بنية العقل السياسي الأمريكي


الناشر: مراكز الإمام الخميني الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-02

النسخة: 0


الكاتب

جمعية مراكز الإمام الخميني الثقافية

مراكز ثقافية تعنى بحفظ نهج الإمام الخميني قدس سره ونشره من خلال إنشاء مراكز متخصصة بإقامة الندوات الفكرية واللقاءات الحوارية للنخب الثقافية والجامعية، وإنشاء المكتبات العامة للمطالعة، وتكريم شخصيات ثقافية، وإقامة دورات فكرية، وتوقيع كتب أدبية وفكرية، وإصدار سلاسل فكرية متنوعة لكبار العلماء والمفكرين.


بنية العقل السياسي الأمريكي

  بطاقة هوية 


الموضـوع: ندوة فكرية

العنوان الرئيسي: بنية العقل السياسي الأمريكي بين البعد الغيبي ومعطيات الواقع

العنوان الفرعي الأول: صهيو مسيحية أم صهيو أميركية؟

المحاضر: الدكتور القس رياض جرجور الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

العنوان الفرعي الثاني: سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

المحاضر: الدكتور الحاج علي فياض ـ مدير المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق

مقدم الندوة: الحاج محمد فقيه

منظم الندوة: مركز الإمام الخميني الثقافي

المداخلات: الشيخ أحمد مراد ـ الدكتور مسعود الشابي ـ الأستاذ وليد محمد علي الدكتور حسن البنّاـ الدكتور علي الخطيب ـ الشاعر محمد علي فرحات.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
3

1

بنية العقل السياسي الأمريكي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

4


2

بنية العقل السياسي الأمريكي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

5


3

بنية العقل السياسي الأمريكي

 صهيو مسيحية أم صهيو أميركية؟

الدكتور القس رياض جرجور1
 
مقدمة:
 
يسرني ويشرفني أن أكون هذا المساء ضيفاً على مركز الإمام الخميني الثقافي لأحدِّثكم عن موضوع من مواضيع الساعة في الوقت العصيب الذي يعيشه أهلنا الأعزاء في العراق ومعهم أهل فلسطين ولبنان وسوريا وكل البلدان العربية .
 
فالحرب التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها إنكلترا على العراق هي حقاً غزو استعماري جديد، لا أخلاقي، ولا شرعي، يطال ليس فقط الشعب العراقي بل أيضاً جميع شعوب الشرق الأوسط ويهدد النظام العالمي والاستقرار في منطقتنا والعالم بأسره.
 
إن هذه الحرب التي أدانتها شعوب العالم بأسره بما فيه شعوب الدول المشاركة فيها والمؤيدة لها تتأسس على أيديولوجيا صهيونية استعمارية توسعية عنصرية، يرزح تحت آلتها العسكرية شعبنا في فلسطين، وتعاني من احتلالها جزءاً من أرضها الشقيقةُ سوريا، وتصدّت لها مقاومتنا اللبنانية الباسلة حتى دحرتها.
 
وتتمثل تلك الايديولوجيا الصهيونية في رموز السياسة الأمريكية الحاكمة، لا سيما في البيت الأبيض والبنتاغون، والتي قيل عن سيدها أنه ينتمي إلى تيار مسيحي أصولي يسمى صواباً أو خطأً تيار "الصهيونية 
 
 
 

1- الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

4

بنية العقل السياسي الأمريكي

 المسيحية".


هذا التيار هو موضوع حديثي أمامكم ومعكم هذا المساء، وقد صيغ عن حكمةٍ بشكل سؤالٍ يبحث فيما إذا كانت تلك الصهيونية هي صهيونية مسيحية أم هي صهيونية أمريكية تتخذ من مسيحيةٍ هجينة وغريبة عن التراثات المسيحية الأصيلة غطاءً دينياً لها تضفي به شرعية على سياساتها المشبوهة.

المنهجية العلمية الموضوعية تضطرني إلى أن أبدأ بتعريف المصطلحات، ومن ثم إلى إبراز الجذور التاريخية واللاهوتية للصهيونية المسيحية، منتهياً بالحديث عن تطبيقاتها السياسية وخطرها في آن معاً على المسيحية وعلى أمن وسلامة شعوب منطقتنا .

في التعريف والمصطلحات 

تمّ تعريف الصهيونية المسيحية على أنها "الدعم المسيحي للصهيونية".

وقيل أيضاً عنها: "إنها حركة قومية تعمل من أجل عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين وسيادة اليهود على الأرض".

ويعتبر الصهيونيون المسيحيون أنفسهم كمدافعين عن الشعب اليهودي، وخاصةً عن دولة إسرائيل، ويتضمن هذا الدعم معارضة كل من ينتقد أو يعادي إسرائيل.

"والتر ريغنـز" الأمين العام لما يسمى "السفارة المسيحية الدولية"، وهي من أحدث وأخطر المؤسسات الصهيونية المسيحية، ومركزها في القدس، يعرِّف إصطلاح الصهيونية المسيحية بطريقةٍ سياسيةٍ وعلى أنه ـ أي التعريف ـ أيُّ مسيحي يدعم الهدف الصهيوني لدولة إسرائيل وجيشها وحكومتها وثقافتها ، الخ....

أما القس "جيري فالويل" مؤسس جماعة العمل السياسي الأصولي المسماة "الأغلبية الأخلاقية"، وهو الذي منذ فترة تكلم واتهم دين الإسلام بأنه دين إرهابي، فإنه يقول: "إن من يؤمن بالكتاب المقدس حقاً يرى المسيحية ودولة إسرائيل الحديثة مترابطتين على نحو لا ينفصم. إن إعادة إنشاء دولة إسرائيل في العام 1948 لهي في نظر كلّ مسيحي مؤمن 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
8

5

بنية العقل السياسي الأمريكي

 بالكتاب المقدس تحقيق لنبوءات العهدين القديم والجديد". 


سنتعرض لهذه المسألة بعد قليل. إنما وفي ختام التعريفات أقول: إن الصهيونية المسيحية في نهاية المطاف تعبّر – وكما جاء في بيان اللجنة التنفيذية لمجلس كنائس الشرق الأوسط في نيسان 1986 – عن إساءةٍ في استعمال الكتاب المقدس، واستغلال المشاعر الدينية في محاولة تقديس إنشاء دولةٍ ما، وتسويغ سياسات حكومة مخصوصة.

إذن، لا يوجد مكان للصهيوينة المسيحية في الشرق الأوسط، ويجب أن تنبذ من قبل الكنيسة العالمية، إنها تشويه خطير وانحراف كبير عن الإيمان المسيحي الحقيقي المتمركز في السيد المسيح، كما أنها بدعةٌ منحرفةٌ، وإقحام غريب غير مرغوب فيه في هذه الثقافة لأنها تدافع عن برنامج سياسي قومي يعتبر الجنس اليهودي متفوقاً.

وكما وصفها أحد القادة في الكنيسة الإنغليكانية: "إن إعطاء دور وكيل عقارات إلى الله يحطم القلب... إنهم لا يكرزون بالمسيح أبد".

وبكلمات رجل دين فلسطيني محلي: "إنهم أدوات تدمير وخراب، وهم لا يعطون أي اعتبار أو أهمية للمسيحيين الأصليين في هذه البلاد".

الجذور التاريخية والدينية للصهيونية المسيحية

نشأت الصهيونية المسيحية وكما نعرفها اليوم في إنكلترا في القرن السابع عشر، حيث تمّ ربطها بالسياسة، ولا سيما بتصور دولة يهودية تتميماً حسب زعمها لنبوءة الكتاب المقدس، وانتقلت الصهيونية المسيحية في مرحلة ثانية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أخذت أبعاداً سياسية واضحة وثابتة كما أخذت بعداً دولياً.

سنتحدث باقتضابٍ عن هاتين الحقبتين في تاريخ الصهيونية المسيحية، ولكن قبل ذلك لا بدّ لي أن أشير إلى الجذور الفكرية أو النظرية لهذا التيار وذلك ما قبل القرن السادس عشر.

"الألفيّة" كتمهيد للصهيونية المسيحية

الصهيونية المسيحية هي إيديولوجيا دينية/رؤيوية/سياسية حديثة العهد نسبياً، لكن جذورها تتصل بتيار ديني يعود إلى القرن الأول 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

6

بنية العقل السياسي الأمريكي

 للمسيحية ويسمى بتيار الألفيّة Millenarianism"".والألفيّة هي معتقد ديني نشأ في أوساط المسيحيين الذين من أصل يهودي، وهو يعود إلى استمرارهم في الاعتقاد بالمشيحية الزمنية (المشيحية كلمة من أصل عبري) وإلى تأويلهم اللفظي لما ورد في سفر رؤيا يوحنا "20/3-6" وهو أن المسيح سيعود إلى هذا العالم محاطاً بالقديسين ليملك في الأرض ألف سنة ولذلك سموا بالألفيّة.


ولربما أن هرطقة مونتانوس الفريجي (حوالي العام172) كانت التعبير الأكثر وضوحاً عن النتائج العلمية للحركة الألفيّة، فلقد اعتبر هذا الأخير أن حياة أعضاء الكنيسة الروحية والأخلاقية قد تدهورت كثيراً بسبب تأثير العالم السيء عليها، فأراد أن يرجعها إلى العصر الرسولي الأول، وقد ادعى أنه النبي الجديد الذي أوكل الله إليه هذه المهمة، فراح يبشّر بقرب نزول أورشليم السماوية، ومجيء السيد إلى فريجية العليا (آسيا الصغرى) لتأسيس مملكته الأرضية ذات الألف عام.

وبقيت الحركة الألفيّة في مدّ وجزر، ففي القرون الوسطى اعتنق الألفيون أكثر فأكثر عقائد مسيحية ابتعدت عن الإيمان القويم، كما أنهم وقفوا موقفاً معادياً لروما وللبابوية وللكثلكة.

وابتداءً من نهاية القرن الحادي عشر، نرى الحركات الألفيّة تنضوي بكثرة تحت لواء الحملات الصليبية، لكن حتى القرن السابع عشر ، لم تحمل الحركة الألفيّة (أي عودة المسيح الثانية وحكمه ألف سنة) أي طابع يهودي يشير إلى عودة اليهود إلى فلسطين.

الصهيونية المسيحية البريطانية

إلا أن بوادر تفسير الكتب المقدسة تفسيراً حرفياً وربطها بالسياسة، ولا سيما بتصور دولة يهودية تتميماً – حسب زعم الألفيين – لنبوءة الكتاب المقدس، فقد بدأت بشكل بارز في بريطانيا في القرن السابع عشر.

وقد تسارع هذا التطور إبّان العصر الطهري (البيوريتاني)، بعد أن كانت تلك المعتقدات الألفية قد تراجعت في العهد "الإلزابيتي" فمن هذا الاتجاه نذكر: إستعمال العبرية لغة للصلاة في الكنائس، ونقل يوم ذكرى قيامة السيد المسيح من يوم الأحد إلى يوم السبت اليهودي، ومطالبة بعض 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
10

7

بنية العقل السياسي الأمريكي

 البيوريتانيين الحكومة بأن تعلن التوراة أي العهد القديم دستوراً لبريطانيا. 


ونجد منذ العام 1585 رجلاً بريطانياً من رجال الدين، واسمه (توماس بريتمان/1562-1607) يدعو إلى إعادة اليهود إلى الأراضي المقدسة تتميماً لنبوءة الكتاب المقدس.

وفي العام 1615، دعا عضو البرلمان البريطاني (السير هنري فينش) الحكومة إلى دعم عودة اليهود إلى فلسطين حيث كتب: "ليس اليهود قلةً مبعثرة، بل إنهم أمة ستعود أمة اليهود إلى وطنها، وستعمر كل زوايا الأرض... وسيعيش اليهود بسلام في وطنهم إلى الأبد".

إلا أن الركيزة الدينية / السياسية / الإيديوليوجية الأولى للصهيونية المسيحية في بريطانيا قامت على يد (أوليفر كرومويل)، فقد كان هذا الأخير على مدى عشر سنوات (1649-1659)، رئيساً للمحفل البيوريتاني، وهو الذي دعا إلى عقد مؤتمر (1655) للتشريع لعودة اليهود إلى بريطانيا، أي إلغاء قانون النفي الذي اتخذه الملك (ادوارد)، ففي هذا المؤتمر تمّ ربط الصهيونية المسيحية بالمصالح الاستراتيجية لبريطانيا، ومن خلال عملية الربط تلك تحمّس (كرومويل) لمشروع التوطين اليهودي في فلسطين منذ ذلك الوقت المبكّر. 

بعد العام 1800، برز (القس لويس واي) الذي صار مدير الجمعية اللندنية لترويج المسيحية بين اليهود في العام 1809, وقد تحولت الجمعية بجهوده قوة كبرى في التعبير عن عقائد الصهيونية المسيحية بما فيها عودة اليهود إلى فلسطين.

شخصية أخرى ساهمت في تطوير هذا الاتجاه في بريطانيا هو (الشريف هنري دراموند) عضو مجلس العموم البريطاني، فقد تخلى (دراموند) عن عمله السياسي بعد زيارة الأرض المقدسة ونذر حياته لتعليم الأصولية المسيحية والكتابة عنها وعن صلتها بعودة اليهود إلى فلسطين.

أما (اللورد شافتسبوري/1801-1885) وهو من أكابر المصلحين الاجتماعيين الانجيليين البريطانيين، وقد عمل لتخليص بريطانيا من العبودية، ومن ممارسات تشغيل الأحداث الظالمة، فقد كان من الألفيين 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

8

بنية العقل السياسي الأمريكي

 المتحمسين والمناضلين من أجل عودة اليهود إلى فلسطين، وكانت نظرته تتسم إلى حدّ بالعداء لليهود، إذ كان يفضّل رؤيتهم يقيمون بالأراضي المقدسة بدلاً من إنكلترا.


وأشدّ الصهيونيين المسيحيين البريطانيين ضلوعاً في السياسة فهو (القس ويليام هـ . هشلر/1845-1931). فقد عمل في السفارة البريطانية ﺑﭭيينا، ونظّم عملية تهجير اليهود الروس إلى فلسطين. وفي العام 1894 نشر كتاباً عنوانه: "عودة اليهود إلى فلسطين"، وطرح هذه العودة على قاعدة تطبيق النبوءات الدينية الواردة في العهد القديم، والأهم من كل ذلك أنه كان من المؤمنين المتحمسين لأبي الصهيونية (تيودور هرتزل)، وقد أتاح (هشلر) الدعم السياسي والاتصالات لهرتزل خلال المرحلة الحاسمة، وبذل مساعيه في اللوبي من أجل القضية الصهيوينة لمدة تناهز الثلاثين سنة.

وأخيراً، لا بد من ذكر اسم (اللورد آرثر بلفور)، مهندس وعد بلفور الذي صدر في العام 1917. لقد كان (بلفور) من الألفيين ومن الصهيونيين المسيحيين، وقد أدت لقاءاته بكل من (تيودور هرتزل) و (حاييم وايتزمان) إلى ما يقارب الانسجام، رغم أنه كان معروفاً عنه بمواقفه المعادية لليهود .

نهاية العالم على الطريقة الأمريكية

إنتقلت في القرن العشرين الصهيونية المسيحية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولا سيما بعد إنشاء دولة إسرائيل وتُرجمت بعض الآيات الدينية بعد أن حرفت تفاسيرها الروحية ترجمةً سياسية مباشرة صبّت بقوة في دعم دولة إسرائيل. واستخدم الصهيونيون المسيحيون الأمريكيون وسائل الإعلام الجماهيرية بشكل منقطع النظير لنشر أفكارهم وأوهامهم وأحلامهم ومعتقداتهم.

فإذا أخذنا على سبيل المثال، نهاية العالم كما تتصوره الصهيونية المسيحية، وجدنا فيه بعض الملامح التي ترافق الغزو الأمريكي الحاصل حالياً على العراق، وقبل ذلك، بعض الملامح ردّ الإدارة الأميركية الحالية على أحداث 11 أيلول 2001، وذلك بشن حملة إرهاب في العالم أجمع 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12

9

بنية العقل السياسي الأمريكي

 تصدياً على حد زعمها للإرهاب الذي طالها.


هذا وإن نهاية العالم على الطريقة الأمريكية الصهيونية تستند شكلاً على بعض أسفار العهد القديم، كسفر حزقيال وسفر دانيال، ومن العهد الجديد على سفر رؤيا يوحنا، وتستنتج أن العالم كما نعرفه قد أشرف على النهاية، وأن ألفاً من السنين سيبدأ بعد هذه النهاية، وهو يتميّز بالسلام ووفرة الخيرات والأخوة بين الناس، وسيحل السلام بين الحيوانات أيضاً. العالم آتٍ إلى نهاية – حسب زعمهم – لا بفعل جنون جنرال أو سياسي يشعل الحرب النووية، بل لآن هذا هو قصد الله. نهاية العالم ليست مدعاة للقلق بنظر "الألفيين" لأنها تمهّد لمجيء المسيح الثاني، لكن قبل هذا المجيء على بعض الأحداث أن تقع، إنها "علامات الأزمنة"، أي تبشير العالم، وعودة اليهود، وإعادة بناء دولة إسرائيل، وظهور المسيح الدجال، وموجة من الصراعات . كل هذا يتوّج بمعركة (هرمجدّون) وهي قرية مذكورة في سفر الرؤيا، وتقع في شمال القدس حيث تُزَجُّ الأمم الكبيرة في معركة بين "الحق والباطل"، وعند اقتراب إفناء العالم، يظهر المسيح. وهناك أكثر من رواية تفصيلية لهذا الحدث الانقضائي، لا مجال لذكرها هنا، لكن المهم في هذا التصور الرؤيوي أن السلاح النووي يصبح عندئذٍ أداة لتحقيق مقاصد الله، وأنّ الميل إلى تفسير أحداث السياسة الدولية بمنظور "نهاية العالم" يصبح مشروعاً، لا بل ضرورياً، علماً أن دعاة الألفيّة مجمعون على اعتبار الشرق الأوسط مسرحاً للحرب، الكارثة المذكورة أعلاه.

نقطة الارتكاز اللاهوتية : "القدريّة"

معظم المسيحيين الأصوليين هؤلاء إن لم يكن كلهم يسلّمون بمذهب "القدريّة"، أو كما يسميها البعض أيضاً "التدبيريّة" ، والقدريّة هي محاولة لتفسير تاريخ علاقة الله بالبشر بأحوال وأحقاب مخصوصة. يقول (س.أي.سكوفيلد) من أكابر الناطقين بهذا المذهب: "كل قدر دور من الزمان يُمتحن فيه البشر حسبما أوحاه الله من وحي مخصوص".

ويجمع منظرو القدرية في معظمهم على سبعة أقدار أو حقبات زمنية تدل على تطور علاقة الله بالبشر، حيث يمتحن الله الجنس البشري في 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

10

بنية العقل السياسي الأمريكي

 إطاعة إرادته. القدر السادس من هذه الأقدار هو الحقبة الحالية،أي "دور الكنيسة والنعمة"، وينتهي بعودة المسيح لإقامة مملكته الألفية، وهذا هو الدور السابع.


إن هذا المذهب يرتكز على افتراضين: الافتراض الأول هو الفصل ما بين إسرائيل (أي الشعب اليهودي، شعب الله على الأرض) والكنيسة (أي شعب الله في السماء). أما الافتراض الثاني فهو وجوب تفسير الكتاب المقدس دائماً بطريقة حرفية. وهكذا يؤدي هذا المذهب إلى أقلّه نتيجتين: الأولى: أنّ الأرض هي ملك للشعب اليهودي، والثانية: أن النبوءات المتعلقة برجوع اليهود في الشتات إلى الأرض قد تحققت ثانية في القرنين التاسع عشر والعشرين، من هنا نتبيّن كم أنّ هذا المذهب هو من جهةٍ تحريف للمسيحية، ومن جهة ثانية أيديولوجيا سياسية عنصرية.

السفارة المسيحية والبعد الدولي للصهيونية المسيحية

إنّ التأييد المسيحي الأصولي لإسرائيل يستند عند الكثيرين كما رأينا إلى رؤية للعالم ، أو بالأحرى لنهايته، تفترض تبشير اليهود. ولكن، هل أن تبشير اليهود يرضي اليهود؟ وأنا دائماً أسأل هذا السؤال، يبدو أن هذا الأمر لا يثير مشكلة كبيرة لدى الساسة الصهاينة، ولو أنه يزرع الشك في نفوس بعض المتشددين اليهود، ذلك أنّ أولية كسب التأييد السياسي لدولة إسرائيل تغلب الاعتبارات الدينية الصرفة.

مع ذلك، فإنّ مواقف أصولية مسيحية صهيونية، ورغبة منها بتطمين اليهود، راحت تقول بعدم تبشير اليهود، بل بالوقوف إلى جانبهم و "تعزيتهم" على حسب ما جاء في سفر أشعياء في التوراة (1:40-2) :" عزّوا شعبي يقول إلهكم، طيبوا قلب أورشليم، ونادوها بأن جهادها قد كَمُلَ". 

أبرز ممثلي هذا التيار وأخطرهم اليوم هم جماعة "السفارة المسيحية العالمية في القدس" . تأسست هذه السفارة في العام1980 رداً على سحب ثلاثة عشرة دولة سفارتها من القدس استنكاراً لإعانتها عاصمة إسرائيل، ولهذه السفارة فروع في 50 دولة في العالم، ولها في الولايات المتحدة الأمريكية عشرون مكتباً قنصلياً ، المكاتب تقوم بعمل دعائي من مختلف 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

11

بنية العقل السياسي الأمريكي

 الأنواع، وتجمع المساعدات المالية والعينية وتسوّق البضاعة الإسرائيلية.


من نشاطات "السفارة" المؤتمر الدوليّ للقادة المسيحيين الصهاينة الذي عُقد في بازل (سويسرا) خلال شهر آب عام 1985 والذي انتهى إلى إصدار بيان يضيف إلى تكرار المواقف التقليدية المؤيدة لدولة إسرائيل و "التائبة عن اللاسامية" تهنئة لدولة إسرائيل ومواطنيها على إنجازات الأربعين سنة الأخيرة، ودعوة للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبيهوذا والسامرة كأجزاء من أرض إسرائيل، وتحذيراً للأمم التي تعادي الشعب اليهودي، لقد أدان مجلس كنائس الشرق الأوسط هذا البيان بشدة.  

إنّ السفارة المسيحية في القدس هي مثالٌ واضح ومفضوح لإنحياز التيار المسيحي الأمريكي الأصولي لدولة إسرائيل، ولتوظيف الدين توظيفاً مغرضاً في السياسة. 

وهناك عدة أصناف من السلوك تصف الصهيونيين المسيحيين كأصدقاء لإسرائيل ومنها: 

1- تشجيع الحوار ما بين اليهود والمسيحيين .

2- مقاومة معاداة السامية .

3- التعريف بالأصول اليهودية للإيمان المسيحي والتركيز عليها لدرجة تبدو فيها المسيحية وكأنها إحدى الطوائف اليهودية.

4- العمل الإنساني بين اللاجئين اليهود .

5- مقاومة المواقف اليهودية المعتدلة التي تسعى إلى التفاوض بموجب مبدأ الأرض مقابل السلام .

الصهيونية المسيحية في ميزان الكنائس الأميركية

تقول الكاتبة "هيلينه كوبان" : "قرأنا جميعاً التحليلات الإخبارية التي تشير إلى أن أقوى دعم سياسي حصل عليه أرييل شارون في الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن من الطائفة اليهودية الأمريكية، ولكن من الجمعيات القوية لليمين المسيحي، هل هذا يعني أن جميع المسيحيين تقريباً في الولايات المتحدة أصبحوا ضد المصالح الفلسطينية والإسلامية والعربية ؟ وهل يعني هذا أن المجتمع الأمريكي على وشك أن تسيطر عليه الرغبة القوية ليحوِّل مواجهة دولته مع المجتمع الإسلامي إلى حملات 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

12

بنية العقل السياسي الأمريكي

 صليبية عدائية؟ 


وتجيب الكاتبة على هذا التساؤل الذي هو حقاً في مكانه، قائلة: "لحسن الحظ فإن الحالة داخل المجتمع الأمريكي ليست سيئةً لهذا الحد. فمع أن جمعيات اليمين المسيحي قوية إلى أنها ليست على وشك أن تسيطر على كل المجتمع الأمريكي". وتضيف: "من المفيد أن نذكر هنا أن نسبةً صغيرةً فقط من المسيحيين الأمريكيين تدعم برنامج الشرق الأوسط للجمعيات التابعة لليمين المسيحي، غير أن المشكلة تكمن في أن اليمين المسيحي هو في أفضل درجات التنظيم، وله تأثير فعال في العمل السياسي، بينما الطوائف والجمعيات المسيحية غير اليمينية ليست بذات التنظيم الكبير، لكن هذا الوضع يجب أن يتغير".

ما تقوله "هيلينه كوبان" هو عين الصواب. ففي الواقع تمثّل الصهيونية المسيحية عددياً نسبة ضئيلة ما بين الكنائس الأمريكية، لكنها نسبة فاعلة جداً، وتقود جماعات الصهيونية المسيحية جمعيات من المعمدانيين الجنوبيين، هذا ويشكل المعمدانيون بمجملهم مع الكنائس الأخرى ذات التوجه اليميني وليس فقط المعمدانيون الجنوبيون نسبة تبلغ حوالي 16% فقط من السكان، كما أن الكاثوليك يشكلون نسبةً تقارب 24% من إجمالي عدد السكان، أما الطوائف البروتستانتية الأربع الكبيرة غير المعمدانيين أي المثوديست واللوثريون والمشيخيون والإنغليكان أو الأسقفيون فإنها تشكل نسبة 15% من عدد السكان. ومن الأهمية بمكان أن هذه الطوائف الأربع بالإضافة إلى الكاثوليك والطوائف الأرثوذكسية هي متعاطفة عموماً مع القضية الفلسطينية وجميعها حتى كنيسة الميثوديست التي ينتمي إليها شكلاً الرئيس جورج دبليو بوش قد أصدرت بيانات نددت فيها بالحرب على العراق ووصفتها بأنها حرب لا أخلاقية ولا شرعية ومدانة مسيحياً .

كيف نواجه الصهيونية المسيحية؟

إذا كانت الإدارة الأمريكية الحالية يطغى عليها الصهاينة واليهود، من أعلى مستويات السلطة إلى العديدين من المستشارين، وإذا كان الرئيس الأمريكي الحالي هو أكثر الرؤساء افتتاناً بالنظريات الرؤيوية 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

13

بنية العقل السياسي الأمريكي

 للصهيونيين المسيحيين، وأكثر بكثير مما كان عليه الرئيس جيمي كارتر والرئيس رونالد ريغن، فهل بات تصويب الأمور أمراً مستعصياً؟ وهل الصهيونية والصهيونية المسيحية قدرٌ حتِّم علينا أن نتلقى ضرباته ونستسلم "لحق القوة" الذي ينتصر به على "قوة الحق"؟ .


كلا! وعلينا أن نقاوم. علينا أن نقاوم لأننا أصحاب حقٍ ولأننا أبناء الحق والعدل والسلام. وكما أنّ المقاومة اللبنانية الباسلة قد دحرت الآلة العسكرية الإسرائيلية الجبارة علينا كلٌ من موقعه أن يلتزم مقاومته. أجل، كلٌ منّا الدولة والأحزاب وهيئات المجتمع المدني والكنائس و....

وهنا اسمحوا لي أيها الأعزاء أن أحدّثكم باختصار شديد بما قام ويقوم به مجلس كنائس الشرق الأوسط للتصدي لمشكلة الصهيونية عامةً والصهيونية المسيحية خاصةً.

أولاً: لقد وضع مجلس كنائس الشرق الأوسط في أولى اهتماماته الالتزام بالقضية الفلسطينية، والصراع العربي – الإسرائيلي، والحوار الإسلامي – المسيحي في سبيل إنماء العيش المشترك، لا، بل العيش الواحد. وجميع هذه المواضيع تصب في خانة مواجهة الصهيونية، أكانت إسرائيلية أم مسيحية أم غير ذلك، وهكذا كثّف مجلسنا لا سيما في السنوات الأخيرة عمله بشكل استثنائي مع الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي بإقامة الندوات المحلية والإقليمية والدولية لمعالجة أثار صهينة السياسة العالمية، وأذكر من هذه الندوات أهمها فقط: "مسلمون ومسيحيون معاً من أجل القدس" (حزيران 1996) "التراث الإبراهيمي والحوار الإسلامي المسيحي" (تموز 1998) "العيش المشترك والتوترات الدينية" (آذار 2000) "رفع الحصار المفروض على العراق" ( تشرين الأول 2001) "مسلمون ومسيحيون معاً في مواجهة التحديات الراهنة" (كانون الأول 2002) . هذا بالإضافة إلى لقاءات وتحركات كتلك التي قمنا بها إبّان إصدار القانون الأمريكي المتعلق بموضوع الاضطهاد الديني وغير ذلك، وحينها ذهبت إلى الكونغرس لأشهد على عدم صحة ما تقوله الإدارة الأميركية من اضطهاد ديني في الشرق الأوسط.

ثانياً: أما فيما يتعلق بمواجهة الإعلام الصهيوني الذي يطغى على الإعلام الغربي، لا سيما في قضية الصراع العربي - الإسرائيلي، فيحرِّف 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

14

بنية العقل السياسي الأمريكي

 الحقائق، ويكوِّن رأياً عاماً غربياً منحازاً لإسرائيل، فإن مجلس كنائس الشرق الأوسط يعمل عبر قنوات محددة يستطيع من خلالها مخاطبة الرأي العام الغربي ولو جزئياً لتصحيح ما أمكن من ملامح الصورة المشوهة عن أبناء الشرق الأوسط والمسلمين والإسلام والعرب. هذه القنوات تتمثّل بشكل رئيسي بشركاء مجلس كنائس الشرق الأوسط أي المجالس الكنسية العالمية والإقليمية والمحلية.


وهكذا، فقد تمّ تشكيل ما يسمى بمجموعات عمل حول الشرق الأوسط ( MIDDLE EAST TASK FORCE) قمنا بها لكي تكون موازية في عملها للسفارة المسيحية في القدس وذلك في عدد من الولايات في أميركا الشمالية، وتقوم هذه المجموعات باستقبال وفود عربية، وبشكل خاص فلسطينية، لتسمع منها ما يجري حقيقةً على الساحة الشرق أوسطية، كما قام أيضاً مجلسنا بدعوة وفودٍ من معظم تلك المجالس الكنسية لزيارة بلدان الشرق الأوسط للتعرف عن كثبٍ على حقيقة واقعنا، وهكذا أصدرت تلك الوفود الغربية بعد عودتها بيانات وجّهتها ليس فقط إلى أبناء كنائسها، بل أيضاً إلى جميع مواطنيها، وتضمنت صورة مختلفة أقله جزئياً عن تلك التي يحملها الرأي العام الغربي عما نحن عليه فعلاً وعما نريده من حقٍ وعدلٍ وسلام. وكمثال من هذه الوفود هناك خمسون أميركي جاؤا تقريباً منذ سبعة أشهر إلى هنا، عدد كبير منهم كانوا من الجماعة الإنجيلية لا يعرفون أين هم، مع اليمين المسيحي المتطرف أم المعتدل، هؤلاء بعد أن سمعوا ما سمعوا، قاموا بزيارة إلى جنوب لبنان، وبعد زيارتهم يوم كامل برعاية حزب الله في ذلك الوقت وبعدما رأوا وسمعوا قالوا هل نستطيع أن نبقى في الجنوب لثلاثة أيام؟ وعادوا بفكر مختلف تماماً عما صوّر لهم قبل مجيئهم إلى لبنان وقبل ذهابـهم إلى الجنوب.

أريد أن أقول البعض حذّرهم ليس فقط من الذهاب إلى الجنوب، بل من المجيء إلى لبنان، وأنهم قد يقومون بقتلكم لأنهم إرهابيون ومجرمون، هذه الصورة تغيّرت، نحن نريد أشخاصاً هكذا ليعلّموا الغير ما يحدث فعلاً ويصححوا الصورة المشوهة.

أخيراً لا آخراً، وفيما يتعلق بالصهيونية المسيحية بالذات فلقد أدرك مجلس كنائس الشرق الأوسط تمام الإدراك خطورة هذا التيار ليس فقط 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

15

بنية العقل السياسي الأمريكي

 على القضية الفلسطينية بل أيضاً على العلاقات الإسلامية - المسيحية، وعلى المسيحيين الشرقيين. وهكذا، كان مجلسنا أول من أدان المؤتمر الصهيوني الذي عقدته السفارة المسيحية في نيسان 1985، والذي ذكرناه سابقا،ً ومما جاء في بيان اللجنة التنفيذية لمجلس كنائس الشرق الأوسط : "إننا ندين سوء استعمال الكتاب المقدس والتلاعب بمشاعر المسيحيين في محاولةٍ لتقديس إنشاء دولةٍ من الدول وتسويغ سياسات حكوماته". وقد ألّف المجلس فريق عمل خاص بالصهيونية المسيحية، وأصدر في العام 1988 كتيباً باللغة الإنكليزية يعرِّف به هذا التيار ويفنّد مزاعمه ويفضح أطروحاته ويدين أهدافه المشبوهة.


ولقد صدرت ترجمة هذا الكتيب إلى العربية في العام 1991، وقد نفذت هذه الطبعة ونعمل على إصدارها من جديد.

خاتمة:

ختاماً، أود التأكيد أمام حضرتكم على المسائل التالية:

أولاً: إن ما يسمى بـ "الصهيونية المسيحية" لا يمت بصلةٍ إلى المسيحية بجميع كنائسها وطوائفها. إنها اقتناص للمسيحية لوضعها رهينة في خدمة مصالح الصهيونية، وهي تشويه مشبوه الغايات لبعض ما جاء في أسفار الكتب المقدسة.

ثانياً: إنها مؤامرة حيكت ضد المسيحيين عامةً في العالم والمسيحيين العرب خاصةً، فهي تضرب كل مشروعٍ حواري ما بين المسيحية والإسلام، وتبرر أطروحات صراع الحضارات والأديان، ولا سيما المسيحية والإسلام، وهي تستهدف ضرب العيش المشترك الإسلامي – المسيحي في دنيا العرب، ذلك العيش الذي مارسناه معاً، وما زلنا بحلوه ومره، منذ بداية الإسلام وحتى أيامنا هذه وبدون انقطاع.

ثالثاً: إن هذا الأمر يطرح علينا جميعاً تحدياً كبيراً، وهو بناء الوعي الذي يمنع تزييف الدين واستخدامه في تبرير سياسات الظلم والعدوان أو إضفاء القدسية على أحلامٍ وأوهامٍ مدمرة.

رابعاً: ولما كان منظمو هذه الندوة قد وضعوا لمحاضرتي هذه عنوان: صهيو مسيحية أم صهيو أميركية؟ فلعلني بحديثي هذا قد أجبت على هذا 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

16

بنية العقل السياسي الأمريكي

 التساؤل، وإذا ما استعدت ما قلته ووضعته في جملةٍ أو جملتين، فإني أقول: الصهيونية والمسيحية نقيضان كما العنصرية والاصطفاء والاستعمار والاستكبار والظلم على نقيضٍ مع المحبة والتواضع والأخوة والعدل والحق والسلام. أما أن تَستخدمَ الصهيونيةُ الأمريكيةُ المسيحيةَ قناعاً ووسيلةً وتبريراً لمشاريعها فإن هذا الأمر حاصلٌ للأسف اليوم في أمريكا ويمكن لا سمح الله أن يحصل في أي بلدٍ آخر، الكلمة الفصل فيما يعنينا نحن المسيحيين هي قول السيد المسيح: "من ثمارهم تعرفونهم".


خامساً وأخيراً: ولمّا كنّا في هذه الأيام العصيبة، نعيش مأساة أهلنا في العراق، ونخشى أن تطال هذه المأساة شعوب منطقتنا، كما نخشى أن تعطى لهذا الصراع أبعادٌ ليس هي أبعادها الحقيقية كالحرب الصليبية، أنوّه هنا بالتقدير لجميع قيادات بلدنا سياسيين ودينيين الذين يعملون على تعميق الوحدة الوطنية والتضامن والتصدي لانحرافات محتملة قد تفسد وحدتنا وتضامننا، وأخصّ بتقديري سماحة السيد حسن نصر الله الأمين العالم لحزب الله الذي قال منذ أيام أمام عشرات آلاف اللبنانيين: "لنفتش عن شعار آخر لهذه الحرب الأمريكية على العراق غير الحرب الصليبية" .


أجل، لنفتش معاً عن الشعارات الحقيقية لهذه الحرب، التي كشفت الوقائع ظلمها، ولنعمل معاً لرد هجمة حق القوة ولنصرة قوة الحق، وإنّ الله الذي هو على كل شيءٍ قدير لسميع مجيب وشكراً للجميع.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

17

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

  سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ 

 
الدكتور الحاج علي فياض1
 
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام علي سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
 
أصحاب السماحة والفضيلة، حضرة القس رياض جرجور، أيها الأخوة، أيتها الأخوات، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
 
ابتداءً، أريد أن أنوّه بالذي سمعته من حضرة القس ليس فقط بالاستناد إلى ما ورد من عرض فكري وتاريخي لتحليل هذه الظاهرة "ظاهرة الصهيوينية المسيحية"،أيضاً بالاستناد إلى ما سمعت من جهود ومن وعي عميق لخطورة هذه الظاهرة وضرورة التصدي لها. 
 
مقدمة:
 
على أي حال، فيما يتعلق بسقوط وصعود القوى العظمى على ضوء فلسفة التاريخ، ما سأقدمه هو مزيج من فلسفة تاريخ وتحليل لتطوارت سياسية معاصرة، وأغلب ظني أن المزاج العام في هذه المرحلة لا يميل كثيراً إلى الحديث عن فلسفة التاريخ، لأن فلسفة التاريخ هي تأريخ بالمفهوم مقابل التاريخ بالحدث، التاريخ العادي هو التاريخ بالحدث 
 
 
 

1- مدير المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

18

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 وفلسفة التاريخ هي التاريخ بالمفهوم، خاصة أن فلسفة التاريخ تتعلق بالتغيرات بعيدة المدى التي تحتاج إلى قرون وعصور، بينما تطلعاتنا وعواطفنا ورؤانا وأمانينا الآن تنتظر أن يكون هناك تغيرات سريعة وعاجلة في هذه المواجهة الدائرة مع الولايات المتحدة الأمريكية. 


في مطلق الأحوال ما نلاحظه حضرات الأخوة والأخوات في الآونة الأخيرة هناك كم كبير من الكتابات التي تصدر والتي تعالج سقوط وصعود القوى العظمى، وقسم من هذه الكتابات يعالج تحديداً مصير الولايات المتحدة الأمريكية، وبطبيعة الحال هذا الصنف من الكتابات هو ذو طبيعة استراتيجية اجتماعية وسياسية ولا يقارب المسألة من زاوية دينية، على غرار ما سمعنا أو على غرار ما يجري في بعض مستويات الفكر الإسلامي الذي يتحدث عن علامات أو مؤشرات تنذر بنهاية الزمن أو سقوط هذه القوى وصعود تلك. 

دراستين معاصرتين حول سقوط القوى العظمى

في الأشهر الماضية صدر كتاب لمؤرخ فرنسي إسمه "إيمانويل تود" وهذا المؤرخ كان له كتاب صدر في العام 1976 تحت عنوان "ما قبل السقوط" تنبأ فيه بسقوط الاتحاد السوفيتي. وقبل أشهر صدر كتاب جديد له بعنوان: "نعي القوة العالمية الأمريكية" هذا المؤرخ يقول أن أميركا الآن، أي الولايات المتحدة الأمريكية هي تتمتع بكل الأعراض الوصفية لسقوط القوى العظمى، ويحلل على مدى هذا الكتاب مستويات ثلاثة من الأعراض، هي التحلل الداخلي، وإعراض معظم الأميركيين عن انتخاب قيادتهم، وثالثاً صعود قوى عسكرية أولغاركية أي أقلوية متحكمة إلى السيطرة على القرار الأميركي.

هناك باحث أمريكي آخر شهير جداً، وهو مثقف عالمي معروف وأغلب ظني أنه يهودي أيضاً، وهو يساري اسمه "إيمانويل فاليرشتاين" كتب دراسة قيمة أيضاً في آب الماضي من العام 2002م في مجلة شهيرة جـداً هـي "Foreign policy" تحت عنوان: "هـبوط الـنسر الأميركي"، ويعالج في هذه الدراسة القيمة صعود أميركا وهبوطها، ويستخلص بأن العوامل ذاتها التي دفعت بالولايات المتحدة الأميركية إلى الصعود بدءً من العام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

19

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 1873، وهي مرحلة بداية أزمة ركود عالمي اقتصادي وقتذاك استفادت منها أميركا كي تزيد حصتها في الاقتصاد العالمي، يقول هذه الأسباب هي ذاتها تدفع أميركا إلى الانحدار في هذا الزمن وهو يرصد بداية الانحدار الأميركي منذ السبعينات، ويرى في أحداث 11 أيلول وكيفية المواجهة التي تخوضها الولايات المتحدة الأميركية مع الإرهاب تتويجاً لهذا المسار. ويرى في سياسة الهيمنة الأميركية على المستوى العالمي مؤشراً إضافياً على سقوط الولايات المتحدة الأميركية، ثم ينهي هذه الدراسة بالسؤال الحقيقي الذي ليس هو هل ستنهار أميركا أم لا؟ بل يفترض أن هذا أمرٌ محسومٌ، لكن هل ستقوم القيادة الأميركية بتخفيف حدة هذا السقوط فلا يكون سقوطاً سريعاً، وإنما تخرج بلياقة ووفق الحد الأدنى من الخسائر التي تلحق بالأميركيين. 


شبنغلر وتدهور الحضارة الغربية

بالإضافة إلى هاتين المحاولتين اللتين هما معاصرتين وقريبتين، صدرت في أواخر الثمانينات دراسة هي مقاربة استراتيجية قيمة جداً ويعرفها كل من يتعاطى في الشأن الاستراتيجي والسياسي والعسكري، هي كتاب "ﭘول كندي" حول سقوط وصعود القوى العظمى الذي يعالج بالضبط كيف ستسقط الولايات المتحدة الأميركية ؟ 

لكن قبل استعراض وجهة نظره، وقبل الوصول إلى معالجة الأزمة العراقية الراهنة، سأقف عند مؤرخين كبيرين في الفكر السياسي الغربي هما "أوزوالد شبنغلر" الذي توفى في العام 1936 و"آرنولد توينبي" المؤرخ الشهير الذي توفى في السبعينات، وكلاهما كتبا حول انهيار الحضارة الغربية. كتاب شبنغلر الذي كتب باللغة الإنكليزية عنوانه "تدهور الغرب" وترجم إلى اللغة العربية تحت عنوان "تدهور الحضارة الغربية". شبنغلر يرى أن الحضارة هي كائن حي تمر في مرحلة طفولة فشباب فنضج فكهولة، ويرى أن الحضارة لها دستور أخلاقي يتمثل في العقيدة وقوة النفس، وأن الدستور الحضاري لا يعتمد العقل أبداً (وسأقول لماذا هذه المفاهيم) بل يعتمد الوجدان، وهذا الوجدان هو ممثل في الشعور لا بالحس وإن العقلانية في شتى مذاهبها هي فلسفة مدنية لا حضارية،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

20

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 ويفترض أن الحضارة عندما تدخل الطور العقلاني تبلغ خريف العمر وتشيخ وتهوي من ثم إلى درك المدنية ثم تتابع انحدارها إلى الانحلال. شبنغلر يشن حملة عنيفة على المدنية ويميزها عن الحضارة، وهو يفترض أن الحضارة تقوم على الصيرورة، بالإنكليزية "Becoming" كلمة "بيكامينغ"بالإنكليزية هي: فعل مستمر، بينما المدنية تقوم على تحول الصيرورة فيها من صيرورة إلى صير "Become" تصبح صيراً أي فعل حاضر بسيط فلا تقوم على الإبداع والاستمرار، وهو يرى أنه في حالة المدنية يمسي التاريخ طبيعةً، ويبدو الزمان مكاناً، والاتجاه امتداداً، والعلوم الروحية علوماً طبيعية، وتزول الصفة العضوية عن كل مفهوم وأمرٍ وشيءٍ ويتخشب كامل الوجود، (هنا أريد أن أصل إلى محل الدلالة) وتصبح الفخامة المادية والوفرة العددية صاحبتي الحول والطول، وتنحل الضمائر وتصبح العظمة تقاس بالباع والذراع وتقدر بالقنطار والذراع، فالعقل يقتل والفراغ يلد الموت. هذه نظريته باختصار، هو طبعاً كتب آلاف الصفحات، لكن في الخلاصة يرى أن هذه المواصفات تنطبق على الغرب، وهي تعكس وجود أزمة روحية كبيرة لأن الغرب تخطى مرحلة الحضارة إلى مرحلة الطور العقلاني من المدنية، فبات خالياً من الضمير وبات يقوم على المصالح الاقتصادية. وهذا الغرب يعيش نوعاً من حالة التخشب التي لا بد أن تفضي في لحظة من اللحظات إلى الانهيار الحضاري الشامل. 


توينبي وسقوط الحضارات

"توينبي" الذي هو ربما أوضح من "شبنغلر" يعالج لماذا تقوم الحضارات ولماذا تنهار هذه الحضارات. توينبي يرى بأن الأحوال الصعبة هي التي تولد الأعمال المجيدة. وهو يستدل على ذلك بالاستناد إلى دراسة 26 حضارة بقي منها ست حضارات، يرى بأن كل هذه الحضارات كانت تولد في قلب الأعمال الصعبة وما كان لحضارةٍ أن تولد إلا في قلب تحدٍٍ ما. هو يرى أن إذا كانت حضارة ما متطورة على المستوى الحربي أو متطورة على المستوى الفني لا تعني أن هذه الحضارة في حالة ارتقاء، فهذا لا يعني الارتقاء بتاتاً، إنما معيار الارتقاء الحضاري هو التسامي، وهو يحلل معنى التسامي بأنه عملية إطلاق طاقات المجتمع من عقالها لتستجيب 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

21

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 للتحديات التي تبدو بعد ذلك داخل النفس أكثر منها خارجها، أي أنها روحانية الطابع أعظم منها ماديةً وهذا الكلام إذا تلاحظون ينسجم كثيراً مع التحليل الديني في قراءة التطور والتغير الاجتماعي، ولكن المهم حقيقةً فيما يقوله "توينبي" أيضاً بأن من يؤسس الحضارة هي أقلية مبدعة تمتلك طاقات في مواجهة التحديات وتنقل تجربتها إلى المجتمع، وتولد الحضارة في رحم ذلك، لكن متى تنهار هذه الحضارة؟ تنهار هذه الحضارة عندما يتم ذلك في إطار ثلاث نقاط: 


النقطة الأولى: عندما يتم إخفاق الطاقة الإبداعية في الأقلية المبدعة لتتحول إلى أقلية مسيطرة، هذه نقطة جداً مهمة، النخبة المبدعة في المجتمع التي أقامت الحضارة عندما تتحول من أقلية مبدعة إلى أقلية مسيطرة تبدأ هذه الحضارة بالانهيار.

النقطة الثانية: أن ترد أغلبية المجتمع على طغيان الأقلية التي باتت مسيطرة بسحبها الولاء منها والعدول عن محاكاتها.

النقطة الثالثة: يستتبع فقدان الثقة بين أقلية المجتمع الحاكمة وأغلبيته المحكومة ضياع وحدة المجتمع فانهياره. لكن "توينبي" يلاحظ أنه في مرحلةٍ من المراحل تمتد الحضارة باتجاه تأسيس دولة عالمية، كما يجري تماماً الآن مع الولايات المتحدة التي تمتد بنفوذها الخارجي، يقول: إن هذا الامتداد لا يعكس صحة هذه الحضارة، إنما يحاول أن يخفي طبيعة الأزمات التي تعتمل في هذه الحضارة والتي تعاني منها هذه النخبة التي تحولت من موقع الإبداع إلى موقع التسلط والسيطرة. 

بول كندي وسقوط وصعود الحضارات

النموذج الثالث الغربي الذي يقرأ سقوط وصعود الحضارات كما أشرت قبلاً هو "بول كندي" الذي كتب كتابه في نهاية الثمانينات. وهو يحاول قراءة التطور السياسي والاستراتيجي الغربي من العام 1500للعام 1950م حتى أكثر إلى مرحلة كتابة الكتاب أي مرحلة نصف الثمانينات. وهو يدرس خمس دول عظمى كيف قامت وكيف سقطت. لكن الفكرة الأساسية التي يطرحها يمكن اختزالها بمصطلح هو "فرط الامتداد الاستراتيجي" أو "الإفراط في التوسع الإمبريالي". هو يلاحظ دائماً أن كل 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

22

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 القوى العظمى وهي في الطليعة، كانت تحاول أن تتوفر على أمرين: أن تحافظ على مستوى عالٍ من الثروة ومن ثم توظف هذه الثروة في إطار الإنفاق العسكري، ثم تعمل على توظيف الإنفاق العسكري في سبيل التوسع في الثروة. فهناك رابط وثيق بين التوسع الاقتصادي والتوسع الاستراتيجي العسكري، لكن في لحظةٍ من اللحظات تجد هذه القوى العظمى نفسها عاجزة عن الإحاطة بمختلف مصالحها التي توسعت فيها على المستوى العالمي عبر الحروب وابتكار مصالح ما وراء البحار في بلدان أخرى، فتضطر في ضوء أزمة اقتصادية نسبية أن تزيد من مستوى إنفاقها العسكري للحفاظ على مصالحها هذه، فهذا التناقض الذي يتولد بين مقومات النمو الاقتصادي وبين متطلبات الحفاظ على المصالح في ما وراء البحار، وهذا ما يسميه بالضبط فرط التوسع الاستراتيجي أو التوسع الإمبريالي الذي يعتبر المرض الأساسي الذي تحدث عنه مختلف المؤرخين فيما يتعلق بسقوط القوى العظمى.


وهذا بالضبط ينطبق على حالة الولايات المتحدة الأمريكية، لأنه يختم كتابه بفصل حول القوة رقم واحد الولايات المتحدة الأمريكية، ويرصد أن مختلف الأعراض التي مرّ بها الاتحاد السوفيتي تعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يرى إمكانية ما للتوفيق بين المتناقضين في هذه الموجبات على المستوى الاقتصادي وعلى المستوى الاستراتيجي التوسعي. 

القرآن الكريم وإهلاك الأمم

أمام هذه النظريات وأمام هذه المفاهيم، من الطبيعي بل من الأولى أن نقف مع القرآن الكريم، فالقرآن الكريم يتضمن عشرات الآيات التي تتحدث عن إهلاك قرونٍ سابقة وإهلاك أمم سابقة، وقسم من هذه الآيات يتحدث عن العوامل الغيبية في إهلاك الأمم كما هو الحال مع قوم عاد "وأما عاد فأهلكوا بريح صرصرٍ عاتيةٍ" الحاقة/6، لكن في صنف آخر من الآيات لا يتحدث عزّ وجلّ عن العامل الغيبي في إهلاك هذه الأمم، إنما يتحدث عن عوامل ذات طبيعة اجتماعية وسياسية واقتصادية، وأشهر هذه الآيات "وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدمير"الإسراء/16 وحسب كتب التفاسير أن الترف هو التوسع 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

23

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 في النعمة، وبحسب بعض التفاسير الأخرى المترف هو المتروك الذي يصنع ما يشاء ولا يُمنع، والنعمة إما أن تكون مقدرات اقتصادية وإما أن تكون مقدرات سياسية. لا أريد أن أدخل بمختلف كتب التفاسير التي تعالج هذا الأمر على نحو لطيف للغاية فيما يتعلق بكلمة أمرنا. هل هي أمرنا أم أمرّنا أم آمرنا؟ ولكل واحدة من هذه دلالاتها، لكن ما يتعلق بسياق بحثنا هو فقط ما يرتبط بمعنى الترف وهو التوسع في النعمة وفي توظيف النعمة. والترف هو موقع اقتصادي وسياسي مقترن باختلال أخلاقي، لأنه استخدام النعمة في غير المنفعة الحقيقية الذي من شأنه أن يفضي إلى تعاضد الأسباب والمسببات التي تؤدي إلى إهلاك أمةٍ ما أو مجتمعٍ ما أو قومٍ ما. 


عندما نريد أن نجمع كل هذه النظريات التي تحدثنا عنها: نظرية القرآن الكريم التي تتحدث عن الترف، ونظرية شبنغلر التي تحدثت عن الخواء الروحي أو الأزمة الروحية التي تدفع بالمجتمع إلى مرحلة التخشب وهذا المجتمع الذي يزهو بالعقلانية على حساب الوجدان، أو نظرية توينبي التي تتحدث عن وجود طبقة مسيطرة تنتقل من كونها طبقةً مبدعة إلى كونها طبقة مسيطرة (وهنا يستحضرني أن الاتحاد السوفيتي طبعاً انهار لأسبابٍ كثيرة لا مجال لتعدادها لكن واحدة من هذه الأسباب هي توسع الطبقة الانتهازية داخل البنى القيادية في الاتحاد السوفيتي". 

عملياً تَحوُّل الطبقة المبدعة التي تدفع بالمجتمع إلى الأمام إلى طبقة مسيطرة لا يهمها إلا أن تمارس السلطة والمصالح الخاصة. فإذاً هذه النظريات إضافة إلى نظرية بول كندي الواضحة تماماً التي تعالج الجانب الاستراتيجي في تطور الحضارات، نلاحظ أن كل هذه المعايير تنطبق على الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المرحلة. 

دراسة "غور فيدال"

ويكفي أن نعود إلى دراسة كتبها أيضاً قبل أشهر باحث أميركي شهير جداً وهو "غور فيدال" تبيِّن إلى أي مدى تقوم هذه الإدارة على خدمة مجموعة من الشركات المتعددة الجنسيات وهي تخوض حروباً عالمية في 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

24

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 سبيل مصالح هذه الشركات وليس مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، إضافةً إلى أن الخطاب الانتخابي والسجال الانتخابي الذي شهدته أمريكا إبان الانتخابات الأخيرة التي نجح فيها بوش الابن تحدث صراحةً أن بوش الابن يعكس مصالح الشركات المتعددة الجنسيات ولا يعكس مصالح المجتمع الأمريكي نفسه، بمعنى من المعاني أنه يمكن أن تنطبق على هذه الإدارة توصيف توينبي في تحولها من أقليةٍ مبدعة تقوم بسوس المجتمع إلى أقلية مسيطرة تمارس مصالحها الخاصة. لكن كي تكتمل عملية السقوط التي تحدث عنها توينبي المطلوب خطوة غير متوفرة في المجتمع الأمريكي في هذه المرحلة وهي قيام المجتمع ( أي ما يسميه توينبي بالبروليتارية الداخلية) وليس حسب مفهوم البروليتارية الماركسية، بسحب الثقة من هذه الأقلية والانقلاب عليها وخوض صراع معها، هذا ليس قائماً الآن في المجتمع الأمريكي. لكن هناك أيضاً دراسات أخرى تعتبر إذا ما أخفقت حرب العراق ستولد سؤالاً داخل المجتمع الأمريكي: من المسؤول عن دفع أمريكا في هذه المعمعة التي ستستنزف أميركا اقتصادياً وعسكرياً، وبالتالي سيُحمَّل اليهود مسؤولية هذه المعمعة، وهذا تكرار لتجربة سبق أن مرَّت بها أوروبا الشرقية وأدَّت إلى موجة معادات للسامية. هذه هي الخطوة التالية التي ليست حاصلة الآن في المجتمع الأمريكي. لكن من شأن الأزمات الدولية القائمة الآن أن تولد ربما، وهذا احتمال، هذا السؤال في المجتمع الأمريكي وأن تندفع التطورات في هذا الاتجاه.


ما يجري في العراق ومبادئ الاستراتيجية الأمريكية

لكن إذا أردت أن أنتقل من إطار فلسفة التاريخ إلى معالجة ما يجري على المستوى العراقي في هذه المرحلة، نحن نعرف أيها الإخوة بأن ما يجري في العراق حقيقةً هو لا يرتبط فقط بالملف العراقي، هذا من أبده البديهيات، ما يجري في العراق هو مقدمة لإعادة تشكيل النظام الإقليمي برمته. وإعادة رسم الشرق الأوسط بأكمله. 

ورسم خريطة الشرق الأوسط هو تكريس أو بداية تكريس للنظام الدولي الذي أعلنته أمريكا إبان حرب الخليج الأولى في العام 1991 ولم تتمكن من صوغه وقتذاك. المعركة الدائرة الآن هي محاولة استكمال لهذا النظام 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

25

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 الدولي الذي أُعلن ولم يطبق، لذلك العامل الاقتصادي هو واحد من جملة عوامل تشكل استراتيجية كاملة الآن ولا يمكن فهم السياسة الأمريكية خارجها، هنا أردكم إلى وثيقة الأمن الاستراتيجي الأميركي التي نشرت في آخر الصيف الماضي والتي تحدثت عن أن استراتيجية أمريكا تجاه النظام الدولي تقوم على ثلاثة مبادئ:


أولاً: أن زعامة العالم هي للولايات المتحدة الأمريكية، وممنوع أن تولد قوة أخرى حتى بين الأصدقاء من شأنها أن تنافس أميركا على موقعها الزعامي.

المبدأ الثاني: هو شرعنة الحرب الوقائية أو الاستباقية والحرب الاستباقية هي غير الحرب الوقائية، في الحرب الوقائية يوجد عدو مشخص يحضر نفسه للحرب يجاز لهذه القوة أن تضربه قبل أن يضرب هو. الحرب الاستباقية هي تقوم على افتراضات بحت، أي أن تضرب من تفترضه أنه يمكن أن يتطور إلى حالة عدو مستقبلاً، دون أن يكون هناك أدلة قائمة في هذه المرحلة. 

المبدأ الثالث: التي انطوت عليه وثيقة الأمن الاستراتيجي هو أنه يحق لأمريكا أن تتحرك دون العودة للأمم المتحدة. إذاً في هذه الحرب هذه هي الأهداف الأمريكية الحقيقية، لذلك في هذه الحرب ليس هناك إمكانية لخيارات أخرى إلا أن تكمل أمريكا حتى النهاية مهما تطلب هذا الأمر من خسائر وتضحيات وأثمان قد تبدو مستهجنة على المستوى الدولي. اليوم ضرب الأمريكيون مقر الإعلام هذه المسألة ليست عبثاً، في الأمس ضرب موكب السفير السوفيتي هذه المسألة مقصودة، مستوى الخسائر الذي يلحق بالمدنيين العراقيين هذا الأمر جزء من استراتيجية الحرب التي تقوم على كسبها مهما كلف الأمر. 

معايير المرحلة الامبريالية

ما أود قوله أن المعايير التي تنطبق على السياسة الأمريكية في هذه المرحلة هي معايير إمبريالية، الآن توصف السياسة الأمريكية بأنها سياسة إمبراطورية أي أنها تطورت من مرحلة القوة العظمى إلى مرحلة الإمبريالية، هذه المرحلة الإمبريالية تقوم بالإضافة إلى كل ما ذكرت على مجموعة من المعايير هي التالية: 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

26

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 المعيار الأول: حل النزاعات الدولية من خلال العمليات العسكرية واستخدام الجيوش الجرارة، أمريكا خاضت إلى حد الآن خلال اثنتي عشر سنة أربعة حروب: حرب الخليج الأولى، كوسوفو والبلقان، حرب أفغانستان، والآن تخوض حرب الخليج الثالثة. 


المعيار الثاني: هو الاستخفاف بمصالح الحلفاء وهذا ما يدل عليه التناقض مع المصالح الأوروبية لأنه عندما تبلغ هذه القوة المرحلة الإمبريالية في رسم السياسات والاستراتيجيات الدولية لا تعود تكترث بمصالح حلفائها.

المعيار الثالث: هو امتلاك حق التصنيف أو حق الشرعية الدولية، بمعنى أن أمريكا الآن هي التي تصنف من هو إرهابي وغير إرهابي، أمريكا الآن تتحدث عن دول مارقة، وأمريكا تتحدث عن محور خير ومحور شر، وأمريكا تتحدث الآن عن هيمنة حميدة. في الفكر الاستراتيجي الأمريكي يتحدثون عن هيمنة حميدة بمعنى أن هناك دول هي: "Failed States" أي الدول المتعثرة التي يحق للولايات المتحدة الأمريكية أن تمارس عليها نوع من الهيمنة الحميدة التي تشبه فكرة الانتداب التي كانت قائمة في بداية القرن الماضي، وفي سبيل ألاّ يؤدي تعثر هذه الدول إلى سقوطها وبالتالي تهديد السلم والأمن الدوليين. إذاً هذه المعايير كلها ما يسم السياسة الأمريكية في هذه المرحلة بالسياسة الإمبريالية. 

الحرب تحتمل خيارين متناقضين

ما أود أن أخلص إليه فيما يتعلق بالحرب العراقية الأمريكية الدائرة الآن أن هذه الحرب تحتمل خيارين متناقضين غاية التناقض، إذ يمكن لحرب أمريكا على العراق أن تشكل بداية انحدار مريع في الواقع العربي بما يفضي إلى تطبيق المشروع الأمريكي، والانتقال من العراق إلى ملفات أخرى حيث يرجح أن يكون الملف الثاني هو الملف الفلسطيني، ومن ثم يستخدم الملف الفلسطيني أي التسوية للهجوم على سوريا على أساس أنها ضد معسكر السلام وضد الحل في فلسطين، فيمكن لهذا الخيار أن يكون خيار انحدار في الواقع العربي. ومن ناحية أخرى يمكن لهذه الحرب على الضد تماماً أن تشكل بداية انهيار في الموقع الزعامي للولايات المتحدة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

27

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 الأمريكية على المستوى العالمي، لكن الخيار الثاني طبعاً الذي نأمل أنه هو الذي يطبق يرتبط بشرطين كبيرين: هما توفر إرادة محلية عراقية شعبية عراقية، وتوفر بيئة إقليمية استراتيجية مؤاتية تناوئ السياسة الأمريكية على المستوى الاستراتيجي، في حالة التقاء هاتين الإرادتين، المشروع العراقي الوطني إذا أراد أن يقاوم الولايات المتحدة الأمريكية والمشروع الإقليمي الاستراتيجي الإيراني - السوري – اللبناني الممانع للسياسة الأمريكية يتوفر العامل الذاتي والموضوعي لتحويل العراق من كونه خاصرة رخوة في بنية الواقع السياسي العربي إلى كونه كميناً تاريخياً للولايات المتحدة الأمريكية. 


الكمين التاريخي

وهذا ما يربط نهاية الحديث ببدايته حيث كانت كل قوة عظمى تقع في كمين تاريخي يفضي إلى هبوط هذه القوة في مسار الانحدار الاستراتيجي المتتالي، لذلك، يبدو أن الأمريكيين سيتمكنون في نهاية الأمر بمستوى من الخسائر المرتفع وبمستوى من الضحايا البشرية والمادية الهائل من أن يقضوا على النظام العراقي القائم، لكن هذا لا يشكل نهاية الشوط، لأن ما يجري الآن من حيث حجم الاستهداف القائم، حجم الاحتقان والخسائر التي يتكبدها المجتمع العراقي، حجم التدمير المنهجي الذي يتعرض له العراق كدولة وكيان، ومن ثم عجز الولايات المتحدة الأمريكية عن الإحاطة بتناقضات المجتمع العراقي المعقدة جداً، وعدم قدرتها منذ ما قبل الحرب على توظيف كل المعارضة العراقية في إطار مشروعها. كل ذلك من شأنه أن يشكل عوامل كاملة تسهل إمكانية أن يولد هذا الكمين التاريخي. لذلك حتى في حالة افتراض سقوط هذا النظام هذا لا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية انتصرت سياسياً، الانتصار العسكري في هذه المعركة لا يعني انتصاراً سياسياً بل على العكس من ذلك، حتى في هذه اللحظة أمريكا خسرت نصف خسارة سياسية لأن حجم المقاومة التي ظهرت في المجتمع العراقي، هو الذي جوّف هذه المعركة من إمكانياتها التوظيفية الأخرى في ترهيب الدول والمواقع الأخرى في مرحلةٍ لاحقة، لذلك فرصة أن يكون العراق الكمين التاريخي للولايات المتحدة الأمريكية 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

28

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 بمعنى أن يتحول العراق إلى بيئة استنزاف على غرار الدور الذي كان يؤديه لبنان في الحسابات الأمريكية لاستنزاف سوريا والمقاومة والفلسطينيين والقوى الوطنية يمكن للعراق مستقبلاً أن يلعب دور المستنقع الذي يستنزف الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك من شأنه أن يؤدي أو أن يفسح المجال أمام تحولات استراتيجية في مجمل واقع المواجهة، وفي مجمل واقع وحسابات وتوازنات الواقع الشرق أوسطي. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 

 

 

 

 

 

 

 

32


29

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 المداخلات في الندوة الفكرية 

 
المداخلة الأولى: للشيخ أحمد مراد1
 
نشكر الدكتور على هذه المحاضرة القيّمة التي بالفعل استفدنا منها. هناك أمر أود أن أستفهم عنه من حضرتكم، بدون أي خلفية، يعني لا يفهم أنه سؤال ممكن أن يكون له طابع استفزازي، أو شيء من هذا القبيل، وإنما للاستفادة والأخذ من حضرتكم. 
 
بعض الكتاب وبعض المحللين عندما كنا نقرأ لهم في هذه الفترة بالنسبة للموقف المحترم والجيد للكنيسة كان يضع هذا الموقف في سياق حماية المسيحيين في الشرق، مما يمكن أن يكون له تداعيات خطيرة سوف تجري ونشهد نحن الآن بداياتها، يعني فيما تقوم به أميركا، وليس هذا أمر مبني على فهم واقعي وعميق للخطر الكامن في هذه الهجمة، ونحن نعلم في عدة موارد في معركة أفغانستان والأمريكان هناك الكثير من المناطق المسيحية أو الكنائس المسيحية تعرضت لاعتداءات نتيجة ردات الفعل، ونحن نستنكرها وندينها، فبعض المحللين أنا قرأت لهم أنّ هذا الموقف في سياق حماية المسيحيين في الشرق، لأن أي موقف لا يكون في هذا الإطار سوف يؤدي إلى تصاعد حالات العداء ضد المسيحيين، ويمكن هذا الأمر أن يصل لا سمح الله إلى أشياء .. وقرأنا لبعضهم استدلالاً على هذا الطرح وأنا منكم أريد أن أتعرض بالحقيقة عن موقف الكنيسة، قبل هذه المرحلة، فلننسى مرحلة دخول أميركا وما استتبعته من معطيات جديدة جعلت 
 
 
 

1- عضو اللجنة الثقافية في حزب الله في منطقة الجنوب.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

30

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 كثيراً من الناس أو من المواقع الفكرية أو الكنسية أو الدينية تقف بوجهها، يقول بعض المحللين أن تأثير العامل اليهودي بشكل خاص في الكنيسة قوي جداً، نحن نذكر أنه قبل فترة هذه المعمعة كانت الكنيسة إذا حصلت عملية في فلسطين مباشرة الكنيسة تتفاعل مع الادعاء اليهودي، بأنه مثلاً اعتدي على مستوطنين فتستنكر بشدة وبقوة، بحيث يفهم منها أن الكنيسة بانفتاحها وبتواصلها مع الواقع اليهودي أصبحت أكثر قوةً وارتباطاً من العرض الذي حضرتك تفضلت به، وأشرت إلى تناقض جذري ما بين المشروع اليهودي القائم على العنصرية والقائم على القهر والقائم على التسلط وبين الدعوة المسيحية الدينية القائمة على المحبة، والتي نحن نعتقد بها. 


بالحقيقة هناك جملة معطيات، يعني أريد أن أسأل إلى أي مدى أنتم تقدّرون أنه يوجد تأثير ولا أريد أن أدخل ببعض التفاصيل التي يمكن أن تكون أكثر حسيةً كي لا نتوسع ولكن إلى أي مدى وما هي الركيزة التي تجعل الكنيسة متأثرة في الانفتاح وفي التعاطي مع اليهود بطريقة إيجابية؟ أعطي مثالاً لا بد منه، عند محاصرة كنيسة المهد لم نلاحظ الهيجان الذي ينبغي أن يكون عند الكنيسة، خاصة في شخصية البابا الكبيرة والمؤتمنة على الكنيسة في العالم، بينما مثلاً نلاحظ أنه في مواقع أخرى الآن فرضاً النجف الأشرف متعرضة لنوع من القهر نجد ردة فعل قوية يمكن أن تتفاعل أكثر بطريقة أو بأخرى، نريد أن نعرف بالتحديد، ما السبب في ضعف الكنيسة بموقعها الكبير والمهم في هذا العالم في الشرق تجاه العامل اليهودي؟ ولماذا هذا الموقف فقط في هذه المرحلة اتخذته الكنيسة؟ وهل هي بالفعل لحماية المسيحيين بالشرق من هذه التداعيات؟ بينما في الواقع هي يمكن أن تعتبر أن هذا المشروع يفتح أمامها آفاق معينة أو لا؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

31

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 المداخلة الثانية: للدكتور مسعود الشابي1

 
إن المحاضرتين كانتا مفيدتين جدا،ً وأسجل بعض الملاحظات على محاضرة الحاج علي، ليست ملاحظات، ربما إضافات، بالنسبة لنظرية تدهور الحضارة لدى شبنغلر ولدى توينبي فيلاحظ بأن كل منهما تأثر بنظرية ابن خلدون في الدولة، حتى في قصة النخبة هي موجودة في نظرية ابن خلدون فيما يخص العصبية، أي أنّ ابن خلدون عالج كيف أن عصبية الدولة تشيخ أيضاً وبالتالي الدولة تشيخ معها، وأنا كنت أتمنى من الدكتور علي أن يربط ما قاله كلٌ من شبنغلر وتوينبي بنظرية ابن خلدون في الدولة .
 
الأمر الثاني هو أني أريد أن أطرح سؤالاً : هو أن شبنغلر كتب كتابه في العشرينات حول سقوط الحضارة الغربية، وفي الحقيقة أن الحضارة الغربية سقطت في الحربين الأولى والثانية حقيقةً، وتوينبي كان المعبِّر الثاني عن تدهور وسقوط الحضارة الغربية، ولكن الذي حصل أنه لم يسقط الغرب كله، كانت أميركا هي امتداد للحضارة الغربية، وهذا ليس غريباً، وأريد أن ألفت الانتباه أنّ له مثيلاً في الحضارة العربية الإسلامية، يعني المغول الذين هجموا علينا، على الإسلام، ولكنهم في الأخير اعتنقوا الإسلام، وكانوا هم الناشرين له في آسيا، وكأن أمريكا هي الآن تمثل المغول، يعني بالنسبة للوظيفة القائمة بها كأنها المغول الذين تأثروا بالحضارة العربية الإسلامية وصاروا هم القوة المصادمة لنا نحن كمنطقة وكحضارة، أريد أن ألفت إلى هذه النقطة فيما يخص تطور الحضارة. 
 
النقطة الأخرى التي أود لفت النظر إليها هي: النخبة اليهودية ، النخبة اليهودية كانت في المجتمع الأمريكي فعلاً هي نخبة ضد العنصرية، كان لديها تحالفات في داخل المجتمع الأمريكي غير تحالفاتها الآن، كانت النخبة اليهودية مع اليسار، كانت تصوّت في أغلب الأحيان للديمقراطيين وليس للجمهوريين، الآن النخبة اليهودية تحولت إلى اليمين، وصارت هي 
 
 
 

1- من تونس باحث في الفكر السياسي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

32

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 واليمين ليس فقط اليمين المعتدل وإنما أيضاً اليمين المتطرف، وهذا معناه أن الصهيونية في أميركا تطورت من نخبة مبدعة لأنها كانت مع الحق مع العدالة مع كل القيم الحميدة، الآن النخبة اليهودية تحولت إلى نخبة مسيطرة، وبدأت هذه السيطرة من عهد كلينتون في كون اليهود مسكوا المفاتيح الأساسية للسلطة في أمريكا، والآن أيضاً ذات الشيء انحصرت السلطة في أمريكا في وزارة الدفاع، وأغلب المسيطرين على وزارة الدفاع هم يهود كانوا يساريين في الستينات والآن أصبحوا في اليمين، وهذا يجعل الذي أشار له الدكتور علي ينطبق.

 
المداخلة الثالثة: للدكتور حسن البنّا1
 
هناك نقطة أود أن أوجّهها إلى القس رياض جرجور حول قضية المنهجية العلمية، وأنا أحبذ هذه الفكرة في تناول القضايا لكي لا تضيع منا المسائل. حضرتكم ذكرتم وفق المنهجية العلمية مراحل تطور الفكر الصهيوني المسيحي الذي امتد مع عدة قوى وإمبراطوريات، بدءً من القديم حتى الوقت الأمريكي الراهن، وعلى امتداد المحاضرة تمّ التأكيد على قضية السفارة المسيحية الصهيونية الموجودة في القدس، كل المقال كان حول هذا الموضوع، وعلى ما أعتقد الذي هو من النسخة التي أمام حضرتك التي فيها أمور كثيرة جداً متوفرة في هذا الكتيب. 
 
ما أود التركيز عليه أن الفكر المسيحي برمته سواء كان بمذاهبه الثلاثة البروتستانتينية والكاثوليكية، والأرثوذكسية وأنا لا أجمع الفكر الأرثوذكسي أو المذهب الأرثوذكسي ضمن هذه الدائرة التي كان من المفترض أن يتم التأكيد على أن الفكر البروتستانتي منذ حركة التطهير التي قامت في القرن السابع عشر وما بعده هذه الفكرة هي التي أحيت فكرة الدولة اليهودية من القرن السابع عشر، وليس من عهد "تيودور هرتزل" حتى أن هرتزل ضُغِطَ عليه إلى أنه وعد البابا بايوس الحادي عشر على أنه سوف يقوم بتنصير أبناء اليهود وتحويلهم إلى المسيحية في الخطاب الذي كان مشهوراً، ولا أريد أن أتعرض إلى تفاصيل، هذا من ناحية، إذاً رقم واحد 
 
 
 

1- من مصر باحث في الفكر الفلسفي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

33

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 من حيث المنهجية العلمية كنا نود أن نسمع فكر المذهب البروتستانتي الذي يقع على رأسه بوش الابن حينما خرج، والكلام ليس لي، لكن الكلام لجيمي كارتر حينما أوضح أن بوش الابن خرج من جمعية المعمدانيين للصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية وأعلن خارطة الطريق التي تبشر بنشر الإنجيل في شرق آسيا والعالم الإسلامي هذه واحدة. 

 
وثانياً: كان ينبغي التركيز على أن الكاثوليكية المذهب الكاثوليكي بقيادة البابا وبقيادة الفاتيكان وهذا الكلام ليس كلاماً عنصرياً أو أصولياً متطرفا،ً أنا أؤمن أن منهم قسيسين ورهباناً تفيض أعينهم من الدمع، أؤمن بأن المسيحية فيهم رجال لا يتبعون بوش ولكن يتبعون السيد المسيح، وأتكلم من موقع معتدل جداً، لكن الاعتدال لا يلغي عليَّ أن أقارب المنهجية من خلال التطورات التي نشأت في الفاتيكان، حينما قام الفاتيكان بتحويل الديني إلى سياسي وتمّ باستخدام السياسة البراجماتية على مستوى الكنائس الكاثوليكية وتمّ التحول إلى أن تمّ اعتراف الفاتيكان بدولة إسرائيل، وتمّ اعتراف الفاتيكان على لسان الباباوات البابا بولس السادس والبابا يوحنا ومعظم الباباوات الذين كانوا موجودين، وأنا لا أريد أن أرجع إلى أرشيف الفاتيكان الصادر عن مركز دراسات (سولفاتورو رومانو) لا أريد أن أدخل في سجالات حول هل أن هذا الكلام حصل أم لم يحصل؟ ولكن أنا لدي من الوثائق ما يدعم هذا الاتجاه باعتراف الفاتيكان وخاصة الكنائس الكاثوليكية بالحقوق المشروعة لليهود في فلسطين وفي القدس من الناحية التاريخية ومن الناحية الدينية وقد مزج الديني بالسياسي. 
 
المداخلة الرابعة: للأستاذ وليد محمد علي1
 
أنا أولاً أشكر كثيراً الدكتور جرجور، وأحيِّ الدور الذي يلعبه مجلس كنائس الشرق الأوسط في فضح الصهيونية المسيحية، وبصراحة هو دور متقدم على أدوار الجميع في هذا القبيل. ولكن يوجد نقطة لا أدري ما هي 
 
 
 

1- من فلسطين مدير مركز باحث.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

34

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 الحكمة فيها، تجاوز الدور الذي لعب فيه الإصلاح الديني "مارتن لوثر"في التفسير الحرفي للعهد القديم كمدخلٍ لفهم العقيدة، أعتقد أن هذه المسألة لعبت دوراً. 

 
والمسألة الأخرى هي موضوع الصهيونية المسيحية، كما يوجد صهيو مسيحية يوجد صهيو يهودية، ومن الغرائب ومن أقطاب الصهيونية المسيحية والذي أعطى وعد بلفور "أرثر بلفور"كان عام 1905 رئيس وزراء بريطانيا وكان وراء القرار الصادر بمنع اليهود من العمل في بريطانيا، يعني هم من الأعداء للسامية، إذن المسألة مسألة مصالح اقتصادية يُستَغل فيها الدين استغلالاً لخدمتهـم. 
 
النقطة الأخرى التي أحب أن أشير إليها في موضوع الأطروحة القيّمة التي تحدث فيها الدكتور علي وهي موضوع الحضارات، نعم أنا أتفق مع الملاحظة التي قالها الدكتور مسعود حول ابن خلدون، بعد أطروحات العشرينات اقترح "ماكس فيبر" نهاية الثلث الأخير من القرن الماضي 1935 أطروحة الترشيد، الترشيد هو فعلاً يحكم العقل الغربي وبنية العقل الغربي الأمريكي في هذه المرحلة، بمعنى أنهم يريدون أن يرشّدوا العقل البشري وفقاً لرؤيتهم ووفقاً لرؤية مصالحهم، لكن منذ ذلك الوقت ومراكز الدراسات البحثية الاستراتيجية والتي تصرف عليها الولايات المتحدة المبالغ الطائلة أو الشركات بالأحرى المسيطرة عليها الولايات المتحدة تدرس العثرات، وتدرس هذه الأفكار لترى كيف تجدد ذاتها، كما نجحت على أثر كتابات توينبي وكتابات العشرينات بتحديد ما سمي بالرأسمالية العالمية إلى أنهم يلجأون إلى موضوع عولمة الاقتصاد، عولمة الأمن، لتصبح الشركات عابرة القارات هي المهيمنة وليس الدول، لأجل ذلك الموضوع الذي أشار له الدكتور علي في النهاية أنه يوجد وعي، أصبح في الولايات المتحدة مظاهرات الأمس وقبل الأمس واليوم هي أمام الشركات يفتهمها المتظاهرون أن الحرب لمصلحتها وهي التي تعمل لتغذية هذه الحرب من شركات النفط التابعة " لديك تشيني" التي هي تشعل النفط لتطفئه وتأخذ المليارات المقررة 75 مليار دولار وصولاً إلى شركات السلاح غير شركات النفط إذن يحاولون أن يسعوا لتجاوز مأزق ، والمأزق الذي فعلاً هم وصلوا إليه كما رأى كثير من المحللين ومن المفكرين 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

35

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 بمحاولة عولمة الاقتصاد والأمن لتجاوز هذا المأزق. 

 
المسألة الأساسية إيقاعهم بما يسمى بالكمين التاريخي، وهذه تماماً راكبة في عقلي، هي المشروع الآخر في مواجهة ذاك المشروع، إذ ذاك المشروع يُشَيِّء الإنسان ولا يرى في الإنسان قيمة بذاته بل يرى أن الإنسان ممكن أن يستخدم لخدمة أغراضه، هو أداة ووسيلة مثل غيره للاستخدام، لا بد من إطلاق المشروع الذي أساسه الإنسان كقيمة بذاته، أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، إذا لم نستولد هذا المشروع القائم على أساس قيمة الإنسان بذاته تصبح المعالجات معالجات جزئية قد تصب في الخانة. 
 
وهناك نقطة نسيت أن أقولها هي موضوع الأرقام، وهو الموضوع الذي أثاره الدكتور رياض بموضوع نسبة المسيحية المعمدانية والتي تشكل الصهيونية المسيحية، اللوبي جزء صهيو مسيحية وجزء صهيو يهودية وهذا هو اللوبي، العدد الذي قاله محمد هو عدد يسعون من أجل ترويجه، يضخم عددهم، وهو عدد لا يتجاوز 13% من مجموع الشعب الأمريكي ولأصواتهم، ولكنهم منظمين جداً، ويمتلكون حوالي 65% من وسائل الإعلام، وتدعمهم إمكانات مالية هائلة، بحيث يتحكمون بالدورة الانتخابية في الولايات المتحدة التي تشترط إمكانيات مالية هائلة للمرشحين، وهم يلعبون دوراً في إيصال الناس إلى الهيئات القيادية في الولايات المتحدة بما يملكون من مال وسيطرتهم على وسائل الإعلام وعلى مراكز البحث والدراسات والتي للأسف نحن لا نوليها الاهتمام المطلوب وشكراً.
 
المداخلة الخامسة: للدكتور علي الخطيب1
 
اليوم هو يوم الصوم عند الإخوة المسيحيين نسأل الله أن يتقبل من الجميع. 
 
لكي لا نقع في الكمين الذي تفضل به الدكتور علي لا بد من حوار إسلامي مسيحي، لا بد من تحالف إسلامي مسيحي، والذي قاله سماحة 
 
 
 
 

1-استاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

 


36

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 السيد حسن نصر الله ليس جديداً على أبناء الإسلام المحمدي الأصيل، الإسلام الذي بدأ مع محمد وعلي والحسين واستمر بدماء الحسينيين في جبل عامل. 


نرجع إلى الإمام موسى الصدر المظلوم الأكبر الذي في يوم الصوم مثل هذه الأيام خطب في كنيسة الكبوشيين، ماذا قال؟ إن الإسلام عقيدة راسخة ومنهج حياة يغني من يريد أن يحفظ النص، لكن في الخلاصة يقول الإمام الصدر المظلوم الساكن في سجون الصهيونية المسلمة كما قال السيد المسيح لا يجتمع حب الله مع كره الإنسان، وكما قال الحبر الأعظم بمناسبة الصيام إن المسيح والفقير شخص واحد، إذا كان نص الإسلام المحمدي الأصيل هو التحالف الإسلامي المسيحي سؤالي الآن؟ هل من إمكانية للكنائس وللمساجد ولمراكز الدراسات أن تتعاون في كشف مصير إمام أسس الحوار الإسلامي المسيحي على حسابه الشخصي، أسس لمجتمع العالم المؤمن على حساب مصالحه، ذاب في الإنسان، ذاب في الآخر، ذاب في قيمة الإنسان، بحيث أنه منذ 24 سنة ثمانية آلاف وتسعمائة يوم هو في السجن ونحن نفكر من أين نبدأ، نبدأ بإعادته إلى مركزه في لبنان ليشع لبنان المسيحي المسلم على العالم أجمع، وبالتحالف الإسلامي المسيحي سنقضي على إسرائيل، وستنهار أميركا، لأن هذين الاستعمارين الاستيطانيين هما باطلان وعرض وكل عرض زائل والسلام عليكم. 

المداخلة السادسة: للشاعر محمد علي فرحات

بسم الله الرحمن الرحيم. ونحن دولة مواجهة مباشرة مع إسرائيل، في الإطار الإسلامي المسيحي المطروح أسأل سيادة القس الكريم، المسيحيون لهم مواقف سلبية ماضية إذ استقبلوا الإسرائيليين، أنا لا أقول هذا مستفزاً سيادتكم ولكن أقول الحقيقة، ثم أجد أن لهم نوعاً من الانعزال عن المد العربي أو القومي أو الشعور القومي أو النفور من الشعور القومي أو الانعزال عن الشعور القومي وهذا واضح في الفئة السحيقة منهم ليس أكثرهم ولا نتهم. 

فالمسيح هو ابن الإنسان كل إنسان، والأرض في عروش المسيحية هي مائدة الرب كل الأرض، فلماذا يتجنب المسيحيون الوحدة الوطنية المطلقة، 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

37

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 الوحدة العربية؟ والبابا أيضاً الحبر الأعظم لماذا لا يقوم بإدخال سلطته الكبرى والمؤثرة بخدمات جلة للإنسانية يكون لها أثر فعال؟ فهل الدين المسيحي في خدمة الأفراد والأقليميات أم هو في خدمة الإنسان؟ 

 
والسؤال الآخر إذا سمحتم فقط للدكتور علي فياض، نحن إذا لاحظنا واستقرأنا التاريخ والحضارات الماضية من القديم إلى الآن لقد مرّت الأديان كلها والأفكار والفلسفات من اليونان إلى الإسلام فالمسيحية إلى الغرب ونجد أن هذه الفلسفات والأفكار السامية تمشي والحروب بخط متوازن، فنحن لا نعلم، هل نحن الآن في العالم كل العالم الحضاري يعيش مراهقة فكرية قد تصل في المستقبل إلى رشد أم تجد أنك ترى من خلال رؤيتك أن العالم يتجه نحو الأسوأ؟ والسؤال لماذا لم تؤثر الأديان وفلسفات الإنسان؟ أو لماذا لم يفهم الإنسان أو لم يتأثر الإنسان بهذه الأفكار السامية ؟
 
سؤال من الأخ فادي خليفة1:
 
السؤال موجّه لجناب الدكتور الأب رياض جرجور، المجتمع الأمريكي ونظامه السياسي نظام يدعو إلى فصل الدين عن الدولة، كيف يمكن لنا أن نفسِّر أنّ قيام التيار الديني القوي الذي على أساسه صُعِدَ إلى الحكم، وكأنهم دمجوا الدين بالدولة، كيف يمكن أن نفسِّر هذه الأمور؟ هل يوجد متغيرات تجري في داخل المجتمع الأمريكي لقبول فكرة إعادة دمج الدين مع الدولة؟. 
 
السؤال الثاني للأخ الدكتور علي، يعني بموضوع انهيار الحضارات لا أعرف، أنا أتكهن، وممكن أن تصحح لي، إنّ انهيار الحضارات السابقة يعني مسهلاتها، إن هذه الحضارات التي كانت قائمة لم يكن فيها مؤسسات تدير المجتمع وحركة المجتمع وإذا كان هذا الأمر صحيحاً الولايات المتحدة من المعروف أن النظام غير مبني على أشخاص وأفراد ولكن مبني على مؤسسات، ما هو احتمال انهيار الحضارة الأمريكية من الداخل في ظل وجود مؤسسات قوية تدير المجتمع غير مرتبطة بأشخاص وأفراد وشكراً.
 
سؤال من الشيخ مجد الخير (من سوريا)
 
فقط أريد أن أسأل، عادة نحن نتكلم في التنظير والدراسات، المهم ما الذي يجري في الواقع، لا نتكلم عن فكر مقاومة، حالياً دخل الأمريكان إلى 
 
 
 

1-أحد الحضور.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

38

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 العراق والعراق انتهى، ماذا يجب علينا أن نفعل في حال دخوله إلى دولة أخرى هذا المشروع الأمريكي؟ وشكراً.


تعقيب القس رياض جرجور

أنا أريد أن أجيب باختصار شديد، وسأبدأ بالسؤال الأخير، لا شك أنّ في أمريكا إذا نزعنا مفهوم دولة إسرائيل والمسيحية الصهيونية، ترى أنه بالفعل يوجد فصل بين السياسة والدين. الكنائس لا تتعاطى في الكثير من السياسة في أميركا، وأنا عشت في أميركا لفترة من الزمن لم أرَ خلالها أنه يوجد هذا التداخل العنيف، لكن لا شك أنه يوجد مصالح خاصة، مصالح سياسية ومصالح اقتصادية، ومعظم جماعة اليمين المسيحي هم يشكلون مجموعة ثرية في أميركا هي بالفعل قادرة على أن تؤثر في مجرى السياسة. وهذه أمور لوحظت في السنوات العشر الأخيرة. في الحقيقة ( خود سويغرت ، وبات روبنسون ، وجيري فالويل ) هذه المجموعات التي هي اليوم مالكة لوسائل الإعلام مثل ما تفضل الأخ. 

نحن أيضاً العرب مشكلتنا الكبيرة أنه إذا كان لدينا مال لا نشتري به إلا جزيرة مثلاً أو سيارة بأربعمائة ألف دولار، لكن إذا رأينا دار إعلام خاسرة لا نسعى لأجلها، وإنما يسعى لها اليهودي ليشتريها حتى يبث من خلالها ما يريد. 

طبعاً يوجد فصل بين الديني والسياسي، ولكن استخدم الدين لخدمة المصالح الإسرائيلية لأنه استطاع اليهود واللوبي الصهيوني بنشاطاته أن يدخل هذا اليمين في السياسة الأمريكية ويمشيها مثل ما كان. وإذا رأينا اليوم وأظن أن الدكتور علي يعرف أكثر مني، أنا لست سياسياً كثيراً، إذا تلاحظون من هم اليوم الذين يشتغلون في البيت الأبيض، في الإدارة الأمريكية، المنسق في البيت الأبيض "آري فلايشر" يهودي لديه جواز سفر إسرائيلي، وشخص آخر كان لديه مهام وحتى الحاكم الذي يريدون تعيينه في العراق اليوم "جون غارنر"، لاحظوا أنه استطاع اللوبي الصهيوني أن يؤثر في السياسة الأمريكية عن طريق اليمين المسيحي التي أنا ذكرتها بوضوح ما الذي كان سببها. 

نعود إلى موضوع الوحدة الوطنية، أنا أعتقد أنهم طول عمرهم 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

39

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 المسيحيين في الوطن العربي عملوا على موضوع تثبيت الوحدة الوطنية، يمكن في لبنان كان هناك خبرة تختلف للبعض، لكن في العالم العربي في معظم العالم العربي نرى أنهم هم من النواة التي كانت تنادي بالوحدة الوطنية والقومية العربية، وكلهم ناضلوا، ولا نستطيع أن نفرّق وهناك أمثلة على ذلك. وأعتقد أن الدين المسيحي لم يكن في يوم من الأيام في خدمة الفرد بقدر ما هو في خدمة الإنسان وفي خدمة المجتمع. نحن كمجلس كنائس الشرق الأوسط منذ 1991 نعمل في العراق لمساعدة الشعب العراقي، وكمجلس كنائس الشرق الأوسط الذي قمنا به في العراق أعتقد في السنوات العشر الأخيرة من 1991 أو أكثر ، اثنتي عشرة سنة لا يوجد مؤسسة إسلامية، ولا مسيحية، ولا دولة، قدمت مثل ما نحن قدمنا للشعب العراقي 98% من مساعداتنا كانت هي للشعب العراقي المسلم أكثر من المسيحي، ولم نكن نميِّز بين مسلم ومسيحي، نحن الذين عملنا على تنقية المياه ليشربها أهل بغداد مياه صافية، وأهل الناصرية مياه للشرب، ونحن الذين عملنا عندما كانوا يريدون خيطاناً لتضميد الجراح في المستشفيات كانوا يتصلون برياض جرجور لكي أستطيع أن أؤمِّن لهم، من عمان ومن الشام ومن أي مكان قريب خيوطاً للجراحة وأدوية للجرح (المورفين) في الوقت الذي لم يكن أحد يؤمِّن لهم ذلك. وأعتقد أن هذا يصب في أن الدين يدعونا لخدمة الإنسان، ولذلك نقول بأن خدمتنا هي للإنسان وليس للفرد. 


أنا أعتقد بالنسبة للموضوع الذي أثير عن بريطانيا وإنكلترا من المؤكد أن الإنكليز ولا في يوم من الأيام وأنا أحب أن أؤكد لكم لا تعتقدون أن الأوروبيين والأمريكان بشكل عام يحبون اليهود لأنهم يحبون اليهود، تاريخياً إذا كنتم تقرأون جيداً ترون كم يكرهون اليهود، وهم إذ أحبوا أن يعيدونهم إلى فلسطين ليتخلصوا منهم، حتى بلفور كان مشهوراً بعدائه لليهود وكلهم معروفون، لكن كانوا يحبون أن يرونهم بفلسطين ولا يرونهم في إنكلترا. 

التحالف الذي كان في الأخير مع اليهود من دون شك إنه قبل أن آتي لسؤالك دكتور حسن طبعاً أحب أن أقول أن الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت بدون شك حتى الآن يقولون أنه نعم للأماكن المقدسة ولأتباع الديانة الإبراهيمية اليهود والمسلمين والمسيحيين وحتى الآن 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

40

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 هناك أصوات فلسطينية تقول نحن ثلاثة أديان وشعبين في فلسطين، هذه يؤمنوا بها، لكن لا شك أن تغلغل اللوبي الصهيوني واليهودي في الفاتيكان وفي كثير من الكنائس. 


أنا كان عندي وفد كندي، الأمر الذي قاله الكنديون أنهم عملوا بياناً مؤخراً لصالح القضية الفلسطينية، ونادوا بإنهاء الاحتلال اللاشرعي لفلسطين من قبل إسرائيل، إنسحبت الطائفة اليهودية من المجلس الذي هو كان مجلس الأديان احتجاجاً على هذا البيان سئل أمين عام مجلس الكنائس الذي كان هنا منذ أسبوعين أنه لماذا انسحبوا هؤلاء الجماعة؟ قال بسبب بياني، قلنا له: ما الذي دعا هذا الأمر أن يحصل؟ قال نحن عشنا في أميركا وكندا وأوروبا بموضوع الشعور بالذنب من جراء الشيء الذي حصل لليهود بألمانيا، وسيطر هذا الأمر علينا بفعل اللوبي الصهيوني لفترة من الزمن، نحن فقط في أوروبا وأميركا مؤخراً بدأنا نستفيق ونعي الحقيقة مثل ما هي، ومن هنا تضامننا مع الشعب الفلسطيني ومع القضية العربية. يوجد أشخاص لم يكونوا يعرفون ما هو الموجود في الواقع. وأعتقد أن هذا الفضل فيه كان للإعلام الذي قامت به الكنائس مجتمعة ومجلس الكنائس العالمي الذي قمنا نحن به، كان غابرييل حبيب وجورج خضر وكثيرون منّا اشتغلوا في السبعينات بالنسبة للقضية الفلسطينية على توعية الشعب الأوروبي. ولا أعتقد أن الأمر الذي حدث من قبل الكنائس كان هدفه أن يحمي المسيحيين اليوم، إذا اليوم أردت أن تؤذي مسيحياً في البلاد العربية بسبب الشيء الذي يأخذه والذي يحصل في العراق، هل إيذاء المسيحيين اليوم يصب في خانة خدمة العراقيين أو في خانة خدمة المصالح الأمريكية؟ أنا أعتقد أنّ الأمريكان وإسرائيل يتمنون اليوم الذي يرون فيه أحداثاً يؤذى بها المسيحيون لأنها تعطي حينها مبرراً لأميركا ولأوروبا أن تقول نحن نريد أن نتدخل. 

سأقول لكم نقطة مهمة، لما كانت الحرب اللبنانية سنة 1975 هل رأيتم في يوم من الأيام موقفاً كنسياً لأميركا لصالح المسيحيين في لبنان تجاه ما يجري؟ أنا أعتقد أن كل الذي كان لصالح لبنان وللشعب المسيحي والمسلم، وأنا لا أذكر خلال خدمتي في لبنان منذ 1975 إلى الآن أنه كان يوجد بيان كنسي أميركي يصب في خانة المسيحيين ولا يصب في خدمة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

41

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 المسلمين. ولكن أعتقد أن الموقف المسيحي الكنسي بالنسبة للعراق هو إيمانٌ من الكنائس بالشيء الذي حصل، كان يوجد ثورة شعبية عارمة، كانت هناك ثورة كنسية عارمة، لأنه يوجد عدم رضى واعتبروها حرباً لا أخلاقية ولا أدبية ولا كنسية ولا مسيحية، حتى الأسقف "ﻣﳌﭭﻦ ﺗﻠﭬﺭ" وهو أسقف كنيسة جورج بوش هاجم جورج بوش بعنف على محطة "CNN" برز كإعلان الذين منكم شاهدوه، الأسقف "ﻣﳌﭭﻦ ﺗﻠﭬﺭ" يقول: يا سيدي الرئيس، ليس لك الحق أن تشن الحرب على العراق، فإنها حرب لا أخلاقية ولا مسيحية. ودفعوا تقريباً مليون دولار ليضعوا هذه الدعاية لثلاث مرات التي هي دقائق والذي دفعها هو الشعب والناس لأنهم كانوا مؤمنين أن الذي يقوم به بوش هو غير أخلاقي. طبعاً بوش بالنتيجة له ميل للمجموعة المعمدانية ومتأثر كثيراً ببات روبنسون وجيري فالويل ولكن أيضاً متأثر أكثر بشخص اسمه فرانكلن غراهام وهو اليوم لديه منظمة اسمها "المحفظة السامرية" يجمع مالاً كثيراً، فالقضية فيها مال أيضاً وفيها اقتصاد، هؤلاء كلهم يجمعون المال، الذين عندهم هذا الكاتدرائيات المسيحية، والذين لديهم المجموعات اليمينية، كلها تجمع مالاً بعظاتها وتستفيد وتعطي إسرائيل، فرانكلين غراهام وقف على الحدود الأردنية العراقية ومعه مواد تموينية، جاء بيد فيها المواد التموينية وبيد أخرى جاء بمواد تبشيرية، والذين نبهونا على هذا الشيء قبل م"Islam online" تضعه عندها وحذروا "Islam online" مجلس كنائس أميركا وكانوا هم الذين بعثوا لنا في البداية وقالوا لنا انتبهوا من هذا الإنسان الذي جاء بيد يحمل الطعام وبيد أخرى يريد أن يبشر بالإنجيل. 


وأعتقد أنّ هذا نتيجة وعي كنسي حصل أخيراً، وأعتقد أن الشيء الذي حصل كموقف من الكنائس نابع من إيمانها، ولا يوم من الأيام قلت للكنيسة اعملي بياناً مثلاً ضد هذا الشيء الذي يحصل، ولا كان من الممكن أن تعمل، ولكن أنا أقوم بحملة توعية للكنائس في الخارج على حقيقة الأمر هنا لأدعهم يأتون ويعيشون مع الناس هنا، ويزورون الكنائس والجوامع، خمس كلمات ألقيت في جامع النور في الشام من قبل أساقفة من الخارج والداخل مع عدة أشخاص ووجد تغيير في البنية العقلية الأميركية والأوروبية تجاه الإسلام ومواقفنا بعد 11 أيلول كمسيحيين 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

42

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 عرب أعتقد أيضاً ساهمت كثيراً بالشكل الذي نشهده اليوم.


تعقيب الدكتور الحاج علي فياض

أولاً، أوافق على أهمية ابن خلدون، وإن كنت عندما قرأت ابن خلدون وجدته أكثر انطباقاً على السوسيولوجيا العربية والإسلامية منه من السوسيولوجيا الغربية، والإشارة إلى أن شبنغلر وتوينبي تأثرا به تماماً هذه الملاحظة في مكانها. 

لكن الأخ الكريم عندما تحدث أنه نسمع دراسات ولا نحكي ماذا نفعل، وأنا كل مداخلتي كانت كلاماً عن ماذا نفعل، وعندما تحدثت عن فكرة الكمين التاريخي التي تقوم على العمل لتحويل العراق إلى بيئة مقاومة كنت أتحدث عن ماذا نفعل، لكن على الرغم من كل ذلك أنا ألفت النظر إلى أخي الكريم لأقول له إياك أن تنزلق إلى فكر تتفيه الأفكار، الفعل شيء مهم جداً، لكن الفعل لوحده دون رؤى وتصورات وتخطيط للمستقبل لا يعني شيئاً، هناك خطرٌ أن ينزلق إلى الفوضى، وهذه الفكرة أنا أناقشك بها على الطريقة لأنّ هذا مفهوم شائع يُظن أنه إيجابي بالوقت الذي هو في غاية السلبية، من يصنع السياسة الأمريكية التي تقتل شعبنا في العراق وفي فلسطين هم 120 مركز دراسات يعاون الإدارة الأميركية على سياساتها، تمر بمائة وعشرين مركز دراسات مجموعات عمل منصبة على دراسة الصغيرة والكبيرة، بالوقت الذي نحن أمة بلا عيون، لا تعرف إلى أين تذهب، نحن نحتاج إلى عقول مفكرة وليس أي شيء، نحن في موقع دفاعيٍ بحت في فلسطين والعراق وإيران وسوريا وجنوب لبنان ومختلف مواقع هذه الأمة نحن في موقع دفاعي بحت وأميركا هي التي تقود هذا الهجوم تجاه أمتنا، لذلك لا أرى ما يؤشر على لا برود هذه الجبهات، ولا ولادة فكر خير على المستوى العالمي، إنما على ما يبدو في منطق الصراع ... (أحد الحضور : سؤالي حضاري أبعد من أمريكا أنا أقصد التاريخ بأكمله) التاريخ بأكمله يحتاج إلى إجابة لاهوتية، إلى إجابة في الفكر الديني، في الفكر الديني المسار العام هو مسار يمر بمرحلتين، المرحلة الأولى هي مرحلة التصعيد في التأزم يعني القابض على دينه كالقابض على جمر، حتى أنا 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

43

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 الآن فوجئت أنه العلامات الموجودة حتى في الفكر الكنسي هي مشابهة إلى حد كبير لما هو موجود في الفكر الإسلامي، ويعقب هذه المرحلة خروج الإمام المهدي عليه السلام وبالتالي تحول الواقع الإنساني إلى واقعة من الخير، وتخرج الأرض كل خيراتها، لذلك في الإجابة الدينية الإجابة متوفرة، لكن في الإجابة السياسية الاستراتيجية التاريخية هذه مسألة تحتاج إلى بحث وشكراً .

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

44

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 

 

 

 

 

 

 

 

52


45

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

53


46

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

54


47

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

55


48

سقوط الإمبراطوريات على ضوء فلسفة التاريخ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

56


49
بنية العقل السياسي الأمريكي