبتُ لِمَن يَقنطُ ومعَهُ النّجاة، وهو الاستغفارُ"3.
 
من أهمّ ميّزات المدارس الدينيّة، ولاسيّما المدرسة الإسلاميّة، أنّها تقطع الطّريق أمام اليأس وتحول دون سرايته إلى نفوس أتباعها، ولا ترفض عودتهم إلى أحضانها بعد توبتهم مهما اقترفوا من آثام، بل تُرحّب بهم وتحتضنهم بحفاوةٍ وتُكرمهم إذا ما أصلحوا أنفسهم. فقد خاطب ربّ العزّة والجلال عبادَه بعطفٍ ورحمةٍ قائلاً: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ 
 
 
 

1- سورة يوسف، الآية 87.
2- التميمي الآمدي، غُرَر الحِكم ودُرَر الكلِم، ص83.
3- نفس المصدر،ص 195.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

80

التوبة وتطهير النَّفس

 اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾1. وحسب ما ذكرنا من أحاديث تتّضح لنا مدى محبّة الله تعالى لعبده التّائب.
 
4- التّوبة مدَدٌ سماويٌّ
إنّ الله تعالى يُنعم على العبد التائب بمعين فيضه وبركاته التي لا تنضب، كما جاء ذلك على لسان نبيّه هود عليه السلام: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا﴾2. وكذلك نقرأ في نفس السُّورة: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾3. وقال الإمام عليّ عليه السلام: "التَّوبةُ تستنـزِلُ الرَّحمةَ"4.
 
والواقع أنّ ما ذُكر لا يستوفي جميع جوانب التّوبة لأنّ أبحاثها واسعةٌ ومتشعّبةٌ لا مجال للتطرّق إليها بالتفصيل في هذا الإطار المحدود، ولا نرى بأساً في أن نختم الحديث عنها بكلامٍ للإمام الخمينيّ قدس سره: "إلهي ألهِمنا صَدراً مُحترقاً واقذِفْ في قُلوبِنا جَذوةً مِن نارِ النَّدامَةِ واحرقْهُ مَع هذهِ النّارِ "النّدامة" الدنيويّةِ، وأزِلْ عَن قُلوبِنا الكَدَرِ والغبرَة، وأخرِجْنا مِن هذا العالَمِ مِن دونِ مُضاعَفاتِ المعاصي, إِنَّك وَلِيُّ النِّعَمِ وعَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ"5.
 
 
 

1- سورة الزُّمَر، الآية 53.
2- سورة هود، الآية 52.
3- سورة هود، الآية 3.
4- التميمي الآمدي، غُرَر الحِكم ودُرَر الكلِم، ص195.
5- الإمام الخمينيّ قدس سره، الأربعون حديثاً، ص310.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

81

الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة

 الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة

 
الهدف من التشريع
إنّ علّة تشريع الأديان السماويّة تكمن في هداية الإنسان إلى هدفه الفطريّ وسعادته الأبديّة، وبالطبع فهي علّة تشريع ديننا الإسلاميّ أيضاً الذي هو في الحقيقة أفضل هذه الأديان وأتمّها.
 
إن تعاليم ديننا الحنيف وأحكامه الشرعيّة برمّتها، تتمحور حول بيان السُّبل المثلى التي تصقل شخصيّة العبد وتُنمّي قدراته لبلوغ أسمى درجات الكمال الحقيقيّ. فالواجبات والمستحبّات جميعها هي وسائل تأخذ بيده لتحقيق هذا الهدف السامي بلطفٍ من الله تعالى حيث جعلها أُسُساً لبناء شخصيّته وترسيخ دعائم المجتمع، وصيّرها حصناً حصيناً يصدّ هجمات إبليس وجنوده ويكبح جموح النفس ونزواتها.
 
إنّ الله تعالى خلق العبد بجسمٍ ماديٍّ وروحٍ مقدّسةٍ، وأسكنه الأرض حتّى يتهيّأ لحياته الأبديّة، فزرع في نفسه الرغبة بالسَّير نحو العُلا وبلوغ السعادة المنشودة عن طريق التقرّب إليه بالأعمال الحميدة التي هي جسرٌ من عالم المادّة إلى عالم 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

82

الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة

 الرُّوح، وهذا هو طريق ذات الشوكة الذي يُكابد فيه السالك ما يُكابد. قال عزّ وجلّ في كتابه المجيد: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾1.

 
واستناداً للتّجربة وحُكم العقل، هناك شرطان أساسيّان لا بدّ من تحقّقهما لقطع أيّ طريقٍ وبلوغ نهايته، وهما:
1- وجود المقتضي، أي توفّر الوسيلة أو الوسائل التي تيسّر سلوكه. وبالتأكيد كلّما كانت هذه الوسيلة أقوى وأصلح وأكثر انسجاماً مع طبع الإنسان، فإنّ السفر سيكون أسهل وأسرع وأكثر راحةً.
2- ارتفاع المانع، أي إزاحة كلّ ما من شأنه عرقلة سلوكه.
 
لذا، ما هي الوسائل اللازمة لسلوك الإنسان أهمّ سبيلٍ في حياته على الإطلاق، ابتداءاً من عالم المادّة وصولاً إلى عالم الروح والقرب الإلهيّ الذي هو الهدف والمقصود؟ وما هي الحواجز التي تعترض هذا الطريق وتحول بين العبد وبين تحقيق هدفه الأسمى؟
 
فديننا الإسلاميّ الحنيف الذي هدفه هداية الإنسان، وجميع تعاليمه وأحكامه تنصبّ في إعانته على تحقيق هذا الهدف، ماذا وفّر للإنسان من وسائل تيسّر سفره المضني هذا وتهديه إلى أقرب وأسرع الطُّرق لبلوغ غايته المنشودة؟ فماذا أعدّ له
 
 
 

1- سورة الانشقاق، الآية 6.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

83

الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة

 من حلولٍ لمواجهة قطّاع الطُّرق وإزالة عقبات السَّفر؟ هذه أهمّ الاستفسارات التي يواجهها كلّ متديّنٍ يبحث عن نقطة انطلاقٍ لتهذيب نفسه وبناء مجتمعه ولا يرجو من حياته إلا أن تكون مقدّمةً للفوز بنعيم الآخرة.


وللإجابة عمّا ذُكر نقول: لا بدّ لنا من الإقرار بأنّ جميع تعاليم وأحكام الشريعة الإسلاميّة هي وسائل وهبها الله تعالى لعباده لتيسّر له سلوك السَّبيل الصحيح وبلوغ هدفه المنشود الذي ينعم فيه بالسعادة الأزليّة. فأهميّة كلّ حكمٍ شرعيٍّ تكون بمقدار تأثيره على سلوك العبد سبيلَ الكمال، ومهما كان تأثيره أكثر فأهميّته أكبر, لذلك فإنّ الركن الأساسيّ لكلّ عبادةٍ هو تحقّق نيّة القربة طلباً لرضا الله تعالى، حيث يجب على العبد أن يسخّر هذه الوسائل لكسب درجات العُلا عند معبوده الأوحد.

والحقيقة أنّ التمرّد على أوامر الله تعالى والتملّص من أداء أحكام الشريعة وتلطيخ الباطن بالآثام، هي الحواجز التي تجعل الطريق وعراً أمام العبد في حياته الدّنيا وتحرمه من بلوغ غايته السامية، وهي المنطقة المحظورة التي لا يحقّ له دخولها.

ورسولنا الكريم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم خلال ثلاث وعشرين سنةً من الجهد الحثيث والمتواصل في تبليغ رسالات الله، قد عرض لنا أفضل برنامجٍ لإدارة الحياة، وفي خاتمة المطاف أكمل لنا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

84

الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة

 الشريعة حينما صدع بالحقّ في حجّة الوداع الشهيرة ولخّصها في أمرين أساسيّين، هما:

1- الواجبات التي هي وسائل تأخذ بيد العبد لبلوغ السعادة الأزليّة في جنان النعيم.
2- المحرّمات التي هي حواجز تُعيق العبد وتسوقه إلى جهنّم وبئس المصير.
 
آثار اتباع الأحكام الشرعية
إذن، السَّبيل الوحيد لبلوغ السعادة الأُخرويّة والخلاص من مستنقع الدّنيا هو الأوامر والنّواهي التي جاءنا بها خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم في شريعته السمحاء، حيث بيّنها في الحديث التالي:
 
روى أبو حمزة الثّمالي عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: "خَطبَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي حجّةِ الوَداعِ فقالَ: يا أيُّهَا النّاسُ، واللهِ ما مِن شيءٍ يُقرِّبُكُمْ مِن الجنَّةِ ويُباعِدُكُمْ مِن النّارِ إلّا وقَد أمرتُكُمْ بِهِ، وما مِن شيءٍ يُقرِّبُكُمْ مِن النّارِ ويُباعِدُكُمْ مِن الجنَّةِ إلّا وقَد نَهيتُكُمْ عَنهُ"1.
 
أمّا إبليس وجنوده فيتربّصون بابن آدم الحيَل ويتّبعون شتّى الوسائل لقطع الطريق عليه ومحاصرته، إذ يوسوسون له بارتكاب 
 
 
 

1- محمّد بن يعقوب الكُليني، أصول الكافي، ج2، ص74.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

85

الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة

 الذّنب ويحرّضونه على معصية خالقه. والقرآن الكريم بدَوره قد فضح هذه الدّسائس وحذّر الإنسان من الوقوع في مهالك فِتنة هؤلاء الفسقة ومكائدهم. ففي سورة الأعراف أخبرنا الله عزّ وجلّ أنّ إبليس بعد أن طُرد من حضرة القُدس عندما امتنع عن السجود لآدم، توعّد ذريّته قائلاً: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾1.

 
والحقيقة أنّ التّكاليف الشرعيّة، ولا سيّما العبادات، لا تقرّب العبد من ربّه وتقوده إلى الكمال وحسب، بل تُفسد مخطّطات إبليس وتُحبط مساعيه الدنيئة وتعين العبد على الغلبة على نفسه وتكبح أطماعها الدنيويّة. فاستعانة المسلم بالواجبات والمستحبّات هي السَّبيل الوحيد لكسر شوكة الشياطين وظفره في صراعه المرير مع ملذّات الدنيا الزائلة في جهاده الأكبر, فقد خاطب تعالى عبادَه المؤمنين قائلاً: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾2.
 
وبالطبع فإنّ الاستعانة بالأحكام الشرعيّة لبلوغ درجة الكمال تتطلّب الخضوع لذات الله تعالى وعبادته بخشوعٍ، ولكن للأسف الشديد فإنّ جميع المسلمين لا يمتلكون هذه القدرة، حيث قال تعالى: 
 
 
 

1- سورة الأعراف، الآيتان 16 و17.
2- سورة البقرة، الآيتان 152 و153.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

 


86

الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة

 ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾1. وأكّد تعالى شأنه على دَور الصّلاة الهامّ في هذا المضمار بقوله: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾2.

 
يقول العلّامة محمّد حسين الطباطبائيّ رحمه الله في تفسير هذه الآية المباركة: "الصَّلاةُ عمَلٌ عِباديٌّ يُورِثُ إقامتُهُ صفةً روحيّةً في الإنسانِ تكونُ رادعةً لهُ عن الفحشاءِ والمنكرِ، فتتنزّهُ النفسُ عن الفحشاءِ والمنكرِ وتتطهّرُ عن قذارةِ الذُّنوبِ والآثامِ. فالمرادُ بهِ التوسُّلُ إلى ملَكَةِ الارتِداعِ الّتي هِي مِن آثارِ طبيعةِ الصّلاةِ بنحوِ الاقتضاءِ، لا أنَّها أثرُ بعضِ أفرادِ طبيعةِ الصّلاةِ، ولا أنّها أثرُ الاشتغالِ بالصّلاةِ ما دامَ مُشتغلاً بِها، ولا أنّ المرادَ هُو التوسُّلُ إلى تلقِّي نَهي الصّلاةِ فَحسبُ من غيرِ نظرٍ إلى الانتهاءِ عن نَهيها كأنّهُ قيل: أقِم الصّلاةَ لتَسمعَ نَهيها، ولا أنّ المرادَ أقِم الصّلاةَ لينهاكَ الذِّكرُ الّذي تشتملُ عليهِ عن الفَحشاءِ والمنكرِفالحقُّ فِي الجوابِ أنّ الرّدعَ أثرُ طبيعةِ الصّلاةِ الّتي هِي تَوجُّهٌ خاصٌّ عباديٌّ إلى اللهِ سبحانَهُ، وهو بنحو الاقتضاءِ دونَ الاستيجابِ والعلّيةِ التامّةِ، فربّما تخلفُ عن أثرِها لمقارنةِ بعضِ الموانعِ الّتي تُضعفُ الذِّكرَ وتقرّبهُ من الغفلةِ والانصرافِ عن حاقِّ الذّكرِ, فكُلّما قَويَ الذّكرُ وكملَ الحضورُ والخشوعُ وتمحّضَ 
 
 
 

1- سورة البقرة، الآية 45.
2- سورة العنكبوت، الآية 45.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

87

الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة

 الإخلاصُ، زادَ أثرُ الرّدعِ عن الفحشاءِ والمنكرِ وكلّما ضعُفَ، ضعُفَ الأثرُ1".

 
أمّا بالنسبة لفضيلة الصيام وآثاره الحميدة، فقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾2.
 
وإنفاق المال في سبيل الله تعالى مقدّمةٌ لرقيّ الإنسان وبلوغه السعادة المنشودة، لما في ذلك من تنفيسٍ عن المكروبين وقضاءٍ لحوائجهم، وكذلك دَوره التربويّ في المجتمع، فقد قال عزّ وجلّ: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾3.
 
أمّا الأحاديث المرويّة عن المعصومين عليهم السلام والتي تدور حول الآثار التربويّة للتكاليف والأحكام الشرعيّة وتأثيرها الكبير على الفرد والمجتمع فهي كثيرةٌ، ونستلهم منها أنّ الله تعالى لم يشرّع إلا ما فيه مصلحة للإنسان وسُموّ لروحه، وفي نفس الوقت يدحض الشياطين ويمرّغ أُنوفهم. نشير فيما يلي إلى عددٍ من هذه الأحاديث:
 
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اعمَلْ بِفرائضِ اللهِ، تَكُنْ أَتقَى النّاسِ"4.
 
 
 

1- محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج16، ص135.
2- سورة البقرة، الآية 183.
3- سورة آل عمران، الآية 92.
4- محمّد بن يعقوب الكُليني، أصول الكافي، ج2، ص82.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

88

الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة

 وقال أيضاً: "عَلَيكُمْ بالصَّومِ فإنَّهُ مَحسَمةٌ للعُروقِ ومَذهَبةٌ للأشَرِ"1.

قال الإمام عليّ عليه السلام: "الصَّلاةُ حِصنٌ مِن سَطَواتِ الشَّيطانِ"2.
قالت السيّدة فاطمة الزّهراء عليها السلام: "فرَضَ اللهُ الصِّيامَ تثبيتَاً للإخلاصِ"3.
 
استفسارٌ هام وجوابٌ
قد يتساءل بعض الناس أنّ أداء الواجبات والتكاليف الشرعيّة يُهذّب شخصيّة الإنسان ويصونه من ارتكاب المحرّمات، فكيف يرتكب بعض الناس المعاصي والآثام رغم التزامهم بأداء فرائضهم الدينيّة، كالصلاة والصيام والحجّ؟! لماذا لا تحول أعمالهم العباديّة دون انحرافهم؟!
 
وفي الجواب نقول:
أوّلاً: إنّ الملتزمين بأداء فرائضهم الدينيّة بالطبع أقلّ ارتكاباً للمعاصي من غير المتديّنين الذين لا يُعيرون أهميّةً لما كُلّفوا به من واجباتٍ، ولا سيّما أنّهم أقلّ ارتكاباً لكبائر الذّنوب والآثام التي تفتك بالفرد وتزلزل أركان المجتمع. ففي شهر رمضان المبارك على سبيل المثال، فإنّ غالبيّة
 
 
 

1- محمّد بن يعقوب الكُليني، أصول الكافي، نقلاً عن كنز العمّال، ح23610.
2- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج5، ص367.
3- محمّد بن يعقوب الكُليني، أصول الكافي، ج2، ص466.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

89

الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة

 المسلمين منهمكون في العبادة وأعمال الخير والمعروف، الأمر الذي يجعل نسبة المعاصي في المجتمع تصل إلى أدنى حدٍّ لها طوال العام, لذا يمكننا القول إنّ العمل بظاهر أحكام الشريعة والتقيّد بأداء الواجبات له أثرٌ نسبيٌّ لا يمكن إنكاره.

 
يقول الإمام الخميني قدس سره بهذا الصدد: "تابعوا ملفّات الْجُناة والمحكومين في دور القضاء والمحاكم، هل ستجدون ملفّاً لشخصٍ ملتزمٍ بصلاته؟! فكلّ ما ستجدونه هناك لتاركي الصّلاة.
 
الصّلاة دعامة الشعب ... الهدف هو تطبيق الإسلام، وبالإسلام يصلح الإنسان، الصلاة مصنع لبناء وتهذيب الإنسان، الصلاة المتكاملة تُنقذ الأُمّة من الفحشاء والمنكر. فالّذين يرتادون مراكز الفساد هم تاركو الصّلاة، وأمّا المصلّون في المساجد فهم مستعدون لتقديم الخدمة لمجتمعهم"1.
 
ثانياً: إنّ التكاليف الشرعيّة بذاتها تقتضي ابتعاد الإنسان عن ارتكاب الذّنوب، وبإمكانها أن تصونه من الانحراف, ولكنّ بعض الناس لم يلتزموا بروح العبادة وحقيقتها التي تُزكّي النفس، فتقيّدوا بظاهرها وحسب. وبالتأكيد فإنّ أداء هذه الأعمال، كالصلاة مثلاً، دون التقيّد بمضامينها ليس له تأثيرٌ ملموسٌ على العبد ولن تحفظه من ارتكاب المعاصي. لذلك صرّح المعصومون عليهم السلام بأنّ الصّلاة التي لا تنهى 
 
 
 

1- الإمام الخميني قدس سره، صحيفة نور (باللّغة الفارسيّة)، ج12، ص148.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

 


90

الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة

 عن الفحشاء والمنكر مرفوضةٌ ولا طائل منها. فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "لا صَلاةَ لِمَن لَم يُطِعْ الصّلاةَ، وطاعةُ الصّلاةِ أنْ تَنهَى عَن الفحشاءِ والمنكرِ"1.

 
وكذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن لم تَنهَهُ صلاتُهُ عَن الفحشاءِ والمنكرِ لَم يَزدَدْ مِن اللهِ إلّا بُعداً"2.
ورُوي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: "مَن أحبَّ أنْ يعلَمَ أَقُبِلَتْ صلاتُهُ أم لَم تُقبَلْ، فَلْينظُرْ هَل مَنعَتهُ صلاتُهُ عَن الفحشاءِ والمنكرِ، فبِقَدرِ ما مَنَعتهُ قُبِلتْ منهُ"3.
 
وقال أيضاً: "مَن اغتابَ مسلماً أو مسلمةً، لَم يَقبلْ اللهُ صلاتَهُ وصيامَهُ أربعينَ يوماً وليلةً، إلّا أنْ يغفِرَ لهُ صاحبُهُ"4.
 
كما رُوي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "الصِّيامُ اجتنابُ الْمَحارِمِ، كما يمتنع الرّجلُ مِن الطّعامِ والشّرابِ"5.
 
ونظراً لأهميّة الواجبات الدينيّة ودَورها في عروج الإنسان إلى حضرة القُدس، نلاحظ أنّ أوّل خطوةٍ لإبليس عدوّ الإنسان اللّدود هي صدّه عن أدائها. أمّا إذا فشل هذا الملعون في إغواء العبد بتركها، فإنّه يسعى للتقليل من تأثيرها في نفسه ويوسوس
 
 
 

1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج79، ص198.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق، ج72، ص258.
5- المصدر السابق، ج93، ص294.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

91

الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة

 له كي يقع في فخّ الرياء والغفلة عن الحقيقة، وبالتالي ستفقد العبادة جانبها التربويّ الذي يعينه على تزكية نفسه. وعندما يفشل عدوّ الله في محاولته الثانية هذه، فإنّه يلجأ إلى شتّى الحيَل والمكائد ليُفسد ما أسلف العبد من أعمالٍ صالحةٍ. لذا هناك الكثير من الصُّلحاء والمؤمنين لا تؤول عواقب أُمورهم إلى خيرٍ، فبعد أن أفنَوا حياتهم بالخير والعبادة سقطوا في الحضيض. وقد أشار تعالى في كتابه الكريم إلى هذه الحقيقة حينما أكّد على أنّ مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها يتحقّق بعد أن يحتفظ بها العبد إلى يوم الحساب، فقال: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾1. والواقع أنّ أداء عملٍ صالحٍ يتمّ في مرحلةٍ واحدةٍ وبسرعةٍ نسبيّةٍ وقد لا يتطلّب جهداً مضنياً، إلا أنّ الأهمّ من ذلك قدرة العبد على حفظه وعدم التفريط به من خلال تحمّل المصاعب والصمود أمام وساوس الشّيطان الرجيم، كما قال الإمام محمّد الباقر عليه السلام: "الإبقاءُ علَى العملِ أشدُّ مِن العملِ"2.

 
 
 

1- سورة الأنعام، الآية 160.
2- السيّد عبد الله الجزائري، التحفة السنيّة، ص43.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

92

مرافقة الأبرار

 مرافقة الأبرار

 
أهميّة الصحبة وآثارها
إنّ الإنسان بطبعه كائنٌ اجتماعيٌّ. وصلته بسائر أعضاء المجتمع لا تنقطع طوال حياته. وبالتأكيد فهو يتأثّر بالآخرين ويؤثّر فيهم. فهو في مختلف مراحل حياته، منذ نعومة أظافره حتّى شيخوخته، بحاجةٍ إلى رفيقٍ يُصاحبه ويؤنسه, ولا ريب في أنّ شخصيته تنصقل طبقاً لمن يعاشر، حيث قال الإمام عليّ عليه السلام في هذا الصدد: "الْمَرءُ علَى دينِ خَليلِهِ، فَلْينظُرْ أحدُكُمْ مَن يُخالِلُ"1.
 
إنّ فقدان الرفيق الصّالح يُعدّ نقصاً، والذي لا يُرافق الأبرار والصُّلحاء يُحرم من نعمةٍ عظيمةٍ. لذلك فإنّ الإنسان لا يحتاج إلى ما يُحفّزه على كسب الأصدقاء، بل هو بحاجةٍ إلى مَن يُرشده لمعرفة المعايير الصحيحة التي تُعينه على اختيار الرفيق البارّ. وبالطبع فإنّ تعاليم ديننا ومعارفه تحفل بهذه الوصايا والإرشادات. فمِن نِعم الله تعالى على الإنسان
 
 
 

1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج71، ص193.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

93

مرافقة الأبرار

 أنّه أكرمه بالتوفيق لمرافقة الأخيار العقلاء والمؤمنين، وجعل مجالستهم بوّابةً لتهذيب نفسه وتزكيتها، لأنّ الركن الأساسيّ في هذه المجالسة هو الذّكر وفعل الخير واجتناب الرّذائل، وبالتالي فهي رفقةٌ تشذّب شخصيّته وتُصلح باطنه وتبدو آثارها في سلوكه وعباداته. وقد أكّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الحقيقة بقوله: "أسعدُ النّاسِ مَن خالطَ كِرامَ النّاسِ"1.

 
وكذلك فإنّ مرافقة أصحاب السوء لا يتمخّض عنها سوى الابتلاء بالرّذائل والانحراف عن سبيل الرشاد. وكما لا يخفى على أحدٍ فإنّ أهمّ سببٍ في ضلال الناس وانحرافهم، ولا سيّما الشباب واليافعين، هو مصاحبة رفيق السوء الذي لا يفقه من الحياة إلا الشهوات والملذّات الزائلة. وكما ذكرنا آنفاً فإنّ الإنسان يتأثّر بما حوله ويكتسب طباع مَن يُخالط، فيصبح سلوكه مرآةً لسلوك أصحابه. وقد أشار تعالى في كتابه المجيد إلى هذا الأمر حينما صوّر لنا حال أهل الضلال يوم الحساب وهم يعتصرون ألماً لأنّهم رافقوا الفسقة وأعرضوا عن الصالحين، فقال: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾2. كما أكّد عزّ شأنه على أهميّة اتّخاذِ رفيقٍ
 
 

1- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج5، ص302.
2- سورة الفرقان، الآيات 27 إلى 29.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

94

مرافقة الأبرار

 صالحٍ واجتناب رفيق السوء، حيث أوصى نبيّه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض عن مرافقة الغافلين الذين لا هدف لهم سوى الحياة الماديّة ومتاعها الزائل، وبالطبع فإنّ هذا الخطاب يشمل جميع المسلمين، فقال: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾1. وفي آيةٍ أُخرى أوصاه بمرافقة الأبرار الذين يزهدون في الدّنيا ولا يغفلون عن ذكره، حين قال: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾2.

 
معايير انتخاب الأصحاب
وأولياء الله الصالحون على مرّ العصور بدورهم قد أكّدوا على ضرورة مراعاة أهمّ الأُسس في اختيار الجلساء والأصحاب في أحاديث كثيرةٍ، ووضعوا لنا أفضل السُّبل لذلك، ووضّحوا لنا هذه السُّبل في وصاياهم وإرشاداتهم الأخلاقيّة القيّمة، وفي نفس الوقت نبّهونا من مغبّة السقوط في مسالك الانحراف المتجسّدة بمرافقة أصحاب السوء، حيث نستلهم من أحاديثهم ووصاياهم المعايير الصحيحة التي تُعيننا على تمييز الغثّ من السمين. فالمعيار في اختيار الجليس الصالح لا بدّ وأن يكون حسب مبادئ الإيمان والضمير الحيّ والعلم والبصيرة والإخلاص والعمل
 
 
 

1- سورة النجم، الآية 29.
2- سورة الكهف، الآية 28.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

95

مرافقة الأبرار

 للآخرة والمحبّة الصادقة والصراحة، وما إلى ذلك من أُصولٍ لا شائبة فيها. أمّا المعيار في تشخيص جليس السوء الذي يُعدّ وازعاً لاجتناب مصاحبته، فهو نفاقه وفسقه وانحرافه وحماقته ومخالفته للعقل وبخله وحسده وتملّقه، وما شابه ذلك من خصالٍ رذيلةٍ.

 
ونذكر فيما يلي بعض الأحاديث والأخبار بهذا الصدد:
 
أوّلاً: الأحاديث التي نستلهم منها المعايير الأساسيّة لمعرفة الرفيق الصالح:
روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "خَيرُ مَن صحِبتَ مَن وَلَّهَكَ بالأُخرَى وزَهَّدَكَ فِي الدُّنيا وأعانَكَ علَى طاعَةِ الْمَولَى"1.
 
قال الحواريون لعيسى عليه السلام: مَن نجالس؟ فقال عليه السلام: "مَن يُذكِّرُكُمْ اللهَ رُؤيَتُهُ ويُرَغِّبُكُمْ فِي الآخِرةِ عمَلُهُ ويَزيدُ فِي مَنطِقِكُمْ عِلمُهُ"، وقال لهم: "تَقرَّبُوا إلَى اللهِ بالبُعدِ مِن أهلِ المعاصِي، وتَحبَّبُوا إلَيه بِبُغضِهِمْ، والتَمِسُوا رِضاهُ بسخَطِهِمْ"2.
 
روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "صَديقُكَ مَن نهاكَ، وعَدوُّكَ مَن أغراكَ"3.
روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "أحَبُّ إخوانِي إِلَيَّ مَن أهدَى إِلَيَّ عُيوبِي"4.
 
روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "الصَّديقُ مَن كانَ ناهيَاً عَن الظُّلمِ والعُدوانِ مُعينَاً علَى البِرِّ والإحسانِ"5.
 
 
 

1- التميمي الآمدي، غُرَر الحِكم ودُرَر الكلِم، ص430.
2- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج71، ص189.
3- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج5، ص311.
4- الحسن بن شعبة الحرّاني، تحف العقول، ص366.
5- التميمي الآمدي، غُرَر الحِكم ودُرَر الكلِم، ص414.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

96

مرافقة الأبرار

 ثانياً: الأحاديث التي نستلهم منها المعايير الأساسيّة لمعرفة رفيق السوء:

روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "فَسادُ الأخلاقِ بمُعاشَرةِ السُّفَهاءِ، وصَلاحُ الأخلاقِ بمُنافَسةِ العُقَلاءِ"1.
وروي عنه كذلك: "مُجالَسةُ أبناءِ الدُّنيا مَنساةٌ للإيمانِ قائدةٌ إلَى طاعَةِ الشَّيطانِ"2.
 
وروي عنه أيضاً: "إيّاكَ ومُصاحَبةَ الفُسّاقِ، فإنَّ الشَّرَّ بالشَّرِ مُلحقٌ"3.
روى أبو عبد الله الصادق عليه السلام عن أبيه الباقر عليه السلام أنّه قال: "قالَ لي عليُّ بنُ الحسينِ عليهما السّلام: يا بُنَيَّ، انظُرْ خمسةً فلا تُصاحِبهُمْ ولا تُحادِثهُمْ ولا تُرافِقهُمْ في طريقٍ.
 
فقلتُ: يا أبَه، مَن هُم؟
قال: إيّاكَ ومُصاحبةَ الكذّابِ، فإنَّهُ بِمنـزِلَةِ السَّرابِ، يُقَرِّبُ لكَ البعيدَ ويُباعِدُ لكَ القَريبَ.
 
وإيّاكَ ومُصاحبةَ الفاسِقِ، فإنَّهُ بائعُكَ بأكلةٍ أو أقلّ مِن ذلكَ.
وإيّاكَ ومُصاحبةَ البَخيلِ، فإنَّهُ يَخذِلُكَ في مالهِ أحوجُ ما تكونُ إليهِ.
 
وإيّاكَ ومُصاحبةَ الأحمَقِ، فإنَّهُ يريدُ أنْ يَنفعَكَ فيضُرُّكَ.
 
 
 

1- محمّد باقرالمجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص82.
2- تصنيف غرر الحكم و درر الكلم، ص 434.
3- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج71، ص199.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

97

مرافقة الأبرار

 وإيّاكَ ومُصاحبةَ القاطِعِ لرَحِمِهِ، فإنِّي وجدتُهُ مَلعونَاً في كِتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ فِي ثلاثة مواضع"1.

 
كما روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "إيّاكَ ومعاشرةَ الأشرارِ، فإنَّهُم كالنّارِ مُباشَرَتُها تُحرِقُ"2.
وفي موضعٍ آخر قال عليه السلام: "مُجالسَةُ أهلِ الهوَى مَنساةٌ للإيمانِ ومَحضَرةٌ للشَّيطانِ"3.
 
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "احذَرْ مِن النّاسِ ثلاثةً، الخائنَ والظَّلومَ والنَّمامَ، لأنَّ مَن خانَ لَكَ خانَكَ، ومَن ظَلَمَ لَكَ سيَظلِمُكَ، ومَن نَمَّ إلَيكَ سيَنُمُّ عَليكَ"4.
 
روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "الصَّديقُ الصَّدوقُ مَن نصَحَكَ فِي عَيْبِكَ وحَفَظَكَ فِي غَيْبِكَ وآثَرَكَ علَى نَفْسِهِ"5.
 
وقال عليه السلام في مناسبةٍ أُخرى: "أكثرُ الصَّوابِ والصَّلاحِ فِي صُحبَةِ أُولِي النُّهَى والألبابِ"6.
وقال عليه السلام أيضاً: "قارِنْ أهلَ الخيرِ تَكُنْ مِنهُمْ، وباينْ أهلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنهُمْ"7.
 
 
 

1- المصدر السابق، ص196.
2- التميمي الآمدي، غُرَر الحِكم ودُرَر الكلِم، ص431.
3- الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، الخطبة رقم 86.
4- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج5، ص304، نقلاً عن بحار الأنوار، ج75ن ص230.
5- المصدر السابق، ص311، نقلاً عن غُرَر الحِكَم ودُرَر الكلِم.
6- المصدر السابق، ص301، نقلاً عن غُرَر الحِكَم ودُرَر الكلِم.
7- المصدر السابق، ص302، نقلاً عن بحار الانوار، ج71، ص185.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

98

العزم ورباطة الجأش

 العزم ورباطة الجأش


موقعية الإرادة في السلوك
إنّ الأعمال العظيمة والقرارات الحاسمة بطبيعتها تحتاج إلى إرادةٍ حديديّةٍ وعزمٍ راسخٍ، فلا يمكن بلوغ الهدف وتحقيق المقصود بالضّعف والاضطراب. ولو كانت شخصيّة الإنسان هزيلةً وإرادته ضعيفةً، سوف تنهار عند مواجهة أبسط مشكلةٍ وتستسلم دونما أيّة مقاومةٍ، فتنصرف عمّا شرعت به من عملٍ وتنجرف مع تيار الانحراف ليقودها إلى الهاوية.

ولا يجدر بالإنسان أن يستهين بمحاربة أعظم عدوٍّ له، ألا وهو جموح نفسه الطاغية وأهواؤها المغرية، فجهاده الأكبر الذي هو شعاره في حياته الدّنيويّة والذي يأخذ بيده إلى الدرجات العُلى في حياته الأُخرويّة، يُعتبر أهمّ صراعٍ يخوضه ما دام حيّاً, وبالطبع فهو لن ينجح في مساعيه ما لم تكن إرادته صلبةً وعزيمته راسخةً. فالإنسان المتزلزل الذي لا يستقرّ أمره على رأي والذي يُداري الآخرين على حساب الأُصول والقيَم، لا يمكنه مقارعة عدوّه اللّدود وسائر المخاطر المحدقة به،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

99

العزم ورباطة الجأش

 وبالتالي سيُسحق في ميادين الجهاد الأكبر.

 
لذا، عندما يُشخّص ابن آدم صفاته الرّذيلة التي هي وباءٌ يوقعه في مهالك الآثام والمعاصي، يجب عليه أن ينهض لمكافحتها بعزمٍ راسخٍ ورباطة جأشٍ، بل عليه أن يتّقيها قبل أن يُبتلى بها. فالإرادة الصّلبة هي أوّل خطوةٍ يخطوها في رحلته المضنية من عالم المادّة الفاني إلى عالم الروح الأزليّ، حيث يتمكّن من خلالها كسر شوكة الشّيطان وإحباط مساعيه الدنيئة, فهذا المدحور يُسخّر خيله وجنده في هذه المرحلة لثني الإنسان عن عزمه وقطع الطريق عليه، ويحاول زرع اليأس في نفسه وتعظيم الصعاب أمامه ويوسوس له أن لا حيلة له سوى الانصهار مع الآخرين والسَّير في ركبهم، أو أنّه يخدعه بارتكاب الذّنوب ما دام باب التوبة مفتوحاً، مع مختلف أنواع الوساوس التي تنصبّ في صدّه عن مكابدة أطماع النفس الأمّارة لإفشاله في ميدان الجهاد الأكبر. وخير مثالٍ على ذلك قصّة سيّدنا آدم عليه السلام عندما ضعفت إرادته أمام إبليس ونسي عهده الذي قطعه مع الله تعالى، فسقط في فخّ مكره وإغوائه. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾1.
 
ويعلّمنا سيّد الموحّدين عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّ علاج ضعف النفس وفتورها إنّما يكون ناجعاً لو أنّ العبد رسّخ من 
 
 
 

1- سورة طه، الآية 115.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
108

100

العزم ورباطة الجأش

 عزمه وصمّم على إرادته، حيث قال: "فَتَداوَ مِن داءِ الفَتْرَةِ فِي قَلْبِكَ بعَزِيمَةٍ، ومِن كَرَى الغَفْلَةِ فِي ناظِرِكَ بيَقَظَةٍ، وكُنْ للهِ مُطِيعاً وبذِكْرِهِ آنِسَاً"1. كما قال في موضعٍ آخر: "أَصلُ العَزمِ الحزمُ، وثمرَتُهُ الظَّفَرُ"2. وقال أيضاً: "مَن ساءَ عَزمُهُ رجَعَ علَيهِ سَهمُهُ"3.

 
ويدعو الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام الله تعالى أن يرزقه العزم الراسخ والإرادة القويّة بقوله: "وأعِنِّي بعَزمِ الإرادَةِ"4.
 
ونقرأ في أحد أدعية شهر رجب أنّ أفضل زادٍ يتزوّد به السالك إلى الله تعالى هو العزم والإرادة: "وقَد علِمتُ أنَّ أفضلَ زادِ الرّاحِلِ إلَيكَ عَزمُ إرادةٍ يَختارُكَ بها"5.
 
العزيمة عند الإمام الخميني قدس سره
ويوضّح لنا معلّم الأخلاق الكبير السيّد الإمام الخمينيّ قدس سره معنى العزم نقلاً عن أحد مشايخه: "إنَّ العزمَ هو جوهرُ الإنسانيّةِ ومعيارُ ميزةِ الإنسانِ، وإنّ اختلافَ درجاتِ الإنسانِ باختلافِ درجاتِ عزمِهِ". ثمّ يصف قدس سره العلاجَ لنا وكأنّه طبيبٌ حاذقٌ وحكيمٌ مجرّبٌ، فيقول: "أيُّها العزيز، اجتهد لتصبح
 
 
 

1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة رقم 223.
2- عبد الواحد التميميّ الآمديّ، غرر الحِكم ودُرَر الكلِم، ص476.
3- المصدر السابق، ص92.
4- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص153.
5- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج82، ص 257.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

101

العزم ورباطة الجأش

 ذا عزمٍ وإرادةٍ، فإنّك إذا رحلتَ من هذه الدُّنيا دون أن يتحقّق فيك العزم (على ترك المحرّمات) فأنت إنسانٌ صوريٌّ بلا لُبٍّ، ولن تُحشر في ذلك العالم (عالم الآخرة) على هيئة إنسانٍ، لأنّ ذلك العالم هو محلّ كشف الباطن وظهور السّريرة، وإنّ التجرّؤ على المعاصي يُفقد الإنسان، تدريجيّاً، العزمَ ويختطِف منه هذا الجوهر الشريف.

 
إذاً، تجنّب يا أخي المعاصي، واعزِم على الهجرة إلى الحقّ تعالى، واجعل ظاهرك ظاهراً إنسانيّاً، وادخل في سلك أرباب الشّرائع واطلب من الله تعالى في الخلوات العونَ على بلوغ هذا الهدف واستشفع برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته عليهم السّلام حتّى يوفِّقك الله على ذلك ويعصمك من المزالق التي تعترضك، لأنّ هناك مزالق كثيرة تعترض الإنسان أيّام حياته، ومن الممكن أنّه في لحظةٍ واحدةٍ يسقط في مَزلقٍ مُهلكٍ يعجز من السّعي لإنقاذ نفسه، بل قد لا يهتمّ بإنقاذ نفسه، بل ربّما لا تشمله حتّى شفاعة الشّافعين. نعوذ بالله منها"1.

 
 

1- الإمام الخمينيّ قدس سره، الأربعون حديثاً، ص7 و8.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
110

102

محاسبة النَّفس

 محاسبة النَّفس

 
سوء الظن بالنفس شرط
الدّنيا سوقٌ والعقل فيها تاجرٌ ثروته العمر، وأفضل ربحٍ يُحقّقه ابن آدم في هذه التجارة هو عمله الصالح وأخلاقه الفاضلة. أمّا أسوأ خسارةٍ فيها فهي الآثام والمعاصي واتّباع أهواء النفس التي ستُرهقه في حياته الآخرة, لذا يجب على العبد أن لا يُحسن الظنّ بالنّفس وأن لا يطمئنّ لها لأنّها تقوده إلى السوء والعصيان. قال تعالى في كتابه المجيد: ﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾1.
 
فالعبد لا يفوز بنعيم الآخرة ومقامها الرفيع إلا إذا خاف ربّه وصان نفسه الجامحة بقوّة عقله وحاسبها على كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ تقترفها، وهذه قاعدةٌ ثابتةٌ نستلهمها من كتاب الله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾2.
 
 
 

1- سورة يوسف، الآية 53.
2- سورة النّازعات، الآيتان 40 و41.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

103

محاسبة النَّفس

 مراحل محاسبة النفس

وقد وضع علماء الأخلاق أربع مراحل للسيطرة على النّفس وتهذيبها، وأطلقوا عليها (مرابطة العقل للنّفس). ويؤكّد هؤلاء العلماء على أنّ الإنسان مكلّفٌ بالسيطرة على نفسه ورغباتها، وذلك بأن يعاهدها على عدم المعصية ويُقيّدها بشروطٍ لتلبية دعواتها وأن لا يغفل عنها طرفة عينٍ، فيكون لها بالمرصاد ويحاسبها على كلّ ما تفعل فيوبّخها على كلّ فعلٍ قبيحٍ تقترفه. فهذه هي المراحل الأربع التي نذكرها فيما يلي بالتّفصيل:

1- معاهدة النّفس على عدم ارتكاب الذّنوب
ينبغي للإنسان عند شروعه في أيّ عملٍ وببداية كلّ يومٍ من أيّام حياته، أن يُعاهد نفسَه على ألّا يجتاز الخطّ الأحمر وألّا يقترب من المنطقة المحظورة عبر اقتراف الذّنوب والمعاصي أو كلّ فعلٍ من شأنه تهميش العقل ووقوعه في المحذور. فهذه الأمور تُفسد ثمرة الحياة وتجعل العبد متمرّداً وعاصياً لعقله وربّه. في هذه المرحلة يجب على العقل أن يُخاطب جوارح الإنسان وجوانحه كافّةً ويُعاتبها على ما تفعله ويطلب منها الالتزام بواجباتها. مثلاً، عليه أن يطلب من اللّسان الامتناع عمّا هو محظورٌ عليه، كالغيبة والتهمة والنميمة والسّباب وإهانة الآخرين واحتقارهم، وما إلى ذلك من قبائح لفظيّة, وفي نفس الوقت لا بدّ وأن يحفّزه على ذكر الله تعالى وخدمة عباده.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

104

محاسبة النَّفس

 2- مراقبة النّفس وعدم الغفلة عنها

عندما يعاهد الإنسان نفسَه على عدم ارتكاب الذّنوب، وعندما يفرض ما يلزم من شروط على جميع الجوارح والجوانح، فإنّ العقل حينها يكون كالمولى الذي يُشرف على أعمال مَن هم تحت يده، أي يُراقب النفس ليطمئنّ من أنّها التزمت بعهدها، ويصونها كي لا تقع في حبائل الشيطان الرجيم. فلا بدّ للعقل أن يكون للنّفس بالمرصاد ليسيطر على نزعاتها وأفعالها في كلّ زمانٍ ومكانٍ، فيحذّرها متى ما حاولت نقض عهدها.
 
فالإنسان لا ينفكّ عن ثلاثة أحوالٍ، إمّا الطاعة وإمّا المعصية وإمّا الانهماك بالمباحات. ومراقبة النّفس حينما تكون منشغلةً بالطاعة، بمعنى التأكّد من خلوص نيّتها وعدم تملّصها عن تنفيذ الأوامر، ومراقبتها عند المعصية بمعنى ترغيبها بالتوبة وتحفيزها على ترك الذّنوب، وأمّا مراقبتها في الأعمال المباحة فيعني تشجيعها على مراعاة الأُصول الدينيّة وهدايتها إلى أعمال الخير وطاعة الله تعالى.
 
إذن، لا ينبغي للعقل أن يثق بالنّفس وعليه أن يوقن بأنّها لا تلتزم بمواثيقها دون إشرافه ومراقبته، لأنّ الثّقة بها تعني منح الشيطان فرصةً ذهبيّةً لأن يُسخّرها لمآربه الدنيئة. قال الإمام عليّ عليه السلام في هذا الصدد: "الثِّقَةُ بالنَّفسِ مِن فُرَصِ الشَّيطانِ"1.
 
 
 

1- عبد الواحد التميميّ الآمديّ، غرر الحِكم ودُرَر الكلِم، ص235.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

105

محاسبة النَّفس

 3- محاسبة النّفس بعد كلّ عملٍ

يجب على العقل أن يحاسب النّفس بصرامةٍ بعد كلّ قولٍ أو فعلٍ، ويطلب منها تبريراً عمّا فعلت، أي هل أنّها التزمت بأداء تكاليفها ولم تنقض عهدها؟ وعليه أن يسألها عمّا فعلت ولماذا فعلته، فإن أيقن أنّها تؤدّي وظائفها وعباداتها على أكمل وجهٍ، وجب عليه تشجيعها للاستمرار في ذلك وأن يشكر الله تعالى الذي وفّقه لصالح الأعمال. أمّا لو لاحظ أنّها قد نقضت عهدها وارتكبت معصيةً، فلا يجوز له تركها على حالها، بل لا بدّ له من تشديد مراقبته لها.
 
وهذه المرحلة في الواقع هامّة للغاية، لدرجة أنّنا أحياناً نُعبّر عن المراحل الأربع برمّتها بـ(محاسبة النّفس)، والأئمّة المعصومون عليهم السلام بدَورهم قد أكّدوا على أهميّتها في أحاديث كثيرة، نذكر منها ما يلي:
 
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أكيَسُ الكَيِّسينَ مَن حاسَبَ نفسَهُ وعملَ لما بعدَ الموتِ، وأحمَقُ الحمقَى مَن اتَّبَعَ هَواهُ وتَمنَّى علَى اللهِ الأمانِيَ"1.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يكونُ العبدُ مؤمناً حتَّى يُحاسبَ نفسَهُ أشدَّ مِن مُحاسَبةِ الشَّريكِ شريكَهُ والسيِّدِ عبدَهُ"2.
 
 
 

1- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج2، ص405.
2- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج67، ص72.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

106

محاسبة النَّفس

 وعنه أيضاً: "يا أبا ذَرٍّ، حاسِبْ نفسَكَ قبلَ أنْ تُحاسَبْ، فإنَّهُ أهوَنُ لحِسابِكَ غَداً"1.

عن الإمام عليّ عليه السلام: "قَيِّدوا أنفسَكُمْ بالمحاسَبَةِ واسلُكُوها بالمخالَفَةِ"2.
 
وعنه أيضاً: "مَن حاسَبَ نفسَهُ وقفَ علَى عُيوبِهِ وأحاطَ بذُنوبِهِ واستقالَ الذُّنوبَ وأصلَحَ العُيوبَ"3.
كما أكّد أمير المؤمنين عليه السلام أنّ ثمرة محاسبة النّفس، استقامتها، حيث قال: "ثمَرَةُ المحاسَبَةِ صَلاحُ النَّفْسِ"4.
 
عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام: "لَيسَ مِنّا مَن لَم يُحاسِبْ نفسَهُ فِي كُلِّ يَومٍ"5.
 
ومن الجدير بالذّكر أنّ العبد لو ألفى نفسه وقد أدّت واجباتها ولم تنقض عهدها، عليه أن يحذر من الوقوع في شرك العُجُب والغرور، لأنّ هذا الإحساس في الحقيقة نوعٌ من الانحراف, بل لا بدّ له أوّلاً من شكر ربّه وتحفيز نفسه على القيام بأعمال خيرٍ أُخرى، وثانياً عليه ترغيبها باتّباع العقل والوحي ومن ثمّ الاستمرار في سيرها نحو العُلا دون أن يغترّ بذلك.
 
 
 

1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج74، ص83.
2- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج2، ص405.
3- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج2، ص409، نقلاً عن غرر الحكم ودُرر الكلم.
4- عبد الواحد التميميّ الآمديّ، غرر الحِكم ودُرَر الكلِم، ص235.
5- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج67، ص72.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

107

محاسبة النَّفس

 وأمّا لو ألفى نفسه وقد عصت الأوامر ولم تلتزم بتكاليفها، فعليه أن يُضيّق عليها الخناق لترك ذلك ولا ينبغي له أن ييأس من رَوح الله تعالى.

 
4- توبيخ النّفس عند ارتكابها القبائح
هذه المرحلة هي الأخيرة في مسيرة تهذيب النّفس، فإذا وجد المكلّف نفسَه بعد محاسبتها أنّها التزمت بعهدها وأدّت واجباتها، عليه أن يشكر الله تعالى الذي وفّقه لذلك وأن يستمرّ في مراقبتها. ولكنّه إذا وجدها قد نقضت العهد وارتكبت ذنوباً، يجب عليه أن يوبّخها بشدّةٍ ويئنّ أنيناً ويُخاطبها قائلاً: ويحكِ لقد أهلكتني! ألم تخشَي ربَّكِ؟! ألم يردعك الحياء منه؟! يا لكِ من خائنةٍ، لقد نقضتِ العهد ولا بدّ أن تنالي جزاءكِ العادل، لذا سأُروّضك وأُرغمك على ترك الذّنب وأسوقك نحو الطاعة.
 
ويجب على العقل في هذه المرحلة أن يُجبر النّفس على القيام ببعض الأعمال الشاقّة في حدود الشّرع، كحرمانها من بعض المباحات وإبعادها عن مجالس السوء. قال الإمام عليّ عليه السلام: "مَن وبَّخَ نفسَهُ علَى العُيوبِ ارتَدعَتْ عَن كثيرِ الذُّنوبِ"1، وقال أيضاً: "مَن استدامَ رِياضَةَ نَفسِهِ انتَفَعَ"2.

 
 
 

1- عبد الواحد التميميّ الآمديّ، غرر الحِكم ودُرَر الكلِم، ص238.
2- المصدر السابق.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

108

الأُنس بكتاب الله وتدبّر آياته

 الأُنس بكتاب الله وتدبّر آياته

 
حياة القلب
إنّ الأُنس بكتاب الله تعالى بتدبّر آياته يُعدّ من أهمّ أسباب يقظة القلب، لأنّ كلامه عزّ وجلّ سدٌّ منيعٌ لا يتزلزل يحفظ العبد من الرّغبات الحيوانيّة ويصونه من هجمات الشياطين. فالقرآن الكريم أفضل ناصرٍ يُعين ابن آدم على تزكية نفسه وتهذيب أخلاقه، كما أنّه يرسّخ القيَم الأصيلة ويقوّي جبهة العقل مقابل جبهة الشّيطان الغويّ، فيدحضه ويجعل كلمته السُّفلى. وقد أكّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الحقيقة بقوله: "لَيسَ شَيءٌ علَى الشَّيطانِ أشَدَّ مِن القراءةِ فِي المصحَفِ نَظراً، والمصحَفُ فِي البيتِ يَطردُ الشَّيطانَ"1.
 
لذلك لو كان القرآن حاضراً في قلب إنسانٍ، سوف لا يكون للشّيطان وجنوده مكانٌ فيه أبداً, وكذا هو الحال بالنسبة إلى الدّار التي يُتلى فيها، حيث تتردّد عليها الملائكةُ فيعمّها النور الربّانيّ ولا يبقى فيها موضعٌ للشّياطين، وبالتالي ستُصبح بيئةً
 
 
 

1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج89، ص201.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

109

الأُنس بكتاب الله وتدبّر آياته

 صالحةً للحسنات والفضائل. وقد وصفها الإمام عليّ عليه السلام وصفاً بليغاً وقارنها مع الدّار التي لا يُتلى فيها كتاب الله حين قال: "البيتُ الَّذي يُقرَأ فيهِ القرآنُ ويُذكرُ اللهُ عزَّ وجلَّ فيهِ، تَكثُرُ بركتُهُ وتحضرهُ الملائكةُ وتهجرهُ الشَّياطينُ ويُضيءُ لأهلِ السَّماءِ كما تُضيءُ الكواكبُ لأهلِ الأرضِ. وإنَّ البيتَ الَّذي لا يُقرأ فيهِ القُرآنُ ولا يُذكرُ اللهُ عزَّ وجلَّ فيهِ تَقلُّ بركتُهُ وتهجرهُ الملائكةُ وتحضرهُ الشَّياطينُ"1.

 
فالأُنس بكلام الله تعالى لا يقطع دابر الشّيطان ويُحبط مساعيه الدنيئة وحسب، بل يرفع من مدى استعداد الإنسان لبلوغ أعلا درجات السعادة ويُطهّر قلبه من صدَأ الذُّنوب ويُلهمه نوراً يهتدي به إلى الصّراط المستقيم برفقة جندِ الله الصّالحين. فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ هذِهِ القُلوبَ تَصدَأ كما يَصدَأ الحديدُ"، فقيل: يا رسول الله فما جلاؤها؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "تِلاوَةُ القُرآنِ"2.
 
كما نقل كثير بن سُليم عنه صلوات الله عليه وآله قوله: "يا بُنَيَّ، لا تَغفَلْ عَن قِراءَةِ القُرآنِ، فإنَّ القُرآنَ يُحِيي القلبَ ويَنهَى عَن الفَحشاءِ والمنكَرِ والبَغِي"3.
 
إنّ كتاب الله تعالى هو فُرقانٌ بين الحقّ والباطل، والخير
 
 

1- محمّد بن يعقوب الكُليني، أصول الكافي، ج2، ص610.
2- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج8، ص81.
3- المصدر السابق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

110

الأُنس بكتاب الله وتدبّر آياته

 والشّر، والسّعادة والشّقاء، ولو اقتدى به العبد سيتمكّن من تمييز سبيل الهدى عن سبيل الضّلال وسيتذوّق حلاوة العبادة وسيكتسب المعرفة التي هي زاده في سفره المضني من عالم المادّة الفاني إلى عالم الروح الأزليّ. فالاستماع إلى القرآن الكريم يجعل العبد جليساً لبارئه تعالى ويهديه إلى سواء السّبيل، وفي الوقت ذاته يُنجيه من مكائد أعدائه المتربّصين به في كلّ وليجةٍ. فمَن يأنس بالقرآن ويُحادث ربَّه جلّ شأنه فستعمّ ذاتَه بركةٌ عظيمةٌ وينعم قلبُه بفيض نور الله، وعندها لن يتسنّى لأيّ كائنٍ كان سلب قلبه أو السيطرة عليه.


فضائل القرآن وآثاره
وقد تطرّق سيّد البلغاء والمتحدّثين عليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى فضائل القرآن الكريم وبركات تلاوته، فقال: "اعْلَمُوا أَنَّ هذا القُرآنَ هُوَ النّاصِحُ الَّذِي لا يَغُشُّ والهادِي الَّذِي لا يُضِلُّ والْمُحَدِّثُ الَّذِي لا يَكْذِبُ، وما جالَسَ هذا القُرآنَ أَحَدٌ إلّا قامَ عَنْهُ بِزِيادَةٍ أو نُقْصانٍ, زِيادَةٍ فِي هُدَىً ونُقْصانٍ مِنْ عَمَىً.

واعْلَمُوا أنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ القُرآنِ مِنْ فاقَةٍ ولا لِأَحَدٍ قَبْلَ القُرآنِ مِنْ غِنَىً، فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أدْوائِكُمْ واسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوائِكُمْ فَإنَّ فِيهِ شِفاءً مِنْ أكْبَرِ الدَّاءِ، وهُوَ الكُفْرُ والنِّفاقُ والْغَيُّ والضَّلالُ, فَاسْألُوا اللهَ بِهِ وتَوَجَّهُوا إلَيْهِ بِحُبِّهِ ولا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ، إنَّهُ ما تَوَجَّهَ العِبادُ إلَى اللهِ بمِثْلِهِ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

111

الأُنس بكتاب الله وتدبّر آياته

 واعْلَمُوا أنَّهُ شافِعٌ مُشَفَّعٌ وقائِلٌ ومُصَدَّقٌ، وأنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ القُرآنُ يَوْمَ القِيامَةِ شُفِّعَ فِيهِ"1.

 
وقد أوصانا أئمّتنا الكرام عليه السلام بتعطير أفواهنا بآياتٍ من القرآن الكريم كلّ يومٍ وتلاوتها بتدبّرٍ كي لا نبتعد عن طريق الهدى ونجتنب الزّلل والانحراف، فهو كلام الله تعالى وحبله المتين الذي ينبّهنا من غفلة قلوبنا. فالغفلة هي أساس كل ذنبٍ وخطيئةٍ، ولا علاج لها سوى تلاوة كتاب الله وتدبّر مفاهيمه السامية، فهو حياةٌ للقلوب ونجاةٌ للنّفوس من عتمة الضلال. قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾2. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "أفضَلُ الذِّكرِ القُرآنُ، بِهِ تُشرَحُ الصُّدُورُ وتَستَنيرُ السَّرائرُ"3.
 
إنّ القرآن نورٌ يقشع ظُلمات النُّفوس وبلسمٌ يداوي أمراضها وطهارةٌ لها من العيوب والشّوائب, فلا يضلّ مَن تمسّك به أبداً وسيكرمه الله برحمته الواسعة، حيث قال: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾4. وقال رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن لَم يَستشفِ بالقُرآنِ فَلا شَفاهُ اللهُ"5.
 
 
 

1- نهج البلاغة، الخطبة رقم 176.
2- سورة محمّد، الآية 24.
3- عبد الواحد التميميّ الآمديّ، غرر الحِكم ودُرَر الكلِم، ص189.
4- سورة الإسراء، الآية 82.
5- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج89، ص186.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
120

112

الأُنس بكتاب الله وتدبّر آياته

 أمّا الذين زلّوا عن سبيل الهدى لكنّ أبواب قلوبهم لم تُقفل بالكامل وبقيت فيها قدحةُ أملٍ، فعلى الرّغم من انغماسهم في المعاصي والآثام واتّباعهم وساوس إبليس اللّعين، لربّما يرتدعون ويكفّون عن غيّهم فيسلكون سبيل الخير حينما يتلون كلام الله تعالى ويتأمّلون في آيات الوعد والوعيد. وقصّة الفُضيل بن عياض التي تناقلها العلماء خير دليلٍ على ذلك, فقد كان الفُضيل بن عياض زاهداً ثقةً رَوَى عن أبي عبد الله الصّادق عليه السلام. ويُحكَى أنَّهُ كان في أوَّلِ أمرهِ يَقطَعُ الطَّريقَ بينَ أبيوَرد وسَرَخس. وذات يومٍ عشِقَ جاريةً، فبينما كان يَرتقي الجدرانَ إليها سمِع تالياً يتلو: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾1. فقالَ: يا ربِّ قَدْ آنَ, فرجَعَ وآوَى إلَى خَرِبَةٍ فإذا فيها رفقةٌ، فقالَ بعضُهُم: نرتَحِلُ، وقال بعضُهُم: حَتَّى نُصبحَ، فإنَّ فُضَيلاً علَى الطَّريقِ يقطَعُ علَينا. فتابَ الفُضيل وأمِنَهُمْ.

 
وتلاوة كتاب الله في مرحلة الشّباب أكثر وقعاً في النّفس من سائر مراحل الحياة، حيث تُشذّب شخصيّة العبد وتأخذ بيده نحو الكمال وتجعله أهلاً لأن يكون في زمرة كرام خلق الله الذين لا يجد الشّيطان إلى قلوبهم سبيلاً، فقد رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "مَن قَرَأ القُرآنَ وهُو شابٌّ مؤمنٌ، اختلَطَ القُرآنُ بلحمِهِ ودَمِهِ، وجعلَهُ اللهُ معَ السَّفرَةِ الكِرامِ
 
 
 

1- سورة الحديد، الآية 16.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

113

الأُنس بكتاب الله وتدبّر آياته

 البَررَةِ، وكانَ القُرآنُ حَجيزَاً عَنهُ يَومَ القِيامَةِ"1.

 
وبالطبع فإنّ قراءة القرآن لا تُعين الإنسان على ترك الذُّنوب وحسب، بل تشفع له عند الله تعالى كي يُغفر له ما ارتكب من ذنوبٍ، وكذلك سينال بها رضاه ورحمته، فقد خاطب نبيّنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الصحابيَّ الجليل سلمان الفارسيّ قائلاً: "يا سلمانُ عَليكَ بقراءَةِ القُرآنِ، فإنَّ قراءَتَهُ كَفّارةٌ للذُّنوبِ وسِترٌ مِن النّارِ وأمانٌ مِن العَذابِ، ويُكتَبُ لِمَن يقرأ بُكُلِّ آيةٍ ثوابَ مائةِ شَهيدٍ ويُعطَى بكُلِّ سورةٍ ثوابَ نَبِيٍّ مُرسَلٍ، وتَنْزِلُ علَى صاحِبهِ الرَّحمةُ وتَستغفِرُ لَهُ الملائكَةُ، واشتاقَتْ إليهِ الجنَّةُ ورَضيَ عَنهُ المولَى، وإنَّ المؤمنَ إذا قرأ القُرآنَ نظَرَ اللهُ إليهِ بالرَّحمةِ"2.
 
وروي عن الإمام عليّ عليه السلام: "اقرَؤوا القُرآنَ واستظهِرُوهُ، فإنَّ اللهَ تعالى لا يُعذِّبُ قَلباً وَعَى القُرآنَ"3.
فعظماء ديننا والسّالكون سبيل السعادة قد أدركوا عظمة القرآن الكريم وفائدة تلاوته وعدم الانقطاع عنه، لذا لم يغفلوا عنه طرفة عينٍ حيث نلمس ذلك جليّاً في سيرتهم، كما أنّهم أوصوا النّاس بعدم الغفلة عنه وحذّروهم مغبّة إهماله. قال تعالى: ﴿فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى 
 
 
 

1- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج2، ص603.
2- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج89، ص17.
3- المصدر السابق، ص19.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

114

الأُنس بكتاب الله وتدبّر آياته

 وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾1.

 
نسأل الله العليّ القدير أن يمنّ علينا بتلاوة كتابه ويُذيقنا حلاوة ذكره ويُكرمنا بنور هداه والعمل بأحكامه، فلا لذّة كوقوف العبد بين يدي ربّه موقف المخاطب. وعندما كان الإمام جعفر الصادق عليه السلام يتلو القرآن، كان يدعو الله قائلاً: "اللّهُمَّ ارزُقنا حَلاوةً فِي تِلاوَتهِ ونَشاطَاً فِي قِيامِهِ ووَجَلاً فِي تَرتيلهِ وقُوَّةً فِي استعمالِهِ فِي آناءِ اللَّيلِ وأطرافِ النَّهارِ"2.

 
 

1- سورة المزّمل، الآية 20.
2- محمّد بن يعقوب الكُليني، أصول الكافي، ج2، ص576.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

115

الدُّعاء وطلب العَون من الله تعالى

 الدُّعاء وطلب العَون من الله تعالى


سلاح المؤمن
لا يمكن للعبد النجاة من الرّذائل الخلقيّة وانحراف النّفس الأمّارة ووساوس الشّيطان بالاعتماد على عقله وحسب، بل لا بدّ له أن يستعين بالله تعالى، فلا يُوفَّق لسلوك سبيل الرّشاد ولا يُفعم قلبه بنور الهدى ما لم يلجأ إلى بارئه بالدّعاء والإنابة. فالتضرّع إليه جلّ شأنه يُزيح حجُب النسيان وينتشل النّفس من غَياهب الضّلال ويجعلها تنتعش بفطرتها السليمة التي لا شائبة فيها.

وبالطبع فإنّ مفهوم الدّعاء واسعٌ والحديث عنه مترامي الأطراف ولا يمكن استيفاؤه هنا، إلا أنّنا نحاول أن نتطرّق إلى جانبٍ هامٍّ منه، وهو دَوره التربويّ وتأثيره في هداية البشر.

الدّعاء يعني الانقطاع إلى المعبود وطلب التقرّب منه والتوفيق للطاعة والبُعد عن المعصية، وكلّما انقطع العبد إلى ربّه أكثر ووثّق الصّلة به بالتضرّع والرّجاء فسوف ينعم بفيضٍ عظيمٍ ويتقرّب إليه أكثر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

116

الدُّعاء وطلب العَون من الله تعالى

 والدّعاء يُعين العبد في ميدان الجهاد الأكبر لسببين، هما:

1- لا يُوفّق أحدٌ لفضيلة الدُّعاء والتضرّع ما لم يؤيّده الله تعالى، وبالتأكيد فإنّ هذا التوفيق يمكن أن يناله العبد من خلال دعائه.
 
2- الدّعاء يُنير القلب ويوقظه من غفلته التي هي أساس كلّ انحرافٍ ورذيلةٍ.
 
وقد أكّد الإمام عليّ عليه السلام على أهميّة الدّعاء في النّجاة من الغفلة قائلاً: "وأكثِرْ الدُّعاءَ تَسلَمْ مِن سُورَةِ الشَّيطانِ"1.
 
والتضرّع إلى الله تعالى وطلب العون منه سيفٌ بتّارٌ يقطع دابر الشّيطان ويقضي على نزوات النّفس الأمّارة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الدُّعاءُ سِلاحُ المؤمنِ وعَمودُ الدِّينِ ونُورُ السَّماواتِ والأرضِ"2.
 
فتعساً لمن حُرم من هذا السّلاح الذي يُعدّ سدّاً منيعاً أمام صولات إبليس وجنوده، ولم يغتنم الفرصة لينعم ببركة خطاب بارئه. مثَلُ الإنسان في الحياة الدُّنيا كثمرةٍ ناضجةٍ متدليّةٍ من غُصن شجرةٍ، وما دامت مرتبطةً بهذا الغُصن فسوف تبقى في مكانها، ومتى ما انقطع ارتباطها سوف تهوي ساقطةً وتفقد طراوتها. والإنسان مرتبطٌ في حياته الدُّنيا بحبل الله المتجسّد
 
 
 

1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص9.
2- محمّد بن يعقوب الكُليني، أصول الكافي، ج2، ص468.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
126

117

الدُّعاء وطلب العَون من الله تعالى

 بالدُّعاء والتضرّع، وما دام ارتباطه وثيقاً فإنّ نفسَه تبقى نزيهةً وراقيةً في أعلى درجات العُبوديّة، ولكن لو قطع ارتباطه بارتكاب ذنوبٍ وقبائح فسوف يسقط في حضيض الدُّنيا الفانية ويصبح أسيراً لوساوس الشّيطان. وأشار الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام إلى ذلك في مناجاته، حين قال: "إِلهي وسيِّدِي ومَولاي، إِنْ قَطَعْتَ تَوفِيقَكَ خَذلتَنِي, إِلهي وسَيِّدِي ومَولاي، إِنْ رَدَدتَنِي إِلَى نَفسِي أَهلَكتَنِي"1.

 
ونستوحي من القرآن الكريم أنّ التضرّع إلى الله تعالى يرفع من شأن الإنسان ويُقرّبه إليه، وإلا فلا شأن له ما دام منقطعاً عن ربّه وتاركاً دعاءه، حيث قال تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾2.
 
الدعاء عند الأنبياء والأولياء
والحقيقة أنّ سرّ توفيق الأنبياء والصّالحين ونجاحهم في إنجازاتهم العظيمة هو استعانتهم بالله تعالى وطلبهم العون منه، كما صرّح القرآن الكريم بذلك في كتابه المجيد مراراً وتكراراً، منها: دعاء آدم وحواء (الأعراف - الآية 23)، دعاء النبيّ نوح (القمر - الآية 10، الشُّعراء - الآية 118، المؤمنون - الآية 29، نوح - الآية 28)، دعاء النبيّ إبراهيم (إبراهيم -
 
 


1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج91، ص122.
2- سورة الفرقان، الآية 77.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

118

الدُّعاء وطلب العَون من الله تعالى

 الآيات 37 إلى 41، الشعراء - الآيات 83 إلى 89، البقرة - الآيات 127 إلى 129)، دعاء النبيّ موسى (القصص - الآية 16 و21، الأعراف - الآية 155)، دعاء النبيّ عيسى (المائدة، 114)، دعاء النبيّ يوسف (يوسف - الآية 33 و101)، دعاء أصحاب الكهف (الكهف - الآية 10)، دعاء الحواريّين (آل عمران - الآيتان 52 و53). وما أحوج العبد إلى التضرّع في جهاده الأكبر، إذ لا يمكنه كبح نفسه الأمّارة وكسر شوكة إبليس وجنده دون الاستعانة بربّه العظيم.

 
ونلمس مدى أهميّة الدّعاء في الأدعية المأثورة عن الأئمّة المعصومين عليه السلام، حيث علّمونا أُسلوب التضرّع إلى الله تعالى ومناجاته طلباً للعون والمغفرة.
 
ويجب على العبد الاعتراف بعظمة ربّه والإذعان لأوامره بالعبودية والطاعة، وكذلك لا بدّ من أن يناجيه لكي يهديه إلى سواء السّبيل في كلّ صلاةٍ مرّتين: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾1.
 
قال أمير المؤمنين وسيّد الموحّدين عليه السلام: "ونَستَعينُهُ علَى هذهِ النُّفوسِ البِطاءِ عَمّا أُمِرَت بِهِ السِّراع إلَى ما نُهيَتْ عَنهُ"2. وفي الدّعاء الذي علّمه سلام الله عليه لكُميل بن زياد والمنسوب إلى الخضر عليه السلام نستلهم أسمى مفاهيم التضرّع إلى الله 
 
 
 

1- سورة الفاتحة، الآيتان 6 و7.
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم 114.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

119

الدُّعاء وطلب العَون من الله تعالى

 تعالى بمنطقٍ متواضعٍ قلّ نظيره، منه: "الّلهُمَّ إنِّي أتقرَّبُ إلَيكَ بِذكرِكَ وأستشفِعُ بِكَ إلَى نفسِكَ، وأسألُكَ بجودِكَ أنْ تُدنيَنِي مِن قُربِكَ وأنْ تُوزِعَنِي شُكرَكَ وأنْ تُلهمَنِي ذِكرَكَ. الّلهُمَّ إنِّي أسألُكَ سُؤالَ خاضِعٍ مُتذلِّلٍ خاشِعٍ أنْ تُسامِحَنِي وتَرحَمَنِي"، ومنه كذلك: "قَوِّ عَلَى خِدمَتِكَ جَوارِحِي واشدُدْ عَلَى العَزيمةِ جَوانِحِي وهَبْ لِي الجِدَّ فِي خَشيَتِكَ والدَّوامَ فِي الاتِّصالِ بِخدمَتِكَ"1. وقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في دعاءٍ: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به رضوانك ، ومن اليقين ما يهوّن علينا به مصيبات الدنيا، اللهم أمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منّا واجعل ثارنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا ولا تُسلّط علينا من لا يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين"2.

 
وقد رَوى أبو حمزة الثّماليّ عن أبي جعفرٍ الباقر عليه السلام أنّه قال: "إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أَوحَى إلَى داودَ عليه السلام أنْ ائتِ عَبدِي دانِيالَ فَقُل لَهُ: إنَّكَ عَصَيتَنِي فَغَفرتُ لَكَ3 وعَصَيتَنِي فَغَفرتُ لَكَ وعَصَيتَنِي فَغَفرتُ لَكَ، فإنْ أنتَ عَصَيتَنِي الرّابعةَ لَمْ أغفِرْ لَكَ.
 
 
 

1- انظر: مفاتيح الجنان، دعاء كميل بن زياد.
2- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص63.
3- لا يخفى على القارئ الكريم أنّ معصية الأنبياء ليست كمعاصي سائر البشر في القبح والتمرّد على أوامر الله تعالى، لأنّها تعني ترك الأَولَى وحسب 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

 


120

الدُّعاء وطلب العَون من الله تعالى

 فَأتاهُ داودُ عليه السلام، فقالَ: يا دانيالُ، إنَّنِي رسولُ اللهِ إليك وهُو يقولُ لَكَ: إنَّكَ عَصَيتَنِي فَغَفرتُ لَكَ وعَصَيتَنِي فَغَفرتُ لَكَ وعَصَيتَنِي فَغَفرتُ لَكَ، فإنْ أنتَ عَصَيتَنِي الرّابعةَ لَمْ أغفِرْ لَكَ.

 
فقالَ لهُ دانيالُ: قَدْ أبلَغْتَ يا نَبِيَّ اللهِ.
 
فَلَمّا كانَ فِي السَّحَرِ قامَ دانيالُ فَناجَى رَبَّهُ، فقالَ: يا رَبِّ، إنَّ داودَ نَبِيَّكَ أخبرَنِي عَنكَ أنَّنِي قَدْ عَصَيتُكَ فغَفَرتَ لِي وعَصَيتُكَ فغَفَرتَ لِي وعَصَيتُكَ فغَفَرتَ لِي، وأخبَرني عَنكَ أنَّنِي إنْ عَصَيتُكَ الرّابعةَ لَمْ تَغفِرْ لِي, فَوَعِزَّتِكَ لَئِنْ لَمْ تَعصِمنِي لأعصيَنَّكَ ثُمَّ لأعصيَنَّكِ ثُمَّ لأعصيَنَّكَ"1. إنّ نبيّ الله دانيال عليه السلام بالطبع لا يقصد في قوله (لأعصينّك) إصراره على ذلك، بل يؤكّد في ذلك ضعف النّفس وعدم صمودها أمام المعصية ما لم يعصمها الله تعالى، لذا يدعوه متضرّعاً أن يُسدّد خُطاه ويأخذ بيده ويحفظه من كلّ زلّةٍ.
 
كذلك يجدر بنا أن نحتذي بالصّالحين ونتوسّل بربّ العزّة والجلالة لأن يوفّقنا لما فيه خير الدّنيا والآخرة وأن يحفظنا من وساوس الشيطان الرّجيم وأن لا يُوكلنا إلى أنفسنا طرفة عينٍ.
 
نقرأ في جانبٍ من دُعاء أبي حمزة الثّمالي ما يلي: "أعوذُ بِكَ مِن نَفسٍ لا تَقنعُ ومِن بَطنٍ لا يَشبَعُ وقَلبٍ لا يَخشعُ

 
 

1- محمّد بن يعقوب الكُليني، أصول الكافي، ج2، ص436.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

121

الدُّعاء وطلب العَون من الله تعالى

 ودُعاءٍ لا يُسمعُ وعَملٍ لا يَنفعُ وصَلاةٍ لا تُرفعُ. وأعوذُ بِكَّ يا رَبِّ علَى نَفسِي ودِينِي ومالِي وجَميعِ ما رَزَقتَنِي مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ"1.

 
فالعبد المتضرّع يشعر بلذّةٍ وطراوةٍ في مناجاته لا يُدركها أحدٌ سواه، لأنّ الدّعاء يسحر قلبَه ويأسره بحيث لا يبقى فيه مجالٌ لملذّات الدّنيا الزائلة وشهوات نفسه الحيوانيّة التي لا تتغلغل إلا في النّفوس الخاوية البعيدة عن حقيقة الذِّكر: "مَن ذا الَّذي ذاقَ حَلاوَةَ ذِكرِكَ فَرامَ مِنكَ بَدَلاً"2.
 
فيا تُرى هل هناك ربٌّ أفضل من هذا الّذي يتقرّب إلى عبدهِ ويدعوه إلى التقرّب منه ليُنعمه بالسعادة الأزليّة، فأوحى إلى نبيّه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾3 ويلٌ لمن يموت قلبُه ولا يُلبِّي دعوةَ ربّ الأرباب بالتقرّب إليه ولا يُناجيه، فقد حرم نفسه من نعمةٍ عظيمةٍ ومتعةٍ حقيقيّةٍ لأنّه انهمك في متاع الدّنيا الزائف وعاش في وهم اللذّة العبثيّة التي ستودي به إلى عذابِ الجحيم. وعن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام: إنّ الله تعالى أوحى إلى نبيّه داود عليه السلام: "إنَّ أدنَى ما أنا صانعٌ بِهِمْ
 
 
 

1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج83، ص109.
2- المصدر السابق، ج91، ص 148.
3- سورة البقرة، الآية 186.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

122

الدُّعاء وطلب العَون من الله تعالى

 أنْ أنزَعَ حَلاوَةَ مُناجاتِي عن قُلوبِهِمْ"1.

 
فيا أيّها العبد المسكين الذي خدعته الدّنيا بغرورها وغرق في وحل شهواتها، التحق بركب الصُّلحاء والصِّديقين وتضرّع إلى بارئك وانقطع إليه متوسّلاً به وبأفضل خلقه محمّد وأهل بيته الكرام وناجِه: إِلهي أَذِقْنِي حَلاوَةَ ذِكرِكَ.

 
 

1- محمّد بن يعقوب الكليني، أُصول الكافي، ج1، ص46.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
132

123

التفكّر

 التفكّر


حقيقة التفكّر وأثره على السلوك
إنّ عدم اكتراث الإنسان بما يحيط به وغفلته عمّا سيؤول إليه مصيره مستقبلاً، سببٌ لارتكابه الآثام والمعاصي. فهذه الغفلة تحرم ابن آدم من الكمال الحقيقيّ وتجعله في مصافّ البهائم التي لا تفقه شيئاً، بل أضلّ سبيلاً.

وإذا ما تمكّن العبد من علاج غفلته فسوف يتسنّى له صدّ جموح النّفس وردعها عن ارتكاب المعاصي بسهولةٍ وسينجو من وسوسة الشّيطان الذي يُزيّن له قبائح الأعمال. وبالطبع فإنّ أنجع علاجٍ لها هو الاختلاء بالنّفس والتفكّر في ذات الله تعالى. فالتفكّر بعاقبة الأمور والتدبّر في واقع الكون والمبدأ والمعاد، ينوّر بصيرة الإنسان ويفتح له آفاق معرفة حقائق الوجود ويصونه من الوقوع في فخّ الدّنيا ويُنجيه من حبائلها ولا يسمح لشهواته بتهميش العقل أو السيطرة عليه, لذا فإنّ العاقل الذي يجعل التفكّر منهجاً له، لا يساوم على مبادئ دينه مهما كانت الظّروف.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

124

التفكّر

 فالاعتماد على العقل هو أساس كلّ خيرٍ، لأنّه معيار الفضائل والهادي إلى الله تعالى والحدّ الفاصل بين الإنسان والحيوان، لذلك أكّدت نصوصنا الدينيّة من آياتٍ وأحاديث على أهميّة التفكّر واتّباع العقل، واعتبرت ذلك من أفضل العبادات، كما أشارت إلى أنّ العبادة الحقّة هي ما كانت بتحريكٍ من العقل. فالتأمّل في الطبيعة والخلقة والتفكّر في آيات الله تعالى والاعتبار بقصص الأُمَم السالفة والأحداث التأريخيّة، كلّها أُمورٌ تُحيي العقل وتنعشه، فقد قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾1، وقال سبحانه في آيةٍ أُخرى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾2.

 
ووصف جلّ شأنه الصّالحين من عباده قائلاً: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾3.
 
فالوحي السماويّ المقدّس الذي ألهمه الله تعالى خاتمَ أنبيائه ورسله وهادي الخلق أجميعن، هو نورٌ يُضيء طريق أهل العقل والمعرفة. فقد أنزل الله تعالى كتابه على قلب نبيّنا
 
 
 

1- سورة البقرة، الآية 219.
2- سورة الحشر، الآية 21.
3- سورة آل عمران، الآية 191.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

125

التفكّر

 الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ليفسّر مضامينه لهم وليتفكّروا في ذلك، حيث قال: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾1.

 
وهناك العديد من الآيات التي تدعو النّاس إلى التفكّر والاعتبار بآيات الله تعالى وقصص الأُمَم السالفة، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾2.
 
وروي عن الإمام عليّ عليه السلام: "التَّفكُّرُ يَدعُو إلَى البِّرِّ والعملِ بهِ"3.
وروي عنه أيضاً: "دَوامُ الفِكرِ والحذَرُ يُؤمِنُ الزَّلَلَ ويُنجِي مِن الغِيَرِ"4.
 
وروي عن الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام: "أُوصيكُمْ بِتقوَى اللهِ وإدامَةِ التَّفكُّرِ، فإنَّ التَّفكُّرَ أبو كلِّ خيرٍ وأُمّهُ"5.
 
وروي عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام: "ليستْ العِبادةُ كَثرَةَ الصَّلاةِ والصَّومِ، إِنَّما العِبادةُ التَّفكُّرُ فِي أمرِ اللهِ عزَّ وجلّ"6.
 
 
 
 

1- سورة النحل، الآية 44.
2- سورة الرعد، الآية 3, سورة الروم، الآية 21, سورة الزُّمر، الآية 42, سورة الجاثية، الآية 13. كذلك انظر: سورة البقرة، الآية 266 سورة الأنعام، الآية 50, سورة الأعراف، الآيتان 184 و176, سورة الروم، الآية 30, سورة يونس، الآية 24, سورة النحل، الآيتان 11 و69, سورة الحشر، الآية 21.
3- محمّد بن يعقوب الكليني، أُصول الكافي، ج2، ص55.
4- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج7، ص539، نقلاً عن غُرر الحكم ودُرر الكلِم.
5- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج7، ص540.
6- محمّد بن يعقوب الكليني، أُصول الكافي، ج2، ص55.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

126

التفكّر

 وقال كذلك: "تَفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ مِن عِبادةِ سنَةٍ ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾"1.

 
فالتفكّر يعني تسخير العقل، وله أهميّةٌ بالغةٌ في ميدان الجهاد الأكبر كونه يُرسّخ إرادة الإنسان في الجانب الخلقيّ ويُقوّي أُصول التقوى في نفسه، وبالتالي يُقوّم أفعاله ويُشذّب سلوكه. فالتفكّر يُصلح فكر الإنسان ويُنزّه عمله ويضع له منهجاً قويماً يسلك من خلاله سبيل الخير والسعادة، حيث وصفه الإمام جعفر الصّادق عليه السلام وصفاً رائعاً، فقال: "التَّقوَى ماءٌ يَنفَجِرُ مِن عَينِ المعرِفَةِ"2.
 
أمّا معلّم الأخلاق وأُسوة الصّالحين في عصرنا الحديث الإمام الخمينيّ قدس سره، فيصف التفكّرَ بعباراتٍ في غاية الرّوعة بقوله: "اعلم أنّ للتّفكّرِ فضائلَ كثيرةً. فالتّفكّرُ هو مفتاحُ أبوابِ المعارفِ وخزائنُ الكمالاتِ والعلومِ، وهو مقدّمةٌ لازمةٌ وحتميّةٌ للسّلوكِ الإنسانيِّ، ولهُ في القرآنِ الكريمِ والأحاديثِ الشّريفةِ تعظيمٌ بليغٌ وتمجيدٌ كاملٌ، كما أنّ تاركَهُ معيَّرٌ ومذمومٌ"3.
 
"اعلم أنّ أوّلَ شرطِ مجاهدةِ النّفسِ والسّيرِ باتّجاهِ الحقِّ تعالى هو التّفكَر، وقدْ وضعَهُ بعضُ علماءِ الأخلاقِ في بداياتِ الدّرجةِ الخامسةِ، وهذا التّصنيفُ صحيحٌ في محلِّهِ أيضاً.
 
 


1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج68، ص327.
2- الإمام جعفر الصّادق عليه السلام، مصباح الشّريعة، الباب رقم 64.
3- الإمام الخميني قدس سره، الأربعون حديثاً، الحديث الثاني عشر، ص164 و165.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
136

127

التفكّر

 "التّفكّر في هذا المقامِ هو أن يُفكّرَ الإنسانُ بعضَ الوقتِ في أنّ مَولاهُ الّذي خلقَهُ في هذهِ الدّنيا ووفّرَ لهُ كُلَّ أسبابِ الدِّعةِ والرّاحةِ ووهبَهُ جِسماً سَليماً وقِوىً سالمةً ذات منافعٍ تُحيِّر ألبابَ الجميعِ، والّذي رَعاهُ وهيَّأ لهُ كُلَّ هذهِ السِّعةِ وأسبابِ النِّعمةِ والرَّحمةِ مِن جهةٍ، وأرسَلَ جميعَ هؤلاءِ الأنبياءِ وأنزلَ كُلَّ هذهِ الكُتبَ "الرِّسالاتِ"، وأرشَدَ ودَعا إلى الهدَى مِن جهةٍ أُخرَى.


"هذا المولى ماذا يستحقُّ منّا؟ وما هو واجبُنا تجاهَ مالِكِ الملوكِ هذا؟! هل أنّ وجودَ جميعِ هذهِ النِّعَمِ هو فقط لأجلِ هذهِ الحياةِ الحيوانيّةِ وإشباعِ الشَّهواتِ الّتي نشترِكُ فيها معَ الحيواناتِ أو أنّ هناكَ هدَفاً وغايةً أُخرى؟

"هل أنّ للأنبياءِ الكِرامِ والأولياءِ العِظامِ والحكماءِ الكِبارِ وعلماءِ كُلِّ أُمَّةٍ الّذين يَدعونَ النّاسَ إلى حُكمِ العَقلِ والشَّرعِ ويُحذِّرونَهُم مِن الشَّهَواتِ الحيوانيَّةِ، ومِن هذهِ الدّنيا الباليةِ، عداءاً ضدّ النّاسِ أم أنّهم كانوا مثلَنا لا يعلمونَ طريقَ صلاحِنا نحنُ المساكينَ المنغمسينَ في الشَّهَواتِ؟!

"إنّ الإنسانَ إذا فكَّرَ لحظةً واحدةً عرفَ أنّ الهدفَ من هذهِ النِّعَمِ هو شيءٌ آخرَ، وأنّ الغايةَ مِن هذا الخلقِ أسمَى وأعظمُ، وأنّ هذهِ الحياةَ الحيوانيّةَ ليست هي الغايةُ بحدِّ ذاتِها، وأنّ على الإنسانِ العاقلِ أن يُفكِّرَ بنفسِهِ وأنْ يترحّمَ علَى حالهِ ونفسهِ المسكينةِ، ويُخاطبُها قائلاً: أيّتُها النَّفسُ الشّقيّةُ التي قضيتِ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

128

التفكّر

 سِنِيَّ عمرِكِ الطّويلةِ في الشّهَواتِ ولم يكنْ نصيبُك سوى الحسرةِ والندامةِ، ابحثِي عَن الرّحمةِ واستحي من مالكِ الملوكِ وسيري قليلاً في طريقِ الهدفِ الأساسيِّ المؤدّي إلى حياةِ الخلدِ والسّعادةِ السرمديَّةِ، ولا تبيعي تلكَ السّعادةَ بشهَواتِ أيامٍ قليلةٍ فانيةٍ، التي لا تتحصّلُ حتَّى معَ الصعوباتِ المضنيةِ الشّاقةِ"1.

 
إذن، العبد الذي يقع في حبائل الدّنيا وينخدع بزخرفها الزّائل، فيُرجّحها على السّعادة الأبديّة، هو في الحقيقة ليس من أهل التفكّر والعقل، بل من الغافلين الذين حال جهلهم دون تمهيد طريقهم لحياتهم الأُخرويّة. وأمّا العبد الذي يعتبر الدّنيا الفانية دار عملٍ وسعي للحياة الأُخرويّة الباقية والسعادة الحقيقيّة، فهو مَن سلك منهج العقل والتفكّر ولم يُذعن لنـزوات نفسه الأمّارة أبداً. وقد تطرّق القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في الآية الكريمة: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾14، والآية الكريمة: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾3.
 
وروي عن الإمام عليّ عليه السلام محفّزاً على التفكّر: "رَحِمَ اللهُ اِمرَأ تَفكَّرَ فَاعْتَبَرَ واعْتَبَرَ فأبْصَرَ فَكأَنَّ ما هُوَ كائِنٌ مِن الدُّنيا عَنْ قَلِيلٍ لَمْ يَكُنْ وكأَنَّ ما هُوَ كائِنٌ مِن الآخرَةِ عَمّا قَليلٍ لَمْ 
 
 
 

1- الإمام الخميني قدس سره، الأربعون حديثاً، الحديث الأوّل، ص5 و6.
2- سورة الأنعام، الآية 32.
3- سورة القَصص، الآية 60.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

129

التفكّر

 يَزَلْ وكُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ وكُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ وكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ دانٍ"1.

 
فالتّفكّر يُرقِّق القلب ويُلطّف الرّوح ويُرسّخ الإيمان ويُثبّت التّقوى ويُذيق الإنسان طعم العبادة ولذّة المناجاة والتضرّع، كما يمنحه القدرة على الصّمود أمام نزوات النّفس الشّيطانيّة ومُغريات الدّنيا الخدّاعة، وينتشل العاقل من وحل النّفس البهيميّة ويقوده إلى عالم العقل والإنسانيّة، وهو الذي ينشر الخير ويقطع دابر الشرِّ, لأنّه عبادةٌ لا ترقى لها أيّة عبادةٍ أُخرى. وقد وصفه الإمام جعفر الصّادق عليه السلام في قوله: "والفِكرَةُ مِرآةُ الحسَناتِ وكَفّارَةُ السَّيئاتِ وضِياءُ القُلوبِ وفُسحَةُ الخَلقِ وإصابةٌ في صلاحِ المعادِ واطِّلاعٌ علَى العواقبِ واستزادةٌ في العِلمِ، وهِي خِصلةٌ لا يُعبدُ اللهُ بمثلِها"2.
 
موارد التفكّر
وهناك موارد عديدة تجدر بالتفكّر ولها تأثيرٌ كبيرٌ على الإنسان من الناحية التربويّة وتكون سنداً له في ميدان الجهاد الأكبر ومقارعة أعداء النّفس، نذكر منها ما يلي:
1- التفكّر في نظام الخِلقة والظّواهر الطبيعيّة التي هي آياتٌ لعظمة الله تعالى، حيث أشار القرآن الكريم إليها في آياتٍ عديدةٍ، منها: الآيتان 190 و191 من سورة آل
 
 

1- نهج البلاغة، الخطبة رقم 103.
2- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج68، ص326.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

130

التفكّر

 عمران، الآيتان 3 و4 من سورة الرّعد، الآيتان 11 و12 من سورة النّحل.

 
2- التفكّر بحقيقة الإنسان وخصاله العجيبة التي تُميّزه عن غيره من المخلوقات. قال تعالى: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾1، وقال سبحانه أيضاً: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾2.
 
3- التفكّر في معجزة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتجسّدة في كتاب الله العظيم: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾3.
 
4- التفكّر في حقائق الدّنيا وأحداث الآخرة: ﴿كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾4.
 
5- التفكّر في الأحداث التأريخيّة والاعتبار بقصص الأُمَم السّالفة وما آل إليه مصيرها: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾5.
 
 
 
 

1- سورة الذّاريات، الآية 21.
2- سورة الزُّمَر، الآية 42.
3- سورة النّساء، الآية 82.
4- سورة البقرة، الآيتان 219 و220.
5- سورة الأعراف، الآية 176.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
140

131

التفكّر في أحوال الأُمَم السّالِفة

 التفكّر في أحوال الأُمَم السّالِفة


خير مُعلّم يحيي النفوس
إنّ الأُسلوب القصصيّ يُعدّ أفضل الأساليب التعليميّة، إذ يتمّ من خلاله تصوير الأحداث ذات الطابع الإيجابيّ أو السلبيّ وبيان نتائجها، ولا سيّما قصص الأُمَم السّالفة وبعض الشخصيّات المشهودة في التأريخ. ونصوصنا الإسلاميّة بدَورها حافلةٌ بهذه القصص، حيث تزخر بالعلوم العقائديّة والمعارف الأخلاقيّة والمناهج التربويّة في مختلف المجالات الاجتماعيّة والسياسيّة في إطار أمثالٍ وحكاياتٍ كلّها عِبرٌ ومواعظ.

فكتاب الله المجيد حافلٌ بقصص الأنبياء والصّالحين وما كابدوه من معاناة وآلام جرّاء ظلم الحكّام وجَور الطّغاة، وكما يقول بعض المحقّقين فإنّها زُهاء 268 قصّةً، وبالتأكيد لها دَورٌ كبيرٌ في هداية المسلمين وتهذيب سلوكهم لما فيها من مواعظ عظيمة. فالقرآن الكريم ليس كتاب فلَكٍ ولا طبٍّ ولا رياضيّاتٍ ولا تأريخٍ، بل هو كتاب هدايةٍ فيه أُسس تحصيل مختلف العلوم واستثمارها. فهو كتابٌ في قمّة الفصاحة وبلاغته لا تُضاهيها
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

132

التفكّر في أحوال الأُمَم السّالِفة

 بلاغةٌ، لذا فإنّ عناصر القصّة فيه متكاملةٌ ولا يشوبها نقصٌ، يستأنس بها المخاطب في شتّى العصور وتُناسب فئات المجتمع كافّةً لأنّها محبوكةٌ بأُسلوبٍ فنّيٍّ في غاية الرّوعة. فنلحظ فيها الواقع مصوّراً في إطار فنّيٍّ جميلٍ، وهو أحد أوجه إعجازه، حيث امتزج فيه الفنّ بعاطفة الإنسان وطبيعة خلقته بحبكةٍ متقنةٍ دون أن يتجاوز حدود الواقع، فلا تشوبه أيّة خرافاتٍ أو أساطير. وقد ذكر سبحانه وتعالى سبب سرد القصص في القرآن الكريم حين قال: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾1.

 
وأمر الله تعالى نبيّه الكريم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في سورة الأعراف أن يذكر لقومه قصص الأُمم الأولى ليتفكّروا فيها علّها تكون عبرةً لهم ورادعاً عن الوقوع في الانحراف الذي ابتُليت به تلك الأُمم وهلكت إثره، كقصّة بلعم بن باعوراء التي هي إنذارٌ لكلّ عبدٍ صالحٍ. قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾2.
 
وهناك قصصٌ أُخرى تُفعم النّفس بالرّجاء والأمل وتُحفّز العبد على المضيّ قُدماً في طريق الكمال، وهي قصص الأنبياء والصالحين: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾3.
 
 
 

1- سورة يوسف، الآية 111.
2- سورة الأعراف، الآية 176.
3- سورة هود، الآية 120.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
142

133

التفكّر في أحوال الأُمَم السّالِفة

 فلو اطّلع الإنسان على قصص الأُمَم السالفة وما آل إليه مصيرها، سيحتكم إلى عقله وتُصبح بصيرته نافذةً وتتهيّج عواطفه فيخوض ميدان الجهاد الأكبر بثباتٍ وعزيمةٍ راسخةٍ، وبالتالي سيقطع دابر الشّيطان ولا يسمح للملذّات الزّائلة بالتغلغل في نفسه، مثل حبّ الدّنيا واتّباع الشّهوات والسّعي وراء المناصب, وذلك لأنّ عدم الاعتبار بما مضى هو أحد أسباب انحراف الإنسان وسقوطه في مكائد الشّيطان. وقد أكّد تعالى في كتابه المجيد على ضرورة التفكّر بما حلّ بالسّلف وانتقد إهمال ذلك، فقال: ﴿أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ﴾1.

 
وبالطبع لو نُصح شخصٌ بترك الدّنيا وملذّاتها العابرة وأُوصي بالتوجّه إلى الآخرة ونعيمها الدائم، فإنّ وقع هذا القول في نفسه لا يكون مؤثّراً كما ينبغي, ولكن عندما تُذكر له قصص الآخرين وما تمخّض عن أعمالهم، فسوف يُدرك أنّ عاقبته ستؤول إلى ما آلت إليه عواقبهم إذا ما سلك نهجهم وسيبذل ما بوسعه كي لا يصبح عبرةً للآخرين، فيُصلح أمر آخرته ويُعرض عن مغريات الدّنيا وعواقبها السيّئة. قال الإمام 
 
 
 

1- سورة غافر، الآية 21.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

134

التفكّر في أحوال الأُمَم السّالِفة

 عليّ عليه السلام: "اِتَّعِظُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، واُرْفُضُوهَا ذَمِيمَةً فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ مَنْ كَانَ أَشْغَفَ بِهَا مِنْكُمْ"1.

 
وفي رسالته إلى ابنه الإمام الحسن عليه السلام والتي تزخر بالمواعظ والمفاهيم السامية في إطار وصايا وإرشارداتٍ لا تصدر إلا عمّن كان راسخاً في العلم، قال: "أعْرِضْ عَلَيهِ أَخْبارَ الماضِينَ وذَكِّرْهُ بِما أَصابَ مَنْ كانَ قَبْلَكَ مِن الأوَّلِينَ، وسِرْ فِي دِيارِهِمْ وآثارِهِمْ فَانظُرْ فِيما فَعَلُوا وعَمّا انْتَقَلُوا وأينَ حَلُّوا ونَزَلُوا، فَإنَّكَ تَجِدُهُمْ قَد انتَقَلُوا عَن الأحِبَّةِ وحَلُّوا دارَ الغُرْبَةِ، وكأنَّكَ عَن قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كأحَدِهِمْ, فَأصْلِحْ مَثْواكَ ولا تَبِعْ آخِرَتَكَ بدُنياكَ ودَعِ القَولَ فِيما لا تَعْرِفُ والخِطابَ فِيما لَمْ تُكَلَّفْ، وأمْسِكْ عَنْ طَرِيقٍ إذا خِفْتَ ضَلالَتَهُ". ويُضيف سلام الله عليه في هذه الرسالة نفسها قائلاً: "أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وإنْ لَمْ أكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أعْمالِهِمْ وفَكَّرْتُ فِي أخْبارِهِمْ وسِرْتُ فِي آثارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كأحَدِهِمْ، بَلْ كأنِّي بِما انتَهَى إلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذلِكَ مِنْ كَدَرِهِ ونَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أمْرٍ نَخِيلَهُ وتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ وصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَه"2.
 
 
 

1- نهج البلاغة، الخطبة رقم 32.
2- المصدر السابق، كتاب رقم 31.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
144

135

التفكّر في أحوال الأُمَم السّالِفة

 كما قال في خطبةٍ قصيرةٍ قبل شهادته: "وإنَّما كُنْتُ جارَاً جاوَرَكُمْ بَدَنِي أيّاماً، وسَتُعْقَبُونَ مِنِّي جُثَّةً خَلاءاً ساكِنَةً بَعْدَ حَراكٍ وصامِتَةً بَعْدَ نُطُوقٍ لِيَعِظَكُمْ هُدُوِّي، وخُفُوتُ إطْراقِي وسُكُونُ أطْرافِي فَإنَّهُ أوْعَظُ للمُعْتَبِرِينَ مِن المنطِقِ البَلِيغِ والقَوْلِ المسْمُوعِ"1.

 
وأوصى أصحابه في خطبته الرائعة المعروفة بـ(القاصعة)، قائلاً: "فَاعتَبِرُوا بِما أصابَ الأُمَمَ الْمُسْتَكْبرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأسِ اللهِ وصَولاتِهِ ووَقائِعِهِ ومَثُلاتِهِ، واتَّعِظُوا بِمَثاوِي خُدُودِهِمْ ومَصارِعِ جُنُوبِهِمْ"2.
 
فالاعتبار بما حلّ بالأُمَم السالفة خير معلّمٍ يُحيي القلب ويُنير البصيرة، لأنّه يزرع الإيمان وروح التّقوى في نفس العبد ويشدّ أزره في مواجهة مصاعب الحياة أثناء مسيرته الشّاقة نحو عالم الأزل والخلود. وقد أشار الإمام جعفر الصادق عليه السلام إلى هذه الحقيقة بكلامٍ في غاية الروعة حين قال: "اعتَبِرُوا بِما مَضَى مِن الدُّنيا، هَل بَقِيَ علَى أحدٍ؟! أو هَل فيها باقٍ مِن الشّريفِ والوَضيعِ والغَنِيِّ والفَقيرِ والوَلِيِّ والعَدُوّ؟! فَكذلِكَ ما لَم يَأتِ مِنها بِما مَضَى أشبَهُ مِن الماءِ بالماءِ"3.
 
 
 

1- المصدر السابق، الخطبة رقم 149.
2- المصدر السابق، الخطبة رقم 192.
3- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج68، ص325.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

136

التفكّر في أحوال الأُمَم السّالِفة

 إذن، أهمّ المواعظ القرآنيّة تتجسّد في قصص الأُمَم السّالفة، فلو تأمّل العبد فيها وتدبّر في عواقبها سوف يعتبر منها ويجعلها رادعاً لنفسه كي لا يقع في المحذور، وبالتالي سيتمكّن من تهذيب نفسه وبناء مجتمعه. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾1.

 
أهداف القصّة القرآنيّة
من البديهيّ أنّ القصص والحكايات القرآنيّة لا يُقصد بها سرد وقائع وأحداث تأريخيّة وحسب، بل هناك هدفٌ سامٍ تتمحور حوله، ألا وهو هداية النّاس إلى سبيل الرّشاد, فالقرآن الكريم ليس كسائر كتب التأريخ التي هدفها بيان تفريعاتٍ وتفاصيل تأريخيّةٍ دون التوجّه إلى جانبها المعنوي. فكلّ قصّةٍ قرآنيّةٍ لها هدفٌ خاصٌّ يتمحور مفهومها حوله، وكلّما تدبّر الإنسان في هذه المفاهيم البنّاءة وتمعّن أكثر فإنّه سيستضيء بنور مواعظها. ونلخّص بعض تلك المفاهيم فيما يلي:
 
1- الفكر والعقيدة.
نستلهم المفاهيم العقائديّة من أغلب قصص الأنبياء والرُّسُل.
 
 
 

1- سورة النّور، الآية 34.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
146

137

التفكّر في أحوال الأُمَم السّالِفة

 2- الأخلاق.

نستوحي من المفاهيم الأخلاقيّة في القرآن الكريم القيَمَ الساميةَ وما يُنافيها من رذائل، وبالتالي ما يترتّب على كلٍّ منها.

3- المجتمع والسياسة.
تصوّر لنا بعض القصص القرآنيّة حكايات الأُمَم السالفة وما آلت إليه أوضاع كلّ حاكمٍ جائرٍ، وعاقبة الاستسلام للتيّارات المنحرفة والابتعاد عن القواعد الاجتماعيّة والحكوميّة التي أرساها أنبياء الله تعالى، فنستلهم منها مفاهيم اجتماعيّةً وسياسيّةً.

4- سنّة الله تعالى في الكون.
نستشفّ من هذا المفهوم واقع الحقّ والباطل وكيف أنّ الحقّ سينتصر والباطل سيزهق.

5- التبشير والإنذار.
6- تجييش العواطف والأحاسيس النزيهة في نفس ابن آدم.

7- المعجزات السماويّة وحقّانيّة الأنبياء والقدرة الإلهيّة.
8- الرّجاء وعدم القنوط من رحمة الله تعالى.

9- تحفيز العبد على مقاومة التيّارات المنحرفة وعدم الانصياع لوساوس الشّيطان.
ويتجلّى هذا المفهوم على المستويَين الباطنيّ والخارجيّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

138

التفكّر في أحوال الأُمَم السّالِفة

 10- طمأنينة العبد والحدّ من الضغوط النفسيّة التي قد تعتريه.

 
وعلى سبيل المثال، نذكر مفهوماً قرآنيّاً مُستوحى من قصّة خليل الله إبراهيم عليه السلام بشرح وتفسير العلّامة محمّد حسين الطباطبائيّ رحمه الله: "إذا رجعنا إلى قصّةِ إبراهيم عليه السلام وسَيرهِ بولدهِ وحُرمتهِ إلى أرضِ مكّةَ وإسكانهما هناك، وما جرَى عليهما من الأمرِ، حتَّى آلَ الأمرُ إلى ذبحِ إسماعيلَ وفدائهِ من جانبِ اللهِ وبنائهما البيتَ, وجدنا القصَّةَ دورةً كاملةً مِن السَّيرِ العُبودِي الذي يسيرُ بهِ العبدُ من مَوطنِ نفسهِ إلى قربِ ربِّهِ، ومن أرضِ البُعدِ إلى حظيرةِ القُربِ، بالإعراضِ عن زَخارفِ الدُّنيا وملاذّها وأمانيها من جاهٍ ومالٍ ونساءٍ وأولادٍ، والانقلاعِ والتخلُّصِ عن وسائسِ الشّياطينِ وتكديرهم صَفوَ الإخلاصِ والإقبالِ والتوجّهِ إلى مقامِ الربِّ ودارِ الكبرياءِ.
 
"فها هِي وقائع متفرقةٌ مترتّبةٌ تسلسلتْ وتألّفتْ قصّةً تأريخيّةً تَحكي عن سَيرٍ عُبوديٍّ من العبدِ إلى اللهِ سبحانهُ وتشملُ من أدب السّيرِ والطَّلبِ والحضورِ ورسومِ الحبِّ والوَلَهِ والإخلاصِ علَى ما كلّما زِدتَ في تدبّرهِ إمعاناً زادكَ استنارةً ولمعاناً"1.
 
 
 
 

1- العلاّمة محمّد حسين الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص298.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
148

139

حاجة الإنسان إلى المرشد

 حاجة الإنسان إلى المرشد


ضرورة مداواة الروح
كما ذكرنا آنفاً فإنّ الإنسان كائنٌ مركّبٌ من جسدٍ وروحٍ، وسعادته تتحقّق إذا ما تمكّن من توفير شروط السلامة لهما. فالجسد يُبتلى بأمراض عديدة، لكن لا يتسنّى لجميع النّاس تشخيصها، وإن شخّصوها فإنّهم قد يعجزون عن التصدّي لها, لذا فإنّ العقل يقضي بوجوب مراجعة طبيبٍ متخصّص لعلاج أيّ مرضٍ كان، ولا بدّ للإنسان حينها من اتّباع الوصفة التي حدّدها له هذا الطبيب لينعم بالصحّة والعافية.

ويا تُرى ألا يجدر بالإنسان أيضاً أن يُداوي سقم روحه كما يُعالج داء بدنه؟! فكما أنّه للخلاص من ألم المرض يُراجع طبيباً متخصّصاً بعلم الأبدان، ألا يجب عليه مراجعة حكيمٍ متخصّصٍ بعلم الأرواح للنجاة من ألم الروح؟! فهل يُعقل أنّ البدن الذي هو فرعٌ من كيان الإنسان، يستحقّ كلّ هذا العناء للحفاظ على سلامته وصيانته من الشّوائب والأمراض، ولكنّ الرّوح التي هي أصل كيان الإنسان وحقيقة ذاته لا تستحقّ أن 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

140

حاجة الإنسان إلى المرشد

 يبذل الإنسان جهداً لصيانتها وتطهيرها من أدران الذّنوب والمعاصي على يد حكيمٍ روحانيٍّ؟! فهل يتمكّن جميع النّاس من تشخيص المخاطر المحدقة بأرواحهم؟! وهل لهم القدرة على تحصين أنفسهم ضدّ هذه المخاطر دون أن يمسّهم أذىً؟! وقد أشار الإمام عليّ عليه السلام إلى هذا الأمر حينما قال: "عَجِبتُ لأقوامٍ يَحتَمُونَ الطّعامَ مَخافةَ الأذَى كَيفَ لا يَحتَمُونَ الذُّنوبَ مَخافةَ النّارِ"1.

 
نعم، لا بدّ للعبد من الرجوع إلى الحكماء وعلماء الأخلاق واتّباع أوامرهم لينجو من المهالك والمخاطر المحدقة به في مسيرته المضنية نحو دار مقرّه التي يطمح فيها إلى نيل السعادة الأزليّة، لأنّهم سيُرشدونه إلى سبيل الصلاح ويهبونه العقار الناجع لما يعترض طريقه من أمراض روحيّة، فيجتاز المصاعب ويُفلح إذا ما سار على نهجهم. وسيرة الصّالحين والمفلحين خير برهانٍ على ذلك، إذ إنّهم كانوا يسترشدون مَن هو أعلى منهم مرتبةً وأكثر تقوىً في جهادهم الأكبر ولم يُذعنوا لوساوس النّفس الأمّارة التي توقعهم في المهالك، لذلك عالجوا كلّ داءٍ اعترضهم وبالتالي تخلّصوا من شوائبه. وقد تطرّق سيّد البلغاء والموحّدين عليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى بيان هذه الحقيقة بعباراته البليغة التي هي دون كلام الخالق وفوق كلام
 
 
 

1- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج3، ص448.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

141

حاجة الإنسان إلى المرشد

 المخلوق، حيث قال: "أيُّهَا النّاسُ اسْتَصبحُوا مِن شُعْلَةِ مِصباحٍ واعِظٍ مُتَّعِظٍ وامتاحُوا مِن صَفْوِ عَينٍ قَد رُوِّقَت مِن الكَدَرِ"1.

 
وانتقد الإمام الخمينيّ قدس سره بعض الطلّاب الذين يقصدون أساتذةً متخصّصين في كسب ما يشاؤون من علومٍ ويعملون بأقوالهم بدقّةٍ ولا يتخلّفون عنها، إلا أنّهم لا يُذعنون بحاجتهم إلى أُستاذٍ يُرشدهم إلى مكارم الأخلاق ويُعينهم على تهذيب أنفسهم، فقال: "فكَما يحتاجُ علمُ الفقهِ والأصولِ إلى أستاذٍ ودرسٍ وبحثٍ، وكلّ علمٍ وصناعةٍ في الدنيا لا بدّ لها من أستاذٍ ومدرّسٍ. والشخصُ المغرورُ والعنيدُ الّذي لا يتّخذُ لنفسهِ مُرشداً وموجّهاً لا يصبحُ فقيهاً وعالماً, فكذلك العلوم المعنويّة والأخلاقيّة التي هي هدف بعثة الأنبياءِ ومن ألطفِ العلوم وأدقّها، بحاجةٍ إلى تعليمٍ وتعلّمٍ. إنّ بناءَ الإنسانِ لا يتحققُ بدونِ معلّمٍ. لقد سمعتُ مراراً أنّ الشيخَ الأنصاري رحمه الله، وهو أستاذ الفقهِ والأصولِ، كانَ يحضرُ درسَ الأخلاقِ والمعنوياتِ لدَى السيّد جليليّ. لقد بُعث أنبياءُ الله لبناءِ الإنسانِ وتربيتهِ"2.
 
الأنبياء وورثتهم أطباء الروح
ومن أبرز خصال أنبياء الله تعالى ورسُله ولاسيّما نبيّنا الكريم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، أنّهم يُشخّصون الأمراض الخُلُقيّة 
 
 
 

1- نهج البلاغة، الخطبة رقم 105.
2- الإمام الخمينيّ قدس سره، الجهاد الأكبر أو جهاد النفس.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

142

حاجة الإنسان إلى المرشد

 فيحترزون منها ويُحذّرون الناس من عواقبها الوخيمة، ويصفون العلاج لمن يُبتلى بها, وذلك حفاظاً على طهارة النّفوس وصيانةً لها من أدران الذّنوب. وقد وصف الإمام عليّ عليه السلام رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنّه طبيبٌ متجوّلٌ يجوب الدّيار فينبّه عباد الله من كدورة المرض ويصف لهم العلاج الناجع، فقال: "طَبِيبٌ دَوّارٌ بطِبِّهِ، قَد أحْكَمَ مَراهِمَهُ وأحْمَى مَواسِمَهُ، يَضَعُ مِن ذلِكَ حَيْثُ الحاجَةُ إلَيْهِ مِن قُلُوبٍ عُمْي وآذانٍ صُمٍّ وألسِنَةٍ بُكْمٍ, مُتَتَبِّعٌ بدَوائِهِ مَواضِعَ الغَفْلَةِ ومَواطِنَ الْحَيْرَة"1.

 
وبالطبع نحن لسنا كالأنبياء والأئمّة المعصومين، حيث لا يمكننا الحصول على علاجٍ لأسقام نفوسنا دون الاستعانة بحكيمٍ خبيرٍ، ولا يتسنّى لنا ذلك إلا إذا اتّبعنا وصايا وإرشادات علماء الأخلاق والصّالحين الذين انتهلوا من معين علم أهل بيت النبوّة الذي لا ينضب وهذّبوا أنفسهم. فلو عملنا بوصاياهم سنتمكّن من علاج داء نفوسنا وسننجو من زيف ملذّات الدّنيا الزائلة، فتسمو أرواحنا في أُفق العبادة الرّحب، لأنّ هؤلاء الأفذاذ هم خير خلفٍ لخير سلفٍ كما وصفهم سيّد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "العُلماءُ مصابيحُ الأرضِ وخُلفاءُ الأنبياءِ ووَرَثتِي ووَرثةُ الأنبياءِ"2. فنحن بحاجةٍ إليهم في عصر الغَيبة، حيث إننا لا نتمكّن من مجالسة وارث السّلف وإمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، ولأنّهم
 
 
 

1- نهج البلاغة، الخطبة رقم 108.
2- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج6، ص457.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
152

143

حاجة الإنسان إلى المرشد

 حكماء تتلمذوا في مدرسة آبائه المفعمة بنور الوحي المقدّس التي أحبطت كلّ مساعي إبليس وجنوده وكسرت شوكتهم. وهم نوّاب الأئمّة المعصومين عليهم السلام الذين جعلوا على عاتقهم مهمّة الدّفاع عن دين الله تعالى وهداية خلقه إلى سواء السّبيل، وتعهّدوا بإنقاذ المستضعفين وانتشالهم من غياهب الضّلال، وسخّروا حياتهم للتصدّي لإبليس وجنوده. وقد مدحهم الإمام عليّ الهادي عليه السلام قائلاً: "لَولا مَن يَبقَى بعدَ غيبةِ قائِمناعجل الله تعالى فرجه الشريف مِن العُلماءِ الدّاعينَ إليهِ والدّالِّينَ عَليهِ والذّابِّينَ عَن دينهِ بحُجَجِ اللهِ والمنقذِينَ لضُعفاءِ عبادِ اللهِ مِن شِباكِ إبليسَ ومَرَدَتِهِ ومِن فِخاخِ النَّواصبِ، لمَا بَقِيَ أحدٌ إلّا ارتدَّ عَن دينِ اللهِ, ولكنَّهُم الّذينَ يُمسِكُونَ أزِمَّةَ قُلوبِ ضُعفاءِ الشِّيعةِ كَما يُمسِكُ صاحِبُ السَّفينَةِ سُكّانَها. أُولئِكَ هُم الأفضَلونَ عندَ اللهَ عزَّ وجلَّ"1.

 
اختيار المرشد الصالح
وقد ذكر العالم الجليل الفيض الكاشانيّ أوّل خطوةٍ في تشخيص عيوب النّفس وعلاج الأمراض الروحيّة في كتابه القيّم (المحجّة البيضاء)، فقال: "أوّل خطوةٍ هو أنّكَ تُصغي إلى صاحب البصيرة والعارف بأمراض النّفوس وتتّخذه مرشداً لك في طريق تهذيب النّفس ومحاربتها، وبالطبع فإنّ هكذا
 
 
 

1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج68، ص6 ح 12.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

144

حاجة الإنسان إلى المرشد

 أشخاصاً قلّما نجدهم اليومَ"1.

 
تجدر الإشارة إلى أمر، وهو أنّ للمعلّم تأثيراً كبيراً على تلامذته لأنّهم يتأثّرون بأقواله وأفعاله، لذلك أوصانا أئمّتنا عليهم السلام بعدم الإذعان لأيٍّ كان، حتّى في العلوم الماديّة، لأنّنا إلى جانب كسب تلك العلوم منه، سوف نكتسب خصاله التي تتغلغل في أنفسنا دون أن نشعر, كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "مَن أصغَى إلَى ناطقٍ فقد عبدَهُ، فإنْ كانَ النّاطِقُ عَن اللهِ فقد عبدَ اللهَ، وإنْ كانَ النّاطِقُ عَن إبليسَ فقد عبدَ إبليسَ"2. وعن الإمام عليّ عليه السلام: "عجِبتُ لمن يتَفكَّرُ فِي مَأكُولهِ كَيفَ لا يتَفكَّرُ فِي مَعقُولهِ، فيُجَنِّبُ بطنَهُ ما يُؤذِيهِ ويُودِعُ صدرَهُ ما يُردِيهِ؟!"3.
 
وأمّا الذين يعتبرون العلم وسيلةً لكسب المال وجني الثروة، فليسوا بلائقين لأن يكونوا حُكماءَ يتّعظ النّاس بوصاياهم، لأنّهم مبتلَون بأسوأ داءٍ, حيث وصفهم نبيّ الله عيسى بن مريم عليه السلام قائلاً: "الدِّينارُ داءُ الدِّينِ والعالِمُ طبيبُ الدّينِ، فإذا رأيتُم الطبيبَ يَجُرُّ الداءَ إلى نفسِهِ فاتَّهمُوهُ واعلَمُوا أنَّهُ غيرُ ناصِحٍ لغيرِهِ"4. فهؤلاء ليسوا بعاجزين عن الأخذ بيد العبد
 
 
 

1- الفيض الكاشاني، المحجّة البيضاء في تهذيب الأحياء، ج5، ص113.
2- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج69، ص264.
3- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج6، ص485، نقلاً عن بحار الأنوار، ج1، ص218.
4- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص107.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
154

145

حاجة الإنسان إلى المرشد

 إلى صراط النّجاة وحسب، بل هم كالشّيطان الذي يقطع سبيل العباد ويسوقهم نحو الهاوية وبئس المصير. وروي عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام: "إنّ الله تعالى أوحى إلى نبيّه داود عليه السلام: لا تَجعَلْ بَينِي وبَينَكَ عالِماً مَفتُوناً بالدُّنيا فيَصُدُّكَ عَن طَريقِ مَحبَّتِي، فإنَّ أُولئكَ قُطّاعُ طريقِ عِباديَ المريدينَ، إنّ أدنَى ما أنا صانِعٌ بِهم أنْ أنزعَ حَلاوةَ مُناجاتِي مِن قُلوبِهِمْ"1.

 
إذن، لا يتسنّى لابن آدم كبح شهواته والظّفرُ على أهواء نفسه في جهاده الأكبر دون أن يتّخذ مُرشداً يُحذّره من مكائد الشّيطان ويهديه إلى سواء السّبيل. لذلك يجب على كلّ مَن رام بلوغ السعادة والتقرّب إلى ربّ العالمين أن يجعل لنفسه دليلاً يتّبعه وحكيماً يُداوي سقمه. كما عليه أن لا ينبهر بكلّ مَن يدّعي النُّصح والهدى ويجعله أُسوةً له، بل لا بدّ من أن يتّبع من كان أهلاً للوعظ والإرشاد، وهو الذي انتهل من فيض علوم ومعارف أهل بيت الرّسالة عليهم السلام وسار على نهجهم وعمل بوصاياهم وتخلّق بأخلاقهم السمحاء ولم ينخدع بوساوس الشّيطان. فقد وصف الإمام عليّ عليه السلام مَن يقع في فخّ إبليس بقوله: "كَيفَ يُصلِحُ غيرَهُ مَن لا يُصلِحُ نَفسَهُ"2. وبالطبع فإنّ العثور على هكذا حكيمٍ نزيهٍ ليس بالأمر اليسير، والأصعب منه هو الصّبر 
 
 
 

1- المصدر السابق.
2- محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج10، ص146.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

146

حاجة الإنسان إلى المرشد

 على وصاياه إن تمّ العثور عليه.

 
فيا أيّها الشابّ المجاهد في ميدان الجهاد الأكبر والباحث عن السعادة الأزليّة، كُن كموسى عليه السلام ورافق الخضر عليه السلام ليأخذك من عالم المادّة الزّائل إلى عالم الروح الخالد، وتحمّل معه مشاقّ السفر دون أن تفقد صبرك وتعترض عليه كي لا يناديك: ﴿إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾1، وحتّى لا تجبره على أن يهجرك ويقول: ﴿هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾2.

 
 

1- سورة الكهف، الآية 67.
2- سورة الكهف، الآية 78.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156

147

حاجة الإنسان إلى المرشد

 خاتمة


عزيزي القارئ، ما ذكرناه في هذا الكتيب من مواضيع موجزةٍ، هو خلاصةٌ لمنهجٍ شاملٍ وضعه لنا ديننا الإسلاميّ الحنيف يصوننا من الانحراف ويقينا من الوقوع في فخّ الرّذيلة، وبه ينتصر جند الحقّ على شرذمة الباطل.

فهو منهجٌ يحفظ العبد من الزّلل ويصونه من الخطأ ويُطهّر ذاته من لوث الذّنوب، كما أنّه حصنٌ حصينٌ من كيد عدوّه اللّدود إبليس، حيث تطرّقنا إلى بيانه هنا لأنّه لم يبوّب في كتب الأخلاق بهذا الترتيب. وإلى جانب أُسس تهذيب النّفس في معترك الجهاد الأكبر، هناك مبادئ ساميةٌ تزخر بها نصوصنا الدينيّة. فهذه المبادئ دواءٌ ناجعٌ لما يُلطّخ الرّوح من صفاتٍ قبيحةٍ وسدٌّ منيعٌ يردع تيّارات الضّلال المتلاطمة التي تُهدّد كيان كلّ إنسانٍ، مثل العجُب والبُخل والتكبّر والحسَد والغضَب وحبّ المال والسعي وراء المناصب والحرص وحبّ الدّنيا والأنانيّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157

148

حاجة الإنسان إلى المرشد

 نرجو من الله العزيز القدير أن يتقبّل هذا الجهد المتواضع ليكون منهلاً يروي ظمأ المتعطّشين للحقيقة والسعادة الأزليّة ولاسيّما شبابنا المؤمن، وأسأله أن يوفّقنا لبيان مبادئ وأُصول ديننا السامية في رحاب جواهر الكلام من آياتٍ قرآنيّةٍ ورواياتٍ من عبق سيرة الأولياء والصّالحين الذين أخذوا على كاهلهم تمهيد طريق بني آدم نحو السعادة الأبديّة وقطع دابر إبليس وجنده.

آمّين ربّ العالمين.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
158

149

حاجة الإنسان إلى المرشد

 مصادر الكتاب ومراجعه

1- حسن زادة الآمليّ، صد كلمة (باللّغة الفارسيّة)، قم، مطبعة قيام، 1368هـ ش.
2- السيّد روح الله الخمينيّ قدس سره، الجهاد الأكبر أو جهاد النّفس، طهران، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ قدس سره، 1372هـ ش.

3- السيّد روح الله الخمينيّ قدس سره، الأربعون حديثاً، طهران، مركز رجاء الثّقافيّ، 1368هـ ش.
4- السيّد روح الله الخمينيّ قدس سره، صحيفة النور (باللّغة الفارسيّة)، طهران، مركز الوثائق الثقافيّة للثّورة الإسلاميّة، وزارة الإرشاد، بدون تأريخ.

5- السيّد عبد الحسين دستغيب الشّيرازيّ، قلب سليم (باللّغة الفارسيّة)، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، 1351هـ ش.
6- الشّريف الرّضيّ، نهج البلاغة، ترجمة محمّد الدّشتي، قم، منشورات مشرقين، بدون تأريخ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

150

حاجة الإنسان إلى المرشد

 7- الشّيخ عبّاس القميّ، مفاتيح الجنان، قم، مطبعة نبوغ، بدون تأريخ.
8- مرتضى المطهّريّ، مجموعة آثار (باللّغة الفارسيّة)، ج22، قم، منشورات صدرا، 1381هـ ش.

9- محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القميّ (الشّيخ الصّدوق)، الأمالي، بيروت، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، 1410هـ.
10- الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام، مصباح الشّريعة، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، 1400هـ.

11- عبد الواحد بن محمّد التميميّ الآمديّ، غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم، قم، مكتب الإعلام الإسلاميّ، بدون تأريخ.
12- السيّد عبد الله الجزائريّ، التُّحفة السَّنيَّة، بدون تأريخ.

13- محمّد وعليّ ومحمّد رضا الحكيميّ، الحياة، طهران، مركز طبع ونشر جامعة المدرّسين، 1360هـ ش.
14- أحمد بن فهد الحليّ، عدّة الدّاعي في نجاح السّاعي، قم، مكتبة وجداني، بدون تأريخ.

15- الحسن بن عليّ بن الحسين بن شعبة الحرّانيّ، تُحَف العقول، قم، مؤسّسة نشر إسلامي، بدون تأريخ.
16- محمّد الشّعيريّ، جامع الأخبار، بيروت، مؤسّسة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
160

151

حاجة الإنسان إلى المرشد

 الأعلميّ للمطبوعات، 1406هـ.

 
17- السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، قم، جامعة المدرّسين في الحوزة العلميّة، بدون تأريخ.
18- محمّد بن الحسن العامليّ (الحرّ العامليّ)، وسائل الشّيعة، قم، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التُّراث.
 
19- الملا محسن محمّد بن المرتضى (الفيض الكاشانيّ)، المحجّة البيضاء في تهذيب الأحياء، بيروت، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، 1403هـ.
20- محمّد بن يعقوب الكليني، أُصول الكافي، طهران، المكتبة الإسلاميّة.
 
21- محمّد المحمّديّ الرّيشهريّ، ميزان الحكمة، قم، المكتب الإعلاميّ في الحوزة العلميّة، 1362هـ ش.
22- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الأعلميّ، بدون تأريخ.
 
23- الميرزا حسين النّوريّ الطبرسيّ، مستدرك الوسائل، قم، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التُّراث، 1407هـ.
24- ناصر مكارم الشّيرازيّ، التفسير الأمثل، قم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
161

152

الفهرس

 الفهرس

مقدّمة

5

حقيقة الإنسان في القرآن الكريم

11

الإنسانية صنفان

11

سرّ اختلاف بني آدم في الإنسانية

14

طبيعة الخلقة الإنسانية

18

كمال النفس الإنسانية

21

الموازنة بين كمالات الروح وحاجات البدن

25

معرفة النفس

29

سبيل الهدى

29

حقيقة الإنسان

34

حريّة الاختيار  

35

الالتزام بالمبادئ وقبول المسؤوليّة

36

خلود الإنسان

37

كمال الإنسان

38

الإنسان هو محور الخلقة

40

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

163


153

الفهرس

 

اجتناب المعاصي والذنوب

43

حقيقة الذنب

43

معرفة المذنب مقدمة لعلاجه

44

مخاطر الاستخفاف بالذنب  

46

ذكر الله تعالى

49

معرفة الله أساس الهدى

49

ذكر الله هو الهدف

52

حقيقة الذِّكرِ

55

ثمار ذكر الله تعالى

59

العقبات التي تعترض طريق الذِّكر

66

ذكر الموت

71

فضيلة ذكر الموت

71

الدُّنيا قصيرةٌ وفانية

72

الموت ليس فناءاً للروح

73

الآخرة في القرآن الكريم  

74

التوبة وتطهير النَّفس

77

الخطوة الأولى نحو الجهاد

77

أركان التَّوبة

81

ثمار التَّوبة

85

الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة

89

الهدف من التشريع

89


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

164


154

الفهرس

 

آثار اتباع الأحكام الشرعية

92

استفسارٌ هام وجوابٌ

96

مرافقة الأبرار

101

أهميّة الصحبة وآثارها

101

معايير انتخاب الأصحاب

103

العزم ورباطة الجأش

107

موقعية الإرادة في السلوك

107

العزيمة عند الإمام الخميني قدس سره

109

محاسبة النَّفس

111

سوء الظن بالنفس شرط

111

مراحل محاسبة النفس

112

الأُنس بكتاب الله وتدبّر آياته

117

حياة القلب 

117

فضائل القرآن وآثاره

119

الدُّعاء وطلب العَون من الله تعالى

125

سلاح المؤمن

125

الدعاء عند الأنبياء والأولياء

127

التفكّر

133

حقيقة التفكّر وأثره على السلوك

133

موارد التفكّر

139

 

 

 

 

 

 

 

 

 

165


155

الفهرس

 

التفكّر في أحوال الأُمَم السّالِفة

141

خير مُعلّم يحيي النفوس

141

أهداف القصّة القرآنيّة

146

حاجة الإنسان إلى المرشد

149

ضرورة مداواة الروح

149

الأنبياء وورثتهم أطباء الروح

151

اختيار المرشد الصالح

153

خاتمة

157

مصادر الكتاب ومراجعه

159

الفهرس

163

 

 

 

 

 

 

 

 

166


156
مبادئ الجهاد الأكبر