(1) نهضة عاشوراء


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-03

النسخة: 0


الكاتب

معهد سيد الشهداء

هو مؤسسة ثقافية متخصصة تعنى بشؤون النهضة الحسينية ونشرها، وإعداد قدرات خطباء المنبر الحسيني وتنميتها، معتمدة على كفاءات علمائية وخبرات فنية وإدارية... المرتكزة على الأسس الصحيحة المستقاة من ينبوع الإسلام المحمدي الأصيل.


المقدمة

 بسم الله الرحمن الرحيم

 
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على رسوله محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
 
مقدّمة الكتاب:
 
إذا كان "ما جرى في عاشوراء فريداً في تاريخ الإنسانيّة، ولم تشهد الإنسانيّة واقعة مثلها، على مدى حياتها"1، كما يقول الإمام الخامنئيّ قدس سره، الذي استقى كلامه من معدن الرسالة وأهل بيت النبوّة عليهم السلام، الذين قالوا: "لا يوم كيومك يا أبا عبد الله"2، كما عن إمامنا الحسن عليه السلام، و"لا يوم كيوم الحسين"3، كما عن إمامنا زين العابدين عليه السلام، فإنّ هذا الأمر يُلقي على عاتقنا مسؤوليّة خاصّة في كيفيّة التعاطي مع هذه الحادثة الاستثنائيّة، إن من حيث المضمون أو المنهج أو التحليل والدراسة، أو الاستفادة على صعيد الدروس والعبر..أو غيرها من الجوانب..ولا ينبغي الاكتفاء بعرض الحادثة، كما ذكرها المؤرّخون والرواة، فإنّها- وعلى ما في هذا العرض من غثٍّ وسمين لدى بعضهم أحياناً- ستتحوّل حينئذٍ، إلى مجرّد حدث تاريخيّ لا يربط الماضي بالحاضر، ولا يستشرف المستقبل، وهو ما يتنافى مع عاشوراء التي ينظر إليها كنهج، وإلى كربلاء التي يرتبط فيها كقضيّة.
 
وقد قام العديد من العلماء والمحقّقين والباحثين، وعلى طول التاريخ، بتقديم الشيء الكثير على صعيد البحث والتحقيق والدراسة، غير أنّ أهميّة هذه الواقعة وعمق أبعادها وتجذّرها في الوجدان، وعظيم ما تحمله من دلالات، جعلت منها معيناً لا ينضب ماؤه ولا يرتوي ورّاده. فبالرغم من جميع ما قدّم إلى الآن، يبقى الكثير من الجوانب التي يجد القارئ أو الباحث أو المحقّق أنّها لا زالت بحاجة إلى بحث وتمحيص، وتحليل وتعميق..
 
ومن هنا جاء اهتمامنا، في معهد سيّد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسينيّ، بالجانب
 
 
 
 

1- الكلمات القصار لآية الله العظمى السيد علي الحسيني الخامنائي دام ظله،ص75.
2- الصدوق،الأمالي ص177.
3- المصدر السابق، ص547.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
5

1

المقدمة

  البحثيّ والتحقيقيّ العاشورائيّ، والذي عزمنا على العمل عليه من خلال أمرين: الأوّل: الندوات واللقاءات، والثاني: الكتب والإصدارات، ما يمكن من خلاله للباحث المتخصّص، أو القارئ المستطلع، الإستفادة من مضامينها على حدّ سواء.

ولهذا قمنا بإعداد هذا الكتاب الجديد تحت عنوان: 
"نهضة عاشوراء - كتاب دوري يتضمن دراسات حسينية تخصصية"، 
والذي نضع بين القرّاء والخطباء الجزء الأول منه، على أمل أن يوفقنا الله سبحانه، لنتحفهم بأجزاء أخرى لاحقاً، إن شاء الله تعالى.

عملنا في هذا الكتاب:

نلفت نظر القارئ الكريم إلى الآتي:

1-إنّ هذا الكتاب يأتي كجزء من سلسلة لمجموعة من الدراسات والبحوث المتعلّقة بالشأن العاشورائيّ الحسينيّ ينوي المعهد إصدارها تباعاً، وهو يضمّ موضوعات مختلفة ومتنوّعة، وقد يحتوي على ملف أو أكثر، أو على موضوعات متفرّقة.

2-يتضمّن هذا الكتاب عشرة من البحوث والدراسات، تسعة منها تمّ تعريبها من اللغة الفارسيّة، وواحد منها كتب باللغة العربيّة.

3-لقد جاء النص المعرَّب مع شيء من التصرّف بالحذف والتبديل، أو التقديم والتأخير، أو التغيير في الأسلوب أو صياغة العبارة، حسبما اقتضته الضرورة، أو استدعته السياسات المعتمدة للنصّ في المعهد.

4-اخترنا مجموعة من العناوين التي يكثر الحديث أو التساؤل حولها، ويستفيد من الإجابة عنها القارئ والباحث على حدٍّ سواء، مع إمكان أن يتمّ التعرّض للموضوع نفسه في بحث أو دراسة أخرى في إصدارات أخرى.

5-آثرنا عدم التعليق أو النقد لما جاء في بعض هذه البحوث والدراسات، رغم مخالفتنا في الرأي له، وذلك إفساحاً منّا في المجال للأخذ والردّ العلميّ، والذي لا يصل إلى حدّ التشكيك والتضعيف.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
6

2

المقدمة

 6-إنّ هذه البحوث قد كتبها مجموعة من الباحثين والمحقّقين، كما أشرنا، ومن هنا فإنّها تعبرّ عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المعهد.


وختاماً، فإنّنا نطلب من القرّاء والخطباء والباحثين الأعزّاء، تزويدنا بملاحظاتهم وإرشاداتهم البنّاءة، سائلين المولى تعالى أن يتقبّل منّا هذا العمل القليل، ويثيبنا عليه الثواب الجزيل بمنّه وكرمه، ويجعله ذخراً لمن ساهم فيه في نشره وحشره، وأن يحظى بالقبول والرضا من ساحة مولانا ومرتجانا بقيّة الله في أرضه، عجّل الله تعالى فرجه الشريف.

معهد سيّد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسينيّ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

3

إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله

 إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله1

 
إنّ الاهتمام بأربعين الإمام الحسين عليه السلام كان معروفاً عند الشيعة، منذ العصور القديمة، وفي التقويم التاريخيّ عند محبّي الإمام الحسين عليه السلام .
 
ففي كتاب مصباح المتهجّد- الذي كان ثمرة البحث الدقيق والإختيار الحكيم للشيخ الطوسيّ، بالنسبة إلى الروايات الكثيرة الواردة في المناسبات الشيعيّة على مدار أيّام السّنة، سواءٌ أيّام الموالد والأفراح، أو أيّام الوفيات والأحزان، والأعمال الواردة فيها من الدعاء والصيام والعبادات- هناك قال الشيخ، وهو يتحدّث عن مناسبات شهر صفر:
 
أوّل يوم منه سنة إحدى وعشرين ومائة، كان مقتل زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام .
 
واليوم الثالث منه سنة أربع وستّين أحرق مسلم بن عقبة ثياب الكعبة، ورمى حيطانها بالنيران فتصدّعت، وكان يقاتل عبد الله بن الزّبير من قِبَل يزيد بن معاوية.
 
وفي اليوم العشرين منه، كان رجوع حرم سيّدنا أبي عبد الله الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام من الشام إلى مدينة الرسول صلى الله عليه واله وسلم ، وهو اليوم الذي ورد فيه جابر بن عبد الله الأنصاريّ (رضوان الله عليه) صاحب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، من المدينة إلى كربلاء، لزيارة قبر أبي عبد الله الحسين عليه السلام، فكان أوّل من زاره من الناس.
 
 
 

1-الشيخ رسول جعفريان، باحث ومحقّق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

4

إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله

 وقال تحت عنوان: "أعمال يوم أربعين الإمام الحسين عليه السلام ":

ويستحبّ زيارته عليه السلام فيه، وهي زيارة الأربعين، فروي عن أبـــي محــمّد العســكريّ عليه السلام أنّه قال: علامات المؤمن خمس: صلاة الإحدى والخمسين، وزيارة الأربعين، والتختّم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
 
ثمّ نقل الشيخ الطوسيّ متن زيارة الأربعين، بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام:
(السلام على وليّ الله وحبيبه، السلام على خليل الله ونجيبه، السلام على صفيّ الله وابن صفيّه...)1.
 
هذا ما أورده الشيخ الطوسيّ العالم الشيعي الجليل ومعتمد الشيعة ومفكرهم في القرن الخامس للهجرة حول مناسبة الأربعين.
 
وبسبب ذلك التعظيم الموجود عند الشيعة، تجاه ذلك اليوم، والذي لا يعلم زمان بدايته متى ظهر، نرى الشيعة الإماميّة يؤدّون زيارة الأربعين ويقرؤونها إجلالاً وتعظيماً له، بل إنّهم يقصدون كربلاء لزيارة إمامهم الحسين عليه السلام عن قربٍ كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، كما فعل جابر بن عبد الله الأنصاري.
 
وهذه السنّة، والعادة لا زالت موجودة وبقوّة في زماننا هذا، ونشاهد كلّ سنة الملايين من الشيعة العراقيّين وغير العراقيّين، يجتمعـون عنــد مقام الإمام الحسين عليه السلام في يوم الأربعين.
 
هنا يجب أن نبيّن بعض النقاط التي لها علاقة بموضوع يوم الأربعين:
 
العدد (أربعون)
 
المسألة الأولى التي تلفت الأنظار، والتي لها علاقة بموضوع الإمام الحسين عليه السلام هي مفردة (الأربعون) الموجودة في المتون الدينيّة.
 
 هنا يلزم أن نذكر أمراً مهمّاً بعنوان المقدّمة:
في الأساس يجب التنبّه إلى أنّ النقل الدينيّ الصحيح، لا يعطي للعدد (الوارد)
 
 
 

1-الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، ص 548.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
10

5

إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله

  أيّة خصوصيّة وميزة من الناحية العدديّة، في إلقاء المعنى وبيان المقصود، بمعنى أنّ الإنسان لا يستطيع أن يستنبط ويستنتج شيئاً خاصّاً بمجرّد استعمال عددٍ ما في مورد أو موارد متعدّدة، مثل العدد سبعة أو إثني عشر أو أربعين أو سبعين.

 
وإنّما قمنا بالتذكير بهذا الأمر، باعتبار أنّ بعض الفرق المذهبيّة- خصوصاً تلك التي لها توجّهات باطنيّة، وفي بعض الأحيان ينسبون أنفسهم أيضاً إلى المذهب الشيعي- يروّجون لمثل هذه الأفكار الباطلة حول موضوع الأعداد والحروف، ومثلهم أيضاً بعض المتفلسفين المتأثّرين بالأفكار الباطنيّة والإسماعيليّة المنحرفة. 
 
في الواقع إنّ الكثير من الأعداد الواردة في المصادر الدينيّة، يمكن إحتسابها من الأسرار الإلهيّة؛ ولذلك فلا يمكن استعمال هذا العدد في مورد آخر من دون أي مستند شرعيّ صحيح.
 
فمثلاً، قد ورد العدد (مائة) عشرات المرّات في كتب الأدعية، حيث جاء في بعض الروايات أن يأتي المكلّف بالذكر الفلانيّ مائة مرّة. ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أنّ العدد مائة له قدسيّة خاصّة كعدد، وكذلك بقيّة الأعداد.
 
طبعاً بعض هذه الأعداد قد أخذت قدسيّة عند الناس بصورةٍ عفويّةٍ، وفي بعض الأحيان استفيد منها فوائد سيّئة وفاسدة.
 
الأمر الوحيد الذي يمكن قوله حول بعض هذه الأعداد، هو أنّ العدد يدلّ على الكثرة، كما قيل بالنسبة إلى العدد سبعة، ولا يمكن القول أكثر من هذا بأن نأخذ مثلاً، هذه الأعداد وسيلة للإستدلال على أمور أخرى.
 
يقول المرحوم الأربليّ- الذي يعتبر من علماء الإماميّة الكبار، في كتابه (كشف الغمّة في معرفة الأئمّــة عليهم السلام )- وهو يعتــرض على الأشخاص الذين استدلّوا بقدسيّة العدد إثني عشر والبـروج الإثني عشر على إمامة الأئمّة الإثني عشر الأطهـار عليهم السلام فيقول: "إنّ هذه المسألة لا يمكن أن تثبت شيئاً، لأنّه لو كان الأمر هكذا فإنّ الإسماعيليّين، وكذا الذين آمنوا بالأئمّة السبعة فقط، بمقدورهم أن يأتوا بعشرات الشواهد- (مثل السموات السبع)- ليبرهنوا على قدسيّة العدد سبعة، وقد فعلوا ذلك في الواقع".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

6

إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله

 العدد (أربعون) في المصادر الدينيّة

 
إنّ إحدى التعبيرات العدديّة المعروفة والمشهورة، هي كلمة (الأربعين) التي استعملت في كثير من الموارد. مثلا ًعمر النبيّ صلى الله عليه واله وسلم كان في الأربعين حين البعثة، وقيل: إنّ هذا العمر هو علامة بلوغ الرشد العقليّ عند الإنسان. ولكن من الجدير قوله: إنّ بعض الرسل قد وصلوا إلى درجة النبوّة في صباهم.
 
ونقل عن ابن عبّاس (ولعلّه برواية عن النبيّ صلى الله عليه واله وسلم ): "من بلغ الأربعين ولم يغلب خيره شرّه فليتجهّز إلى النّار".
 
ونقل عن آخر (من التابعين) قوله: كان الناس يطلبون الدنيا، فإذا بلغوا الأربعين طلبوا الآخرة1
 
وذكر في القرآن الكريم أنّ (ميقات) النبيّ موسى عليه السلام مع ربّه استمرّ أربعين يوماً، وورد أنّ النبيّ آدم عليه السلام سجد لله تعالى على جبل الصفا أربعين يوماً ليلاً ونهاراً2. وروي أيضاً عن بني إسرائيل أنّهم كانوا يتوسّلون إلى الله تعالى أربعين يوماً حتّى يستجاب لهم3. وفي روايةٍ من أخلص لله تعالى أربعين صباحاً، يزهّده الله سبحانه بالدنيا، ويهديه لمعرفة الحقّ والباطل، وتجري الحكمة من قلبه على لسانه. وهذا المضمون قد ورد في رواياتٍ كثيرة. وأربعينيّات الصوفيّين- سواء كانت صحيحة أم فاسدة- منشؤها تلك النصوص. وقد تحدّث العلّامة المجلسيّ بالتفصيل في كتابه بحار الأنوار، عن الإستفادة الخاطئة والفهم غير الصحيح، عند المتصوّفة، لتلك الروايات الأربعينيّة.
 
وورد في روايات كثيرة، أهميّة حفظ أربعين حديثاً؛ ولذلك نرى المئات من الكتب تحت عنوان (الأربعون حديثاً) يختار فيها المصنّف أربعين حديثاً ثمّ يأخذ في تفسيرها وشرحها. وقد جاء في تلك الروايات عن النبيّ صلى الله عليه واله وسلم:(من حفظ عنّي من أمّتي أربعين حديثاً في أمر دينه، يريد به وجه الله عزَّ 
 
 
 

1-مجموعة ورّام، ص 35.
2-المحدّث النوريّ، مستدرك الوسائل، ج 9، ص 329.
3-المحدّث النوريّ، مستدرك الوسائل، ج 5، ص 239.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12

7

إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله

 وجلَّ، والدار الآخرة، بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً)1

 
وفي نقلٍ عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال:(لو بايعني أربعون رجلا ً، لما وسعني إلّا القيام)2.
 
وكتب المرحوم الكفعميّ:(لا تخلو الأرض من قطبٍ، ولا أربعةٍ من الأوتاد، ولا أربعين من الأبدال، ولا سبعين من النجباء)3.
 
وكذلك مسألة انعقاد النطفة لتصبح علقة، فهي تحتاج إلى أربعين يوماً، وأيضاً في تحوّلاتها اللاحقة من علقةٍ إلى مضغةٍ إلى حين الولادة، يلزمها من الوقت أربعون يوماً، هذا طبعاً حسب المنقولات القديمة، وكأنّ اعتقادهم هو أنّ العدد أربعين هو مبدأ التحوّل والتكامل.
 
وفي الرواية: لا تقبل صلاة شارب الخمر أربعين يوماً.
 
وفي روايةٍ أخرى: من أكل اللحم أربعين يوماً ساء خلقه.
 
وفي روايةٍ أيضاً: من أكل الحلال أربعين يوماً نوّر الله قلبه.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: (إنّ الرجل يرفع اللقمة إلى فيه حرام، فما تستجاب له دعوة أربعين يوماً)4.
 
تلك كانت بعض الروايات التي استعمل فيها العدد (أربعين).
 
(أربعون) الإمام الحسين عليه السلام 
 
هنا يجب أن نرى كيف تحدّثت أقدم المصادر الشيعيّة عن الأربعين، بمعنى أن نبحث عن سبب عظمة وفضيلة الأربعين، ما هو؟
 
إنّ أهمّ نقطة في موضوع الأربعين- كما مرّ معنا في البداية- هي رواية الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام ، حيث يقول في تلك الرواية الواردة في المصادر المختلفة:
 
 
 

1-المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 2، ح 5، ص 154.
2-الطبرسيّ، الإحتجاج، ص 84.
3-المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 53، ص 200
4-المحدّث النوريّ، مستدرك الوسائل، ج 5، ص 217.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

8

إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله

 علامات المؤمن خمس: 1- صلاة الإحدى والخمسين (17 ركعة للصلوات الواجبة + 11 صلاة الليل + 23 النوافل).2- وزيارة الأربعين. 3- والتختم باليمين. 4-وتعفير الجبين. 5- والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.


هذا الحديث هو المدرك الوحيد المعتبر الذي يصرّح- مع غضّ النظر عن نفس زيارة الأربعين الواردة في كتب الأدعية- بأربعين الإمام الحسين عليه السلام وعظمة ذلك اليوم.

وأمّا ما هو منشأ الأربعين؟

فيجب القول بأنّ المصادر قد نظرت إلى هذا اليوم من جهتين، الجهة الأولى: أنّه اليوم الذي رجع فيه أسرى كربلاء من الشام إلى المدينة. الجهة الثانية: أنّه اليوم الذي وصل فيه جابر بن عبد الله الأنصاريّ، أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى كربلاء، لزيارة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام.

وقد أشار الشيخ المفيد (المتوفَّى سنة 413 هـ) في كتابه (مسار الشيعة) الذي يتحدّث عن ولادات ووفيات الأئمّة عليهم السلام ، فقال:
هذا هو اليوم الذي رجع فيه حــرم الإمــام الحسين عليه السلام مــن الشام نحو المدينة، وهو اليوم الذي وصل فيه جابر بن عبد الله إلى كربلاء، لزيارة الإمام الحسين عليه السلام.

إنّ أقدم كتب الأدعية المفصّلة والموجودة بين أيدينا هو كتاب (مصباح المتهجّد) للشيخ الطوسيّ الذي تتلمذ على الشيخ المفيد، فهو يذكر هذا الموضوع في ذلك الكتاب، بعدما يتحدّث عن شهادة زيد بن عليّ في اليوم الأوّل من شهر صفر، وإحراق الكعبة الشريفة سنة (64) للهجرة، من قبل جيش الشام في اليوم الثالث منه، بعدها يتعرّض لليوم العشرين من صفر فيقول: (وفي اليوم العشرين منه، كان رجوع حرم سيّدنا أبي عبد الله الحسين عليه السلام من الشام إلى المدينة، وهو اليوم الذي ورد فيه جابر بن عبد الله الأنصاريّ رضوان الله عليه، صاحب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من المدينة إلى كربلاء، لزيارة قبر أبي عبد الله
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

9

إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله

  الحسين عليه السلام فكان أوّل من زاره من الناس، ويستحبّ زيارته عليه السلام فيه، وهي زيارة الأربعين).

 
وهناك يقول: إنّ وقت زيارة الأربعين هو عند ارتفاع النهار. وكتب أيضاً في كتاب (نزهة الزاهد) الذي صنّف في القرن السادس للهجرة: (في العشرين من هذا الشهر (صفر) كان مجيء عائلة الإمام الحسين عليه السلام الكريمة من الشام إلى المدينة)1. وورد أيضاً هذا القول في الترجمة الفارسيّة لكتاب (الفتوح) لإبن الأعثم2، وكذلك في كتاب المصباح للكفعميّ الذي يعدّ من كتب الأدعية المهمّة جدّاً، في القرن التاسع للهجرة.
 
وقد استظهر بعضهم من كلام الشيخ المفيد والشيخ الطوسيّ أنّ يوم الأربعين هو يوم خروج الأسرى من الشام إلى المدينة، لا أنّهم وصلوا إلى المدينة في ذلك اليوم3. على كلّ حال، إنّ زيارة الأربعين تعتبر من زيارات الإمام الحسين عليه السلام الموثوقة والمعتمدة، ولها ميزة خاصّة من ناحية المعنى والمضمون.
 
رجوع الأسرى إلى المدينة أو إلى كربلاء
 
لقد أشرنا سابقاً، إلى أنّ الشيخ الطوسيّ يعتبر أنّ يوم العشرين من صفر أو الأربعين، هو اليوم الذي رجع فيه الأسرى من الشام إلى المدينة.
 
ولكن هناك نقل آخر صرّح أنّ الأربعين هو يوم رجوع الأسرى من الشام إلى كربلاء. هنا يجب القول- بحسب المصادر القديمة- إنّ القول الأوّل أقوى من القول الثاني.
 
يقول العلّامة المجلسيّ بعد نقل كلا الرأيين: إنّ احتمال صحّة أيٍّ منهما مستبعد من ناحية الزمان4. وقد صرّح بهذا التردّد أيضاً في كتاب الأدعية الذي ألّفه باسم (زاد المعاد).
 
 
 

1-نزهة الزاهد، ص 241.
2-ابن الأعثم، الفتوح، تصحيح مجد الطباطبائيّ.
3-المحدّث النوريّ، لؤلؤ ومرجان، ص 154.
4-المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 101، ص 334 335.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

10

إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله

 مع كلّ ذلك، فإنّنا نجد في المتون القديمة نسبيّاً، مثل كتاب (اللهوف) وكتاب (مثير الأحزان) أنّ الأربعين له علاقة بموضوع رجوع الأسرى من الشام إلى كربلاء، حيث طلبوا من دليل القافلة أن يعرّج بهم على كربلاء.

 
لكن يجب التنبّه إلى أنّ هذين الكتابين- وإن كانا يحتويان على مطالب مهمّة ومفيدة من بعض الجهات- ينقلان أيضاً بعض الأخبار الضعيفة والقصصيّة التي تحتاج، للتعرّف عليها وتحقيقها، إلى الرجوع إلى المصادر والمراجع القديمة.
 
وهنا يجب إضافة نقطة، وهي أنّ المصادر التي صنفت بعد كتاب (اللهوف)- وقد أخذت منه هذا الخبر- لا ينبغي عدّها مصادر مستقلّة ومسندة، مثل كتاب (حبيب السّير) الذي نقل خبر رجوع الأسرى إلى كربلاء من تلك المصادر؛ ولذا لا يمكن جعل ما ذكره مستنداً للإستدلال والإحتجاج به1.
 
من المناسب هنا، أن نذكر هذين النقلين حول وصول الأسرى إلى دمشق. الأوّل: ما نقله أبو ريحان البيرونيّ، فقال: (في اليوم الأوّل من شهر صفر، دخل رأس الحسين عليه السلام مدينة دمشق، فوضعه يزيد لعنه الله بين يديه ونقر ثناياه بقضيبٍ كان في يده وهويقول:
 
لســت مـن خنــــــدف إن لم أنتقــــم          مـــــن بنــي أحمـــد، مـــا كــان فـــعـــل      
ليــت أشيـاخــــي بــبــــــدر شهـــــــدوا            جــــزع الخــــزرج مــــن وقـــع الأســــل        
فــأهــلّــــــــــــوا واســــتهـــلّــــوا فرحــــاً                ثـمّ قـــــالـــــوا: يـــا يــزيـــــد لا تــــشــــل                 
قــــد قتلــــنا القــــرم مـن أشياخهم              وعــــــــدلـــنـــــاه بــبـــــــدر، فاعـتــــــــدل                  
 
الثاني: كلام عماد الدّين الطبريّ (المتوفَّى حوالي 700) في كتاب (كامل البهائيّ) حيث اعتبر أنّ وصول الأسرى إلى دمشق هو في السادس عشر من شهر ربيع الأوّل (يعني بعد عاشوارء بـ (66) يوماً) وهذا القول عنده هو الأنسب والأقرب إلى الواقع.
 
 
 


1-نفس المهموم (الفارسي) ترجمة الشعرانيّ، ص 269.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

11

إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله

 الميرزا حسين النوريّ والأربعون:

 
العلّامة الميرزا حسين النوريّ، مصنّف كتاب (مستدرك الوسائل) وهو يعتبر من علماء الشيعة البارزين، ينتقد ويفنّد، في كتابه (اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر) بعض روايات وقصص المجالس الحسينيّة التي أصبحت مشهورة ومتداولة بين عموم الشيعة مع مرور الأيّام، وهي- حسب رأيه- ليست صحيحة.
 
والظاهر أنّ الميرزا النوريّ هو الشخص الأوّل الذي قام، في هذا القرن الأخير، بنقد الرواية التي نحن بصددها، وقد طرح براهين متعدّدة لإثبات عدم صحّتها.
 
وقد نقل الميرزا النوريّ عبارة السيّد ابن طاووس في اللهوف حيث يقول: (بأنّ الأسرى حين رجوعهم من الشام طلبوا من دليلهم أن يأخذهم إلى كربلاء)، ثمّ أخذ بنقد هذه العبارة1 والمسألة بهذا النحو: إنّ السيّد ابن طاووس نقل في اللهوف خبر رجوع الأسرى إلى كربلاء في الأربعين إلّا أنّه لم يذكر هناك مصدر ذلك الخبر، ويقال بأنّ السيّد في ذلك الكتاب، نقل الروايات المشهورة بين الشيعة والتي كانت متداولة في مجالس العزاء الحسينيّ.
 
ولكنّ السيّد ابن طاووس نفسه في كتابه (إقبال الأعمال) عندما يشير إلى كلام الشيخ الطوسيّ، في المصباح، حيث يقول: (إنّ الأسرى تحرّكوا من الشام إلى المدينة في يوم الأربعين، وقد نقل أيضاً الشيخ في غير المصباح أنّ رجوعهم في الأربعين كان إلى كربلاء وليس إلى المدينة) هناك يبدي السيّد تردّده في كلّ من القولين.
 
وهذا التردّد باعتبار أنّ ابن زياد قد حبس الأسرى مدّة من الزمان في الكوفة، ثمّ لو أضفنا هذه المدّة إلى الوقت الذي يحتاج إليه السفر من الكوفة إلى الشام ثمّ الإقامة شهراً كاملا ًهناك ومن بعده المدّة اللازمة للرجوع، كلّ هذا يجعل وصولهم في الأربعين إلى المدينة أو إلى كربلاء أمراً مستبعداً. وممّا يقوله أيضاً ابن طاووس: من الممكن تحصيل الإذن من يزيد للرجوع إلى كربلاء، ولكن لا يمكن أن يكون ذلك في الأربعين. وقد ورد في خبر ٍ حول رجوع الأسرى إلى كربلاء، 
 
 
 

1-المحدّث النوريّ، لؤلؤ ومرجان، ص 152.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

12

إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله

 بأنّ ذلك الوصول كان في نفس زمان وصول جابر إلى كربلاء، وقد حصل لقاء بين جابر وبين الأسرى.

 
هنا أيضاً يتوقّف السيّد ابن طاووس ويشكّ حتّى في وصول جابر إلى كربلاء في الأربعين1.
 
هذا الإختلاف في كلام ابن طاووس بين كتاب اللهوف وكتاب الإقبال قد يكون سببه أنّ الأوّل كتبه في أيّام الشباب، وأمّا الثاني فقد صنّفه في مرحلة نضوجه الفكريّ. وقد تكون العلّة في ذلك أيضاً: أنّ كتاب اللهوف قد ألّفه لمجالس العزاء في المحافل العامّة، بينما صنّف كتاب الإقبال كأثر علميّ متين للخواصّ.
 
طبعاً بالنسبة إلينا لا داعي أبداً لقبول تلك الشكوك والتردّدات التي أبداها السيّد حول مجيء جابر إلى كربلاء، في يوم الأربعين.
 
والظاهر أنّ المستند الأقوى الموجود بين أيدينا، لإثبات أهميّة الأربعين وعظمتها، هو زيارة جابر في الأربعين الأوّل باعتبار أنّه كان هو الزائر الأوّل. 
 
أمّا القول بأنّ منشأ فضيلة الأربعين هو رجوع الأسرى إلى كربلاء، فهنا يلزم التوجّه إلى هذه النقطة المهمّة، وهي أنّ الشيخ المفيد، في كتابه المهمّ في بابه، وهو باب سيرة الأئمّة، أي كتاب (الإرشاد)، وفي قسم منه يختصّ بالإمام الحسين عليه السلام لم يذكر أبداً فيه رواية رجوع الأسرى، وأنّهم رجعوا إلى العراق.
 
وكذلك فعل أبو مخنف الراوي الشيعيّ الكبير، حيث لم يشر أبداً في كتابه عن مقتل الحسين عليه السلام ، إلى شيءٍ من رجوع الأسرى نحو العراق.
 
وهكذا، فإنّنا لا نجد أيّ أثر ٍلهذا الخبر، في المصادر القديمة لتاريخ كربلاء، مثل كتاب (أنساب الأشراف) و(الأخبار الطوال) و(الطبقات الكبرى).
 
ومن الواضح أنّه لا يوجد حذف متعمّد لذلك الخبر، إذ إنّه لا يوجد أيّ سبب وداعٍ لهذا الحذف والتحريف.
 
وقد ورد في كتاب (بشارة المصطفى) خبر زيارة جابر، ولكنّه لم يذكر شيئاً عن لقائه بالأسرى.
 
 
 

1-ابن طاووس، إقبال الأعمال، ج 3، ص 101.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

13

إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله

 وكذلك المرحوم الشيخ عبّاس القمّي، وتبعاً لأستاذه النوريّ، فقد اعتبر مسألة مجيء أسرى كربلاء، في الأربعين من الشام إلى كربلاء، غير صحيحة1.

 
وقد أنكر أيضاً المرحوم محمّد إبراهيم آيتي، خلال أيّامه الأخيرة في كتابه (البحث في تاريخ عاشوراء) رجوع الأسرى إلى كربلاء2. وهذا ما كان عليه رأي الشهيد المطهّري الذي تأثّر بالمرحوم آيتي.
 
ولكن في قبال رأي كلّ هؤلاء العلماء، كان يقف بقوةٍ الشهيد القاضي الطباطبائيّ مخالفاً لهم.
 
الشهيد القاضي الطباطبائيّ والأربعون:
 
صنّف شهيد المحراب المرحوم الحاج السيّد محمّد عليّ القاضي الطباطبائيّ كتاباً مفصّلا ًحول الأربعين باسم (التحقيق حول الأربعين الأوّل لسيّد الشهداء) وقد طبع مؤخّراً بشكل جديد وأنيق.
 
لقد كان هدف الشهيد من تأليف هذا الكتاب هو نفي إستبعاد مجيء الأسرى من الشام إلى كربلاء في الأربعين الأوّل. وقد طبع هذا الكتاب بمجموع (900) صفحة، ويحتوي على تحقيقات كثيرة في تفاصيل وجزئيّات واقعة كربلاء، وهي مفيدة جدّاً وجذّابة. ولكن الظاهر أنّ المؤلّف الجليل- مع كلّ الجهود التي بذلها- لم يكن موفّقاً كثيراً لإثبات ذلك المطلب الذي نحن بصدده. فهو من أجل الردّ على إشكال إستحالة انتقال الأسرى من كربلاء إلى الكوفة، ومنها إلى الشام ثمّ من الشام إلى كربلاء خلال أربعين يوماً، أورد بالتفصيل سبعة عشر نموذجاً تاريخيّاً من السفرات والرحلات، مع الأزمنة التي احتاجت إليها تلك الرحلات، لقطع طريق الذهاب من كربلاء إلى الشام، ثمّ طريق الإياب من الشام إلى كربلاء.
 
وممّا ذكره في ذلك السرد التاريخيّ أنّ المسير من الكوفة إلى الشام وبالعكس كانوا يقطعونه من أسبوع إلى عشرة أو اثني عشر يوماً.
 
 
 
 

1-القمي الشيخ عبّاس، منتهى الآمال، ج 1، ص 817 818.
2-آيتي، بررسي تاريخ عاشوراء، ص 148 149.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

14

إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله

 وبناءً على ذلك فمن الممكن أن تقطع مسافة ذلك الطريق خلال أربعين يوماً. ولو صحّ أيضاً قول البيرونيّ، بأنّ رأس الإمام الحسين عليه السلام قد ورد دمشق في اليوم الأوّل من شهر صفر، فحينها يمكن القول بأنّ الأسرى استطاعوا خلال عشرين يوماً الوصول إلى كربلاء.


وبنحو عامّ، يجب القول: لو فرضنا إمكان قطع كلّ ذلك المسير، ومن قبل قافلة تتألّف من نساءٍ وأطفال، خلال مدّة زمنيّة قصيرة، فإنّه يجب التنبّه إلى أنّه في الأصل: هل يوجد عندنا خبر عن ذلك في الكتب التاريخيّة المعتبرة أم لا؟
حسب معلوماتنا، فإنّ نقل هذا الخبر من المصادر التاريخيّة لم يكن قبل القرن السابع للهجرة. هذا بالإضافة إلى أنّ علماء الشيعة الكبار، مثل الشيخ المفيد والشيخ الطوسيّ، ليس فقط لم يشيروا إليه، بل صرّحوا أيضاً بما يقابله، فقالوا: يوم الأربعين هو اليوم الذي دخل فيه حرم الإمام الحسين عليه السلام إلى المدينة، أو هو اليوم الذي خرجوا فيه من الشام نحو المدينة المنوّرة.

ويبقى أن نقول: إنّ الزيارة الأولى للإمام الحسين عليه السلام في الأربعين الأوّل قد تحقّقت بزيارة جابر ابن عبد الله الأنصــاريّ، ومـــن بعـــد ذلك كان الأئمّة الأطهار عليهم السلام يستفيدون من كلّ فرصة للحثّ على زيارة الإمام الحسين عليه السلام وكانوا يعرّفون شيعتهم أهميّة واستحباب زيارته عليه السلام في يوم الأربعين باعتبار أنّ أوّل زيارة حصلت، هي تلك الزيارة في ذلك اليوم.

وقد وردت تلـــك الــزيارة (زيارة الأربعين) على لســان الإمـــام جعفـــر الصـــادق عليه السلام ، والشيعة ملتزمون بقراءة تلك الزيارة بمضامينها العالية، في ذلك اليوم.

إنّ أهميّة قراءة زيارة الأربعين وصلت إلى حدّ أنّها اعتبرت من علامات الشيعة، وبمستوى مسألة الجهر بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) في الصلاة، وبموازاة الإتيان بصلوات الفرائض والنوافل الـ (51) ركعة في اليوم والليلة، والتي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

15

إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله

 ورد فيها الأحاديث بما لا يعدّ ولا يحصى، أنّها من علامات التشيّع.

 
نقل الشيخ الطوسيّ زيارة الأربعين في كتاب (مصباح المتهجّد) وأيضاً في كتاب (تهذيب الأحكام) عن صفوان بن مهران الجمّال، حيث قال: قال مولاي الصادق عليه السلام: تزور عند ارتفاع النهار وتقول:(السلام على وليّ الله وحبيبه، السلام على خليل الله ونجيبه...)1.
 
إنّ هذه الزيارة تشبه بعض الزيارات الأخرى من بعض جهات، ولكن باعتبار أنّها تحتوي على بعض العبارات اللافتة حول الهدف من قيام الإمام الحسين عليه السلام وثورته، فهي تكتسب ميزة وأهميّة خاصّة.
 
فقد جاء في جزء من هذه الزيارة حول هدف الإمام الحسين عليه السلام من نهضته ما يأتي: (وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة... وقد توازر عليه من غرّته الدنيا وباع حظّه بالأرذل الأدنى..).
 
ملاحظتان صغيرتان
 
الأولى: جاء في بعض روايات كتاب "كامل الزيارات" الواردة في فضل زيارة الإمام الحسين عليه السلام:(إنّ السماء والأرض والشمس والملائكة بكوا على الإمام الحسين عليه السلام أربعين صباحاً)2.
 
الثانية: إنّ ابن طاووس قد طرح أيضاً إشكالا ًزمنيّاً، بالنسبة إلى جعل العشرين من صفر هو يوم الأربعين؛ لأنّه إذا كانت شهادة الإمام الحسين عليه السلام 
 
 
 

1-الطوسيّ، مصباح المتهجّد، ص 788 و تهذيب الأحكام، ج 6، ص 113، ابن طاووس، إقبال الأعمال، ج 3، ص 101، ابن المشهديّ، المزار، ص 514 (بتحقيق القيّومي) الشهيد الأوّل، المزار (تحقيق مدرسة الإمام المهديّ (عج) قم: 1410 هـ)، ص 185 186.
2-الشهيد السيّد القاضي الطباطبائيّ، تحقيق در بارهء أوّل أربعين سيّد الشهداء ، ص 386.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

16

إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله

 في اليوم العاشر من المحرّم، فإنّ الأربعين سيكون في اليوم التاسع عشر من صفر وليس العشرين منه..

 
وقد ردّ هذا الإشــكال، باحتمـــال كون شهر محرّم الذي استشهــد الإمام الحسين عليه السلام في العاشر منه (29) يوماً، وليس ثلاثين يوماً.. وإذا كان الشهر كاملاً (أي ثلاثين يوماً) فيجب أن لا يُحتَسَب يوم الشهادة وهو العاشر من المحرّم1
 
 
 

1-المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 98، ص 335.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

17

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام1 

 
تمهيد:
 
إنّ من المسائل التي شكّك فيها بعض المحقّقين في القرون المتأخّرة، مسألة حضور أهل البيت عليهم السلام في الأربعين الأوّل لشهادة الإمام الحسين عليه السلام عند مقامه الشريف. وفي المقابل شرع بعض العلماء لردّ هذا التشكيك ولإثبات زيارة الأربعين الأوّل. إنّ هذه المقالة تبدأ بذكر أدلّة المنكرين للأربعين الأوّل، بعد ذلك تأخذ بردّ هذه الأدلّة، وأخيراً تؤيّد رأي القائلين بثبوت الأربعين الأوّل، من خلال القرائن والشواهد.
 
المقدّمة:
 
إنّ من المباحث المهمّة، في تاريخ عاشوراء التي حُقّق فيها وبُحث عنها، هو موضوع حضور أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء في الأربعين الأوّل لشهادة الإمام الحسين عليه السلام عند مقامه الشريف، ومقام شهداء كربلاء. فمن المشهور عند الشيعة أنّ الأربعين هو اليوم الذي زار فيه الصحابيّ الجليل لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم جابر بن عبد الله الأنصاريّ قبر الإمام الحسين عليه السلام ، وفي نفس ذلك المكان والزمان حصل لقاء بين جابر وبين أهل البيت عليهم السلام عندما رجعوا من الشام لزيارة مقام الإمام الحسين عليه السلام . وكذلك فإنّ يوم الأربعين هو يوم إلحاق رأس الإمام عليه السلام إلى بدنه ودفنه هناك.
 
 
 
 
 

1-محسن رنجبر، أستاذ مساعد في مؤسّسة الإمام الخمينيّ للتعليم والبحوث- قم المقدّسة.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

18

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 لكن في مقابل هذه الشهرة، هناك بعض العلماء الشيعة من السابقين والمعاصرين أنكر وصول أهل البيت عليهم السلام في يوم الأربعين من سنة 61 ق إلى كربلاء. وفي هذه السطور سيتمّ عرض وبحث أدلّة هؤلاء المنكرين، وكذلك البحث حول القرائن والأدلّة التي أقامها بعض المحقّقين المعاصرين لردّ أدلّة المنكرين وإبطالها. وفي النهاية سنعرض القرائن والشواهد التاريخيّة والروائيّة الواردة في هذا الموضوع، لإثبات تلك الشهرة.

 
(الأربعون) في المتون والنصوص الدينيّة:
 
إنّ كلمة (الأربعين) تُعتبر من المصطلحات المستعملة كثيراً في المتون الدينيّة سواءٌ الروائيّة منها أو التاريخيّة، وقد حُدّد وعُيّن كثير من الأمور بهذا العدد الخاصّ. مثلاً: كمال العقل في الأربعين من العمر، آثار الإخلاص لأربعين يوماً، آثار حفظ أربعين حديثاً، دعاء أربعين شخصاً مجتمعين، الدعاء لأربعين مؤمناً، قراءة دعاء العهد أربعين صباحاً، عدم قبول صلاة شارب الخمر إلى أربعين يوماً، بكاء الأرض والسماء والملائكة على الإمام الحسين عليه السلام أربعين يوماً، استحباب زيارة الأربعين. هذه الأمثلة وغيرها تعتبر من الموارد التي تبيّن لنا المكانة الخاصّة والمهمّة لهذا المصطلح والعدد في المعارف الإسلاميّة1.
 
ومع ذلك لم يرد في الأحاديث استحباب زيارة الأربعين إلّا في حقّ الإمام الحسين عليه السلام. وأمّا غيره من المعصومين عليهم السلام ممّن سبق سيّد الشهداء عليه السلام أو جاء بعده، فلم يثبت له زيارة الأربعين. فإذاً من الناحية التاريخيّة والحديثيّة، لا يوجد أي سابقة ليوم الأربعين ولأعماله، إلى زمان واقعة عاشوراء، وهذا يعتبر من الإمتيازات الخاصّة بالإمام الحسين عليه السلام.
 
 
 

1-للإطلاع أكثر حول هذا الموضوع، يراجع: رضا تقوي دامغانيّ، أربعين در فرهنك إسلامي. وكذلك: عبد الكريم باك نيا، أربعين در فرهنك أهل بيت عليهم السلام نشرية مبلّغان الرقم 52 و1383 الرقم 21، ص 33.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

19

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 استحباب زيارة الأربعين في الروايات والشواهد التاريخيّة:

 
إنّ الدليل الأهمّ لبيان فضيلة في زيارة أربعين سيّد الشهداء عليه السلام هو المرسلة الواردة عن الإمام العسكريّ عليه السلام حيث يقول: (علامات المؤمن خمس: صلاة الإحدى والخمسين، وزيارة الأربعين...)1.
 
إضافة إلى هذه الرواية، فإنّ الإمام الصادق عند تعليمه لصفوان بن مهران الجمّال، كيفيّة زيارة الأربعين، كان قد صرّح وبيّن عظمة هذه الزيارة وفضيلتها2.
 
أمّا بالنسبة إلى منشأ أهميّة الأربعين في المصادر الشيعيّة القديمة، فنقول بأنّ هذا اليوم فيه عناية خاصّة من جهتين: 
الأولى: من جهة رجوع الأسارى من الشام إلى المدينة.
 
الثانية: بسبب ما قام به جابر بن عبد الله الأنصاريّ الذي كان من الأصحاب البارزين لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم ولأمير المؤمنين عليه السلام ، حيث زار قبر سيّد الشهداء عليه السلام في يوم الأربعين.
 
روى الشيخ المفيد، والشيخ الطوسيّ والعلّامة الحلّي حول هذا الموضوع: (يوم العشرين من صفر هو اليوم الذي رجع فيه حرم الإمام الحسين عليه السلام من الشام إلى المدينة. وفي هذا اليوم أيضاً، قدم جابر ابن عبد الله الأنصاريّ صاحب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من المدينة إلى كربلاء، من أجل زيارة الإمام الحسين عليه السلام ، وقد كان هو 
 
 
 

1-الشيخ المفيد، المزار، ص 53 محمّد بن الحسن الطوسيّ، مصباح المتهجّد، ص 787 788 محمّد بن فتال النيشابوري، روضة الواعظين، ص 215 السيّد ابن طاووس، الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرّة في السّنة، ج 3، ص 100.
متن الرواية هكذا ورد: (علامات المؤمن خمس: صلاة الإحدى والخمسين، وزيارة الأربعين، والتختّم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم). بالنسبة إلــى مســـألة التختّم باليمين، يجب القول بأنّ هذا الأمر من تعاليم الأئمّة المعصومين عليهم السلام ، والذي هو في الواقع نوع من أنواع التحدّي لسيرة خلفاء بني أميّة، لأنّه وحسب قول الزمخشريّ فإنّ أوّل من اتخذ التختّم باليسار شعاراً لنفسه وعمل خلاف سنّة النبيّ صلى الله عليه واله وسلم هو معاوية: (العلّامة عبد الحسين الأمينيّ، الغدير، ج 10، ص 210) وكذلك فإنّ الشيعة يعتبرون الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلوات الجهريّة - الصبح والمغرب والعشاء- أمراً واجباً، والجهر بها في الصلوات الإخفاتيّة- الظهر والعصر- أمراً مستحبّاً وهذا أيضاً من توجيهات وإرشادات الأئمّة عليهم السلام لأنّه وكما ذكر الفخــر الرازيّ فإنّ بني أميّة هم الذين ابتدعوا الإخفات في البسملة من أجل أن يمحو كلّ أثر لعليّ عليه السلام. (للإطلاع أكثر على شرح هذه الرواية يُرجع إلى: السيّد محمّد عليّ القاضي الطباطبائيّ، تحقيق در بارهء أوّل أربعين حضــرت سيّد الشهداء عليه السلام ، ص 390 وما بعدها. 
2-الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجد، ص 788 789 أيضاً: تهذيب الأحكام، ج 6، ص 113 114 السيّد ابن طاووس، الإقبال، ج 3، ص 101 103 المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 98، ص 331 332.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

20

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 أوّل من زار قبر سيّد الشهداء عليه السلام)1.

 
الزائر الأوّل لقبر الإمام الحسين عليه السلام هو جابر بن عبد الله الأنصاريّ2
 
ذكرت المصادر التاريخيّة زيارة جابر لقبر سيّد الشهداء عليه السلام على نحوين وصيغتين، الصيغة الأولى واردة عن الطبريّ الشيعيّ حيث أورد زيارة جابر بصحبة عطيّة العوفيّ3 مع الإسناد وبالتفصيل، لكنّه لم يذكر شيئاً عن ملاقاة 
 
 
 

1-الشيخ المفيد، مسارّ الشيعة (طبع في المجلّد السابع من مؤلّفات الشيخ المفيد)، ص 46 الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، ص 787 رضيّ الدّين المطهّر الحلّي، العدد القويّة، ص 219.
2-جابر بن عبد الله الأنصاريّ بن عمرو بن حزام (حرام) بن ثعلبة الأنصاريّ كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم البارزين ومن أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام والأئمّة الأربعة عليهم السلام من بعده، وقد بايع النبيّ صلى الله عليه واله وسلم في واقعة العقبة الثانية حيث كان لا يزال غلاماً برفقة أبيه مع سبعين شخصاً من الناس، وشارك أيضاً ببيعة الرضوان (الشجرة):أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبرانيّ، المعجم الكبير، ج 2، ص 180 181)،وكتب الكشّي عنه: (كان جابر من حواريّي أمير المؤمنين عليه السلام وأحد المشاركين في بيعة العقبة الثانية، وهو آخر من بقي من أصحاب رسول الله (ص) ويعتبر من اتباع أهل البيت عليهم السلام وكان يجلس في المسجد وعلى رأسه عمامة سوداء ثمّ يرفع صوته وينادي: يا باقر العلم. وكان يتجوّل على عصاه في أزقّة المدينة المنوّرة ويحدّث في مجالسه بفضل عليّ عليه السلام، لم يكن الحجّاج يتعرّض لجابر لأنّه كان شيخاً كبير السّن)، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ، إختيار معرفة الرجال، ج 1، ص 38، ح:78، وص 41، ح: 87 88، وص 44، ح: 93، وص 124 125، ح: 195. 
وقال السيّد الخوئيّ في حقّه: (كان جابر من أنصار رسول الله، ومن أفضل أعوان أمير المؤمنين عليه السلام ، ويعدّ من شرطة الخميس)، معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة، ج 4، ص 330. وروى الكلينيّ بسنده الصحيح عن الإمام الباقر عليه السلام إنّه قال في جابر: (ما كذب جابر كذبة قطّ)، المصدر السابق، ص 334. الروايات التاريخيّة حول الغزوات التي شارك فيها جابر مختلفة، فالطبرانيّ يعتقد أنّه شارك في ثلاث عشرة غزوة، (المصدر السابق، ج 2، ص 182) وقال الشيخ الطوسيّ: إنّ جابراً قد رافق النبيّ صلى الله عليه واله وسلم في معركة بدر وثماني عشرة غزوة. (رجال الطوسيّ، ص 31 32). ويقول ابن الأثير: شارك جابر في سبع عشرة غزوة، ولم يحضر بدراً وأحداً بسبب منع أبيه له. لكن برأي الكلبيّ فإنّ جابراً قد شارك في أُحد وقيل: إنّه شارك في ثماني عشرة غزوة ورافق عليّاً في حرب صفّين (أسد الغابة، ج 1، ص 257).بالنسبة إلى فضيلته العلمية، يكفي ما قاله الذهبي عنه، حيث عدّه فقيه ومفتي المدينة المنوّرة في عصره (شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 3، ص 190) ويعتبر جابر من الرواة الذين نقل عنهم عدد وفير من الناس، وقد أحصى البعض رواياته فوصلت إلى (1540) حديثاً (الذهبي، المصدر السابق، ص 194). توفي جابر في سنة (78 ق) وقد بلغ من العمر أكثر من تسعين عاماً (رجال الطوسيّ، ص 32).
3-عطيّة بن سعد بن جنادة العوفي الجدلي القيسي من التابعين والمحدّثين ومفسّري الشيعة الكبار، وقد وفّق لزيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام بصحبة جابر، وهو يعتبر الزائر الثاني للإمام الحسين عليه السلام. وهو كوفيّ ولد في زمن خلافة أمير المؤمنين عليه السلام ، كانت أمّه أمة روميّة. روي حول تسميته إنّه حين الولادة طلب أبوه من أمير المؤمنين عليه السلام أن يعيّن له اسماً، فقال الإمام: (هو عطيّة الله) ومن حينها دعي باسمه (عطيّة) وجعل له الإمام عليه السلام مائة درهم من بيت المال أعطاها لأبيه سعد.
في ثورة عبد الرحمن بن الأشعث ضدّ الحجّاج بن يوسف الثقفي وقف إلى جانب عبد الرحمن وبعد هزيمته فرّ إلى بلاد فارس، 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

21

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 جابر مع أهل بيت الحسين عليه السلام.

 
الصيغة الثانية هي التي نقلها السيّد ابن طاووس مختصرة، ومن دون صحبة عطيّة لجابر، ثمّ يذكر لقاء جابر مع الأسرى من أهل البيت عليهم السلام الذين رجعوا من الشام.
 
ولنبحث أوّلاً رواية الطبريّ ثمّ نتناول بالبحث رواية ابن طاووس.
 
 روى عماد الدّين الطبريّ (المتوفَّى عام 525 ق) في كتاب بشارة المصطفى بسنده عن عطيّة بن سعد بن جنادة الكوفيّ الجدليّ أنّه قال:(خرجت مع جابر ابن عبد الله الأنصاريّ زائرين قبر الحسين بن عليّ بن أبي طالب، فلمّا وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل ثمّ اتّزر بإزار وارتدى بآخر، ثمّ فتح صرّة فيها سعد فنثرها على بدنه، ثمّ لم يخط خطوة إلّا ذكر الله تعالى، حتّى إذا دنا من القبر قال: ألمسنيه، فألمسته، فخرّ على القبر مغشيّاً عليه، فرششت عليه شيئاً من الماء، فلمّا أفاق قال: يا حسين ثلاثاً، ثمّ قال: حبيب لا يجيب حبيبه.
 
ثمّ قال: وأنّى لك بالجواب وقد شُحطت أوداجك على أثباجك وفُرّق بين بدنك ورأسك، فأشهد أنّك ابن خاتم النبيّين وابن سيّد المؤمنين وابن حليف التقوى وسليل الهدى وخامس أصحاب الكسا وابن سيّد النقباء وابن فاطمة سيدة النساء، وما لك لا تكون هكذا وقد غذّتك كفّ سيّد المرسلين وربيت في حجر المتّقين ورَضَعْتَ من ثدي الإيمان وفُطِمْتَ بالإسلام، فطبت حيّاً وطبت ميّتاً، غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيّبة لفراقك ولا شاكّة في الخيرة لك، فعليك سلام الله ورضوانه. وأشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا.
 
 
 

فكتب الحجّاج إلى حاكم بلاد فارس محمّد بن القاسم الثقفي أن يحضر عطيّة ويأمره بلعن عليّ عليه السلام فإن امتنع ولم يفعل ذلك فاجلده أربعمائة ضربة واحلق رأسه ولحيته. لكنّ عطيّة امتنع عن لعن عليّ عليه السلام فتحمّل ضربات الجلد والإهانة فداءً لولاية أمير المؤمنين عليه السلام. عندما أصبح قتيبة حاكم خراسان ذهب عطيّة إليه وبقي مقيماً في خراسان إلى حين أصبح عمر بن هبيرة حاكماً على العراق، فطلب عطيّة من ابن هبيرة في رسالة، الإذن له بالرجوع إلى الكوفة فوافق ابن هبيرة على طلبه وأقام بقيّة عمره في الكوفة إلى حين وفاته سنة (111 ق)، (محمّد بن سعد الطبقات الكبرى، ج 6، ص 304، محمّد بن جرير الطبريّ، المنتخب في ذيل المذيّل، ج 8، ص 128)، وكتب عطيّة تفسيراً للقرآن، وقد جمع في خمسة أجزاء وقد كان يقول: قرأت على ابن عبّاس القرآن بتفسيره ثلاث مرات، وقرأته عليه تلاوة سبعين مرّة. (الشيخ عبّاس القمي، سفينة البحار، ج 6، ص 296، المادة عطا).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

22

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 ثمّ جال ببصره حول القبر وقال: السلام عليكم أيّتها الأرواح التي حلّت بفناء الحسين وأناخت برحله، وأشهد أنّكم أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر وجاهدتم الملحدين وعبدتم الله حتّى أتاكم اليقين، والذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً لقد شاركناكم في ما دخلتم فيه.


قال عطيّة: فقلت له: يا جابر كيف ولم نهبط وادياً ولم نعل جبلا ًولم نضرب بسيفٍ، والقوم قد فُرّق بين رؤوسهم وأبدانهم وأُوتمت أولادهم وأُرملت أزواجهم؟!.

فقال لي: يا عطيّة سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول: من أحبّ قوماً حُشر معهم ومن أحبّ عمل قومٍ أُشرك في عملهم، والذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً إنّ نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين عليه السلام وأصحابه. خذني نحو أبيات كوفان.

فلمّا صرنا في بعض الطريق قال لي: يا عطيّة هل أوصيك؟ وما أظنّ أنّي بعد هذه السفرة ملاقيك. أحبب محبّ آل محمّد صلى الله عليه واله وسلم ما أحبّهم، وأبغض مبغض آل محمّد صلى الله عليه واله وسلم ما أبغضهم، وإن كان صوّاماً قوّاماً، وأرفق بمحبّ محمّد وآل محمّد، فإنّه إن تزلّ له قدم بكثرة ذنوبه ثبتت له أخرى بمحبّتهم، فإنّ محبّهم يعود إلى الجنّة ومبغضهم يعود إلى النّار. 

هل حضر أهل البيت عليهم السلام في يوم الأربعين إلى كربلاء؟

إنّ من المسائل المبهمة والمعقّدة في تاريخ عاشوراء، تعيين زمان وصول أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام ، لأنّ أغلب المصادر التاريخيّة والحديثيّة لم تنصّ على هذا الأمر، وأنّ هذه الحادثة هل وقعت في يوم العشرين من صفر(سنة ـ 61 ـ ق) أم بعد ذلك؟

إنّ ما نقلته الكثير من المصادر القديمة هو أنّ العشرين من صفر هو يوم إلحاق رأس الإمام الحسين عليه السلام ببدنه الشريف، وهذا ما سنتحدّث عنه لاحقاً في هذه المقالة. وممّا ورد أيضاً أنّ العشرين من صفر هو يوم رجوع حرم الإمام الحسين عليه السلام من الشام إلى المدينة. لكن هناك قول آخر حول هذا الموضوع، يعتبر 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

23

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 الأربعين هو يوم ورود ودخول الأسرى وعائلة الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء.

 
كتب السيّد ابن طاووس حول هذا الأمر قائلا ً:(وجدت في غير المصباح أنّ أهل البيت عليهم السلام وصلوا إلى كربلاء في عودتهم من الشام يوم العشرين من صفر)1.
 
إنّ وجود هذا الإبهام والتعقيد في هذه الحادثة، أصبح سبباً لظهور قولين في القرون المتأخّرة بين علماء الشيعة:
 
الأوّل: قول المنكرين لوصول أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء في الأربعين.
 
الثاني: قول المؤيّدين لهذه القضيّة.
 
ونحن قبل الشروع بتعيين أطراف النزاع من العلماء المنكرين والمؤيّدين، وقبل البحث والنقد حول دلائل كلّ طرف يجب توضيح مسألتين:
الأولى: زمان دخول الأسرى إلى الشام.
الثانية: مدّة إقامتهم في الشام.
 
زمان وصول الأسرى من أهل البيت إلى الشام:
 
إنّ المصادر التاريخيّة ذكرت موضوع دخول الأسرى إلى الشام على عدّة أنحاء:
 
الأوّل: نقلت بعض المصادر أنّ الأسرى دخلوا إلى الشام مع رأس الإمام الحسين عليه السلام. فقد كتب ابن حبّان (المتوفَّى عام 354هـ. ق.) حول هذا الأمر: (ثمّ سرّح عبيد الله بن زياد رأس الحسين بن عليّ عليه السلام مع النساء والأطفال الأسرى من آل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى الشام)2
 
وقال أيضاً الشيخ الصدوق قدس سره المتوفَّى عام 381 (ثمّ أمر عبد الله بالسبايا ورأس الحسين عليه السلام فحملوا إلى الشام)3
 
 
 

1-ابن طاووس: إقبال الأعمال ج 3 ص 100.
2-محمّد بن حبّان بن أحمد أبي حاتم التميميّ البستيّ، الثقات، ج 2، ص 312 (هامش المدخل: يزيد بن معاوية).
3-الأمالي، المجلس، 31، ح: 3، ص 230.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

24

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 وبحسب رواية الخوارزميّ عن لقاء سهل بن سعد مع سكينة بنت الإمام الحسين عليه السلام حين دخول أهل البيت عليهم السلام إلى الشام، حيث سألها سهل: ألك حاجة إليّ، فأنا سهل بن سعد ممّن رأى جدّك وسمع حديثه؟ فقالت له سكينة: يا سهل، قل لصاحب الرأس أن يتقدّم بالرأس أمامنا حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه فلا ينظروا إلينا، فنحن حرم رسول الله1 صلى الله عليه واله وسلم . هـذه الحادثــة تبيّن صحبــة رأس الإمام عليه السلام لأهل البيت عليهم السلام عند دخول بلاد الشام.

 
ومن المؤيّدين أيضاً لهذه المسألة: أبو حنيفة الدينوريّ (المتوفَّى عام 382 ق) وابن الأثير، وسبط ابن الجوزيّ2.
 
وروى السيّد ابن طاووس عن الإمام السجّاد عليه السلام:(حملني على بعير يطلع (يظلع) بغير وطاء، ورأس الحسين عليه السلام على عَلَم، ونسوتنا خلفي على بغالٍ أكفّ، والفارطة خلفنا وحولنا بالرّماح)3
 
وكتب في مكان آخر، حول جواب يزيد على رسالة عبيد الله بن زياد التي يطلب فيها معرفة الأوامر تجاه الأسرى:
(وأمّا يزيد بن معاوية فإنّه لمّا وصل إليه كتاب ابن زياد ووقف عليه، أعاد الجواب إليه يأمره فيه بحمل رأس الحسين عليه السلام ورؤوس من قتل معه، وبحمل أثقاله ونسائه وعياله)4.
 
الثاني: أنّ رأس الإمام عليه السلام قد وصل إلى دمشق قبل وصول الأسرى إليها، وقد قال بهذا الرأي ابن الأعثم والخوارزميّ5.
 
الثالث: إرسال أهل البيت عليهم السلام إلى الشام بعد مدّة من بعث رأس الإمام عليه السلام ولكن حين الدخول إلى الشام أُلحق الأسرى بحاملي رأس الإمام عليه السلام. وهذا الرأي هو قول الشيخ المفيد والطبرسيّ6.
 
 
 

1-مقتل الحسين عليه السلام ، ج 2، ص 68.
2-الأخبار الطوال، ص 260 الكامل في التاريخ، ج 2، ص 576 تذكرة الخواصّ، ص 260 263.
3-الإقبال، ج 3، ص 89.
4-اللهوف، ص 99.
5-كتاب الفتوح، ج 5، ص 127 129 مقتل الحسين عليه السلام ، ج 2، ص 62.
6-الإرشاد، ج 2، ص 118 إعلام الورى، ج 1، ص 473 المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 45، ص 130. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

25

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 طبعاً، من المحتمل أن يكون أهل البيت عليهم السلام قد دخلوا إلى دمشق بصحبة رأس الإمام عليه السلام ولكن الرأس قد حُمِلَ مسبَّقاً إلى يزيد، وهذا الإحتمال هو القول الأوّل في الواقع، وعليه أيضاً يُحمل القول الثاني.

 
من خلال ما سبق معنا، يمكن القول إنّه، وإن ورد في بعض المنقولات أنّ رأس الإمام عليه السلام لم يكن مع أهل البيت عليهم السلام حين الوصول إلى الشام، فإنَّ القول الأوّل- يعني مرافقة رأس الإمام عليه السلام لأهل البيت عليهم السلام حين ورود دمشق- مع ملاحظة تعدّد الناقلين، يبقى هو الأقوى. الآن يجب معرفة الزمان الذي دخل فيه أهل البيت عليهم السلام مع رأس الإمام عليه السلام إلى دمشق، في أيّ يوم هو؟
 
كتب أبو ريحان البيرونيّ في وقائع شهر صفر ما يلي:(في اليوم الأوّل- من شهر صفر- أُدخل رأس الحسين عليه السلام مدينة دمشق)1.
 
وروى القزوينيّ المتوفَّى (عام 682 هـ ق):(اليوم الأوّل من شهر صفر عيد بني أميّة، لأنّهم في ذلك اليوم أدخلوا رأس الحسين عليه السلام إلى دمشق)2.
 
لكن في المقابل، هناك رواية عماد الدّين الطبريّ، حيث اعتبر أنّ يوم ورود أهل بيت الحسين عليه السلام إلى دمشق، هو اليوم السادس عشر من ربيع الأوّل، أي بعد يوم عاشوراء بـ (66) يوماً3. إنّ القول المختار هو ما جاء في رواية أبي ريحان البيرونيّ، باعتبار أنّه من جهة، هو متقدّم زماناً على الطبريّ، ومن جهة ثانية، هو يمتاز بالدّقة في نقل الروايات التاريخيّة، إضافة إلى ذلك فإنّ رواية القزوينيّ والكفعميّ تؤيّده.
 
مدّة إقامة أهل البيت عليهم السلام في الشام:
 
إنّ الروايات التاريخيّة تختلف حول المدّة التي بقي فيها أهل البيت عليهم السلام في
 
 
 

1-أبو ريحان محمّد بن أحمد البيرونيّ الخوارزميّ، الآثار الباقية عن القرون الخالية، ص 331.
2-زكريا محمّد محمود القزوينيّ، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، ص 45.
3-عماد الدّين حسن بن عليّ الطبريّ كامل البهائيّ، ج 2، ص 293.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

26

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 الشام، والفترة التي أقاموا فيها العزاء هناك. تحدّث البعض- مثل ابن الأعثم والشيخ المفيد وتبعاً له الشيخ الطبرسيّ- بكلام مجمل عن هذه المدّة الزمنيّة فقالوا: (وأقاموا أيّاماً)1 أو (أقاموا أيّاماً)2.

 
ولكن البعض الآخر صرّح عن المدّة التي بقوا فيها هناك أو الأيّام التي أقاموا فيها العزاء. مثلا ً: محمّد بن جرير الطبريّ (المتوفَّى عام 310 هـ ق) والخوارزميّ (نقلا ً عن أبي مخنف) وابن عساكر وابن كثير يعتقدون أنّ مجالس العزاء في الشام استمرّت لمدّة ثلاثة أيّام مع نساء وأهل بيت معاوية3.
 
وكتب القاضي النعمان المغربيّ (المتوفَّى عام 363 ق) أنّ مدّة إقامــة أهل البيت عليهم السلام في الشام هي شهر ونصف الشهر4.
 
وروى سبط ابن الجوزيّ (المتوفَّى 654 ق): أنّ حرم يزيد قد أقاموا العزاء على الحسين عليه السلام لثلاثة أيّام5.
 
وقبل السيّد ابن طاووس القول بأنّ مدّة إقامة أهل البيت عليهم السلام في سجن دمشق هو شهر كامل6.
 
ونقل عماد الدّين الطبريّ (المتوفَّى 701 ق): أنّ أهل البيت عليهم السلام أقاموا العزاء سبعة أيّام7.
 
وقال المجلسيّ إنّهم أقاموا العزاء سبعة أيّام، وفي اليوم الثامن استدعاهم يزيد واسترضاهم وتلطّف بهم ثمّ جهّزهم للرجوع إلى المدينة المنوّرة8.
 
ونقل أيضاً في محلّ آخر أنّ نساء عائلة أبي سفيان أقامـــوا العـــزاء لأهــل
 
 
 

1-ابن الأعثم، كتاب الفتوح، ج 5، ص 133.
2-الإرشاد، ج 2، ص 122 إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 1، ص 475.
3-الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 353 الخوارزمــيّ الآثـــار الباقيـــة، ج 2، ص 81 ابن عســـاكر، ترجمــة الإمام الحسين عليه السلام ، ص 338 أبو الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقيّ، البداية والنهاية، ج 8، ص 212.
4-أبو حنيفة القاضي النعمان بن محمّد التميميّ المغربيّ، شرح الأخبار في فضائل الأئمّة الأطهار، ج 3، ص 269.
5-سبط ابن الجوزيّ، تذكرة الخواصّ، ص 262.
6-الإقبال، ج 3، ص 101.
7-كامل البهائيّ، ج 2، ص 302.
8-بحار الأنوار، ج 45، ص 196 وجلاء العيون، ص 409.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

27

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 البيت عليهم السلام ثلاثة أيّام1

 
لو غضضنا النظر عن قول القاضي النعمان، الذي نقل وحده فقط بأنّ الإقامة في الشام كانت لمدّة شهر ونصف، ولم يقل بهذا القول أحد ممّن سبقه أو لحقه، وكذلك رأي السيّد ابن طاووس الذي عبّر عن القول بأنّ بقاء أهل البيت عليهم السلام في الشام كان شهراً كاملا ً، عبّر بـ (قيل).. نقول مع غضّ النظر عن هذين القولين، فإنّ الروايات الأخرى نقلت أنّ حرم الإمام عليه السلام بعد خلاصهم من السّجن، لم يبقوا في الشام لأكثر من ثلاثة أيّام أو سبعة منها. وهذا يمكن القبول به لو عرفنا أنّ إقامتهم هناك أكثر من ذلك فإنّه لن يكون فقط من دون فائدة ومصلحة ليزيد، بل سيكون طول الإقامة سبباً لظهور الثورة والإضطرابات الشعبيّة ضدّ الجهاز الحاكم، ولهذا نرى يزيد قد أسرع في استمالة أهل البيت عليهم السلام وإرضائهم، فجهّزهم للرحيل نحو المدينة المنوّرة.
 
بناءً على ما سبق، يجب القبول بأنّ إقامة أهل البيت عليهم السلام في الشام لم يكن في أحسن الأحوال قد تجاوز عشرة أيّام.
 
المنكرون لمسألة وصول أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء في الأربعين الأوّل:
 
إنّ بعض العلماء، وبسبب الإختلافات الموجودة في بعض الروايات حول زمان ورود أهل البيت عليهم السلام إلى دمشق، ومدّة إقامتهم في الشام، لم يستطيعوا تقبّل مسألة وصول أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء في الأربعين الأوّل بل اعتبروها- ولأسباب ما- مستبعدة، بل في حكم المحال. هنا نريد أن نستعرض هذا الرأي:
 
1- لقد كان من المشهور بين علماء الشيعة في ما مضى أن ابن نما الحلّي (المتوفَّى 645 ق) في كتابه (مثير الأحزان) وكذلك السيّد ابن طاووس في كتابه اللهوف) من القائلين بوصول أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء في يوم العشرين من صفر (عام 
 
 
 

1-بحار الأنوار، ج 45، ص 196 وجلاء العيون، ص 409.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

28

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 61 هـ ق)1. وقد أكّد على هذه النقطة أيضاً بعض المحقّقين المعاصرين، عندما حاول أن يجيب عن هذه الشبهة ويردّ رأي المنكرين لتلك الزيارة في الأربعين2.

 
لكن هذا الإعتقاد ليس في محلّه، لأنّه لم يصرّح أيّ واحدٍ من هذين العلمين في كلماتهما أبداً عن موضوع مجيء أهل البيت إلى كربلاء، في العشرين من صفر، بل اقتصر كلامهما على حكاية ورود أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء والملاقاة مع جابر فقط3، بل إنّ ابن طاووس (ره) نفى صراحة وصول أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء في يوم العشرين من صفر في كتابه (الإقبال بالأعمال الحسنة، والذي استمرّ في تأليفه منذ ما قبل وفاته بتسع سنوات إلى آخر عمره أي إلى العام السبعين من عمره)4 فهو بعد أن ينقل رأي الشيخ المفيد (ره) والشيخ الطوسيّ (ره) والرأي القائل بأنّ يوم الأربعين هو يوم خروج الأسرى من الشام إلى كربلاء.. هناك ينفي صراحةً وصولهم إلى كربلاء في العشرين من صفر، وهذا كلامه:
(وجدت في المصباح أنّ حرم الحسين عليه السلام وصلوا المدينة مع مولانا عليّ بن الحسين عليه السلام يوم العشرين من صفر5. وفي غير المصباح أنّهم وصلوا إلى كربلاء
 
 
 

1-الظاهر أنّ هذه النسبة إلى السيّد ابن طاووس لها عدّة أسباب: فمن ناحية قد صرّح الشيخ المفيد والشيخ الطوسيّ بأنّ يوم الأربعين هو يوم مجيء جابر بن عبد الله إلى كربلاء. ومن ناحية ثانية وكما سيظهر لاحقاً فإنّ بعض المصادر ذكرت بأنّ يوم العشرين من صفر هو يوم إلحاق الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ببدنه على يد أهل البيت عليهم السلام. ومن ناحية ثالثة فإنّه لا يوجد أيّة رواية عن مجيء أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء في وقت آخر غير الأربعين، ومن هنا فقد حملوا كلام السيّد ابن طاووس على الرأي القائل بأنّ ملاقاة جابر مع أهل البيت عليهم السلام كانت في كربلاء يوم الأربعين. 
ولكن يحسن الإلتفات إلى أنّ الشيخ المفيد والشيخ الطوسيّ اللذين صرّحا بحضور جابر مع أهل البيت عليهم السلام صرّحا بأنّ ارتحالهم من الشام نحو كربلاء كان في يوم الأربعين لا أنّهم وصلوا إليها في الأربعين.
وفي المقابل فإنّ السيّد ابن طاووس وابن نما الحلّي وإن صرّحا بملاقاة جابر مع أهل البيت عليهم السلام ولكنّهما لم يذكرا أبداً أنّ هذا اللقاء كان في يوم الأربعين. وقد أشار المحدّث القمّي أيضاً إلى هذه النقطة المهمّة في كتابه (منتهى الآمال، ج 2، ص 86).
2-السيّد محمّد عليّ القاضي الطباطبائيّ (تحقيق در بارهء أوّل أربعين حضرت سيّد الشهداء عليه السلام )، ص 21.
3-هذه هي عبارة ابن نما في هذه الحادثة:
(ولمّا مرّ عيال الحسين عليه السلام بكربلاء، وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاريّ وجماعة من بني هاشم قدموا لزيارته في وقتٍ واحدٍ، فتلاقوا بالحزن والإكتئاب والنوح على هذا المصاب المقرح لأكباد الأحباب) مثير الأحزان، ص 86.
وكتب أيضاً ابن طاووس حول هذا الموضوع، (ولمّا رجع نساء الحسين عليه السلام وعياله من الشام وبلغوا العراق، قالوا للدليل مرّ بنا على طريق كربلاء، فوصلوا إلى موضع المصرع فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاريّ وجماعة من بني هاشم ورجالا ًمن آل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قد وردوا لزيارة قبر الحسين عليه السلام فوافوا في وقت واحد وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد واجتمع إليهم نساء ذلك السواد فأقاموا على ذلك أيّاماً)، اللهوف، ص 114.
4-السيّد ابن طاووس، الإقبال، ج 3، ص 370.
5-يجب الإلتفات إلى أنّ عبارة الشيخ الطوسيّ في مصباح المتهجّد هي (الرجوع) وليس (الوصول) كما قال ابن طاووس، وهذه 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

29

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 أيضاً في عودتهم من الشام يوم العشرين من صفر، وكلاهما مستبعد، لأنّ عبيد الله بن زياد، لعنه الله، كتب إلى يزيد يعرّفه ما جرى ويستأذنه في حملهم ولم يحملهم حتّى جاء الجواب إليه، وهذا يحتاج إلى نحو عشرين يوماً أو أكثر منها؛ لأنّه لمّا حملهم إلى الشام روي أنّهم قاموا فيها شهراً في موضع لا يكنّهم من حرّ ولا برد، وصورة الحال تقتضي أنّهم تأخّروا أكثر من أربعين يوماً من يوم قتله عليه السلام إلى أن وصلوا إلى العراق أو المدينة.

 
وأمّا تعريجهم على كربلاء، في طريق عودتهم إلى المدينة، فيمكن ذلك، ولكنّه لا يكون حينئذٍ وصولهم إليها يوم العشرين من صفر، لأنّهم اجتمعوا، على ما رُوي، بجابر بن عبد الله الأنصاريّ، فإن كان جابر وصل زائراً من الحجاز فيحتاج وصول الخبر إليه ومجيئه أكثر من أربعين يوماً، وعلى أن يكون جابر وصل من غير الحجاز، من الكوفة أو غيرها1. كما هو ظاهر فإنّ ابن طاووس لم ينف، من الأصل، مجيء أهل البيت عليهم السلام لا في كتاب اللهوف ولا في كتاب الإقبال، وكذلك فإنّ العبارة الأخيرة للسيّد في الإقبال هي قرينة واضحة على أنّه لم يقل بوصول أهل البيت عليهم السلام في الأربعين إلى كربلاء- كما نسب إليه البعض خطأ- لأنّه لو كان رأيه هو هذا لبيّنه في كتاب (الإقبال) الذي كتبه بعد اللهوف بعدّة سنوات، فيقول مثلا ً: إنّي قد رجعت عن قولي الذي ورد في كتاب اللهوف، وكلامي النهائيّ في هذه المسألة هو ما أذكره هنا.
 
وعليه فإنّ ابن طاووس وابن نما يُعتبران من المنكرين لوصول أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء في العشرين من شهر صفر سنة (61 ق).
 
2-ومن المنكرين أيضاً لتلك المسألة العلّامة المجلسيّ (المتوفَّى 111 ق) وقد كتب حول هذا الموضوع:
 
 
 
 

هي عبارة الشيخ:
(وفي يوم العشرين منه كان رجوع حرم سيّدنا أبي عبد الله الحســـين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام من الشــام إلـــى مدينـــة الرســــول صلى الله عليه واله وسلم ). ومن الواضح أنّ الرجوع إلى المدينة هو غير الوصول إليها، ومن هنا يظهر أنّ بيان ابن طاووس لكلام الشيخ ليس صحيحاً، وعليه فإنّ النسبة التي جعلها ابن طاووس إلى الشيخ حول وصول أهل البيت عليهم السلام إلى المدينة واستبعاده لذلك هي منتفية أصلاً وموضوعاً.
1-ابن طاووس، الإقبال، ج 3، ص 100 101 المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 98، ص 335 336.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

30

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 (إعلم أنّه ليس في الأخبار ما العلّة في استحباب زيارته صلوات الله عليه في هذا اليوم. والمشهور بين الأصحاب أنّ العلّة في ذلك رجوع حرم الحسين صلوات الله عليه في مثل ذلك اليوم إلى كربلاء عند رجوعهم من الشام وإلحاق عليّ بن الحسين صلوات الله عليه الرؤوس بالأجساد، وقيل في مثل ذلك اليوم رجعوا إلى المدينة، وكلاهما مستبعدان جدّاً لأنّ الزمان لا يسع ذلك كما يظهر من الأخبار والآثار، وكون ذلك في السنة الأخرى أيضاً مستبعد1

 
3- ومنهم أيضاً الميرزا حسين النوريّ (1254 ـ 1320 ق) مؤلّف كتاب (مستدرك الوسائل) فهو بعد أن ينقل في كتابه (اللؤلؤ والمرجان) كلام السيّد ابن طاووس في اللهوف الذي يؤيّد مسألة مجيء الأسرى إلى كربلاء، يأخذ بنقد ذلك الرأي وينفيه، ونحن سنستعرض، في هذه المقالة بالتفصيل، إلى أدلّته التي اعتمد عليها.
 
4- كذلك الشيخ عبّاس القمّي (المتوفَّى 1359 ق) تبعاً لأستاذه المحدّث النوريّ، فقد نفى حضور أهل البيت عليهم السلام في الأربعين إلى كربلاء2.
 
5- ومن المنكرين أيضاً لهذه الحادثة العلّامة أبو الحسن الشعرانيّ (المتوفَّى 1352 ش)3.
 
6-  وأنكر الشهيد الأستاذ مرتضى المطهّري خبر لقاء جابر بأهل البيت عليهم السلام وقال: إنّ الشخص الوحيد الذي نقل هذا الأمر هو السيّد ابن طاووس في اللهوف، ولم ينقله أحد غيره، بل إنّ السيّد نفسه أيضاً لم يتعرّض لهذا الموضوع في كتبه الأخرى. ثمّ إنّ الدليل العقليّ أيضاً لا يتوافق مع هذا الرأي4.
 
هنا لا بدّ من التنبيه إلى أنّه إن كان مقصود الأستاذ المطهريّ من خبر اللقاء، هو اللقاء يوم الأربعين، فإنّ ابن طاووس- وكما نبّهنا عليه سابقاً-لم يقل بذلك أبداً حتّى في كتابه اللهوف.
 
 
 

1-بحار الأنوار، ج 98، ص 332.
2-منتهى الآمال، ج 2، ص 1014 1015.
3-دمع السجوم (ترجمة نفس المهموم)، ص 269.
4-مرتضى المطهريّ، الملحمة الحسينيّة، ج 1، ص 30.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

31

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 7- ومنهم المحقّق محمّد إبراهيم آيتي الذي يعتبر مســألـــة وصــــول أهــل البيت عليهم السلام إلى كربلاء، في الأربعين، من المآسي التاريخيّة حيث لا يمكن إيجاد أي سند موثّق ومؤكّد لها بين أيدينا1.

 
8- ومن المنكرين أيضاً لهذه الحادثة السيّد الدكتور جعفر الشهيديّ2.
 
المؤيّدون لمسألة وصول أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء
 
في مقابل هؤلاء المنكرين، هناك بعض العلماء قد ذهبوا إلى القول بحضور أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء في الأربعين الأوّل أو على الأقلّ هذا ما يُستفاد من ظاهر كلامهم.
 
1-  كتب أبو ريحان البيرونيّ (المتوفَّى 440 ق):وفي العشرين ردّ رأس الحسين عليه السلام إلى جثته حتّى دفن مع جثّته، وفيه زيارة الأربعين وهم حرمه، بعد انصرافهم من الشام)3
 
كما يلاحظ في كلام البيرونيّ، فإنّه يعطي سبباً آخر لتسمية الزيارة بالأربعين، غير السبب الذي ذكره المشهور، وذاك السبب- حسب كلام البيرونيّ- هو أنّ القافلة كان عددها أربعين شخصاً، وبهذا العدد جاؤوا لزيـــارة مقام سيّد 
 
 
 

1-محمّد إبراهيم آيتي، تحقيق تاريخ عاشوراء، ص 139 141.
2-هو من خلال طرح بعض الأسئلة شكّك في هذا الموضوع: (هل ذهبت القافلة من دمشق إلى المدينة مباشرة أم سلكوا طريقاً ذا مسافة طويلة حتّى وصلوا إلى كربلاء ليزوروا الشهداء؟ هل وافق يزيد على هذا العمل؟ ثمّ لو صحّ رجوع القافلة إلى كربلاء، فهل حقّاً قد حصل اجتماع بين أهل البيت عليهم السلام وبين جابر الذي جاء أيضاً من أجل الزيارة؟ هل أقام أهل المصيبة مجلساً للعزاء؟ ثمّ كيف سمح حاكم الكوفة لنفسه أن يقام في كربلاء مثل هذه المراسم على بعد عدّة فراسخ من مركز إمارته؟ ولو سلّمنا إمكان وقوع مثل هذه الحوادث، فما هو زمان هذا الإجتماع؟ هل هو بعد عاشوراء بحدود أربعين يوماً؟ من البديهيّ أنّ هذا الأمر بعيد عن الحقيقة فإنّ ذهاب المسافر العادي من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى دمشق ورجوعه بوسائل النقل الموجودة في ذلك العصر يحتاج حتماً إلى أكثر من أربعين يوماً من الزمان، فكيف لو كان المسافر هو قافلة نساء وأطفال، فكيف ستكون حركتهم؟!
وهناك أيضاً مسألة لزوم أخذ ابن زياد الأوامر من يزيد بالنسبة إلى إرسال القافلة إلى دمشق ثمّ تلقي الجواب من يزيد على ذلك. فنحن لو أخذنا بعين الإعتبار كلّ هذه المقدّمات، لاحتاج تحقّق ذلك كلّه إلى شهرين من الزمان أو ثلاثة أشهر. وكذلك افتراض وصول القافلة إلى كربلاء في أربعين السّنة اللاحقة (عام 62 ق) هو افتراض غير صحيح، لأنّ بقاء القافلة في دمشق لمدّة طويلة ليس لصالح يزيد. على كلّ حال فإنّ الإبهام يحيط بنتائج هذه الأبحاث، ومع كلّ تلك الجهود التي بذلت في تحقيق هذه الحادثة فيجب الإعتراف بأنّ الحقيقة لا يعلمها إلّا الله تعالى. (السيّد حعفر الشهيديّ، سيرة فاطمة الزهراء  عليها السلام ،ص 261)ـ عند البحث والنقد لنظرية المحدّث النوريّ سيجاب عن كلّ تلك الأسئلة المطروحة أعلاه.
3-البيرونيّ، الآثار الباقية عن القرون الخالية، ص 331.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

32

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 الشهداء عليه السلام في كربلاء ووافق ذلك في العشرين من صفر.

 
2- وقال الشيخ البهائيّ (المتوفَّى ـ 1030 ق):
التاسع عشر 1- أي من صفر- فيه زيارة الأربعين لأبي عبد الله الحسين عليه السلام وفي هذ اليوم وهو يوم الأربعين من شهادته عليه السلام كان قدوم جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) لزيارته عليه السلام واتفق ذلك اليوم ورود حرمه عليه السلام من الشام إلى كربلاء قاصدين المدينة على ساكنها السلام والتحية2.
 
3- ومن المؤيّدين لتلك الواقعة أيضاً السيّد محمّد عليّ القاضي الطباطبائيّ: حيث حاول إثبات إمكانيّة وصول أهل البيت عليهم السلام في الأربعين (عام 61 ق) من خلال النقد والرّد على الشبهات التي وجّهها المحدّث النوريّ الذي أنكر ذلك الوصول. ونحن، خلال هذه المقالة، سنشير إلى ذلك الردّ والنقد.
 
4- ومنهم الميرزا محمّد الإشراقيّ المعروف بــ (أرباب) (المتوفَّى 1341 ق) حيث إنّه بعدما عرض كلام الطبريّ في (بشارة المصطفى) حول زيارة جابر، قال: لم يذكر في هذا الخبر المعتبر أنّ زيارة جابر كانت في يوم الأربعين أم في غيره، ولم يذكر فيه أيضاً أنّ زيارة جابر كانت في السّنة الأولى لشهادة الإمام الحسين عليه السلام أم السّنة التي بعدها، لكن المذكور في الكتب الشيعيّة أنّ هناك أمرين قد تحقّقا على كلّ حال:
 
الأوّل: أنّ الكثيرين من الخاصّة والعامّة قد ذكروا ورود أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء في يوم الأربعين.
الثاني: وهو ثابت في السيرة والتاريخ، أنّ أهل البيت عليهم السلام لم يسافروا أبداً إلى العراق بعد عام الشهادة (61 ق)3.
 
 
 

1-إنّ احتساب يوم التاسع عشر من صفر هو يوم الأربعين، مبنيّاً على كون العدّ يبدأ من اليوم العاشر نفسه، ولكن لو لاحظنا أنّ غير الشيخ البهائيّ لم يعتبر اليوم التاسع عشر هو يوم الأربعين، لعلمنا بأنّ مبدأ حساب الأربعين هو الحادي عشر من المحرّم، لأنّه وكما ذكر السيّد في الإقبال، فإنّ شهادة الإمام الحسين عليه السلام حصلت في الساعات الأخيرة ليوم العاشر من المحرّم، وعليه فإنّ هذا اليوم ليس داخلا ً في العدّ والحساب.
2-توضيح المقاصد،ص 6.
3-الميرزا محمّد الإشراقيّ (أرباب)، الأربعين الحسينيّة، ص 205.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

33

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 البحث حول أدلّة إنكار المحدّث النوريّ لحضور أهل البيت عليهم السلام في كربلاء يوم الأربعين:

 
نفى المحدّث النوريّ وصول أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء في الأربعين الأوّل، بعد أن أورد سبعة إشكالات على نظريّة السيّد ابن طاووس. وقد توسّع العلّامة النوريّ في طرح هذه الإشكالات، وتبعه عليها آخرون، ونحن هنا سنعرضها ولكن باختصار مع بعض التصرّف والإضافة والتغيير ثمّ نردّ عليها ونجيب عنها.
 
الإشكال الأوّل: عدم تناسب الزمان مع الوقائع: 
 
إنّ الحوادث التي وقعت خلال الأيّام الأربعين متعدّدة، منها: رسالة عبيد الله بن زياد إلى يزيد لأخذ الأوامر بالنسبة إلى الأسرى، والتي تحتاج إلى عشرين يوماً تقريباً أو أكثر. ومنها: مدّة بقاء أهل البيت عليهم السلام في الشام حيث صرّح البعض بأنّها كانت شهراً كاملا ًوقال البعض الآخر شهراً ونصف الشهر3.
 
وعليه فإنّ المدّة الزمنيّة من أجل تلقّي الأوامر من يزيد ثمّ ذهاب أهل البيت إلى الشام وإقامتهم هناك ومن ثمّ رجوعهم من هناك.. هذه المدّة لا تنسجم أبداً ولا تسمح بحضور أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء واللقاء مع جابر في العشرين من صفر. ولذلك لا يمكن القبول بوصولهم إلى كربلاء يوم الأربعين، عام (61) ق.
 
النقد: 
 
إنّ هناك الكثير من الشواهد التاريخيّة تدلّ على أنّ بعض الأشخاص قد قطعوا المسافة بين الكوفة والشام بما يقارب عشرة أيّام بل أقلّ من أربعة منها. وقد ذكر القاضي الطباطبائيّ هذه المؤيّدات والشواهد التي بلغت سبعة عشر مورداً4
 
 
 

1-الميرزا حسين النوريّ الطبرسيّ (اللؤلؤ والمرجان)، ص 232 243.
2-ابن طاووس، الإقبال، ج 3، ص 101.
3-أبو حنيفة النعمان بن محمّد التميميّ المغربيّ، شرح الأخبار في فضائل الأئمّة الأطهار، ج 3، ص 269.
4-السيّد محمّد عليّ القاضي الطباطبائيّ (تحقيق در بارهء أوّل أربعين سيّد الشهداء عليه السلام )، ص 33 133.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

34

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 وأمّا ما قاله المحدّث النوريّ فهو مجرّد استبعاد لا غير، ولا يجعل المسألة مستحيلة كما أراد هو إثباته. طبعاً إنّ بعض الشواهد التي أوردها المحقّق الطباطبائيّ قابلة للنقد والنقاش، ولا يمكن القبول بها، ولكنّها في مجموعها قادرة على إثبات ذلك الأمر. وأمّا في ما يرتبط بموضوع إقامة أهل البيت عليهم السلام في الكوفة لمدّة عشرين يوماً من أجل إيصال التكليف من يزيد إلى ابن زياد، فإنّ هناك الكثير من المصادر القديمة لم تأت على ذكر أيّة مراسلة بين ابن زياد وبين يزيد لمعرفة كيفيّة التصرّف مع الأسرى ورؤوس الشهداء.

 
بل قد صُرّح في بعضها أنّ ابن زياد قد بعث برسالة إلى يزيد برفقة رأس الإمام الحسين1 عليه السلام . وفي بعضها الآخر أُشير فقط إلى أصل مجيء الرسول من عند يزيد إلى عبيد الله يأمره بإرسال أهل البيت عليهم السلام إلى الشام2.
 
وعليــه فــإنّ مــا قيـــل حول أخذ ابن زياد الإذن من يزيد ليس معلوماً من الناحية التاريخيّة؛ لأنّ الطبريّ الذي نقل واقعة كربلاء عن أشخاص مثل الإمام الباقر عليه السلام والحصين بن عبد الرحمن، وهشام الكلبيّ (تلميذ أبي مخنف) لم يذكر شيئاً عن إذن عبيد الله من قِبل يزيد. نعم في روايته فقط عن عوانة ابن الحكم أشار إلى هذه المسألة، ولكن هذا الخبر مخدوش ومردود بسبب الإشكالات الكثيرة الواردة عليه3.
 
الإشكال الثاني: عدم ذكر هذه الحادثة في المصادر التاريخيّة القديمة:
 
إنّ الطبريّ4، والشيخ المفيد5 (اللذين نقلا واقعة عاشوراء عن أبي مخنف)
 
 
 

1-ابن الأعثم، كتاب الفتوح، ج 5، ص 127 586.
2-محمّد بن سعد (ترجمة الحسين عليه السلام ومقتله) مجلّة تراثنا 1408 ق العدد: 10، ص 190.
3-يراجع: محمّد تقي تستريّ (شوشتري) قاموس الرجال، ج 12، ص 37.
4-الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 353 354.
5-الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 22.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

35

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 ومن بعدهما أيضاً الطبرسيّ1 (المتوفَّى 548 ق) والخوارزميّ2 (المتوفَّى 568 ق) وابن الأثير (المتوفَّى 630 ق) وسبط بن الجوزيّ وعماد الدّين الطبريّ3 لم يتعرّض أيّ منهم لمثل هذه الحادثة. ثمّ يضيف المحدّث النوريّ في هذا الصّدد:

(ولا يمكن أن يكون أهل البيت عليهم السلام قد ذهبوا، خلال سفرهم إلى كربلاء، وهناك يجتمعون مع جابر، ويقيمون العزاء لعدّة أيّام، ثمّ لا يرى الشيخ المفيد شيئاً من ذلك في أي مصدر معتمد، أو يراه ولكن لا ينقله في هذا المقام4!!!
 
النقد:
 
أوّلاً: إنّ عدم التصريح بوقوع هذه الحادثة هو غير التصريح بعدم وقوعها، ولذا لا يمكن الاستنتاج من عدم ذكر المؤرّخين للواقعة أنّهم ينفونها، أو أنّ الواقعة لم تحصل! ولذلك نجد أنّ بعض الحوادث والقضايا التاريخيّة لم ترد في المصادر الروائيّة، لعلل5 متعدّدة لا مجال لذكرها هنا.
 
ثانياً: إنّ بعض المؤرّخين والعلماء قد صرّحوا- كما سيأتي معنا- بذهاب أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء، ومنهم البيرونيّ وابن نما والسيّد ابن طاووس والشيخ البهائيّ.
 
ثالثاً: إنّ أسلوب كلام الشيخ المفيد يدلّ على حذف بعض الحوادث التاريخيّة، فهو يقول:
(فسار (أي الرسول) معهم في جملة النعمان (بن بشير)، ولم يزل ينازلهم في الطريق، ويرفق بهم،كما وصّاه يزيد، ويرعونهم حتّى دخلوا المدينة).
 
إنّ عبارة (حتّى دخلوا المدينة) تعني أنّ هناك حوادث أخرى وقعت، إلّا أنّ الشيخ المفيدلم يتعرّض لها، وهذا إمّا بسبب قصد الشيخ الإختصار في كتابه (الإرشاد)، وإمّا بسبب إقتصاره، في النقل، على الأخبار التاريخيّة المتواترة 
 
 
 

1-أبو عليّ الفضل بن الحسن الطبرسيّ، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 1، ص 476.
2-مقتل الحسين عليه السلام ، ج 2، ص 82.
3-كامل البهائيّ، ج 2، ص 302.
4-المحدّث النوريّ، (اللؤلؤ والمرجان)، ص 233.
5-كما فعل الشيخ المفيد نفسه، حيث امتنع عن نقل تفاصيل واقعة السقيفة، ومسألة البيعة لأبي بكر بسبب السلطان الحاكم في عصره، الإرشاد، ج 1، ص 189.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

36

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 الورود، أو الأخبار المستفيضة في واقعة ما، وحيث لم يكن في حوزته خبر متواتر أو مستفيض في مسألتنا هذه، فلم يأت على ذكرها.

 
الإشكال الثالث: الأخبار الحاكية عن رجوع أهل البيت عليهم السلام إلى المدينة في العشرين من صفر.
 
إنّ الشيخ المفيد في (مسارّ الشيعة) ومن بعده الشيخ الطوسيّ في (مصباح المتهجّد) والعلّامة الحلّي في (العدد القويّة)1 و (منهاج الصلاح)2 والكفعميّ في كتاب (المصباح)3، ليس فقط لم يذكروا حادثة وصول أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء، بل صرّحوا بأنّ يوم العشرين من صفر هو يوم رجوع أهل البيت عليهم السلام من الشام إلى المدينة.
 
الجواب والنقد: 
 
إنّ المصادر المذكورة أعلاه لم تصرّح أبداً بعدم حضور أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء.
وعلى هذا، فمن الممكن وجود بعض المنقولات حول هذه القضيّة (كما في نقل أبي ريحان البيرونيّ) لكنّها لم تصل إليهم، أو أنّها وصلت ولكنّهم لم يعتمدوا عليها لعللٍ لا نعلمها.
إضافة إلى ذلك- كما سبقت الإشارة- فإنّ أبا ريحان ومن بعده الشيخ البهائيّ قد صرّحوا بأنّ يوم الأربعين هو يوم حضور أهل البيت عليهم السلام في كربلاء.
 
الإشكال الرابع: عدم ذكر ملاقاة جابر مع أهل البيت عليهم السلام في الرواية.
 
 
 

1-العدد القويّة، ص 219.
2-هذا الكتاب هو مختصر كتاب مصباح المتهجّد الذي ينقل عنه المحدّث النوريّ في كتابه (دار السلام).
3-الشيخ إبراهيم بن عليّ العامليّ الكفعميّ، المصباح، قم، منشورات الرضا والزاهديّ، ص 489 وص 510.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

37

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 إنّ الكتب التي تحدّثت عن زيارة جابر، في يوم الأربعين، مثل كتاب بشارة المصطفى، مقتل الحسين (الخوارزميّ)، ومصباح الزائر، هي نفسها لم تذكر شيئاً عن ملاقاته مع أهل البيت عليهم السلام ، مع أنّه لو كانت هذه الحادثة قد وقعت فإنّ هذه المصادر حتماً ستنقلها.


النقد: 

أوّلاً: إنّ بعض المصادر- كما مرّ سابقاً- قد ذكرت زيارة أهل البيت عليهم السلام لقبر الإمام الحسين عليه السلام.

ثانياً: الظاهر أنّه إمّا أنّ جابراً قد زار قبر الإمام عليه السلام مرّتين على أقلّ التقادير، مرّة مع عطيّة العوفيّ، وهذا ما نقله الطبريّ والخوارزميّ وابن طاووس في مصباح الزائر، ومرّة أخرى حسبما نقله ابن نما الحلّي والسيّد ابن طاووس. وإمّا أنّ السيّد ابن طاووس (مثل الشيخ المفيد) كان بناؤه هو اختيار الحوادث المهمّة في نظره واختصارها، ومن هنا نراه قد نقل لقاء جابر مع أهل البيت عليهم السلام ولكنّه لم يذكر شيئاً عن صحبة عطيّة لجابر.

الإشكال الخامس: حركة أهل البيت عليهم السلام على الطريق السلطانيّ.

إنّ المحدّث النوريّ يعتقد أنّ مسير حركة أهل البيت عليهم السلام من الكوفة إلى الشام، إمّا كان على الطريق السلطانيّ وإمّا على طريق البادية. ومن أجل إثبات أنّ المسير كان على الطريق السلطانيّ استدلّ بالبراهين والشواهد الآتية:

1- إنّ كتاب (مقتل أبو مخنف) الأصل، وإن كان مفقوداً وما هو موجود بين أيدينا قد سقط عن الاعتبار والإعتماد بسبب التغييرات الكثيرة التي طالته، ولكن ما هو متّفق عليه في كلّ النسخات أنّ أهل البيت عليهم السلام قد حُملوا إلى الشام عن طريق: تكريت والموصل ونصيبين وحلب، وهو الطريق السلطانيّ.

وهذا الطريق عامر في معظم مسافته، ويمرّ في قرى كثيرة ومدن ٍعامرة ٍ، ويوجد على هذا الطريق ما يقرب من الأربعين منزلاً، وقد وقعت خلاله قضايا متعدّدة مع بعض الكرامات مثل قضيّة الراهب في قنّسرين، وأيضاً الكرامات 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

38

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 التي ظهرت من الرأس المبارك للإمام عليه السلام خلال ذلك المسير، وقد نقل كلّ ذلك القطب الراونديّ1(المتوفَّى 572 ق) وابن شهر آشوب2 (المتوفَّى 588 ق) نقلا ًعن الخصائص للنطنزيّ، وسبط بن الجوزيّ3(المتوفَّى 654 ق) ولا يمكن طبعاً ردّ كلّ هذه الروايات وتكذيبها، خصوصاً أنّه لا يوجد في البعض منها أيّ دافع للجعل والوضع.

 
2- ما ذكره عماد الدّين الطبريّ في كتاب (كامل البهائيّ) حيث كان يبيّن حركة الأسرى ويعدّد بعض المدن التي تؤيّد المسير السلطانيّ، كَتَبَ الطبريّ:
(مرّوا في ذلك المسير على: الآمد والموصل ونصيبين وبعلبك وميّافارقين وشيزر). وروى أيضاً الحوادث التي وقعت في المراحل والمنازل4.
 
فإذاً لو أخذنا بعين الإعتبار طريق السفر، مـع أقـــلّ مـــدّة توقـــف خــلالها أهـل البيت عليهم السلام في الشام، فإنّ رجوعهم في الأربعين الأوّل يعتبر من المحالات والممتنعات.
 
يقول المحدّث النوريّ حول حركة أهل البيت عليهم السلام عن طريق البادية: 
ولو قبلنا أنّ مسير حركتهم كان من الصحراء، فإنّ رجوعهم في الأربعين الأوّل سيكون ممتنعاً أيضاً؛ لأنّ المسافة الفاصلة بين الكوفة والشام في خطٍّ مباشر (175) فرسخاً (ما يعادل 1050 كيلومتراً) ودخول أهل البيت عليهم السلام إلى الكوفة كان في اليوم الثاني عشر من المحرّم، وكانوا في قصر ابن زياد في الثالث عشر منه، وحسب قول ابن طاووس في الإقبال فإنّ ذهاب المسافر من الكوفة إلى الشام وإيابه لا يمكن في أقلّ من عشرين يوماً.
 
وقد أيّد بعض المؤرّخين، مثل ابن الأثير في كتابه الكامل5، موضوع إرسال البريد إلى الشام ورجوعه منها، ولا يمكن القبول بإرسال الحمام الزّاجل
 
 
 

1-قطب الدّين الراونديّ، الخرائج والجرائج، ج 2، ص 578.
2-أبو جعفر محمّد بن عليّ بن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 4، ص 67.
3-تذكرة الخواصّ، ص 264.
4-كامل البهائيّ، ج 2، ص 291 292 لم يتحدّث الطبريّ في الكتاب المذكور عن أيّ شيء من مسير رجوع أهل البيت عليهم السلام ، لكنّه نقل باختصار مسير ذهابهم من الكوفة إلى الشام مع ذكر بعض الحوادث التي وقعت أثناء هذا المسير.
5-ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 3، ص 437.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

39

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 بالرسالة، لأنّ استخدام الحمام لم يكن معروفاً في ذلك العصر، بل إنّ أوّل مرّة استعملوا فيها الحمام الزّاجل كانت على يد نور الدّين محمود بن الزّنكيّ في عام ـ 565 ـ ق.


بناءً على ما سبق، فإنّ الإقامة شهراً كاملا ًفي الشام، كما كتب السيّد ابن طاووس، وقطع مسافة ثمانية فراسخ (ما يقرب من 50 كيلومتراً) كلّ يوم- ليلا ً نهاراً- يعني أن يبقوا على الطريق (22) يوماً، فالمجموع سيكون أكثر من أربعين يوماً.
طبعاً ما ذكرناه من الوقت ليس كافياً لقافلة تتألّف من نساء وأطفال، ليصلوا في الأربعين إلى كربلاء، لأنّ وصول هذه القافلة إليها يتطلّب وقتاً زائداً عن الأربعين يوماً.

النقد: 
 
إنّنا نستطيع القول، في الجواب عن هذا الإشكال، إنّ إحدى المسائل المبهمة والغامضة في تاريخ عاشوراء هي تشخيص مسير حركة قافلة أهل البيت عليهم السلام من الكوفة إلى دمشق، ولم يرو أيّ مصدر من المصادر التاريخيّة المتقدّمة الذكر، خبراً معتبراً يحدّد المسير الذي سلكته قافلة الأسرى من الكوفة إلى الشام.

ولكن بالرجوع إلى المصادر التاريخيّة القديمة، والخرائط الجغرافيّة لهذه المنطقة يمكن القول إنّه كان يوجد في ذلك الزمان ثلاثة طرق، للوصول إلى الشام:
 
الطريق الأوّل: وهو المسير السلطانيّ وهو طريق عامر يمرّ بجانب بعض المدن، وهو الطريق الذي ذكره المحدّث النوريّ سابقاً عند استشهاده بكلام عماد الدّين الطبريّ.

أحد المحقّقين المعاصرين بعد مطالعة هذه المسألة والبحث حولها، كتب حول هذا الطريق السلطانيّ قائلاً:
(تكريت ـ الموصل ـ لبا ـ كحيل ـ تل أعفر ـ نصيبين ـ حرّان ـ معرّة النعمان ـ شيزر
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

40

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

  ـ كفر طاب ـ حماه ـ حمص ـ دمشق)1.

 
وذكر فرهاد ميرزا تفصيلا ً أكثر من السابق، عن المدن الواقعة على هذا المسير فقال:
 (حصّاصة ـ تكريت ـ أعمى ـ دير عروة ـ صليتا ـ وادي الفحلة ـ وادي النخلة ـ أرمينياء ـ لبا ـ كحيل ـ جهينة ـ الموصل ـ تل أعفر ـ سنجار ـ نصيبين ـ عين الوردة ـ الرقّة ـ جوسق ـ بشر ـ بسر ـ حلب ـ سرمين ـ قنّسرين ـ معرّة النعمان ـ شيزر ـ كفر طاب ـ سيبور عقر ـ حماه ـ حمص ـ بعلبك ـ دمشق)2.
 
بناءً على هذا المسير، فإنّ قافلة الأسرى سلكوا للوصول إلى دمشق، طريق تكريت إلى شمال العراق ثمّ دخلوا إلى ولاية الجزيرة (في شمال العراق الحالي والشمال الشرقي لسوريا) وبعده ذهبوا عن طريق الموصل وعند الخطّ الحدودي الحالي بين تركيا وسوريا ووصلوا إلى حرّان. وفي النهاية وصلوا إلى دمشق بعد قطع مسافة (1500 كيلومتر) والعبور من المناطق السورية الغربية واجتياز مدن ٍمثل: حلب ـ معرّة النعمان ــ حماه ـ حمص.
 
الطريق الثاني: هو المسير المستقيم من الكوفة إلى الشام، والذي يمرّ عبر بادية الشام، وقد احتمل المحـدّث النوريّ هذا المسير، ولكن ذهاب قافلة أهل البيت عليهم السلام من هذا الطريق لا يتوافق ولا ينسجم أبداً مع القرائن والشواهد التاريخيّة، كما لا يتلاءم أبداً مع كلام السيّدة زينب عليها السلام عند خطابها ليزيد:
(أمن العدل يا بن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله صلى الله عليه واله وسلم سبايا قد هتكت ستورهنّ وأبديت وجوههنّ يحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل المناقل)3.
 
من الواضح أنّه لو كان مسير قافلة الأسرى من الصحراء القاحلة والحارقة- وهي بادية الشام- فإنّ السيّدة زينب عليها السلام كانت ستشكو من جوع وعطش وتعب
 
 
 

1-السيّد جعفر الشهيديّ، سيرة عليّ بن الحسين عليه السلام، ص 62.
2-فرهاد ميرزا معتمد الدولة القمقام الزّخار والصمصام البتّار، ج 2، ص 548 550.
3-أبو منصور أحمد بن عليّ الطبرسيّ، الإحتجاج، ج 2، ص 35 الخوارزميّ، مقتل الحسين، ج 2، ص 72 المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 45، ص 134 وص 158 أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر الطيفور، بلاغات النساء، ص 39 (مع اختلاف في العبارات).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

41

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 الأطفال والنساء في القافلة، ولا يكون اعتراضها على المرور في المدن بحالة الأسر، والوقوع تحت أنظار وأعين الغرباء والأجانب.

 
وهذا أيضاً ما ورد في رواية ابن الأعثم والخوارزميّ حول مسير القافلة من الكوفة إلى الشام حيث صرّحوا بأنّ أسرى أهل البيت عليهم السلام قد ساقوا بهم من بلد إلى بلد كما يُساق أسرى الترك والديلم1.
 
الطريق الثالث: وهو الطريق المعروف والمحدّد بين الكوفة والشام، وهو يمرّ من الساحل الغربيّ لشطّ الفرات عبر مدن مثل: الأنبار ـ هيت ـ قرقيسيا ـ الرقّة ـ صفّين. 
 
وهو نفس الطريق الذي سلكه جيش أمير المؤمينن عليه السلام للقتال مع معاوية2. وهو الطريق الذي قطعه عسكر معاوية للوصول إلى منطقة (المسكن) من أجل مواجهة عسكر الإمام الحسن عليه السلام.
 
من مميّزات هذا المسير أنّه ليس طويلا ً كالطريق السلطانيّ ولا يوجد فيه مشاقّ الصحراء المحرقة والقاحلة مثل طريق بادية الشام، ولذا فالظاهر أنّ احتمال اختيار هذا الطريق الوسطيّ سيكون أقوى.
 
طبعاً، الشواهد الموجودة والكرامات الواردة عـــن رأس الإمــام عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام في مدن (حلب ـ قنّسرين ـ حماه ـ حمص ـ دير الراهب) لن تكون شاهداً لأحد طريقي الوسطيّ والسلطانيّ؛ لأنّها مناطق مشتركة بينهما. نعم لو كانت هذه الشواهد قويّة، فإنّها ستنفي سلوك طريق بادية الشام حتماً.
 
من خلال ما سبق، يتّضح أنّه، وإن كان احتمال ذهاب أهل البيت عليهم السلام من الطريق الأوّل غير منتفٍ، ولكن لا يوجد أدلّة قويّة وشواهد محكمة لإثباته. وعليه فلا مجال بعد لحساب المسافات بين الشام والعراق والبحث حول طول هذا الطريق. 
 
ثمّ إنّ احتمال الذهاب من المسير الثالث أقوى باعتبار أنّه أقصر مسافة 
 
 
 
 

1-ابن الأعثم، الفتوح، ج 5، ص 127 الخوارزميّ، مقتل الحسين، ج 2، ص 62.
2-نصر بن مزاحم المنقريّ، وقعة صفّين، ص 134 محمّد محمّدي الري شهريّ، موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب، ج 6، فصل 6، ص 55.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

42

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 ومعروف ومحدّد.


هذا، إضافةً إلى ما مرّ في الجواب عن الإشكال الأوّل للمحدّث النوريّ، بأنّ بعض المحقّقين قد ذكر شواهد تاريخيّة كثيرة تثبت أنّ هناك أشخاصاً قد قطعوا هذه المسافة، من الكوفة إلى الشام، خلال عشرة أيّام، بل في أقلّ من أربعة ٍمنها.

من هنا نقول: إنّ حركة الأسرى، مع ظروفها الخاصّة- وإن كانت أبطأ سيراً في قطع الطريق من سير مسافر واحد- ولكن لا تُؤيِّد قول المنكرين بإنّه يستحيل قطع هذا الطريق، في مدّة عشرة أيّام، أو أكثر من ذلك بقليل.

الإشكال السادس: لماذا عدّ، جابر هو الزائر الأوّل؟

 فلو كان قد حصل لقاء بين أهل البيت عليهم السلام وبين جابر، في يوم واحد عند قبر سيّد الشهداء عليه السلام فلماذا اعتُبر جابر هو الزائر الأوّل للإمام عليه السلام ؟ ولماذا جعلوا هذه الفضيلة له خاصّة؟

النقد:

إنّ الظاهر من كلام ابن طاووس أنّ جابراً قد وصل إلى كربلاء قبل أهل البيت عليهم السلام وهذا كلامه دام الله ظله:(فوصلوا إلى موضع المصرع، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاريّ وجماعة من بني هاشم ورجالا ًمن آل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قد وردوا لزيارة قبر الحسين عليه السلام فوافوا في وقت واحد وتلاقوا..).

بناء على هذا، فإنّ جابر قد وصل إلى كربلاء قبل أهل البيت عليهم السلام. ولكن المحدّث النوريّ كأنّه حمل العبارة (فوافوا) على معنى أنّ أهل البيت عليهم السلام وجابر قد دخلوا سويّة إلى كربلاء!! مع أنّ ملاحظة الكلمتين (فوصلوا) و (فوجدوا) يبيّن أنّ المقصود من كلمة (فوافوا) هو مجرّد اللقاء والإجتماع لأجل العزاء والبكاء، لا بمعنى الدخول والوصول إلى كربلاء في نفس الزمان..

فإذاً من الممكن أنّ جابراً قد وصل إلى كربلاء قبل أهل البيت عليهم السلام ، ثمّ وصل من بعده جماعة من بني هاشم، قبل وصول أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

43

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 الإشكال السابع: المقصد الذي أراده الأسرى:

 
 أورد المحدّث النوريّ في إشكاله الأخير هذا، ثلاث نقاط:
 
1- إنّ الرجوع إلى كربلاء لم يذكر أبداً في الشام؛ لأنّ يزيد بعد ندمه الظاهريّ استدعى أهل البيت عليهم السلام وخيّرهم بين البقاء في الشام أو الرجوع إلى المدينة المنوّرة، فاختاروا الرجوع، ولم يُذكر هناك شيء عن الذهاب إلى كربلاء.
 
2- عدم وجود أيّة منطقة مشتركة بين طريق الشام إلى المدينة، وطريقها إلى العراق، وهذا ما اعترف به الأشخاص الذين سلكوا هذه الطرق.
 
3- من المستبعد أن يقبل يزيد طلب أهل البيت عليهم السلام الذهابَ إلى كربلاء، لو أرادوا ذلك، وهذا بسبب الخبث والحقد الذي يحمله يزيد في داخله1.
 
الجواب:
 
إنّ ما ذكره المحدّث النوريّ من الإستبعادات، في هذا الإشكال، ليس في محلّه. أمّا في ما يتعلّق بالنقطة الأولى والثالثة فإنّ يزيد- وكما صرّحت به المصادر- أظهر الندم على فعاله مع أهل البيت عليهم السلام ، وجعل جريمة القتل في كربلاء لسيّد الشهداء وأقاربه وأنصاره في رقبة عبيد الله ابن زياد، ومن ثمرات ندمه قيامه بتخيير أهل البيت عليهم السلام بين البقاء في الشام وبين الرجوع إلى المدينة، وعند اختيارهم الرجوع أمر يزيد مبعوثيه مع الأسرى أن يعتنوا بأهل البيت عليهم السلام وأن يلبوا كلّ مطالبهم في كلّ مكان وزمان2.
 
بناءً على هذا، لو أنّ أهل البيت عليهم السلام طلبوا الذهاب إلى كربلاء من يزيد في دمشق، فمن الطبيعيّ أن يقبل بذلك وإن كان لا ينسجم ذلك مع طبعه اللئيم؛ لأنّ الأوضاع والظروف تلزمه بهذا الأمــر خصـــوصـاً بعــد تبدّل مسلكيّته مع أهل البيت عليهم السلام.
 
ونفس الحال سيكون لو أنّ أهل البيت عليهم السلام طلبوا من مبعوثي يزيد، بعد الخروج
 
 
 
 

1-نظرة على التحريفات العاشورائيّة (اللؤلؤ والمرجان)، ص 229 243.
2-محمّد بن سعد، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ، طبع في (تراثنا)، العدد 10 1408 ق، ص 193 وابن عساكر.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

44

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 من دمشق، أن يسيروا بهم نحو كربلاء، فيجب على هؤلاء أن يلبّوا طلب أهــل البيت عليهم السلام كما أمرهم بذلك يزيد (حسب النقل الذي أورده ابن سعد).

 
فإذاً، إنّ عدم وجود أي ذكر في الشام للذهاب إلى كربلاء سببه- كما سبقت الإشارة إليه- إمّا أنّ هذا الطلب قد حدث بعد الخروج من دمشق، ولم يكن هذا القصد موجوداً عند أهل البيت عليهم السلام في الشام، وإمّا أن يكون الذهاب إلى كربلاء موجوداً في قصدهم ولكن لم يظهروه في الشام عند يزيد؛ لأنّ غاية المسير والمقصد هو المدينة، وكربلاء تعتبر مرحلة ومنزلاً من منازل السفر من دمشق إلى المدينة- كما سيأتي بعد قليل- فكأنّ الإذن قد أخذ من يزيد للذهاب إلى كربلاء.
 
وعلى هذا، فإنّ سؤال يزيد عند تخييره أهل البيت عليهم السلام إنّما هو سؤال عن المقصد النهائيّ الدائم والثابت، وهذا لا يتنافى مع العبور من كربلاء؛ لأنّ المسافر إلى المدينة قد يمرّ من كربلاء1.
 
وبهذا يتبيّن بأنّ عزم ونيّة أهل البيت عليهم السلام هما الذهاب إلى كربلاء، سواء كان هذا العزم موجوداً قبل الخروج من دمشق، أو ظهر وبدا لهم بعد الخروج منها، ولا إشكال في ذلك أبداً.
 
وأمّا القول بأنّ الطريق إلى المدينة لا يتقاطع ولا يشترك أبداً مع الطريق إلى العراق، فيجب البحث حول الطريق الذي سلكه أهل البيت عليهم السلام في رجوعهم؟
 
هنا يجب القول بأنّ المصادر التاريخيّة ساكتة عن ذلك. طبعاً بعض علماء الشيعة صرّحوا بلقاء جابر مع أهل البيت عليهم السلام في كربلاء مثل ابن طاووس وابن نما، وكأنّ اعتقادهم كان على أنّ مسير الشام إلى المدينة يمرّ عبر العراق، وهذه عبارتهم:
 
أمّا ابن نما فيقول (ولمّا مرّ عيال الحسين عليه السلام بكربلاء...)2.
 
وأمّا نصّ ابن طاووس فهو هكذا (ولمّا رجع نساء الحسين عليه السلام وعياله من الشام وبلغوا العراق، قالوا للدليل مرّ بنا على طريق كربلاء...)3.
 
 
 

1-يُراجَع حول هذا الموضوع: محمّد أمين الأمينيّ، الركب الحسينيّ في الشام ومنه إلى المدينة المنوّرة، ج 6، ص 308 309.
2-ابن نما الحلّي، مثير الأحزان، ص 86. 
3-ابن طاووس، اللهوف، ص 114.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

45

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 هذا كلّه في حال كون طريق الشام إلى المدينة (أو إلى الحجاز بشكل عام) لا يلتقي أبداً ومن الأساس مع طريق الشام إلى العراق، كما هو رأي علماء الجغرافيا السابقين، مثل ابن خردابه (المتوفَّى حوالى 300 ق) عندما يبيّن مسير الكوفة إلى دمشق يقول:(الحيرة ـ قطقطانه ـ البقعة ـ أبيض ـ حوشى ـ جمع ـ خطى ـ جبّة ـ قلوفي ـ روارى ـ ساغده ـ بقيعة ـ أعناك ـ أذرعات ـ منزل ـ دمشق)1

 
ومثله ابن رسته، حيث كتب حول المسير من دمشق إلى المدينة فقال:(المنزل ـ ذات المنازل ـ سرغ ـ تبوك ـ محدثة ـ أقرع ـ جنينة ـ حجر ـ وادي القرى ـ رحبة (رحيبة) ـ ذي المروة ـ مرّ ـ سويداء ـ ذي خشب ـ المدينة)2.
 
في زماننا هذا، لا يوجد أي أثر وإسم لهذه المنازل والمناطق المذكورة آنفاً، سواءٌ في العراق أو في الشام، ولا يوجد لها أيّ رسم على الخرائط الجغرافيّة، ولكن لو لاحظنا نحن التقريرين السابقين فسنجد نقطة وحيدة مشتركة بين الطريقين وهي منطقة (المنزل) حيث يفترق من هناك طريق المدينة عن طريق الكوفة.
 
من هنا يمكن القول إنّه حتّى لو نفينا وجود أيّ عزم وقصد لزيارة كربلاء عند أهل البيت عليهم السلام قبل الخروج من دمشق، فمن الممكن أنّ هذا العزم قد حدث في تلك النقطة المشتركة، وعليه فلو حملنا كلام السيّد ابن طاووس وابن نما على اعتبار أنّ الطريقين مشتركان على طول المسير، فهذا لا يمكن القبول به وليس صحيحاً، إلّا أن يقال بأنّ أهل البيت عليهم السلام رجعوا إلى المدينة عن طريق العراق عبر نفس الطريق الذي سلكوه من الكوفة إلى الشام.
 
طبعاً هذا الإحتمال يمكن انطباقه على الواقع في حال كان أهل البيت عليهم السلام قد اختاروا، عند يزيد في دمشق، هذا المسير، مع موافقته على ذلك، أو على الأقل يأخذون الموافقة منه قبل تجاوز النقطة الوحيدة المشتركة بين طريق الكوفة وطريق المدينة، أي منطقة (المنزل). وفي غير هذه الصورة لن يكون منطقيّاً 
 
 
 
 

1-ابن خردابه، المسالك والممالك، ص 84.
2-ابن خردابه، المسالك والممالك، ص 140 (أحمد عمر بن رسته، الأعلاق النفيسة، ص 214).

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

46

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 سلوك أهل البيت عليهم السلام طريق العراق إلى المدينة ولن يكون له أيّ مسوّغ.

 
الشواهد الأخرى:
 
لقد ثبت حتّى الآن- من خلال ما سبق معنا- إمكان وصول أهل البيت عليهم السلام في يوم الأربعين عام (61 ق) إلى قبر الإمام عليه السلام في كربلاء. وأمّا عن وقوع ذلك وتحقّقه خارجاً، فيجب القول- كما مرّ آنفاً- بأنّ هناك بعض العلماء مثل أبي ريحان البيرونيّ والشيخ البهائيّ، قد صرّحوا بأنّ حضور أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء كان في يوم العشرين من صفر.
 
هذا بالإضافة إلى وجود شواهد وقرائن أخرى يمكن الإستناد إليها لإثبات ذلك وهي هنا ثلاثة شواهد: الأوّل: مكان دفن رأس الإمام عليه السلام - الثاني: إلحاق الرأس الشريف بالبدن على يدي الإمام السجّاد في يوم الأربعين- الثالث: علّة استحباب زيارة الأربعين.
 
1-   محلّ دفن رأس الإمام عليه السلام: 
 
إنّ المصادر التاريخيّة- سواءٌ الشيعيّة منها أو السنيّة- اختلفت في ما بينها حول موضوع مكان دفن رأس الإمام الحسين عليه السلام ، وقد نقل في ذلك ستّة أقوالٍ، وهي الآتي:
 
القول الأوّل: أنّ الرأس قد ألحق بالبدن، وهذا القول يشترك في نقله الشيعة والسنّة.
 
وقد صرّح بذلك بعض علماء الشيعة، ومنهم: الشيخ الصدوق (المتوفَّى 381 ق)، السيّد المرتضى (المتوفَّى 436 ق)، فتّال النيشابوريّ (المتوفَّى 508 ق)، ابن نما الحلّي، السيّد ابن طاووس (المتوفَّى 664 ق)، الشيخ البهائيّ، والمجلسيّ.
 
روى الشيخ الصدوق، ومن بعده فتّال النيشابوريّ في هذه المسألة: (خرج عليّ بن الحسين عليه السلام مع النساء (من الشام) وردّ رأس الحسين عليه السلام إلى كربلاء)1.
 
 
 

1-الشيخ الصدوق، الآمالي، المجلسيّ، 31، ص 232 فتّال النيشابوريّ، روضة الواعظين، ص 192 المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 45، ص 140.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

47

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 وقال السيّد المرتضى: (قد رووا أنّ رأس الإمام الحسين عليه السلام دُفن مع الجسد في كربلاء)1.

 
وينقل ابن شهر آشوب عن الشيخ الطوسيّ (بعد نقله الكلام السابق للسيّد المرتضى) قوله: ولهذا السبب (أي إلحاق رأس الإمام عليه السلام بالبدن ودفنه معه) أوصى الأئمّة بزيارة الأربعين2.
 
وكتب ابن نما الحلّي أيضاً: إنّ القول الذي يمكن الإعتماد عليه هو أنّ الرأس (بعد ما طافوا به في البلاد) قد رُدّ إلى البدن ودُفن مع الجسد3.
 
وروى السيّد ابن طاووس قائلا ً: وأمّا رأس الحسين عليه السلام فقد رُوي أنّه رُدّ إلى كربلاء ودُفن مع جسده الشريف، وهذا ما كان عليه عمل الأصحاب4.
 
وقد اعتبر المجلسيّ أحد وجوه وعلل استحباب زيارة الإمام الحسين عليه السلام في يوم الأربعين، هو إلحاق الرؤوس المقدّسة إلى الأجساد الطاهرة على يدي الإمام السجّاد عليه السلام5.
 
ويقول في مكان آخر، بعد نقله أقوالا ًمختلفة: المشهور بين علماء الإماميّة أنّ رأس الإمام عليه السلام دُفن مع البدن الشريف6.
 
وقد صرّح أيضاً بهذا الرأي، بعض علماء أهل السنّة ومنهم: أبو ريحان البيرونيّ (المتوفَّى 440 ق) حيث يقول: وفي العشرين رُدّ رأس الحسين إلى جثته حتّى دُفن مع جثّته7.
 
وقال القرطبيّ (المتوفَّى 671 ق): يقول الإماميّة إنّ رأس الحسين عليه السلام قد رُدّ إلى كربلاء بعد أربعين يوماً وأُلحق بالبدن، وهو يوم مشهور عندهم، وفيه زيارة يسمّونها زيارة الأربعين8.
 
 
 

1-رسائل المرتضى، ج 3، ص 130.
2-مناقب آل أبي طالب، ج 4، ص 85 المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 44، ص 199 (وقال الطوسيّ (ره) ومنه زيارة الأربعين).
3-نجم الدّين محمّد بن جعفر بن نما الحلّي، مثير الأحزان، ص 85.
4-السيّد ابن طاووس اللهوف في قتلى الطفوف، ص 114.
5-المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 98، ص 334.
6-المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 45، ص 145.
7-البيرونيّ، الآثار الباقية عن القرون الخالية، ص 331.
8-محمّد بن أحمد القرطبيّ، التذكرة في أمور الموتى، ج 2، ص 668.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

48

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 وروى القزوينيّ أيضاً: اليوم الأوّل من شهر صفر هو عيد بني أميّة؛ لأنّ رأس الحسين قد دخل إلى دمشق في مثل ذلك اليوم، وفي العشرين من ذاك الشهر رُدّ رأسه إلى البدن1.

 
وقال المناوي (المتوفَّى 1031 ق):
يقول الإماميّة: بعد أربعين يوماً من الشهادة رُدّ الرأس إلى البدن ودفن في كربلاء2.
 
القول الثاني: إلى جانب ضريح أمير المؤمينن عليه السلام3.
 
القول الثالث: مسجد الرقّة على طرف الفرات.
 
القول الرابع: البقيع عند قبر أمّه فاطمة عليها السلام.
 
القول الخامس: دمشق.
 
القول السادس: القاهرة4.
 
من خلال البحث والتأمّل في هذه الأقوال نستنتج أنّ القول الأوّل (أي إلحاق الرأس بالجسد) هو المشهور وهو المعتمد الذي عمل به علماء الشيعة، ولذلك فإنّ هذا القول يمكن الأخذ والقبول به. وحسب الروايات التاريخيّة التي مرّت معنا سابقاً، فإنّ هذا الإلحاق قد تمّ في يوم العشرين من صفر (عام 61 ق).
 
2- إلحاق الرأس بالبدن:
 
إنّ هذه المسألة ليست منفصلة عن قضيّة رجوع أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء لأنّ هذا الإلحاق- كما قيل- قد تمّ على يدي الإمام زين العابدين عليه السلام5، ومن ناحية
 



1-زكريا محمّد بن محمود القزوينيّ، عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب الموجودات، ص 45.
2-عبد الرؤوف المناوي، فيض القدير، ج 1، ص 205.
3-ابن قولويه القمّي، كامل الزيارات، ص 84 الكلينيّ، الكافي، ج 4، ص 571 572 أبو جعفر الطوسيّ، تهذيب الأحكام، ج 6، ص 35 36 أ ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 4، ص 85.
4-سبط بن الجوزيّ، تذكرة الخواصّ، ص 265 266 السيّد محسن الأمين العامليّ، أعيان الشيعة، ج 1، ص 626 627 وله أيضاً: لواعج الأحزان، ص 247 250 محمّد أمين الأمينيّ، التحقيق حول الأربعين، ج 6، ص 321 337 وقد ذكر القاضي الطباطبائيّ هذه الأقوال الستّة، وأيّد القول الأوّل منها، ثمّ بحث الأقوال الأخرى وانتقدها: (يراجع كتابه: التحقيق حول الأربعين الأوّل).
5-المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 45، ص 145.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

49

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

 ثانية، فإنّه لا يوجد أيّة رواية تاريخيّة عن مجيء الإمام السجّاد عليه السلام إلى كربلاء مرّة أخرى. فإذاً حضور أهل البيت عليهم السلام عند قبر الإمام عليه السلام يجب أن يكون في يوم الأربعين.

 
3- علّة استحباب زيارة الأربعين:
 
لقد قيل: في سبب استحباب زيارة الأربعين، أمران:
الأوّل: الرواية الواردة عن الإمام العسكري عليه السلام التي عدّت زيارة الأربعين من العلامات الخمس للمؤمن.
الثاني: تعليم الإمام الصادق عليه السلام زيارة الأربعين لصفوان بن مهران الجمّال.
 
وهنا يوجد سؤال يطرح نفسه وهو: هل يمكن أن يكون علّة الإستحباب هو مجرّد حضور أحد الصحابة عند قبر الإمام الحسين عليه السلام في يوم الأربعين؟ أم أنّ العلّة هي وقوع بعض الحوادث المهمّة الأخرى في مثل ذلك اليوم؟ ولذلك نقول بأنّ السبب الحقيقيّ لاستحباب زيارة الأربعين سيكون هو إلحاق الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ببدنه الشريف، وحضور أهل البيت عليهم السلام، ومعهم إمام معصوم هو الإمام السجّاد. وهذا أحد الوجوه المحتملة لاستحباب زيارة الأربعين، كما ذكر العلّامة المجلسيّ1 ـ وقد اعتبر أيضاً الشيخ الطوسيّ مسألة إلحاق الرأس بالجسد هو السبب في توصية الأئمّة عليهم السلام بزيارة الأربعين2.
 
تلخيص واستنتاج:
 
يتّضح من خلال كلّ ما مرّ معنا، أنّ إثبات حضور أهل البيت عليهم السلام في اليوم الأربعين، عند قبر سيّد الشهداء عليه السلام وإن لم يكن أمراً سهلا ً بحسب الأخبار التاريخيّة والرّوائيّة، لكنه يُعتبر مقبولاً، بالنظر إلى القرائن والشواهد المؤيّدة لمسألة حضور أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء في العشرين من صفر (عام 61 ق).
 
 
 

1-المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 98، ص 334.
2-ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 4، ص 85.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

50

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 تحقيق حول الأربعين الحسينيّ1

 
تمهيد:
 
تعتبر مسألة أربعين سيّد الشهداء عليه السلام ، ومسألة عيال الإمام عليه السلام وما إذا كانوا توجّهوا إلى كربلاء بعد خلاصهم من الأسر أم لا، وما إذا استطاعوا زيارة ذلك المرقد الشريف في ذلك اليوم أم لا، من المسائل التي وقع فيها الاختلاف بين الباحثين، وقد استشهد كلّ منهم بأدلّة تاريخيّة لإثبات ذلك أو نفيه. إنّ هذه المقالة ستبيّن لنا الإحتمالات الممكنة في تلك المسألة من خلال الأدلّة التاريخيّة المعتبرة. ونحن مع الإلتفات إلى رأي المعتقدين بهذه الحادثة، سنثبت الرأي الآخر، لعدم وجود أي دليل كافٍ يعتمد عليه في مسألة أربعين سيّد الشهداء عليه السلام ، بل إنّ وصول قافلة الأسرى إلى كربلاء في الأربعين الأوّل يعتبر أمراً شبيهاً بالمحال. وفي النتيجة، فإنّ الدليل الذي يتحدّث عن إلحاق الرأس الشريف للإمام الحسين عليه السلام بجسده سيقع موضعاً للإشكال والطعن.. نعم نحن نعتقد بأنّ الحديث الشريف القائل: (إنّ من علامات المؤمن زيارة الأربعين) يكفي لإثبات تلك الزيارة وفضيلتها.
 
المقدّمة:
 
إنّ من الحوادث الغامضة في واقعة عاشوراء، والوقائع التي حصلت بعدها، هو 
 
 
 

1-محمّد تقي سبحاني نيا، ماجستير في الإلهيّات والمعارف الإسلاميّة.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

51

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 وصول سبايا سيّد الشهداء عليه السلام إلى كربلاء في طريق العودة من الشام إلى المدينة في يوم الأربعين، وإلحاق الرأس المقدّس لأبي عبد الله الحسين عليه السلام بالجسد الطاهر في ذلك اليوم.. صحيح أنّ حادثة عاشوراء تعتبر من الوقائع المفجعة وأفظعها، التي أدمت وجرحت قلوب الشيعة والموالين لأهل بيت العصمة والطهارة، وقد نقلت أحداث تلك الواقعة في كتب التاريخ من دون أيّة نقيصة. ولكن للأسف، فإنّ شيعة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وأبنائه المعصومين عليهم السلام قد تعرّضوا لأشدّ أنواع التهديد والأذى، وتحمّلوا أقسى أصناف الحرمان والعذاب، سواء في زمن واقعة عاشوراء أو في ما بعدها، وعمليّاً فقد تمّ إبعادهم وإقصاؤهم. لذلك كلّه، لم يكن في الإمكان ضبط ونقل الأحداث العاشورائيّة المؤلمة، وحفظ ما جرى على عيال سيّد الشهداء عليه السلام وأهل بيته. في الحقيقة، إذا كنّا لا نستطيع، حتّى الآن، أن نقطع ونتيقّن من قضيّة كمصير الرأس الشريف للإمام الحسين عليه السلام ، والذي هو من القضايا المهمّة جدّاً والتي تلفت الأنظار، ونجد الأقوال والآراء حول دفن الرأس المقدّس مختلفة ومشتّتة.. فكيف يمكن أن نثبت ونضبط بشكل واضح وبيّن- من دون وقوع أي اختلاف أو نزاع حول قضايا صغيرة وجزئيّة مثل: المدّة الزمنيّة لحبس عيال سيّد الشهداء عليه السلام في الكوفة- يوم الإنطلاق من الكوفة نحو الشام، والطريق الذي سلكوه من الكوفة إلى الشام، ومدّة إقامتهم في بلاد الشام، وأخيراً طريق رجوعهم من الشام إلى المدينة.

وإذا كنّا نعلم بأنّ القسم الأكبر من حوادث عاشوراء وما بعدها، قد نقلت بوساطة المؤرّخين من أهل السنّة الذين حاول البعض منهم تبرئة أذيال يزيد وبني أميّة من وصمة هذا العار الأبديّ المخزي، فلا ينبغي أن نتوقّع نقل تلك الوقائع والأحداث من دون أي تحريف وتبديل. وبغض النظر عن ذلك فلو فرضنا أنّ المؤرّرخين أرادوا نقل الحوادث بصورتها الصحيحة ومن دون تغيير وتحريف، فإنّ حكّام تلك الأزمنة كانوا سيمنعون ذلك، ومن غير المعلوم ما هو المصير والنهاية التي كانت تنتظر ذلك المؤرّخ ومصير كتاباته أيضاً.

إنّ ما يريده كاتب هذه السطور هو التحقيق حول مسألة رجوع قافلة أسرى بني هاشم عليهم السلام من الشام، وأخذ النتيجة النهائيّة، في ضوء المتون والمصادر الموجودة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

52

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 ولعلّ هذا البحث يكون خطوة إيجابيّة من أجل أقصى حدّ ممكن من التوضيح والبيان لحوادث ما بعد عاشوراء، ويكون مرضيّاً عنه عند الله تعالى.


إنّ المشهور بين عموم الشيعة أنّ الإمام السجّاد عليه السلام رجع من الشام، مع أهل بيت سيّد الشهداء عليه السلام إلى كربلاء، وزاروا القبر المطهّر للإمام الحسين عليه السلام وقبور أصحابه الأوفياء، في يوم الأربعين، ثمّ رجعوا إلى مدينة النبيّ صلى الله عليه واله وسلم بعد إقامة مجالس العزاء هناك لمدّة ثلاثة أيّام. ومن المشهور أيضاً عند الشيعة أنّ الإمام زين العابدين قد ألحق الرأس المقدّس لأبيه عليه السلام ببدنه الشريف، في ذلك اليوم. ولكن مع كلّ ذلك فإنّ المحقّقين والباحثين قد اختلفوا، منذ زمن بعيد، حول وصول قافلة الأسرى يوم الأربعين الأوّل إلى كربلاء، فأيّده بعضهم وأقام عليه شواهد تاريخيّة، بينما ذهب البعض الآخر إلى إنكار حضور أهل بيت سيّد الشهداء عليه السلام في الأربعين الأوّل، وأنّ ذلك غير ممكن، أو أنّه غير قابل للتحقّق.

يعتقد كاتب هذه السطور أيضاً أنّ قافلة الأسر لم تصل إلى كربلاء يوم الأربعين، وفي عقيدته أيضاً أنّ مسألة (إحتمال وصول قافلة الأسرى إلى كربلاء في يوم الأربعين) تختلف عن مسألة (تحقّق ذلك في الواقع) فهما أمران مستقلّان، وليس من الضروريّ أن يحصلا معاً في الخارج. بناء على هذا، فباعتقاد الكاتب أنّه لا يمكن القول أبداً بأنّ المنكرين لمسألة الأربعين قد ابتعدوا عن الحقيقة.

إنّ ما نقصده نحن، في هذه المقالة، هو بيان تحقيق مختصر، حول الوقائع التي حصلت، بعد أسر أهل بيت سيّد الشهداء عليه السلام والتي لها ارتباط مباشر بمسألة وصول أو عدم وصول قافلة الأسرى إلى كربلاء في يوم الأربعين الأوّل.

البحث حول الوقائع المتعلّقة بحادثة الأربعين

بشكل عام، يمكن اختصار الوقائع التي لها علاقة مباشرة بوصول قافلة الأسرى إلى كربلاء، في الأمور الآتية:
1- مدّة حبس أهل بيت سيّد الشهداء عليه السلام في الكوفة، والزمان الذي تحرّكوا فيه نحو الشام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

53

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 2- الطريق الذي سلكته قافلة الأسرى من الكوفة إلى الشام.

 
3- الوقت الذي استهلكته القافلة للوصول إلى الشام.
 
4- المدّة الزمنيّة لإقامة أهل بيت الإمام عليه السلام في الشام.
 
5- طريق الرجوع من الشام إلى المدينة، والبحث حول احتمال توجّه قافلة الأسرى إلى كربلاء ووصولها إلى هناك في الأربعين الأوّل.
 
والآن نبحث حول كلّ واحد من الأمور السابقة، على حدة.
 
1-   مدّة حبس أهل بيت الإمام عليه السلام في الكوفة، والزمان الذي تحرّكوا فيه نحو الشام.
 
ليس هناك أيّ شكّ تقريباً، حول خروج أهل بيت الإمام الحسين عليه السلام ، وحركتهم، حال الأسر، من كربلاء إلى الكوفة، في اليوم الحادي عشر من المحرّم، وكذلك- حسب القول المشهور- فإنّ دخولهم إلى الكوفة كان في اليوم الثاني عشر منه. ولكن بالنسبة إلى ترحيلهم نحو الشام، فلا يوجد بين أيدينا تاريخ محدّد دقيق يطمأنُّ إليه. وهذا باعتبار أنّ مدّة بقائهم وحبسهم في الكوفة غير واضح كثيراً. طبعاً موضوع سجن الأسرى والسبايا في الكوفة يعتبر من المسلّمات التاريخيّة، كما صرّحت بذلك بعض المقاتل المعتبرة. وقد أشار الطبريّ إلى هذه المسألة بروايته عن عوانة بن الحكم الكلبيّ1 والشيخ الصدوق أيضاً ينصّ في مقتله على حبس الأسرى ويقول:
ثمّ أُمر بعليّ بن الحسين فغُلّ وحُمل مع النسوة والسبايا إلى السّجن... فأمر ابن زياد بردّهم إلى السّجن2.
 
ولكن أكثر المقاتل لم تذكر زمان خروج قافلة الأسرى من الكوفة نحو الشام، ولا يوجد مستند واضح وصحيح لتاريخ حركتهم من الكوفة. يقول بعض المؤلّفين 
 
 
 

1-تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 463.
2-آل مكباس، موسوعة مقتل الإمام الحسين عليه السلام، ص 446 / أمالي الصدوق، ص 140 مجلس 31 ح 3 وأيضاً: راجع: مع الركب الحسينيّ، ج 5، ص 136. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

54

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 في هذا الخصوص:

 
مع أنّ مقدار بقاء أسرى أهل البيت في الكوفة غير معلوم، إلّا أنّهم بقوا هذه المدّة في سجن ابن زياد، أرسل خلالها ابن زياد ليزيد يسأله عن مصيرهم وما يصنع بهم، وهل يأمر بقتلهم جميعاً أو بتسريحهم إلى الشام.1
 
وأمّا أصحاب الرأي الآخر الذين قبلوا مسألة الأربعين الأوّل، وذهبوا إلى أنّ قافلة الأسرى قد زاروا القبور المطهّرة لشهداء كربلاء، في يوم الأربعين، فعليهم أن يبيّنوا الوقائع والأحداث بحيث تتناسب مع وصولهم إلى كربلاء في الأربعين، ويجب أن يكون زمان حبسهم في الكوفة لمدّة قصيرة جدّاً. ومن هنا ذهب بعضهم إلى أنّ الأسرى من آل محمّد صلى الله عليه واله وسلم قد حبسوا لمدّة يومين فقط، قام خلالها الحمام الزّاجل بحمل جواب الرسالة من يزيد إلى ابن زياد، والتي أمره فيها بإرسال الأسرى إلى الشام. وهذا يعني أنّ الأسرى قد تحرّكوا نحو الشام في اليوم الخامس عشر من المحرّم ووصلوا إلى هناك في اليوم الأوّل من صفر.
 
وقد ذكر هؤلاء عدّة شواهد لإثبات هذا المدّعى، واستنتجوا منها أنّ الحمام الزّاجل كان يُستفاد منه في ذلك العصر. ومن هذه الشواهد ما يلي:
ينقل المرحوم أحمد بن تاج الدّين حسن سيف الدّين الأستر آباديّ- وهو من محدّثي الإماميّة- في كتابه (الآثار الأحمديّة): ممّا ورد صحيحاً عن عبد الله الأنصاريّ أنّه كان يقول: كنّا مع جمع من الناس عند الإمام الحسين عليه السلام ، فإذا بريح عاصفة قد هبّت من ناحية الشام، فقال أحد الموالين لمعاوية، وقد كان حاضراً هناك مخاطباً الإمام الحسين عليه السلام: يا ابن رسول الله لقد كان جدّك صلى الله عليه واله وسلم يفيد الناس أخباراً من هبوب الريح، فأخبرنا أنت أيضاً بنبأ هذه الرياح؟ 
 
فأجاب الإمام عليه السلام: هي تقول بأنّ حاكم الشام قد مات وقد تجرّع غصّة. (وقد).. تلقى كلام الإمام عليه السلام بصعوبة شديدة ولكنّه لم يجد حيلة غير السكوت. وفي اليوم التالي وصل الخبر بموت معاوية.. ثمّ قال المحدّث الخيابانيّ: من هنا يُعلَم بأنّه لا
 
 
 

1-السيّد محمّد عليّ القاضي الطباطبائيّ، تحقيق حول الأربعين الأوّل لسيّد الشهداء عليه السلام، ص 41 42.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

55

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 يمكن إيصال هذا الخبر إلّا بوساطة الحمام الزاجل1

 
صاحب كتاب (تحقيق حول الأربعين الأوّل لسيّد الشهداء عليه السلام ) يعتقد من خلال الرواية السابقة بأنّ بني أميّة كانوا يستفيدون من الحمام الزّاجل لإيصال رسائلهم. معنى ذلك أنّ ابن زياد استخدم الحمام الزّاجل لأخذ الأمر من يزيد في ما يتعلّق بموضوع الأسرى. والنتيجة هي أنّ الأسرى من آل محمّد صلى الله عليه واله وسلم قد بُعثوا إلى الشام بعد توقّف لثلاثة أيّام فقط في الكوفة. وعليه تكون مدّة سجن أهل بيت الإمام عليه السلام في الكوفة من يوم 12 إلى 15 من المحرّم2. خلال تلك الأيّام الثلاثة وصلت رسالة ابن زياد بوساطة الحمام الزّاجل إلى يزيد، وفيها تنفيذ الأمر بإرسال الأسرى ورؤوس الشهداء إلى الشام.
 
نحن لا نصرّ على إنكار وصول قافلة الأسرى إلى كربلاء، في يوم الأربعين، ولكن نحن نعتقد أيضاً بأنّ تحقّق ذلك ليس من المسلّمات التاريخيّة، بل هناك شواهد وقرائن معتبرة تدلّ على خلاف ذلك.
 
على سبيل المثال: لو أردنا نقد ما نقل سابقاً عن بعض من يتبنّى نظرية وصول أهل بيت الحسين عليه السلام إلى كربلاء في يوم الأربعين الأوّل، فباستطاعتنا القول: هناك حادثتان وقعتا في التاريخ نحن نقطع بزمان وقوعهما، الأولى: موت معاوية الذي وافق الخامس عشر من شهر رجب. والثانيــة: زمـان خــروج الإمــام الحســـين عليه السلام من المدينة والذي وقع أيضاً في رجب، في اليوم الثامن والعشرين منه.3وهناك أيضاً حادثة أخرى مؤكّدة تاريخيّاً وهي أنّ والي المدينة الوليد كان قد أحضر الإمام الحسين عليه السلام وأخبره بموت معاوية ولزوم البيعة ليزيد، في نفس تلك الليلة التي وصلت إليه رسالة يزيد، التي تحمل نبأ موت معاوية، وضرورة أخذ البيعة من الحسين بن عليّ عليه السلام وعبد الله بن الزبير4. ثمّ بعد هذه الحادثة 
 
 
 
 

1-السيّد محمّد عليّ القاضي الطباطبائيّ، تحقيق حول الأربعين الأوّل لسيّد الشهداء عليه السلام، ص 262.
2-المصدر السابق، ص 153 261 273.
3-الطبريّ تاريخ الطبريّ ج 5 ص 338 (زمان موت معاوية هو اليوم الخامس عشر من رجب)، وص 341 (زمــــان خـــروج الإمــام عليه السلام من المدينة هو اليوم الثامن والعشرين من رجب).
4-المصدر السابق ص 339.




 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

56

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 بيومين خرج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة وتوجّه نحو مكّة المكرّمة.

 
هنا، لو أخذنا بهذه الأمور الثلاثة، وحيث إنّ كتب المقاتل لم تذكر يوم وصول رسالة يزيد إلى المدينة، فإنّنا نستنتج أنّ رسالة يزيد قد وصلت إلى المدينة في اليوم السادس والعشرين من رجب، وليس في السادس عشر منه. وهذا هو الدليل الأوّل على أنّ وصول رسالة يزيد إلى المدينة لم يكن بوساطة الحمام الزّاجل بل بوساطة بريد من جنس البشر. وأمّا البرهان على صحّة خبر المرحوم الأستر آباديّ فهو أنّه لم يذكر فيه تاريخ هبوب الرّياح وإخبار الإمام عليه السلام بذلك مسبَّقاً، فيعلم أنّ تلك الواقعة قد حصلت قبل يوم واحد من وصول رسالة يزيد، وكذلك إخبار الإمام عليه السلام كان قبل وصول خبر موت معاوية إلى المدينة، وليس في نفس زمان وفاته.
 
والدليل الثاني: هو ما نقله صاحب الطبقات الكبرى، في الطبقة الخامسة من الصحابة: وقدم رسول من قبل يزيد بن معاوية يأمر عبيد الله أن يرسل إليه بثقل الحسين ومن بقي من ولده وأهل بيته ونسائه1
 
إنّ ظاهر هذه العبارة يدلّ على أنّ رسول يزيد لم يكن من جنس الحمام، بل من البشر؛ لأنّ كلمة (رسول) تستعمل في البريد والمبعوث الذي يتلقى الأوامر، وقد يحمل بعض الأحيان خبراً أو رسالة شفهيّة، ولا تستعمل في الحمام الذي أقصى ما يقال فيه: (حامل الرسائل).
 
الدليل الثالث على عدم استفادة يزيد من الحمام الزّاجل، هو: ما جاء في كلام الطبريّ في وجود رسالة صغيرة بحجم أذن الفأرة مع رسالة يزيد الأصليّة. وفي تلك الرسالة أصدر يزيد أمره باعتقال الإمام الحسين عليه السلام وعبد الله بن الزبير في حال لم يبايعا يزيد بالخلافةمن هذا النقل نستطيع القول بأنّ هكذا رسالة كبيرة ومعها أخرى صغيرة لا يستطيع عادة الحمام الزّاجل حملها، لأنّ 
 
 
 
 

1-محمّد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج 1، ص 485، مع الركب الحسينيّ، ج 6، ص 83 وفي مكان آخر أيضاً يسجّل صاحب ذلك الكتاب أنّ إقامة أهل البيت في الكوفة استمرّت على الأقل إلى اليوم الرابع والعشرين من المحرّم، ويرفض بشدّة أن يكون خروجهم من الكوفة من قبل ذلك التاريخ، ج 5، ص 178 179.
2-المصدر السابق، ج 5، ص 338.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

57

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 حملها إلى مسافة بعيدة يعني من الشام إلى المدينة سيكون فوق طاقة الحمام، لأنّ ما ينقله الحمام غالباً من مكان إلى آخر هو رسائل مختصرة وصغيرة جداً، أمّا في مورد كلامنا فالرسالة كبيرة والمسافة طويلة جدّاً.


الدليل الرابع: أنّ ما قاله المحدّث الخيابانيّ (الذي اعتمد عليه السيّد القاضي) لم يكن على سبيل القطع واليقين، بل هو على نحو الإحتمال والإمكان فقط.

ثمّ على فرض ثبوت الإستفادة الرائجة من الحمام الزّاجل، في ذلك الزمان، فإنّ حفظ أمن البلاد- لا سيّما المدينة المنوّرة- يوجب إرسال الرسائل بوساطةٍ موثوقة وماهرة، كي لا تقع هذه الأسرار في أيدي الغرباء؛ لأنّ الحمام، وإن كان أسرع في إيصال هذه البيانات إلى مقاصدها، فهو لا يورث الإطمئنان القويّ، بل إنّ الخوف من وقوع الحمام في أيدي العابثين، أو وصول الرسائل إلى غير أصحابها يبقى وارداً.

الآن، وبعد بطلان احتمال تلقي إبن زياد الأوامر من يزيد بوساطة الحمام، وحيث لا يوجد كتاب تاريخيّ واحد يشير إلى موضوع استخدام الحمام الزّاجل، فهنا سيكون أمامنا، بالنسبة إلى هذه المسألة، إحتمالان، لا ثالث لهما: 

الإحتمال الأول: بقاء أسرى بني هاشم في السّجن، مدّة ذهاب مبعوث إبن زياد بالرسالة إلى يزيد ورجوعه إلى الكوفة بالجواب، وهذا يستغرق عادة ذهاباً وإياباً مدّة أسبوعين.. وبناء على ذلك سيكون بقاء أهل بيت الحسين عليه السلام في سجن الكوفة ما يقرب من الأسبوعين، ومعنى ذلك أنّ خروجهم من الكوفة إلى الشام سيكون بعد أسبوعين. ينقل الطبريّ حول سجن أهل بيت الحسين عليه السلام في الكوفة، بأنّه قد استمرّ لأيّام متتالية، فهو يروي:

وأمّا عوانة بن الحكم الكلبيّ فإنّه قال: لمّا قُتل الحسين وجيء بالأثقال والأسارى حتّى وردوا بهم الكوفة إلى عبيد الله، فبينا القوم محتبسون، إذ وقع حجر في السجن معه كتاب مربوط، وفي الكتاب: خرج البريد بأمركم في يوم كذا وكذا إلى يزيد بن معاوية، وهو سائر كذا وكذا يوماً وراجع في كذا كذا، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل، وإن لم تسمعوا تكبيراً فهو الأمان إن شاء الله. قال: فلمّا كان قبل 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

58

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 قدوم البريد بيومين أو ثلاثة، إذا حجر قد أُلقي في السجن مربوط وموسى، وفي الكتاب: أوصوا واعهدوا، فإنّه ينتظر البريد يوم كذا وكذا، فجاء البريد ولم يُسمع التكبير، وجاء كتاب بأن سرّح الأسارى إليّ. 1

 
هذا النقل يبيّن لنا بشكل واضح أمرين اثنين، الأوّل: أنّ الرسالة وصلت بوساطة مبعوث إنسانيّ وليس الحمام الزّاجــل. الثــاني: أنّ مــدّة سجــن أهل البيت عليهم السلام في الكوفة كانت طويلة، بل إنّ الجملة الواردة في النص: (فلمّا كان قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة) تدلّ على أنّ فترة الإياب وحدها تمتدّ لأكثر من ثلاثة أيّام، لأنّ الكوفيين كانوا يحسبون هذه الأيّام الثلاثة هي أواخر الإنتظار. بناء على ما مضى، فلو قبلنا بذاك النقل، فيجب أن نحسب خروج قافلة الأسرى من الكوفة إلى ما بعد الخامس والعشرين من المحرّم؛ لأنّ الحدّ الأدنى واللازم من الوقت لذهاب الرسول إلى الشام ورجوعه منها هو ما يقرب من الأسبوعين، فحركة الأسرى من الكوفة نحو الشام لا يمكن أن تكون قبل (25) من المحرّم.
 
الإحتمال الثاني: أن يقوم ابن زياد بحمل الأسرى ورؤوس الشهداء نحو الشام، من دون أن يرسل أيّة رسالة إلى يزيد، بل يبعث رسالة مع الرأس الشريف للإمام الحسين عليه السلام نحو الشام. ومن ثمّ يرسل مباشرة رؤوس الشهداء وقافلة الأسرى إلى الشام.
 
بناء على هذا الإحتمال سيكون حبس أهل البيت في الكوفة قصيراً؛ لأنّ ابن زياد اضطرّ للإسراع بإرسال رؤوس الشهداء والأسرى نحو الشام ليفوّت الفرصة على الناس لئلّا يتحرّكوا ويثيروا القلاقل والفوضى في الكوفة.
 
ويمكن إستفادة هذا الأمر، من خلال الأخبار التي تدلّ على انتقال الرأس المقدّس للإمام عليه السلام إلى الشام مع الأسرى. وهذا ما كان من عادة العرب، حيث يرسلون إلى أميرهم، بعد الإنتصار في الحرب، رأس قائد جيش العدوّ مرفقاً برسالة تتضمّن بشارة النصر، ثمّ ترجع بعد أيّام فلول العسكر مع الغنائم والأسرى. وإذا كان بعض المقاتل يعترف بوجود رسالة من ابن زياد مرفقة مع 
 
 
 

1-الطبريّ، ج 5، ص 463 (موسوعة مقتل الإمام الحسين) آل مكباس، ص 746 النقل عن (الكامل في التاريخ، ج 3، ص 298).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

59

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 الرأس المقدّس لسيّد الشهداء عليه السلام فبالإمكان أن نستنتج أنّ ابن زياد بعث بقافلة الأسرى ورؤوس الشهداء مباشرة إلى الشام من قبل أن يتلقّى أيّة أوامر من يزيد، وامتنع عن حبسهم لمدّة طويلة للتخلّص من أيّ تحرّك وثورة شعبيّة قد يقوم بها أهل الكوفة.

 
هذه الفرضيّة أيّدتها بعض الكتب التاريخيّة المعتبرة، حيث لم تأت على ذكر أيّة رسالة من ابن زياد إلى يزيد لمعرفة ما يفعله بالنسبة إلى الأسرى ورؤوس الشهداء. بل هناك بعض المقاتل تصرّح بأنّ ابن زياد بعث برسالة تبيّن قيامه بالمهمّة التي كلّف بها في الكوفة، وبعث بها مع رأس الإمام الحسين عليه السلام إلى الشام.
 
ينقل ابن الأعثم الكوفيّ في مقتله:
وسبق زجر بن القيس الجعفيّ برأس الحسين إلى دمشق حتّى دخل على يزيد مسلماً عليه ودفع إليه كتاب عبيد الله بن زياد، فأخذ كتاب عبيد الله فوضعه بين يديه ثمّ قال: ما عندك. 1 2
 
2- مسير قافلة الأسرى من الكوفة إلى الشام:
 
في الحقيقة، فإنّه لا يوجد أيّ خبر معتبر ويقينيّ في موضوع مسير قافلة الأسرى من الكوفة إلى الشام، ولذلك فإنّ صاحب كتاب (نفس المهموم) عليه الرحمة، يقول في كتابه: (إعلم أنّ ترتيب المنازل التي نزلوها في كلّ مرحلة باتوا بها أم عبروا منها، غير معلوم ولا مذكور في شيء من الكتب المعتبرة، بل ليس في أكثرها مسافرة أهل البيت إلى الشام).3
 
ولكن لو رجعنا إلى الخريطة الجغرافيّة للمنطقة، والطريق المتعارفة ما بين الكوفة والشام، في ذلك الزمان حسب بعض الوثائق، فيمكن القول بأنّه يوجد 
 
 
 

1-آل المكباس، ص 410 موسوعة مقتل الإمام الحسين عليه السلام- بالرواية عن الفتوح- ابن الأعثم الكوفيّ، ج 5، ص 127 وص 586.
2-نحن نعتقد لو أنّ المرحوم القاضي الطباطبائيّ كان يدافع عن هذه الفرضيّة لإثبات بقاء قافلة الأسرى في الكوفة لمدّة قصيرة، ولإثبات وصولهم إلى الشام في أوّل يوم من شهر صفر، وبالتالي فإنّهم استطاعوا زيارة كربلاء الحسين عليه السلام في الأربعين الأوّل، لكان هذا أنسب وأقلّ مشقّة وعناء، وذلك لأنّ هذا الفرض يؤيّده كتابان من كتب المقاتل، هذا أوّلاً. وثانياً: لا حاجة لبذل كلّ ذلك الجهد الكبير لإثبات أنّ عصر يزيد كان يستفاد فيه من الحمام الزّاجل.
3-المحدّث القمّي- عبّاس- (نفس المهموم)، ص 227 (388).


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

60

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 ثلاثة طرق لا غير:

الطريق الأوّل: قد سبق القول منّا إنّه لا يوجد أي دليل معتبر يدلّ على حركة قافلة الأسرى من الكوفة إلى الشام، لكنّ كثيراً من الكتب الضعيفة غير المعتبرة قد ذكرت المنازل التي عبرت فيها قافلة الأسرى، وهذه الأخبار هي السبب في اشتهار الطريق السلطانيّ. هذه الشهرة هي التي جعلت بعض المحقّقين والمؤلّفين المتأخّرين الذين كتبوا في تاريخ عاشوراء، يؤيّدون هذه الفرضيّة ويعتبرون أنّ مسير حركة قافلة الأسرى هو الطريق السلطانيّ الذي يمرّ عبر مدن مثل: تكريت، الموصل، تل عفر، نصيبين، وعين الورد.

فإذاً الطريق الأوّل الذي تدلّ عليه الأخبار الضعيفة وغير المسندة هو الطريق السلطانيّ. ولعلّ شهرة هذا الطريق باعتبار أنّ أغلب الناس يسلكونه في ذلك الزمان للسّفر من الكوفة إلى الشام. ولكن يجب الإنتباه إلى أنّ مسافة هذا الطريق طويلة جدّاً، مع وجود طرق أخرى مختصرة!!

الطريق الثاني: ما ذكره بعض المحقّقين واحتمله آخرون، وهو الطريق في خطٍّ مستقيم من الكوفة إلى الشام. هذا المسير يمرّ بمنطقة صحراويّة قاحلة، قاسية وحارّة تسمّى باسم بادية الشام، حيث لا يوجد فيها أيّ عمران.

المرّة الأولى التي ذكر فيها هذا الطريق ورد في كتاب (أعيان الشيعة) وقد وصف المؤلّف ذلك الطريق بالمستقيم من أجل أن يفسّر إمكانيّة وصول مبعوث إبن زياد إلى الشام خلال أسبوع واحد.

في البداية يستبعد مؤلّف (أعيان الشيعة) ما ذكره بعض مؤلّفي المقاتل بأنّ قطع المسافة بين الكوفة والشام يحتاج إلى أسبوع واحد فقط. ولكن مؤلّف الأعيان، في محاولته لدفع ذلك الإستبعاد، يقول:ويمكن دفع الإستبعاد بأنّه يوجد طريق بين الشام والعراق يمكن قطعه في أسبوع لكونه مستقيماً، وكان عرب عقيل يسلكونه في زماننا. وتدلّ بعض الأخبار على أنّ البريد كان يذهب من الشام إلى العراق في الأسبوع وعرب صليب يذهبون من حوران إلى النجف في نحو ثمانية أيّام. فلعلّهم سلكوا هذا الطريق وتزوّدوا ما 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

61

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 يكفيهم من الماء وأقلّوا المقام في الكوفة والشام، والله أعلم1.

 
ورجّح محمّد أمين الأمينيّ أيضاً في كتابه، هذا المسير، وقال:(ونحن أيضاً نرجّح أنّ أعداء الله ورسوله صلى الله عليه واله وسلم كانوا قد سلكوا ببقيّة الركب الحسينيّ في سفرهم من الكوفة إلى الشام أقصر الطرق مسافة، سواء أكان طريق عرب عقيل أو غيره، ونستبعد أنّهم سلكوا ما سمّي بالطريق السلطانيّ الطويل)2.
 
وأخيراً صرّح أيضاً الشهيد القاضي الطباطبائيّ، في كتابه، بوجود هذا الطريق المستقيــم، إلّا أنّه لــم يعــط رأيــه في مــا إذا كانت قافلة حرم سيّد الشهداء عليه السلام قد سلكوا ذلك الطريق أم لا، بل الظاهر من كلامه قبوله للمسير الأوّل، وهو المسير السلطانيّ؛ لأنّه ينقل، بحسب الأخبار الضعيفة، بعض الوقائع التي حدثت أثناء السير في الطريق السلطانيّ ويؤيّدها أيضاً.
 
ولكن الحقّ أن يقال: إنّ سيرهم على الطريق المستقيم الذي لم يؤيّده إلّا اثنان من المحقّقين المتأخّرين، ليس فقط لا شاهد عليه ولا مستند، بل يوجد شواهد على خلافه؛ لأنّه، وكما مرّ سابقاً، فإنّ بعض الكتب الضعيفة وغير الموثّقة، نقلت حوادث في مسير الأسرى كلّها ذات علاقة بالمسير السلطانيّ، لا مسير بادية الشام.
 
هذا بالإضافة إلى وجود شاهد معتبر آخر ينفي المسير في بادية الشام، وذاك الشاهد هو مقطع من كلام السيّدة زينب الكبرى عليه السلام حيث تخاطب يزيد وتقول له:
(أمن العدل يا بن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله صلى الله عليه واله وسلم سبايا قد هُتكت ستورهنّ وأُبديت وجوههنّ يحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد)3.
 
ومن الواضح جدّاً، أنّه لو كان مسير قافلة الأسرى من صحراء بادية الشام 
 
 
 

1-السيّد محسن الأمين (أعيان الشيعة)، القسم الأوّل، الجزء 4 القاضي الطباطبائيّ (تحقيق حول أربعين سيّد الشهداء)، ص 193.
2-مع الركب الحسينيّ، ج 5، ص 186.
3-القاضي الطباطبائيّ (التحقيق حول أربعين سيّد الشهداء)، ص 33.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

62

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 القاحلة والمحرقة، لكان ينبغي من السيّدة زينب عليه السلام أن تتحدّث عن مشقّات الطريق وصعابه، مثل عطش وجوع أطفال أبي عبد الله عليه السلام ، وهذا ما يحصل عادة في طريق الصحراء، أو تشكو من الإهمال الذي مارسه جنود ابن زياد عندما سلكوا بهم تلك الطريق الصحراويّة. لكن كانت شكوى زينب عليه السلام من المرور في المدن والبلاد، وعرضهم أمام أعين الناس بصورة الأسرى والخوارج، ولم تشر إلى شيء آخر، وهذا بنفسه دليل على مسيرهم من الطريق السلطانيّ وليس من طريق بادية الشام.

 
الطريق الثالث: هو الطريق الذي نعتقده مسيراً لقافلة الأسرى من الكوفة إلى الشام. وهذا الطريق، حسب الظاهر، كان متعارفاً ومحدّداً ما بين الكوفة وبين الشام، وهو المسير الذي يمرّ عبر الساحل الغربيّ لشطّ الفرات إلى مدن مثل: الأنبار- هيت- قرقيسيا- الرقّة- ومنطقة صفّين.
 
ومن مميّزات هذا المسير: أوّلاً: هو طريق محدّد ومعروف ما بين الكوفة والشام. ثانياً: ليس طويلا ً كما ورد الإشكال على الطريق السلطانيّ، وليس صحراويّاً وقاحلا ًومحرقاً كما هو الحال في مسير بادية الشام المهجورة، ولا يسافر فيها إلّا من كان مضطرّاً لذلك وكان له خبرة واسعة في معرفة تلك البلاد، أو كان من أهلها. 
 
هذا المسير هو نفس الطريق الذي سلكه جيش أمير المؤمنين عليه السلام للقتال مع معاوية1 وفي زمان الإمام المجتبى عليه السلام أيضاً كان هو الطريق الذي سلكه جيش معاوية من الشام إلى منطقة المسكن (وهي المحلّة التي التقى فيها عسكر الإمام الحسن عليه السلام بعسكر معاوية للقتال).
 
طبعاً إنّ مشاهدة خريطة المنطقة، والطرق الثلاثة الموجودة بين الكوفة ودمشق سيورث اعتقاداً جازماً لدى كلّ بصير أنّ سلوك هذا الطريق هو الخيار المنطقيّ والمعقول؛ لأنّ اختيار المسير السلطانيّ والذهاب إلى تكريت والموصل ونصيبين، مثله كمثل من يريد أن يضع لقمة في فمه بعد أن يديرها من وراء
 
 
 

1-يراجع: (موسوعة الإمام عليّ عليه السلام)، ج 6، فصل، 6 ، نقلا ً عن (مسير الإمام إلى الصفّين)، ص 55.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

63

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 رقبته. وكذلك انتخاب الطريق الصحراويّ غير معقول في الحالات المتعارفة من قبل رجال مقاتلين مثل رجال ابن زياد، الذين خبرتهم في تلك المنطقة غير كافية. ثمّ لنفرض حصول هذا المسير الشاق والطويل مع مجموعة من النساء والأطفال، فكيف لا نجد أحداً ينقل ويصف لنا مثل هذه الحادثة العظيمة؟!!

 
وعلى هذا الأساس، فالظاهر أنّ اختيار طريق المسير الغربيّ للفرات- وهو المسير الوسطي- إحتماله أقوى من إحتمال اختيار الطريقين الآخرين. ومن الواضح أنّ الشواهد الموجودة بالنسبة إلى مدن: حلب وقنّسرين وحماه وحمص ودير الراهب لا تعتبر شواهد خاصّة بالنسبة إلى الطريق الوسطي أو الطريق السلطانيّ، ولكن لو كانت هذه الشواهد قويّة فإنّها ستكون دليلا ًعلى عدم سلوك طريق بادية الشام حتماً.
 
 3-المدّة اللازمة للوصول إلى الشام:
 
الظاهر أنّ وصول قافلة الأسرى إلى الشام في الأوّل من شهر صفر غير مقبول، وكما مرّ سابقاً، فقد أشار مؤلّف كتاب (التحقيق حول الأربعين الأوّل لسيّد الشهداء عليه السلام ) إلى الطريق المستقيم ما بين الكوفة والشام، وأنّ الوقت اللازم لطيّ ذلك المسير من قبل أهالي تلك البلاد، يقدّر بأسبوع كامل. فهو يقول في كتابه:
(يوجد طريق بين الشام والعراق وهو ذو خطٍّ مستقيم ومباشر يسلكه في زماننا عرب عقيل، وفي مدّة أسبوع واحد يصلون إلى العراق)ثمّ يكمل كلامه فيقول:
(إنّ عرب صليب من حوران- وهي مساحات واسعة من بلاد دمشق وتقع في جهة القبلة منها وتحتوي على قرى ومزارع كثيرة، ومركز هذه البلاد هو (بصرى) وقد ورد ذكر تلك المناطق كثيراً في أشعار العرب- يسافرون من بلادهم إلى العراق فيصلون خلال ثمانية أيّام إلى النجف الأشرف)2.
 
 
 

1-القاضي الطباطبائيّ، المصدر، ص 33.
2-القاضي الطباطبائيّ، المصدر، ص 34.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

64

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 وهو يستفيد أيضاً من قصّة ميثم التمّار (ره) فيقول: (من هذه القضيّة يتّضح جيّداً بأنّهم يصلون من العراق إلى الشام بمدّة أسبوع واحد، والبريد وصل خلال أسبوع واحد إلى الكوفة، وهذا الخبر ورد صحيحاً عن ميثم التمّار- قدّس الله روحه)1

 
وفي النهاية يقول:(ينقل البعض بأنّه خلال أحد عشر يوماً استطاعوا الوصول من الشام إلى الكوفة من دون توقّف)2.
من خلال ما مرّ سابقاً، وبناء على الأدلّة التالية، يمكن الوصول إلى هذه النتيجة ونقول: إنّ قافلة الأسرى لم يكن بمقدورهم الوصول إلى كربلاء في اليوم الأوّل من صفر.
 
 والأدلّة على ذلك هي
 
الدليل الأوّل: لا يوجد أيّ شاهد ومؤيّد لمقولة الإستفادة من الحمام الزّاجل، ورسالة ابن زياد وصلت من خلال رسول ومبعوث، وهذا يعني، حسب ظاهر الأمور، أنّ رجوعه مع أوامر يزيد سيمتدّ إلى ما لا يقلّ عن أسبوعين اثنين.
 
وعليه، فإنّ قافلة الأسرى بقوا في سجن الكوفة عند ابن زياد لأسبوعين على أقلّ التقادير، وبعد ذلك أمر ابن زياد بنقلهم إلى بلاد الشام.
 
الدليل الثاني: إنّ الأسرى لم يسلكوا الطريق الصحراويّ لبادية الشام؛ لأنّه مسير شاقّ جدّاً، ولا يوجد له أيّ مؤيّد وشاهد حتّى في الكتب الضعيفة.
 
الدليل الثالث: الشواهد المثبتة لامتداد زمان وصولهم إلى الشام أكثر من أسبوع واحد؛ لأنّه إذا كان الطريق المستقيم من الكوفة إلى الشام يحتاج إلى أسبوع كامل من قبل ساعي البريد السريع، فما بالك بالمدّة التي يحتاج إليها المسافر عن الطريق السلطانيّ الذي يبلغ ضعف مسافة طريق البادية تقريباً؟ وكذلك المدّة التي يحتاج إليها المسافر عن طريق المسير الوسطيّ الذي هو أطول بكثير من مسير بادية الشام؟ فهي أيضاً ستمتدّ لأكثر من أسبوع واحد.
 
 
 

1-المصدر السابق، ص 34.
2-المصدر السابق، ص 38.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

65

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 وهذه المسألة يمكن إثباتها بأربعة أدلّة، وهي:


الدليل الأوّل: إنّ قافلة الأسرى التي تتألّف من عدد من النساء والأطفال، لا تستطيع السير بسرعة كما هو الحال بالنسبة إلى المبعوثين الذين يتنقلون على مراكب سريعة وقويّة.

الدليل الثاني: إنّ السفر الجماعيّ يفرض المداراة في قطع الطريق بقدم وحركة الأضعف، وهذا الأمر يصدق في المركوب أيضاً. بمعنى أنّه لو أردنا أن نسير بمجموعة من وسائل النقل، فلا بدّ أن تكون حركة الجماعة حسب حركة الأضعف بالمراكب وأبطئها، لأنّ السرعة الزائدة ستفرّق الجمع وتشتّت الجماعة، وهو أمر لا بدّ من الإحتراز عنه.

الدليل الثالث: إنّ قطع المسير الأطول يحتاج بطبيعة الحال إلى وقت أكثر، بمعنى أنّ طريق بادية الشام يتطلّب أسبوعاً واحداً، أمّا الطريق الأطول وهو السلطانيّ أو الوسطيّ فحتماً يحتاج إلى مدّة أكبر.

الدليل الرابع: إنّ وجود البلاد المتعدّدة، كما هو الحال في المسير السلطانيّ، أو المسير الوسطيّ، سيفرض توقّفاً متكرّراً، وسيضعف من سرعة الحركة. وعليه، فحتّى لو فرضنا بأحسن الأحوال أنّ عائلة الإمام الحسين عليه السلام ورؤوس الشهداء كانوا يقطعون كلّ يوم مسافة (100) كلم، فإنّ الوصول إلى الشام- مع ملاحظة أنّ المسافة إليها من الطريق السلطانيّ في حدود (1500) كيلومتر- يتطلّب أكثر من خمسة عشر يوماً. ولو تبيّن أنّ الرأس الشريف لسيّد الشهداء قد أرسل إلى الشام قبل بعث الأسرى، فلن يبقى أيّ تردّد وشكٍّ في هذه المسألة، بل سنتقدّم خطوة إلى الأمام وسيجعلنا مطمئنّين أكثر إلى ما ذهبنا إليه، من تأخّر وصول قافلة الأسرى في الأوّل من صفر، بل نقول الذي وصل هو رأس الإمام الحسين عليه السلام فقط، حسب بعض الروايات.

طبعاً نحن لا ننكر وجود عدّة روايات تتحدّث عن مرافقــة رأس الإمــام الحســين عليه السلام مع الأسرى، ولكن في المقابل هناك عدّة روايات أيضاً تدلّ على أنّ ابن زياد قد بعث برأس الإمام عليه السلام إلى الشام أوّلا ً.
على كلّ حال، فإنّ أحد هذين النقلين ليس صحيحاً، ويجب، في عالم التحقيق، 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

 


66

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 أن نقبل ذلك النقل الذي ينطبق على الواقع في العالم الخارجي أكثر، وتؤيّده الشواهد والقرائن بشكل أقوى.

 
لعلّه يمكن القول بأنّ إرسال الرأس المطهّر للإمام عليه السلام إلى الشام، وفصل أحد الرؤوس عن المجموع هو أمر مستبعد. هذا الكلام أوقع بعض المؤرّخين في الخطأ، وجعلهم يعتقدون بأنّ رأس الإمام عليه السلام كان مرافقاً لبقيّة الرؤوس مع قافلة الأسرى.
 
وأمّا الشواهد الدالّة على سبق بعث الرأس الشريف للإمام عليه السلام مع بقيّة رؤوس الشهداء قبل قافلة الأسرى فهي
 
الشاهد الأوّل: كلّ الكتب التي ذكرت أنّ أوّل يوم من صفر هو يوم وصول رأس الإمام الحسين عليه السلام إلى الشام، ولم تذكر تلك المصادر أيّ شيء عن وصول الأسرى في ذلك التاريخ إلى الشام، كما ورد في هذين النقلين:(وفي أوّله- أي أوّل صفر- أدخل رأس الحسين عليه السلام إلى دمشق وهو عيد عند بني أميّة)1
 
وقال الكفعميّ (وفي أوّله (صفر) أدخل رأس الحسين إلى دمشق وهو عيد عند بني أميّة)2
 
وفي بعض المقاتل يقول:(وقد كان عبيد الله بن زياد لمّا قتل الحسين عليه السلام بعث زجر بن قيس الجعفيّ إلى يزيد بن معاوية يخبره بذلك)3
 
الشاهد الثاني: حسب المنقولات الواردة، في كثير من كتب التاريخ، ومنها: الفتوح لابن أعثم، ومقتل الخـــوارزميّ، فــإنّ زجـــر بـــن قيـــس قد حمل رأس الإمام عليه السلام إلى الشام ليبلغ يزيد خبر انتصار ابن زياد. هذه المصادر تؤيّد مسألة إرسال رأس الإمام عليه السلام قبل قافلة الأسرى، وممّا ورد فيها:(وسبق زجر بن قيس الجعفيّ برأس الحسين إلى دمشق حتّى دخل على يزيد
 
 
 

1-مصباح الكفعميّ، ص 676 / الشيخ عبّاس القمّي، نفس المهموم، ص 391.
2-مصباح الكفعميّ، ص 510 / توضيح المقاصد، المسألة: 5. 
3-الطبقات الكبرى (الطبقة الخامسة من الصحابة)، ج 1، ص 485 والأخبار الطوال، ص 260.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

67

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

  مسلماً عليه ودفع إليه كتاب عبيد الله بن زياد، فأخذ كتاب عبيد الله فوضعه بين يديه ثمّ قال: هات ما عندك يا زجر... قال: ثمّ أتى بالرأس حتّى وضع بين يدي يزيد بن معاوية في طشت من الذهب...)1.

                   
الشاهد الثالث: هنـــاك نقــل آخر يروي حكاية إرســال الــرأس المقــدّس للإمـــام عليه السلام بوساطة محضر بن ثعلبة.. فهنا حتّى لو كان حامل الرأس الشريف شخصاً آخر، فهو يؤيّد- حسب ظاهره- مسألة إرسال رأس الإمام عليه السلام قبل قافلة الأسرى:(وقدم رأس الحسين محفز (مخفر) بن ثعلبة العائذيّ على يزيد فقال: أتيتك يا أمير المؤمين برأس.. (كذا وكذا)، فقال يزيد: ما ولدت أمّ محضر أحقر وألأم)2.
          
الشاهد الرابع: وأخيراً، فإنّ أحد الشواهد التي تدلّ على عدم مرافقة الرأس الشريف للإمام عليه السلام مع قافلة الأسرى، هو حكاية مجلس يزيد، وقد نقل ذلك المجلس على هذا النحو:(ثمّ أدخل نساء الحسين عليه والرأس بين يديه، فجعلت فاطمة وسكينة ابنتا الحسين تتطاولان لتنظرا إلى الرأس، وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس، فلمّا رأين الرأس صحْن)3.
 
النقطــة المهمّة التي نستفيدها من هذا النقل هي: أنّ محاولة بنات أبي عبد الله عليه السلام لرؤية رأس أبيهنّ المقطوع، وصراخهنّ عند مشاهدته يدلّ على عدم مرافقة الرأس المقدّس للإمام عليه السلام لقافلة الأسرى؛ لأنّ الرأس الشريف لو كان معهنّ على طول مسافة الطريق، وكان رأس أبيهنّ عليه السلام دائماً تحت أنظارهنّ فهذا يعني أوّلاً: أن لا يبذلن الجهد حتّى يرينه في مجلس يزيد. وثانياً: عند مشاهدة الرأس الشريف لا داعي لفقدان الصبر والبدء بالصراخ.
 
ومن هنا، فإنّه من الصعب جدّاً القبول بأنّ رؤوس الشهداء ورأس الإمام 
 
 
 
 

1-الفتوح، ج 5، ص 127 / وراجع الإرشاد، ج 2، ص 118.
2-ابن سعد، الطبقات الكبرى (الطبقة الخامسة من الصحابة)، ج 1، ص 486، والكامل في التاريخ، ج 2، ص 576.
3-الكامل في التاريخ، ج 2، ص 577 وسير أعلام النبلاء، ج 3، ص 320 وينابيع المودّة، ج 3، ص 16.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

68

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 الحسين عليه السلام كانت مرافقة لقافلة النساء والأطفال إلى الشام، بحيث كان الأسرى والرؤوس تعرض في كلّ مدينة يصلون إليها، ثمّ نقول بأنّ أولاد سيّد الشهداء لم يشاهدوا الرأس المقدّس لأبيهم عليه السلام على طول ذاك المسير!!

 
هذا بالإضافة- كما مرّ سابقاً- إلى أنّ التقليد المعروف في ذاك الزمان، كان بإرسال رأس قائد الأعداء بعد الإنتصار في الحرب، مع رسول إلى أمير القوم وزعيمهم، كي تصل إليه بشارة النصر بسرعة وقبل أي خبر آخر، ليتّخذ التدابير اللازمة، ولا يكون هذا الأمير هو آخر من يطلع على هذا الأمر المهم.
 
في النتيجة لا يمكن القبول ظاهراً، بأنّ دخول الأسرى إلى الشام كان في اليوم الأوّل من صفر؛ لأنّ الحبس في الكوفة لمدّة أسبوعين، والبقاء على الطريق من الكوفة إلى الشام لمدّة أسبوعين آخرين سينفي أي احتمال لوصولهم إلى الشام في أوّل صفر.
 
4- المدّة التي بقي فيها أهل بيت الإمام في الشام:
 
من الأمور المتعلّقة مباشرة بمسألة وصول أهل بيت سيّد الشهداء، في اليوم الأربعين إلى كربلاء، معرفة مقدار إقامتهم في الشام. وكما أنّه، في الموارد السابقة، كان هناك شكّ وتردّد، هذه المسألة أيضاً لا يقين فيها، بل إنّ اختلاف الأقوال والآراء هنا أكثر من اختلافها هناك.
 
من أجل بيان الآراء المرتبطة بمقدار إقامتهم في الشام يمكن الإشارة إلى الأمور الآتية:
 
1- بقاء قافلة الأسرى في الشام لمدّة ثمانية أيّام1.
 
2- يروي القاضي النعمان بقاءهم في مكان بلا سقف لمدّة شهر ونصف بالإضافة إلى الأيّام السبعة التي بقوا خلالها في بيت يزيد، يقيمون مجالس العزاء:(وقيل: إنّ ذلك بعد أن أجلسهنّ في منزل لا يكنهنّ من برد ولا حرّ فأقاموا فيه 
 
 
 
 

1-المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 45، ص 196.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

 


69

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 شهراً ونصف حتّى أُقشرت وجوههنّ من حرّ الشمس ثمّ أطلقهن)1

 
يؤيّد المحدّث النوريّ هذا القول، ويعتقد بأنّ إقامة أهل البيت في دار يزيد لمدّة عشرة أيّام هي غير مدّة الحبس في مكان دون سقف لا يمنع من حرّ ولا برد2
 
3- ذكر ابن طاووس أيضاً، في إقبال الأعمال، مدّة إقامتهم شهراً كاملا ًوكذلك المرحوم الطبسيّ النجفيّ اعتبر إقامتهم في حبس الشام لا يقلّ عن شهر تامّ، فهو ينقل في كتابه: (إنّ ظاهر عدّة التواريخ أنّ توقّفهم في الشام لا يقلّ عن شهر)4
 
4- هناك قول آخر يعتقد أنّ إقامتهم امتدّت لستّة أشهر، والسيّد ابن طاووس يذكره من دون قائل5
 
5- إنّ بعض الروايات المنقولة تدلّ على أنّ الإقامة استمرّت ثمانية عشر يوماًو خمسة وأربعين يوماًو سنة كاملة.. وهذا طبعاً من الأقوال النادرة والشاذّة.
 
إنّ هذه المسألة عند الشيعة الإماميّة يلفّها الإبهام والغموض؛ لأنّهم من ناحية، هم يوافقون الآراء التي تتحدّث عن الحبس الطويل لأهل البيت عليهم السلام في مكان لا سقف له، ولا يحفظ من حرّ ولا برد، بل يصرّحون بأنّ وجوه أهل بيت الإمام عليه السلام قد تغيّر لونها، وجلودهم قد تقشّرت، ولكن من ناحية أخرى لإثبات وصول قافلة الأسرى إلى كربلاء في الأربعين الأوّل نراهم يتحدّثون عن توقف قصير في بلاد الشام!! وهذان الأمران لا يتوافقان أبداً، وقد عقّدت هذه المسألة الأمر على أتباع الإماميّة أكثر.
 
طبعاً الرجوع إلى الأخبار المرتبطة بإقامة قافلة سيّد الشهداء في الشام يورثنا تقريباً الإطمئنان بأنّ إقامتهم لم تكن بمقدار ثمانية أو عشرة أيّام، لأنّه: أوّلاً:
 
 
 

1-القاضي النعمان المغربيّ (شرح الأخبار)، ج 3، ص 269.
2-النجفيّ، القاضي الطباطبائيّ (تحقيق در بارهء أوّل أربعين سيّد الشهداء عليه السلام)، ص 44.
3-إقبال الأعمال، ص 589 أعلام الورى، ص 249. 
4-الطبسيّ النجفيّ، مقتل الإمام الحسين، ص 285.
5-النجفيّ، القاضي الطباطبائيّ (تحقيق در بارهء أوّل أربعين سيّد الشهداء عليه السلام)، ص 45 46.
6-يراجع: مهيّج الأحزان.
7-نقلاً عن: الطراز المذهّب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

70

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 الإقامة في مكان لا يمنع حرّاً ولا برداً إلى حدّ أنّه يغيّر وجوه المقيمين فيه، ويحرق جلودهم، لا يمكن أن يكون لمدّة قصيرة، وحسب النقل المعتبر فإنّ قافلة الأسرى انتقلت إلى بلاد الشام على مراكب لا هودج لها، ووجوههنّ أيضاً كانت مكشوفة، فإذا كانت وجوههنّ ستحترق وجلودهنّ ستنسلخ فيجب أن يحصل ذلك من قطع الطريق، وليس من المدّة القصيرة التي قضوها في مكان لا سقف له.


ولكن بسبب الأخبار المعتبرة المتعدّدة جعلوا علّة تغيّر الوجوه والجلود عند أهل بيت الإمام عليه السلام هي المدّة الطويلة التي أقاموها في الحبس، وهذا هو أحد الأهداف التي أرادوا بيانها من خلال تبدّل الوجوه والجلود. من خلال هذا يمكن لنا أن نأخذ فائدة أيضاً، وهي أنّ مسير قافلة الأسرى لم يكن من بادية الشام المحرقة، وإلّا كانوا سينسبون تبدّل الجلود والوجوه إلى المسير من الكوفة إلى الشام.

وكذلك إنّ إضافة السكن الذي أتاحه يزيد في دارته لمدّة سبعة أيّام لأجل العزاء، وضمّها إلى ذلك الحبس الطويل، وأيضاً تفويض الأمر لأهل البيت ليختاروا بين الإقامة في الشام وبين الرجوع إلى المدينة واختيارهم الرجوع، ثمّ الزمان اللازم من أجل تجهيز القافلة لانتقال عيال سيّد الشهداء عليه السلام من الشام إلى مكان أبعد من الكوفة- وهو المدينة- كلّ واحد من هذه الأمور يحتاج إلى وقت خاصّ يضاف إلى مجموع الأزمنة المذكورة سابقاً. ومن هنا يظهر أنّ إقامة الأسرى في الشام لمدّة ثمانية أيّام أو عشرة منها، ليس مطابقاً للواقع، واختيار هذا الرأي بعيد عن التحقيق.

إنّ تبدّل سلوك يزيد مع الرأس المقدّس للإمام عليه السلام ومع عياله، يعني أنّ ذاك التغيّر في سلوكه إنّما حصل خلال مدّة معتدّ بها؛ لأنّ يزيد باعتبار أنّه الخليفة والحاكم المطلق لبلاد الإسلام لا يستطيع أن يغيّر من سلوكه القاسي الذي يوجد فيه الطعن والشتم والأذى لعيال سيّد الشهداء عليه السلام خلال أيّام قليلة وبسهولة، ليصبح ودوداً وعطوفاً حتّى مع الإمام السجّاد عليه السلام. 

وللتوضيح نقول: إنّ يزيد في البــداية تجــرّأ علـــى الرأس المقدّس لسيّد الشهداء عليه السلام في مجالس متعدّدة، وقام بمحاولة إذلال وإهانة عيال الإمام عليه السلام من أجل إطفاء نار الحقد والعداوة تجاه آل محمّد صلى الله عليه واله وسلم ، ولهذا تعامل معهم من دون 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

71

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 أيّة رأفة، وسجنهم في مكان غير لائق ولا سقف له، ولكن عندما وجد أنّ الأوضاع غير ملائمة ومضطربة، وشاهد انتقاد الناس ونفورهم- حتّى المقرّبين منه- بدأ بتغيير سلوكه تدريجيّاً ليمتصّ غضب الناس وانتقاداتهم، فأسكن أسارى آل محمّد صلى الله عليه واله وسلم في منزله وأجلس الإمام السجّاد عليه السلام على مائدته وسمح لهم بإقامة مجالس العزاء لسيّد الشهداء عليه السلام وأصحابه الأوفياء، وفي النهاية تعامل بلطف وعطف مع الإمام السجّاد عليه السلام ، ووضع وزر قتل سيّد الشهداء عليه السلام في رقبة ابن زياد، وبرّأ نفسه من هذه الجناية الكبيرة.


من المعلوم أنّ يزيد يحتاج إلى مدّة من الزمن كي يتنبّه إلى أخطائه ويقيّم الأوضاع الجارية، وكذلك تغيير سلوكه بعد اكتشاف تلك الأخطاء يلزمه وقت كافٍ أيضاً. فهو عندما رأى أنّ العداوة الزائدة مع حرم النبيّ صلى الله عليه واله وسلم أخذت تزلزل أركان حكمه، غيّر من سلوكه وأيقن حينها بلزوم اتباع طريقة أبيه معاوية باستعمال الحيلة والنفاق ليستطيع السيطرة على الأوضاع، ولمنع أيّ اضطرابات وتحرّكات شعبيّة. لهذا بدأ تدريجيّاً، من خلال التعامل بلطف مع أهل بيت سيّد الشهداء وإسكانهم في قصره والسماح لهم بإقامة مجالس العزاء الحسينيّ، بتغيير أفكار الناس اتجاهه لمنع أيّ فوضى من قبلهم.

طبعاً بعد تسكين نار كبريائه، وبعد إدراكه عظيم الفاجعة التي كان قد ارتكبها، ومن أجل أن يمنع ظهور أيّة فوضى عامّة، أو انتقادات في الشام وفي غيرها من البلاد، كان يزيد- ومن خلال التسامح مع الأسرى وإظهار الحزن لهم- قد وضع ثقل الجـريمة على عاتق ابن زياد، واضطرّ أن يحتفــظ بأهـــل بيـــت الإمــام الحسين عليه السلام عنده مدّة من الزمن مع كلّ تكريم واحترام، وأن يأمر الجميع باحترامهم وتقديرهم طبعاً. كلّ هذا كان من أجل أن يضبط الأوضاع في البلاد. ولهذا فإنّ إرجاع عوائل الأسرى إلى المدينة، قبل أن يزول حزن المصائب عنهم، وقبل أن يستريحوا من مشاق الأسفار الطويلة والبعيدة من مكّة إلى كربلاء ومن كربلاء إلى الشام، لن يكون ذلك إلّا سبباً لظهور التحرّكات الشعبيّة والإضطرابات والثورة في أنحاء وأطراف بلاد العالم الإسلاميّ.

طبعاً نحن لا ننكر أنّ يزيد- حتّى في حال كان أهل بيت النبيّ صلى الله عليه واله وسلم محتجزين في 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

72

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 بيت لا يحميهم من حرّ ولا برد- كان يستطيع أن يحتال وينافق مع الناس ويقول لهم: إنّ أهل بيت النبيّ صلى الله عليه واله وسلم قد نزلوا ضيوفاً مكرّمين في بيته الخاصّ.


على كلّ حال، إنّ يزيد- وإن كان لا يستطيع أن يبقي حرم نبيّ الإسلام في الشام، بحيث تتحرّك مشاعر المسلمين هناك- ولكن هو يستطيع أن يبقيهم، ولو مضطرّاً، بحالة الإحترام والتكريم في الشام، ويظهر لهم أيضاً الأسى والحزن على ما أصابهم. كلّ ذلك من أجل منع اشتعال فتيل الغضب لمحبّي أهل البيت عليهم السلام ولتسكين سخطهم، ولضبط أوضاع البلاد. ثمّ بعد أن تهدأ الأجواء نسبيّاً، وتمحى مصيبة سيّد الشهداء من أذهان عامّة الناس، عندها يرجع أهل بيت الإمام عليه السلام إلى المدينة.

فالنتيجة التي نصل إليها: أنّ يزيد ليس فقط يستطيع إبقاء أهل البيت عليهم السلام بهذه الوضعيّة المكرّمة في الشام، بل هو مضطرّ أيضاً ليقوم بذلك حتّى تعود المياه إلى مجاريها ويعمّ الهدوء في المجتمع؛ لأنّ إرسال حرم سيّد الشهداء- في حال أنّ آثار العزاء لا زالت على وجوههم، والغمّ والأسى يموجان في قلوبهم، والبغض يضغط على خناقهم- يعتبر أمراً مستغرباً، وهو بعيد عن كلّ وعي سياسي. ومن الواضح أنّ هذا الأمر سيهيّئ أجواء التحرّك الشعبي والفوضى في المناطق التي يمرّ فيها أهل البيت عليهم السلام أثناء رجوعهم إلى المدينة المنوّرة، ويجعل الأوضاع أيضاً غير آمنة حتّى بالنسبة إلى الحكومة المركزيّة.

فإذاً بقاء أهل البيت في الشام لمدّة أكبر ممّا هو مشهور (ثمانية أو عشرة أيّام) يعتبر تقريباً أمراً قطعيّاً، والشواهد التاريخيّة أيضاً تدلّ عليه.

ثمّ إنّ تسلسل الأحداث التي وقعت في الشام، تورث الإنسان اطمئناناً بأنّ هذه الوقائع لا يمكن أن تحصل خلال ثمانية أيّام فقط، ونحن هنا نستعرض هذه الأحداث ونترك الحكم على عهدة القارئ المحترم:

1- وصول الرأس المقدّس لسيّد الشهداء إلى الشام في الأوّل من صفر، ووجود بعض الشواهد الدّالة على وصول قافلة الأسرى في ما بعد ذلك التاريخ.

2- مجلس يزيد في اليوم الأوّل لوصول الأسرى إلى الشام، والذي يوجد شواهد كثيرة تدلّ على أنّه لم يكن أوّل صفر، بل بعده بأيّام كثيرة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

73

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 3- السّجن لمدّة طويلة في مكان بلا سقف، ولا يحمي من برد ولا حرّ.

 
4- خطاب الإمام السجّاد عليه السلام في المسجد الأمويّ بعد الكلام الذي ألقاه خطيب يزيد.
 
5- المجالس التي حصلت بعد ذلك بين الإمام السجّاد عليه السلام وبين يزيد. من الواضح أنّ تهيئة الأجواء ليسمح للإمام السجّاد عليه السلام بإلقاء الخطابة في المسجد الأمويّ، أو مشاركة الإمام عليه السلام في مجالس يزيد، يحتاج إلى وقت وزمان معتدّ به.
 
6- إحضار يزيد الإمام السجاد عليه السلام إلى مائدته، وكذا المجلس الذي طلب فيه يزيد من ابن الإمام المجتبى عليه السلام لمنازلة ابنه بالقتال.
 
7- المجالس التي أقامها يزيد مع أعوانه، وقد وضع رأس الإمام عليه السلام أمامه، ثمّ أخذ يتناول الخمر1.
 
8- إسكان أهل البيت في دار يزيد، وإقامة مجالس العزاء فيه لمدّة أسبوع كامل.
 
9- لقاء المنهال مع الإمام السجّاد عليه السلام في سوق الشام، والذي يعني أنّ الأسرى قد بقوا مدّة طويلة نسبيّاً في الشام؛ لأنّ الإقامة فيها لو كانت لمدّة قصيرة، لما كان حضور الإمام عليه السلام إلى السوق والملاقاة مع المنهال مفهوماً.
 
10- الوقت اللازم لتهيئة القافلة للسفر من الشام إلى المدينة، وهو سفر طويل جدّاً..
 
11- دفع يزيد ديات قتل الشهداء وقصاص سفك دماء أهل البيت عليهم السلام ، والإعتراض الشديد من قبل فاطمة بنت الحسين عليه السلام.
 
12- تغيير مسلكيّة يزيد- 180°- وتبديل العداوة الواضحة تجاه الحسين بن عليّ وأبيه العظيم عليّ ابن أبي طالب عليه السلام إلى التودّد مع العطف، وتفقّد أحوال الإمام السجّاد عليه السلام وأهل بيت الحسين عليه السلام.
 
طبعاً، ما ذكرناه حتّى الآن، هو الوقائع الواردة في كتب التاريخ، ولكنّنا على 
 
 
 

1-الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج 2، ص 72 طبعاً يمكن أن تكون هذه الأخبار حصلت في زمان قد وصل فيه رأس الإمام الحسين عليه السلام إلى الشام، ولم تصل فيه بعد قافلة الأسرى.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

74

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 يقين من أنّ هناك حوادث أخرى قد حصلت، إلّا أنّ المؤرّخين لم يذكروها رعاية للاختصار.

 
الآن يستطيع القارئ المحترم أن يجيب عن السؤال الآتي: هل يمكن لهذه الوقائع، بحسب العادة، أن تتحقّق خلال ثمانية أو عشرة أيّام؟ أم أنّها تتطلّب زماناً أطول؟
 
وهناك نقطة أيضاً يجب الإلتفات إليها؛ وهي مراعاة حال ووضع أهل بيت سيّد الشهداء عليه السلام ، فالقافلة التي تتألّف من عشرين امرأة وخمسة عشر طفلاً، وقد أُخذوا أسرى وضُربوا في حال من الأسى والمصيبة، وقضوا أيّاماً طويلة في السفر إبتداءً من الثامن من ذي الحجّة إلى أوائل شهر صفر، أي ما يقرب من شهرين، وتحمّلوا أقسى الظروف الجسديّة والنفسيّة وأشدّها.. فهل يمكن بعد مدّة قصيرة تبلغ ثمانية أيّام أو عشرة أقاموها في الشام- وهذه أيضاً أيّام عصيبة ومؤذية وشديدة،لم يحصّلوا فيها قسطاً من الراحة ولم يخلصوا بعد من عناء الأسفار- هل يمكن لهم أن يتهيّأوا للرحيل وأن يبدأوا المسير من جديد نحو المدينة؟!!
 
طبعاً هذه الأمور لن تشكّل برهاناً قاطعاً لإثبات الإقامة الطويلة في الشام، ولكنّها بالتأكيد هي قرائن وشواهد يمكن لها أنّ تقرّبنا أكثر نحو الحقيقة.
 
أمّا في ما يرتبط بزمان خروج القافلة من الشام، فمع الإلتفات إلى ما مرّ سابقاً، لا يمكننا أن نحدّد تاريخاً مؤكّداً إلّا إذا اعتمدنا على بعض المنقولات التي تجعل يوم خروج أهل البيت من الشام هو يوم العشرين من صفر. مثلا ًيقول الشيخ الطوسيّ في مصباح المتهجّد:
(وفي اليوم العشرين منه (صفر) كان رجوع حرم سيدنا أبي عبد الله الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام من الشام إلى مدينة الرسول صلى الله عليه واله وسلم )1.
 
بعض المصادر الأخرى أيضاً تؤيّد هذ القول، وعباراتها شبيهة بما ذكر في المصباحلكن صاحب كتاب (مع الركب الحسينيّ) بعد نقل هذه الأقوال، 
 
 
 

1-مصباح المتهجّد، ص 730 والمجلسيّ، بحار الأنوار، ج 101، ص 334.
2-العدد القويّة، ص 219 مصباح الكفعميّ، ص 489 و510.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

75

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 يحمل معناها على زمان الخروج من الشام، لا زمان الوصول إلى المدينة1.

 
طبعاً، وكما مرّ معنا سابقاً، إنّ إقامة أهل البيت في الشام كانت طويلة. وأمّا القول بأنّ خروجهم من الشام كان في العشرين من صفر، فهو لا يتوافق مع أيّ قول من الأقوال السابقة التي تبيّن لنا مدّة إقامتهم في الشام، ولهذا يبقى هذا الرأي الأخير أيضاً في دائرة الغموض والإبهام.
 
5- التوجّه إلى كربلاء والوصول إليها في الأربعين الأوّل:
 
المسألة الأخيرة- التي لها ارتباط بالأربعين، وإقامة العزاء عند المرقد الشريف في ذلك اليوم، من قبل أهل بيت سيّد الشهداء، هي قصد التوجّه إلى كربلاء أثناء الرجوع إلى المدينة، ثمّ الوصول إلى هناك في يوم الأربعين.
 
هذه المسألة يمكن لنا أن نلخّصها من خلال الإجابة عن الأسئلة الآتية:
 
1- في الواقع: هل يمكن القول بأنّ ركب سيّد الشهداء كانوا قاصدين التوجّه إلى كربلاء أوّلاً، ثمّ يرجعون إلى المدينة؟
 
2- هل كان ذلك القصد إلى كربلاء موجوداً عندهم، منذ البداية، أم أنّه حصل أثناء المسير بحيث أنّهم كانوا متّجهين إلى المدينة إبتداءً، ثمّ أثناء الطريق بدّلوا مسيرهم نحو طريق كربلاء؟
 
3- هل يمكن لحرم سيّد الشهداء عليه السلام أن يتّجهوا إلى المدينة من دون أن يعرّجوا على كربلاء أوّلاً؟
 
4- إذا كان مقصودهم هو كربلاء، ففي أيّ يوم وصلوا إليها؟ هل وصلوا في الأربعين الأوّل أم في الأيّام المتأخّرة عن الأربعين؟
 
هذه هي الأسئلة التي يمكن طرحها هنا، والإجابة عنها لن تكون سهلة بسيطة؛ لأنّه لا يوجد بين أيدينا أخبار موثّقة ومن دون أيّ معارض، تعطي إجابات عن هذه الأسئلة الواردة معنا.
 
إنّ صاحب كتاب (التحقيق حول أربعين سيّد الشهداء عليه السلام ) ليس فقط من 
 
 
 

1-الركب الحسينيّ، ج 6، ص 270.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

76

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 المؤيّدين لوصول أهل بيت الحسين عليه السلام إلى كربلاء واللقاء مع جابر هناك، بل هو أيضاً من المتشدّدين في موضوع رأس سيّد الشهداء عليه السلام وإلحاق الرأس الشريف ببدنه الطاهر على يد الإمام السجّاد عليه السلام في يوم الأربعين، فهو بعد النقل والبحث حول الأقوال المختلفة المرتبطة بمسألة دفن الرأس المقدّس في عسقلان أو مصر أو النجف أو كربلاء، يستنتج ويقول: (والحاصل: أنّ القول الصحيح هو ما قاله علماء الإماميّة وعملوا به، وهو أنّ الإمام السجّاد حمل معه الرأس المقدّس مع رؤوس الشهداء إلى كربلاء، وإن لم يكن هناك يقين بأنّ كلّ رؤوس الشهداء قد حُملت، ولكن الرأس الشريف لأبي عبد الله عليه السلام كان حتماً مع الإمام السجّاد، برفقة مخدّرات الرسالة والطهارة، وقد ألحقه بالجسد الأطيب الأطهر في كربلاء في العشرين من صفر يوم الأربعين من سنة (61).. وأمر أيضاً بدفن رؤوس الشهداء هناك1.

 
وفي مورد آخر أيضاً يقول: (إنّ الإمام السجّاد عليه السلام قطعاً قد حمل معه الرأس المقدّس لسيّد الشهداء عليه السلام وفي يوم الأربعين- العشرين من صفر- ألحقه بالجسد الأطهر الأطيب)2.
 
إنّ أهمّ الأدلّة بالنسبة إلى هذه الدعوى، هو رواية عطيّة، مع أنّ هذه الرواية- بحسب نقل كتاب (بشارة المصطفى)- لم تذكر شيئاً عن لقاء جابر الأنصاريّ مع الإمام عليه السلام ومع ركب الأسرى، بل صرّحت فقط بزيارة جابر للقبر الشريف لسيّد الشهداء عليه السلام. ولكن صاحب كتاب (التحقيق حول الأربعين) يدّعي بأنّ رواية عطيّة نُقلت مقتطعة من كتاب (بشارة المصطفى)، وأمّا في المصدر الأساس فهي تنصّ على وصول قافلة الأسرى إلى كربلاء في يوم الأربعين، وتصرّح بلقاء جابر مع الإمام السجّاد ومع ركب السّبايا3.
 
ولكن يمكننا نحن الردّ عليه بالقول:
 1- إنّ تقطيع الرواية ونقصها في (بشارة المصطفى) لا يستند إلّا إلى السيّد 
 
 

1-القاضي الطباطبائيّ (التحقيق حول الأربعين الحسينيّ)، ص 359.
2-المصدر السابق ص 359.
3-لمصدر السابق، ص 179 221.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 


77

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 الأمين الذي كان من العلماء المتأخّرين، ولا يمكن فرض التقطيع في الرواية لمجرّد ادّعاء ذلك.

 
1-  نحن لا نجد في رواية عطيّة أيّ إشارة ليوم الأربعين؛ لأنّه من الممكن أنّ جابر قد ذهب إلى القبر الشريف للإمام الحسين عليه السلام مرّات عديدة خلال إقامته في الكوفة، وفي واحدة منها كان عطيّة قد رافقه فيها. لا سيّما وأنّه يمكن الاستفادة من أوّل روايته أنّ خروجهما إلى كربلاء كان من مكان قريب لا بعيد مثل المدينة المنوّرة. فأوّل الرواية هكذا ورد:(خرجــت مــع جابـــر بن عبد الله الأنصاريّ، رضي الله عنه، زائراً قبر الحسين عليه السلام فلمّا وردنا كربلاء...).
 
2-  من الواضح جدّاً، أنّه لو كان عطيّة يريد من (الخروج) الخروج من المدينة، لم يكن ليختصر كلامه بهذا الشكل، بل كان حتماً سيذكر شيئاً عن المدينة المنوّرة، أو عن بعد السفر، أو بعض الوقائع التي حدثت أثناء المسير.
 
ومن المهمّ، في رواية عطيّة، معرفة أنّ الراوي (وهو عطيّة) من أهل الكوفة، وقد صرّح بذلك السيّد القاضي قدس سره1.
 
وعليه، فمن المؤكّد أنّ جابر قد أقام في الكوفة مدّة من الزمن، وقد تشرّف بزيارة مرقد الإمام الحسين عليه السلام عدّة مرّات، وقول عطيّة (خرجت مع جابر) له ظهور في الخروج من الكوفة، ويشير إلى إقامة جابر فيها.
 
فإذاً، جابر لم يذهب لزيارة كربلاء مرّة واحدة حتّى نقول بأنّ لقاءه مع الإمام السجّاد عليه السلام وركب السبايا كان في تلك الزيارة الوحيدة، أو نقول بأنّ تلك الزيارة كانت في الأربعين لا غير.
 
على كلّ حال، فإنّ الخطأ الذي ارتكبـــه بعض المحقّقين هو الربط بين مقدّمتين، بين (زيارة جابر لكربــلاء في يـــوم الأربعـــين) وبـــين (لــقاء جابر مع الإمام السجّاد عليه السلام وأهل بيت سيّد الشهداء عليه السلام ). فكانت النتيجة أنّ قافلـــة أهـــل البيـــت عليهم السلام قد وصلت إلى كربلاء في يوم الأربعين، مع أنّ هاتين المقدّمتين 
 
 
 

1-القاضي الطباطبائيّ (التحقيق حول الأربعين الحسينيّ)، ص 179.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

78

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 الصحيحتين لا تنفيان زيارة جابر لكربلاء في أيّام لاحقة بعد الأربعين، فمن الممكن أن يكون لقاء جابر للإمام السجّاد عليه السلام في زيارة أخرى متأخّرة عن الأربعين.


وهذا الكلام سيكتسب قوّة إذا علمنا بأنّ جابر كان رجلاًً كبير السّن وضريراً، لأنّه من الواضح أنّ رجلاً مسّناً وضريراً يخرج من المدينة لزيارة قبر مولاه في كربلاء، لا يكتفي بزيارته مرّة واحدة، بل من المؤكّد بأنّه أقام في كربلاء أو في الكوفة مدّة من الزمان، وقام بزيارة القبر الشريف للإمام الحسين عليه السلام مرّات عديدة.

فبناءً على ما تقدّم، لو حصلت ملاقاة بين جابر وبين الإمام السجّاد عليه السلام ، فيجب أن يكون ذلك في ما بعد أربعين الإمام الحسين عليه السلام.

3- إنّ الأستاذ الشهيد القاضي الطباطبائيّ- وكما مرّ معنا سابقاً- ليس فقط يصرّح، في كتابه، بأنّ رواية عطيّة، حسب ما وردت في (بشارة المصطفى)، هي مقتطعة، وفي النسخة الأصليّة يوجد فيها لقاء جابر مع الإمام السجّاد عليه السلام بل هو يعتقد أيضاً أنّه في ذلك اليوم نفسه ألحق الرأس المقدّس للإمام عليه السلام ورؤوس الشهداء بأبدانهم الطاهرة.

ولكن لو لاحظنا نحن الجزء المقتطع من رواية عطيّة، فلا يمكن أن نستفيد ذلك المعنى أبداً، لأنّه- حسب ذلك الجزء المقتطع ظاهراً من كتاب بشارة المصطفى- فقد جاء فيه:

 (قال عطيّة: فبينما نحن كذلك وإذا بسواد قد طلع من ناحية الشام. فقال جابر لعبده: إنطلق إلى هذا السواد وآتنا بخبره فإن كانوا من أصحاب عمر بن سعد فارجع إلينا لعلنا نلجأ إلى ملجأ وإن كان زين العابدين عليه السلام فأنت حرّ لوجه الله تعالى. قال: فمضى العبد فما كان أسرع من أن رجع وهو يقول: يا جابر، قم واستقبل حرم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم هذا زين العابدين عليه السلام قد جاء بعمّاته وأخواته، فقام جابر يمشي حافي الأقدام مكشوف الرأس إلى أن دنا من زين العابدين عليه السلام ، فقال الإمام عليه السلام: أنت جابر؟ فقال: نعم يا بن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، فقال عليه السلام: يا جابر ههنا والله قُتلت رجالنا وذُبحت أطفالنا وسُبيت نساؤنا وحُرقت خيامنا، ثمّ انفصلوا 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

79

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 من كربلاء طالبين المدينة1.

 
والآن، مع التوجّه إلى هذا النصّ، نلفت النظر إلى عدّة أمور
 
1- لماذا لم يذكر عطيّة أي شيء عن إلحاق رأس الإمام الحسين عليه السلام بجسده الطاهر؟ إنّ حادثة إلحاق الرأس الشريف بالجسد الطاهر مهمّة وتلفت الأنظار، ولها مراسم خاصّة، وقد ورد فيها روايات عديدة ومختلفة، فكيف يمكن لعطيّة، باعتباره راوياً للحادثة، أن يغفل كليّاً عن هذه الواقعة، ولا يأتي أبداً حتّى على ذكر الرأس المقدّس لسيّد الشهداء عليه السلام ؟ فهل كان يوجد هناك أمر أهمّ من هذه المسألة جعلت عطيّة يغفل عنها؟ وهل موضوع إلحاق رأس ابن فاطمة الزهراء عليه السلام الذي داروا به أربعين يوماً في المدن والديار على رؤوس الرماح واقعاً تحت تصرّف اليزيديّين ومورداً للتوهين والقسوة بكلّ أنواعها، هل يعتبر مسألة صغيرة هيّنة وغير مهمّة حتّى يغمض عطيّة النظر عنها أو يتناساها؟!!
 
2- إذا كان رأس الإمام الحسين عليه السلام قد سُلّم للإمام السجّاد عليه السلام فيجب أن يصدّر يزيد الأوامر بإرجاعه إلى كربلاء ثمّ من بعد دفن الرأس الشريف يتوجّهون إلى المدينة المنوّرة، ولكنّنا لا نجد في الروايات والمنقولات الكثيرة أيّ ذكر لهذا الأمر من قبل يزيد.
 
3- الأقوال الكثيــــرة التــــي تتحــدّث عـــن دفـــن الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام في مكان آخر غير كربلاء، وبعض هذه الأقوال يعتبر معارضاً قويّاً للرأي المشهور2.
 
في كلّ الأحوال، فإنّ سؤالنا- مع التوجّه إلى الأدلّة والآراء المختلفة بالنسبة إلى دفن الرأس المقدّس للإمام عليه السلام وتشتّت تلك الأقوال واختلافها، والتي ذكرها المرحوم القاضي نفسه، ودوّنها في كتابه أيضاً بحيث خصّص لها أكثر من خمسين صفحة فيه3، وكذلك مع الإلتفات إلى الإنتقادات والإشكالات التي أوردها بعض
 
 
 

1-القاضي الطباطبائيّ (التحقيق حول الأربعين الحسينيّ)، ص 186.
2-الكلينيّ - الكافي، ج 4، ص 571 ابن قولويه، كامل الزيارات، ص 83 فرحة العزّي، ج 8، ص 92 بحار الأنوار، ج 45، ص 178، ح: 28.
3-القاضي الطباطبائيّ (التحقيق حول الأربعين الحسينيّ)، ص 304 352.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

 


80

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 العلماء والمفكّرين حول مسألة إلحاق الرأس الشريف للإمام عليه السلام - نقول، مع الإلتفات لكلّ ذلك، إنّ سؤالنا هو: كيف يمكن الإطمئنان والإعتقاد الجازم بأنّ رأس الإمام الحسين عليه السلام قد ألحق بجسده الطاهر في يوم الأربعين على يد الإمام السجّاد عليه السلام ؟! وفي الأساس: هل يمكن أن نجزم ونتيقّن بأيّ حادثة تاريخيّة إلّا في الموارد التي تصرّح بها الأخبار المتواترة؟!

 
الخلاصة: إنّ رواية عطيّة- حيث لم تذكر شيئاً عن إلحاق الرأس المقدّس بالبدن الشريف للإمام- توصلنا إلى نتيجتين محتملتين، وفي كلتا الحالتين فإنّ مسألة وصول قافلة الأسرى في الأربعين الأوّل وإلحاق الرأس الشريف بالبدن الطاهر، ستبقى تحت النقد والنقاش والسؤال. والإحتمالان هما:
 
الإحتمال الأوّل: إذا كانت رواية عطيّة حقّاً مقتطعة، فينبغي أن نقول بأنّ رؤوس الشهداء لم تكن مع الإمام السجّاد عليه السلام في يوم الأربعين، وإلّا لكان عطيّة حتماً هو وجابر سيشاركان في ذلك، وكان سينقل هذه الحادثة أيضاً بالتفصيل في روايته.
 
الإحتمال الثاني: أن تكون رواية عطيّة هي هي وكما وردت في كتاب بشارة المصطفى، وليس فيها أيّ نقص، ومعنى هذا أنّ أهل بيت الإمام الحسين عليه السلام لم يصلوا إلى كربلاء في يوم الأربعين، وأنّ جابر قد توجّه إلى الكوفة بعد زيارة قبر مولاه الحسين عليه السلام في يوم الأربعين من دون أن يحصل أيّ لقاء بينه وبين الإمام السجّاد عليه السلام وركب السبايا.
 
ومن القائلين أيضاً بخروج أهل بيت الإمام عليه السلام إلى كربلاء، السيّد ابن طاووس في كتاب اللهوف، حيث يقول:(قال الراوي: ولمّا رجع نساء الحسين عليه السلام وعياله من الشام وبلغوا العراق قالوا للدليل: مرّ بنا على طريق كربلاء)1.
 
إنّ كلام السيّد ابن طاووس غير مقبول على كلّ حال؛ لأنّ ذهاب ركب سيّد الشهداء إلى كربلاء، لا يخلو من إحدى حالتين:
إمّا أنّهم منذ البداية كانوا قاصدين كربلاء، وإمّا أنّ قصد الزيارة إلى المرقد 
 
 
 

1-السيّد ابن طاووس- اللهوف، ص 225.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

81

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 الشريف في كربلاء، قد بدا وظهر أثناء المسير. فهنا إن أخذنا بالحالة الأولى وأنّ العزم نحو كربلاء كان موجوداً منذ البداية، فلا داعي ولا حاجة لأن يطلب أسرى أهل البيت من دليل القافلة التوجّه بهم إلى كربلاء أثناء الطريق. وإن قلنا بالحالة الثانية وأنّ العزم قد حصل أثناء المسير نحو المدينة لا قبل ذلك، ففي هذه الصورة يكون طريق القافلة من الشام إلى المدينة مباشرة، ولا يمرّ هذا الطريق أصلا ًبمسير الشام إلى العراق.. فلكلّ منهما طريق مستقلّ فلا يمكن القول: (عندما بلغوا العراق قالوا للدليل...) بأن ينحرف بالتوجّه نحو كربلاء لزيارة المرقد الشريف لسيّد الشهداء عليه السلام !!!


بناءً على هذا، يلاحظ بأنّه لا يمكن الإعتماد والركون إلى أيّ دليل من أدلّة القائلين بوصول أهل بيت الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء في يوم الأربعين، وعليه فإنّ هذا الرأي سيبقى محاطاً بهالة من الغموض، بل إنّ القول بعدم ذهاب أهل البيت إلى كربلاء في طريق العودة من الشام، أو لا أقلّ، لو قبلنا بوصولهم إلى كربلاء، فسيكون ذلك بعد الأربعين، إنّ هذا القول أقوى من القول الأوّل.

النتيجة

من خلال البحث حول الأمور الخمسة السابقة، والتي لها علاقة مباشرة بموضوع وصول ركب الأسرى إلى كربلاء في يوم الأربعين نصل إلى النتائج الآتية:

أوّلاً: مدّة حبس قافلة الأسرى في الكوفة ليس معلوماً بشكل دقيق، ومع التوجّه إلى الوقت اللازم لإيصال رسالة ابن زياد إلى الشام وتلقّي الجواب من يزيد، لا يمكن القول بأنّ خروج الأسرى من الكوفة سيكون قبل الخامس والعشرين من المحرّم، إلّا إذا قلنا بعدم وجود مراسلة أصلا ًبين ابن زياد وبين يزيد، يطلب من خلالها ابن زياد تحديد الأوامر تجاه الأسرى! 
من الواضح، في هذه الصورة، أنّ سجن أهل بيت الإمام الحسين عليه السلام في الكوفة سيكون لمدّة قصيرة زمنيّاً. على كلّ حال، فلا يمكن إعطاء رأي دقيق ومؤكّد حول مدّة بقاء الأسرى في الكوفة، وإن كان القول ببقائهم بما يقرب الأسبوعين هو الأقوى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

82

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 ثانياً: إنتفاء الرأي القائل بأنّ انتقال ركب الأسرى كان من مسير بادية الشام، ولا يمكن إثبات ذلك لأنّه طريق صحراويّ وقاحل، وهو أيضاً غير متعارف بين الناس، ثمّ إنّ هذا الرأي لا دليل عليه أصلاً ولا شاهد له.


ثالثاً: إنّ الوقت اللازم لقطع المسافة بين الكوفة والشام، بالنسبة إلى قافلة الأسرى، هو ما يقارب الأسبوعين؛ لأنّ حركة مثل هذه القافلة لا يمكن أن تتجاوز سرعة رسول البريد.

رابعاً: عدم إمكان القطع بالمدّة التي قضاها أهل بيت الإمام عليه السلام في الشام، ولهذا السّبب فإنّ تعيين زمان خروجهم من الشام لن يكون ميسّراً أيضاً، ولكن القول الذي هو أشبه باليقين، أنّ مدّة بقائهم في الشام- أثناء السّجن وما بعده- هي أكثر من سبعة أيّام أو عشرة.

خامساً: إنّ ما قصده ركب الأسرى بعد خلاصهم من يزيد ليس واضحاً كثيراً، بمعنى أنّه ليس معلوماً: هل قصدوا كربلاء من أوّل خروجهم من الشام، أم أنّ هذا القصد قد حدث أثناء المسير؟ وهل أنّ هذا الطريق الذي سلكوه إلى المدينة هو الطريق السلطانيّ، أم هو الطريق الوسطيّ، أم من الطريق المستقيم الذي يمرّ بجانب البحر الأبيض المتوسّط؟.

سادساً: وبكلمة جامعة ونهائيّة، يمكن الوصول إلى هذه النتيجة: إنّ ما ذهب إليه المشهور من توجّه ركب الأسرى إلى كربلاء، في طريق رجوعهم، يبدو مقبولا ًولا يوجد أيّ عناد لردّه، ولكن مسألة وصولهم في يوم الأربعين إلى كربلاء، مع التوجّه إلى وجود الإشكالات الكثيرة في هذه القضيّة، والإصرار عليها، لن تكون مقبولة كثيراً، لا سيّما مع وجود الشواهد المتعدّدة والقرائن المختلفة التي ذكر بعضها في هذه المقالة.

سابعاً: إذا كان إثبات وصول ركب السبايا من آل محمّد صلى الله عليه واله وسلم إلى كربلاء في الأربعين الأوّل يحتاج إلى مؤونة كبيرة، بل هو شبيه بالمحال، فما هو السبب الذي جعل بعض المحقّقين يصرّون، إلى هذا الحدّ، على قبول ذلك الأمر، ويحاولون كلّ جهد لإثباته؟! ألا يكفي روايات المعصومين عليهم السلام لإثبات فضيلة زيارة الإمام الحسين عليه السلام في الأربعين؟ وهل يجب ضمّ وصول ركب السبايا الإتفاقيّ والذي 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

83

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

 صادف يوم الأربعين- مثلاً- لإثبات تلك الفضيلة؟! إنّ اعتقادنا هو أنّه حتّى لو لم يكن بين أيدينا أيّة رواية تثبت فضيلة واستحباب زيارة الأربعين (طبعاً هذا مجرّد فرض لأنّه في الواقع يوجد لدينا في بعض الروايات عن المعصومين عليهم السلام: علامات المؤمن خمس... واحدة منها: زيارة الأربعين)1 فإنّ وصول ركب الأسرى صدفة واتفاقاً في يوم الأربعين- لو فرضناه- لن يكون دليلا ً على استحباب الزيارة في الأربعين وفضيلتها، لعدم وجود حجّة شرعيّة.. والله أعلم وله الحمد. 

 
 
 

1-الشيخ الطوسيّ، تهذيب الأحكام، ج 6، ص 52، ح: 122 المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 101، ص 322 نقلا ً عن التهذيب ومصباح الزائر وإقبال السيّد ومزار الشهيد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

84

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

 الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم 1

 
تمهيد
 
 إنّ هذا التحقيق الذي بين يديك هو بحث حول مصير الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء ومكان دفنها، وهو يتألّف من قسمين: 
 
القسم الأوّل: يتحدّث عن مصير رأس الإمام عليه السلام وعرض الآراء المتعدّدة حول محلّ دفنه. وبعد البحث والنقاش حول تلك الآراء المختلفة في هذه القضيّة، سيترجّح لدينا القول بإلحاق الرأس بالبدن الطاهر، على الأقوال الأخرى.
 
القسم الثاني: يتناول بالنقد والتحليل الآراء الواردة حول مصير رؤوس بقيّة الشهداء، ومن خلال هذه البحوث سيقوى لدينا الإعتقاد بأنّ مصير ومحلّ دفن رؤوس الشهداء مجهول.
 
المقدّمة
 
إنّ إحدى المسائل المطروحة والجديرة بالمطالعة والبحث، والتي لها علاقة بأحداث ما بعد عاشوراء، هي مسألة مصير الرأس الشريف للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، بحسب المنقولات التاريخيّة، فإنّ إرسال رأس الإمام عليه السلام وبقيّة الرؤوس مع جنود ابن زياد إلى الشام يعتبر من المسلّمات، وعلى أساس
 
 
 

1-محسن رنجبر، أستاذ مساعد في مؤسّسة الإمام الخمينيّ للتعليم والبحوث- قم المقدّسة.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

85

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

 بعض الروايات، فإنّ رؤوس الشهداء حُملت مع رأس الإمام عليه السلام إلى يزيد.1 

 
هنا يطرح هذا السؤال: بعدما ندم يزيد- ظاهراً- على فعلته مع الإمام الحسين عليه السلام ومع أنصاره، وبدأ بتجهيز الأسرى للرجوع إلى المدينة، ماذا كانت نهاية رأس الإمام عليه السلام وبقيّة الرؤوس؟
 
هل أُلحق رأس الإمام عليه السلام بالبدن- كما هو المشهور بين الشيعة؟- أو أنّ الرأس قد دفن في النجف إلى جوار قبر أمير المؤمنين عليه السلام، كما هو وارد في بعض المصادر الشيعيّة؟، أو أنّه وبحسب بعض المصادر الأخرى لأهل السنّة، قد أرسل إلى المدينة المنوّرة ودفن في مقبرة البقيع؟ أو أنّه دفن في دمشق أو القاهرة أو عسقلان أو الرّقّة أو حتّى مرو؟
 
وما هو مصير رؤوس الشهداء؟ وهل ألحقت بالأبدان أيضاً؟ أو أنّ مصيرها أصبح مجهولاً؟
 
وعليه، فإنّ هذه المقالة تتضمّن موضوعين للبحث والتحقيق:
الأوّل: مصير رأس الإمام عليه السلام.
الثاني: مصير رؤوس الشهداء.
 
الأوّل: مصير رأس الإمام الحسين عليه السلام:
 
إنّ المصادر التاريخيّة والروائيّة، سواءٌ الشيعيّة منها أو السنيّة، قد اختلفت حول مصير الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام حتّى وصلت الأقوال إلى عشرة. وقد أحصى بعض المؤرّخين مثل: سبط بن الجوزيّ والنويريّ، عدداً من هذه الأقوال. وكذلك فعل بعض المحقّقين والباحثين المعاصرين مثل السيّد محسن 
 
 
 

1-الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 352 الشيخ المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، ص 119 الطبريّ، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 1، ص 473.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

86

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

 الأمين العامليّ1 ، وفضل عليّ القزوينيّ2 والشهيد القاضي الطباطبائيّ3، حيث بحثوا في هذه الأقوال ونقدوها.

ونحن في مقالتنا هذه نستفيد، من تلك البحوث والجهود التي بذلوها. أمّا الأقوال فهي كما يأتي:
 
1-كربلاء:
 
ذهب الكثير من المؤرّخين والعلماء من الشيعة والسنّة إلى أنّ رأس الإمام الحسين عليه السلام قد أُلحق بالبدن، ولذلك فقد أكتسب هذا القول شهرة مميّزة. ومن جملة علماء الشيعة الذين ذهبوا إلى هذا القول:الشيخ الصدوق (م381 ق) وتبعه في ذلك ابن فتّال النيشابوريّ (م 508 ق) حيث قال: (خرج عليّ بن الحسين عليه السلام مع النســاء (مـــن الشام) وردّ رأس الحسين عليه السلام إلى كربلاء)4.
 
وكتب السيّد المرتضى في ذلك: (رُوي أنّ رأس الإمام الحسين عليه السلام دُفن مع جسده في كربلاء)5. ونقل الطبرسي (م 548 ق) بعد أن أشار إلى قول السيّد المرتضى6، وكتب (يعني السيّد المرتضى) في مكان آخر: (قال بعض أصحابنا: إنّ الرأس رُدّ من الشام وأُلحق بالبدن)7.
 
ابن شهر آشوب (م 588 ق) بعد نقل كلام السيّد المرتضى يروي عن الشيخ الطوسيّ أنّه قال: ولهذا السبب (أي إلحاق رأس الإمام عليه السلام ببدنه) كانت 
 
 
 

1-السيّد محسن الأمين العامليّ، أعيان الشيعة، تحقيق وتخريج حسن الأمين، ج 1، ص 626 627. وله أيضاً: لواعج الأشجان، ص 247 250.
2-فضل عليّ القزوينيّ، الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه، تحقيق السيّد أحمد الحسينيّ، ص 427 435.
3-السيّدعليّ القاضي الطباطبائيّ، التحقيق في الأربعين الأوّل لسيّد الشهداء، ص 304 353.
4-الشيخ الصدوق، الأمالي، المجلسيّ، 31، ص 232 ابن فتّال النيشابوريّ، روضة الواعظين، ص 192 المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 45، ص 140.
5-رسائل المرتضى، ج 3، ص 130.
6-الفضل بن الحسن الطبرسيّ، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 1، ص 477.
7-تاج المواليد في مواليد الأئمّة ووفياتهم، ص 33.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

87

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

 زيارة الأربعين1

 
وكتب أيضاً ابن نما الحلّي (م 643 ق): (إنّ القول المعتمد هو أنّ الرأس بعدما طافوا به في البلاد، رُدّ إلى البدن ودُفن معه) 2.
 
وقال السيّد ابن طاووس (م 664 ق) وتبعه على ذلك السيّد محمّد بن أبي طالب (من مؤرّخي القرن العاشر): (أمّا رأس الحسين فقد رُوي أنّه رُدّ ودُفن في كربلاء مع جسده الشريف، وقد كان عمل الأصحاب على هذا) 3.
 
وذكر المجلسيّ (م 1110 ق) أنّ أحـــد وجـــــوه استحــباب زيــارة الإمـام الحســـين عليه السلام يوم الأربعين هو إلحاق الرؤوس الطاهرة للشهداء بأجسادهم على يد الإمام السجّاد عليه السلام4.
 
وكتب في مكان آخر بعد نقل الأقوال الأخرى: إنّ المشهور بين علماء الإماميّة أنّ رأس الإمام عليه السلام قد دفن مع البدن5. وأمّا بعض المؤرّخين والعلماء من أهل السنّة الذين ذهبوا إلى هذا القول فهم: أبو ريحان البيرونيّ (م 440 ق) حيث قال في هذا الصدد: (وفي العشرين ردّ رأس الحسين إلى جثّته حتّى دفن مع جثّته) 6.
 
وقال المستوفي الهرويّ (من مؤرّخي القرن السادس، وهو مترجم كتاب (الفتوح) لابن الأعثم): إنّ عليّ بن الحسين عليه السلام مع بقيّة أهل البيت قد ألحقوا الرأس المبارك للحسين عليه السلام ببدنه في يوم العشرين من صفر)7.
 
وصرّح سبط بن الجوزيّ (م 654 ق) قائلاً: (اختلفوا في الرأس على أقوالٍ: أشهرها أنّه ردّ إلى المدينة مع السبايا، ثمّ ردّ إلى الجسد بكربلاء فدفن معه، قاله 
 
 
 

1-مناقب آل أبي طالب، ج 4، ص 85 قال الطوسيّ: ومنه زيارة الأربعين المجلسيّ، المصدر السابق، ج 44، ص 199.
2-نجم الدّين محمّد بن جعفر بن نما الحلّي، مثير الأحزان، ص 85.
3-السيّد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، ص 114 السيّد محمّد بن أبي طالب، تسلية المجالس وزينة المجالس، ج 2، ص 459.
4-المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 98، ص 334.
5-المصدر السابق، ج 45، ص 145.
6-البيرونيّ، الآثار الباقية عن القرون الخالية، ص 331.
7-محمّد بن أحمد المستوفي الهرويّ، ترجمة الفتوح، ص 916.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

 


88

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

 هشام وغيره) 1. 2

 
وكتب القرطبيّ (م 671 ق): (يقول الإماميّة: إنّ رأس الحسين عليه السلام ردّ إلى كربلاء بعد أربعين يوماً وألحق بالجسد، وهو يوم مشهور عندهم ويدعون زيارة ذلك اليوم زيارة الأربعين) 3. وقال القزوينيّ (م 682 ق): (اليوم الأوّل من شهر صفر هو عيد بني أميّة، لأنّ رأس الحسين عليه السلام قد ورد دمشق في مثل ذلك اليوم، وفي العشرين من ذاك الشهر ردّ رأسه إلى البدن) 4.
 
وعدّ النويريّ (م 733 ق) أحد الأقوال في هذه المسألة إلحاق الرأس بالبدن وأضاف: إنّ القائلين بالإلحاق فريقان: ذهب أحدهما إلى أنّ يزيد هو الذي ردّ الرأس إلى الجسد. وقال الثاني: إنّ الإلحاق بالجسد قد حصل في زمان خلافة عمر بن عبد العزيز) 5.
 
ويقول حمد الله المستوفي (المتوفَّى ما بعد: 774 ق) (أرسلوا أهل البيت عليهم السلام مع رأس الحسين عليه السلام إلى يزيد، ثمّ حملهم يزيد- باقتراح ٍ من أبي بردة (وهو أخو أبي موسى الأشعريّ)- إلى المدينة، وأمّا الرأس فأرسله إلى كربلاء) 6.
 
وقد أضاف في مكانٍ آخر: (وكان ابن أبي أيّوب الأنصاريّ حاضراً في الشام فلام يزيدَ على فعلته، وأخذ رأس الحسين عليه السلام منه ثمّ ردّه إلى جسده في يوم الأربعين) 7.
 
وكتب خواند مير (م 942 ق): (توجّه الإمام الرابع عليه السلام مع أخواته وعمّاته وسائر أقاربه نحو المدينة المنوّرة، وفي العشرين من صفر ألحق رأس الإمام 
 
 
 
 

1-السيّد ابن الجوزيّ (تذكرة الخواصّ من الأمّة بذكر خصائص الأئمّة)، تحقيق حسين تقي زادة، ج 2، ص 206: (اختلفوا في الرأس على أقوال: أشهرها أنّه ردّ إلى المدينة مع السبايا ثمّ ردّ إلى الجسد بكربلاء فدفن معه، قال هشام وغيره).
2-احتمل بعض المحقّقين المعاصرين لهذه العبارة (ردّ إلى المدينة مع السبايا) عدّة وجوه: الأوّل: إمكان التصحيف فيها وتكون العبارة الصحيحة هي: (ردّه ابن زياد مع السبايا إلى الشام ثمّ ردّ إلى كربلاء). الثاني: أن يكون المقصود من المدينة هو (مدينة الشام) لأنّه من المستبعد جدّاً إرسال الرأس والأسرى إلى المدينة المنوّرة ومنها إلى كربلاء. الثالث: أن يكون يزيد قد حمل الرأس مع أهل البيت إلى المدينة ولكن أثناء الطريق مرّوا على كربلاء وألحقوا الرأس بالجسد.
3-محمّد بن أحمد القرطبيّ، التذكرة في أمور الموتى وأمور الآخرة، ج 2، ص 668.
4-زكريا بن محمّد بن محمود القزوينيّ، عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب الموجودات، طبع في هامش (حياة الحيوان الكبرى) كمال الدّين الرميري، ج 1، ص 109.
5-أحمد بن عبد الوهاب النويريّ، نهاية الإرب في فنون الأدب، ج 20، ص 300.
6-حمد الله بن أبي بكر بن أحمد المستوفي القزوينيّ، التاريخ المختار، ص 202.
7-المصدر السابق، ص 265.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

89

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

 الحسين عليه السلام ورؤوس شهداء كربلاء- رضي الله عنهم- إلى أبدانهم). وقد اعتبر هذا القول هو أصحّ الأقوال بالنسبة إلى محلّ دفن رأس الإمام عليه السلام 1

 
وقال المناوي2 (م 1031 ق) والشبراويّ 3 (م 1172 ق) وابن صبّان4 (م 1206 ق) والشبلنجيّ5 (المتوفَّى ما بعد عام 1308 ق) (يقول الإماميّة: ردّ الرأس إلى الجسد ودفن في كربلاء بعد أربعين يوماً من الشهادة).
 
هذه كانت آراء وأقوال المؤرّخين والباحثين من الشيعة والسنّة حول هذا الموضوع. وكما يلاحظ- حسب هذه البيانات- فإنّ القول بدفن الرأس في كربلاء هو أشهر الأقوال بين الشيعة، وأيضاً عند السنّة، كما صرّح بذلك سبط بن الجوزيّ6.
 
1-  النجف:
 
هناك، في مصادر الأحاديث الشيعيّة، روايات تحكي عن دفن رأس الإمام الحسين عليه السلام في جوار قبر أمير المؤمنين عليه السلام وهي كالآتي:
 
أـ ورد في بعــض الأحاديث أنّ رأس الإمــــام عليه السلام حمـــل مـــن الشـــام إلــــى النجـــف على يد أحد موالي الإمام الصادق عليه السلام ثمّ دفنــه إلى جانب ضريح أمير المؤمنين عليه السلام.. كمــا في روايـــة يزيـــد بن عمر ابن طلحة حيث قال: قال أبو عبد الله عليه السلام وهو بالحيرة: أما تريد ما وعدتك؟ قال: قلت بلى- يعني الذهاب إلى قبر أمير المؤمنين عليه السلام - قال: فركب وركب إسماعيل معه، وركبت معهم، حتّى إذا جاز الثويّة وكان بين الحيرة والنجف عند ذكوات بيض، نزل ونزل إسماعيل ونزلت معهم، فصلّى وصلّى إسماعيل وصلّيت، فقال لإسماعيل: قم فسلّم على جدّك الحسين بن عليّ، فقلت: جعلت فداك أليس الحسين عليه السلام بكربلاء؟ فقال: نعم، 
 
 


1-غياث الدّين بن همام الدين الحسينيّ المعروف بـ (خواند مير)، تاريخ حبيب السير في أخبار أفراد البشر، ص 60.
2-محمّد عبد الرؤوف المناوي، فيض القدير، ج 1، ص 205.
3-عبد الله بن محمّد بن عامر الشبراويّ، الإلتحاق بحبّ الأشراف، تحقيق سامي الغريديّ، ص 127، وقد كتب في هذا الصدد: وقيل بعد أربعين يوماً من شهادته، ردّ الرأس إلى البدن في كربلاء.
4-محمّد بن عليّ الصبّان، إسعاف الراغبين في سيرة المصطفى وفضائل أهل بيته الطاهرين، ص 215.
5-مؤمن بن حسن مؤمن الشبلنجيّ، نور الأبصار في مناقب آل بيت النبيّ المختار، ص 269.
6-سبط ابن الجوزيّ، المصدر السابق، ج 2، ص 206.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

90

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

 ولكن لمّا حمل رأسه إلى الشام سرقه مولى لنا فدفنه بجنب أمير المؤمنين صلوات الله عليهما.1

 
ب- ورد في بعض الروايات أنّ في النجف قبرين.. كما رواه عليّ بن أسباط عن الإمام الصادق عليه السلام ، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: إنّك إذا أتيت الغرّي رأيت قبرين، قبراً كبيراً وقبراً صغيراً، فأمّا الكبير فقبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وأمّا الصغير فرأس الحسين بن عليّ عليه السلام2.
 
ج- وفي رواية عن أبان بن تغلب قال: كنت مع أبي عبد الله عليه السلام فمرّ بظهر قبر ٍفنزل فصلّى ركعتين ثمّ تقدّم قليلاً فصلّى ركعتين، ثمّ سار قليلاً فنزل فصلّى ركعتين، ثمّ قال: هذا موضع قبر أمير المؤمنين عليه السلام ، قلت: جعلت فداك فما الموضعان اللذان صلّيت فيهما؟ قال: موضع رأس الحسين وموضع منبر القائم3.
 
د- وروى يونس بن ظبيان فقال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام بالحيرة... فلمّا خرجنا منها... وانتهينا إلى الذكوات الحمر، قصد الإمام عليه السلام إلى موضع فيه ماء وعين فتوضّأ ثمّ دنا من أكمة فصلّى عندها، ثمّ مال عليها فبكى ثمّ مال إلى أكمة دونها ففعل مثل ذلك ثمّ قال: يا يونس إفعل مثلما فعلت، ففعلت ذلك فلمّا تفرّغت قال لي: يا يونس أتعرف هذا المكان؟ فقلت: لا، فقال: الموضع الذي صلّيت عنده أوّلاً هو قبر أمير المؤمنين، والأكمة الأخرى رأس الحسين بن عليّ عليه السلام ، إنّ الملعون عبيد الله بن زياد، لعنه الله، لمّا بعث برأس الحسين بن عليّ عليه السلام إلى الشام رُدّ إلى الكوفة فقال: أخرجوه عنها لا يفتتن به أهلها فصيّره الله عند أمير المؤمنين عليه السلام ، فالرأس مع الجسد والجسد مع الرأس4.
 
 
 

1-الشيخ الكلينيّ، الفروع من الكافي، ج 4، ص 571 ابن قولويه القمّي، كامل الزيارات، باب: 9، ص 83 السيّد عبد الكريم بن طاووس، فرحة الغرّي، ص 92 93 المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 45، ص 178، الحديث 28 ومثله أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ، تهذيب الأحكام، ج 6، ص 35 36 الطبرسيّ، تاج المواليد، ص 34 ابن شهر آشوب، المصدر السابق، ج 4، ص 85.
2-ابن قولويه، المصدر السابق، باب: 9، ص 84 السيّد عبد الكريم بن طاووس، المصدر السابق، ص 88.
3-الشيخ الكلينيّ، المصدر السابق، ج 4، ص 572 ابن قولويه القمّي، المصدر السابق 9، ص 83 84 السيّد عبد الكريم بن طاووس، المصدر السابق، ص 87. ونقل الشيخ الطوسيّ أيضاً حديثاً مشابهاً لهذا الخبر عن مبارك الخبّاز (المصدر السابق، ج 6، ص 34 35). ونقل أيضاً ابن طاووس عدّة روايات أخرى بهذا المضمون عن الإمام الصادق (فرحة الغرّي، ص 86 وما بعدها).
4-ابن قولويه القمّي، المصدر السابق، باب: 9، ص 86 87 المجلسيّ، المصدر السابق، ج 45، ص 178 وج 97، ص 243 244 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

91

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

  3- المدينة:

نقل بعض المؤرّخين من أهل السنّة أنّ يزيد عندما جهّز الأسرى للرجوع إلى المدينة، أرسل رأس الإمام الحسين عليه السلام إلى عامله على المدينة عمرو بن سعيد بن العاص، فأخذه عمرو وكفّنه ثمّ دفنه في البقيع عند قبر أمّه فاطمة عليها السلام. 1
 
وقال النويريّ في بيانه لعلّة إرسال يزيد الرأس إلى المدينة: (قال بعضهم: إنّ يزيد أمر النّعمان بن بشير الأنصاريّ بحمل رأس الحسين عليه السلام إلى المدينة حتّى يراه الناس، وبذلك يرعب عبد الله بن الزبير (أحد مدّعي الخلافة). عندما وصل الرأس إلى المدينة تسلّمه عمرو بن سعيد الأشدق ولم يكن راغباً في ذلك، ثمّ كفّنه ودفنه إلى جوار قبر أمّه فاطمة عليها السلام2.
 
ثمّ أضاف النويريّ: وقال بعضهم: أُرسل الرأس إلى بني هاشم، ثمّ دفنوه بعد تغسيله وتكفينه والصلاة عليه إلى جوار قبر فاطمة عليه السلام 3.
 
بحث ونقد:
إنّ احتمال إرسال رأس الإمام عليه السلام من الشام إلى المدينة يتوافق مع بعض المنقولات، كما ورد ذلك عندما طلب الإمام السجّاد عليه السلام من يزيد أن يعطيه رأس أبيه، فقال له يزيد: إنّك لن تراه أبداً4.
 
ولكن لا يمكن القول بأنّ الرأس قد دفن في المدينة، لأنّه يخالف رأي المشهور
المصادر الرجاليّة، (السيّد أبو القاسم الخوئيّ، معجم رجال الحديث، ج 21، ص 207) هذا بالإضافة إلى أنّ المقصود من العبارة الأخيرة في الخبر وهي (الرأس مع البدن والبدن مع الرأس) غير واضحة، ولذا فإنّ البعض من علماء الشيعة بحثوا حولها وحاولوا توجيهها.
 
 
 
 

1-محمّد بن سعد، ترجمة الحسين ومقتله، ص 85 وله أيضاً الطبقات الكبرى، ج 5، ص 238 الخوارزميّ، مقتل الحسين ج 2، ص 83 ، أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزيّ، المنتظم في الأمم والملوك، ج 5، ص 334 وله أيضاً الردّ على المتعصّب العنيد، ص 50 سبط بن الجوزيّ، المصدر السابق، ج 2، ص 206 ابن نما، مثير الأحزان، ص 85 ابن تيميّة، رأس الحسين ، ص 197 208 عبد الله بن أسعد اليافعيّ الشافعيّ، مرآة الجنان وعبرة اليقظان - حيدر آباد، دائرة المعارف النظاميّة، ج 1، ص 135 136 الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج 3، ص 315 316 ابن كثير، البداية والنهاية، ج 8، ص 222.
2-النويريّ، المصدر السابق، ج 20، ص 301 302.
3-المصدر نفسه، ج 20، ص 302.
4-ابن نما، المصدر السابق، ص 85 السيّد ابن طاووس، اللهوف على قتلى الطفوف، ص 224 المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 45، ص 144.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

92

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

 وهو ألحاق الرأس بالجسد، بالإضافة إلى منافاته لبعض المنقولات التي تقول بأنّ الرأس قد رُدّ مجدّداً إلى الشام، كما نقل ذلك البلاذري عن الكلبيّ فقال: أرسل يزيد رأس الحسين إلى المدينة، ثمّ رُدّ إلى دمشق.1

 
4- دمشق:
ورد في بعض الأخبار أنّ رأس الإمام الحسين عليه السلام دفن في دمشق، ولكنّها اختلفت في المكان الذي دفن فيه هناك.
 
أحصى البلاذريّ الأقوال الآتية:
أ- قصر (دار الإمارة) 2،ب- حديقة القصر 3(الواقعة بين الجدران الأربعة للقصر)، ج- حديقة من حدائق دمشق4، د- المقبرة5.
وذكر النويريّ خمسة أقوال أخرى في هذه المسألة:
 
أ- باب قلعة فراديس:
نقل ابن أبي الدنيا عن المنصور بن جمهور، في مقتله، أنّ رأس الحسين عليه السلام وجد في خزانة يزيد بن معاوية، ولفّ بقماش ودفن في البرج الثالث من باب قلعة فراديس من جهة الشرق6.
 
ب- مسجد دمشق:
روى الأسترآباديّ نقلا ًعن أبي سعيد الزاهد في كتابه بعنوان (الداعي إلى وداع 
 
 


1-البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج 3، ص 418. إنّ ما ذكره القاضي النّعمان المغربيّ بقوله (عندما أمر يزيد أن يطاف برأس الحسين في البلاد حملوه إلى المدينة). يمكن أن نستنتج منه: أنّه بعدما طافوا بالرأس في البلاد ردّوه إلى دمشق ثانية. 
2-البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج 3، ص 416 و418 سبط بن الجوزيّ، المصدر السابق، ج 2، ص 208.
3-البلاذريّ، المصدر نفسه، ج 3، ص 416.
4-المصدر السابق، ج 3، ص 416 و418.
5-المصدر نفسه، ج 3، ص 418.
6-النويريّ، المصدر السابق، ج 20، ص 299 300 وقد نقل أيضاً هذا القول بعض آخر من المؤرّخين: ابن حبّان، الثقات، ج 3، ص 69 ابن الجوزيّ، الردّ على المتعصّب العنيد، ص 50 وله أيضاً المنتظم في الأمم والملوك، ج 5، ص 344 سبط بن الجوزيّ، المصدر السابق، ج 20، ص 208 ابن نما، مثير الأحزان، ص 85 ابن كثير، البداية والنهاية، ج 8، ص 222.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

93

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

 الدنيا) أنّ رأس الحسين عليه السلام دفن في مسجد دمشق فوق إحدى الإسطوانات.1

 
ج- فوق عمودين إلى يمين القبلة.2
 
د- دفنه يزيد في قبر معاوية.3
 
ه- دفنه سليمان بن عبد الملك في مقابر المسلمين.4
 
أمّا ابن عساكر، ومن بعده الذهبيّ، فقد نقل قولاً آخر، وهو أنّ الرأس دُفن في دمشق قريباً من باب توما.5
 
نقد وتحقيق:
 
إنّ الأقوال المؤيّدة لهذا الرأي، وإن كان بعضها قديماً نسبيّاً- وهذه نقطة إيجابيّة- ولكن بالإضافة إلى الإختلاف الموجود بين هذه الأقوال حول محلّ الدفن في دمشق وتعدّدها حتّى وصلت إلى العشرة، فإنّ هذا الرأي يخالف وينافي الآراء الأخرى التي سبقت معنا، ولا سيّما القولين الأوّلين (كربلاء والنجف) اللذين يمتازان بسمة القدم الزمانيّ أيضاً، بل إنّ القول الثاني (النجف) يستند إلى بعض الروايات.
 
5-  الرقّة:
 
نقل هذا القول سبط بن الجوزيّ عن مقتل عبد الله بن عمر والورّاق وأضاف: عندما أحضروا رأس الحسين بن عليّ عند يزيد قال: أبعث هذا الرأس برأس 
 
 
 

1-النويريّ، المصدر السابق، ج 20، ص 300 محمود بن عمر الزمخشريّ، ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، ج 3، ص 349. كتب ابن حبّان في هذا الصدد: إنّ الرأس فوق عامودٍ من المسجد الجامع في دمشق إلى جهة يمين القبلة.
2-النويريّ، المصدر السابق، ج 20، ص 300.
3-النويريّ، المصدر نفسه، ج 20، ص 300، وقد ذكر ابن حبّان هذا القول في كتابه (الثقات)، ج 3، ص 69.
4-النويريّ، نفس المصدر، ج 20، ص 299 300 ونقل هذا القول أيضاً غيره من المؤرّخين مثل: الشجري (الأمالي الخميسيّة)، ج 1، ص 176 الخوارزميّ، مقتل الحسين،ج 2، ص 83 ابن عساكر الدمشقيّ، تاريخ مدينة دمشق، ج 69، ص 161 الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج 3، ص 319 الصفديّ، الوافي بالوفيات، ج 12، ص 264 ابن كثير، المصدر السابق، ج 8، ص 222.
5-ابن عساكر الدمشقيّ، المصدر السابق، ج 67، ص 159، العدد: 8784 الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج 3، ص 316 وله أيضاً تاريخ الإسلام، ج 5، ص 20.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

94

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

 عثمان إلى عيال بني معيط، وحيث كان هؤلاء من سكان الرقّة فقد أرسل يزيد الرأس إلى هناك، فدفنوه في بيتٍ أصبح بعد ذلك جزءاً من المسجد الجامع.1

 
6- الكوفة:
 
ونقل أيضاً سبط بن الجوزيّ قولاً آخر، وهو أنّ عمرو بن حريث المخزوميّ أخذ رأس الإمام عليه السلام من يزيد، وبعد تغسيله وتنظيفه وتكفينه، دفنه في داره في الكوفة حيث عرف في ما بعد بإسم (دار الخزّ).2
 
إنّ هذا القول والذي سبق هما من الأقوال الساقطة عن الإعتبار ومردودة؛ لأنّها شاذّة ونادرة، بالإضافة إلى أنّها أقوال متأخّرة زماناً، ولا تتمتّع بسمة القدم الزمانيّ، كما يلزم.
 
6-    عسقلان:3
 
اختلفت الروايات في هذا الرأي، فبعضها يقول: إنّ قوماً من أهل عسقلان كانوا في محضر يزيد، فطلبوا منه أن يدفن الرأس عندهم، فوافق يزيد على ذلك، وأخذوا الرأس ودفنوه في مدينتهم، وبنوا عليه مقاماً.4
 
وحسب البعض الآخر من الروايات فإنّ شخصاً في خلافة المستنصر بالله (420 - 487 ق)- أحد الخلفاء الفاطميّين- ووزارة بدر جمالي كان قد شاهد في عالم الرؤيا رأس الإمام عليه السلام في عسقلان وأخبروه عن مكان دفنه فيها، فذهب إلى هناك وحفر في ذلك المكان وبنى بدر جمالي له مقاماً.5
 
إنّ هذا القول غير معتبر وهو مردود لعدّة أسباب، أوّلاً: هناك اختلاف بين 
 
 
 

1-سبط بن الجوزيّ، المصدر السابق، ج 2، ص 208.
2-سبط بن الجوزيّ، المصدر السابق، ج 2، ص 191 192.
3-عسقلان: مدينة في الشام كانت من بلاد فلسطين على طرف بحر غزّة وبيت حيرين. وكانت معروفة في ذلك الزمان باسم (عروس الشام) كما هو الحال بالنسبة إلى مدينة دمشق. (ياقوت الحمويّ - معجم البلدان، ج 4، ص 122). حاليّاً هذه المدينة تعتبر من المدن الساحليّة لبحر (مدتيرانه) واقعة ما بين مدينة غزّة وأسدود في فلسطين المحتلّة.
4-محمّد بن عليّ بن محمّد العمرانيّ (م. 580 ق) الأنباء في أخبار الخلفاء، ص 54.
5-النويريّ، المصدر السابق، ج 20، ص 300.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

95

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

 الروايات من الناحية الزمانيّة، وكذلك من ناحية علّة دفنه في عسقلان. ثمّ بشكل عامّ هو ينافي الأقوال الأخرى، وأيضاً لا يوجد أيّ شواهد عليه ولا قرائن تؤيّده. وهذا ما كتبه أيضاً بعض المحقّقين المعاصرين في معرض ردّه على هذا القول بالأدلّة.1

 
6-    القاهرة (مصر):
 
كتب ياقوت الحمويّ حول هذا الرأي: يوجد في القاهرة مزار فيه رأس الحسين بن عليّ عليه السلام يقع خلف قصر السلطنة.2
 
اعتبر سبط بن الجوزيّ أنّ القول الخامس في مكان دفن رأس الحسين عليه السلام هو القاهرة في مصر، وكتب:(إنّ الخلفاء الفاطميّين نقلوه من باب قلعة فراديس (في دمشق) إلى عسقلان، ومن هناك حملوه إلى القاهرة ودفنوه فيها، وبنوا عليه مقاماً عظيماً، وهو الآن مزار للناس.3
 
وكتب أيضاً في ذلك ابن نما:(نقل لي جماعة من أهل مصر أنّ عندهم مشهد الرأس الذي يدعونه (مشهد الكريم) وعليه من الذهب شيء كثير، وهم يزورونه في بعض المناسبات الخاصّة، وفي عقيدتهم أنّ رأس الحسين عليه السلام قد دفن هناك4. وقال النويريّ في علة انتقال الرأس من عسقلان إلى القاهرة: حكم الأوروبيّون منطقة عسقلان سنة (548 ق) فنقل الرأس إلى القاهرة عن طريق البحر5. وكتب الصفدي (م 764 ق): اعتقد بعضهم أنّ الخلفاء الفاطميّين نقلوا رأس الحسين عليه السلام من عسقلان إلى مصر، ودفنوه في القاهرة حيث يعرف اليوم بـــ (مقام الحسين عليه السلام ) 6.
 
 
 

1-القاضي الطباطبائيّ، المصدر السابق، ص 316 وما بعدها.
2-الحمويّ، معجم البلدان، ج 5، ص 142.
3-سبط بن الجوزيّ، المصدر السابق، ج 2، ص 209.
4-ابن نما، مثير الأحزان، ص 85.
5-المصدر نفسه، ج 20، ص 300.
6-الصفديّ، الوافي بالوفيات، ج 12، ص 264.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

96

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

 وروى المقريزيّ (م 845 ق) أنّ الرأس نقل إلى القاهرة يوم الاثنين في الثامن من جمادى الآخرة (سنة: 548) ووصل إلى القاهرة في العاشر من السنة نفسها، وحمل إلى حديقة الكافوريّ1 ثمّ أخذ عبر السرداب إلى قصر الزمرد، ودفن تحت قبّة الديلم عند باب طريق الخدمة (وهو الطريق الذي كانوا يسلكونه لخدمة الخليفة).2

 
في ردّ هذا القول ونقده نقول:
يظهر أنّ الخلفاء الفاطميّين نشروا مثل هذه الأخبار بين الناس ليثبتوا أنّهم صادقون واقعاً في انتسابهم إلى أولاد فاطمة عليها السلام وأنّهم من ذرّيتها. وقد أشار بعض المؤرّخين من أهل السنّة إلى هذه النقطة.3
 
9- مرو:
 
كتب السمعانيّ (م 562 ق) نقلا ً عن كتاب (المراوزة) للمعدانيّ: أنّ رأس الحسين بن عليّ عليه السلام دفن في مرو في قصر (سكان زرتشتيّ) الجهة اليمنى لباب الدخول أسفل الجدار.4
 
في البداية شرح النويريّ هذا النقل ثمّ نقده ـ وقال في توضيحه: إنّ القول بدفن الرأس في مرو باعتبار أنّ أبا مسلم الخراسانيّ قد أخذ الرأس بعدما فتح مدينة دمشق ثمّ حمله إلى مرو ودفنه في دار الإمارة.5
 
وأمّا النقد لهذا القول، فقد ذكر النويريّ نقلا ًعن عمر بن أبي المعاليّ: 
 
 
 

1-اسم حديقة كان قد أنشأها أحد أمراء مصر ويدعى أبا بكر محمّد بن طعبج بن جف أخشيد المعروف باسم كافور الأخشيديّ)، تقي الدّين أحمد بن عليّ المقريزيّ، المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة، ج 2، ص 377.
2-اسم حديقة كان قد أنشأها أحد أمراء مصر ويدعى أبا بكر محمّد بن طعبج بن جف أخشيد المعروف باسم (كافور الأخشيديّ)، تقي الدّين أحمد بن عليّ المقريزيّ، المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة، ج 2، ص 323.
3-ابن كثير، البداية والنهاية، ج 8، ص 222 وكذلك الشهيد القاضي الطباطبائيّ فقد سجّل عدّة مطالب ردّاً على هذا القول.
4-عبد الكريم بن محمّد السمعانيّ (الأنساب) تعليق عبد الله عمر الباروديّ، ج 3، ص 370 وراجع أيضاً: محمّد بن أحمد المقدسيّ: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ص 46 و333.
5-النويريّ، المصدر السابق، ج 20، ص 300.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

97

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

 الظاهر أنّه من المستبعد جدّاً أن يكون أبو مسلم قد نقل الرأس إلى خراسان؛ لأنّ فاتح الشام هو عبد الله بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس وليس أبا مسلم، وعليه فكيف يمكن الإعتقاد بأنّ أبا مسلم هو الذي نقل الرأس إلى خراسان أو احتمال نقل الرأس إليه؟!

 
ثمّ نقول: لو أنّ أبا مسلم وجد الرأس في خزائن بني أميّة لأظهر ذلك بين الناس ليزدادوا نقمة على بني أميّة.
 
إضافة إلى ذلك، فإنّه من المستبعد أن يترك عمر بن عبد العزيز- بعدما تسلّم الخلافة- الرأس في خزانة سلاح بني أميّة على حاله ولا يدفنه1.
 
10- حرّان:
نقل حمد الله المستوفي هذا القول وأنّ محلّ الدفن هو (حرّان) من دون أن يعطي أيّ سندٍ لذلك. ولذا فلا يمكن القبول بهذا القول بأيّ وجه من الوجوه. 
 
النتيجة والقول المختار:
من خلال البحث في الأقوال السابقة يمكن الوصول إلى هذه النتيجة وهي: أنّ تلك الأقوال لا يمكن القبول بشيءٍ منها إلّا القول الأوّل (وهو القول المشهور لدى علماء الشيعة) والقول الثاني الوارد فيه روايات متعدّدة في مصادر الأحاديث الشيعيّة عن لسان الأئمّة عليهم السلام.
 
وأمّا الأقوال الأخرى التي نصّ عليها المؤرّخون والعلماء من أهل السنّة فلا يمكن الإلتفات إليها والإعتناء بها، لأنّه بالإضافة إلى الإشكالات الواردة على تلك الأقوال والتي ذكرت سابقاً، فإنّه لم ينقل أيّة رواية عليها من المعصومين عليهم السلام ولم يقل بها أحد من علماء الشيعة، وإن كان بعض هذه الأقوال كالثالث والرابع، يمتاز بالقدم الزمانيّ.
 
 
 

1-النويريّ، المصدر السابق، ج 20، ص 302.
2-حمد الله المستوفي، التاريخ المختار، ص 202.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

98

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

 وأمّا بالنسبة إلى القول الثاني (دفن الرأس في النجف) فيجب القول إنّه وإن كان هناك روايات تؤيّد القول بأنّ رأس الإمام عليه السلام إلى جانب (أو أسفل) قبر أمير المؤمنين، وأيضاً ورد زيارة الإمام الحسين عليه السلام عند رأس أمير المؤمنين عليه السلام 1ولكن هذه الروايات المذكورة التي كانت تحت نظر علماء وفقهاء الشيعة لم يأخذ بها أحد منهم، ولا اعتمد على أيّ منها؛ وذلك لأنّه، إضافةً إلى أنّ سندها ليس تامّاً ورجالها مجهولون2 فإنّ مضمونها أيضاً بالنسبة إلى محلّ دفن الرأس ليست متلائمة ولا متوافقة. فبعض الروايات قالت محلّ الدفن هو ذكوات (أكمة بيضاء أو حمراء) والبعض الآخر منها قال (الجوف) 4أو (جرف) 5، والبعض منها مثل رواية يونس بن ظبيان عن الإمام الصادق عليه السلام إضافة إلى أنّها تحكـــي أمــراً غريبــاً وعجيباً، فإنّها لا تدلّ على بقاء الرأس جنب قبر أمير المؤمنين عليه السلام ، بل يمكن القول إنّه يُستفاد من ظاهرها أنّ الرأس قد أُلحق بالبدن في كربلاء بعد الدفن. 

 
ومن هنا نجد أنّ علماء الشيعة ذهبوا إلى القول الأوّل فقط (يعني إلحاق الرأس بالبدن) واعتمدوا عليه.
 
بناءً على هذا، فإنّ القول الأوّل وإن لم يرد فيه أيّ خبر على لسان الأئمّة المعصومين عليهم السلام - هو الرأي الذي يمتاز بشهرةٍ خاصّة على مدى القرون المتمادية، وهو الذي كان مورد اعتماد وعمل علماء الشيعة، وهذا يعني أنّه كان من المسلّمات التاريخيّة والعقائديّة عند الشيعة في القرون الأولى حتّى وصل إلى مرحلةٍ- من دون الإنتباه إلى أنّ هذا القول قد يصبح مورداً للشكّ والتردّد في المستقبل- لا يحتاج فيها بعد إلى مستندٍ من قول المعصوم عليه السلام أو من الروايات التاريخيّة 
 
 
 

1-ابن المشهديّ، المزار، ص 214 السيّد عبد الكريم بن طاووس، فرحة الغرّي، ص 123 124.
2-السيّد عبد الرزاق المقرّم، مقتل الحسين ، ص 363 فضل عليّ القزوينيّ، الإمام الحسين وأصحابه، ج 1، ص 431 السيّد عليّ القاضي الطباطبائيّ، التحقيق حول الأربعين الأوّل لسيّد الشهداء ، ص 340.
3-كما في خبر (فروع الكافي)، ج 4، ص 571 وكامل الزيارات، باب: 9، ص 83.
4-مثل خبر مبارك الخباز، تهذيب الأحكام، ج 6، ص 35 36 وفرحة الغرّي، ص 87.
5-القزوينيّ، مصدر سابق، ج 1، ص 432.
6-القزوينيّ، المصدر نفسه، ج 1، ص 433.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

99

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

 المعتبرة.

 
فإذاً، وعلى هذا الأساس، فإنّ هذا القول المشهور هو الرأي المقبول والمعتبر.
 
الثاني: مصير ومحلّ دفن رؤوس بقيّة الشهداء:
 
حسب المنقولات التاريخيّة فإنّ رؤوس بقيّة الشهداء قد حُملت إلى الشام أيضاً، ولكن بالنسبة إلى مكان دفنها فلا يوجد بين أيدينا روايات عالية الإعتبار.
 
إجمالا ًهناك ثلاثة أصناف من الروايات حول هذا الموضوع، وهي كالآتي:
 
1ـ دفن الرؤوس في جبّانة1 الكوفة:
 
كتب ابن سعد عن الأسرى، عندما كانوا محبوسين في قصر ابن زياد، قال أبو خالد ذكوان لابن زياد: أعطني الرؤوس حتّى أدفنها.. فأخذها وكفّنها ودفنها في جبّانة الكوفة، ثمّ ركب دابته وذهب نحو أجساد الشهداء ودفنها بعد أن كفّنها2.
 
هذا القول لا يمكن القبول به أبداً، لأنّه- وكما كتب بعضهم- أوّلاً: ينافي النصوص التاريخيّة التي تدلّ على حمل رؤوس الشهداء إلى الشام عند يزيد.
 
وثانياً: إنّ هذا القول لا يتلاءم مع مسلّمات تاريخ عاشوراء، لأنّه- وبحسب الروايات المعتبرة- فإنّ دفن الشهداء كان على يد أهل الغاضريّة، وليس كما يقول هذا النقل بأنّ أبا خالد هو الذي دفن أجساد الشهداء3.
 
2-إلحاق الرؤوس بالأبدان:
 
روى المستوفي الهرويّ، ومن بعده خواند مير، أنّ أسرى أهل البيت عليهم السلام ردّوا 
 
 
 

1-البلاذريّ، جمل من أنساب الأشراف، ج 3، ص 415 الطبريّ، المصدر السابق، ج 4، ص 351 ابن الأعثم الكوفيّ، الفتوح، ج 5، ص 127 الشيخ المفيد، المصدر السابق، ج 2، ص 118 سبط بن الجوزيّ، المصدر السابق، ج 2، ص 193. يسمي الكوفيّون المقابر جبّانة (بفتح الجيم وتشديد الباء) وأهل البصرة يطلقون عليها (إسم المقبرة)، معجم البلدان، ج 2، ص 99.
2-محمّد بن سعد، ترجمة الحسين ومقتله، ص 81.
3-البلاذريّ، المصدر السابق، ج 3، ص 411 الطبريّ، المصدر السابق، ج 4، ص 348 الخوارزميّ، مقتل الحسين ، ج 2، ص 44 ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 4، ص 121.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

100

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

 رؤوس الشهداء مع رأس الإمام عليه السلام إلى كربلاء ودفنوها مع أبدانهم.1

 
هذا القول، حيث إنّه من المنقولات المتأخّرة زماناً، ولم يذكر في المصادر القديمة، لذا لا يمكن الإعتماد عليه.
 
3-دفن بعض الرؤوس في مقبرة (باب الصغير) في الشام:
 
وهناك نظرية أخرى ذكرها أحد المحقّقين المعاصرين وهو السيّد محسن الأمين العامليّ حيث يقول:
رأيت بعد سنة (1321) في المقبرة المعروفة بمقبرة (باب الصغير) بدمشق مشهداً وضع فوق بابه صخرة كتب عليها ما صورته:
(هذا مدفن رأس العبّاس بن عليّ ورأس عليّ بن الحسين الأكبر ورأس حبيب بن مظاهر). ثمّ إنّه بعد ذلك بسنين، هدم هذا المشهد وأعيد بناؤه وأزيلت هذه الصخرة، وبني ضريح داخل المشهد منقوش عليه أسماء كثيرة لشهداء كربلاء، ولكن الحقيقة أنّه منسوب إلى الرؤوس الشريفة الثلاثة المقدّم ذكرها بحسب ما كان موضوعاً على بابه كما مرّ. وهذا المشهد: الظنّ قويّ بصحّة نسبته، لأنّ الرؤوس الشريفة بعد حملها إلى دمشق والطواف بها وانتهاء غرض يزيد من إظهار الغلبة والتنكيل بأهلها والتشفّي لا بدّ أن تدفن في إحدى المقابر، فدفنت هذه الرؤوس الثلاثة في مقبرة (باب الصغير) وحفظ محلّ دفنها والله أعلم2.
 
إنّ هذا القول من المحقّق المذكور، وإن كان بحسب ظاهره صحيحاً، لكنّ إثباته مشكل، لأنّ سند هذا القول كتابة موجودة على حجر، لا يُعلم كاتبها، ولا زمان كتابتها، ولا واضعها في ذلك المكان.
 
النتيجة:
 
من خلال كلّ ما سبق، يمكن الوصول إلى هذه النتيجة: إنّ القول الأوّل (إلحاق 
 
 
 

1-محمّد بن أحمد المستوفي الهرويّ، ترجمة الفتوح، ص 916 خواند مير، تاريخ حبيب السير في أخبار أفراد البشر، ص 60.
2-السيّد محسن الأمين، أعيان الشيعة، تحقيق وتخريج حسن الأمين، ج 1 ص 627.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

101

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

 الرأس بالجسد في كربلاء) وإن لم يرد فيه أيّة رواية عن المعصومين عليهم السلام ولكن باعتبار شهرته بين الشيعة والسنّة، وعمل علماء الشيعة به، فإنّ هذا القول يمكن الإعتماد عليه والقبول به.

 
وكذلك بالنسبة إلى بقيّة الرؤوس، فإنّه لا يوجد مستند معتبر وموثوق، في المصادر القديمة، تبيّن مصيرها ومحلّ دفنها، بل الموجود فقط هو بعض المستندات المتأخّرة زماناً والتي تذكر بأنّ رؤوس الشهداء ردّت إلى كربلاء ودفنت مع الأجساد، كما في أخبار المستوفي الهرويّ وخواند مير، وهذه أيضاً لا نعلم من أين نقلها أصحابها وما هي مصادرها، لذلك هي ساقطة عن الإعتبار والإعتماد.
 
بغضّ النظر عن نتيجـــة هــذا التحقيــــق، مــن أجل تعيين محلّ دفن رأس الإمام عليه السلام ، فإنّ عشق هذا الإمام وأنصاره الشهداء على مرّ التاريخ يجعل الإنسان الموالي مجذوباً نحوه ومغرماً به.
 
ولذلك فإنّ مكان ومحلّ دفن الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام وبدنه الشريف، وإن لم يُعرف على التحقيق لكن المهمّ هو أنّ هذه الشخصيّة العظيمة للإمام عليه السلام قد اتخذت مكاناً ثابتاً في قلوب كلّ شيعته ومحبّيه، وسوف يبقى كذلك إلى الأبد. وقد كتب بعض المؤرّخين والعلماء شيئاً مهمّاً في هذا الصدد. وهذا سبط بن الجوزيّ، بعدما يعدّد الأقوال حول مكان الدفن، يضيف:على كلّ حال، أينما كان رأسه وجسده فإنّ اسمه وذكره سيبقى في القلوب والأذهان والخواطر، كما أنشد بعض أساتذتنا في هذا الأمر فقال:
 
 لا تطلبوا المولى حسين                بأرض شرقٍ أو بغربِ
 ودعوا الجميع وعرّجوا                 نحوي فمشهده بقلبي1
 
وكتب العقّاد أيضاً العالم المصريّ المعاصر حول ذلك:
 
 
 

1-محسن الأمين، أعيان الشيعة، تحقيق وتخريج حسن الأمين، ج 1، ص 627. سبط بن الجوزيّ المصدر السابق، ج 2، ص 209 وكذلك الشيخ مهدي الفلوجيّ الحلّي (م. 1357 ق) أنشد في هذا الصدد قائلا ً:
لا تطلبوا رأس الحسين فإنّه                      لا في حمى ثاو ولا في واد
لكنّما صفو البلاء يدلكم                       في أنّه المقبور وسط فؤادي
محمّد عليّ اليعقوبيّ، البابليّات، ج 3، القسم الثاني، ص 128.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
108

102

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

 (فأيّاً كان الموضع الذي دفن فيه ذلك الرأس الشريف، فهو في كلّ موضع أهل للتعظيم والتشريف وإنّما أصبح الحسين عليه السلام بكرامة الشهادة وكرامة البطولة وكرامة الأسرة النبويّة معنىً يحضره الرجل في صدره وهو قريب أو بعيد من قبره، وإنّ هذا المعنى لفي القاهرة وفي عسقلان وفي دمشق وفي الرقّة وفي كربلاء وفي المدينة وفي غير تلك الأماكن سواء) 1

 
 

1-عبّاس محمود العقّاد، أبو الشهداء، الحسين بن عليّ، ص 111.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

103

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق1 

 
تمهيد:
تعدّ حادثة عاشوراء وشهادة الإمام الحسين عليه السلام فيها، من أهمّ الأحداث التي وقعت في تاريخ البشريّة كلّها. ويمكن تحليل عظمة هذه الحادثة من جهات عدّة، كالبحث في خلفيّاتها، وأسبابها، وكيفيّة حصول جزئيّات الأحداث فيها، وأخيراً آثارها والنتائج التي ترتّبت عليها. ومن المؤشّرات الدالّة على عظمة هذه الحادثة، وقوعُ بعض الأحداث التي في غالبيتها خارقة للعادة، بعد شهادة بَطل هذه الواقعة الإمام الحسين عليه السلام ، في سياق متّصل بتلك الواقعة العظيمة. وبعض هذه الوقائع التي تُنقل لها صلةٌ بأجزاء النظام الكونيّ كالشمس والقمر والنجوم والأرض. وبعضها له علاقة بالأنبياء والملائكة، وبعضها الآخر يختصّ بالجنّ والحيوانات، وبعضها مرتبط ببعض البشر. وسوف نحاول، في هذه المقالة، دراسةَ الروايات الواردة في كتب السنّة والشيعة، حول هذه الوقائع، وذلك في عشرة محاور تأتي تباعاً.
 
المقدّمة:
واقعة عاشوراء، من حيث الماهيّة والأهداف والآثار، من الوقائع الكبرى في
 
 
 

1-محمّد رضا جبّاري (أستاذ مساعد في قسم التاريخ، في مؤسّسة الإمام الخمينيّ التعليميّة). السنة السادسة، العدد الثالث، خريف 1388 هجري شمسي، 67 – 121.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

104

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 تاريخ الإنسانيّة كلّها؛ وذلك لأنّ بطلها رجلٌ كالإمام الحسين عليه السلام ، قدّم نفسه قرباناً لحفظ آخر الأديان الإلهيّة وأكملها.

 
ومن الشواهد والمؤشّرات الدالّة على هذه العظمة الاستثنائيّة لثورة الإمام الحسين عليه السلام والفاجعة الإليمة لشهادة قائدها، ما ينقله المؤرّخون والمحدّثون عن بعض الأحداث الغريبة الخارقة للعادة التي تلت شهادته عليه السلام. ولا يحتاج العثور على هذه الروايات إلى الكثير من البحث والتقصّي في كتب السنّة والشيعة، بل يمكن التعرّف على بعض هذه الأحداث بنظرة عابرةٍ، ليكتشف المرء أنّ هذه الواقعة حادثة لا مثيل لها في تاريخ الإنسانيّة. ومن هنا، نرى أنّ هذه الأحداث، تستحقّ أن تُدرس ويُعاد النظر فيها مرّة بعد أخرى.
 
وكثرة هذه الروايات، وسخافة بعضها، وضعف أسناد بعضها الآخر- وعلى وجه الخصوص عندما نتحدّث عن المصادر غير الشيعيّة- أدّت إلى سوء الظنّ بهذه الروايات واتّخاذ موقفٍ سلبيّ منها. وقد افترض بعض الباحثين في هذه القضيّة أنّ ورود هذه الروايات بهذه الكثرة في المصادر غير الشيعيّة، يكشف عن رغبةٍ خفيّةٍ بإلهاء الناس عن الثورة الحسينيّة، وإشغالها بالخرافات التي حيكت حول الثورة، بدل التأمّل في الثورة وأهدافها وغاياتها. وخاصةً أنّ بعض هذه الروايات، يهدف إلى إعادة إحياء التقاليد الجاهليّة، بطريقة غير مباشرة. وذلك أنّ التراث العربيّ الجاهليّ يشتمل على الكثير من الروايات حول أحداثٍ غريبةٍ تلت موتَ بعض الوجهاء والأعيان من بعض القبائل العربيّة.1 
 
ويردّ باحث آخر بعضَ هذه الروايات؛ لأنّ رواتها فيهم شيء من الميل إلى الأمويّين مثل ابن سعد؛ وذلك أنّ أكثر رواة بعض هذه الروايات من أهل الشام 
 
 
 

1-انظر: أصغر قائدان، "تأملي چند پيرامون گـزارش حادثة كربلا در منابع مورخان اهل سنت" (تأمل في الروايات الواردة حول حادثة كربلاء في مصادر أهل السنّة)، مجموعة مقالات مؤتمر الإمام الخمينيّ الدولي وثقافة عاشوراء، المجلّد الثالث، ص70ـ72. يقول الكاتب بعد استعراضه مجموعة من الروايات حول الأحداث الغريبة، في كتب أهل السنّة: "تثير رواية الأحداث المتضمّنة للمعجزات وخوارق العادات، سؤالاً مهمّا وهو: لماذا يهتمّ المؤرّخ أو المحدّث بذكر هذه الوقائع ويغفل عن ذكر أهداف الثورة وأسبابها، وبخاصّة كلمات الإمام الحسين التي قالها في سياق أحداث كربلاء. وترتفع موجة الشكّ عندما نلاحظ أنّ هذه الوقائع الغريبة التي يصعب الدفاع عنها بمقاييس العقل والمنطق، يرويها من لا يؤمن بقداسة الإمام الحسين ولا يرى له ذلك المقام الذي يسوّغ وقوع مثل هذه الأحداث في سياق مرتبط به، والحال أنّ محدّثي الشيعة ومؤرّخيهم لم يذكروا بعض هذه الأحداث ولم يرووها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

105

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 أو البصــرة، ولــم يـرد في روايتهــم أيّ إدانـــةٍ ليــــزيــد أو غيره من قتلة الإمام الحسين عليه السلام. 1  وفي المقابل يرى بعض المؤرّخين المتعصّبين من أهل السنّة، مثل ابن كثير الدمشقيّ، أنّ هذه الروايات من مخترعات الشيعة ومختلقاتهم. 2 

 
وتوجد مجموعة من النقاط لا بدّ من الالتفات إليها، في نقد الرؤية المشار إليها، وهي:
 
1- أنّنا نشارك صاحبَ هذه الرؤية موقفَه من ميل المؤرّخين الأمويّين وسعيهم إلى حجب الهدف الكامن وراء ثورة الإمام الحسين عليه السلام ، إلّا أنّ ذلك لا يعني بالضرورة إنكار بعض الأحداث الغريبة، بالاستناد إلى ذلك الميل، بل لا يمكن إنكار ما رُوِي أنّه وقع، إلّا بالتدقيق والنقد العلميّ والبحث التاريخيّ وغيره.
 
2- الروايات التي تنقل مثل هذه الوقائع العجيبة، ليست موجودة في مصادر أهل السنّة الروائيّة فحسب، بل نُلاحظ الكثيرَ منها في المصادر الشيعيّة الروائيّة، وهناك عدد كبير منها يُنقل عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام.
 
3- إنّ بعض هذه الروايات لم يصل إلى حدّ معارضة البديهيّات العقليّة، والشواهد النقليّة. ثمّ إنّه نُقل ما هو أكثر منه غرابةً من خوارق العادات التي نُسِبت إلى الأنبياء والأئمّة عليهم السلام. ولا ينفي هذا كون بعض الروايات تستحقّ الإبعاد والاستبعاد؛ لأنّها بالقصص أشبهُ منها بالوقائع التاريخيّة التي يمكن تصديقها.
 
4- وعلى أيّ حال إنّ مثل هذه الروايات التي تتضمّن تلك الوقائع الغريبة، تشهد، بطريق مباشر أو غير مباشر، على صدق مسيرة الإمام الحسين عليه السلام وحقّانيتها، وبطلان ما يقابلها؛ أي الخطّ اليزيدي. ومن هنا، فإنّ كلّ من يطالع هذه الروايات بالتأمّل والتدبّر المطلوب سوف يستلهم منها العبر والدروس المناسبة. 
وخاصّةً أنّ كثيراً منها يتضمّن الحديثَ عن البلاءات الدنيويّة التي ابتلِي بها قتلةُ الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه.
 
5- ثمّ إنّه لو افترضنا صحّة الدعوى القائلة إنّ المؤرّخين، من غير الشيعة 
 
 
 

1-السيّد عبد الله الحسينيّ، معرّفي و نقد منابع عاشوراء، ص119ـ120.
2-إسماعيل بن كثير الدمشقيّ، البداية والنهاية، ج8، ص219.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

106

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 وبخاصّةٍ رواة البصرة والشام، كانوا يهدفون من خلال التركيز على هذه الروايات، إلى طمس أهداف ثورة كربلاء، من خلال تسليط الضوء على بعض الوقائع الغريبة التي حصلت حولها وفي سياقها؛ إلّا أنّ صدق هذه الدعوى لا يدلّ، بأيّ وجه من الوجوه، على كذب تلك الروايات. ولنا في ما يحدث في عصرنا هذا من تصرّفات وسائل الإعلام العالميّة، شاهدٌ ودليلٌ، فإذا وجِدت رغبةٌ عند إمبراطوريّات الإعلام المعاصر بإخفاء حادثة والتغطية عليها، تعمد هذه الإمبراطوريّات إلى حادثة أخرى وتعطيها نصيباً أكبر من التغطية والتقارير الخبريّة، ولا تكون الحادثة الثانية بالضرورة غير صحيحة، بل كثيراً ما تكون صحيحةً. وبكلمةٍ موجزةٍ، إنّ السعيَ إلى لفت النظر إلى حادثة على حساب حادثةٍ أخرى، لا يدلّ بالضرورة على كذب الحادثة التي تنال ما لا تستحقّ من التغطية، على حساب منافستها الأخرى.


عود على بدء

والآن وبناءً على ما مرّ كلّه، ينبغي أن نمرّ على الروايات المتنوّعة المتعلّقة بالأحداث الغريبة التي حصلت بعد شهادة الحسين عليه السلام في سياق مرتبطٍ بنهضته المباركة. وسوف نحاول، في ما يأتي من هذه الدراسة، تصنيفَ هذه الروايات قبل دراستها وإبداء الرأي فيها. وتجدر الإشارة إلى أنّ موضوع بعض هذه الروايات، هو الكون وأجزاؤه الكبرى كالشمس، والنجوم، والرياح، والأمطار، والبحار، والجبال. وموضوع بعضها الآخر الجنّ والحيوانات. وموضوع طائفة ثالثة منها الأنبياء والملائكة. وتتحدّث بعض هذه الروايات عن العقوبات الدنيويّة التي أصابت قتلةَ شهداء كربلاء، وتبدّل ماهيّة الأشياء والأموال التي غُصِبت من الشهداء والأسرى. وبعضها يتحدّث عن جسم الإمام الحسين عليه السلام ، ورأسه، وقبره، وتربته المباركة. وعليه فسوف نبني هذه الدراسة على عشرة محاور كلّية، ونقدّم ما لدينا من تحليلٍ لبعض الروايات التي نستعرضها ونستشهد بها. ولا يخفى أنّ بعض الوقائع التي تخبر عنها هذه الروايات لا تقع في دائرة اطّلاع عامّة الناس؛ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

107

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 وذلك من قبيل الروايات التي تخبر عن بكاء الأنبياء والملائكة وما شابه. وبعض الوقائع ينبغي أن يكون في معرض اطّلاع الجميع مثل الكسوف والخسوف. وبعضها الآخر بين هذا وذاك، فربّما لا يراه إلّا من حصل له، مثل هبوب الرياح السوداء والحمراء، أو إصابة الرماد والدم بعض الأشخاص، أو تبدّل حقيقة بعض الأموال والأشياء التي نهِبت من الشهداء والأسرى، فمثل هذه الوقائع قد لا تحصل إلّا للشخص نفسه، أو لا تصيب إلّا أهل المناطق التي يغلب على أهلها العداء للإمام الحسين عليه السلام. والأمر نفسه يُقال على ما يرتبط، من هذه الروايات، برأس الإمام أو جسده الشريف عليه السلام، فليس بالضرورة أن يكون في معرض رؤية عامّة الناس.

 
1-   الكسوف وظلمة السماء
 
من الوقائع الغريبة التي روِي أنّها حصلت بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء، الكسوف الذي أدّى، بحسب الروايات، إلى ظلمةٍ شديدةٍ في السماء سمحت للناس بمشاهدة النجوم1. وقد أدّى ظهور هذه الواقعة، مع بعض الأحداث الأخرى، إلى ظنّ الناس أنّ القيامة قد قامت2. ومضافاً إلى ذلك يروي بعض المحدّثين عن عددٍ كبير من المؤرّخين، اقتران الخسوف بالكسوف في الشام يوم عاشوراء3. وفي بعض الروايات أنّ النجوم تلاطمت واصطدم بعضُها ببعضِها الآخر4. وعلى أيّ حالٍ، وبغضّ النظر عن التفاصيل الواردة في هذا المجال، فإنّ المصادر الشيعيّة والسنيّة تتحدّث عن وقائع غريبة ترتبط بالسماء والشمس والنجوم، حصلت يوم عاشوراء5
 
 
 

1-جعفر بن محمّد بن قولويه، كامل الزيارات، ص161، باب 24، ح2.
2-أبوبكر أحمد بن حسين البيهقيّ، السنن الكبرى، ج3، ص337.
3-ونصّ كلام العلامة المجلسيّ في هذا المجال هو: "رأيت في كثيرٍ من كتب الخاصّة والعامة، وقوع الكسوف والخسوف في يومٍ عاشوراء وليلته." (محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 55، ص 153.)
4-ابنعساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام، ص356، ح293؛ عليّ بن عيسي الإربلي، كشف الغمّة، ج2، ص268؛ شمس الدّين الذهبيّ، تاريخ الإسلام، ج5، ص15ـ16.
5-انظر، مضافاً إلى ما مرّ ذكره من مصادر: محمّد بن عليّ السرويّ المازندرانيّ، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص213؛ سليمان بن أحمد الطبرانيّ، المعجم الكبير، ج3، ص114؛ جلال الدّين السيوطيّ، تاريخ الخلفاء، ص207؛ أحمد 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

108

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 وربّما لا يسع بعض الباحثين عند مواجهة هذه الروايات، إلّا أن يتذكّروا الرواية النبويّة الواردة في قضيّة الكسوف التي حصلت عند وفاة ابنه إبراهيم. حيث ينقل المحدّثون أنّه عندما توفّي إبراهيم ابن النبيّ صلى الله عليه واله وسلم من زوجته مارية القبطيّة، كُسِفت الشمس، فقال كثير من الناس: كُسِفت الشمس لفقد ابن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: "يا أيّها الناس إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإن انكسفتا أو واحدة منهما فصلّوا..." وبناءً على هذه الرواية يسأل هؤلاء: كيف يمكن قبول الروايات التي تخبر عن كسوفٍ أو ظلمةٍ في السماء بعد واقعة عاشوراء وشهادة الإمام الحسين عليه السلام ؟

 
وفي الجواب نقول: إنّ ما ورد في الرواية النبويّة، هو نفي النبيّ وقوعَ الخسوف أو الكسوف لموت فردٍ، حتّى لو كان هذا الفرد ابن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، وما حصل في عاشوراء لم يكن موت شخص كما يموت سائر الناس، بل ما حدث هو فاجعة بل فجائع عدّة عظيمة بكلّ المقاييس في تاريخ البشريّة، وموت الإمام الحسين عليه السلام وهو ابن بنت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم هو الوجه الأكثر مرارةً فيها. ومثل هذه الوقائع لا يتأثّر لها المؤمنون من البشر فحسب، بل نظام الكون بأسره يشاركهم التأثّر بها، وليس فقط هذه الموارد العشرة التي نحن بصدد بيانها. وليس ذلك مستهجناً، فقد ورد أنّ موضع صلاة المرء ومحلّ نزول رزقه من السماء يبكي لموته، وسوف نذكر بعض الروايات الدالّة على هذا المعنى.
 
1-   هبوب الرياح السوداء والحمراء، وهطول الدم والرماد من السماء
 
يروي ابن طاووس، في وصف ما حصل بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام ، فيقول: 
بن محمّد بن حجر الهيثميّ، الصواعق المحرقة، ج2، ص 568.
 
 
 

1-محمّد بن يعقوب الكلينيّ، الكافي، تحقيق عليأكبر الغفاريّ، ج 3، ص 208، ح 7؛ محمّد بن منيع بن سعد، الطبقات الكبرى، ج 1، ص 142؛ أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ، المحاسن، ج2، ص 313، ح 31.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

109

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 "فارتفعت في السماء في ذلك الوقت ريح حمراء لا تُرى فيها عينٌ ولا أثرٌ، حتّى ظنّ القوم أنّ العذاب قد جاءهم، فلبِثوا كذلك ساعةً ثمّ انجلت عنهم."1

 
ويبدو أنّ بين هبوب الرياح السوداء والحمراء وبين نزول الرماد تلازماً، تشير إليه بعض الروايات. وقد ورد هذا المعنى، في رواية صحيحة السند، رواها الشيخ الصدوق، عن الريّان بن شبيب، عن الإمام الرضا عليه السلام: "...لما قُتِل جدّي الحسين (صلوات ‌الله عليه) مطرت السماءُ دماً وتراباً أحمر."12 
 
وفي رواية أخرى ينقلها الشيخ الصدوق، بسنده عن المفضل بن عمر، أنّ الإمام الحسن عليه السلام نظر إلى أخيه الحسين عليه السلام ، فبكى وعلّل بكاءهبقوله: "...ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجلٍ، يدّعون أنّهم من أمّة جدّنا محمّد صلى الله عليه واله وسلم ، وينتحلون دين الإسلام، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك، فعندها تحلّ ببني أميّة اللعنة، وتمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كلّ شيءٍ حتّى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار."3
 
ويروي ميثم التمّار، بعضَ ما سمعه من أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ، في روايةٍ مفصّلة نسبيّاً وردت فيها الإشارة إلى بعض القضايا الغريبة التي تلي استشهاد الإمام الحسين عليه السلام ، كالحديث عن نزول الرماد؛ ولأهميّتها نشير إلى بعض ما ورد فيها، وهذه الرواية وصلتنا عبر الشيخ الصدوق بسنده إلى جبلة المكيّة عن ميثم التمّار، وممّا جاء في الرواية: "والله لتقتلَنَّ هذه الأمّةُ ابنَ بنت نبيّها في المحرّم لعشر مضين منه، وليتخذنّ أعداء الله ذلك اليوم يوم بركةٍ، وإنّ ذلك لكائن، قد سبق في علم الله تعالى ذكره، أعلم ذلك بعهدٍ عهده إليّ مولاي أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، ولقد أخبرني أنّه يبكي عليه كلّ شيءٍ حتّى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار، والطير في جوّ السماء، وتبكي عليه الشمس والقمر والنجوم والسماء والأرض، ومؤمنو الإنس والجنّ، وجميع ملائكة السماوات، ورضوان ومالك وحملة 
 
 
 

1-علي بن موسى بن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، ص 75.
2-محمّد بن عليّ بن بابويه الصدوق القمّي، عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 268.
3-محمّد بن عليبن بابويه الصدوق القمّي، الأمالي، ص177-178.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

110

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 العرش، وتمطر السماء دماً ورماداً..." وقد ورد الحديث عن نزول التراب الأحمر من السماء عن ابن قولويه2، كما ورد الأمر عينه في روايةٍ أخرى عن ابن عساكر. 3

 
كما أنّ الحديث عن نزول الدم من السماء بعد شهادة أبي عبد الله عليه السلام ، من أغرب الوقائع التي يُروى حدوثها. ولا مجال للشكّ في صدق هذه الواقعة لكثرة ما ورد الحديث عنها في كتب الشيعة والسنّة. ففي روايات عدّة أشرنا إلى بعضها آنفاً، كالرواية التي تنبــئ عـــن حــادثة كربلاء قبل وقوعها على لسان الإمام الحسن عليه السلام، وكذلك ما نقله ميثم التمّار عن أمير المؤمنين عليه السلام في مجال هذه الحادثة، فقد أُشيرَ فيهما إلى مطر السماء دماً ورماداً4
 
وفي روايةٍ عن الشيخ الطوسيّ عن عمّار بن أبي عمّار: "أمطرت السماء يوم قتِل الحسين عليه السلام دماً عبيطاً." وفي بعض المصادر الروائيّة يُنقَل عن شخصٍ اسمه قرظة بن عبيد الله: "مطرت السماء يوماً نصف النهار على شملة بيضاء فنظرت فإذا هو دم، وذهبت الإبل إلى الوادي لتشرب فإذا هو دمٌ، وإذا هو اليوم الذي قتِل فيه الحسين عليه السلام."6  وفي رواية ينقلها ابن قولويه عن رجلٍ من أهل بيت المقدس، يقول فيها: "والله لقد عرفنا أهل بيت المقدس ونواحيها قتْلَ الحسين بن عليّ عليه السلام ، قلت: وكيف ذاك؟ قال: ما رفعنا حجراً ولا مدراً ولا صخراً، إلّا ورأينا تحتها دماً عبيطاً يغلي، واحمرّت الحيطان كالعلق، ومطرنا ثلاثة أيّام دماً عبيطاً..."7  وعن حمّاد بن سلمة، أنّه قال: "مطر الناس لياليَ قُتِل الحسين عليه السلام دماً." 8 وفي رواية ينقلها الدولابيّ، عن إبراهيم النخعيّ، يقول: "لما قُتِل الحسين احمرّت السماء من 
 
 
 

1-محمّد بن عليبن بابويه الصدوق القمّي، الأمالي ، ص189-190؛ والصدوق، علل الشرايع، ج 1، ص 228.
2-لمّا قتل الحسين بن علي أمطرت السماء تراباً أحمرَ جعفر بن محمّد، ابن قولويه،كامل الزيارات، ص183.
3-وسقط التراب الأحمر ابنعساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين ، ص354، ح288.
4-محمّد بن علي بن بابويه الصدوق القمّي، الأمالي، ص178 و 189.
5-محمّد بن الحسن الطوسيّ، الأمالي، ص330، ح106.
6-محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45 ص215 ح 38.
7-كامل الزيارات، مصدر سابق، ص160، باب 24، ح2.
8-القاضي النعمان التميميّ المغربيّ، شرح الأخبار، ج3، ص166.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

111

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 أقطارها، ثمّ لم ‌نزل حتّى تفطّرت وقطرت دماً1. كما وينقل القاضي النعمان، عن امرأة اسمها أمّ سالم: "لما قُتِل الحسين بن عليّ عليه السلام مطرت السماء مطراً كالدم احمرّت منه البيوت والحيطان، فبلغ ذلك البصرة والكوفة والشام وخراسان، حتّى كنّا لا نشكّ أنّه سينزل العذاب"2. وفي رواية نضرة الأزديّة: "لمّا قتِل الحسين أمطرت السماء دماً وحبابنا وجرارنا صارت مملوءةً دماً"3.

 
3- رؤية الدم في أماكن عدّة:
 
ومن الوقائع الغريبة التي رُوِي حصولها، بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام ، مشاهدة الدم في نقاط مختلفة من الأرض. وتنوّع الروايات الحاكية عن هذه الحادثة، وصحّة سند بعضها، يوجبان حصولَ الاطمئنان بصدقِ أصلِ وقوعها، ولو شككنا في بعض مصاديقها. ويمكن تقسيم الروايات المذكورة إلى مجموعات عدّة: فبعضها يتحدّث عن مشاهدة الدم تحت بعض الأحجار والصخور، في أكثر من محلّ. وبعضها يتحدّث عن مشاهدة مثل ذلك في الشام وبيت المقدس. وبعضها أشير فيه إلى تلوّن مياه الآبار والأنهار بلون الدم. ومنها ما يكشف عن احمرار بعض تراب كربلاء بلون الدم. وفي هذه الأخبار يُشار إلى شيءٍ من تراب كربلاء أودعه النبيّ صلى الله عليه واله وسلم أمَّ سلمة زوجته. وفي روايةٍ ما يدلّ على خروج الدم من بعض جدران دار الإمارة في الكوفة، عند دخولهم برأس الإمام الحسين عليه السلام إليه. وتخبر إحدى الروايات عن خروج الدم من شجرة أمّ معبد. وتوجد روايات أخرى غير ما أشرنا إليه، سوف نأتي على ذكرها تباعاً، في خلال تقويمنا لهذه الأخبار. 
 
 
 

1-محمّد بن أحمد الدولابيّ، الذريّة الطاهرة النبويّة، ص135.
2-شرح الأخبار، مصدر سابق، ج3، ص166.
3-مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص212؛ وعن نزول الدم من السماء، انظر، أيضاً: إسماعيل بن إبراهيم البخاريّ، التاريخ الكبير، ج4، ص 129ح2202؛ عبد الرحمان بن أبي حاتم الرازي، الجرح والتعديل، ج4، ص216؛ أبو حاتم محمّد ابن حبّان، الثقات، ج4، ص329؛ يحيى بن حسن المعروف بابن البطريق، العمدة، ص405؛ ابننما، مثير الأحزان، ص63 و القندوزيّ، ينابيع المودّة، ج3، ص20.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

112

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 أ‌-     احمرار تراب كربلاء عند أمّ سلمة

 
وردت في عددٍ من المصادر الإماميّة وغير الإماميّة1  روايةٌ عن أمّ سلمة، زوج النبيّ الأكرم صلى الله عليه واله وسلم ، تتحدّث عن قبضةٍ من تراب كربلاء تركها النبيّ صلى الله عليه واله وسلم عندها وديعةً، وهذه الرواية تستحقّ التأمّل والنظر فيها، وذلك بالنظر إلى تعدّد المصادر التي تنقلها، وبالنظر إلى شخصيّة أمّ سلمة بين نساء النبيّ صلى الله عليه واله وسلم. وممّن يروي هذه القضيّة ابن قولويه عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: "نعى جبرائيل عليه السلام الحسينَ إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في بيت أمّ سلمة، فدخل عليه الحسين عليه السلام وجبرائيل عليه السلام عنده، فقال: إنّ هذا تقتله أمّتك، فقال: رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: أرِني التربة التي يسفك فيها دمه، فتناول جبرائيل عليه السلام قبضةً من تلك التربة، فإذا هي تربةٌ حمراء2. ثمّ أخبر النبيّ صلى الله عليه واله وسلم أمَّ سلمة الخبر، وأودع عندها تلك القبضة من التراب وقال لها: "اجعليها في زجاجة فليكن عندك، فإذا صارت دماً فقد قتِل الحسين عليه السلام. وبقيت تلك القبضة من التراب عند أمّ سلمة إلى زمان خروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة. ويُروى أنّها نصحته بعدم الخروج وذكّرته بنبوءة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، فقال لها إنّه سوف يُقتل سواء بقي في المدينة أم خرج إلى كربلاء. وفي رواية اليعقوبيّ أنّه لمّا حضر ذلك الوقت جعلت تنظر إلى القارورة في كلّ ساعةٍ، فلمّا رأتها قد صارت دماً صاحت: واحسيناه! وابن رسول الله! وتصارخت النسوة من كلّ ناحيةٍ، حتّى ارتفعت المدينة بالرجّة التي ما سُمِع بمثلها قطّ.3
 
ب- ظهور الدم تحت الأحجار والصخور
 
ينقل ابن قولويه عن الإمام الصادق عليه السلام ، أنّ هشام بن عبد الملك قال للإمام 
 
 
 

1-كنموذج لما ذكِر أعلاه انظر: الحافظ بن عبد الله بن محمّد ابن أبي شيبة، المصنف، ج8، ص632، ح258؛ الطبريّ، دلائل الإمامة، ص180؛ الطبرسي، إعلام الورى، ج1، ص428؛ مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص213؛ ابنعساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين ، ص245، ح220؛ الخوارزميّ، مقتل الحسين ، ج2، ص107ـ، ح33؛ الطبريّ، ذخائر العقبى، ص147؛ الزرنديّ الحنفي، نظم درر السمطين، ص215؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج44، ص241، ح34.
2-كامل الزيارات، مصدر سابق، ص128، باب17، ح2.
3-أحمد بن أبي يعقوب اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص246؛ عليّ بن يونس البيّاضي العامليّ، الصراط المستقيم، ج2، ص179.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
120

113

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 الباقر عليه السلام: بم استدلّ الغائب عن المصر الذي قتِل فيه عليّ عليه السلام على قتله، وما العلامة فيه للناس؟ فإن علمت ذلك وأجبت، فأخبرني هل كانت تلك العلامة لغير عليّ؟ 

 
فقال عليه السلام: يا أميــر المؤمنــــين، إنّه لمّا كـــان تلك الليلة التي قتِل فيها أمير المؤمنين عليه السلام ، لم يُرفَع عن وجه الأرض حجر، إلّا وجِد تحته دمٌ عبيط حتّى طلع الفجر، وكذلك كانت الليلة التي قتِل فيها هارون أخو موسى عليه السلام ، وكذلك كانت الليلة التي قتِل فيها يوشع بن نون، وكذلك كانت الليلة التي رُفِع فيها عيسى بن مريم إلى السماء، وكذلك كانت الليلة التي قُتِل فيها شمعون بن حمون الصفا، وكذلك كانت الليلة التي قُتِل فيها عليّ بن أبي طالبٍ عليه السلام. قال: فتربّد وجه هشام حتّى انتقع لونُه وهمّ أن يبطش بأبي (الإمام الباقر عليه السلام )، فقال له أبي: يا أمير المؤمنين الواجب على العباد الطاعة لإمامهم والصدق بالنصيحة، وإنّ الذي دعاني إلى أن أجبت أمير المؤمنين في ما سألني عنه معرفتي إيّاه بما يجب له عليّ من الطاعة، فليحسن أمير المؤمنين عليّ الظنّ... ثمّ أذن له بالخروج فخرج. فقال له هشام عند خروجه: أعطني عهد الله وميثاقه أن لا توقع الحديث إلى أحدٍ حتّى أموت، فأعطاه أبي من ذلك ما أرضاه.1
 
وينقل ابن عساكر، فيقول: أرسل عبد الملك إلى ابن رأس الجالوت (من كبار علماء النصارى)، فقال: هل كان في قتل الحسين علامة؟ قال ابن رأس الجالوت: ما كُشِف حجر يومئذٍ إلّا وجِد تحته دمٌ عبيط2. ويروى المضمون نفسه في عددٍ من المصادر الأخرى الشيعيّة والسنيّة.3
 
وقد أشرنا في ما مرّ إلى أنّ بعض هذه الروايات التي تتحدّث عن هذه الظاهرة تخبر عن وقوعها في بيت المقدس. ومن ذلك رواية ينقلها الشيخ الصدوق عن فاطمة بنت عليّ عليه السلام ، تقول فيها: "...ولم يرفع ببيت المقدس حجر عن وجه 
 
 
 

1-كامل الزيارات، مصدر سابق، ص158ـ160.
2-ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين ، ص364.
3-انظر: الطبريّ، دلائل الإمامة، ص178؛ مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص218؛ ابنعساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين ، ص355؛ ابن حجر الهيثميّ، الصواعق المحرقة، ج2، ص568.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

114

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 الأرض، إلّا وجِد تحته دمُ عبيط..." 1

 
 ويروي ابن ‌قولويه عن رجلٍ من أهل بيت المقدس أنّه قال: والله لقد عرفنا أهل بيت المقدس ونواحيها، عشيّةَ قتل الحسين بن عليّ عليه السلام ، قلت: وكيف ذلك؟ قال: ما رفعنا حجراً ولا مدراً ولا صخراً، إلّا ورأينا تحتها دماً عبيطاً يغلي. 2
 
ويرد المضمون عينه في رواية عن محمّد بن مسلم بن شهاب الزهريّ (من بلاط الأمويّين)؛ وذلك في جوابه عن سؤال عبد الملك بن مروان3، وفي الرواية أنّ عبد الملك نهاه عن تحديث غيره بهذا الحديث! ثمّ إنّ الزهري نقل هذه الواقعة بعد موت عبد الملك4
وربّما يمكن القول إنّ ظهور مثل هذه الأمور في بلاد الشام وبيت المقدس، ناتج من كونها منطقة نفوذ بني أميّة وانتشار أعداء أهل البيت عليهم السلام. ولهذا كان ظهورها في هذه البلاد أكثر وأوضح من ظهورها في غيرها من البلاد.
 
ج- تحوّل مياه الآبار والأنهار إلى دم
 
أشرنا، في ما سبــق، إلـــى نــــزول الــــدم مـــن السماء، بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام. ومن الطبيعيّ، بناء على ما تقدّم، أن تتلوّن الأجسام التي ينزل عليها هذا المطر بلون الدم. وهناك روايات أخرى تدلّ على أنّ مياه الآبار والأنهار والبرك قد احمرّت، بعد شهادته، مع الإشارة إلى أنّ الروايات التي تتحدّث عن هذه الظاهرة، لا تشير إلى قضيّة المطر، أو إلى أنّ ذلك مسبّب عن ذلك المطر المشار إليه. ومن تلك الروايات رواية عن شخصٍ اسمه قرظة بن عبيد الله يقول فيها إنّ إبلَه وردت الوادي لتشرب يوم قتل الإمام الحسين عليه السلام فإذا ماؤه أحمر كالدم35. وعن عمرو بن زياد يقول: إنّهم وجدوا آبارهم مملوءةً دماً5. وعن 
 
 
 

1-محمّد بن علي بن بابويه الصدوق القمّي، الأمالي، ص231. 
2-كامل الزيارات، مصدر سابق، ص161، باب 24، ح2. 
3-ابن نما، مثير الأحزان، ص63؛ اربلي، كشف الغمّة، ج2، ص268؛ الذهبي، تاريخ الاسلام، ج5، ص16.
4-الشيروانيّ، مناقب أهل البيت، ص249.
5-مناقب آل أابي طالب، مصدر سابق، ج3، ص212.
6-القاضي النعمان التميميّ المغربيّ، شرح الأخبار، ج3، ص166.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

115

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 النضرة الأزديّة1 من أهل البصرة2 أنّها قالت: "لما قتِل الحسين أمطرت السماء دماً وحبابنا وجرارنا صارت مملوة دماً"3. ويُروى ما هو قريب من هذا المضمون، عن رجلٍ اسمه عمّار بن أبي عمّار4. وفي بعض الروايات نقرأ: "أنّه يوم قتِل الحسين، أصبحوا من الغد وكلّ قِدرٍ لهم طبخوها صارت دماً، وكلّ إناءٍ لهم فيه ماء صار دماً"5.

 
يفيد التأمّل في الروايات المشار إليها أنّ هذه الظاهرة حصلت في نقاطٍ خاصّة، دون غيرها. فرواية النضرة الأزديّة مثلاً تكشف عن وقوعها في منطقة البصرة. كانت البصرة موطناً لكثير من أعداء أهل البيت عليهم السلام. والروايات التي تدلّ على تبدّل الطعام والشراب في الأواني إلى دمٍ، يُستفاد منها أنّها أصابت من شارك في واقعة كربلاء فقط؛ وذلك أنّنا سوف نشير، لاحقاً، إلى بعض الروايات التي تدلّ على أنّ لحم الإبل التي سلبت من مخيّم الإمام الحسين عليه السلام قد تحوّلت، عند طبخها، إلى دمٍ، ولا يمكن القبول بأنّ جميع الناس وفي كلّ النواحي قد تبدل طعام وشراب آنيتهم إلى دم.
 
د- خروج الدم من شجرة أمّ معبد
 
أمّ ‌معبد الخزاعيّة، امرأة كانت تسكن هي وزوجها في الطريق بين مكّة والمدينة، فمرّ عليها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في أحدِ أسفاره هو، وجمعٌ من أصحابه، وقال (من القيلولة) في الخيمة حتّى أبرد، وكان يوماً قائظاً شديداً حرّه. فلمّا قام من رقدته دعا بماءٍ فغسل يديه فأنقاهما، ثمّ مضمض فاه ومجّه على عوسجة كانت إلى جانب خيمة أمّ معبد ثلاث مرّات، واستنشق ثلاثاً وغسل وجهه وذراعيه ثمّ مسح برأسه ورجليه، وقال: لهذه العوسجة شأن! فلمّا كان من الغد أصبح أهل 
 
 
 

1- عدّ من أصحاب أمير المؤمنين؛ انظر: رجال الطوسيّ، ص89.
2-أبو حاتم محمّد بن حبان، الثقات، ج5، ص487.
3-المصدر نفسه، ص487؛ محمّد بن سعد، ترجمة الإمام الحسين من طبقات ابن سعد، ص90؛ مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص212؛ الطبريّ، ذخائر العقبى، ص145
4-محمّد بن الحسن الطوسيّ، الأمالي، ص330.
5-الزرنديّ الحنفيّ، نظم درر السمطين، ص220.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

116

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 الحيّ وقد علت العوسجة حتّى صارت كأعظم دوحة عادية وأبهى، وخضد الله شوكها، وساخت عروقها وكثُرت أفنانها، واخضرّ ساقها وورقها، ثمّ أثمرت بعد ذلك وأينعت بثمرٍ كأعظم ما يكون من الكمأة في لون الوَرْس المسحوق، ورائحة العنبر، وطعم الشهد. وما أكل منها جائع، إلّا شبع ولا ظمآن إلّا روى...، ولا أكل من ورقها بعيرٌ ولا ناقة إلّا سمِنت ودرّ لبنها، ورأوا النماء والبركة في أموالهم منذ يوم نزل، فكانوا يسمّون تلك الشجرة بالشجرة "المباركة". ولم تزل كذلك، وقد أصبح الناس ذاتَ يومٍ وقد سقطت ثمارها، واصفرّ ورقها فأحزن أهلَ تلك الديار ذلك، وفرِقوا له، فما كان إلّا قليل حتّى أتى نعيُ رسولِ الله صلى الله عليه واله وسلم ، فإذا هو قد قُبِض ذلك اليوم، فكانت بعد ذلك تثمر ثمراً دون ما كانت تثمر في عهده في العِظَم والطعم والرائحة، فأقامت على ذلك ثلاثين سنةً، فلمّا كانت ذات يومٍ أصبحنا وإذا بها قد تشوّكت من أوّلها إلى آخرها. 

 
فذهبت نضارة عيدانها وتساقط ثمرها، فما كان إلّا يسيراً، حتّى وافى مقتل أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب عليه السلام ، فما أثمرت بعد ذلك. فأقامت على ذلك برهةً طويلةً ثمّ أصبحنا ذات يومٍ، فإذا بها قد انبعث من ساقها دم عبيط جارٍ وورقها ذابلة تقطر دماً كماء اللحم، فقلنا: أنْ قد حدث عظيمة، فبتنا ليلتنا فزعين مهمومين نتوقّع الداهية، فلمّا أظلم الليل علينا سمعنا بكاءً وعويلاً من تحتها وجلبة شديدة ورجّةً، وسمعنا صوت باكية تقول: 
 
أيا ابن النبيّ ويـــا ابــن الوصيّ           ويا من بقيّة ساداتنا الأكرمينا
 
 
ثمّ كثرت الرنّات والأصوات، فلم نفهم كثيراً ممّا كانوا يقولون، فأتانا بعد ذلك خبر قتل الحسين عليه السلام ، ويبست الشجرة وجفّت فكسرتها الرياح والأمطار بعد ذلك فذهبت واندرس أثرها1
 
قال عبد الله ‌بن ‌محمّد الأنصاري (أحد رواة الخبر): فلقيت دعبل بن عليّ 
 
 
 

1-ينقل الخوارزميّ، في: مقتل الحسين، ج2، ص111، ح 44، هذه الحادثة بالتفصيل، ويرويها بسندها أيضاً؛ وقد لخّصها ابنشهرآشوب في: مناقب آل أبي طالب، ج1، ص 105ـ106 وأمّا قطب الدّين الراونديّ، فقد رواها أيضاً ولكن بشيء من الاختصار والتغيير الطفيف، انظر: الخرائج والجرائح، ج1، ص146ـ147، ح234. ورواها العلامة المجلسيّ، في: بحار الأنوار، ج45، ص 233-235، مفصّلةً عن بعض الكتب المعتبرة، واختصرها في: ج 19، ص 75-76.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
124

117

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 الخزاعيّ بمدينة الرسول، فحدّثته بهذا الحديث فلم ينكره. وقال: حدّثني أبي عن جدّي عن أمّه سعيدة بنت مالك الخزاعيّة أنّها أدركت تلك الشجرة فأكلت من ثمرها، على عهد عليّ بن أبي طالب عليه السلام.1

 
هـ- خروج الدم من جدار قصر الإمارة في الكوفة
 
يروي ابن عساكر عن حاجب عبيد الله بن زياد، أنّه لما جيء برأس الحسين عليه السلام فوُضِع بين يديه، رأيت حيطان دار الإمارة تسايل دماً2. وتنقل بعض المصادر هذه الحادثة عن أيوب بن عبيد الله بن زياد3. ولا يبعد أن يكون شاهَدَ ما شاهَدَه البوّاب.
 
دراسة الروايات:
 
ليس ما استعرضناه من الروايات هو كلّ الموجود في المصادر الحديثيّة، بل يوجد غيره من الروايات وخاصّة في مصادر أهل السنة. وفي نظرة إجماليّة إلى هذه الروايات يبدو لنا أنّ من الصعوبة بمكانٍ التشكيك في أصل حدوث هذه الوقائع؛ وذلك بالنظر إلى كثرة الروايات التي تنقل هذه الحوادث، مضافاً إلى صحّة بعضها. وعليه لا شكّ في أنّ ظاهرة العثور على الدم، في بعض الأماكن، هي ظاهرة حقيقيّة حصلت بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام. هذا في أصل الحادثة، وأمّا الأخبار الضعيفة التي رواها بعض المجهولين، أو بعض الضعفاء وخاصّةً مثل الرواية التي تنقُل عن ابن عبيد الله بن زياد، خروجَ الدم من جدران دار الإمارة، أو رواية شجرة أمّ معبد التي ليس لها سندٌ معتبرٌ، أو مثل بعض الروايات التي تتحدّث عن تلوّن المياه في الآبار والأواني والأنهار؛ أمّا هذه الأخبار فإنّها رغم ضعفها يمكن تأييدها، بما ورد من أخبار صحيحة عن العثور على الدم تحت بعض الأحجار، وبكثرة هذه الروايات التي 
 
 
 

1-الخوارزميّ، مقتل الحسين ، ج2، ص113ـ114؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص235.
2-ابنعساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين، ص361؛ الطبريّ، ذخائر العقبى، ص145.
3-محمّد بن يوسف الصالحي الشاميّ، سبل الهدى و الرشاد، ج11، ص80.
4-انظر كنموذج لذلك: الحافظ بن عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة، المصنّف، ج8، ص633؛ كمال الدّين وتمام النّعمة، ص532؛ محمّد بن سليمان الكوفيّ، مناقب الإمام أمير المؤمنين، ج2، ص26؛ سليمان بن أحمد الطبرانيّ، المعجم الكبير، ج3، ص111؛ الخوارزميّ، مقتل الحسين، ج1 ص241؛ ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين ج14، ص274؛ قطب الدّين الروانديّ، قصص الأنبياء، ج3، ص1144؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج44، ص252.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

118

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 تتحدّث عن هذه الظاهرة في أماكن وحالاتٍ مختلفة. ويضاف إلى ذلك كلّه أنّ هذه الأخبار جميعاً حتّى الضعيف منها لا يخبر عن أمرٍ مستحيلٍ عقلاً، بل عن أمرٍ ممكنٍ في حدّ نفسه، وعلى أيّ حال، توصل هذه الأخبار مجتمعةً إلى اطمئنانٍ نسبيّ بحصول هذه الظاهرة. نعم نعترف أنّ كثيراً من هذه الروايات لا تكفي لإثبات هذا الأمر إذا جرّدناها من المؤيّدات والشواهد المشار إليها.

 
4-بكاء بعض أجزاء الكون 
 
ورد في رواياتٍ عدّة أنّ السماء والأرض وغيرهما من أجزاء الكون بكت على الحسين عليه السلام بعد استشهاده. وكثرة الروايات التي تتضمّن هذه المعاني تحول دون الشكّ في صدورها وتحقّق مضمونها. ولكنّ المهمّ هو تحديد المعنى المراد من هذا البكاء في هذه الروايات. ولا يقتصر ورود هذا المعنى في روايات أهل البيت عليهم السلام ، بل ورد هذا المعنى في روايات أهل السنّة أيضاً.
 
وفي الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام يُشار عادةً إلى الآية 29 من سورة الدخان التي تتحدّث عن عدم بكاء السماء والأرض على هلاك فرعون وقومه، وهي قوله تعالى: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾1. وتتحدّث هذه الطائفة من الروايات عن حالاتٍ أخرى بكت فيها السماء والأرض، عبر التاريخ، على بعض الأشخاص، كبكائهما على يحيى بن زكريّا عليه السلام ؛ ومن ذلك ما يرويه جعفر بن محمّد بن قولويه القمّي (المحدّث الإماميّ المعروف)، في كتابه كامل الزيارات؛ حيث يعنون أحد أبواب كتابه بعنوان: "بكاء السماء والأرض على قتل الحسين ويحيى بن زكريّا عليه السلام "، ويروي فيه سبعاً وعشرين روايةً2. وفي بابٍ  
 
 
 

1- الدخان: 29.
2-كامل الزيارات، مصدر سابق، باب28، ص179ـ188.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
126

119

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 آخر من أبواب كتابه يروي تسع روايات تحت عنوان: "بكاء جميع ما خلق الله على الحســـــين عليه السلام "، وفي ثالـــــث يــروي، تحـــت عنــوان: "بـــكاء المـــلائكــة علـــى الحسين عليه السلام " عشرين روايةً، وأخيراً يروي عشــر رواياتٍ في بابٍ بعنوان: "نَوْح الجنّ على الحسين عليه السلام ". 1

 
وفي الرواية الثانية من الباب الثامن والعشرين، يروي بسنده عن إبراهيم النخعيّ: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام خرج فجلس في المسجد واجتمع أصحابه حوله، وجاء الحسين عليه السلام حتّى قام بين يديه، فوضع يده على رأسه فقال: يا بنيّ إنّ الله عيّر أقواماً بالقرآن، فقال: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾، وأيم الله ليقتُلُنَّك بعدي ثمّ تبكيك السماء والأرض. 2
 
يُستفاد مــــن هـــــذه الرواية أنّ جميعَ ما في السماوات والأرض يبكي الإمام الحسين عليه السلام بعد استشهاده. وقد ورد هذا المعنى بصورةٍ أوضح، في روايةٍ مفصّلةٍ عن الإمام الصادق عليه السلام يقول فيها مخاطباً زرارة: "يا زرارة إنّ السماء بكت على الحسين عليه السلام أربعين صباحاً بالدم، وإنّ الأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد، وإنّ الشمس بكت أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، وإنّ الجبال تقطّعت وانتثرت، وإنّ البحار تفجّرت، وإنّ الملائكة بكت أربعين صباحاً على الحسين عليه السلام..." 3
 
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام يقول فيها: "إنّ أبا عبد الله عليه السلام لمّا مضى بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهنّ وما بينهنّ، وما يتقلّب في الجنّة والنّار من خلق ربّنا، وما يُرى ولا يُرى بكى على أبي عبد الله إلّا ثلاثة أشياء لم تبكِ عليه...، لم تبكِ عليه البصرة، ولا دمشق، ولا آل... 4
 
وفي رواية عن أبي بصير عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "بكت الإنس والجنّ والطير والوحش على الحسين عليه السلام ، حتّى ذرفت دموعها".5
 
 
 

1-المصدر نفسه، ص165، 171 و 189، الأبواب26، 27 و 29.
2-كامل الزيارات، ص180، باب28، ح 2.
3-كذا في الأصل ويبدو أنّ الرواية تدلّ على بكاء السماء والأرض وليس على بكاء جميع ما فيهما. (المترجم)
4-المصدر نفسه، ص167، باب26، ح 8.
5-المصدر نفسه، ص167، باب26، ح7.
6-المصدر نفسه، ص165، باب26، ح1.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

120

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 وعن الإمام الصادق في روايـــةٍ يقول فيها، بعد الإشــــارة إلــــى قولــه تعــالى: ﴿لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا﴾: "لم تبكِ السماء إلّا عليهما أربعين صباحاً. فقال الراوي: ما بكاؤها؟ قال: كانت تطلع حمراء وتغرب حمراء".1

 
وفي روايةٍ عن فاطمة بنت عليّ، تقول فيها: "وأبصر الناس الشمس على الحيطان حمراء كأنّها الملاحف المعصفرة، إلى أن خرج عليّ بن الحسين عليه السلام بالنسوة وردّ رأس الحسين إلى كربلاء". 2
 
وفي روايةٍ عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام يقول فيها: "بأبي وأمّي المقتول بظهر الكوفة، والله كأنّي أنظر إلى الوحوش مادّة أعناقها إلى قبره من أنواع الوحش، يبكونه ويرثونه ليلاً حتّى الصباح، فإذا كان ذلك فإيّاكم والجفاء.3
 وفي الرواية المعروفة عن ابن شبيب عن الإمام الرضا عليه السلام يتحدّث فيها عن بكاء السماوات والأرضين السبع على الإمام الحسين عليه السلام.4
 
إذاً، وبناء على ما مرّ، لم يقتصر الحديث عن هذه الظاهرة على الإخبار عنها بعد وقوعها، بل في بعض الروايات حديث عنها قبل وقوعها، ففي روايةٍ أنّ الناس قالوا لأبي ذرّ عند نفيه إلى الربذة: "يا أبا ذرّ أبشر فهذا قليل في الله تعالى"! فقال: ما أيسر هذا! ولكن كيف أنتم إذا قتِل الحسين بن عليّ عليه السلام قتلاً؟ والله لا يكون في الإسلام، بعد قتل الخليفة، أعظم قتيلاً منه، وإنّ الله سيسلّ سيفه على هذه الأمّة لا يغمده أبداً... وإنّكم لو تعلمون ما يدخل على أهل البحار وسكّان الجبال في الغياض والآكام وأهل السماوات من قتله، لبكيتم والله حتّى تزهق أنفسكم..."5
 وفي روايةٍ أخرى مشابهةٍ في المضمون ينقل ميثم التمّار عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "ولقد أخبرني أنّه يبكي عليه كلّ شيء حتّى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحر، والطير في السماء، ويبكي عليه الشمس والقمر والنجوم والسماء والأرض، 
 
 
 
 

1-قطب الدّين الراونديّ، قصص الأنبياء، ص222، ح292.
2-محمّد بن علي بن بابويه الصدوق القمّي، الأمالي، مصدر سابق، ص231ـ232.
3-كامل الزيارات، مصدر سابق، ص165، باب26، ح3.
4-محمّد بن عليّ بن بابويه الصدوق القمّي، عيون أخبار الرضا ج2، ص268.
5-كامل الزيارات، مصدر سابق، ص153، باب23، ح15.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

121

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 ومؤمنو الإنس والجنّ، وجميع ملائكة السماوات والأرضين، ورضوان ومالك وحملة العرش..."1

 
وفي مصادر أهل السنّة روايات مشابهة المضمون لهذه الروايات التي مرّت الإشارة إليها، ومن ذلك ما يرويه السيوطيّ، بعد إشارته إلى عجز القلب عن تحمّل تفاصيل ما حصل في كربلاء، يقول: "ولمّا قتِل الحسين مكثت الدنيا سبعة أيّام والشمس على الحيطان كالملاحف المعصفرة، والكواكب يضرب بعضها بعضاً. وكان قتله يوم عاشوراء، وكُسِفت الشمس ذلك اليوم واحمرّت آفاق السماء ستّة أشهر بعد قتله، ثمّ لا زالت الحمرة ترى فيها بعد ذلك. ولم تر فيها قبله".2
وقد أشار عدد من الشعراء إلى هذه الظواهر في شعرهم، ومن ذلك، قول الشاعر العربيّ المعروف السيّد الحميريّ:
بَكـــــــتِ الأَرضُ فَقــــــدَه وَبَكَتْــــــــه             باحمِـــــرارٍ لــــــهُ نَـــــواحِـــــي السّـــــــــَماءِ               
بَكـــــتا فَقــــدَه أربعـــــينَ صَبــــاحاً                كُــــلَّ يَـــومٍ عنـــدَ الضُّحى والمســــــاءِ 3
 
 
وفي ما أنشده بعض الشعراء من غير الشيعة إشارة إلى هذا المعنى، كما في الشعر المنسوب إلى المعرّي، حيث يقول:
وعلى الدهرِ من دماءِ الشهيـــديــــنِ          علـــــــــــيٌّ ونجـــــلُـــــــه شــــاهــــــــدان
وهُـــما فــــــي أواخــرِ الليــلِ فجْـــرانِ             وفــــــي أوليـــــــــاته شفــــــــــــقــــــان4
 
 
ويقول سليمان بن قتّة العدويّ شعراً:
مـررت علــى أبــيات آل محمّــــــــــد                   فلــــم أر أمــــــــثالـــــــها يــــــوم حلّــــــت                  
ألم تـر أنّ الشمس أضحت مريضةً                لفقـد الحســين والبلاد اقشعرّتِ 5
 
 
 

1-محمّد بن عليّ بن بابويه الصدوق القمّي، علل الشرايع، ج1، ص228، ح3.
2-جلال الدّين السيوطيّ، تاريخ الخلفاء، ص207.
3-مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق ، ج 3 ص 213.
4-مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق ، ج 3 ص 213.
5-مثير الأحزان ، مصدر سابق ، ص 88.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

122

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 دراسة الروايات السابقة


إنّ كثرةَ الروايات التي تتضمّن هذا المعنى، تمنع الباحث من التشكيك في أصل حدوث هذه الظاهرة بعد مقتل الحسين عليه السلام ، أضف إلى ذلك أنّ بعض هذه الروايات صحيحة السند بمقاييس علماء الحديث والرجال. ولكن لا بدّ من دراسة مضمون هذه الروايات والبحث فيها من جهاتٍ عدّة:

أوّلاً: إنّ مدّة بكاء الكائنات على الحسين عليه السلام بعد شهادته، تختلف من روايةٍ إلى أخرى. ففي بعض الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام يُشار إلى البكاء دون تحديدِ وقتٍ له، وفي بعضها يُشار إلى سنة، وبعضها يتحدّث عن أربعين يوماً، وهذه الطائفة من الروايات هي الأكثر بين الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام. وأمّا الروايات المنقولة عن أصحاب الأئمّة عليهم السلام فإنّ روايتي أبي ذرّ وميثم التمّار، لا تتضمّنان الإشارة إلى وقتٍ محدّد، ورواية فاطمة بنت عليّ تقيّد ذلك بخروج السبايا وإعادة رأس الحسين عليه السلام إلى كربلاء. وتتنوّع روايات أهل السنّة، بين: عدم التقييد بزمان، وبين التقييد بمدّة محدّدة تتراوح بين الأيّام، والشهر، والأربعين يوماً، وثلاثة أشهر، وتسعة أشهر والسنة.

ونقول، في تفسير الاختلاف في المدّة، إنّ هذه الظاهرة لا شكّ في كونها أوضح وأشدّ ظهوراً كلّما اقتربــــنا مـــن زمـــن الحادثة الأصل التي هي مقتل الإمام الحسين عليه السلام ، وبعض الحوادث كالكسوف والرياح الحمراء والسوداء، وإمطار السماء للدم والرماد، قد حصلت بعد القتل مباشرة. مثلاً في بعض الروايات حديثٌ عن احمرار الشمس في الأيّام الأولى من شهادته عليه السلام "كالعلقم"، وفي بعضها إشارة إلى تشبيهها بـ "وردة كالدّهان"، وفي بعضها بالملاحف المعصفرة؛ ولم تستمرّ هذه الظاهرة في الأيّام اللاحقة. فالسيوطيّ مثلاً يتحدّث عن سبعة أيّام، كانت الشمس فيها كالملاحف المعصفرة، ثمّ يتحدّث عن احمرار آفاق السماء ستّة أشهر بعد قتله عليه السلام ، وينتهي إلى أن هذه الحمرة بقيت ترى في السماء بعد ذلك. ولا بدّ من الالتفات إلى وجود فرق بين الحمرة في الأيّام السبعة الأولى، وفي الأشهر الستّة الأولى، وبين الحمرة بعد ذلك.

ثانياً: الأمر الآخر الذي يجدر بنا التوقّف عنده تجاه هذه الظاهرة الواردة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

123

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 في الروايات، هو بيان مصاديق الباكين على أبي عبد الله عليه السلام. وتكشف دقّة التعبير عن أنّ هذه الحادثة كان لها أثرها على مساحة الوجود كلّه. والتعبيرات الواردة في الروايات تتنوّع، على النحو الآتي: بكاء السماوات والأرضين السبع وما بينها، الشمس، النجوم، ما يُرى وما لا يُرى، الجنّة، النّار، أركان السماوات، البحار وسكّانها، السمك في أعماق البحار، الجبال، الغابات والصخور، الأشجار وأفنانها، ملائكة السماء والأرض، وحوش الفلوات، مؤمنو الإنس والجنّ، رضوان، مالك، حملة العرش، الكعبة، مقام إبراهيم، والمشعر الحرام.

 
وهذا الأمر عندما يُنسَب إلى الملائكة أو إلى الإنس أو الجنّ، لا يبدو مثيراً للتساؤل؛ ولكن عندما يُنسَب إلى الكائنات غير العاقلة، يطرح السؤال حول كيفيّة بكاء هذه الكائنات وهي لا تعقل ولا عاطفة لديها تدعوها إلى البكاء؟ فهل يُحمل ما ورد في هذه الروايات، على الاستعارة والكناية والتمثيل؟ أم يمكن تفسيرها بمعنى حقيقيّ؟
 
وبالنظر إلى صعوبة فهم كيفيّة بكاء الكائنات غير العاقلة، فقد قام بعضهم بتوجيهها بالقول إنّه: فُسِّر بكاء السماوات والأرض ببكاء أهلها. ويرى آخر أنّ البكاء المشار إليه هو تعبير كنائيّ (مجازي). وقال آخرون إنّ هذا التعبير هو تعبير أدبيّ كان رائجاً ومتعارفاً في ذلك الزمان، وهو موروث من الجاهليّة، حيث كانوا يستخدمون مثل هذه العبارات في رثاء أمواتهم.1
 
هذا ولكنّ قوله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾2  وقوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾وغير ذلك من الآيات التي يتحدّث فيها سبحانه عن تسبيح الكائنات غير العاقلة له، كلّ ذلك يكشف عن أنّ هذه الكائنات تتوفّر على نوعٍ من الشعور، فلماذا لا يحدث فيها ما يدلّ على تأثّرهـــــا بشهـــادة مثل الحســـين عليه السلام ، نعم بكاء كلّ شيء بحسبه، كما أنّ تسبيح كلّ شيء بحسبه. 
 
 
 

1-محمّدي ري شهري، دانشنامه امام حسين، ج10، ص229.
2-الإسراء:44.
3-الجمعة:1.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

124

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 وبكاء هذه الكائنات في حالات خاصّة، كما دلّت الروايات على انحصار هذه الحالة بالبكاء على الحسين وعلى يحيى، يكشِف عن عظمة هاتين الشخصيّتين، مع الالتفات إلى أنّ ما ورد حول يحيى لا يتحدّث عن تأثر عالم الوجود الماديّ كلّه بقتله. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الروايات تتحدّث عن بكاء بعض الكائنات لموت المؤمن، ففي رواية عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "ما من مؤمنٍ إلّا وله في السماء بابان باب ينزل منه رزقه وباب يدخل منه كلامه وعمله، فإذا مات فقداه فبكيا عليه." 1

 
5-بكاء الأنبياء والملائكة وعزاؤهم
 
وإذا كانت أجزاء عالم الوجود بأسرها قد بكت الإمام الحسين عليه السلام ، فليس غريباً أن يبكي على مصيبته العظيمة الأنبياء والملائكة ومؤمنو الجنّ. وهذا الأمر يُستفاد أيضاً من رواياتٍ كثيرةٍ وردت في المصادر الإماميّة كما في المصادر الإسلاميّة الأخرى. وهذا ما سوف نشير إليه في ما يأتي من دراستنا هذه. يروي ابن قولويه القمّي، بسنده إلى أبي بصير، أنّه قال كنت عند أبي عبد الله عليه السلام أحدّثه، فدخل عليه ابنه فقال له: مرحباً، وضمّه وقبّله، وقال: حقّر الله من حقّركم وانتقم ممّن وَتَرَكم، وخذَل الله من خذَلَكم ولعَن الله من قتلَكم، وكان الله وليّاً وحافظاً وناصراً، فقد طال بكاء النساء وبكاء الأنبياء والصدّيقين والشهداء وملائكة السماء. ثمّ بكى، وقال: يا أبا بصير إذا نظرْتُ إلى وُلد الحسين أتاني ما لا أملكه بما أتى إلى أبيهم وإليهم...".2
 
ويـــروي ابن قولويه أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام حديثاً ورد فيــه: "وإنّ فــــاطمـــة عليها السلام إذا نظرت إليهم ومعها ألف نبيّ وألف صدّيق، وألف شهيد، ومن 
 
 
 

1-محمّد بن نعمان المفيد، أوائل المقالات، ص223؛ السيّد المرتضى، الأمالي، ج1، ص39؛ محمّد بنعيسى الترمذيّ، السنن، ج5، ص57؛ أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسيّ، مجمع البيان، ج9، ص109؛ محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج79، ص181 و ج100، ص25.
2-كامل الزيارات، مصدر سابق، ص169، باب26، ح9.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
132

125

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 الكروبيّين ألف ألف يسعدونها على البكاء...".1

 
وتوجد روايات أخرى كثيرة تتضمّن الحديث عن بكاء الملائكة في مصادر عدّة2. وقد ورد هذا المعنى في خطبة للإمام السجّاد عليه السلام في مجلس يزيد، يقول فيها: "أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء..." وكرّر المضمون نفسه في خطبة أخرى له عليه السلام عند دخول أسرى أهل البيت وسباياهم إلى المدينة: "أيّها القوم!... فأيّ رجالاتٍ منكم يسرّون بعد قتله، أم أيّ عينٍ تحبس دمعها وتضنّ عن انهمالها؟ فقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار والسماوات والأرض والأشجار والحيتان، والملائكة المقرّبون وأهل السماوات أجمعون"4.
 
وفي رواية عن أبي حمزة الثماليّ عن أبي عبد الله الإمام الصادق عليه السلام: "لما قتِل جدّي الحسين عليه السلام ضجّت الملائكة إلى الله تعالى بالبكاء والنحيب، وقالوا إلهنا وسيّدنا أتغفل عمّن قتل صفوتك وابن صفوتك، وخيرتك من خلقك، فأوحى الله (عزَّ وجلّ) إليهم: قرّوا يا ملائكتي فوعزّتي وجلالي لأنتقمنّ منهم ولو بعد حينٍ..." 5.
 
كما يروي ابن قولويه رواياتٍ عدّة عن الإمامين الباقر والصادق عليه السلام ، يتحدّثان فيها عن جلوس الملائكة على قبر الحسين عليه السلام شعثاً غبراً، وعن أنّهم يستغفرون لزوّاره ويدعون لهم6. وفي إحدى الروايات عن صفوان الجمّال عن الإمام الصادق عليه السلام ، يقول صفوان: سألته في طريق المدينة ونحن نريد مكّة، فقلت: يا ابن رسول الله ما لي أراك كئيباً حزيناً منكسراً؟ فقال: لو تسمع ما أسمع لشغلك عن مسألتي. قلت: فما الذي تسمع؟ قال: ابتهال الملائكة إلى الله (عزَّ وجلّ) على قتلة أمير المؤمنين وقتلة الحسين عليه السلام ، ونَوْح الجنّ وبكاء الملائكة الذين حوله وشدّة 
 
 


1-المصدر نفسه، ص178، باب27، ح19.
2-المصدر نفسه، باب27 ، وينقل صاحب كامل الزيارات عشرين روايةً تحت عنوان:"بكاء الملائكة على الحسين بن عليّ ".
3-مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص305.
4-مثير الأحزان، مصدر سابق، ص91؛ عليّ بن موسى بن طاووس، اللهوف، ص؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص148
5-محمّد بن عليّ بن بابويه الصدوق القمّي، علل الشرايع، ج1، ص160؛ وللاطلاع على روايةٍ عن الإمام الصادق ، مشابهة في المضمون لما هو مذكور أعلاه، انظر:(الكلينيّ، الكافي، ج1، ص534، ح19.)
6-كامل الزيارات، مصدر سابق، باب27.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

126

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 جزعهم، فمن يتهنّأ مع هذا بطعامٍ أو بشرابٍ أو نومٍ...". 1

 
6-بكاء مؤمني الجنّ وحزنهم
 
ورد في عددٍ من الروايات أنّ مؤمني الجنّ شاركوا بقيّة الموجودات في عالم الوجود الحزن على الإمام الحسين عليه السلام ، وما زالوا يفعلون. ويُستفاد هذا المعنى من قول الإمام الصادق عليه السلام في رواية سبقت منّا الإشارة إليها، حين يقول: "جميع ما خلق الله"؛ فإنّ هذه العبارة تشمل الجنّ وتنطبق عليهم2. وفي رواية أبي بصير عن الإمـــام الــــباقر عليه السلام:"بكت الإنس والجنّ والطير والوحش على الحسين بن عليّ عليه السلام حتّى ذرفت دموعها"3.
 
وفي رواياتٍ غير هاتين الروايتين، ورد عن بعـــض الناس أنّ الجنّ يبكون الحسين عليه السلام وينوحون عليه، وممّن ذكر ذلك أمّ سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، التي قالت مرّة: "ما سمعت نوح الجنّ منذ قبض اللهُ نبيَّه إلّا الليلة، ولا أراني إلّا وقد أُصِبت بابني الحسين، قالت: وجاءت الجنيّة منهم وهي تقول:
 
أيــا عينيَّ فانهمـــــــلا بجهــــــدِ               فمـــن يبــكي علـــى الشهـداء بعدي                  
علـى رهــطٍ تقـودهم المنـايا                   إلى متجـــبّر مـن نسـل عبـــدِ4             
 
ويعقد ابن قولويه فصلاً في كتابه "كامل الزيارات" تحت عنوان: "نوح الجنّ على الحسين"، يروي فيه عشر روايات، منها هذه الرواية السابقة التي ينقلها عن أمّ سلمة. وفي المصادر التاريخيّة والحديثيّة السنيّة نماذج من هذا النمط من الروايات، ومن ذلك رواية أبي جناب الكلبيّ، الذي يقول: "ثمّ أتيت كربلاء، فقلت لرجلٍ من أشراف العرب بها: بلغني أنّكم تسمعون نوح الجنّ، فقال: ما تلقى 
 
 
 

1-المصدر نفسه، باب28، ح23.
2-المصدر نفسه، ص166، باب 26، ح6.
3-المصدر نفسه، ص165، باب26، ح1.
4-في الشعر إشارة إلى فتح مكة وتحرير الأسرى المشركين ورحمة النبي ورأفته بهم (المصدر نفسه، ص 189، باب 29 ، ح1 ، القاضي النعمان التميمي المغربي، شرح الأخبار ج3، ص 167، ح7. 11 ، ابن أبي الدنيا كتاب الهواتف ص 87 


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

127

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 أحداً، إلّا أخبرك أنّه قد سمع ذلك، قلت: فأخبرني ما سمعت أنت. قال: سمعتهم يقولون:

 
مســــحَ الرســــولُ جبـــــيــــنَــــــهُ         فـــــلــه بريـــقٌ فــــي الخــــــــــدودْ           
أبــواه مـــــن عُلـــــــــيا قريـــــش          وجـــــــــــدّه خيـــر الجـــــــدودْ1 
 
ويروي بعض الأشخاص أنّهم سمعوا هاتفاً يهتف بعد شهادة الحسين عليه السلام ، في بعض المناطق ويقول شعراً في رثائه عليه السلام ، ويذكر رواة هذه الوقائع أنّهم لم يعرفوا مصدر الصوت، وربّما يكون صاحب الصوت من الجنّ أو من الملائكة. ومن ذلك ما يرويه ابن قولويه عن رجلٍ من أهل بيت المقدس يقول: "والله لقد عرفنا أهل بيت المقدس ونواحيها عشيّة قتل الحسين بن عليّ  عليه السلام ..." إلى أن يقول: "وسمعنا منادياً ينادي في جوف الليل، يقول:
 
أترجــــو أمّــــةٌ قتــــلت حسيــنا         شفــــــــاعـــةَ جــدّه يـــــوم الحســـــاب 
مــعاذ اللـــه لا نلـــــتم يقيــــــناً          شفاعــــةَ أحمـــدٍ وأبــــــــي تــــــــــراب               
قتلـتم خيـر مـن ركــب المطايا         وخيــــر الشيــــــــب طراً والشباب2  
 
5-  بكاء الحيوانات وحزنها
 
أشرنا سابقاً إلى رواية الحارث بن الأعور عن أمير المؤمنين عليه السلام حول بكاء وحوش الفلوات والحيوانات؛ لشهادة أبي عبد الله عليه السلام. وتوجد روايات أخرى غير هذه الروايات تتضمّن المعنى نفسه، بل فيها إنّ هذه المخلوقات تبقى في حالة حزنٍ دائم ومستمرّ. ومن ذلك رواية السكونيّ عن الإمام الصادق عليه السلام ، والمنقولة في المصادر الشيعيّة المعتبرة: قال: "اتّخذوا الحمام الراعبيّة في بيوتكم، فإنّها تلعن قتلة الحسين بن عليّ  عليه السلام ، ولعن الله قاتله".3
 
وفي رواية مشابهةٍ عن داود بن فرقد يقول فيها: "كنت جالساً في بيت أبي عبد 
 
 
 

1-الذهبي، تاريخ الإسلام، ج5 ، ص 17 - 18. 
2-كامل الزيارات، مصدر سابق، ص165، باب26، ح3.
3-الكلينيّ، الكافي، ج6، ص548، ح13؛ كامل الزيارات، مصدر سابق، ص198، باب30، ح1؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص213، ح32.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

128

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 الله عليه السلام فنظرت إلى الحمام الراعبيّ يقرقر طويلاً. فنظر إليّ أبو عبد الله عليه السلام ، فقال: يا داود أتدري ما يقول هذا الطير؟ قلت: لا والله جعلت فداك، قال: تدعو على قتلة الحسين بن عليّ  عليه السلام  فاتّخذوه في منازلكم".1

 
والأغرب من ذلك هو ما ينقل في البوم. فقد روى ابن قولويه بسنده عن الحسين بن أبي غندر، أنّ الإمام الصادق عليه السلام سأل أصحابه عن البومة، فقال: "هل أحد منكم رآها بالنهار؟ قيل له: لا تكاد تظهر بالنهار ولا تظهر إلّا ليلاً، قال: أمَا أنّها لم تزل تأوي العمران أبداً، فلمّا أن قتِل الحسين عليه السلام آلت على نفسها أن لا تأوي العمران أبداً، ولا تأوي إلّا الخراب، فلا تزال نهارها صائمةً حزينةً حتّى يجنّها الليل، فإذا جنّها الليل فلا تزال ترنّ على الحسين عليه السلام حتّى تصبح".2
 
وفي رواية أخرى عن ابن قولويه بسندٍ إلى عليّ بن صاعد البربريّ (القيّم على قبر الإمام الرضا عليه السلام ) قال حدّثني أبي، قال: دخلت على الرضا عليه السلام ، فقال لي: ترى هذه البوم ما يقول الناس؟ قال: قلت جعلت فداك جئنا نسألك، قال فقال: هذه البومة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم تأوي المنازل والقصور والدور، وتسقي وترجع إلى مكانها، فلمّا قُتِل الحسين عليه السلام خرجت من العمران إلى الخراب والجبال والبراري، وقالت: بئس الأمّة أنتم، قتلتم ابنَ بنت نبيّكم، ولا آمنكم على نفسي."3
 
5-  تبدُّلُ الأشياءِ التي نُهِبت من حرم الإمام الحسين‌ عليه السلام وعياله بعد شهادته
 
تتحدّث بعض الروايات عن تبدّل الأموال والأشياء التي نهبت من مخيم الإمام الحسين عليه السلام بعد شهادته، إلى أشياء لا قيمة لها لمن نهبها، وفي ذلك لفتٌ لهم إلى فظاعة ما أقدموا عليه. وبعض هذه الأخبار وردت في المصادر الشيعيّة إلّا أنّ كثيراً منها، بل الأكثر ورد في المصادر السنيّة مثل تاريخ دمشق وغيرها. وربّما يحلو لبعض 
 
 
 

1-الكليني، الكافي، ج6، ص547، ح10؛ ابن قولويه، كامل الزيارات، مصدر سابق، ص198، باب30، ح2.
2-كامل الزيارات، مصدر سابق، ص199، باب31، ح1.
3-المصدر نفسه، ح2.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
136

129

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 الناس تكرار الكلام الذي تقدّم آنفاً، حول كون الهدف من هذه الروايات لفت أنظار الناس عن حقيقة واقعة كربلاء وإشغالهم بمثل هذه الغرائب والعجائب، ما يدعو إلى الشكّ في كلّ ما ورد عن هذا النوع من الأحداث. وقد تقدّم الجواب عن هذا الاحتمال، وأنّ هذه النظرية في تفسير ورود هذا النوع من الروايات لا يمكن قبولها، والصحيح أن نقول: إنّ هذه الوقائع الخارقة للعادة والتي توضع في خانة العجائب وغرائب الحوادث، لم تترك مجالاً لكتمانها حتّى لمن هو مخالف للإمام الحسين وأهل البيت عامةً عليهم السلام ؛ خصوصاً وأنّ هذه الحوادث كانت بمنزلة الوعيد والإنذار بالعقاب المترتّب على هذه الجريمة، وقد حلت في المناطق التي يقطنها المخالفون لأهل البيت عليهم السلام وظهرت في تلك الأمكنة أكثر من غيرها، وبالتالي فمن الطبيعيّ أن يروي مثل هذه الوقائع أشخاص مثل ابن عساكر وغيره ممّن حاول جمع مثل هذه الوقائع والشهادات. وعلى أيّ حال، سوف نستعرض بعض هذه الروايات، ونحاول تحليل دلالتها ودراستها.

 
أ‌-     الغنائم المشتعلة ناراً
 
تفيد بعض الروايـــات الــواردة حول الغنائم التي نهِبت من مخيّم الإمام الحسين عليه السلام ، أنّها تحوّلت إلى شعلةٍ من النّار، حين أراد من وصلت إلى أيديهم، الاستفادة منها. ومن هذه الروايات ما يرويه يزيد بن هارون عن أمّه عن جدّته، أنّها قالت:
"إنّنا أوتينا بلحمِ جزور من إبل الحسين بن عليّ عليه السلام ، فوضعته تحت سريري، وذهبت أنظر فإذا هو يتوقّد ناراً." 1
 
ويروي الطبرانيّ، عن أبي حميد الطحّان، قال:
"كنت في خزاعة، فجاؤوا بشيء من ترِكة الحسين، فقيل لهم ننحر أو نبيع، فنقسم؟ قال: فجلس على جفنة، فلمّا وضعت فارت ناراً."2
 
 
 

1-القاضي النعمان التميميّ المغربيّ، شرح الأخبار، ج3، ص165، ح1096.
2-سليمانبنأحمد الطبرانيّ، المعجم الكبير، ج3، ص121؛ ابنعساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين ، ص366، ح308.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

130

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 وتوجد غير هاتين الروايتين، روايات أُخَر تشتمل على مضامين مشابهة، يجدها المتتبّع في مصادر السنّة والشيعة1

 
ب- مرارة لحم الأبل وتحوّلها إلى دم
 
ورد في الروايات المنقولة في المصادر الشيعيّة والسنيّة، أنّ بعض الناس أغاروا على مخيّم الإمام الحسين عليه السلام بعد استشهاده، وممّا نهبوه في هذه الغارات الإبل، ثمّ إنّهم بعد نحْر هذه الإبل وطبْخها صارت مرّة الطعم كالعلقم، على حدّ تعبير بعض الأخبار2. وفي رواية أخرى أنّ الجمل الذي حمِل عليه رأس الإمام عليه السلام صار طعمه أمرّ من الصبر3
 
ويروي الهيثميّ في مجمع الزوائد، عن أحد المقاتلين في كربلاء: "لمّا قتل الحسين انهبت جزوراً من عسكره، فلمّا طُبِخت فإذا هي دم".4
 
ج- تبدّل الدراهم والدنانير والذهب إلى حجر ونحاس 
 
ويروي ابن شهر آشوب فيقول: وفي أثر عن ابن عبّاس أنّ أمّ كلثوم قالت لحاجب ابن زياد: ويلك هذا الألف درهم خذها إليك واجعل رأس الحسين أمامنا على الجمال... ليشتغل الناس بنظرهم إلى رأس الحسين عنّا. فأخذ الألف وقدّم الرأس فلمّا كان الغد أخرج الدراهم، وقد جعلها الله حجارةً سوداً على أحد جانبيها: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾5  وعلى الجـــانب الآخر: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾6.
 
وأمّا ابن نما، فيروي عن بعض مشايخ طيّ أنّ شمر ابن ذي الجوشن وجد في 
 
 
 

1-انظر: ابن معين، تاريخ ابن معين، ج1، ص361، ح2435؛ القاضي النعمان التميميّ المغربيّ، شرح الأخبار، ج3، ص541، ح1095 و 1096؛ الزرنديّ الحنفيّ، نظم درر المسمطين، ص220؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص302، ح3 و ص310، ح12.
2-الطبرسيّ، إعلام الورى، ج1، ص430؛ ابنعساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين ، ص367؛ ابن حمزة الطوسيّ، الثاقب في المناقب، ص337؛ الذهبيّ، تاريخ الإسلام، ج5، ص16.
3-مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص218؛ ابن نما الحلّي، مثير الأحزان، ص63.
4-الهيثميّ، مجمع الزوائد، ج9، ص196.
5-إبراهيم: 42.
6-مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص217.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

131

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 رحل الحسين عليه السلام ذهباً فدفع بعضه إلى ابنته، فدفعه إلى صائغ يصوغ منه حليّاً، فلمّا أدخله النّار صار نحاساً، وقيل ناراً. 1

 
د- مصير الوَرْس والزعفران المنهوب
 
ورد في عددٍ من الروايات أنّ الزعفران أو الوَرْس وغيره من المواد أو النباتات المطيّبة التي نهِبت من معسكر الحسين عليه السلام وحرمه، لم يهنأ ناهبوها بها، بل تحوّلت إلى رمادٍ أو دمٍ، وأنّ الذين أكلوا منها أو استعملوها أصابهم البرص، وكان يحرقهم من شدّة الإحساس بحرارته. ومن ذلك ما يروى عن ابن الحاشر، قال: كان عندنا رجل خرج على الحسين ثمّ جاء بجمل وزعفران، فكلّما دقّوا الزعفران صار ناراً، فلطخت امرأته على يديها فصارت برصاً2. وفي رواياتٍ أخر أنّ الوَرْس المنهوب من حرم الإمام الحسين عليه السلام ، صار رماداً.3
 
6-    العقوبات الدنيويّة العجيبة التي حلّت بجُناة كربلاء
 
وردت روايات عدّة في المصادر الشيعيّة والسنيّة، تحكي عن نزول عقوباتٍ دنيويّة عجيبة، بحقّ قتلة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء. وما يدعونا إلى تصديق مثل هذه الأمور العجيبة، هو كثرة هذه الروايات، وتماميّة أسانيد عددٍ منها من جهة، وانسجام مضمونها مع السنن الإلهيّة (المستفادة من الآيات والروايات) من جهة أخرى، فهذا بمجموعه يجعلنا نقبل مثل هذه الظواهر. ولا يضرّ هذه الروايات ضعفُ سندِ بعضِها، ولا غرابة مضمون بعضها الآخر والذي سنتجنب نقله ها هنا. وسوف نتابع، باختصار وقدر الإمكان، نقل الأخبار التي تكون بالكامل من نوع العقوبات، وذلك ضمن طوائف:
 
 
 

1-مثير الأحزان، مصدر سابق، ص63.
2-محمّد بن الحسن الطوسيّ، الأمالي، ص727، ح1528؛ مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص215؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص302.
3-شرح الأخبار، مصدر سابق، ج3، ص 166، ح1097؛ محمّد بن سليمان الكوفيّ، مناقب أمير المؤمنين ، ج2، ص 263، ح 728.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

132

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 أ‌-     الإصابة بأمراض غريبة، ونقص بعض الأعضاء، وتغيّر ملامح الوجه

 
تدلّ بعض الروايات المعتبرة على أنّ كلّ من كان في معسكر يزيد ضدّ الإمام الحسين عليه السلام ، أصيب بالجنون أو الجذام أو البرص، وغير ذلك من الأمراض التي تذكر في هذه الروايات1. ومن هذه الروايات ما ورد حول جنون جابر بن زيد الأزديّ الذي سلب عمامة الإمام الحسين عليه السلام2.وقد مرّ، في ما سبق من هذه المقـــالة، أنّ بعض من استخدم الوَرْس والزعفران المنهوب من حرم الإمام الحسين عليه السلام ، أصيب بالبرص. ومن ذلك أيضاً ما ورد عن إصابة من نهب ملابس الإمام عليه السلام بالبرص وتغيّر ملامح وجهه وسقوط شعره.3
 
وورد أيضـــاً أنّ يـــدي أبجـــر بـــن كعـــب الــذي سلب بعض ملابس الإمام الحسين عليه السلام ، كانتا في الشتاء تنضحان الماء وفي الصيف تيبسان كأنّهما عودان، وفي رواية أخرى: كانت يداه تقطران في الشتاء دماً.4
 
كما ورد أيضاً أنّ بعض من شارك في منع الماء عن حرم الإمام الحسين عليه السلام ، أو أظهر الشماتة بالإمام عليه السلام ، أصابته دعوة الإمام بمرض الاستسقاء (العطش). ومن ذلك أنّ رجلاً من عسكر عمر ابن سعد قال للإمام عليه السلام: "يا حسين! لن تذوق من الفرات قطرةً حتّى تموت، أو تنزل على حكم الأمير." فقال له الإمام عليه السلام: "اللهم اقتله عطشاً، ولا تغفر له أبداً"، فغلب عليه العطش، فكان يعبّ المياه، ويقول: واعطشاه، حتّى تقطّع.5
 
وفي روايةٍ أنّه لمّا رماه الدارميّ بسهم، فأصاب حنكه جعل يتلقّى الدم ثمّ يقول: هكذا إلى السماء، فكان هذا الدارميّ يصيح من الحرّ في بطنه والبرد في ظهره، بين يديه المراوح والثلج، وخلفه الكانون والنّار، وهو يقول: اسقوني! فيشرب العس 
 
 
 

1-انظر: كامل الزيارات، مصدر سابق، ص131، باب17، ح8؛ شرح الأخبار، مصدر سابق، ج3، ص169، ح1114
2-مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص215؛ مثير الأحزان، مصدر سابق، ص57؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص301.
3-مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص215.
4-المصدر نفسه، ص214.
5-المصدر نفسه،.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
140

133

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 ثمّ يقول: اسقوني أهلكني العطش! حتّى انقدّ بطنه1.

 
وقد أصيب بعض هؤلاء بنقص عضوٍ أو قطعه. مثلاً: يروي ابن عساكر في تاريخ دمشق: جاء رجل يبشّر الناس بقتل الحسين، فرأيته أعمى يُقاد2. وسوف نعرض لاحقاً لرواية عبد الله بن رباح القاضي التي تدلّ على أنّ شخصاً آخر ممّن شارك في قتل الإمام الحسين عليه السلام ، أُصيب بالعمى. ويُروى أنّ سنان بن أنس افتخر بين يدي الحجّاج، ووصف قتْلَهُ الإمامَ الحسينَ عليه السلام ، بأنّه "بلاء حسن"، ثمّ رجع إلى منزله فاعتقل لسانه وذهب عقله، فكان يأكل ويحدث في مكانه.3
 
كما أنّ بعض المشاركين في قتال الإمام الحسين عليه السلام ، ابتلاهم الله، مضافاً إلى سواد وجوههم الباطنيّة، بسواد أصاب ظاهر وجوههم. ومن ذلك هذه الرواية التي يرويها القاسم بن الأصبغ بن نباتة، حيث يقول: "قدِم علينا رجل من بني دارم ممّن شهد قتل الحسين عليه السلام مسودّ الوجه وكان رجلاً جميلاً شديد البياض، فقلت له ما كدت أعرفك لتغيّر لونك. فقال: قتلت رجلاً من أصحاب الحسين يُبصَر بين عينيه أثر السجود وجئت برأسه...، ثمّ قال: ما نمت ليلةً منذ قتلته إلّا أتاني في منامي حتّى يأخذ بكتفي، ويقول انطلق فينطلق بي إلى جهنّم فيقذف بي فأصيح. قال فسمعت بذلك جارة له، فقالت: ما يدعنا ننام شيئاً من الليل من صياحه، قال: فقمت في شباب من الحيّ، فأتينا امرأته فسألناها، فقالت: قد أبدى على نفسه قد صدقكم. وممّا فعله هذا الرجل أنّه حمل رأس الشهيد الذي علّقه على رأس الفرس وهو يضرب ركبتيها.4
 
 وينقل ابن عطيّة، عن جدّه قوله: "كنّا نمرّ ونحن غلمان زمنَ خالد على رجلٍ في الطريق جالس، أبيض الجسد أسود الوجه، وكان الناس يقولون: خرج على الحسين عليه السلام ".5
 
 
 
 

1-المصدر نفسه، ص214؛ ابن نما، مثير الأحزان، ص53؛ الطبريّ، ذخائر العقبى، ص144؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص301.
2-ابنعساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين ، ص356، ح294.
3-ابنعساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين ، ص368.
4-محمّد بن عليّ بن بابويه الصدوق القمّي، ثواب الأعمال، ص218-219.
5-محمّد بن الحسن الطوسيّ، الأمالي، ص727، ح1529؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص308، ح7، ج45، ص323، ح17.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

134

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 ب- النّار في الدنيا والرؤى المخيفة

 
من العقوبات التي أصاب الله بها الذين شاركوا في القتال في عاشوراء، ابتلاؤهم بالنّار في الدنيا قبل نار جهنّم في الآخرة. ومن هذه الروايات ما يُنقَل في المصادر الروائيّة والتاريخيّة، عن حاجب ابن زياد، أنّه قال: دخلت القصر خلف عبيد الله بن زياد حين قتِل الحسين فاضطرم في وجهه ناراً، فقال: هكذا بَكَمَه على وجهه، فقال: هل رأيت؟ قلت: نعم. فأمرني أن أكتم ذلك1. وهذه الرواية رغم أنّها لا تتّصف بصحّة السند بالنظر إلى راويها، إلّا أنّ ضعف سندها لا يضرّ بإمكان تصديقها؛ لأنّها مؤيّدة بغيرها من الروايات، مضافاً إلى أنّ مضمونها يشبه الإقرار على النفس؛ لأنّ راويها من أعداء الإمام عليه السلام وليس له مصلحة في الكذب، أو دافع يدعوه إلى ذلك.
 
ومن الروايات اللافتة في هذا المجال، ما يرويه الشيخ الطوسيّ، في أماليه، عن محمّد بن سليمان، وهو عن عمّه، قال: "لمّا خفنا أيّام الحجّاج، خرج نفرٌ منّا من الكوفة مستترين، وخرجت معهم فصرنا إلى كربلاء وليس بها موضع نسكنه، فبنينا كوخاً على شاطئ الفرات وقلنا نأوي إليه. فبينا نحن فيه إذ جاءنا رجلٌ غريب، فقال: أصير معكم في هذا الكوخ الليلة فإنّي عابر سبيل. فأجبناه وقلنا غريب منقطع به. فلمّا غربت الشمس وأظلم الليل أشعلنا، فكنّا نشعل بالنفط، ثمّ جلسنا نتذاكر أمر الحسين ابن عليّ عليه السلام ومصيبته وقتله ومن تولّاه، فقلنا: ما بقي أحد من قتلة الحسين إلّا رماه الله ببليّة في بدنه. فقال ذلك الرجل: فأنا قد كنت في من قتله، والله ما أصابني سوء له، وإنّكم يا قوم تكذبون. فأمسكنا عنه، وقلّ ضوء النفط، فقام ذلك الرجل ليصلح الفتيلة بإصبعه، فأخذت النّار كفّه، فخرج ونادى حتّى ألقى نفسه في الفرات يتغوّص به، فوالله لقد رأيناه يدخل رأسَه في الماء والنّار على وجه الماء، فإذا أخرج رأسَه سَرَت النّار إليه فتغوّصه إلى الماء، ثمّ يخرج فتعود إليه، فلم يزل ذلك دأبه حتّى هلك2.
 
 
 

1-سليمان بن أحمد الطبرانيّ، المعجم الكبير، ج3، ص112، ح2831؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص309، ح11.
2-محمّد بن الحسن الطوسيّ، الأمالي، ص163، ح269، شرح الأخبار، مصدر سابق، ج3، ص544، ح1114؛ الخوارزميّ، مقتل الحسين ، ج2، ص110، ح43؛ ابنعساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين ، ص371، ح313؛ الطبريّ، ذخائر العقبي، ص145؛ مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص216.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
142

135

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 وقد ظلّت جريمة قتل الإمام الحسين عليه السلام تلاحق القتلة القساة، حتّى في منامهم، فتحوّل نومهم وأحلامهم إلى كوابيس مزعجة، تنبئ عن مآلهم وعاقبتهم بعد الموت. ومن النماذج التي تندرج في هذا الإطار، ما يرويه عبد الله بن رباح القاضي، عندما سُئِل عن سبب عماه، فقال: "كنت حضرت كربلاء وما قاتلت فنمت فرأيت شخصاً هائلاً، قال: أجب رسول الله، فقلت: لا أطيق، فجرّني إلى رسول الله، فوجدته حزيناً وفي يده حربة وبُسِط قدّامه نطع، وملك قبله قائم في يده سيف من النّار يضرب أعناق القوم وتقع النّار فيهم فتحرقهم، ثمّ يحيون ويقتلهم أيضاً هكذا، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، والله ما ضربت بسيف ولا طعنت برمح ولا رميت سهماً، فقال النبيّ صلى الله عليه واله وسلم: ألست كثّرت السواد، فسلّمني وأخذ من طست فيه دم فكحّلني من ذلك الدم، فاحترقت عيناي فلمّا انتبهت كنت أعمى".1

 
ج- تسليط الحيوانات 
 
لمّا كان الوجود كلّه خاضعاً لإرادة الله، وكلّ أجزائه جنوده سبحانه وتعالى، فإنّ بعض الجناة الذين شاركوا في القتال ضدّ الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، نالوا عقابهم بوساطة بعض الحيوانات. وهو ما سوف نعرض له في هذا القسم من المقالة. ومن ذلك ما يُنقَل في المصادر السنيّة والشيعيّة، عن عمارة بن عمير التميميّ، حول رأس ابن زياد بعد قتله على يد المختار.
 
يروي الترمذيّ في سننه: "لمّا جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه، نضدت في المسجد في الرحبة، فانتهيت إليهم وهم يقولون قد جاءت قد جاءت، فإذا حيّة قد جاءت تخلل الرؤوس حتّى دخلت منخريْ عبيد الله بن زياد، فمكثت هنيهة ثمّ خرجت فذهبت حتّى تغيّبت، ثمّ قالوا قد جاءت قد جاءت، ففعلت ذلك مرّتين أو ثلاثاً"2. وفي رواية الشيخ الطوسيّ في الأمالي، قال الراوي: "رأينا حيّةً بيضاءَ تخلّل الرؤوس حتّى دخلت 
 
 
 

1-مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص216؛ ابننما، مثير الأحزان، ص61؛ عليّ بن موسى (ابن طاووس)، اللهوف، ص81؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص306؛ ويروي القاضي النعمان التميميّ المغربيّ، في: شرح الأخبار، ج3، ص171، ح1120 هذه الرواية بشيء من الاختصار عن جوير بن سعيد.
2-الترمذيّ، السنن، ج5، ص325، ح3869؛ مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص218؛ يحيى بن حسن (ابن البطريق)، العمدة، ص404؛ أبو الفداء إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية، ج8، ص315؛ محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص305.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

136

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 في أنف ابن زياد وخرجت من أذنه، ودخلت في أذنه وخرجت من أنفــه"! ويكمل الشيخ الطوسيّ فينقل أنّ المختار أرسل بعض رؤوس قتلة الحسين عليه السلام إلى محمّد بن الحنفيّة، ثمّ وصلت بعد نقلها من مكانٍ إلى مكانٍ إلى ابن الزبير، "فوضعه رأس ابن زياد على قصبة، فحرّكتها الريح فسقط، فخرجت حيّة من تحت الستار فأخذت بأنفه، فأعادوا القصبة فحرّكتها الريح فسقط فخرجت الحيّة فأزمت بأنفه، فعل ذلك ثلاث مرّات. فأمر ابن الزبير فألقي في بعض شعاب مكّة 1

 
وفي مورد آخر يروى أنّ أحد الحاضرين في كربلاء وكان اسمه "عبد الله بن حويزة"3  سأل عن الحسين عليه السلام فقال مخاطباً بعض الحاضرين في كربلاء: أفيكم حسين؟ فقال: من أنت؟ قال: أبشر بالنّار. فقال: بل ربّ غفور شفيع مطاع، قال: من أنت؟ قال: ابن حويزة، فقال الإمام: اللهمّ جرّه إلى النّار. فذهب فنفر به فرسه على ساقيه فتقطع فما بقي من غير رجليه في الركاب4. وفي رواية أخرى، أنّه قال له: "اللهمّ جُرّه إلى النّار وأذقه حرّها في الدنيا قبل مصيره إلى الآخرة". فنفر به فرسه إلى خندق فيه نار، فرماه فيهن واحترق، فسجد الإمام الحسين عليه السلام سجدتي الشكر5
 
وروِي أنّ الإمام الحسين قال في كربلاء: "اللهمّ إنا أهل بيت نبيّك وذريّته وقرابته، فاقصم من ظلمنــا وغصبنا حقّنا إنّك سميع قريب."، فقال محمّد بن الأشعث، وهو أحد المشاركين في كربلاء، وكان في الخبث كأبيه: "وأيّ قرابةٍ بينك وبين محمّد؟ فقرأ الحسين عليه السلام قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾6 ثمّ قال عليه السلام: "اللهمّ أرني فيه في هذا اليوم ذلّاً عاجلاً. فبرز ابن الأشعث للحاجة فلسعته عقرب...، فسقط وهو يستغيث ويتقلّب على حدثه"7
 
 
 
 

1-محمّد بن الحسن الطوسيّ، الأمالي، ص242.
2-وهذا المورد وربّما المورد اللاحق، قد حصل قبل شهادة الإمام الحسين، ولكن لغرابتهما نذكرهما في هذا السياق.
3-وقيل في اسمه: ابن جويرة، وابن جوزة، وابن خوزة.
4-لحافظ بن عبد الله بن محمّد (ابن أبي شيبه)، المصنف، ج8، ص40ـ41، ح17؛ حسين بن عبد الوهاب، عيون المعجزات، ص57؛ مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص214؛ محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص301؛ وانظر: محمّد بن يوسف الصالحي الشاميّ، سبل الهدي والرشاد، ج11، ص79.
5-مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص214.
6-آل عمران:33 و34.
7-مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص215؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص302.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
144

137

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 د- قصر العمر وقلّة التوفيق في الدنيا

 
تتحدّث الروايات الواردة حول القتلة أو المشاركين في قتل الإمام الحسين عليه السلام أنّه بعد تلك الفاجعة العظيمة قد نقص الكثير من أعمارهم وحرموا من الاستفادة ممّا كانوا يرجونه ويتمنونه بقتل الإمام عليه السلام ، ولم يحالف التوفيق كثيرين منهم. فقد روِي أنّ الإمام عليه السلام قال لعمر بن سعد: "... أما أنّه يقرّ عيني ألّا تأكل من برّ العراق بعدي إلّا قليلاً!" فقال مستهزئاً: "يا أبا عبد الله، إنّ في الشعير خلف." 2 
 وما حصل بعد أحداث عاشوراء يؤكّد صحّة توقّع الإمام الحسين عليه السلام ، حيث قتله المختار، قبل أن تقرّ عينه بنيل حلمه القديم، ملك الريّ3
 
وعن يزيد نفسه يحدّثنا أحد الرواة فيقول: "فوالله لقد عوجل الملعون يزيد ولم يتمتّع بعد قتله، ولقد أخذ مغافصة بات سكراناً وأصبح ميتاً متغيّراً كأنّه مطليٌّ بقار..." 4
 
وأقدم عددٌ من المجرمين الطامعين في متاع الدنيا، على الإغارة على معسكر الإمام الحسين عليه السلام ، طمعاً بنيل شيء ممّا كان مع الإمام أو مع أهل بيته، فابتلاهم الله بالفقر وما نالوا ما أرادوا. ومن ذلك ما يُروَى حول رجل اسمه مالك بن اليسر أتى الحسين بعدما ضعف من كثرة الجراحات، فضربه على رأسه بالسيف وعليه برنس من خزّ، فقال الإمام عليه السلام: لا أكلت ولا شربت وحشرك الله مع الظالمين، فألقى البرنس من رأسه فأخذه الكنديّ فأتى به أهله، فقالت امرأته: أسلب الحسين تدخله بيتي؟! اخرج فوالله لا تدخل بيتي أبداً، فلم يزل فقيراً حتّى هلك. 5
 
 الوقائع المتعلّقة بجسد الإمام عليه السلام وتربته الطاهرة
 
وردت في عددٍ من الروايات بعض الوقائع والأحداث الخارقة للعادة المرتبطة 
 
 
 

1-الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص132؛ ابنعساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج45، ص48؛ الإربليّ، كشف الغمّة،ج2، ص218؛ الذهبيّ، تاريخ الإسلام، ج5، ص195.
2-مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص213؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص300، ح1.
3-الطبريّ، تاريخ الطبريّ، ج4، ص531-532.
4-كامل الزيارات، مصدر سابق، ص131ـ132، باب 17، ح8؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص309، ح10.
5-مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص215؛ ابن الدمشقيّ، جواهر المطالب، ص287؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص302.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

138

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 بجسد الإمام الحسين عليه السلام ، أو بتربته الطاهرة، ومزاره الشريف. وهذه الروايات مقبولة على نحو الإجمال؛ لأنّها منقولة بطرق متنوّعة، وبعضها ينتهي سنده إلى الأئمّة المعصومين عليهم السلام ، وقد تكرّرت الوقائع التي تتحدّث عنها هذه الروايات في عصور مختلفة، يمتدّ بعضها إلى عصرنا هذا، وذلك كلّه من الشواهد المؤيّدة لمضامين هذه الروايات. هذا ولا ننفي وجودَ بعض الروايات الضعيفة السند، في هذا الصنف الذي نتحدّث عنه، أو بعض المضامين التي يصعب تصديقها، إلّا أنّنا في غنىً عن نقلها، والاستناد إليها.

 
أ‌-     تكلّم الرأس الشريف وقراءته القرآن
 
هناك عدد من الروايات تتحدّث عن سماع صوت القرآن من رأس الإمام الحسين عليه السلام ، في الكوفة والشام وكذلك خلال مسير قافلة السبايا والرؤوس من الكوفة إلى الشام. ومن هذه الروايات ما يرويه زيد بن أرقم عن سماعه قراءة القرآن من الرأس الشريف في أزقّة الكوفة: "مرّ به (برأس الإمام) عليّ وهوعلى رمح، وأنا في غرفة، فلما حاذاني سمعته يقرأ: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾1 فقفّ والله شعري، وناديت: رأسك والله يا ابن رسول الله أعجب وأعجب." 2
 
ويروي ابن شهر آشوب، فيقول: "روى أبو مخنف عن الشعبيّ، أنّه صلِب رأس الحسين بالصيارف في الكوفة، فتنحنح الرأس وقرأ سورة الكهف، إلى قوله تعالى: ﴿إنّهم فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ فلم يزدهم إلّا ضلالاً كذا في المناقب. وفي أثر آخر أنّهم لمّا صلبوا رأسه على الشجرة سمع منه: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا‌أيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾3 وقد تكرّرت قراءة القرآن من الرأس الشريف في الشام كما في الكوفة، والآيات التي تنسب إليه قراءتها هي هذه الآيات من سورة   
 
 
 

1-الكهف:9.
2-الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص117؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص121.
3-مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص218.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
146

139

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 الكهف 1.

 
ومن الروايات المرتبطة بتكلّم الرأس الشريف في مسيرة السبايا، ما تنقله بعض المصادر على النحو الآتي: "لمّا جاؤوا برأس الحسين ونزلوا منزلاً يقال له قنّسرين، اطّلع راهب من صومعته إلى الرأس فرأى نوراً ساطعاً يخرج من فيه ويصعد إلى السماء، فأتاهم بعشرة آلاف درهم وأخذ الرأس وأدخله صومعته فسمع صوتاً ولم ير شخصاً، قال طوبى لك، وطوبى لمن عرف حرمته، فرفع الراهب رأسه وقال: يا ربّ بحقّ عيسى تأمر هذا الرأس بالتكلّم معي، فتكلّم الرأس وقال: يا راهب أيّ شيء تريد؟ قال: من أنت؟ قال: أنا ابن محمّد المصطفى، وأنا ابن عليّ المرتضى، وأنا ابن فاطمة الزهراء، وأنا المقتول بكربلاء، أنا المظلوم أنا العطشان. فسكت، فوضع الراهب وجهه على وجهه، فقال لا أرفع وجهي عن وجهك حتّى تقول أنا شفيعك يوم القيامة، فتكلّم الرأس، فقال: ارجع إلى دين جدّي محمّد، فقال الراهب: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله. فقبل له الشفاعة2.
 
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض المصادر الشيعيّة والسنيّة، تروي الخبر الآتي (قبل ذكر حادثة الراهب المشار إليها أعلاه، وفي بعضها دون الإشارة إليها): "...أنا أحد من كان في العسكر المشؤوم، عسكر عمر بن سعد عليه اللعنة، حين قتِل الحسين بن عليّ عليه السلام ، وكنت أحد الأربعين الذين حملوا الرأس إلى يزيد من الكوفة، فلمّا حملناه على طريق الشام، نزلنا على دير للنصارى، كان الرأس معنا مركوزاً على رمح، ومعه الأحراس، فوضعنا الطعام وجلسنا لنأكل، فإذا بكفٍّ في حائط الدير تكتب:
 
أتـــــرجـو أمّـــةٌ قتلـــت حسـيـــناً            شفــاعةَ جــــدّه يـــوم الحســــــابِ           
 
 
 

1-وقد روِيت هذه الرواية عن المنهال بن عمرو بطريقتين، تفيد إحداهما أنّ الرأس الشريف قرأ الآية والرجل الذي رأى المشهد علّق بقوله: "رأسك أعجب يا ابن رسول الله!"، وتفيد الأخرى أنّ شخصاً آخر تلا الآية، فأنطق الله تعالى الرأس فقال: أمري أعجب من أمر أصحاب الكهف والرقيم. انظر: ابن حمزة الطوسيّ، الثاقب في المناقب، ص333، ح 1 و2؛ وابنعساكر، تاريخ دمشق، ج60، ص370؛ والصالحي الشاميّ، سبل الهدى والرشاد، ج11، ص76.
2-مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص217.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

140

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 قال: فجزعنا من ذلك جزعاً شديداً، وأهوى بعضنا إلى الكفّ ليأخذها، فغابت، ثمّ عاد أصحابي إلى الطعام، فإذا الكفّ قد عادت تكتب مثل الأوّل:

 
فـــــلا والله ليـــس لهــم شفــــيعٌ               وهــم يـوم‌ القــيامة في العــــــــذابِ        
 
فقام أصحابنا إليها، فغابت ثمّ عادوا إلى الطعام فعادت تكتب:
 
وقد قتلوا الحســـــين بحــكم جورٍ             وخالفَ حكمُهــم حــكمَ الكتـابِ   
 
فامتنعت عن الطعام، وما هنأني أكله.1
 
ب- انبعاث النور وفوح العطر من الرأس الشريف
 
تقدّم في رواية سابقةٍ أنّ الراهب النصرانيّ اطّلع من صومعته ونظر إلى الرأس، فرأى نوراً ساطعاً يخرج مِنْ فيه ويصعد إلى السماء، وكان هذا الأمر أوّل ما شدّه للتعرّف على صاحب الرأس2. وهناك روايات أخرى تتحدّث عن الأمر عينه غير هذه الرواية التي تتحدّث عن انبعاث النور من وجهه وفمه الشريف عليه السلام. منها رواية الطبريّ التي يرويها عن امرأة خولي بن يزيد الأصبحيّ التي تقول: "... فقمت من فراشي فخرجت إلى الدار...، فجلست أنظر، فوالله ما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الأجانة ورأيت طيوراً بيضاً ترفرف حولها..."ويروي سهل بن سعد خرجت من شهرزور4 أريد بيت المقدس، فصادف خروجي أيّام قتل الحسين عليه السلام ، فدخلت الشام، فرأيت الأبواب مفتّحة والدكاكين مغلّقة والخيل مسرّجة، والأعلام منشورة، والرايات مشهورة، والناس أفواجاً قد امتلأت منهم 
 
 
 

1-قطب الدّين الراونديّ، الخرائج والجرائح، ج2، ص578؛ مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص218؛ محمّد بن سليمان الكوفيّ، مناقب الإمام أمير المؤمنين ، ص583؛ الطبريّ، ذخائر العقبى، ص145؛ البياضي العامليّ، الصراط المستقيم، ج2، ص179؛ ابن النجار، ذيل تاريخ بغداد، ج4، ص159؛ الذهبيّ، تاريخ الإسلام، ج5، ص107؛ ابنكثير، البداية والنهاية، ج8، ص218؛ ابنحاتم العامليّ، الدرّ النظيم، ص562.
2-مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص217.
3-محمّد بن جرير الطبريّ، تاريخ الطبريّ، ج4، ص348؛ ابنكثير، البداية والنهاية، ج8، ص206؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص125.
4-شهرزور: بالفتح ثمّ السكون و راء مفتوحة بعدها...، هي كورة واسعة في الجبال بين إربل وهمدان...، وأهل هذه النواحي كلّهم أكراد. وهي تقع غرب إيران الحالية. انظر: ياقوت الحمويّ، معجم البلدان، ج3 ص 375.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
148

141

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 السكك والأسواق، وهم في أحسن زينةٍ يفرحون ويضحكون. فقلت لبعضهم: أظنّ حدث لكم عيد لا نعرفه؟ قالوا: لا. قلت: فما بال الناس كافّة فرحين مسرورين؟ 

فقالوا: أغريب أنت أم لا عهد لك بالبلد؟ قلت: نعم، فماذا؟ قالوا: فتح لأمير المؤمنين فتح عظيم، قلت: وما هذا الفتح؟ قالوا: خرج عليه في أرض العراق خارجيّ، فقتله، والمنّة لله تعالى، وله الحمد. قلت: ومَنْ هذا الخارجيّ؟ قالوا: الحسين بن عليّ بن أبي طالب. قلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، قلت: الـــحســين بــن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم. وإنّ هذا الفرح والزينة لقتل ابن بنت نبيّكم، أوَمَا كفاكم قتْلُه حتّى سمّيتموه خارجياً؟! فقالوا: يا هذا، أمسك عن هذا الكلام، واحفظ نفسك، فإنّه ما من أحدٍ يذكر الحسين بخيرٍ إلّا ضرِبت عنقه. فسكت عنهم باكياً حزيناً، فرأيت باباً عظيماً، قد دخلت فيه الأعلام والطبول، فقالوا: الرأس يدخل من هذا الباب؛ فوقفت هناك وكلّما تقدّموا بالرأس كــان أشــدّ لفرحــهــم، وارتفـــعــت أصواتــهــم، وإذا برأس الحسين عليه السلام ، والنور يسطع مِنْ فيه، كنور رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فلطمت على وجهي، وقطّعت أطماري، وعلا بكائي ونحيبي... ثمّ يتابع روايته، فيقول: وكان معي رفيق نصرانيّ يريد بيت المقدس، وهو متقلّد سيفاً تحت ثيابه، فكشف الله عن بصره، فسمع رأس الحسين، وهو يقرأ القرآن ويقول: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾1، فأدركته السعادة وقال: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، ثمّ انتضى سيفه وشدّ به على القوم... 2
 
ومن الأمور التي تندرج في هذا السياق قضيّة فَوْح العطر من الرأس الشريف، وهو الأمر الذي تتحدّث عنه بعض الأخبار، ومنها ما ينقله ابن شهر آشوب عن وقوع مثل هذا الأمر في مجلس يزيد بحيث غطّت رائحة عطره على العطور التي كانت تفوح من المجلس! 3
 
ج- طيب رائحة تربة الإمام الحسين عليه السلام وخصوصيّتها الشفائيّة
 
 
 

1-إبراهيم:42.
2-الخوارزميّ، مقتل الحسين ، ج2، ص67، ح31؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص127ـ128.
3-مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص218؛ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص305.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

142

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 كان بعض الناس يشمّون من تربة الإمام الحسين عليه السلام رائحة زكيّةً، وقد نقل عددٌ منهم مثل هذا الأمر ودوّنه المحدّثون في كتبهم. ومن ذلك ما يرويه ابن كثير: أنّ الماء لمّا أجرِي على قبر الحسين؛ ليمحو أثره نضب الماء بعد أربعين يوماً، فجاء أعرابيّ من بني أسد فجعل يأخذ قبضةً قبضةً ويشمّها حتّى وقع على قبر الحسين، فبكى وقال: بأبي أنت وأمّي ما كان أطيبك وأطيب تربتك! ثمّ أنشأ يقول:

 
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوّه1          فطيبُ تراب القبر دلّ على القبر2      
 
وخاصيّة الشفاء في تربة قبر الإمام الحسين عليه السلام إحدى الخصائص والامتيازات التي اختص الله تعالى بها الإمام عليه السلام ، وقد دلّت على هذا المعنى روايات كثيرة ومعتبرة3. وقد شُفي الكثير من الأشخاص عبر التاريخ وحتّى عصرنا الحاضر، ببركة تراب قبره عليه السلام. ونكتفي ها هنا- كنموذج على ذلك- بذكر روايتين نقلهما الشيخ الطوسيّ في كتابه الأمالي:
 
الرواية الأولى ينقلها الشيخ في أماليه، عن شخص يقال له سالم أنّه قال: صلّيت في جامع المدينة وإلى جانبي رجلان على أحدهما ثياب السفر، فقال أحدهما لصاحبه: يا فلان، أما علمت أنّ طين قبر الحسين عليه السلام شفاء من كلّ داء، وذلك أنّه كان بي وجع الجوف فتعالجت بكلّ دواء، فلم أجد فيه عافيةً، وخفت على نفسي وأيست منها. وكانت عندنا امرأة من أهل الكوفة عجوز كبيرة، فدخلت عليّ، وأنا في أشدّ ما بي من العلّة، فقالت: يا سالم، ما أرى علّتك كلّ يومٍ إلّا زائدةً. فقلت لها: نعم.
 
 قالت: فهل لك أن أعالجك فتبرأ بإذن الله (عزَّ وجلّ)؟ فقلت لها: ما أنا إلى شيٍ أحوج منّي إلى هذا. فسقتني ماءً في قدح فسكتت عنّي العلّة، وبرئت حتّى كأن لم تكن بي علّة قط. فلمّا كان بعد أشهر دخلت عليّ العجوز، فقلت لها: بالله عليك يا سلمة، بماذا داويتني؟ فقالت: بواحدةٍ ممّا في هذه السبحة، من سبحـــة كانــت في يدها. فقلت: وما هذه السبحة؟ فقالت: إنّها من طين قبر




1-في بعض المصادر : عداوةً ، وفي بعضها الآخر : وليّه. 
2-ابن كثير الدمشقيّ، البداية والنهاية، جزء 8، ص 222.
3-كنموذج انظر: كامل الزيارات، ص465، باب 92، تحت عنوان: إنّ طين قبر الحسين شفاء وأمان.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

 


143

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 الحسين عليه السلام. فقلت لها: يا رافضيّة داويتني بطين قبر الحسين! فخرجت من عندي مغضبة ورجعت والله علّتي كأشدّ ما كانت، وأنا أقاسي منها الجهد والبلاء، وقد والله خشيت على نفسي.1

 
وينقل الشيخ الطوسيّ روايةً أخرى تدعو إلى التوقّف عندها والتأمّل في دلالتها، وخاصّة لجهة ما تشتمل عليه من الحديث عن آثار الاستهتار بتربة القبر الشريف، ويبدو أنّ احترام شيعة الأئمّة عليهم السلام ، كان يثير حنق أعداء التشيّع. وهذه الرواية ينقلها أبو موسى بن عبد العزيز عن طبيب نصرانيّ، يقول فيها: لقيني يوحنّا بن سراقيون النصرانيّ المتطبّب في شارع أبي أحمد فاستوقفني، وقال لي: بحقّ نبيّك ودينك، من هذا الذي يزور قبره قوم منكم بناحية قصر ابن هبيرة؟ من هو من أصحاب نبيّكم؟ قلت: ليس هو من أصحابه، هو ابن بنته، فما دعاك إلى المسألة عنه؟ فقال: له عندي حديث طريف. فقلت: حدّثني به. فقال: وجّه إليّ سابور الكبير الخادم الرشيديّ في الليل، فصرت إليه، فقال لي: تعال معي، فمضى وأنا معه حتّى دخلنا على موسى بن عيسى الهاشميّ، فوجدناه زائل العقل متّكئاً على وسادة، وإذا بين يديه طست فيها حشو جوفه... فقال سابور لخادم من خاصّة موسى الهاشميّ: ويحك ما خبره؟ فقال له: أخبرك أنّه كان من ساعة جالساً وحوله ندماؤه، وهو من أصحّ الناس جسماً وأطيبهم نفساً، إذ جرى ذكر الحسين عليه السلام... فقال: إنّ الرافضة لتغلو فيه حتّى أنّهم، في ما عرفت، يجعلون تربته دواء يتداوون به. فقال رجل من بني هاشم كان حاضراً: قد كانت بي علّة غليظة فتعالجت لها بكلّ علاج، فما نفعني حتّى وصف لي كاتبي أن آخذ من هذه التربة، فأخذتها فنفعني الله بها وزال عنّي ما كنت أجده.
 
 قال: فبقي عندك شيء منها؟ قال: نعم. فوجّه فجاؤوه منها بقطعةٍ فناولها موسى بن عيسى فأخذها، فاستدخلها دبره استهزاءً بمن تداوى بها واحتقاراً وتصغيراً لهذا الرجل الذي هذه تربته (يعني الحسين عليه السلام )، فما هو إلّا أن استدخلها دبره حتّى صاح: النّار النّار، الطست الطست، فجئناه بالطست فأخرج فيها ما ترى، فانصرف الندماء 
 
 
 

1-الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص319، ح648؛ مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص220.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

144

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

 وصار المجلس مأتماً، فأقبل عليّ سابور، فقال: انظر هل لك فيه حيلة؟ فدعوت بشمعةٍ فنظرت فإذا كبده وطحاله ورئته وفؤاده1 خرج منه في الطست، فنظرت إلى أمرٍ عظيم، فقلت: ما لأحدٍ في هذا صنع، إلّا أن يكون لعيسى الذي كان يحيي الموتى. فقال لي سابور: صدقت ولكن كن هاهنا في الدار إلى أن يتبيّن ما يكون من أمره. فبتّ عندهم وهو بتلك الحال ما رفع رأسه، فمات وقت السحر2

 
النتيجة
 
يتّضح ممّا تقدّم، بعد استعراضنا للروايات التي تتحدّث عن بعض الوقائع العجيبة المرتبطة بشهادة الإمام الحسين عليه السلام ، مجموعة من النقاط نوجزها في ما يأتي:
 
- إنّ واقعة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام واقعة فريدة في التاريخ ليس لها نظير في مسيرة البشريّة كلّها على مستوى الآثار والنتائج والأمور المترتبة عليها.
 
- إنّ الروايات التي استعرضناها يمكن الاستفادة والاستنباط منها بشكل جيّد، ارتباطَ أجزاء الكون بعضها ببعض، وكون هذه الموجودات ذات شعور، هذا مضافاً إلى ما يمكن استفادته، في هذا المجال، من الأدلّة القرآنيّة والروائيّة والعقليّة.
 
- عقوبة الظلم لا تقتصر على الآخرة، والآثار التي تترتّب في ذلك العالم، بل إنّ ما يجنيه الإنسان بيديه من آثام ينال عقابه في الدنيا قبل الآخرة، كما حذّر القرآن الكريم من ذلك بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾3
 
- إنّ المكانة الخاصة للإمام الحسين عليه السلام وثورته الخالدة، أضفتا على مزاره وتربته الشريفة أيضاً أثراً خاصّاً، بحيث إن الناس، على طول أدوار التاريخ، كانوا قد شاهدوا ظهور خوارق العادات والآثار العجيبة من هذا المكان المقدّس. 
 
 
 

1-لا شكّ أنّها مبالغة من الراوي لعظم ما رآه في الطست، وإلّا فلا يستقيم ما ذكره، فضلاً عن بقائه حيّاً كما هو ظاهر.فتدبّر.
2-الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص320؛ مناقب آل أبي طالب، ج3، ص220.
3-طه:124.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
152

145

محمّد بن الحنفيّة والنهضة الحسينيّة

 محمّد بن الحنفيّة والنهضة الحسينيّة 1

 
تمهيد:
 
إنّ الأحداث التاريخيّة المهمّة والمؤثّرة، بمقدار ما تكون عظيمة ومهمّة بمقدار ما يكون تأثيرها أكبر في غربلة الشخصيّات البارزة في المجتمع. فعندما تقع حادثة كحادثة عاشوراء، يتوجّه الباحثون وحتّى عامّة الناس إلى التدقيق في مواقف الأفراد سواء كانت إيجابيّة أم سلبيّة. ومن هنا كان وما زال يطرح على الباحثين في قضيّة عاشوراء السؤال الآتي: لماذا تخلّف بعض المقرّبين من الحسين بن عليّ عليه السلام عن هذه القافلة المباركة، فلم يكونوا من جملة العاشورائيّين، مع أنّه كان يتوقّع منهم أن يكونوا السبّاقين والمتقدّمين على غيرهم.
 
ومحمّد بن الحنفيّة، وهو أخو الإمام الحسين عليه السلام إحدى هذه الشخصيّات التي أثار عدم حضورها في كربلاء، سؤالاً في أذهان السائلين: لماذا غاب عن كربلاء؟ ولماذا حُرم من مرافقة أخيه؟ إنّ الإجابة عن هذا السؤال هي المحور الأساس الذي تدور حوله هذه المقالة، وفقاً لما جاء في المصادر القديمة للتاريخ الإسلاميّ.
 
نسب محمّد بن الحنفيّة
 
هو محمّد بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام المعروف بمحمّد بن الحنفيّة، من بني هاشم. أخو الإمامين الحسن والحسين  عليه السلام . إلّا أنّ والدة الإمامين الحسنين هي
 
 
 

1-عليّ غلامي دهقيّ (فريدني) أستاذ مساعد وعضو الهيئة العلميّة في جامعة العلوم الطبيّة أصفهان.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

146

محمّد بن الحنفيّة والنهضة الحسينيّة

  السيّدة فاطمة  عليها السلام  ، بينما والدة محمّد هي خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة الحنفيّة. وقد نسب إلى والدته فقيل محمّد بن الحنفيّة لتمييزه من الإمامين الهُمامين (وهما من ذريّة الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم ).

 
والدته من بني حنيفة، وهي من قبائل اليمن التي قدمت المدينة. وهناك روايتان مختلفتان حول زمان مجيئها إلى المدينة. وقد أورد البلاذريّ معتمداً على رواية للمدائنيّ أنّ الرسول صلى الله عليه واله وسلم أرسل عليّاً إلى اليمن فحصل هناك على خولة، وكانت بين بني زبيد برفقة عمرو بن معدي كرب المرتدّ. وكانت خولة من نصيب عليّ صلى الله عليه واله وسلم في حياة الرسول صلى الله عليه واله وسلم. فقال له رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إن ولدت لك غلاماً فسمّه باسمي وكنّه بكنيتي، فولدت له بعد موت فاطمة  عليها السلام  غلاماً فسماه محمّداً وكنّاه أبا القاسم1. وورد في رواية أخرى: أغارت بنو أسد بن خزيمة على بني حنيفة فسبوا خولة بنت جعفر ثمّ قدموا بها إلى المدينة في أوّل خلافة أبي بكر فباعوها لعليّ. وبلغ الخبر قومها فقدموا المدينة على عليّ فعرفوها وأخبروه بموضعها منهم فأعتقها ومهرها وتزوّجها فولدت له محمّداً ابنه. قال البلاذريّ: وهذا الخبر أثبت من خبر المدائنيّ2. وذكر بعض المؤرّخين أن خولة أسرت في عهد أبي بكر وحروب الردّة في اليمامة بيد خالد بن الوليد وكانت من نصيب عليّ عليه السلام فولدت له محمّداً3. وقد ذكر صاحب تاريخ الطبريّ هذا الرأي بعبارة "قيل"4.
 
واختار السيّد محسن الأمين هذا القول، من بين الأقوال المختلفة، وقد نصّ على أن خولة أُسِرت في زمان خلافة أبي بكر وتزوّجها عليّ عليه السلام5. مع العلم أن السيّد المرتضى علم الهدى يعتقد بأنّ خولة لم تكن أسيرة، بل كانت محرّرة لاعتناقها الإسلام.6
 
 
 

1-اعتبر ابن سعد أنّ كنيته أبو القاسم، وذكر الأندلسيّ أنّ كنيته أبو عبد الله. (ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 5، 68/ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، ص 37).
2-البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج 2، ص 200 201.
3-ابن كثير، البداية والنهاية، ج 7، ص 331/ المقدسيّ، البدء والتاريخ، ج 5، ص 74/ الذهبيّ، تاريخ الإسلام، ج 6، ص 181. 
4-الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 11، ص 628.
5-السيّد محسن الأمين، أعيان الشيعة، ج 1، ص 433.
6-المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 42، ص 108.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
154

147

محمّد بن الحنفيّة والنهضة الحسينيّة

 الموقف السياسيّ لمحمّد بن الحنفيّة في زمان الأئمّة عليهم السلام 

 
حضر محمّد بن الحنفيّة حربي الجمل وصفّين، وهما الحربان اللتان خاضهما عليّ عليه السلام في مواجهة الناكثين والقاسطين، وكان في بعض الحالات صاحب لواء.1 
وقيل لمحمّد بـن الحــنــفيــّة: أبـوك يسـمــح بـك في الـحـرب ويـشـحّ بالحـسـن والحسين  عليه السلام  فقال: هما عيناه وأنا يده والإنسان يقي عينيه بيده2. وكان الإمام عليّ عليه السلام يخشى أن يقتل محمّد في صفّين لذلك نزل بنفسه لمواجهة عبيد الله بن عمر.3
 
لا يوجد من الأخبار الكثير حول حياته بعد شهادة والده الإمام عليّ عليه السلام. كان- وكما يجب- إلى جانب أخويه الإمام الحسن عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام ولم يذكر له موقف خالفهما فيه. وجاء في بعض المصادر أنّ الإمام الحسن عليه السلام أوصى إلى أخيه الحسين عليه السلام قائلاً: يا أخي أوصيك بمحمّد أخيك خيراً فإنّه جلدة ما بين العينين، ثمّ قال: يا محمّد، وأنا أوصيك بالحسين،كانِفْه ووازره.4
 
وعندما طلب منه الكوفيّون النهوض، امتنع محمّد وتشاور في المسألة مع أخيه الحسين عليه السلام .5
 
وذكره ابن سعد فقال عنه: كثير العلم والورع6. وكتب الطبريّ واصفاً إيّاه: "وكان فاضلاً ديّناً ذا علم جم ّوورع "7. ولعلّ المؤرّخين كابن سعد يستعملون صفة الورع للذين لا يتعاطون في المسائل السياسيّة. وينسب مؤلّف الطبقات الكبرى إلى محمّد رأياً يقول فيه: ما أشهد على أحدٍ بالنجاة ولا أنّه من أهل الجنّة بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ولا على أبي الذي ولدني ، إلّا أنّ هذا الكلام لا يتناسب مع حضوره في 
 
 
 

1-بن سعد، الطبقات الكبرى، ج 5، ص 69/ الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص 147 و 149 و 174/ القمّي، تاريخ قم، ص 236.
2-الأربليّ، كشف الغمّة، ج 2، ص 235/ الذهبيّ، تاريخ الإسلام، ج 6، ص 184.
3-المنقريّ، وقعة صفّين، ص 300.
4-الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص 221.
5-ابن كثير، البداية والنهاية، ج 8، ص 161.
6-ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 5، ص 68.
7-الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 11، ص 628.
8-ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 5، ص 69.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

148

محمّد بن الحنفيّة والنهضة الحسينيّة

 الجمل وصفّين والمواقف الأخرى التي يبرز فيها النزاع السياسيّ.1

 
والعجيب أنّ صاحب الطبقات نفسه يروي بأنّ محمّداً كان يقول: وددت لو فَديتُ شيعتنا هؤلاء ولو ببعض دمي، كان على استعداد أن يقدّم روحه في سبيل الشيعة، وكان يعتبر أن أعمال الأمويّين أسرع فيهم من سيوف المسلمين.
 
قدّم المؤرّخون روايات مختلفة حول موقف محمّد بعد صلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية. يتحدّث ابن خلدون بأنّ المعارضين للصلح ذهبوا إلى محمّد وبايعوه سرّاً ليطلب الخلافة لنفسه عندما تسمح الظروف، وقد عيّن محمّد شخصاً له في كلّ مدينة2. مع العلم أنّ ابن سعد صرَّح بأن محمّداً عارض مسألة التعاون مع المعترضين، لا بل تحدّث في الموضوع مع أخيه الحسين عليه السلام3. وقد أيّد ابن عساكر قول ابن سعد4. وذكر ابن كثير أنّ محمّداً امتنع عن مساعدة ثوار المدينة في زمان خلافة يزيد حيث طلبوا منه الوقوف معهم. وعندما سألوه كيف حاربت إلى جانب أبيك؟ قال: آتوني بشبيه أبي لأحارب معه5. يعتقد الشيعة بأن محمّداً بعد حادثة عاشوراء، كان يرى بأنّ الإمامة هي لعليّ بن الحسين عليه السلام. ونقل في بعض المصادر، عن بعض الأئمّة عليهم السلام محاورة حصلت بين الإمام السجّاد عليه السلام ومحمّد ابن الحنفيّة. وقد توجّها معاً إلى الحجر الأسود طلباً للتحاكم، فأنطق الله الحجر بإمامة زين العابدين عليه السلام ، فقبل محمّد بن الحنفيّة إمامته6. وذكر محقّقو الشيعة أنّ سند هذه الرواية صحيح وفيها دلالة على إيمان محمّد واعتقاده بإمامة الإمام السجّاد عليه السلام7 . وجاء في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ محمّداً لم يمت حتّى اعترف بإمامة عليّ بن الحسين عليه السلام8. وتكتسب ردّة فعل محمّد على 
 
 
 

1-ابن سعد، الطبقات الكبرى، ص 72.
2-ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون، ج 3، ص 215 216.
3-ابن سعد، الطبقات الكبرى، الطبقة الخامسة، ج 1، ص 439.
4-ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج 14، ص 205.
5-ابن كثير، البداية والنهاية، ج 8، ص 233.
6-الكلينيّ، الكافي، ج 1، ص 348/ الفتّال النيشابوريّ، روضة الواعظين، ص 197/ الصفّار، بصائر الدرجات، ص 522، ابن بابويه، الإمامة والتبصرة، ص 62.
7-الخوئيّ، معجم رجال الحديث، ج 17، ص 55 56.
8-الصدوق، كمال الدّين وتمام النعمة، ص 36.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156

149

محمّد بن الحنفيّة والنهضة الحسينيّة

 حوادث ما بعد عاشوراء أهميّة كبيرة. فقد خالف ابن الزبير ولم يرض بالتعاون معه.

 
وعندما وصل خبر ثورة المختار إلى ابن الزبير، قام باعتقال محمّد ابن الحنفيّة وطلب منه البيعة والطاعة. والمعروف أنّ محمّداً قد واجهه بأنّ المسألة إذا كانت ذات علاقة بالخلافة فأنا أحقّ منك بها1. وقد امتنع محمّد وابن عبّاس عن بيعة ابن الزبير، فتركا مكّة متوجّهين إلى الطائف2. ويعتقد الكيسانيّة بإمامة محمّد بن الحنفيّة ويحتجّون على ذلك بأنّ عليّاً عليه السلام يوم الجمل قد دفع إليه اللواء3. وقد كان المختار هو أوّل شخص دعا الناس إلى إمامته4.كما قيل.
 
وجاء في بعض الأخبار أنّه سكن الأيلة بعد موت ابن عبّاس وتوفّي هناك5 وذكر البعض أنّه توفّي في الطائف أو المدينة6. وقد نقل الشيخ القمّي الأقوال الثلاثة من دون الترجيح بينها7. وذكروا أنّه توفّي في العام 81 أو 82 هـ ق عن عمر 65 سنة8
 
إنّ الذي لفت انتباه الباحثين والمترجمين في سيرة محمّد هو حادثتان تاريخيّتان مهمّتان: الأولى: غيابه عن كربلاء وعدم مرافقته الإمام الحسين عليه السلام، والثانية: ظهور فرقة من الشيعة تدعى الكيسانيّة وتدّعي مهدويّته. وتشكّل الحادثة الأولى موضوع هذا المقال9. وسنحاول، بدايةً، الإطلالة على رأي مؤلّفي أهل السنّة في المسألة، ونجيب عن بعض ما ينسب إليه من أمور لا واقعيّة لها، ثمّ نعرّج على رأي الشيعة، ونقدّم نقداً وتحليلاً لبعض الأسباب المحتملة لعدم مرافقته الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.
 
 
 

1-المقدسيّ، البدء والتاريخ، ج 6، ص 20.
2-الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص 264 و 309.
3-المقدسيّ، البدء والتاريخ، ج 5، ص 131.
4-الطوسيّ، اختيار معرفة الرجال، ج 1، ص 342.
5-الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص 309.
6-المسعوديّ، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج 3، ص 116/ المسعوديّ، التنبيه والإشراف، ص 273.
7-الشيخ عبّاس القمّي، منتهى الآمال، ج 1، ص 186. يقول ياقوت الحمويّ إنّ في جزيرة خارك قبراً يعتقد أهل المنطقة أنّه قبر محمّد بن الحنفيّة مع أنّ التواريخ لا تؤيّد ذلك، معجم البلدان، 2/337.
8-البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج 2، ص 201 وج 3، ص 295. 
9-كتب الحنفيّة كتاباً حول أخبار محمّد بن الحنفيّة وقد شارك فيه ثلاثة أشخاص هم أبو أحمد عبد العزيز الجلوديّ، أبو مخنف لوط ابن يحيى الأزديّ (م 157 هـ) وأبو المنذر هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ (م 206 هـ). (آغا بزرك الطهرانيّ، الذريعة، ج 1، ص 347).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157

 


150

محمّد بن الحنفيّة والنهضة الحسينيّة

أ‌.        رأي مؤلّفي أهل السنة
 
كتب بعض مؤلّفي أهل السنّة أنّ محمّداً لم يرافق الإمام الحسين عليه السلام عندما توجّه من المدينة إلى مكّة، واقترح عليه الإبتعاد عن يزيد وعن المدن، وأن يرسل رسله إلى الناس يدعوهم إليه، فإذا بايعوه دخل تلك المدينة. ولكنّ الإمام عليه السلام أجابه بأنّه ماضٍ في طريقه، فطلب منه محمّد أن يذهب إلى مكّة. فقال له الإمام: "يا أخي نصحت وأشفقت".1
 
وذكر ابن كثير أنّ الإمام الحسين عليه السلام كتب إلى أهل المدينة فالتحق به تسعة عشر شخصاً من بني هاشم في مكّة، وكان معهم محمّد بن الحنفيّة. ثمّ أظهر مخالفته التوجّه نحو العراق بعد لقائه الإمام2. وينقل الطبريّ عن أبي مخنف أن الإمام الحسين عليه السلام عندما تحرّك من مكّة إلى الكوفة، وصل الخبر إلى محمّد بن الحنفيّة في المدينة، وكان يتوضّأ فبكى بكاء ًشديداً3. وهذا يشير إلى أنّ محمّداً لم يأت إلى مكّة. ولم يكن عنده تردّد في عدم مرافقة الإمام. بالإضافة إلى ما ذكره أهل السنّة من مخالفة محمّد مرافقة أخيه، ذكروا أمراً آخر وهو أنّه لم يكتف بعدم مرافقة الإمام، بل منع أبناءه من مرافقته4. وقد رفض محقّقو الشيعة المعاصرين هذا الإدعاء لأسباب:
أولاً: لم يُذكر هكذا أمر في كتب الشيعة.
 
ثانياً: إنّ هذا الأمر لم يذكره من أهل السنّة سوى ابن عساكر والمزّي والذهبيّ. ثمّ إنّ رواية الذهبيّ والمزّي مرسلة، ولعلّهما نقلاها عن ابن عساكر، بالإضافة إلى أن أغلب رواة هذا الخبر مجهولون، حتّى إنّ ابن عساكر قد اعتبر بعضهم ضعيفاً. وهنا يجب الإشارة إلى أنّ المؤرّخين الثلاثة- كما لا يخفى على أهل البصيرة- كانوا ينقلون الأخبار عن ابن سعد بطريقة تظهر تأثّرهم الشديد بابن سعد، 
 
 
 

1-الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص 228/ ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون، ج 3، ص 26/ ابن كثير، البداية والنهاية، ج 8، ص 147- 148.
2-ابن كثير، البداية والنهاية، ج 8، ص 165.
3-الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 5، ص 349.
4-ابن كثير، البداية والنهاية، ج 8، ص 165/ الذهبيّ، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ج 5، ص 9/ المزّي، تهذيب الكمال، ج 6، ص 421/ ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج 14، ص 211.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
158

151

محمّد بن الحنفيّة والنهضة الحسينيّة

 وتظهر تعصّب الأخير للأمويّين.

 
ثالثاً: يبدو أنّ هذه الرواية من موضوعات الأمويّين الذين أرادوا تشويه صورة وحدة صفوف الهاشميّين في النهضة الحسينيّة. لذلك أساءوا إلى ابن الحنفيّة مع أنّه كان يعتقد بإمامة الحسنين عليه السلام وإمامة السجّاد عليه السلام .1إضافة إلى ما سبق معنا من الأدلّة، فإنّ بعض المؤرّخين المشهورين، أمثال الطبريّ ويتبعُه ابن الأثير، لم ينقلوا شيئاً من مسألة منع أبنائه من الالتحاق بالإمام عليه السلام بل ذكروا فقط أن محمّداً لم يرافق الإمام2. وكتب الدينوريّ أنّه بقي في المدينة ولم يذكر شيئاً من منعه لأولاده أو حديثه بأمور تؤذي الإمام3. وهذا يعني أنّه ليس ببعيد أن تكون قضيّة منع أبنائه من جملة الأمور التي أدخلها بعض المتعصّبين أمثال ابن سعد، ثمّ نقلها عنه آخرون. وممّا يؤسف له أن بعض المؤرّخين المعاصرين قد تلقّوا قضيّة منع محمّد أبناءه من الالتحاق بالإمام الحسين عليه السلام وكأنّها من المسلّمات!!.4
 
وكتب ابن الأعثــم الكـــوفيّ عــــن محمّد بن الحنفيّة أنّه اقترح على أخيه الحسين عليه السلام: أُخرج إلى مكّة فإن اطمأنّت بك الدار فذاك الذي تحبّ وأحبّ، وإن تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن فإنّهم أنصار جدّك وأخيك وأبيك، فإن اطمأنّت بك أرض اليمن وإلّا لحقت بالرمال وشعوب الجبال...5
 
ب ـ رأي الشيعة ـ اقتراحات محمّد بن الحنفيّة
 
كتب مؤرّخو الشيعة أنّ محمّد بن الحنفيّة امتنع عن مرافقة الإمام عليه السلام وقدّم له اقتراحات.
 
وذكر الشيخ المفيد أنّ محمّد بـــن الحنفــــيّة لــــم يكن يعرف أين سيذهب الإمام عليه السلام واقترح عليه الامتناع عن بيعة يزيد والذهاب إلى المدن، وأن يرسل 
 
 
 

1-الطبسيّ، الإمام الحسين في مكّة المكرّمة، ص 264 265.
2-الطبريّ، المصدر نفسه، ج 5، ص 341/ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 4، ص 16.
3-الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص 228.
4-محمّد عليّ جلونكر، محمّد بن الحنفيّة وثورة عاشوراء، ص 149.
5-ابن الأعثم الكوفيّ، الفتوح، ج 5، ص 20 21.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

152

محمّد بن الحنفيّة والنهضة الحسينيّة

 رسله إلى الناس يدعوهم إليه، فإذا قبلوا منه وبايعوه شكر الله، وإذا اجتمعوا على شخص آخر، فإنّ الله لن ينقص من دينك وعقلك شيئاً، وبهذا النحو يتمكّن الإمام عليه السلام أن يحتفظ بمروءته وفضله. وقد سأله الإمام عليه السلام: إلى أين أذهب؟ قال: أخرج إلى مكّة، فإن اطمأنّت بك الدّار بقيت فيها، وإلّا فاخرج إلى مدينة أخرى، وامتنع عن بيعة يزيد. فمحمّد كان يخالف الحركة نحو مدينة خاصّة. 1

 
وأورد الطبـــرسيّ مـــا ذكـــر المفيد أيضاً من أن محمّداً لم يرافق الإمام الحسين عليه السلام في حركته نحو العراق، وكان لا يعرف أين يتّجه الإمام عليه السلام2. وذكر بعض آخر من مؤرّخي الشيعة أنّ الإمام عليه السلام عندما تحرّك نحو الكوفة، جاء محمّد إلى مكّة وحذّر الإمام من خداع الكوفيّين لأبيه وأخيه وأخبره بأنّه يخاف عليه أن يؤول أمره إلى ما وصل إليه أمر أبيه وأخيه، فإذا بقيت في مكّة كنت أعزّ إنسان في الحرم، وسيفد الناس إليك من كلّ حدب وصوب. فأخبره الإمام عليه السلام بأنّه يخشى الإغتيال، فاقترح عليه محمّد الذهاب إلى اليمن3. ويمكن سرد وتلخيص اقتراحات وتحذيرات محمّد بن الحنفيّة في ما يأتي: الامتناع عن بيعة يزيد، مخالفة التوجّه نحو الكوفة، التحذير من خداع الكوفيّين، الإقامة في مكّة والحركة نحو اليمن أو إلى أماكن أخرى 4.
 
ج ـ أسباب عدم حضور محمّد في كربلاء.
 
ذكرت الأسباب الآتية، في مسألة عدم حضور محمّد في كربلاء:
1 ـ مرض محمّد.
2 ـ نيابته عن الإمام في المدينة.
3 ـ عدم وجود اسمه بين أسماء شهداء كربلاء في اللوح المحفوظ.
4 ـ التخلّف عن الفتح.
 
 
 

1-المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 33 35.
2-الطبرسيّ، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 1، ص 434.
3-ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 3، ص 240/ الطبسيّ، الإمام الحسين في مكّة المكرّمة، 255.
4-السيّد ابن طاووس، اللهوف على قتلى الطفوف، ص 240.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
160

153

محمّد بن الحنفيّة والنهضة الحسينيّة

 1 ـ المرض:

 
يعتقد بعض علماء الشيعة أنّ محمّد بن الحنفيّة كان مريضاً أثناء خروج الإمام الحسين عليه السلام. وقد جاء في كتاب حمل عنوان "حكاية المختار في الأخذ بالثار" والمطبوع مرفقاً باللهوف، أنّ محمّداً كان قد أصيب في يده بحيث لا يمكنه حمل السيف1. ولكن من الواضح أنّ هذا الكلام لا يعلم إن كان من جملة الفصول الأخيرة للهوف، أو أن البعض قد أضافه إليه. ويظهر من كلام بعض مترجمي اللهوف، أنّ هذا القسم من الكتاب منفصل2  عن اللهوف، وقد طبع ملحقاً به. 3
 
 لذلك لا يمكن نسبة هذا الكلام إلى السيّد ابن طاووس. ونقل أيضاً العلّامة الحلّي والفاضل الدربنديّ وحبيب الله الكاشانيّ، مسألة مرض محمّد. 4وكتب العلّامة المجلسيّ أنّ العلّامة الحلّي قد سئل عن سبب تخلّف محمّد بن الحنفيّة، فأجاب:... السيّد محمّد بن الحنفيّة وعبد الله بن جعفر وأمثالهما أجلّ قدراً وأعظم شأناً من اعتقادهم خلاف الحقّ... وأمّا تخلّفه عن نصرة الحسين عليه السلام فقد نقل أنّه كان مريضاً. 5 وذكر بعض أصحاب المقاتل، نقلاً عن ابن نما الحلّي، أنّ مرض العيون هو الذي منع محمّداً من مرافقة الإمام عليه السلام 6
 
واعتمد المامقانيّ على رواية مديح المحامدة (المحمّديّون) 7ليقول بعدالة محمّد واعتبر أنّ رواية مرض محمّد عند نهضة الإمام الحسين عليه السلام غير صحيحة، وإذا كان مرضه صحيحاً فإنّ ذلك كان بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام وعودة أهل البيت عليهم السلام إلى المدينة8، وهذا ما نقل عن لسان محمّد ابن الحنفيّة9. واعتبر 
 
 


1-ابن طاووس، اللهوف، ص 164.
2-يفهم من تعليقة عبد الرزاق المقرّم أنّ ابن نما كان لديه كتاب بهذا العنوان. المقرّم، مقتل الحسين ، ص 135.
3-السيّد ابن طاووس، اللهوف، ترجمة عقيقي بخشايشي، ص 253.
4-الطبسيّ، الإمام الحسين في مكّة المكرّمة، ص 262 263.
5-المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 42، ص 110.
6-راجع: المقرّم، مقتل الحسين.
7-جاء في رواية عن الإمام الرضا: كان أمير المؤمنين يقول: إنّ المحامدة تأبى أن يعصى الله عزَّ وجلّ. قلت من المحامدة؟ قال: محمّد بن جعفر، محمّد بن حذيفة، محمّد بن أبي بكر، ومحمّد بن أمير المؤمنين. (الشيخ الطوسيّ، اختيار معرفة الرجال، 1، 286/ بحار الأنوار 33/ 242 و ج 34/ 282). 
8-رضوي أردكانيّ، ماهيّة ثورة المختار، ص 164 165 نقلا ًعن المامقانيّ، تنقيح المقال، ج 3، ص 111 112.
9-ابن شهر آشوب، المناقب، ج 3، ص 211/ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 44، ص 185.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
161

154

محمّد بن الحنفيّة والنهضة الحسينيّة

 المامقانيّ، في عبارة أخرى، أنّ سبب عدم مجيئه إلى كربلاء هو عذر ومصلحة خاصّة1. وممّا يجدر العلم به أنّ المصادر المتقدّمة التي ذكرت الحوار الذي دار بين الإمام الحسين عليه السلام ومحمّد، لم تتحدّث عن مرضه. 

 
2-نيابته عن الإمام في المدينة
 
لم تتحدّث المصادر القديمة، كتاريخ الطبريّ وبعده كامل ابن الأثير، عن إجازة الإمام عليه السلام لمحمّد بالبقاء في المدينة، ليكون عيناً له فيها2. وأمّا المصدر التاريخيّ القديم والوحيد الذي نقل هذا الأمر فيعود إلى ابن الأعثم، وتبعه في ذلك المستوفي الهرويّ في ترجمة فتوح ابن الأعثم3. وقد ذكرت بعض المصادر المتأخّرة أنّ الإمام خاطب محمّداً قائلاً: "...وأمّا أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم في المدينة، فتكون لي عيناً لا تخفي عنّي شيئاً من أمورهم4. وأشار بعض المحقّقين المعاصرين إلى أنّ هذه الرواية توضح سبب عدم مرافقته الإمام، لأنّ محمّداً قد بقي في المدينة بأمر من الإمام5.
 
يبدو أنّه لا يمكن الاعتماد على هذه الرواية للقول بأنّ محمّداً كان مطلوباً منه البقاء. والشيء الوحيد الذي يمكن قوله أنّه، على فرض صحّة هذا الخبر، فإنّ الإمام لم يجبره على مرافقته، بعدما أظهر عدم الرغبة بذلك، فطلب منه أن يكون عيناً له في المدينة. ولو ظهر من محمّد رغبته في مرافقته، لكان الإمام قد استقبل ذلك بكلّ تأكيد.
 
 
 
 

1-رضوي، ماهيّة ثورة المختار، ص 165 نقلا ًعن المامقانيّ.
2-الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 5، ص 31 32، ج 5، ص 341 342/ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 4، ص 16 17.
3-ابن الأعثم، كتاب الفتوح، ج 5، ص 21.
4-المجلسيّ، 41، ج 24، ص 329 (نقلا ً عن تسلية المجالس وزينة المجالس للسيّد محمّد بن أبي طالب الحسينيّ الموسويّ الحائريّ) / الشيخ عبد الله البحرانيّ، العوالم، الإمام الحسين ، ص 178 179 / السيّد محسن الأمين/ أعيان الشيعة، ج 1، 588.
5-رضوي أردكاني، ماهيّة ثورة المختار، ص 170.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
162

155

محمّد بن الحنفيّة والنهضة الحسينيّة

 1-   عدم وجود اسم محمّد بن الحنفيّة في اللوح المحفوظ

 
نقل ابن شهر آشوب مسألة عن محمّد بن الحنفيّة وقد نقل الآخرون أيضاً هذه المسألة عنه حيث يقول: قال محمّد عن عدم مرافقته الإمام في كربلاء: "إنّ أصحابه عندنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم "60. وكتب المامقانيّ بأنّ الجواب الصحيح عن ذلك أنّ أصحاب الإمام الحسين عليه السلام الشهداء هم أشخاص محدودون عددهم 72 شخصاً، أوصلهم التقدير الإلهيّ إلى هذه المفخرة العظيمة وهذا ما نقل عن محمّد بن الحنفيّة. 2
 
هذا السبب هو التوجيه الذي ذكره ابن عبّاس عندما تناوله البعض سائلاً عن عدم مرافقته الإمام عليه السلام فاعتبر أنّ أصحاب الإمام عليه السلام هم هؤلاء لم يزدادوا شخصاً ولم ينقصوا آخر، وأنّنا كنّا نعرفهم بأسمائهم قبل شهادتهم3.
 
طبعاً هذا السبب غير مقبول أيضاً؛ لأنّه:
أوّلاً: إذا كان هذا العلم موجوداً فهو خاصّ بالمعصوم عليه السلام وليس لأحدٍ سواه، والآخرون قد سمعوا في الروايات بأنّ هكذا حادثة ستحصل للإمام الحسين عليه السلام ، وأمّا في ما يتعلّق بأصحابه وعددهم فهذا مجهول على الأقل عند ابن عبّاس وابن الحنفيّة.
 
ثانياً: إنّ هكذا معرفة سواء حصلت للإمام عليه السلام أو غير الإمام عليه السلام (على فرض وجودها)، فلا يترتّب عليها أيّ تكليف. والمعصومون عليهم السلام أعمّ من الأنبياء والرسل كانوا يستعينون بهذا النوع من المعرفة لإثبات النبوّة والإمامة وما شابههما من الأمور المهمّة، ولم يستفيدوا منها في الحياة العاديّة والشخصيّة، فلو أرادوا الإستفادة من هذه المعرفة وهذا العلم، في كافّة الأمور، لخرجوا عن بشريّتهم وبالتالي لن يكونوا أسوة للآخرين.
 
ثالثاً: يمكن أن يكون هذا الإدّعاء توجيهاً يقدّمه كلّ من تخلّف عن الإمام الحسين عليه السلام.
 
 


1-ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 3، ص 211/ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 44، ص 185.
2-رضوي، ماهيّة ثورة المختار، ص 165 نقلا ًعن المامقانيّ، ج 3، ص 112.
3-ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 3، ص 211/ المجلسيّ بحار الأنوار، ج 44، 185.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
163

156

محمّد بن الحنفيّة والنهضة الحسينيّة

 1-   التخلّف عن الفتح

 
لم تذكر سوى رواية واحدة عن أئمّة الشيعة عليهم السلام بهذا الخصوص. في هذه الرواية يسأل حمزة بن حمران (أو عمران) الباقر عليه السلام أو الصادق عليه السلام حول خروج الإمام الحسين وتخلّف محمّد بن الحنفيّة عن مرافقته. فقال الإمام عليه السلام: "يا حمزة إنّي سأحدّثك في هذا الحديث لا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا أن الحسين بن عليّ عليه السلام لمّا فصل متوجّهاً دعا بقرطاس فكتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن عليّ إلى بني هاشم، أمّا بعد فإنّه من لحق بي منكم استشهد، ومن تخلّف لم يدرك الفتح، والسلام. 1
 
وذكر ابن قولويه هذه الرواية أيضاً، في كامل الزيارات. وكذلك السيّد ابن طاووس نقلها بعينها في اللهوف2.
ووردت الرواية المتقدّمة، في مصادر أخرى مع بعض الإختلاف، ونقل المؤرّخون أنّ الإمام الحسين عليه السلام كتب إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة رسالة من كربلاء بهذا المضمون: "من الحسين بن عليّ عليه السلام إلى محمّد بن عليّ ومن قبله من بني هاشم. أمّا بعد، فإنّ من لحق بي استشهد ومن تخلّف لم يدرك الفتح، والسلام"3.
 
أمّا ما نقـــله ابــــن قولويه فيختلف عن العبارة المتقدّمة. فقد روى عن الإمام الباقر عليه السلام أنّ الإمام الحسين عليه السلام كتب من كربلاء إلى أخيه محمّد وبني هاشم وقال: "أما بعد فكأنّ الدنيا لم تكن وكأنّ الآخرة لم تزل. والسلام"4، وقد نقل المجلسيّ والشيخ عبد الله البحرانيّ الروايتين عن ابن قولويه5.
 
ودوّن العلامة المجلسيّ تعليقتين على الرواية الأولى:
 
أ-لم يبلغ الفتح أي لم يبلغ ما يتمنّاه من فتوح الدنيا والتمتّع بها، وظاهر هذا الجواب ذمّه، ويحتمل أن يكون المعنى أنّه عليه السلام خيَّرهم في ذلك، فلا إثمّ على من تخلّف. 
 
 
 

1-الصفّار، بصائر الدرجات، ص 501/ الحلّي، مختصر البصائر، ص 76/ ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 3، ص 228/ الطبريّ، دلائل الإمامة، ص 182.
2-كامل الزيارات، ص 157، بحار 44/ص 330 و ج 45 ص 87/ ابن طاووس، اللهوف، ص 39 40.
3-المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 45، ص 87/ البحرانيّ، العوالم، ص 155 و 196.
4-ابن قولويه، كامل الزيارات، 12، ص 158، ، المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 45، ص 87.
5-المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 45، ص 87/ البحرانيّ، العوالم، ص 55 و 156.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
164

157

محمّد بن الحنفيّة والنهضة الحسينيّة

 ب. المعنى الثاني أنّ إمكان الفتح في الدنيا والآخرة لا يكون من نصيب المتخلّف1. وأشار بعض الباحثين إلى أنّ العبارة الواردة في هذه الرواية وهي: (لم يبلغ الفتح) تشير بما لا يترك مجالا ًللتردّد أنّ من لم يلحق بالإمام فسيحرم من الفتح، سواء كان معذوراً أم غير معذور، ولا تدلّ على أن كلّ متخلّف غير معذور. ولعلّ الإمام الصادق عليه السلام أراد إرشاد المتحاورين في هذه المسألة إلى أنّ المهمّ هو الإشارة إلى أصل مهمّ وهو الحرمان من الوصول إلى نصرة الإمام الحسين عليه السلام ولم يكن في وارد توضيح سبب تخلّف محمّد بن الحنفيّة، بل من حقّ كلّ مؤمن إظهار الحسرة على حرمانه من هذا الفوز العظيم. وتحدّث باحث آخر فاعتبر أنّ رواية لم يبلغ الفتح تشير إلى أنّ المتخلّفين عن الإمام عليه السلام لن يصلوا إلى مقام الشهادة، لا أنّهم مؤاخذون ومعاقبون. 3

 
على كلّ حالٍ فإنّ عدم مرافقة محمّد لأخيه الإمام الحسين عليه السلام وحرمانه من الجهاد، سلب منه توفيقاً، أمّا الإمام عليه السلام ومن خلال تعاطيه الكريم بناءً على رواية نيابته للإمام عليه السلام فقد قبل بقاءه في المدينة، وجعل ذلك كالمسؤوليّة الملقاة على عاتق محمّد. لقد أدرك الإمام أنّه يرغب بالبقاء في المدينة، لذلك تركه ولم يكلّفه مرافقته.
 
ومع ردّ فرضيّات: مرض ابن الحنفيّة، ونيابته عن الإمام، وعدم وجود اسمه في لوح شهداء كربلاء المحفوظ، وتخلّفه عن الفتح، فقد طرحت آراء أخرى:
1- المخالفة لأيّ شكل من أشكال الثورة ضدّ الأمويّين.
2- اعتقاده بمشروعيّة حكومة الأمويّين.
3- عدم قبوله أسلوب الإمام في مواجهة الأمويّين.
4- طلبه للعافية والنجاة وعدم استعداده لمواجهة الأخطار وعدم امتلاكه فكراً ثوريّاً.
 
من بين هذه الفرضيّات الأربع فإنّ الفرضيّات الثلاث الأولى مرفوضة، لأنّ 
 
 
 

1-المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 42، ص 81.
2-الطبسيّ، الإمام الحسين في مكّة المكرّمة، ص 259 260.
3-رضوي، ماهيّة ثورة المختار، ص 169



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
165

158

محمّد بن الحنفيّة والنهضة الحسينيّة

 محمّداً قد اقترح على الإمام الحسين عليه السلام عدم بيعة يزيد، وهذا ما نقله المؤرّخون سنّة وشيعة، كما مرّ معنا سابقاً. ثمّ إنّه دعا الإمام عليه السلام للحركة والانتقال من مدينة إلى أخرى، وهذا يدلّ على اعتقاده بعدم مشروعيّة الأمويّين. وقد اقترح على الإمام التوجّه نحو اليمن، وهذا يعني أنّه لم يخالف الثورة ضدّ الأمويّين. فمن الممكن أن نصل إلى النتيجة الآتية وهي: أنّ ابن الحنفيّة لم يخالف أصل الثورة على بني أميّة، بل- كما يبدو من التحليل الظاهريّ- إنّه كان يخالف توجّه الإمام إلى العراق، والسبب في ذلك هو عدم وفائهم لأبيه وأخيه وخداعهم لهما، بينما كان الإمام الحسين عليه السلام يفكّر بأسلوب آخر. إنّ موقفه هذا من حركة الإمام هو الذي جعله يتخلّف عن الفتح، وهذا ما صرّحت به الرواية المتقدّمة. إلّا أنّه يجب الإشارة إلى أن الحديث لم يكن يجري عن الذهاب إلى العراق، منذ بداية حركة الإمام من المدينة إلى مكّة، ثمّ هو لم يرافق الإمام، وهذا يعني أنّ الخيار الثالث لا يمكن القبول به.


 والظاهر أنّ الخيار الرابع هو الأقرب إلى الحقيقة، أي أنّ محمّد بن الحنفيّة كان ينقصه التفكير الثوريّ وروحيّة مواجهة الأخطار، مع أنّه كان يعتبر حركة الإمام مشروعة، وبما أن الإمام عليه السلام لم يكلّفه ولم يلزمه مرافقته، لذلك بقي في المدينة وتقرّر أن يبعث إلى الإمام عليه السلام بكلّ الأخبار المستجدّة فيها.

النتيجة

 يظهر ممّا تقدم أنّ محمّد بن الحنفيّة أخا الإمام الحسين عليه السلام قد تخلّف عن الحضور في كربلاء. وقد ذُكر لخبر لقاء الإمام الحسين عليه السلام بمحمّد مكانان، فاعتبر البعض أنّ هذا اللقاء قد حصل في المدينة وقال البعض الآخر أنّه حصل في مكّة. وبناءً على أنّ اللقاء حصل في المدينة، فإنّ محمّداً أوصى الإمام أن ينتقل إلى مكّة، أو يرحل من مدينة إلى أخرى. وبناءً على أنّه حصل في مكّة فقد أوصى محمّد الإمامَ البقاء في مكّة، وعندما أخبره الإمام عليه السلام بأنّه يخشى الاغتيال في مكّة، ذكّره محمّد بخداع أهل الكوفة لأبيه ولأخيه. وأوصاه بالتوجّه نحو اليمن. بعد هذا الحوار ترك الإمام عليه السلام محمّداً حرّاً ليختار البقاء في المدينة أو مرافقته.

وقد ذكر الباحثون والمحقّقون أسباباً كثيــرة لتخلّف محـــمّد عــن مرافقــة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
166

159

محمّد بن الحنفيّة والنهضة الحسينيّة

 الإمـــام عليه السلام (أبرزها: مرض محمّد، نيابته عن الإمام عليه السلام، عدم وجود اسمه في صحيفة الشهداء عند الله تعالى، المخالفة لأيّ شكل من أشكال الثورة ضدّ الأمويّين، طلبه للعافية وعدم استعداده للمخاطرة بنفسه، وعدم امتلاكه للروح الثوريّة، وعدم قبوله لأسلوب وطريقة الإمام في مواجهة الأمويّين، وإعتقاده بمشروعيّة حكومة الأمويّين). وفي عقيدة الكاتب فإنّ طلب محمّد للعافية، وعدم إلقاء نفسه في الخطر، وعدم امتلاكه للتفكير الثوريّ، هي التي دفعته لعدم المشاركة في كربلاء.

 

 

 

 

 

 

 

167


160

عبد الله بن جعفر وثورة كربلاء

 عبد الله بن جعفر وثورة كربلاء1 

 
تمهيد
 
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب من جملة الشخصيّات المعروفة في التاريخ الإسلاميّ، وهو واحد من الأصحاب المقرّبين من أئمّة الشيعة الأوائل. أدرك رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وروى عنه. ويحتلّ عبد الله مكانة مرموقة لدى مؤرّخي الشيعة والسنّة حيث يذكره الجميع بمزيد من الإحترام. نُقلت عنه روايات عديدة. ومع أنّ عبد الله من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام الخواصّ والمقرّبين منه ومن الوجوه الهاشميّة البارزة، إلّا أنّه لم يشارك في ثورة كربلاء. اختلفت الآراء حول علّة عدم مشاركته في ثورة كربلاء، وهذا ما سنبحثه في هذا المقال الذي بين أيدينا.
 
المقدّمة
 
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أوّل مولود للإسلام في أرض الحبشة وأكبر أبناء جعفر الطيّار. ولد في السنة الثالثة للبعثة. كان له من العمر عشر سنوات عندما هاجر رسول الله إلى المدينة، وتوفّي عام 80 هـ ق (مع بعض الإختلافات في سنة وفاته) عن عمر ناهز التسعين عاماً ودفن في المدينة أو في الأبواء2. المشهور عن عبد الله بن جعفر أنّه شخص فاضل جواد كريم. لقب في التاريخ الإسلاميّ 
 
 


1-عبد الرضا عرب أبو زيد آبادي، حوزويّ وحائز على شهادة ماجستير في التاريخ الإسلاميّ من مؤسّسة الإمام الخمينيّ التعليميّة والتحقيقيّة.
2-يوسف بن عبد الله القرطبيّ، الإستيعاب في معرفة الأصحاب، ج 3، ص 17/ أحمد بن عليّ بن حجر العسقلانيّ، الإصابة في تمييز الصحابة، ج 4، ص 36.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
169

161

عبد الله بن جعفر وثورة كربلاء

 بـ "الجواد، وبحر الجود وقطب السخاء "1. كان محلّ احترام عند رسول الله صلى الله عليه واله وسلم والإمام عليّ لقرابته ومقام والده العظيم عندهما. وبعد شهادة والده أتى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى منزله يتفقّد أحوال أبنائه ويشملهم بعطفــه وحنــــانـــه ثمّ قــال صلى الله عليه واله وسلم: "أنا إمامهم في الدنيا والآخرة"، وقال: إنّ عبد الله شبيهي في خلقي، وقد دعا له النبيّ صلى الله عليه واله وسلم أيضاً في بعض الأيّام، قائلاً: "أللهمّ، اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه"2.  

 
كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام والأئمّة الآخرون يستشيرون عبد الله بن جعفر في الصلح والحرب حيث كان مورد ثقة عندهم. وكان في حرب صفّين أحد قادة جيش الإمام علي عليه السلام3 وهو من الشهود الذين أرسلهم الإمام عليّ عليه السلام في مسألة التحكيم. كان الإمام عليّ عليه السلام يستشيره في عزل وتنصيب القادة4. وكان إلى جانب الإمام عليّ عليه السلام عند إبعاد أبي ذرّ إلى الربذة حيث قام بتوديعه5. وأجرى الحدّ على الوليد بن عقبة بأمر من الإمام عليه السلام6. وحضر غسل وتكفين الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حيث جرى ذلك ليلاً، بعيداً عن أعين الناس ودون علمهم7.
 
وقف عبد الله إلى جانب الإمام الحسن عليه السلام بعد شهادة الإمــــام أميـــر المؤمنــين عليه السلام. وكان من جملة الأشخاص الموكلين الدفاع عن حرم أهل البيت عليه السلام عند حركة جيش الإمام نحو جيش معاوية8. أظهر في كثير من الأحيان العشق والحبّ والتعلّق بالإمام الحسين عليه السلام ، وعندما أراد معاوية خطبة ابنة عبد الله بن جعفر (أمّ كلثوم) ليزيد أجابه بأنّ لنا أميراً لا نفعل شيئاً من غير إذنه9، وبهذا 
 
 


1-يوسف بن عبد الله القرطبيّ، الإستيعاب في معرفة الأصحاب، ج 3، ص 17.
2-أحمد بن يحيى البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج 2، ص 298/ أحمد بن عليّ بن حجر العسقلانيّ، الإصابة في تمييز الصحابة، ج 4، ص 36 37.
3-ابن الأعثم، الفتوح، ج 3، ص 24/ نصر بن مزاحم المنقريّ، وقعة صفّين، ص 373.
4-نصر بن مزاحم المنقريّ، وقعة صفّين، ص 530.
5-ابن الأعثم، الفتوح، ج 2، ص 336/ الشيخ الطوسيّ، اختيار معرفة الرجال، ج 1، ص 102.
6-ابن الأعثم، الفتوح، ج 2، ص 382.
7-ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 436.
8-المصدر نفسه، ج 2، ص 445.
9-البلاذريّ أنساب الأشراف، ج 2، ص 67.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
170

162

عبد الله بن جعفر وثورة كربلاء

 النحو وضع أمر تزويج ابنته إلى الحسين بن عليّ .

 
وعبد الله بن جعفر من جملة الأشخاص الذين تمسّكوا بحديث الغدير لإثبات ولاية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وأدرج اسمه بين رواة حديث الغدير.1
 
وتدلّ مناظراته واحتجاجاته القاطعة في الدفاع عن الولاية، على إيمانه واعتقاده الكامل بالإمامة والولاية. كان لا يخشى إنساناً في قول الحقّ، وتحدّث مراراً، في مجلس معاوية، موضحاً حقانيّة أهل البيت وعدم شرعيّة حكومة بني أميّة. وقد سجّل التاريخ مناظراته العديدة مع بني أميّة2. وكانت طريقته المهمّة في العمل السياسيّ هي الإمتناع عن بيعة يزيد. وكان معاوية قد كتب له:"أمّا بعد، فقد عرفت أثرتي إيّاك على من سواك وحسن رأيي فيك وفي أهل بيتك، وقد أتاني عنك ما أكره، فإن بايعت تُشكر وإن تأب تُجبر". أجاب عبد الله: "أمّا بعد، فقد جاءني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من أثرتك على من سواي، فإن تفعل فبحظّك أصبت، وإن تأب فبنفسك قصّرت. وأمّا ما ذكرت من جبرك إيّاي على البيعة ليزيد، فلعمري لئن أجبرتني عليها لقد أجبرناك وأباك على الإسلام حتّى أدخلناكما كارهين غير طائعين".3
 
عندما انتقل معاوية، عام 50 هـ ق إلى المدينة لأخذ البيعة ليزيد، التقى بكبار القبائل وبشكل خاصّ مع بعض الشخصيّات ومنهم: عبد الله بن عبّاس، عبد الله بن جعفر، عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير. حيث دعاهم إلى البيعة ليزيد، وقد تحدّث عبد الله بن جعفر بحديثٍ قاطعٍ وحاسمٍ فضح فيه مخطّطات معاوية، ورفض إعطاء البيعة ليزيد، وأكّد على حقّانيّة أهل البيت عليهم السلام بالولاية والخلافة4. ومن هنا فإنّ المواقف السياسيّة لعبد الله ومخالفته لبني أميّة دليل واضح على اعتقاده الراسخ بضرورة مواجهة ومحاربة الأمويّين.
 
وبما أنّ عبد الله من جملة خواصّ الشيعة ومن المقرّبين إلى أهل البيت عليهم السلام ، 
 
 
 

1-الطبرسيّ، الإحتجاج، ج 2، ص 3/ عبد الحسين الأمينيّ، الغدير، ج 1، ص 199.
2-ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 6، ص 180 181.
3-الدينوريّ، الإمامة والسياسة، ج 1، ص 155 و 201/ الأمينيّ، الغدير، ج 10، ص 241. 
4-الدينوريّ، الإمامة والسياسة، ج 1، ص 149 195.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
171

163

عبد الله بن جعفر وثورة كربلاء

 فإنّ مطالعة حياته وسيرته تحوز أهميّة خاصّة. وفي هذا الخصوص أحيط عمله المتعلّق بنهضة الإمام الحسين عليه السلام بهالة من الإبهام. والحقيقة أنّ السؤال الذي ما زال يطرق أذهان الباحثين هو، لماذا لم يشارك عبد الله بن جعفر في ثورة عاشوراء ولم يلتحق بركب الإمام الحسين عليه السلام ؟ وقد قدّم الباحثون أسباباً وآراءً مختلفة في تعليل عدم حضوره كربلاء، وعدم مرافقته الإمام الحسين عليه السلام. وحاول بعضهم- من خلال شواهد تاريخيّة عدّة- تقديم إجابات بنحوٍ لا تمسّ ولا تخدش بإيمان عبد الله واعتقاده ووفائه للإمام الحسين عليه السلام. ويعتقد آخرون أنّ رأي عبد الله بن جعفر في خصوص ثورة كربلاء يختلف عن رأي الإمام الحسين عليه السلام ؛ ولذا لم يرافق الإمام عليه السلام. ويعتمد كلا الرأيين على شواهد وقرائن تاريخيّة سنتعرض لها في ما يأتي.

 
أ- الشواهد والقرائن التاريخيّة الدالّة على موافقة عبد الله على النهضة الحسينيّة.
 
1-   إرسال زوجته وأبنائه برفقة الإمام الحسين عليه السلام.
 
إنّ الذي يمكنه أن يوضح موقف عبد الله من حركة الإمام الحسين عليه السلام إرسال عائلته في قافلة الإمام عليه السلام. كيف يمكن لشخص مخالف للثورة ولا يعتقد بها أن يرسل في ركابها أعزّ الناس إليه، لا بل ويشجّعهم على ذلك؟ من المؤكّد أنّه لو كان عبد الله بن جعفر مخالفاً لثورة الإمام الحسين عليه السلام ولمواجهة بني أميّة، فإنّه لن يقدّم أبناءه قرابين في هذا الطريق، مع العلم أنّه أرسل زوجته زينب الكبرى وولديه: عوناً ومحمّداً مع ركب الإمام الحسين عليه السلام وضحّى بهم بكلّ سخاء في سبيل إمامهم.1
 
 
 

1-الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 68/ أبو مخنف، مقتل الحسين، ص 69 70/ ابن كثير، البداية والنهاية، ج 8، ص 180 181.
 أمّا الحديث أنّ زينب اشترطت للزواج من عبد الله أن ترافق أخيها في كربلاء فهذا غير موجود في المصادر التاريخيّة المعتبرة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
172

 


164

عبد الله بن جعفر وثورة كربلاء

 1-   ردّة فعل عبد الله بن جعفر بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام:

 
تشير ردّة فعل عبد الله بن جعفر، بعد سماعه نبأ شهادة الإمام الحسين عليه السلام وابنيه عون ومحمّد، إلى إيمانه واعتقاده بالثورة الحسينيّة. ويذكر المؤرّخون أنّه- بعد عودة قافلة المتبقّين من حادثة كربلاء ووصولهم إلى المدينة- أسرع أبو السلاسل وهو غلام عبد الله بن جعفر ليخبره بشهادة ابنيه. استرجع عبد الله عندما سمع النبأ. فقال الغلام: هذا ما لقيناه من الحسين. فحذفه ابن جعفر بنعله قائلاً: يا بن اللخناء، أللحسين تقول هذا؟ والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتّى أُقتل معه. والله إنّه لممّا يسخي بنفسي منهما ويهوّن عليّ المصاب بهما أنّهما أصيبا مع أخي وابن عمّي مواسيين له صابرين معه.
 
ثمّ قال: إن لم تكن آست الحسين يدي فقد آساه ولدي1. إنّ هذا الكلام لا يترك مجالاً للشكّ والإبهام حول رأي عبد الله في ثورة الإمام الحسين عليه السلام ويوضح اعتقاد عبد الله بن جعفر الكبير بثورة الإمام عليه السلام ويبيّن أيضاً معرفته بالنهضة الحسينيّة والقيم والفضائل التي تركها الشهداء. لقد تحدّث بوضوح وشجاعة حول استعداده للشهادة في ركاب الإمام الحسين عليه السلام وهذا يعني أنّ أيّ خوف أو وجل بعيد عنه.
 
2-   رسالة عبد الله بن جعفر إلى الإمام الحسين:
 
يتّضح ممّا تقدّم أصل اعتقاد عبد الله بن جعفر بالثورة ضدّ بني أميّة، ومع ذلك فإنّ من جملة الأمور التي أدّت إلى وجود إبهام في المسألة، رسالته للإمام الحسين عليه السلام يدعوه فيها لعدم الذهاب إلى العراق. بدايةً نذكر رسالة عبد الله وجواب الإمام، ثمّ نحاول دراسة وتحليل الرسالتين:
 
رسالة عبد الله إلى الإمام الحسين عليه السلام:
 
"بسم الله الرحمن الرحيم... أمّا بعد، فإنّي أسألك بالله لما انصرفت حين تقرأ كتابي هذا، فإنّي مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال 
 
 
 

1-الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 124/ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 579/ الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 357.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
173

165

عبد الله بن جعفر وثورة كربلاء

 أهل بيتك، إن هلكت اليوم طُفئ نور الأرض فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير فإنّي في أثر كتابي، والسلام".1

 
جواب الإمام الحسين عليه السلام:
"أمّا بعد! فإن ّكتابك ورد عليّ فقرأته وفهمت ما ذكرت، وأعلمك أنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في منامي فخبرني بأمر وأنا ماض له، لي كان أو عليّ، والله يا بن عمّي لو كنت في جحر هامة من هوامِّ الأرض لاستخرجوني يقتلوني، والله يا بن عمّي ليعدين عليّ كما عدت اليهود على السبت، والسلام".2
 
يُستفاد من رسالة عبد الله إلى الإمام الحسين عليه السلام مطالب عدّة:
 
1- اعتقاده بمقام الإمامة وشأنه وعظمته. ويدلّ على هذا الأمر العبارات التي ذكرها أمثال: "نور الأرض" و "علم المهتدين".
 
2- تعلّقه بالإمام ووفاؤه له حيث كان خائفاً عليه ومشفقاً من شهادته وشهادة أصحابه وأهل بيته عليهم السلام: "فإنّي مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك" وكان يخشى من الناحية الاجتماعيّة والسياسيّة على وضع العالم الإسلاميّ ومستقبله بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام ويراه عالماً مظلماً: "إن هلكت طفىء نور الأرض فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين".
 
3- طلبه من الإمام تغيير أسلوب جهاده. ويفوح من رسالة عبد الله بن جعفر للإمام رائحـة المشــاورة وإرادة الخيـر. وكما أنّ عبد الله كان يقف إلى جانب الأئمّة عليهم السلام المتقدّمين يقدّم لهم المشورة، كذلك هنا، فهو في موقع تقديم رؤيته للإمام عليه السلام حول طريقة وأسلوب الثورة التي سينطلق بها. وكان على علم دقيق بمصير حركة الإمام إلى العراق، وكان يدرك جيّداً أنّ هذه الحركة ستحمل معها شهادة الإمام عليه السلام وأصحابه. كان يخشى أن يستشهد الإمام عليه السلام فينفرط النظام فيكون العالم الإسلاميّ في مواجهة حالة فقدان الإمام والقائد الإلهيّ. لذلك عمل جاهداً على تغيير رأي الإمام في الخروج إلى العراق، وبالتالي الحؤول دون وقوع 
 
 
 
 

1-الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 291: «فلا تعجل بالسير فإنّي في أثر الكتاب».
2-الطبريّ، المصدر نفسه، ج 4، ص 292/ ابن الأعثم، الفتوح، ج 5، ص 67.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
174

166

عبد الله بن جعفر وثورة كربلاء

 تلك الحادثة الأليمة، ولو عن طريق الحوار والمصالحة بين الإمام عليه السلام وبني أميّة.

 
1-   عذر عبد الله في عدم الإلتحاق بالإمام:
 
يثبت ممّا تقدّم أصل اعتقاد عبد الله بثورة كربلاء وعشقه للشهادة في ركاب الإمام الحسين عليه السلام وتعلّقه بها، ولكن لماذا لم يحضر عبد الله بنفسه في عاشوراء ولم يرافق الإمام؟ هنا نجد أنّ التاريخ ساكت عن إبداء الرأي بحيث لا نحصل على جواب من النصوص التاريخيّة الأصليّة. طبعاً طرح المتأخرّون، في آثارهم، بعض الإحتمالات التي هي عبارة عن أعذار ساهمت في عدم مشاركة عبد الله بن جعفر في ثورة كربلاء وأهمّ هذه الأعذار:
 
1- يقول البعض: "وكان تأَخُّرَه عن حضور الطفّ ذهابُ بصره".1
 
2- الإحتمال الثاني أن يكون مكلّفاً من قبل الإمام عليه السلام بأمر ما، وكان عليه البقاء في المدينة، مثال ذلك المحافظة على بني هاشم حيث كان يتوقّع وجود مؤامرة للقضاء على بني هاشم بعد خروج الإمام وكبار بني هاشم من المدينة؛ لذلك فإنّ وجود شخصيّات مثل عبد الله بن جعفر كان بإمكانها الحؤول دون وقوع أي خطر ضدّ بني هاشم.2
 
3- كهولته، حيث كان له من العمر آنذاك سبعون عاماً، وهذا يعني أنّه لم يكن قادراً على المستوى الجسديّ، من الحضور في ساحة الجهاد.3
طبعاً الأمور المتقدّمة تعتمد على الظنّ والحدس، والشواهد التاريخيّة لا تؤيّدها. من جملة ذلك فقدان عبد الله البصر والذي لم يذكر في المصادر التاريخيّة الأساسيّة، كذلك الحال في مسألة كهولته والتي لا تعتبر مانعاً حقيقيّاً أمام مشاركته، فهو كان له من العمر حينها 71 عاماً وكان بإمكانه المهاجرة مع الإمام، وقد جاء في بعض الأخبار أنّه سافر من المدينة إلى دمشق بعد عدّة سنوات على حادثة عاشوراء. يضاف إلى ذلك أنّ جيش الإمام كان فيه أشخاص كبار في 
 
 
 

1-ابن عنبة، عمدة الطالب، ص 37، حاشية محمّد حسن آل الطالقانيّ.
2-السيّد نور الدّين الجزائريّ، الخصائص الزينبيّة، ص 194.
3-مجموعة من المحقّقين، دراسة في ثورة عاشوراء، ص 34.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
175

167

عبد الله بن جعفر وثورة كربلاء

 السنّ أمثال حبيب بن مظاهر، ومسلم بن عوسجة وأنس بن حارث و...

 
أمّا احتمال تكليفه من قبل الإمام بأمر ما فهو، وإن كان مناسباً لشخصيّته ومكانته، إلّا أنّ الشواهد والقرائن التاريخيّة لا تدل عليه. ويضاف إلى ذلك أنّه إذا ثبت بأنّ محمّد بن الحنفيّة كان مكلّفاً من قبل الإمام مراقبة أوضاع المدينة، فلا معنى بعد ذلك لتكليف عبد الله بن جعفر بذلك. طبعاً لم تثبت مسألة تكليف محمّد بن الحنفيّة بمراقبة أوضاع المدينة أيضاً، بل الإمام وافق على بقائه في المدينة وطلب منه إيصال أخبارها إليه، بعد أن رأى منه عدم استعداده لمرافقته إلى مكّة.
 
 ب ـ الشواهد والقرائن التاريخيّة الدالّة على مخالفة عبد الله للثورة الحسينيّة:
 
 هناك بعض الشواهد التي تبين أنّ عبد الله بن جعفر كان ينظر إلى أسلوب الإمام الحسين عليه السلام بعين التردّد، مع إيمانه واعتقاده بأصل مواجهة بني أميّة، ومن جملة هذه الشواهد:
 
1-   طلب الأمان من بني أميّة
 
بغضّ النظر عن الرسالة التي كتبها عبد الله بن جعفر للإمام الحسين عليه السلام، والتي يمكن أن تفسّر على أنّها نوع من معارضة قرار الإمام بالثورة، فإنّ طلبه الأمان من بني أميّة بهدف الحفاظ على أرواح وأموال وعائلة الإمام، شيء غريب.
 
جاءت رسالته للإمام وطلبه الأمان من بني أميّة بعد أن أخبر الإمام الجميع بعزمه القاطع على الخروج من مكّة إلى العراق. وكان المجتمع الإسلاميّ على علم كامل بعزم الإمام حيث تجلّى هذا الأمر في مواقف عدّة، من جملتها: كلام الإمام في مكّة، رسائله إلى رؤساء القبائل في الكوفة والبصرة، الدعوات المتتالية التي جاءت من العراق إلى الإمام، رسالة الإمام إلى محمّد بن الحنفيّة ودعوته بني هاشم إلى مرافقته ومشاركته في الثورة. بناءً على ما تقدّم فعبد الله بن جعفر بدأ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
176

168

عبد الله بن جعفر وثورة كربلاء

 نشاطه متأخّراً عن بداية نهضة الإمام الحسين عليه السلام. ويبقى السؤال الملحّ: لماذا لم يكتب رسالة للإمام ولم يبدأ نشاطه في ثني الإمام عن السفر إلى العراق، عندما كان الإمام لا يزال في المدينة، أو على الأقل في مكّة؟ ولماذا لم يشر عليه بذلك؟

 
إنّ رفض عبد الله، في مقابل تصميم الإمام عليه السلام القاطع، أمر غير قابل للفهم، فهل كان يشكّ في معرفة وعلم وعصمة الإمام عليه السلام فوقف متردّداً وعمل من ثمّ على ثنيه عن تصميمه وعزمه على الخروج؟ هذا الأمر بعيد عن عبد الله فهو كان معروفاً بأنّه من الشيعة المقرّبين للإمام عليه السلام.
 
على كلّ حال فإنّ من المسلّم به أن عبد الله بن جعفر عمل بشكل جادّ على طلب الأمان من بني أميّة للإمام الحسين عليه السلام. يكتب الطبريّ في هذا الشأن:
وصار عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد فسأله أن يكتب للحسين أماناً ويمنّيه ليرجع عن وجهه، فكتب إليه عمرو بن سعيد كتاباً يمنّيه فيه الصلة ويؤمنه على نفسه، وأنفذه مع أخيه يحيى بن سعيد، فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر، بعد نفوذ ابنيه، ودفعا إليه الكتاب وجهدا به في الرجوع فقال: "إنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأمرني بما أنا ماض له"، فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: "ما حدثت أحداً بها، ولا أنا محدّث أحداً حتّى ألقى ربّي عزَّ وجلّ".1
 
أمّا رسالة عمرو بن سعيد إلى الإمام الحسين بن عليّ، فكانت على النحو الآتي: من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن عليّ، أمّا بعد، فإنّي أسأل الله أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لمّا يرشدك، بلغني أنّك قد توجّهت إلى العراق، وإنّي أعيذك من الشقاق، فإنّي أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبل عليّ معهما، فإنّ لك عندي الأمان والصلة والبرّ وحسن الجوار، لك الله بذلك شهيد وكفيل ومراع ووكيل، والسلام.
 
وكتب إليه الإمام الحسين عليه السلام:
وأمّا بعد، فإنّه لم يشاقق الله ورسوله من دعا إلى الله عزَّ وجلّ وعمل صالحاً وقال إنّني من المسلمين، وقد دعوت إلى الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمان 
 
 
 

1-الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 291 292/ الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 69.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
177

169

عبد الله بن جعفر وثورة كربلاء

 الله، ولن يؤمن الله يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافة في الدنيا توجب لنا أمانة يوم القيامة، فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبرّي فجُزيت خيراً في الدنيا والآخرة، والسلام".1

 
نحصل، من خلال دراسة هذه الرسالة، على الآتي:
 
أوّلاً: إنّ هذه الرسالة تحتوي على مضمون غير مؤدّب تجاه مقام الإمام عليه السلام. وتوضح اللغة غير المؤدّبة التي كتبت بها الرسالة أنّها لم تكتب بيد عبد الله بن جعفر، بل لغة الرسالة تتّفق مع أسلوب وثقافة الأمويّين لأنّهم كانوا يعتبرون الخروج عن نظام يزيد الظالم يؤدّي إلى الهلاك، وهو عامل تفرقة وسبب في عدم وحدة كلمة المسلمين. وهذه الرسالة تختلف بشكل كبير عن الرسالة التي كان قد كتبها عبد الله بن جعفر إلى الإمام عليه السلام وقد مرّت معنا سابقاً، حيث أشرنا أنّ عبد الله بن جعفر اعتبر الإمام في رسالته نور الأرض، وعلم المهتدين... بينما اعتبرت هذه الرسالة الإمام عامل وسبب التفرقة، لا بل طلب عمرو بن سعيد من الله هداية الإمام من الضلال!
 
يضاف إلى ذلك: تأكيد ابن الأعثم أنّ كاتب الرسالة هو عمرو بن سعيد، وأنّ الذي حملها للإمام هو يحيى بن سعيد وحيداً حيث لم يرافقه أحد2. فإذا كان كاتب الرسالة وحاملها هو عبد الله بن جعفر كما يقول الطبريّ فلا مجال للدفاع عنه، إلّا أنّ مضمون الرسالة ولغتها لا يتناسبان مع أفكار وروحيّات عبد الله، بالإضافة إلى رفض ابن الأعثم اعتباره كاتباً وحاملا ً لها.
 
وبغضّ النظر عن مضمون ولغة الرسالة، فإنّ الذي يدعو للتأمّل هو محاولة الصلح التي قام بها عبد الله بن جعفر. فلو قبلنا بأنّ عبد الله بن جعفر هو اليد اليمنى للأئمّة عليهم السلام، بالأخصّ على مستوى المشورة، فيمكن حينها إدراج رسالته الأولى في هذا الإطار، أمّا محاولته طلب الأمان والعمل لإيجاد الصلح بين الإمام الحسين عليه السلام وبني أميّة فهي خطوة أكبر من المشاورة، لا بل هي نوع من تعيين 
 
 
 

1-الطبريّ، تاريخ الطبريّ، ج 4، ص 292.
2-ابن الأعثم، الفتوح، ج 5، ص 67 68.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
178

170

عبد الله بن جعفر وثورة كربلاء

 التكليف للإمام ووقوف في وجهه. لذلك ينبغي إمّا إنكار حادثة طلبه الأمان من بني أميّة، واعتبار ذلك من الأمور التي طالتها التحريفات التاريخيّة، أو التردّد في بصيرة عبد الله ودرايته السياسيّة. كيف يمكنه أن يطلب من عمرو بن سعيد بن العاص الأمويّ الظالم الفاسد، الأمان للإمام الحسين عليه السلام على روحه وماله ويعده بالهدايا والجوائز ليعود عن قراره؟! هل المشكلة بين الإمام عليه السلام وبني أميّة هي مجرّد عدم الأمان على المال والروح؟ وهل وعود بني أميّة بإمداده بالمال والوعود الدنيويّة يمكنها أن تصرف الإمام الحسين عن رسالته الإلهيّة؟ وما معنى الصلح مع يزيد واليزيديّين بالأخصّ، وأنّ الإمام وشيعته كانوا يفكّرون بحفظ الدّين ومواجهة الحكومة الفاسدة والمنحرفة ليزيد، ويعتبرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى من جملة وظائفهم؟ ممّا لا شكّ فيه أن سيّد الشهداء عليه السلام كان بين خيارين: إمّا مصالحة بني أميّة ومحاورتهم، وإمّا الحفاظ على دين الله وإصلاح المجتمع ونجاة الأمّة الإسلاميّة، والتي تعني الشهادة في سبيل الله. وكان جواب الإمام على رسالة عمرو بن سعيد بن العاص واضحاً في رفض كلّ أنواع التذلّل للمستكبرين. فكيف يمكن أن يقبل الإمام الأمان المذلّ الذي يقدّمه له الفاسق والفاجر والظالم والمستبدّ؟ مع العلم أنّه اعتبر في رسالته أنّ طلب الأمان من بني أميّة ما هو إلّا فقدان للأمان الإلهيّ: "فخير الأمان أمان الله"، "ولن يؤمن الله يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا". وفي نهاية رسالة الإمام نراه ينظر بعين الشكّ والتردّد إلى هذه الحيلة المشؤومة والأمان المذلّ الذي أطلق عليه عنوان الأمان: "فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبرّي...". من خلال هذه العبارة نجد أنّ الإمام يكشف القناع، أمام الملأ، عن نفاق بني أميّة للأجيال القادمة.

 
1-   روحيّة عبد الله بن جعفر في الصلح وإقامة العلاقات مع بني أميّة
 
تشير بعض الشواهد إلى أنّ عبد الله بن جعفر كان أكثر جرأة من باقي 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
179

171

عبد الله بن جعفر وثورة كربلاء

 الأصحاب، في إقامة علاقات مع بني أميّة. كان عبد الله محلّ احترام الخلفاء آنذاك بسبب موقعه الإجتماعيّ المميّز. وقد ذكروا أنّ معاوية كان يرسل له كلّ عام مليون درهم، وعندما جاء يزيد زاد المبلغ إلى مليونين1. وكانت هدايا معاوية لعبد الله تصل بعض الأحيان إلى درجة اعتراض الأمويّين. كان بنو أميّة يتحدّثون مع معاوية بأنّك تعطي عبد الله هذه المبالغ الطائلة بينما لا يتجاوز ما يصل إلينا، نحن المقرّبين، مئة ألف درهم. صحيح أنّ عبد الله- بسبب جوده وكرمه- كان يوزّع هذه الأموال بين الفقراء والمحتاجين، ولا يستعملها في شؤونه الخاصّة، إلّا أنّ الشيء الذي لا تردّد فيه أنّ عطايا معاوية لم تكن من دون أهداف خاصّة. ومن هنا، قد يصحّ القول، في خصوص العلاقات الماليّة بين معاوية وعبد الله، أنّ أحد أهداف معاوية هو إظهار عظمة عبد الله بهدف الحطّ والتقليل من شأن وقيمة أبناء عليّ عليه السلام وقد أشار معاوية في أحاديثه إلى هذا الأمر:"روى سليم بن قيس قال: سمعت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: قال لي معاوية: ما أشدّ تعظيمك للحسن والحسين، ما هما بخير منك، ولا أبوهما بخير من أبيك، ولولا أنّ فاطمة بنت رسول الله لقلت: ما أمّك أسماء بنت عميس بدونها. 

 

 
قال: فغضبت من مقالته وأخذني ما لا أملك فقلت: أنت لقليل المعرفة بهما وبأبيهما وأمّهما، بلى والله إنّهما لخير منّي...".3
 
على كلّ حال، يظهر من علاقاته مع بني أميّة وتعاطيه الدائم معهم، ذهاباً وإياباً، أنّه كانت تسيطر عليه روحيّة التساهل والتسامح على المستوى السياسيّ. وأنّه كان، مع مرور الزمان، يميل إلى الصلح والهدنة أكثر من النزاع والخصومة. لذلك نراه في وقعة الحرّة يعمل جاهداً للحؤول دون بروز الحرب حيث تحدّث آنذاك مع يزيد في المسألة فأجابه يزيد بأنّ جيشه يستعدّ للحرب مع الزبير بن العوام في مكّة، فإذا رغب أهل المدينة في العودة للطاعة، فالأمان لهم. عند ذلك 
 
 
 
 

1-البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج 2، ص 300/ ابن حجر العسقلانيّ، الإصابة، ج 4، ص 39.
2-البلاذريّ، المصدر نفسه، ج 2، ص 309.
3-الطبرسيّ، الإحتجاج، ج 2، ص 3/ العلّامة الأمينيّ، الغدير، ج 1، ص 199/ المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 33، ص 265.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
180

172

عبد الله بن جعفر وثورة كربلاء

 كتب عبد الله إلى قادة المدينة يخبرهم بطلب يزيد ولكنّهم رفضوا ذلك.1

 
وفي ما بعد أيضاً نجد عبد الله قد أخذ الأمان لعبيد الله بن قيس الرقيات2، وهو من أصحاب مصعب بن الزبير وقد أصدر عبد الملك بن مروان حكم قتله، وتشفّع له عند عبد الملك3 وقد سجّل التاريخ موارد متعدّدة تشير إلى روحيّة الصلح التي كان يعمل بها أحياناً في النزاعات الاجتماعيّة والسياسيّة، وهذا كلّه يشير إلى ميله للصلح، رغم شجاعته وطلبه للحقّ. أمّا رسائله إلى الإمام وسعيه للصلح بين الإمام عليه السلام وبني أميّة، فيشير ذلك إلى اعتقاده بالأساليب الأخرى غير الحرب والجهاد.
 
النتيجة
 
عبد الله بن جعفر الطيّار واحد من الشخصيّات المميّزة والمشهورة في التاريخ الإسلاميّ، وله سوابق مشرّفة في الدفاع عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام. أظهر في أقواله وأفعاله، إيمانه واعتقاده بأهل البيت عليهم السلام وتحكي مواقفه السياسيّة في مواجهة بني أميّة عن اعتقاده ووفائه لمدرسة أهل البيت عليهم السلام ومخالفته لحاكميّة بني أميّة. وهو واحد من الشخصيّات التي لم توفّق للمشاركة في نهضة عاشوراء، ولم يوضح التاريخ سبب عدم التحاقه بالإمام الحسين عليه السلام. مع العلم أنّ زوجته وابنيه كان لهم دور مهمّ في نصرة الإمام الحسين عليه السلام. أمّا عبد الله فقد نُقِلَ عنه، بعد حادثة عاشوراء، حسرته وتأسّفه بعد سماعه خبر شهادة الإمام، وكان يتمنّى المشاركة في ركاب الإمام في كربلاء، وقد شعر بالسعادة عندما عرف أنّ ولديه قد استشهدا في طريق الحسين عليه السلام واعتبرهما قد حلّا مكانه في كربلاء. ومع ذلك لا يمكن إنكار رسائله التي توجّه بها إلى الإمام يطلب منه عدم الخروج إلى العراق. عمل جاهداً لثني الإمام عن تصميمه الحاسم والقاطع بالخروج على 
 
 
 

1-الطبريّ، تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 146.
2-عبيد الله بن قيس بن شريح بن مالك الرقيات شاعر قريش في العصر الأمويّ.كان مقيماً في المدينة وقد ينزل الرقّة. وخرج مع مصعب بن الزبير على عبد الملك بن مروان. ثمّ انصرف إلى الكوفة بعد مقتل الزبير فأقام سنة. وقصد الشام فلجأ إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فسأل عبد الملك في أمره، فأمّنه، فأقام إلى أن توفي. (الزركليّ، الأعلام، ج 4، ص 206).
3-البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج 3، ص 315.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
181

173

عبد الله بن جعفر وثورة كربلاء

 يزيد، والتوجّه نحو العراق، حتّى وصل الأمر إلى تواصله مع بني أميّة توسّلاً منه بالأساليب الدبلوماسيّة، بل وبإعطاء الأمان للإمام عليه السلام ووعده بالعطايا والجوائز لمنعه من التوجّه نحو العراق. أمّا محاولاته للصلح فتدلّ على مدى الخوف من تداعيات نهضة الإمام، وأنّه كان يفكّر بأسلوب آخر غير الجهاد والثورة.

عجز العديد من خواصّ الشيعة وكبار بني هاشم عن إدراك وتحليل حركة الإمام، آنذاك، بشكل صحيح، فنظروا إلى الثورة الإلهيّة من خلال حساباتهم العاديّة فحكموا عليها بالفشل. طبعاً الإمام لم يجبر أحداً من أصحابه وشيعته والمقرّبين منه، على المشاركة في هذه النهضة، فرافقه فقط أصحاب البصيرة والإيمان والإخلاص الكبير الذين أدركوا حقيقة الولاية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
182
 

174

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

 سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء 1

 
تمهيد
 
سليمان بن صرد الخزاعيّ واحد من عظماء شيعة العراق وقادتهم، ومن الأصحاب المقرّبين لأئمّة الشيعة الأوائل. وقد شارك في عهد الإمام عليّ عليه السلام والإمام الحسن عليه السلام في أغلب الأحداث السياسيّة والحروب التي حصلت آنذاك، فكان له سوابق مضيئة في هذا الإطار. ومع أنّ سليمان بن صرد كان من أوائل الذين عملوا على دعوة الإمام الحسين عليه السلام للقدوم إلى العراق، إلّا أنّه تغيَّب عن المشاركة في حادثة عاشوراء. وقد طرحت أسباب متعدّدة ومختلفة حول عدم حضوره، وهذا ما سنحاول تحليله ونقده في هذا المقال. ويتّضح من خلال النظرة الواقعيّة إلى سيرته العمليّة، وجود محطّات تاريخيّة يستفاد منها الدروس والعبر، بالأخصّ في ما يتعلّق بالخواصّ، وذلك على مستوى التأثير في مسير التاريخ. صحيح أنّ الأقوال تعدّدت في توجيه وبيان سبب عدم حضوره كربلاء، إلّا أنّه يمكن الاستنتاج أنّه كان مقصّراً في نصرة الإمام الحسين عليه السلام.
 
المقدّمة
 
ممّا لا شكّ فيه أنّ ثورة عاشوراء الدامية والنهضة التبليغيّة اللاحقة التي قام بها أهل البيت عليهم السلام بقيادة الإمام السجّاد عليه السلام وزينب الكبرى عليها السلام قد ألقت 
 
 
 

1-عبد الرضا عرب أبو زيد آبادي، حوزويّ وماجستير في تاريخ الإسلام.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
183

175

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

 بالمجتمع الإسلاميّ الميّت جسديّاً روح اليقظة والتحرّر ورفض الظلم، والمقاومة والإيثار والتضحية في سبيل الحقّ، فأيقظت قسماً كبيراً من المجتمع الإسلاميّ الذي كان يعيش حالة الغفلة. إنّ هذه الحادثة قد أثّرت في مجتمع المسلمين ولا سيّما الخواصّ منهم الذين تخلّفوا عن قافلة كربلاء، ولم يؤدّوا رسالتهم المهمّة، كما يجب، عن إمامهم في ظروف حساسة ومصيريّة. لقد تخلّف شيعة العراق عن الحركة الإصلاحيّة للإمام الحسين عليه السلام بسبب عدم قدرتهم على اتّخاذ الموقف المناسب والتحرّك في الوقت المناسب؛ لذلك لن نشاهد تأثيراً واضحاً وكبيراً للدعوة التي أطلقها الشيعة، بعد حادثة عاشوراء، على مستوى المشاركة في ما يعرف بثورة التوّابين الدامية. وإذا نظرنا إلى اختيار العراق من قبل الإمام عليه السلام وإصراره على هذه المعادلة بناءً على حسابات عقلانيّة ومعقولة تتعلّق بأوضاع وظروف العــراق، فـــإنّ ســـيل الرســـائل التـــي أرســـلها أهل العراق إلى سفير الإمام عليه السلام ، أي مسلم بن عقيل، وبيعتهم الواسعة له، من جملة الأسباب التي ساهمت في اختيار الإمام عليه السلام الحركة نحو العراق. صحيح أنّ الرسائل الكثيرة التي أرسلت للإمام عليه السلام كانت تتعلّق بمجموعات سياسيّة متنوّعة تحمل دوافع مختلفة، إلّا أنّ السباقين في إرسال الرسائل إلى الإمام عليه السلام وفي دعوته إلى العراق، كانوا شيعة العراق المعروفين والبارزين، وهم الذين قصّروا في الحضور إلى كربلاء. وتعتبر ثورة التوّابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعيّ هي الحلقة الأساسيّة في الثورات الشيعيّة التي حصلت في العراق، وهي واحدة من أبرز النتائج الاجتماعيّة لحادثة عاشوراء على المستوى الاجتماعيّ. أمّا المنطق الذي كان يحمله التوّابون، فهو التعويض من الخطأ التاريخيّ الذي تجلّى في عدم نصرة الإمام عليه السلام ، فكانوا يعتبرون عدم نصرته معصية لا تغفر إلّا من خلال قتل كافّة الذين شاركوا في قتل الإمام، أو من خلال استشهادهم. وعلى هذا الأساس فإنّ السؤال الأوّل الذي يدور حول التوّابين هو سبب عدم مشاركتهم في كربلاء، وهو سؤال يُطرح في مكان آخر حول بعض خواصّ الشيعة أمثال محمّد بن الحنفيّة، وعبد الله بن عبّاس، وعبد الله بن جعفر، حيث قدّمت إجابات متعدّدة عليه. 

 

 

 

 

 

 

 

 

184


176

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

 سنحاول، في المقال الذي بين أيدينا، دراسة مسألة عدم حضور سليمان بن صرد وهو من كبار شيعة الكوفة في ثورة كربلاء مستفيدين، في ذلك، من معايير النقد التاريخيّ، من دون اللجوء إلى الأحكام المسبَّقة.

 
أ‌-     إطلالة إجماليّة على شخصيّة سليمان بن صرد
 
سليمان بن صرد بن الجون بن أبي الجون الخزاعيّ من كبار الشيعة وأصحاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام والإمامين الحسن والحسين  عليه السلام . ويكنّى أبا مطرف. ويقال كان اسمه في الجاهليّة يسار فلمّا أسلم سمّاه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم سليمان. وهو من المسلمين الأوائل الذين سكنوا الكوفة واتّخذ فيها داراً. توفّي عام 65 (هـ. ق.) عن عمر 93 سنة1. من هنا يمكن القول إنّه ولد قبل 28 عاماً من الهجرة. اختلفت الآراء في كونه صحابيّاً. اعتبرته أغلب مصادر أهل السنة من صحابة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وفي الحدّ الأدنى تحدّثت عنه على أنّه ممّن أدرك رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، ومع أنّه لا تربطه برسول الله صحبة معتدّ بها. فقد نقل بعض الروايات عن الرسول2 صلى الله عليه واله وسلم . ولكن الفضل ابن شاذان صرّح بأنّ سليمان من التابعين وليس من الصحابة3. وقد ذكره مؤرّخو الشيعة والسنّة بالحسنى، وعرّفوه بأوصاف عديدة كالفضل والشرف والزهد والتقوى ونفوذ الرأي.
 
كان سليمان بن صرد من خواصّ شيعة أمير المؤمنين عليه السلام. شارك إلى جانب الإمام في جميع حروبه أو في أغلبها4. وتبيّن رسالة أمير المؤمنين عليه السلام لسليمان في الجبل، أنّه كان أحد عمّاله في تلك المنطقة5. وفي سيرته مواقف مشرّفة 
 
 
 

1-محمّد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج 4، ص 292/ ابن عبد البرّ، الإستيعاب، ج 2، ص 210 211/ ابن الأثير، أسد الغابة، ج 2، ص 297 298/ ابن حجر العسقلانيّ، الإصابة في تمييز الصحابة، ج 3، ص 144.
2-أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج 4، ص 262/ ابن حجر العسقلانيّ، فتح الباري، ج 1، ص 316/ الطبرانيّ، المعجم الكبير، ج 2، ص 113/ السيوطيّ، الدرّ المنثور، ج 4، ص 322.
3-"ومن التابعين الكبار ورؤسائهم وزهادهم" (الشيخ الطوسيّ، اختيار معرفة الرجال، ج 1، ص 286/ الأردبيليّ، جامع الرّواة، ج 1، ص 318). 
4-شمس الدّين محمّد الذهبيّ، تاريخ الإسلام، ج 5، ص 46.
5- "وكتب إلى سليمان بن صرد وهو بالجبل: ذكرت ما صار في يديك من حقوق المسلمين وإنّ من قبلك وقبلنا في الحقّ سواء فأعلمني ما اجتمع عندك من ذلك فأعط كلّ ذي حقّ حقّه وابعث إلينا بما سوى ذلك لنقسمه فيمن قبلنا إن شاء الله". (ابن قتيبة 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
185

177

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

 ومضيئة، كقيادته قسماً من جيش الإمام في صفّين، وقتاله بشجاعة، ومبارزته مع حوشب وجهاً لوجه وقتله إيّاه1. بعد أن قبل الإمام عليه السلام بالتحكيم جاءه سليمان بوجه مجروح. وعندما شاهده الإمام على هذه الحال وهو ملطّخ بالدماء تلا قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً﴾2، وخاطبه قائلاً: "أنت ممّن ينتظر وممّن لم يبدّل، فقال له سليمان بن صرد: طبعاً يا أمير المؤمنين لو كان لديك أنصار لما قبلت بالتحكيم أبداً، والله لقد مشيت في العسكر لأن ألتمس أعواناً ولأن يعودوا إلى أمرهم الأوّل فما وجدت إلّا قليلا ً، وما في الناس خير".3

 
وأمّا ما يثير الإبهام حول سليمان فهو رسالة كتبها إليه عبد الله بن مسعود، يدعوه فيها لحرب صفّين يقول فيها، بعد أن أشار إلى الآية العشرين من سورة الكهف: ﴿ إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ﴾4، قال له: فعليك بالجهاد والصبر مع أمير المؤمنين5. إنّ هذا القول الذي يحمل لحن الترغيب في الجهاد، يمكن أن يؤيّد الرأي القائل بأنّ سليمان كان مردّداً في ذلك.
 
من جهة أخرى، فإنّ مسألة حضوره حرب الجمل أو عدم حضوره، من المسائل التي أثارت الكثير من الاختلافات واللغط بين المؤرّخين حوله. فقد تحدّثت أغلب المصادر عن تخلّفه عن المشاركة في حرب الجمل وقد عاتبه الإمام عليّ عليه السلام بسبب ذلك. طبعاً اختلف نصّ الروايات التي تحدّثت حول هذا الأمر.6
 
يقول البلاذريّ: "[بعد حرب الجمل] تلقّى سليمان بن صرد الخزاعيّ عليّاً عليه السلام وراء نجران الكوفة فصرف عليّ عليه السلام وجهه عنه حتّى دخل الكوفة، وذلك أنّه كان 
الدينوريّ، الإمامة والسياسة، ج 1، ص 163).
 
 
 
 

1-ابو حنيفة الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص 171/ نصر بن مزاحم المنقريّ، وقعة صفّين، ص 205.
2-الأحزاب: 23.
3-نصر بن مزاحم المنقريّ، المصدر نفسه، ص 197/ محمّد بن عبد الله الأسكافيّ، المعيار والموازنة، ص 181.
4- الكهف: 20.
5-نصر بن مزاحم المنقريّ، وقعة صفّين، ص 313.
6-البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج 2، ص 271/ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 105/ أبو بكر عبد الرزاق الصنعانيّ، المصنف، ج 8، ص 717.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
186

178

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

 مّن تخلّف عنه. فلمّا دخل الكوفة عاتبه وقال له: كنت من أوثق الناس في نفسي، فاعتذر وقال: يا أمير المؤمنين استبق مودّتي تخلص لك نصيحتي".1

 
وذكر البلاذريّ في كتابه أخباراً أخرى عن الحادثة، يمكن الخدش في مضمون بعضها. بالإضافة إلى وجود أشخاص في سلسلة سند هذه الرواية، حسب بعض الأخبار، متّهمين بالكذب والوضع. من هنا رفض بعض علماء الشيعة أمثال السيّد الخوئيّ هذه الرواية، واعتبر أن تخلّفه عن حرب الجمل كان بسبب عذر مقبول عند سليمان.2
 
ويمكن اعتبار الدوافع القبليّة هي التي كانت وراء إعراض سليمان عن حرب الجمل، وإصراره على حرب صفّين. ويمكن إرجاع هذا الأمر إلى النزاعات القديمة بين القحطانيّين والعدنانيّين، والتي تجدّدت في ما بعد في قالب النزاع بين العراقيّين والشاميّين، حيث يمكن، من خلال ذلك، إدراك السلوك السياسيّ لأشخاص مثل سليمان الذي كان يعتبر واحداً من القبائل العربيّة الجنوبيّة. 
 
وعلى كلّ حال، إذا أردنا أن ننظر نظرة سلبيّة، يمكن من خلال إصرار سليمان على استمرار الحرب مع الشاميّين في صفّين، ومخالفته الصلح فيها، وكذلك إصراره على استمرار الحرب في عهد الإمام الحسن عليه السلام ضدّ الشاميّين وليس الكوفيّين، أن نفسّر ظهور ثورة التوّابين بالدوافع القبليّة والقوميّة أيضاً. طبعاً يجب الإلتفات إلى مسألة وهي أنّ التاريخ عاجز عن كشف الدوافع الحقيقيّة والداخليّة للأشخاص.
 
أشرنا إلى أنّ سليمان هو من جملة أصحاب الإمام الحسن المجتبى عليه السلام وشيعته، إلّا أنّه كان يعترض على الإمام، بعد الصلح مع معاوية، حتّى إنّه خاطب الإمام بعبارة "مذلّ المؤمنين". وقد وضّح للإمام عليه السلام رأيه في الصلح قائلاً:
ما ينقضي تعجّبنا منك، بايعت معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من الكوفة سوى أهل البصرة والحجاز! ثمّ لم تأخذ لنفسك، ولا لأهل بيتك، ولا لشيعتك، منه 
 
 
 

1-البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج 2، ص 273.
2-الخوئيّ، معجم رجال الحديث، ج 8، ص 271.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
187

179

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

 عهداً وميثاقاً في عقد ظاهر، لكنّه أعطاك أمراً بينك وبينه ثمّ إنّه تكلّم بما قد سمعت... ثمّ قال: أرى والله أن ترجع إلى ما كنت عليه وتنقض هذه البيعة، فقد نقض ما كان بينك وبينه!

 
وتحدّث المسيّـب بن نجيّة ومجموعة أخرى بكلام كالذي تقدم فخاطبهم الإمام عليه السلام: إنّ الغدر لا خير فيه، ولو أردت لما فعلت. لكنّي أردت بذلك صلاحكم وكفّ بعضكم عن بعض.1
 
برزت شخصيّة سليمان بشكل جدّي على الساحة السياسيّة في أيّام الإمام الحسين عليه السلام. فكان في مقدّمة الذين كتبوا يدعون الإمام الحسين عليه السلام للثورة. وذلك عندما وصل خبر هلاك معاوية وخلافة يزيد إلى الكوفة، واطَّلع الشيعة على عدم قبول الإمام البيعة ليزيد، وعرفوا أنّ الإمام يتجهّز للثورة ضدّ النظام الأمويّ، اجتمعوا في منزل سليمان حيث بدأوا يتباحثون حول مستقبل الأمّة الإسلاميّة.2إنّ اختيار منزل سليمان كمركز للتنظيم والإعداد الفكريّ، على مستوى الشيعة، يؤكّد ويبيّن المنزلة المهمّة لسليمان عند شيعة الكوفة؛ لذلك تمّ اختياره في ما بعد قائداً لثورة التوّابين الشيعيّة.3
 
ينبغي الإشارة إلى أنّ سليمان- قبل أن يكتب إلى الإمام عليه السلام - حصل على تعهّد من الشيعة بنصرة الإمام وأن لا يتركوه وحيداً.4
 
إنّ سليمان كان يتوقّع تراجع أهل الكوفة وعدم وفائهم بالعهد، وهذا التوقّع لم يكن أمراً صعباً باعتبار أنّ الكوفيّين لهم تاريخ في الغدر، ونقض المواثيق مع الأئمّة السابقين، وهي مدوّنة على الصفحات السوداء من تاريخهم.
 
إنّ وجهاء الشيعة الذين كانوا من أوائل من كتبوا للإمام الحسين عليه السلام لم يستطع أحد منهم أو لم يسع للحضور إلى كربلاء، إلّا حبيب بن مظاهر ومسلم بن 
 
 
 

1-ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 3، ص 197.
2-الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 36/ محمّد بن جرير الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 261/ اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج 2، ص 228/ أبو مخنف، مقتل الحسين ، ص 15.
3-أبو مخنف، مقتل الحسين ، ص 262/ ابن حجر العسقلانيّ، الإصابة في تمييز الصحابة، ج 3، ص 144/ ابن كثير الدمشقيّ، البداية والنهاية، ج 8، ص 279.
4-"... فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه. قالوا لا! بل نقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه" (أبو مخنف، مقتل الحسين ، ص :15)
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
188

180

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

 عوسجة، وأمّا من تبقّى من أولئك فقد تخلّف عن المشاركة في كربلاء!

 
وقد اختلفت الآراء في سبب عدم مشاركة قادة الشيعة، ومنهم سليمان في كربلاء، حيث سنحاول في ما يلي توضيح هذه الآراء ونقدها.
 
ب- أسباب عدم حضور سليمان في واقعة عاشوراء
 
1ـ وضع قادة الشيعة في السجون، منذ تحرّك مسلم إلى ما بعد عاشوراء: 
 
تغيّرت الأوضاع في الكوفة بعد مجيء عبيد الله بن زياد، فاتّجهت نحو ما فيه ضرر للشيعة. قرّر عبيد الله التخلّص من مسلم وأتباعه، فسجن عدداً كبيراً من الشخصيّات الشيعيّة.1 وعلى الرغم من أنّ المصادر التاريخيّة المعتبرة لم يتحدّث أيّ منها عن وجود سليمان، والمسيّب، ورفاعة والقادة الآخرين من التوّابين في السجن، إلّا أنّ بعض علماء الشيعة يعتقد بأنّ أمثال سليمان لم يتمكّنوا من نصرة مسلم، بسبب وجودهم في السجن، وبذلك لم يتمكّنوا من الحضور في كربلاء. ويقول بعض الباحثين في تاريخ الشيعة: "ومن ثَمّ تجد قلّة في أنصاره مع كثرة الشيعة بالكوفة، ولقد كان في حبسه اثنا عشر ألفاً كما قيل، وما أكثر الوجوه والزعماء فيهم، أمثال المختار، وسليمان بن صرد الخزاعي، والمسيّب ابن نجبة، ورفاعة بن شدّاد، وإبراهيم بن مالك الأشتر"2.
 
ويؤيّد هذا الإحتمال مجموعة من الشواهد التاريخيّة:
أ- إذا أخذنا بعين الاعتبار التاريخ المشرّف لهؤلاء العظماء، بالأخصّ في ملازمتهم لأئمّة الشيعة، وحضورهم البارز في الساحات العسكريّة، بل والثبات العظيم لبعضهم في ميادين القتال- كما سبق وأشرنا، وقد تجلّى ذلك بوضوح 
 
 
 

1-اتفقت الآراء حول بعض الأفراد أمثال ميثم التمّار وعبد الله بن الحارث والمختار، على الرغم من أنّ ميثم قد استشهد قبل حادثة عاشوراء.
2-محمّد حسين المظفّر، تاريخ الشيعة، ص 42.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
189

181

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

 في ثورة التوّابين الدامية- فمن البعيد جدّاً أن يكونوا قد سمعوا نداء مظلوميّة واستغاثة سيّد الشهداء وسفرائه، ثمّ، وبسبب الخوف أو التردّد، تركوا إمامهم وحيداً مع أنّهم أصرّوا على دعوته في بادئ الأمر.

 
ب- عندما توقّف الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، خاطب ابن زياد الناس في الكوفة طالباً منهم المسير نحو كربلاء، لقتال الإمام الحسين عليه السلام وهدّدهم قائلاً: فأيّما رجل وجدناه بعد يومنا هذا متخلّفاً عن العسكر برئت منه الذمّة".1
 
ويقصد من هذا الكلام أنّ كلّ من لم يلتحق به سيقتل، لذلك أمر ابن زياد القعقاع بن سويد التجوّل في المدينة ومراقبة من تخلّف عن العسكر. وأثناء تجواله وجد شخصاً من قبيلة همدان قدم الكوفة طلباً لإرث له. أخذه إلى عبيد الله فأمر بقتله، فلم يُر بالغٌ يتجوّل في الكوفة بعد ذلك إلّا وقد التحق بمعسكر الكوفة، أي أنّه ذهب إلى النخيلة.2
 
بناءً على ما تقدّم، فأهل الكوفة لم يكن باستطاعتهم عدم الذهاب إلى كربلاء؛ لأنّ عدم ذهابهم يعني مقتلهم. أمّا الشيعة الذين كانوا يرفضون الإلتحاق بجيش عبيد الله بن زياد، فكان أمامهم طريقان: إمّا الالتحاق بالإمام سرّاً، أو الهروب من الكوفة. وبما أنّ سليمان وأصحابه لم يكونوا في كربلاء، ولم يتحدّث أحد عن هروبهم حيث إنّ الهروب لا يتناسب مع شجاعتهم وقدراتهم العسكريّة، لذلك فالإحتمال الأقوى أن يكونوا في السجن.
 
 ج ـ خاطب الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء عدداً كبيراً من الذين أرسلوا إليه بالرسائل وعاتبهم كيف دعوه للمجيء ثمّ خذلوه3. إلّا أنّه لم يأت على ذكر كبار الشيعة، فلو كانوا قصّروا في حقّ الإمام، لكانوا يستحقّون العتاب أكثر من الآخرين. وهذا يعني أنّ أمثال سليمان قطعاً كانت لهم أعذارهم في عدم التحاقهم 
 
 
 

1-أبو حنيفة الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص 254 255.
2-مرتضى العسكريّ، معالم المدرستين، ج 3، ص 83.
3-خاطب الإمام الحسين يوم عاشوراء جيش عمر بن سعد فقال: "... يا شبث بن ربعيّ يا حجّار ابن أبجر ويا قيس بن الأشعث ويا يزيد بن الحارث ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار واخضرّت الجنات وطمّت الجمام وإنّما تقدم على جند لك مجند فاقبل". قالوا له: "لم نفعل..." (أبو مخنف، مقتل الحسين ص 118).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
190

182

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

 بالإمام. إلّا أنّه، وكما أشرنا سابقاً، فإنّ أيّاً من المصادر التاريخيّة المعتبرة لا يؤيّد ذلك. يضاف إلى ذلك أنّ بعض عظماء الشيعة الآخرين أمثال حبيب بن مظاهر لم يكونوا في السجن، مع أنّهم كانوا من قادة الشيعة المعروفين، ومن الذين دعوا الإمام الحسين عليه السلام للقدوم، فإذا كان الكلام في أنّ قادة الشيعة كانوا مسجونين لكان يجب وجود حبيب بن مظاهر معهم.

 
2-وجود مانع لعدم الحضور في كربلاء:
 
لقد اتخذ عبيد الله بن زياد العديد من الإجراءات التي من شأنها منع الناس من الإلتحاق بالإمام عليه السلام. وضع الكوفة تحت مراقبة مشدّدة 1، واعتبر أنّ النقباء2 هم المسؤولون عن كلّ ما يجري في الكوفة، وهدّدهم بأنّ كلّ من يخفي عنه شيئاً فسيكون مصيره الإعدام. وحذّر الناس بأنّ كلّ من يشتبه بتعاونه مع الإمام الحسين عليه السلام فإنّ مصيره القتل من دون محاكمة وسيحرق منزله وتصادر أمواله3. وأسّس لجاناً أمنيّة خاصّة شدّدت الخناق على الداخل والخارج إلى الكوفة. وأمر الحصين بن نمير بمراقبة المنطقة الممتدّة بين القادسيّة وقطقطانة وأن يمنع من يريد العبور إلى ناحية الحجاز حتّى لا يلتحق بالإمام4. وكتب إلى واليه على البصرة يأمره ببثّ العيون ومراقبة الطرق واعتقال كلّ من يعبر عنها5. وكذلك أمر بمراقبة الطرق بين الواقصة نحو الشام إلى طريق البصرة وأن لا يسمح لأحد بالعبور في تلك المنطقة6. وممّا يذكر أنّ حبيب بن مظاهر، دعا بني أسد الذين كانوا يسكنون بالقرب من تلك المنطقة، إلى نصرة الإمام الحسين عليه السلام. إلّا أنّ جيش عبيد الله منع سبعين شخصاً منهم أرادوا الوصول إلى 
 
 
 
 

1-الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 263.
2-النقباء هم المكلّفون ملاحقة ومراقبة أمور القبيلة والعلاقة بين القبيلة والحكومة حيث يتولّى الحاكم النظارة على القبيلة بواسطته (ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 5، ص 101/ ابن منظور، لسان العرب، ج 5، ص 769).
3-المصدر نفسه، ج 4، ص 267.
4-أبو حنيفة الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص 243.
5-الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 5، ص 263.
6-المصدر نفسه، ص 295.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
191

183

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

 كربلاء والالتحاق بالإمام عليه السلام 1.

 
بناءً على ما تقدّم كيف يمكن للشيعة الالتحاق بالإمام ونصرته؟ ومن الواضح أنّ هذا الجواب ليس صحيحاً ولا كافياً، لأنّه- كما أشرنا- وبرغم الصعوبات والمراقبة الشديدة، فقد تمكّن بعض الأشخاص أمثال حبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة وآخرين من الالتحاق بالإمام2.
 
1-   عدم توقّع شهادة الإمام الحسين عليه السلام:
 
منذ أن وصل الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء، كان قد بقي إلى اليوم العاشر من محرّم ثمانية أيّام. خلال تلك المدّة، لم يكن أحد من الناس يتوقّع حصول الحرب والقتل، وكانوا يعتبرون جيش عبيد الله ابن زياد هو أقرب إلى أن يكون تهديداً عسكريّاً من أن يرتكب فاجعة أو مذبحة قتاليّة. حتّى إنّ بعض قادة معسكر عبيد الله بن زياد كالحرّ بن يزيد تعجّب يوم العاشر من صدور الأمر بقتل الإمام، فبعد أن وجد الأمر جدّياً في قتال وقتل أهل البيت عليهم السلام التحق بالإمام عليه السلام 3. تحدّث الحرّ مع الإمام بحالة من الخجل وقال له: "والله الذي لا إله إلّا هو ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، فقلت في نفسي لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ولا يرون أنّي خرجت عن طاعتهم"4.
 
الظاهر أنّ الكثير من الشيعة كانوا يعتقدون بأنّ الخلاف بين الإمام عليه السلام وبني أميّة يمكن حلّه من خلال الصلح والحوار وكانوا لا يتوقّعون أن تصل دناءة يزيد وانحطاطه إلى مستوى إراقة دماء أفضل عباد الله وبقيّة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الوحيد على الأرض، وذلك في شهر يحرم فيه القتال، سواء كان في العادات العربيّة القديمة، أو طبقاً لأحكام وتعاليم الإسلام.
 
 
 
 

1-البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج 3، ص 180/ ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ج 5، ص 159.
2-ابن قتيبة الدينوريّ، الإمامة والسياسة، ج 2، ص 7.
3-أحمد بن محمّد مسكويه، تجارب الأمم، ج 2، ص 70.
4-أبو مخنف، مقتل الحسين ، ص 121/ الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 99.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
192

184

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

 وكان الشيعة قبل ذلك قد شاهدوا الصلح بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية وحضروا قضيّة التحكيم بين الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ومعاوية، فكانوا يتوقّعون أيضاً حلّ هذا الخلاف طبق الأسلوب السابق، ولكنّهم غفلوا عن أن يزيد لم يكن كمعاوية، وأنّ الظروف الحاكمة في هذه المرحلة لا تشبه تلك التي كانت في زمن الأئمّة عليهم السلام السابقين.

 
صحيح أنّ هذا الإحتمال عند مقارنته بالاحتمالات الأخرى يبدو هو الأقرب، إلّا أنّه ليس تامّاً أيضاً؛ لأنّنا نجد أنّ الكثيرين قد حذّروا من التوجّه نحو الكوفة وذكّروه بخداع الكوفيّين، وتوقّعوا شهادة الإمام وأصحابــه، بالإضافــة إلى أنّ الإمام عليه السلام قد أخبر مراراً عن شهادته في هذا السفر. بناءً على هذا فإنّ شهادة الإمام عليه السلام لم تكن خافية على كلّ صاحب بصيرة في ظلّ الظروف والقرائن والأجواء الحاكمة على العراق من قبل يزيد، وفي أقلّ الاحتمالات كان هناك احتمال وجود خطر يتهدّد الإمام عليه السلام من قبل جيش يزيد المجرم الذي لم يكن مقيّداً بأي من الأحكام والقيم الإسلاميّة، وهذا يتطلّب استعداداً خاصّاً من قبل الشيعة. وقد تمّ اختبار هؤلاء الناس في قضيّة مسلم فكانت الفرصة مؤاتية للوفاء بوعودهم ودعواتهم، ولكن لم يظهر منهم أيّ عمل مؤثّر. لذلك يمكن القول إنّ الشيعة في تلك المرحلة كانوا يعيشون حالة انعدامٍ للإرادة وحالة حيرة وفقدان للقائد المفكّر الشجاع في الكوفة، والذي يمكنه إيجاد حالة الإتحاد والإنسجام بين الشيعة، بالأخصّ بعد شهادة مسلم بن عقيل وفقدان القائد الذي يمكنه توضيح التوجّه السياسيّ لهم في تلك المرحلة الحسّاسة، وهذا ما دفع بالشيعة إلى مواجهة أزمة كبيرة. في الواقع فإنّ الشيعة قد اتّبعوا، في هذه المرحلة، سياسة السكوت والإنتظار والاستسلام للقدر. والملاحظ أنّ كبار الشيعة، في الكوفة، تخلّفوا عن مسلم عند قدومه إليها، ولعلّ ذلك كان بحجّة أنّهم بايعوا الإمام عليه السلام ووعدوه بالنصرة ولم يبايعوا مسلماً! لذلك امتنعوا عن نصرته.1
 
إنّ قساوة عبيد الله بن زياد كما ذكرنا وتضييقه على الشيعة وشهادة سفير 
 
 
 
 

1-محمّد سرور مولائيّ، سيّد الشهداء، برواية الطبريّ وإنشاء البلعميّ، ص 13.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
193

185

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

 الإمام عليه السلام في الكوفة، ساهم في وجود خطر حقيقيّ يهدّد حياة الإمام، لذلك كان يتوقّع من الشيعة الإلتحاق بالإمام ونصرته عند بروز الخطر ولم يكن يتوقّع منهم السكوت والإنتظار والاستسلام للقدر. ولعلّ هذا السكوت هو الذي أحيا التوبة والندم والإحساس بالذنب بين الشيعة. ونقلت بعض المصادر أنّ بعض أهل الكوفة كان، يوم العاشر، يعتلي الجبل ويتوجّه إلى الله تعالى بالدعاء: "اللهم انزل عليه نصرك"، وقد شاهدوا بأنفسهم غربة ووحدة إمامهم.1

 
1-   خطأ التوّابين في خذلان الإمام عليه السلام:
 
أمّا الاحتمال الحقيقيّ الآخر الذي يمكنه أن يكون السبب في عدم حضور قادة التوّابين، ومن جملتهم سليمان بن صرد، في كربلاء فهو تقصيرهم في نصرة الإمام الحسين عليه السلام. لقد أصيب هؤلاء القادة بالرعب فامتنعوا بكامل اختيارهم عن نصرة الإمام، مع أنّه كان بإمكانهم ذلك. من هنا وقعوا في خطأ ومعصية كبيرين في التاريخ. ويؤيّد هذا الإحتمال شواهد متعدّدة:
 
أ‌-     اعتراف التوّابين بذنبهم:
 
 فبالإضافة إلى ما صرّح به بعض المؤرّخين الذين حكموا بخطأ الشيعة في عدم نصرة الإمام 2، فإنّ خطابات الشيعة وكلماتهم القويّة تبيّن اعترافهم بهذا الخطأ. نقل عن المسيّب بن نجبة، وكان أوّل المتحدّثين:
"وقد كنّا مغرمين بتزكية أنفسنا وتقريظ شيعتنا حتّى بلى الله أخيارنا فوجدنا كاذبين في موطنين من مواطن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وقد بلغتنا قبل ذلك كتبه وقدمت علينا رسله وأعذر إلينا يسألنا نصره عوداً وبدءاً وعلانيّة وسرّاً، فبخلنا عنه بأنفسنا حتّى قتل إلى جانبنا لا نحن نصرناه بأيدينا ولا جادلنا عنه بألسنتنا ولا قوّيناه بأموالنا ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا، فما عذرنا إلى ربّنا وعند لقاء 
 
 
 

1-الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 295.
2-"تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندّم ورأت أنّها قد أخطأت خطأ ً كبيراً" (أبو مخنف، مقتل الحسين ، ص 248/ الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 426).

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
194

186

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

 نبيّنا صلى الله عليه واله وسلم وقد قتل فينا ولده وحبيبه وذريته ونسله؟!، لا والله لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والموالين عليه أو تقتلوا في طلب ذلك فعسى ربّنا أن يرضى عنّا... "1. يبدو من ظاهر عبارات سليمان وأصحابه أنّهم كانوا على خطأ وأنّهم ارتكبوا معصية واشتباهاً في عدم نصرتهم الإمام عليه السلام عدا عن أنّ معنى التوبة في الأساس هو الإعتراف باقتراف المعصية، وهي التي شكّلت القاعدة الأساس لحركة التوّابين كما أنّها تشير إلى حقيقة أخرى وهي أنّهم كانوا واقعين في ورطة مشتركة.

 
 أمّا الذين أيّدوا احتمال وجود التوّابين في السجون أثناء ثورة عاشوراء فأشاروا إلى أنّ التوبة كانت لعدم قدرة هؤلاء الأشخاص على تهيئة الأرضيّة الضروريّة لحضور الإمام في العراق، وهذا يعني أنّهم لمّا لم يتمكّنوا من اتخاذ موقف صحيح، في تلك المرحلة الحسّاسة، ولم يعملوا بكلّ ما أوتوا من قوّة لتنظيم الشيعة لما من شأنه إخراج السلطة من أيدي بني أميّة، وإرجاع الخلافة إلى أبناء رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، لذلك كانوا يعتبرون أنفسهم مقصّرين. ولكن وكما أشرنا فإنّهم تحدّثوا بصراحة عن عدم نصرهم الإمام بأموالهم وعشائرهم، وهذا يعود إلى ما قبل عاشوراء وقبل حادثة مسلم بن عقيل.
 
أ‌-     سليمان وسابقة مخالفة الإمام عليّ عليه السلام: 
 
يتحـــدّث بـعـــض المؤرّخين عن سليمان بأنّه كان قد تخلّف عن نصرة الإمام عليّ عليه السلام في حرب الجمل وقد عاتبه الإمام عليه السلام على ذلك. ويشير عتاب الإمام له إلى أنّه كان مقصّراً. وكذلــــك يتّضـــح من خلال اعتراضه على صلح الإمام الحسن عليه السلام ودعوته الإمام الحسين عليه السلام للحرب مع معاوية، أنّه كان شخصاً ضعيف الاعتقاد بالولاية، ويفتقد للرؤية السياسيّة الثاقبة. هذا بالإضافة إلى وجود إبهام كبير في أوضاعه المتعلّقة بمساعدة مسلم بن عقيل. وينطبق هذا الأمر أيضاً على المسيّب بن نجبة الذي تخلّف عن أوامر الإمام عليّ عليه السلام في الماضي، وذلك عندما أرسله الإمام للقضاء على حركة عبد الله بن مسعدة، في مكّة، فكان شديد الحذر 
 
 
 

1-أبو مخنف، مقتل الحسين ص 248 249.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
195

187

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

 في التعامل معه، باعتبار أنّ عبد الله بن مسعدة كان ينتمي إلى قبيلته، وبالرغم من تأكيد الإمام عليه السلام وتشديده على المسيّب في التعامل مع عبد الله، فإنّ المسيّب وبسبب الروابط القبليّة قصّر في تعامله معه وهيّأ الأجواء للفرار. ولذلك عاتبه الإمام عليّ عليه السلام على ذلك وسجنه، ثمّ عفا عنه بعد مدّة، وأطلق سراحه وجعله مسؤول الزكاة في الكوفة.38

 
يعتبر ابن سعد من الأشخاص الذين يعتقدون أنّ سليمان لم يتمكّن من اتخاذ قرار نصرة الإمام لما كان يتصّف به من روحيّة مفرطة في الشكّ والتردّد.
 
وسليمان من الذين كتبوا إلى الإمام عليه السلام يدعونه للقدوم إلى الكوفة، ولكن عندما جاء الإمام الحسين عليه السلام امتنع عن نصرته ولم يحارب في ركابه، وهو شخص كثير الشكّ والتردّد لذلك ظهر عليه الندم بعد مقتل الحسين عليه السلام.
 
طبعاً لا ينبغي التعاطي مع نظريّة ابن سعد هذه على أنّها نظرة إيجابيّة. وبالتالي لا بدّ من الالتفات إلى مسألة مهمّة وهي أنّ العديد من مؤرّخي ومؤلّفي أهل السنة حاولوا جاهدين وضع مسألة شهادة الإمام الحسين عليه السلام على عاتق الشيعة حيث عملوا على تضخيم المعصية التي ارتكبها الشيعة في عدم نصرة إمامهم، وبالتالي القول بأنّ الشيعة هم الذين تسبَّبوا في ما جرى مع الإمام الحسين عليه السلام من مصائب في أرض كربلاء. ومن الواضح أنّ ما يتحدّث عنه هؤلاء المؤرّخون ما هو إلّا مؤامرة كبيرة تحاول حجب الأبصار عن الحقائق التاريخيّة البيّنة. فعلى الرغم من أنّ يزيد قتل الإمام الحسين عليه السلام بسيوف أهل الكوفة، إلّا أنّه يجب الإلتفات إلى أن الكوفة هي محلّ تواجد كبار أتباع الأمويّين وقادتهم، فالشيعة لم يكونوا الوحيدين في هذه المدينة، بل كان فيها قبائل غير متجانسة من ناحية الميول والتوجّهات. كذلك يجب الإلتفات إلى مسألة أخرى، وهي أنّ شيعة الكوفة لم يكونوا الوحيدين أيضاً الذين دعوا الإمام للحضور، بل قام بذلك كبار أهل الكوفة والأشراف فيها، حيث كتبوا للإمام ثمّ سلّوا سيوفهم عليه يوم العاشر من المحرّم.
 
 
 

1-اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج 2، ص 196/ الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 103. (كان [سليمان] في من كتب إلى الحسين بن عليّ أن يقدم الكوفة، فلمّا قدمها أمسك عنه ولم يقاتل معه، كان كثير الشكّ والوقوف، فلمّا قتل الحسين ندم). 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
196

188

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

 ج - تقييم ثورة التوّابين:

 
 إنّ تقييم ثورة التوّابين بقيادة سليمان بن صرد، هي مسألة يمكنها أن تحدّد رأينا في كيفيّة سلوك سليمان. وعلى الرغم من أنّ ثورة التوّابين هي من النتائج الاجتماعيّة المهمّة لثورة عاشوراء (الثورة التي أيقظت في المجتمع الإسلاميّ المنكوس والمنهزم، روح الجهاد ومحاربة الظلم والغيرة الدينيّة، والتي أشعلت نار الإعتراض على الأمويّين، فهيّأت الأرضيّة للثورات اللاحقة)، إلّا أنّها كانت تتضمّن الكثير من العبر والكثير من النقاط المريرة والتي توضح لنا بعض أبعاد شخصيّة سليمان. يمكن القول، من خلال كلمات قادة التوّابين، إنّ هذه الثورة ما هي إلّا ردّة فعل روحيّة ونفسيّة نشأت من إحساس مقدّس، إلّا أنّها لم تصل إلى نتائج عمليّة لعدم وجود البصيرة اللازمة وعدم أهليّة قادتها عسكريّاً. إنّ من أهمّ العيوب الموجودة في هذه النهضة الشيعيّة هو: عدم قبول الحرب ضدّ قاتلي الإمام الحسين عليه السلام في الكوفة الناشىء من التعصّبات القبليّة والقوميّة 1، وكذلك التعاطي العاطفي والتفكير السطحيّ وعدم التخطيط الصحيح للثورة. والأهمّ من ذلك دفاع مخالفي أهل البيت عن الثورة، وعن أسلوب سليمان، وترجيحه على المختار (تشجيع آل الزبير لثورة سليمان وخروجه من الكوفة وحربه مع الشاميّين)، وعدم تأييد الإمام السجّاد عليه السلام الصريح للثورة. لذلك لا يمكن اعتبار حركة التوّابين أنّها كانت حركة موفّقة بالكامل. وممّا لا شكّ فيه أنّ سليمان والمقرّبين منه لو تمكّنوا من الانطلاق بثورتهم ببصيرة وتخطيط وتنظيم أفضل لكان أمكن أن يُكتب للشيعة مصير آخر.
 
وإذا أخذنا بعين الإعتبار وقبلنا رأي المختار بن أبي عبيدة الثقفيّ في سليمان بن صرد، لتمكنّا من الإجابة عن الكثير من الأسئلة والإبهامات حوله. كان المختار من الذين جاءوا إلى الكوفة أثناء ثورة التوّابين وشاهد عن قرب بداية تشكلّها، وكان يحذّر الشيعة من المشاركة في ثورة سليمان، حتّى إنّه كان يتحدّث حول شخص سليمان ويقول: "لا علم له بالحروب والسياسة". وكتب المؤرّخون أنّ رأي 
 
 
 

1-الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 432.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
197

189

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

 المختار في سليمان ساهم في تفريق الكثير من الشيعة عن سليمان. إنّ رأي المختار بن أبي عبيدة الذي تحقّق وظهر في أحداث ثورة التوّابين يبيّن حقيقة مرّة، وهي أنّ الخواصّ- على الرغم من اعتقادهم بالإمامة والتاريخ الطويل لبعضهم في الدفاع عن الولاية- كانوا يفتقدون البصيرة السياسيّة، والشجاعة، ومعرفة الزمان، والثبات في اتخاذ القرارات. وهذا ما أدّى إلى تردّدهم في الحضور إلى كربلاء، وعدم توفّقهم أيضاً في التعويض من الخطأ الذي ارتكبوه.


النتيجة

عرضت عدّة احتمالات لعدم حضور سليمان بن صرد في حادثة عاشوراء:

الأول: أنّ سليمان وباقي وجهاء الشيعة كانوا في سجون عبيد الله بن زياد منذ بداية ثورة الإمام الحسين عليه السلام ودخول مسلم بن عقيل الكوفة. صحيح أنّ هذا الإحتمال ممكن ويبرّئ سليمان وأصحابه من كلّ معصية، إلّا أنّ أيّاً من المصادر التاريخيّة المعتبرة لم تؤيّده.

الثاني: وجود مانع بسبب التدابير الأمنيّة المشدّدة التي اتخذها عبيد الله بن زياد، يمنع وصول الشيعة إلى الكوفة، وبذلك لم يتمكّن سليمان وأصحابه من الوصول. وينتفي هذا الإحتمال عند ملاحظة أنّ بعض الشخصيّات أمثال حبيب بن مظاهر، قد وصلوا إلى كربلاء، ووجود حبيب في كربلاء هو دليل قويّ على إمكان حضور الشيعة فيها.

الثالث: عدم توقّع شهادة الإمام الحسين عليه السلام وظهور احتمال عدم الحرب بين الإمام عليه السلام وجيش يزيد. وهذا بحدّ ذاته عذر أقبح من ذنب؛ لأنّ الحوادث التي وقعت أمثال: الظروف المسيطرة على الكوفة، تضييق الأمويّين، شهادة مسلم وهاني وقيس وعبد الله بن يقطر وآخرين، وإعداد جيش كبير لمواجهة الإمام الحسين عليه السلام ، كلّ ذلك يوضح لكلّ صاحب بصيرة وقوع حرب عظيمة دامية، وهذا يتطلّب مزيداً من اليقظة والتحرّك من قبل خواصّ الشيعة.

وعلى كلّ حال، فإذا أخذنا بعين الإعتبار اعتراف قادة التوّابين الصريح بخطئهم في عدم نصرة الإمام وإظهار ندمهم على ضعف حركتهم في قضيّة 
 
.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
198

190

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

 كربلاء، وإصابتهم بعذاب الوجدان في تركهم الإمام وحيداً، حيث لم يجدوا ما يعوّض من ذلك سوى مقتلهم، وكذلك سابقة تخلّفهم عن الأئمّة المتقدّمين، كلّ ذلك يوضح لنا أنّ سليمان وأصحابه من خواصّ الشيعة كانوا مقصّرين في نصرة الإمام، حيث تركوه وحيداً. وأمّا حركة التوّابين، وعلى الرغم من الثمار القليلة التي حملتها، فهي أشبه ما تكون بثورة عاطفيّة ووجدانيّة أكثر منها أن تكون إصلاحيّة لها آثارها الاجتماعيّة.

 

 

 

 

 

 

 

 

199


191

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 نفسه لقاء الله، كما طلب الإمام الحسين عليه السلام من المسلمين في مكّة المكرَّمة.


3-التحرّر من الالتزامات التي تفرضها الدعوة والجهاد: والتحلّل من القيود والعهود التي يفرضها الولاء لله تعالـى، ولرسوله ولأئمّة المسلمين.

وهذه العناصر الثلاثة تؤدِّي إلى ظواهر سلبيّة كثيرة في شخصيّة الإنسان، من قبيل: الخوف، والجُبن، والخضوع، والانقياد للطاغوت، وانحسار سُلطان الضمير عن حياة الإنسان وسلوكه.

ولسنا نريد أن نقول: إنّ هذه العناصر كانت موجودة مجتمعة في موقِف الضحّاك بن عبد الله، ولكنَّنا نريد أن نقول: إنّ أمثال هذه المواقف يُمكن أن تنحلَّ إلى هذه المجموعة من العناصر السلبيّة.

وفي ختام هذه التأمُّلات، نعتذر إلى الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ، إذا كنّا قد أسأنا إليه، وتناولنا موقفه من الحسين عليه السلام بالتحليل والنقْد بهذه الصورة، ولا نريد أن نبخسه حقّه، فقد نال ما حُرِمنا منه نحن، من شرفِ القتال بين يدي الحسين عليه السلام ، ومن دعاء الحسين عليه السلام له...، وإنّما كنّا نريد أن نجعل من نقاط الضَعف في موقفه، وسيلة لتقويم نقاط الضعف في مواقفنا وسلوكنا.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

192

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ1

 
دراسة وتحليل لموقفه في كربلاء
 
 ﴿وَعَلَى الثّلاَثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا حتّى‏ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنّوا أَن لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إلّا إِلَيْهِ ثمّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ ﴾2.
 
الصراع في مرحلتَي التنزيل والتأويل:
 
مرَّت هذه الدعوة- خلال مسيرتها- بمرحلتَين من الصراع: مرحلة التنزيل، ومرحلة التأويل.
 
الأُولى: في حياة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم.
 
والثانية: تبدأ بخلافة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
 
في المرحلة الأُولى كان الصراع يدور حول محوَر (التنزيل)، وكانت الجاهليّة المُتمثّلة، يوم ذاك في مشركي قريش وحُلفائها، واليهود وحُلفائهم، يتصدّون لنفي (التنزيل) وإنكار علاقة هذا الدِّين بالله تعالى، ونزول القرآن من لَدُنِ الله تعالى.
 
واستمرَّ هذا الصراع قائماً في حياة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كلّها، وانجلى هذا الصراع 
 
 
 

1-العلّامة الشيخ محمّد مهدي الآصفيّ. وقد تصرّفنا بحذف جملة: المتخلّفون عن ثورة الإمام الحسين من العنوان، لضرورات فنيّة.
2-التوبة: 118.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
201

193

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 عن هزيمة قريش واليهود أمام الدعوة، وانتصارها.

 
ويبدو، لأوّل وَهلة، أنّ الجاهليّة انسحبت عن مواقعها الهجوميّة أمام حركة الدعوة، واستسلمت وانقادت، إلّا أنّنا عندما نُمعِن النظر في تاريخ الإسلام، نجد أنّ الجاهليّة بدأت تُخطِّط- بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم - للالتفاف على هذه الدعوة، وتحريفها والدَسّ فيها، وتشويه مفاهيمها.
 
وأحسَّ وَرَثة الثورة بهذه المؤامرة الجديدة، وعرفوا قادة المؤامرة، وبدأت المرحلة الثانية من الصراع حول محوَر (التأويل)، وأبرز المعارك في هذه المرحلة من الصراع: (صِفِّين) و (الطَفّ( والذي يُنعِم النظر في التأريخ الإسلامي، يجد أنّ (صفّين) و (الطفّ) امتداد لـ (بدر) و (أُحد)، وأنّ الذين حاربوا عليّاً والحسن والحسين عليهم السلام ، في صفّين والطفّ، هم الّذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من قبل، في بدر وأُحد.
 
ورحم الله عمّار بن ياسر، فقد كان يقول في صفّين، لبعض مَن أنكر عليه محاربة معاوية وعمرو بن العاص: هل تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي؟! فإنّها راية عمرو بن العاص، قاتلتُها مع رسول الله ثلاث مرّات، وهذه الرابعة، ما هي بخيرِهنّ ولا أبرَّهنّ، بل هي شَرّهنّ وأفجرهُنَّ.
 
وقال لمَن تردَّد يومئذٍ في قتال معاوية مع الإمام عليّ عليه السلام: أشهدتَ بدراً وأُحداً وحُنيناً، أو شهدها لك أب فيُخبرَك عنها؟ قال: لا. قال: فإنّ مراكزنا على مراكز رايات رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، يوم بدر ويوم أُحد ويوم حُنَين، وإنّ هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب. 
 
هل ترى هذا المعسكر ومَن فيه؟! فوالله لوَددتُ أنّ جميع مَن أقبل مع معاوية، ممَّن يرى قتالنا مُفارقاً للّذي نحن عليه، كانوا خَلقاً واحداً فقطّعتُه وذبحتُه، والله لَدماؤهم جميعاً أحلّ من دم عصفور، أفترى دم عصفور حراماً؟!1 
 
 
 
 

1-وقعة صِفّين لنصر بن مزاحم، تحقيق عبد السلام محمّد هارون: ص 321 ـ322.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
202

194

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 شريحة المُتخلِّفين عن الصراع


وفي كلّ صراع ثلاثة أطراف: الطرفان المتصارعان، والطرف المُتفرِّج المُتخلِّف، والطرف الثالث أكثر تعقيداً من الطرفين الآخَرَين المُتقاتلَين في ساحة الصرْع والقتال، وفَهْم هذا الطرف (المُتفرّج) على الساحة أشقّ من فَهمِ الطرفين الآخرَين.

وقد أعطى القرآن الكريم اهتماماً كبيراً بتحليل هذا الطرف بالذات، والآية المباركة الّتي صَدَّرنا بها الحديث- من سورة التوبة المباركة- واحدة من الآيات القرآنيّة، في استعراض وتحليل هذه الشريحة المُتخلّفة من المجتمع الإسلامي، يوم ذاك.

ونحن، في هذه الدراسة، نحاول أن نستعرض نموذجاً من المُتخلّفين عن ثورة الحسين عليه السلام، (و) ندرس ونُحلِّل مواقفهم.
ولا يكاد يختلف المتخلّفون عن معركة (الطفّ) عن المتخلّفين عن معركة (حُنين) في عهد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، إلّا أنّ حُنين تدور حول محور (التنزيل) والطفّ تدور حول محور (التأويل).

والصراع هو الصراع، ليس على أرض ولا على مال، وإنّما هو صراع حضاري حول الإسلام والجاهليّة.
وتعود الجاهليّة هذه المرَّة- بعد أن انكسرت شوكتها في بدر، وأُحد، والأحزاب، وحُنين من داخل صفوف المسلمين- لتُعاود الصراع مع الإسلام، بتحريف الإسلام عن مسيره الصحيح، وتشويه مفاهيمه وأفكاره وأُصوله، والدسّ فيه.

والصراع هذه المرّة، كأيِّ صراع حضاريّ، يحمل نفس الضراوة والعُنف، ولا يقبل الهدنة ولا الصلح.

ولمّا كان الصراع في الطفّ نفس الصراع في حُنين، فإنّ المُتخلّفين هنا هم من شريحة المُتخلّفين هناك، والمواقف نفس المواقف، والقوانين والسُنَن في هؤلاء وأُولئك نفسها، ولنتأمّل في نموذج مِن هؤلاء المُتخلّفين عن الحسين عليه السلام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
203

195

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 خبر الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ:

 
وهذا نموذج من المُتخلّفين عن الحسين عليه السلام ، وقصّته معروفة في كُتبِ السيرة.
 
رافق الإمام الحسين عليه السلام إلى ساحة المعركة، ودخل المعركة معه، وقاتل قِتال الأبطال وأبلى بلاءً حسناً في القتال، استحسَنَــه الإمـــام، ولكنّــه اشترط على الإمام عليه السلام - منذ أن التحق به- أن يجعله في حلٍّ منه، إذا دارت دائرة الحرب عليه ولم يعد ينفعه قتاله ودفاعه عنه.
 
فلمّا رأى أنّ المعركة قد دارت على الحسين عليه السلام ، ووجد أنّ الحسين وأهل بيته وأصحابه عليهم السلام لا مَحالَة مقتولون، ولم يعد ينفع الحسين قتاله ودفاعه، استأذن الحسين عليه السلام أن يترك ساحة القتال وينجو بنفسه، فأذنَ له الحسين كما وعَدَه من قبْل، فهرب الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ بنفسه من ساحة المعركة، وترك الإمام ومَن معه من أهل بيته وأصحابه للقتْل في ساحة المعركة، ونَجا بنفسه.
 
فلنقرأ أوّلاً خبر الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ، برواية الطبريّ من أبي مَخنَف، ثمّ نحاول أن نُحلِّل هذا الخبر.
روى أبو مَخنَف عن الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ، قال: قدمتُ ومالك بن النضر الأرحبيّ على الحسين، ثمّ جلسنا إليه، فردّ علينا فرحّب بنا، وسألَنا عمّا جئنا له. فقلنا: جئنا لنُسلّم عليك، وندعو الله لك بالعافية، ونُحدِث بك عهداً، ونُخبرك خبر الناس. وإنّا نُحدِّثك أنّهم قد أجمعوا على حربك، فَرِ رأيك. فقال الحسين عليه السلام: حَسبــي الله ونِعــــم الوكيل. قال: فتَذمَّمنا، وسلَّمنا عليه، ودعونا الله له.
 
قال: فما يَمنعُكما من نُصرتي؟
 
فقال مالك بن النضر: عليّ دَين ولِي عِيال، فقلتُ له: إنّ عليّ دَيناً وإنّ ليَ لَعيالاً، ولكنّك إن جَعلتَني في حلٍّ من الانصراف إذا لم أجد مقاتلاً، قاتلتُ عنك ما كان لك نافعاً وعنك دافعاً، قال: فأنت في حلّ.1
 
قال أبو مَخنَف: حدَّثني عبد الله بن عاصم عن الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ، 
 
 
 

1-تأريخ الطبريّ، طبعة ليدن: ج7 ص 321.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
204

196

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 قال: لمّا رأيتُ أصحاب الحسين قد أُصيبوا وقد خلُصَ إليه وإلى أهل بيته، ولم يبقَ معه غير سويد بن عمرو بن أبي المُطاع الخثعميّ، وبشير بن عمرو الحضرميّ، قلت له: يا بن رسول الله، قد علمت ما كان بيني وبينك: قلت لك: أُقاتل عنك ما رأيت مقاتلاً، فإذا لم أرَ مقاتلاً فأنا في حلٍّ من الانصراف، فقلت لي: نعم؟! فقال: صدقتَ، وكيف لك بالنجاة؟ إن قدرت على ذلك فأنت في حلّ. قال: فأقبلت إلى فرَسي، وقد كنت حيث رأيت خيل أصحابنا تُعقَر، أقبلت بها حتّى أدخلتها فسطاطاً لأصحابنا بين البيوت، وأقبلت أُقاتل معهم راجلاً، فقتلتُ يومئذٍ بين يدي الحسين رجُلَين وقطعتُ يد آخر. وقال لي الحسين يومئذٍ مراراً: لا تشلل، لا يقطع الله يدك، جزاك الله خيراً عن أهل بيت نبيّك صلى الله عليه واله وسلم. فلمّا أذن لي، استخرجت الفرَس من الفُسطاط ثمّ استوَيت على متنها ثمّ ضربتها، حتّى إذا قامت على السنابك رميتُ بها عَرض القوم، فأفرجوا لي، وأتبعني منهم خمسة عشر رجُلاً، حتّى انتهيت إلى (شفيّة)- قرية قريبة من شاطئ الفرات- فلمّا لحقوني عطفت عليهم، فعَرفني كثير بن عبد الله الشعبيّ، وأيّوب بن مشرح الخيوانيّ، وقيس بن عبد الله الصائديّ، فقالوا: هذا الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ، هذا ابن عمّنا، ننشدكم الله لمّا كَفَفتم عنـه. فقال ثلاثة نفَر من بني تميم كانوا معهم: بلى، والله لنُجيبنّ إخواننا وأهل دعوتنا إلى ما أحبّوا من الكفّ عن صاحبهم. قال: فلمّا تابع التميميّون أصحابي، كفَّ الآخرون. قال: فنَجّاني الله.1

 
وقال السماويّ في (إبصار العين): بقيَ الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ مع الحسين عليه السلام ، حتّى إذا أمر ابن سعد بالرُماة فرموا أصحاب الحسين، وعقروا خيولهم، أخفى فَرَسه في فُسطاط، ثمّ نظر فإذا لم يبقَ مع الحسين إلّا سويد بن عمر، وبشر بن عمرو الحضرميّ، فاستأذن الحسين، فقال له: كيف لك النجاة؟ قال: إنّ فرَسي قد أخفيتُه فلم يُصَب، فأركبُه وأنجو، فقال له: شأنك، فركب ونجا بَعْد لأيٍ.2 
 
 
 

1-تأريخ الطبريّ، الطبعة الأوربيّة: ج 7 / ص 354- 355. ونَفَس المهموم للشيخ عبّاس القمّي: ص 298ـ 300.
2-إبصار العين: ص 101.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
205

197

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 تأمّلات في خبَر الضحّاك

 


أقبل الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ، ومالـــك بـــن النضــر الأرحبيّ على الحسين عليه السلام، ليُسلّما عليه وليُجدِّدا به العهد- كما في رواية أبي مَخنَف- ويظهر أنّ هذا اللقاء تمّ في موقع كربلاء (الطف)، بعدما استقرّ الحسين عليه السلام بأهله وأصحابه فيه، ولم يكن في الطريق، وقبل أن يُحاصَر الحسين عليه السلام، فقد استأذن مالك بن النضر الأرحبيّ الحسين عليه السلام في الانصراف، وانصرف من دون أن يواجه مشكلة من قِبل الجيش الأُمَويّ.

ويظهر من الرواية أنّهما كانا عارفَين بموقع الحسين عليه السلام ، وحَقّه وذمّته وحُرمته في الإسلام، وموقعه من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم.

ففي رواية أبي مَخنَف: فتذمّمنا، وسلّمنا عليه، ودعونا الله له.

والتذمّم بمعنى: حفظ الذمام، وحفظ العهد والحَقّ والحُرمة، كما في المُدوَّنات اللُغويّة.

إذاً، فهما قد عظما وأكبرا ما على ذمّتهما من حقّ الحسين وحُرمته وعهده، فلمّا أرادا الانصراف، استوقفهما الحسين عليه السلام وقال لهما: فما يمنعكما من نُصرتي؟.

ويَلفِت نظرنا أنّ الإمام يسألهما عمّا يمنعهما من نُصرته، قبل أن يسألهما النصرة ويدعوهما إليها.

وكأنّ في خروج الحسين عليه السلام على يزيد- بتلك العصابة القليلة- إلى العراق ما يُغني عن الدعوة والاستنصار، فلا حاجة مع ذلك، إلى أن يستنصر أحداً أو يدعوه، ففي خروج الحسين عليه السلام إلى العراق دعوة واستنصار لكلّ المسلمين، وللحسين عليه السلام حَقّ وحُرمة على ذمّة كلّ المسلمين.

إذاً، يسأل الضحّاكَ وصاحبَه: فما يمنعكما من نُصرتي؟.

أمّا مالك بن النضر الأرحبيّ، فقد أراح نفسه وأراحنا بوضوحه وصراحته في الاعتذار عن الاستجابة للحُسين والتخلّف عنه، فقال: عليّ دَين ولِيَ عيال، فأعرَض عنه الحسين عليه السلام ، وانصرف هو لشأنه، فقد أقبلت السعادة والتوفيق عليه فأعرضَ عنهما.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
206

198

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 وأمّا الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ، فأجاب الحسين عليه السلام بجوابٍ مُعقَّد، شديد الالتواء والتعقيد، فلا هو رفضَ دعوة الحسين وأعرَض عنها، كما رفضَها صاحبُه وأعرضَ عنه، ولا هو استجاب للحسين عليه السلام وقبِل عنه، كما استجاب له أهل بيته وأصحابه.


ولنتأمّل في جواب الضحّاك، فإنّه يُمثِّل شريحة واسعة من النفوس والمواقف إزاء "الدعوة".

وإنّنا ندرس، من خلال الضحّاك بن عبد الله في موقع الطفّ، ومن خلال المُتخلّفين في موقع حُنين، شريحة كبيرة في التاريخ الإسلامي، وشريحة كبيرة في تأريخنا المعاصر، ونحاول أن نرسم أبعاد هذه الشريحة في حياتنا المعاصرة، ونُشخِّص نقاط الضعف في شخصيَّتها، عسى أن نقوِّم من سلوكها ما يمكن تقويمه.

وسوف نجعل جواب الضحّاك للحسين عليه السلام في موضع التأمّل والدراسة، ضمن مجموعة من النقاط:

النقطة الأُولى الاعتذار

قدّم الضحّاك أوّل ما قدّم الاعتذار للإمام عليه السلام ، بما عليه من ديون ومال، شأنه في ذلك شأن صاحبه، فقال: إنّ عليّ دَيناً، وإنّ لي لَعيالاً.

وأوّل ما يَلفِت نظرنا في هذا الجواب: أنّ الضحّاك ومالك بن النضر لم يختلفا في الجواب، فكلّ منهما اعتذر عن تلبية دعوة الحسين عليه السلام بالعيال والدَين، غير أنّ الضحّاك استجاب لدعوة الحسين، استجابةً محدودة ومُقيَّدة ومشروطة، بعد أن اعتذر أوّلاً، وأمّا صاحبه الأرحبيّ، فلم يَستجب مُطلَقاً لدعوته.

وفي هذا الاعتذار والاستجابة المشروطة، من التعقيد ما ليس في موقف صاحبه، وقد كان أحرى به أن يستجيب استجابة محدودة ثمّ يعتذر. فلماذا قدّم الاعتذار على الاستجابة؟ إنّ في الأمر لسرّاً كامناً في أعماق نفس الضحّاك، فعندما طلب الحسين عليه السلام منه النصرة، تزاحمت في نفسه حالة الشُحّ وحالة الإنفاق، فغلبت 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
207

199

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 حالة الشحّ حالة الإنفاق، وسبقتها إلى البروز، ولكن لم تُصادِر الحالة الأُخرى تماماً، كما كان في موقف مالك بن النضر الأرحبيّ.

 
ولنتأمّل إذاً في اعتذار الضحّاك بعياله وديونه:
إنّ الابتلاء بالدَين والعيال من سُنَن الله في حياة الإنسان، وقلّما يشذّ عنه إنسان، شأنهما في ذلك شأن غيرهما من سُنَن الله تعالى في حياة الإنسان.
 
فلا بدّ للإنسان من عيال، ولابدّ أن يدخل مع الناس في بيع وشراء، فيكون دائناً ومَديناً، يطلب الناس ويطلبونه.
 
وجها الحياة الدنيا:
 
والدَين والعيال هما وجهان مُختلفان للدنيا، فالعيال تعبير عن تعلّق الإنسان بالدنيا، وهو أحد وجهَي الدنيا، وهو ما يُسمّيه القرآن الكريم بـ (الشهَوات)، وتجمع هذه الآية الكريمة طائفة من هذه التعلّقات: 
﴿ زُيّنَ لِلنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾1.
 
والدَين هو الوجه الآخر للدنيا، وهو وجه التَبعات والمسؤوليّات.
 
والدنيا هي عبارة عن تعلّقات وتَبعات، ومن أجل لذّة التعلّقات يتحمّل الإنسان مرارة التَبعات، ولابدّ لكلّ إنسان من هذه التعلّقات ومن هذه التبعات، ولا يشذّ عن هذه السُنّة الإلهيّة في الحياة إلّا القليل.
 
وهذه (التعلّقات) و (التَبعات) بمجموعها، هي العوائق في طريق الإنسان وحركته إلى الله تعالى، تُعيق الإنسان عن الله سبحانه، وقد أعاقتا- في هذه القضيّة- مالك بن النضر الأرحبيّ، إعاقة كاملة، وأعاقتا الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ إعاقة ناقصة.
 
فكيف نتعامل نحن، في الدنيا، مع هذه العوائق؟ وما هو موقف الإسلام منها؟
 
 
 

1-آل عمران:14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
208

200

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 إنّ الحلّ الذي يُعطيه الإسلام للتعامل مع هذه العوائق (التعلّقات والتَبعات) دقيق في غاية الدقّة، وأكثر الّذين شَطّوا في فهْمِ الحلّ الإسلامي لمسألة الدنيا بوجهيها، كانوا ضحيّة عدم الدقّة في تناول هذا الحلّ بأبعاده الكاملة.


فليس في الإسلام أن يتخلّى الإنسان عن عيال أو دَين، أو حتّى أن يتخفّف عنهما، والتخلّي أو التخفّف من العيال والمال من الرهبانيّة الّتي يرفضها الإسلام.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يعيش مع الناس، ويتزوّج ويتعامل مع الدنيا، كما يتعامل غيره. وكان له عيال وعليه ديون وتبِعات، كما كان لغيره، وكان له بيت يضمّ عياله، وكان يدخل السوق في حاجاته وشؤونه، كما كان الآخرون يعملون.

وقِوام الحلّ الإسلامي هو: أن يتحرَّر الإنسان من أسرِ العيال والمال، وليس أن يتخلّى أو يتخفّف منهما، وبين الأمرين بَوْن بعيد؛ فليس من الإسلام أن يتخلّى الإنسان أو يتخفّف من عياله وماله، ولكن من صلبِ الإسلام وتعليماته وتوجيهاته أن يتحرَّر الإنسان من سلطان عياله وماله.

فلا يرفض الإسلام البيت أو السوق في حياة الإنسان، ولا يأمره أن يعتزل هذا أو ذاك، ولكن يرفض أن يتحوَّل البيت أو السوق إلى سجن في حياة الإنسان، يقيِّدان حركته ويمنعانه عن الانطلاق، ويحجزانه ويُعيقانه عن الله تعالى.

وبشكل أوضح وتعبير أدقّ، إنّ الإسلام يرفض أن يتحولّ العيال والمال في حياة الإنسان إلى عوائق، تعيق حركة الإنسان، كما أعاقت حركة مالك بن النضر الأرحبيّ، والضحّاك بن عبد الله المشرقيّ.

كيف تتحوّل العوائق إلى مُنطلَقات؟:

ومن عجَبٍ أنّ الطريقة الإسلاميّة الصحيحة للتعامل مع وجهي الحياة الدنيا، تحوُّل هذين الوجهين من الدنيا (التبِعات والتعلّقات) من عوائق إلى مُنطلَقات، فتكون الدنيا للإنسان مُنطلَقاً إلى الله سبحانه وليست عائقاً، ويكون ماله وعياله مادّة لحركته إلى الله تعالى، ومُنطلَقاً لعروجه إليه عزّ وجلّ.

وإلى هذه الحقيقة يُشير الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام في كلمته، وقد سمع 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
209

201

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 رجلاً يذمّ الدنيا، فقال له في ما قال:

(إنّ الدنيا دار صدقٍ لِمَن صَدَقها، ودار عافية لمَن فَهِمَ عنها، ودار غِنى لمَن تزوَّد منها، ودار موعظة لمَن اتّعظَ بها، مسجد أحبّاء الله، ومُصلّى ملائكة الله، ومَهبط وحي الله، ومَتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنّة، فمَن ذا يذمُّها، وقد آذنت بِبَينِها 1، ونادت بفِراقها، ونعَتْ نفسها وأهلها، فمثَّلت لهم ببلائها البلاء، وشوَّقتهم بسرورها إلى السرور، راحت بعافية، وابتَكَرَت2 بفجيعةٍ ترغيباً وترهيباً، وتخويفاً وتحذيراً، فذمَّها رجال غَدَاةَ الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة، ذكَّرتهُم الدنيا فتذكّروا، وحدَّثتهم فصدَّقوا، ووَعظتهُم فاتّعظوا3.
 
ويقول عليه السلام في كلمة أُخرى: الدنيا دار مَمَرٍّ، لا دار مَقرٍّ، والناس فيها رَجُلان، رجلٌ باع نفسه فأوبَقَها، ورجلٌ ابتاعَ نفسه فأعتَقَها4.
 
مقارنة بين زُهير بن القَين رحمه الله والضحّاك
 
ولقد كان زهير بن القين، رحمه الله، يملك من المال والعيال ما كان يملكه الضحّاك ابن عبد الله، وكان يعيش في دنياه كما كان يعيش الضحّاك في دنياه، بل قد يكون حظّ زهير من الدنيا أعظم من حظِّ الضحّاك، فقد كان زهير بن القين، رحمه الله، زعيماً في قومه، وجيهاً في بَلَدِه، ولم يحفل المؤرِّخون بأمر الضحّاك وصاحبه في شأنٍ من شؤون الدنيا، وكان الضحّاك أقرب إلى الحسين عليه السلام ، وأكثر مَيلاً إليه من زهير، فقد كان زهير، رحمه الله، عُثمانيّ الهوى، كما يذكر أصحاب السِيَر، وكان يحرص ألّا يلتقي الحسين عليه السلام بمنزلٍ في طريقه إلى العراق، فإذا وجد الحسين قد نزل منزلاً فيه ماء، نزل غيره. وأمّا الضحّاك وصاحبه مالك بن النضير، فقد قصدا الحسين في كربلاء، وجلسا إليه ودَعوا له، ولم يكن يحدث 
 
 
 

1-بَينِها: بُعدها وزوالها عنهم.
2-ابتَكَرَت: أصبحت تبتكر، أي تصيح.
3-نهج البلاغة: باب الحِكَم/ الحكمة رقم: 126.
4-نهج البلاغة: باب الحِكَم/ الحكمة رقم: 128.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
210

202

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 شيء من ذلك لو لم يكن الضحّاك ومالك بن النضر من شيعة الحسين عليه السلام ، وممَّن تميل إليه قلوبهم. ومع ذلك كلّه، فإنّ (العيال والمال) قد أعاقاهما عن الالتحاق به بشكلٍ كامل، أو بشكلٍ ناقص.

 
وأمّا زهير بن القَين، رحمه الله، فقد رجع من عند الحسين عليه السلام ، ولم يستغرق اجتماعه بالإمام في أغلب الظنِّ بِضْع دقائق، وقد أعدّ نفسه للوفود على الله مع الحسين، والانصراف الكامل عن الدنيا، فأقبل إلى زوجته (دَلْهم) بنت عمرو، رحمها الله، وقال لها بقوّة وعزم، وفي نفس الوقت بسهولة وراحة: (الحقي بأهلك، فانّي لا أُحبّ أن يُصيبك بسببي إلّا خيرٌ، ثمّ قال لمن معه: (مَن أحبَّ منكم نصرة ابن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، وإلّا فهو آخر العهد)1، ولم يَعقه عن ذلك مال ولا عيال.
 
وقد كانت زوجته (دلْهم)، رحمها الله، هي الّتي دفعته وشجَّعته على الاستجابة لدعوة الحسين عليه السلام ، فقد أصابه وأصاب رِفاقه ذُعر غريب عندما جاء رسول الحسين عليه السلام ، وهو على الطعام، يدعوه إلى زيارة الإمام، فصمتَ وصمتوا، وكأنّ على رؤوسهِم الطير.
 
فاخترقت المرأة المؤمنة الشجاعة (دلهم بنت عمرو)، رحمها الله، هذا الصمت والذعر بقوّة، وقالت لزوجها- ورسول الحسين عليه السلام يسمعها ويشهد الموقف-: (سبحان الله، أيبعث إليك ابن بنت رسول الله ثمّ لا تأتيه، لو أتيته فسمعت كلامه؟!!)2.
 
ومع ذلك، فلم يَتَوان زهيـــر- عنــــدما قرَّر الوفــــود علـــى الله تعـــالى مع الحسين عليه السلام - أن يقول لزوجته دلهم، هذه المرأة الشجاعة: (إلْحقي بأهلك).
 
إذاً، ليست المسألة مسألة المال والعيال، وإنّما المسألة في أمر آخر، في طريقة التعامل مع المال والعيال.
 
والفرْق بين الضحّاك وزهير، رحمه الله،لم يكن في أنّ الأوّل كان يملك من المال والعيال ما لا يملكه الثاني، وإنّما كان في طريقة تعاملهما مع المال والعيال. فقد 
 
 
 
 

1-مقتل الحسين للسيّد عبد الرزاق المقرّم: ص 188.
2-حياة الإمام الحسين للشيخ القرشيّ: ج 3 / ص 67.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
211

203

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 كان الضحّاك وصاحبه الأرحبيّ أسيرَين للمال والعيال، فأعاقاهما عن الانطلاق مع الحسين، وكان زهير بن القَين مُتحرِّراً من أَسرِ المال والعيال، فلم يُعيقاه عن الحركة مع الحسين عليه السلام للوفود على الله.


النقطة الثانية: (الاستجابة المَشروطة):

والنقطة الثانيـــة في جـــواب الضـــحّاك أنّه لــم يرفض القتال إلى جانب الحسين عليه السلام، ولم يعتذر بصورة مُطلَقـة، كما اعتذر صاحبه مالك بن النضر، بل قاتل مع الحسين، وضربَ الأعداء بين يديه، ودعا له الحسين عليه السلام.

وهذه نقطة أُخرى مُشرِقة في موقف الضحّاك من الحسين، فهو ليس من الذين وصفَهم الفرزدق الشاعر بقوله: (قلوبهم معك وسيوفهم عليك)، وإنّما كان قلبه وسيفه مع الإمام الحسين، وهو صـــادق في هذا وذاك، إلّا أنّه لم يعط سيفه للحسين عليه السلام ، ولم يضع سيفه تحت أمر الحسين عليه السلام إلّا بمقدار، وحدَّد لذلك شَرطَين: (إذا لم أجد مُقاتلاً، قاتلت عنك ما كان لك نافعاً وعنك دافعاً، وهذا شرط غريب!

إنّ الضحّاك يحصر نصرته للحسين عليه السلام بين شرطَين:
1- أن يكون الحسين عليه السلام بحاجة إليه، ولا يُغني عنه غيره.
2- وأن يكون قتاله دون الحسين عليه السلام نافعاً له، فإن لم يكن هذا أو لم يكن ذلك، فإنّ الضحّاك في حلِّ من أمره.

ونحن لا يُعجبنا أنّ نشكِّك في صِدق نيّة الضحّاك في موقفه من الإمام، رَغمَ فراره من الزحف، في اللحظات الأخيرة، وتركه الإمام عليه السلام في أحرجِ اللحظات، وإيثاره للعافية، فإنّ لدينا- مع كلّ ذلك- من الشواهد ما يكفي لإثبات حُسن نيّة الضحّاك، وصِدقه في الوقوف إلى جنبِ الإمام والدفاع عنه، إلّا أنّنا نجد عنده إحساساً محدوداً بالمسؤوليّة تجاه الموقف، وتَقتِيراً شديداً في العطاء في إطارِ هذه المسؤوليّة، ومحاولة جادّة في إخضاع الإنفاق في سبيل الله لمُعادَلات دقيقة شديدة التعقيد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
212

204

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 فهو يُعطي من نفسه لله تعالى، ولكنّه عطاء مشروط ومحدود وبحساب، وضمن تقديرات دقيقة، وليس كما يقول الله تعالى: ﴿إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنّ لَهُمُ الجنّة﴾1.

 
والدقّة في المحاسبة، والمحاسبة الدقيقة أمرٌ جيّد، لا نشكّ في حُسنه وفائدته، ولكن عندما يكون طرف المحاسبة هو نفس الإنسان، وقد ورد في الحديث: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا)، وأمّا عندما يكون طرف الحساب هو الله تعالى، فإنّ المحاسبة بهذه الدقّة، وضمن هذه الشروط والقيود، أمر قبيح مع الله سبحانه.
 
والضحّاك هنا يتعامل مع الله تعالى، وإن كان طرف التعامل، في ظاهر الأمر، هو الحسين عليه السلام.
 
ولا يطلب الحسين عليه السلام أمثال الضحّاك في حركته هذه، وإنّما يطلب لنصرته أُولئك الّذين يبذلون كلّ ما عندهم من الأنفُس والأموال لله تعالى، من دون حساب وشروط وحدود وقيود، فقد خطب عليه السلام في الناس لمّا أراد الخروج من مكّة إلى العراق وقال:(ألا ومَن كان فينا باذلاً مُهجته، موطِّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإنّي راحل مصبحـاً إن شـاء الله)2.
 
ولا شكّ أنّ هذا العطاء الشحيح خير من النضوب، على كلّ حال، ولكن أصحاب هذه العطاء المحدود لا يستطيعون أن يُسايروا الحسين عليه السلام في مثل هذه المرحلة.
 
وأعتقد أنّ عبارة (لم يوافق) في هذا الموضوع تساوي عبارة (لم يستطع)، فإنّ الضحّاك (لم يوافق) أن يُقاتِل من دون الحسين بلا حدود وقيود، وبنفس الملاك (لم يستطع) أن يُساير الحسين إلى الشوط الأخير من رحلته.
 
العلاقة بين العمل والجزاء:
إنّ العمل والجزاء نوعان من العطاء، العمل: ما يقدّمه الإنسان لله تعالى: ﴿
 
 
 

1-التوبة:111.
2-مقتل الحسين ، للسيّد المقرّم، منشورات مؤسّسة البعثة- طهران: ص 166. واللهوف على قتلى الطفوف، للسيّد ابن طاووس: ص 33. وابن نما: ص 20.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
213

205

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 فإِنَّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾1، والجزاء: عطاء الله للإنسان في مقابل عمله. العمل من الإنسان، والجزاء من الله سبحانه، وبين الجزاء والعمل صِلة وعلاقة يستعرضها القرآن الكريم بدقّة وتفصيل، ولسنا الآن بصدَدها، وإنّما نحن بصدَد اختلاف الجزاء من عند الله باختلاف العمل من جانب الإنسان، من حيث الحساب واللاحساب، وهي مسألة جديرة بالاهتمام وموضع الشاهد في حديثنا هذا، فإنّ عطاء الإنسان محدود على كلّ حال، إلّا أنّه قد يُعطى لله تعالى بحساب ومقدار، وقد يعطى من دون حساب وتقدير.

 
وهاتان طائفتان من الناس:
طائفة تعطي لله بحساب وتقدير، كالضحّاك بن عبد الله المشرقيّ، يعطي لله شيئاً ويحتفظ لنفسه بشيء، وإذا تواردت على شيء إرادة الله تعالى وهواه، قدّمَ هواه على إرادة الله سبحانه.
 
وطائفة أُخرى تعطي لله ما آتاها الله تعالى، من غير حساب ولا تقدير، وهؤلاء هم الّذين تقول عنهم الآية الكريمة: ﴿إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنّ لَهُمُ الجنّة﴾2.
 
هؤلاء اشترى منهم الله أنفسهم، وباعوها لله تعالى، وقطعوا علاقتهم بأنفسهم، فهي لله عزّ وجلّ، اشتراها منهم، ولا شأن لهم بها بعد، يصنع بها ما يشاء، والثمن مقبوض ﴿بأنّ لهم الجنّة﴾.
 
فقد تمّ البيع وتمّ الشراء، وتمّ استلام الثمن، فلا يملك المؤمن من نفسه وماله إذاً شيئاً، ليملك التقدير والحساب في عطائه وبَذلِه، فهي كلّها لله تعالى، يأخذ منها ما يشاء ويدع منها ما يشاء، والله تعالى يجزي هؤلاء وأُولئك على نحوين من الجزاء: جزاء محسوب ومحدود، وجزاء من غير حساب، وها نحن نشرح تفصيل هذا الأمر:
 
 
 

1-ال عمران:97
2- التوبة:111.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
214

206

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 إنّ الأجْر الذي يعطيه الله لعباده في مقابل أعمالهم كريم وعظيم، وكبير وحسن وغير ممنون، وهذه خمسة أوصاف للأجر الذي يرزق الله عباده على حسناتِهم.

 
1- فهو أجْر كريم: ﴿مَن ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾.1
 
2- وهو أجر عظيم: ﴿لِلّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، ﴿وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.2
 
3- وهو أجر كبير: ﴿وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾3، ﴿فَالّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾4.
 
4- وهو أجر حسَن: ﴿فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْراً حَسَناً﴾5.
 
5- وهو أجر غير ممنون: ﴿وَإِنّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ 6،﴿إلّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ فلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾7.
 
وهذه الأوصاف الخمسة عامّة شاملة لكلّ أجْرٍ يرزقه الله عباده، ممَّن يعطي لله بلا حساب أو بحساب. إلّا أنّ الذين يعطون لله تعالى من دون حساب وتقدير، يُحاسبهم الله في السيّئات حساباً يسيراً: ﴿فَأَمّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ - فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً﴾8.
 
هذا في حساب السيّئات، أمّا في الحسنات، فإنّ لله تعالى نوعين من الأجر: أجراً محدوداً وبحساب، وأجراً غير محدود، ومن دون حساب.
والأوّل منهما للّذين يعطون لله تعالى بحساب وتقدير، والثاني منهما للّذين يعطون لله تعالى من أموالهم وأنفسهم بلا حساب وتقدير.
 
 
 

1-الحديد:11.
2- آل عمران:172 و179.
3- فاطر: 7.
4- الحديد: 7.
5- الفتح:16.
6-القلم: 3.
7- التين: 6.
8-الانشقاق: 7 و 8.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
215

207

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 وليس معنى الحساب والتقدير، من جانب الله، المساواة بين العمل والجزاء، في الحجم والكَم، وإنّما معناه: وجود التناسب بين العمل والأجر.

 
وأمّا عندما يكون عطاء العبد لله من دون حساب، فإنّ جزاء الله تعالى له يكون من غير حساب وتقدير. يقول سبحانه: ﴿إِنّمَا يُوَفّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾1.
 
وتستوقفنا هذه الآية المباركة من سورة النور طويلاً في شأن الجزاء، عندما يكون العمل من جانب الإنسان من غير حساب: ﴿رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ - لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزيدَهُم مِن فَضْلِهِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾2.
 
وهذه ثلاث خصائص للجزاء الإلهيّ:
 
الخاصيّة الأُولى: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾، فالجزاء من عند الله ليس بأسوأ ما يعمل العبد، ولا بمتوسّط ما يعمل العبد، وإنّما بأحسن ما يعمله.
 
ولابدّ من توضيحٍ لهذه الفقرة من الآية الكريمة
 
فإنّ للناس في الجزاء طريقين معروفين:الجزاء بأسوَأ ما يعمل الطرف الآخر. فقد يُحسِن الإنسان إلى صاحبه عُمْراً طويلاً، ثمّ يُسيء إليه مرّة واحدة، فيجعل صاحبه هذه الإساءة ميزاناً لعلاقته به، وينسى كلّ ما سبق له من فضل وإحسان إليه، وهذا هو الجزاء بالأسوأ.
 
وقد يكون الجزاء في ما بين الناس بأوسط ما يفعلون. كما يُقدِّر المُدرِّسون درجات طلاّبِهم بأوسط إجاباتهم في الامتحانات، وهو الحساب بالمُعدَّلات.
والله تعالى لا يجزي عباده بأسوأ ما يعملون، ولا يجزيهم بأوسط ما يعملون، وإنّما يجزيهم بأحسن ما عملوا، وله الحمد ربّ العالمين.
 
 
 
 

1-الزمر:10.
2-النور:37- 38.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
216

208

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 والخاصيّة الثانية للجزاء، في هذه الآية المباركة هي: ﴿وَيَزيدَهُم مِن فَضْلِهِ﴾. ولا علاقة لهذا بأعمالهم إطلاقاً، فهو تعالى يزيدهم في الجزاء من فضله بما يشاء وكيفما يشاء.

 

 
والخاصيّة الثالثة: ﴿وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. وهذا أعظم ما في هذه الآية، فإنّ رزق الله تعالى لعباده يوم القيامة، في مقابل حسناتهم، رزق من غير حساب ولا تقدير، فإنّ العبد لو كان يعطي لربِّه ممّا آتاه من غير حدود ولا حساب، فإنّ الله تعالى أولى بأن يعطي عبده، يوم القيامة، من غير حدود ولا حساب.
 
النقطة الثالثة: (التَحلّل من الالتزام):
 
بعد أن يعتذر الضحّاك إلى الحسين عليه السلام بديونه وعياله، يطلب من الإمام أن يجعله في حلٍّ من الانصراف إذا شاء، فيقول: (ولكنّك إن جعلتَني في حلٍّ من الانصراف، إذا لم أجد مقاتلاً قاتلتُ عنك). والحلّ في مقابل الالتزام، ولا يمكن أن يرتبط الإنسان بالتزامين مُتعاكسَين في وقت واحد، فإذا كان الضحّاك مُلتزِماً تجاه ديونه وعياله، فمن الطبيعي أنّه لا يستطيع أن يكون مُلتزِماً تجاه الإمام، ولابدّ من أن يتحــرَّر من أحد الالتزامَين، وقد آثر أن يتحرَّر من التزامه تِجاه الحسين عليه السلام ، دون التزامه تجاه ديونه وعياله، والالتزام تجاه الحسين هو الالتزام تجاه الدعوة والجهاد.
 
(التزام) و (حِلّ):
 
والضحّاك يكشف لنا، هنا، عن موقف غريب، في سلوكه وتعامله مع عياله وماله من طرف، ومع الله تعالى من طرفٍ آخر.
 
ولابدّ من أن نكشف في هذه الوقفة هذا الموقف، لتكتمل عندنا الصورة الّتي نريد أن نرسمها للضحّاك، من خلال جوابه للحسين عليه السلام. فهو يطرح أوّلاً عُذره من خلال التزامه بالنسبة إلى عياله وديونه، ثمّ يطلب ثانياً منه أن يكون في حِلٍّ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
217

209

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 من أمره عندما يريد الانصراف، إذا لم يجد قتاله من دونه نافعاً له.

 
ثمّ يعرض على الحسين عليه السلام استعداده للقتال والدفاع عنه، بصورة محدودة ومُقيَّدة، فهو- حسب هذا التسلسل الّذي نجده في جوابه للإمام- يُقدِّم التزامه تجاه عياله وديونه أوّلاً، ثمّ يطلب إلى الحسين عليه السلام أن يكون في حلٍّ من أمرهِ ثانياً.
 
وواضح أنّ هذا الالتزام الّذي يحرص عليه الضحّاك تجاه الدنيا، وهذا الحِلّ الّذي يطلبه الضحّاك من الحسين عليه السلام تجـاه الله، أمرٌ غريب في شخصيّة الضحّاك، وقد كان أحرى به وأجدر أن يكون حريصاً بهذا الالتزام تجاه الله، وبهذا الحلِّ والتحلُّل والتحرّر تجاه الدنيا.
 
إنّ تفكير الضحّاك بن عبد الله في هذا الموقف تفكير مُحتاط ومُتحفِّظ بصورة غريبة، فهو في الوقت الذي يستجيب فيه لدعوة الإمام، يُبقي الأبواب من خَلفِه مفتوحة، ليتمكّن من العودة إلى الدنيا، عندما يبلغ المُفترَق الّذي لا يستطيع بعده أن يجمع بين الدنيا والآخرة، ولابدّ من أن يختار إحداهما، إمّا ديونه وعياله، وإمّا الآخرة، فيُبقِي الأبواب من ورائه مفتوحة، ليتمكّن من أن يرجع إلى الدنيا في اللحظة الحَرِجة من المَسير.
 
ونحن إذا استثنينا أُولئك الّذين يتحرَّكون على غير صراط الله، ويَصدّون الناس عن الحركة إلى الله تعالى، نجد أنّ سائر الناس في تحرّكهم إلى الله على طائفتين:
 
الطائفة الأُولى: تتحرّك إلى الله سبحانه، في جدٍّ وعَزم وصدق، تهدم من ورائها جسور العودة إلى الدنيا، لا يطردون الدنيا ولا يهجرونها، ولكنّهم إذا بلغوا المُفترَق الّذي لابُدّ لهم من أن يختاروا عنده الدنيا أو الآخرة، لا يُؤثرون على الآخرة شيئاً.
وهؤلاء هم (الصادقون) في التحرّك إلى الله ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾1، وموقعهم من الله عزّ وجلّ في الآخرة ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ 
 
 
 
 

1-الأحزاب:23.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
218

210

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾1.

 
وطائفة أُخرى من الناس: يتحرَّكون إلى الله في حَذرٍ واحتياط، يُحبّون الله ورسوله ولكن، ما لم يُزاحم دنياهم، وما لم يسلبهم دنياهم، فإذا بلغوا المُفترَق الذي لابُدّ فيه من الاختيار الصعب، آثروا الدنيا على الآخرة، واختاروا شقَّ الدنيا وعادوا إليها. ولكيلا ينقطع طريق العودة عليهم، في اللحظات الأخيرة، لا يهدمون من ورائهم الجسور التي تنقلهم إلى الدنيا.
 
فهؤلاء يتحرّكون إلى الله سبحانه، ولا نشكّ في نيِّتهم وصدقهم- في هذه الحدود-، ولكن كلّما قطعوا شوطاً من الطريق، مَدّوا من ورائهم بقدره جسراً ينقلهم إلى الدنيا.
 
وهكذا كان الضحّاك بن عبد الله، اشترط على الحسين عليه السلام - قبل كلّ شيء- أن يكون في حلٍّ من الانصراف إلى دَينِه وعياله، فدخل مع الحسين عليه السلام في ما دخل فيه من قتال جيش بني أُمية، وقاتل بين يدي الحسين عليه السلام ، وقتل منهم وجرح عدداً، ولكنّه قد تحوَّط لنفسه منذ أوّل ساعة، فأخفى فرسه داخل فسطاط بين البيوت، وقاتلَ راجِلاً بين يدي الحسين عليه السلام ، لتَسْلَم له فرسه وليركبها ويفرّ بها إلى خارج ساحة المعركة، ويهرب عن جند ابن زياد، في اللحظة الحَرِجة الّتي لابُدّ له فيها من أن يختار أحد الأمرين.. فلمّا جدَّ الجِدُّ، ذكَّرَ الإمام الحسين عليه السلام بإذنه له في الانصراف متى شاء، ومتى لم ينفعه دفاعه عنه وقتاله من دونه، فصدَّقه الحسين عليه السلام ، فركب فرَسه وهرب من الآخرة إلى الدنيا.
 
إنّ هذا الرجل دقيق في تقدير المسافة الّتي يستطيع أن يُساير الحسين عليه السلام فيها، يضبط حساباته في هذه الحركة بشكلٍ دقيق، ويَتَحوَّط للعودة إلى الدنيا، عندما يصل إلى المُفترَق الذي يُؤثر عنده الدنيا على الآخرة.
 
يُشخِّص المُفترَق بدقّة، ويُحدِّد المسافة الّتي يُساير فيها الحسين عليه السلام بدقّة، ويَتَحوّط للعودة من الله إلى الدنيا في اللحظة المناسبة، ويُبقِي من ورائه- وهو يتحرّك مع الحسين عليه السلام إلى الله- بابَين مفتوحين، يرجع من خلالهما إلى الدنيا 
 
 
 
 

1-القمر:55.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
219

211

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 عندما يريد:


أحدهما: مُوافَقة الحسين عليه السلام أن يكون في حلّ من أمره عندما يريد الانصراف إلى الدنيا.

وثانيهما: فَرسه التي احتفظ بها في فسطاط داخل البيوت، عندما حاصر جيش بني أميّة الحسين عليه السلام، ليستطيع أن يركبها في اللحظة المناسبة من الآخرة إلى الدنيا.

ومرّة أُخرى نريد أن نُقارِن- في هذه النقطة من البحث- بين الضحّاك وزُهير: 

كلّ منهما أقبلَ على الله تعالى مع الحسين عليه السلام.

الضحّاك دخل معركة الطفِّ إلى جنب الإمام، وقاتل وجاهد بين يديه، وزهير، رحمه الله، أقبلَ مع الحسين عليه السلام وجاهد وقاتل. ولكنّ الفرق بين هذا وذاك، أنّ الضحّاك أقبل على الله وأبقى الأبواب مفتوحة من خلفه، بكلّ دقّة واحتياط، وأبقى الجسور قائمة من ورائه إلى الدنيا، ليعود إليها في اللحظة التي يريد. وأمّا زهير، فعندما قرّر الوفود على الله تعالى مع الحسين عليه السلام ، قطع كلّ ما كان بينه وبين الدنيا من جسور، وأغلق كلّ باب بينه وبين الدنيا، وقال لزوجته (دلهم) في عزم وقوّة ويُسر: (إلْحقي بأهلك). 

وإنّنا نتابع تفكير الضحّاك، وما أخذه الضحّاك من احتياط لنفسه في مثل تلك الساعة وتلك المعركة، فنرى أنّ هذه الدقّة في التقدير والضبط في الحساب، والتحفُّظ والاحتياط الشديدَين، جديرة بالاحترام لو كان في علاقة الإنسان بنفسه ومحاسبته لها.

أمّا عندما يكون التعامل مع الله تعالى، فمثل هذا التقدير والدقّة والاحتياط للعودة إلى الدنيا، هو من الشُحِّ في العطاء، ومن التردّد في العمل وفقْدان العَزم.

الجسر الذي مدَّه الضحّاك إلى الدنيا من عُمق (الطفّ):

ولنستمع إليه مرّة أُخرى:(لمّا رأيتُ أصحاب الحسين قد أُصيبوا، وقد خلُص إليه وإلى أهل بيته، ولم 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
220

212

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 يبقَ معه غير سويد بن عُمَر الحنفـي، وبشير بن عمرو الحضرمي، قلتُ له: يابن رسول الله، قد علمتَ ما كان بيني وبينك، قلت لك: (أُقاتل عنك ما رأيت مقاتلاً، فإذا لم أرَ مقاتلاً فأنا في حلٍّ من الانصراف، فقلتَ لي: (نعم)؟! فقال: (صدقت، وكيف لك النجاة؟ إن قدرتَ على ذلك فأنت في حلٍّ). قال: فأقبلتُ إلى فرَسي، وقد كنت حيث رأيت خَيل (أصحابنـا)1 تُعقَـر، أقبلت بها حتّى أدخلتُها فسطاطاً لأصحابنا بين البيوت، وأقبلتُ أُقاتل معهم راجلاً... فلمّا أذِنَ لي، استخرجتُ الفرَسَ من الفسطاط، ثمّ استويتُ على متنِها، ثمّ ضربتُها حتّى إذا قامت على السنابك ، رميتُ بها عرض القوم، فأفرجوا لي..)2.

 
إنّ أمر الضحّاك لغريب في نوعه، فهو يمدّ جسور الدنيا إلى عُمقِ معركة الطفّ، وإلى داخل خيام الحسين عليه السلام ، حيث لا يوجد فيها غير الآخرة! فهذه الفرَس التي أخفاها الضحّاك في فسطاط لأصحاب الحسين عليه السلام بين البيوت يوم عاشوراء، هي الجسر الذي مدّه الضحّاك لينقله إلى الدنيا.
 
وقد رأينا وسمعنا كثيراً عن امتداد الدنيا إلى أعماق النفس، في مختلف مراحل الطريق إلى الله سبحانه، ولكنَّنا لم نرَ في ما رأينا، ولم نسمع في ما سمعنا، أنّ الدنيا تنفذ وتمتدّ وتكمُن في نفس الإنسان إلى هذا الحدّ، فيدخل الإنسان معركة الطفّ مع الإمام، ويسقط أهل بيت الحسين عليه السلام وأصحابه صرعى بين يديه، ويُقاتِل بين يديه، ويدعو له الحسين عليه السلام ، وهو يرى الإمام واقفاً وحده بين يدي الأعداء، ثمّ لم يُفارقه حُبّ الدنيا ونفوذ الدنيا، وسلطانها على نفسه، في هذه المراحل جميعاً.
 
إنّ التصاق الدنيا بنفس الإنسان لَغريب، ومن الخطأ أن يغترَّ الإنسان بنفسه، فيتصوّر أنّه قد تحرَّر من سلطان الدنيا ونفوذها، ولم يعد بحاجة إلى معاناة وتزكية وجهاد للنفس.
 
إنّ في نفس الإنسان خبايا عميقة وأعماقاً مجهولة، يكمُن فيها حُبّ الدنيا، 
 
 


1-يقول الضحّاك: خيل (أصحابنا)، وهو عازم على مفارقتهم والانفلات من مصيرهم! وأيّ صُحبة يا تُرى بعد أن فارقَهم وهجَرهم إلى دَينه وعياله، ولَحقَ بصاحبه مالك بن النضر الأرحبيّ؟!
2-تاريخ الطبريّ، الطبعة الأوربيّة: ج 7/ ص354 355. ونفس المَهموم، للشيخ عبّاس القمّي: ص 298 300.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
221

213

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

 ويبقى هذا التعلّق يُطارِد الإنسان في حركته إلى الله تعالى، من حيث يعلم الإنسان أو لا يعلم، حتّى إذا بلغ الإنسان نقطة الاختيار الصعب، برزَ حُبّ الدنيا من أعماق النفس المجهولة إلى السطح البارز للنفس، وغيَّر وجْهَة الإنسان وحركته، من الله تعالى إلى الدنيا.


إنّ حُبّ الدنيا يلاحق الإنسان إلى هذه النقطة، الّتي لا يكاد أن يبلغها الإنسان إلّا بعد أن يخرج من مصفاة الابتلاء عشرات المرّات، ومع ذلك كلّه، يبقى هذا الحُبّ كامناً في نفسه.
إنّنا لا نريد أن نتَّهم الضحّاك في صدقهِ وحُبّه للحســــين عليه السلام ، وليــس مـــن سبـــبٍ يدعونا إلى أن نتّهم هذا الرجل الذي وقف هذا الموقف يوم عاشوراء من الحسين عليه السلام في نيّتِه وصدقِه، فلم يطلب الضحّاك من الدفاع عن الحسين عليه السلام ومن القتال بين يديه، دنيا. وهذا حقّ يجب أن نقول به ونعترف له به. لكنّه مع ذلك كلّه، لم يتحرَّر من حُبّ الدنيا، ومن التعلّق بالدنيا، ومن تبِعات الدنيا، حتّى عندما ساقه التوفيق والسعادة الإلهيّة إلى هذه المعركة الحاسمة بين الحقّ والباطل في التاريخ، ووضَعه الله تعالى في أشرفِ موقِع يتصوّره الإنسان، وهو موقع الدفاع عن الإسلام إلى جنْب ابن بنت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم.

والآن، بعد هذا التحليل النفسي لموقف الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ، يجب أن نوجز مرّة أُخرى العناصر التي تدخل في تكوين هذا الموقف الغريب، وأهمّ هذه العناصر هي:
1- حبّ الدنيا والتعلّق بها: وهو رأس هذه العناصر جميعاً، وهو أوّل شيء اعتذر به الضحّاك إلى الحسين عليه السلام عن مسايرته ونصرته، فلم يتخفّف ولم يتحرَّر الضحّاك من الدنيا، وهو في وسط هذه المعركة المصيريّة، كما تخفّف وتحرَّر منها (زهير) من قبل.

2- شحّة العطاء: وهي غير نضوب النفس، ففي حالة النضوب والجفاف ينقطع كلّ خير عن نفس الإنسان، أمّا في حالة (الشحّ)، فيبقى للإنسان عطاء محدود وشحيح. وقد رأينا كيف وضع الضحّاك نصرته للحسين عليه السلام ضمن مجموعة من الشروط، ولم يبذل نصرته بَذلاً، كما صنع سائر أصحاب الحسين عليه السلام ، ولم يُوطِّن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
222

214

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام 1


 بعد أن رفض الإمام الحسين عليه السلام إعطاء البيعة ليزيد، اغتنم أهل الكوفة الفرصة وبعثوا إلى الإمام رسائل كثيرة يطلبون منه تشكيل الحكومة في الكوفة. أرسل الإمام عليه السلام مسلم بن عقيل إلى الكوفة لدراسة أوضاعها. بعد أن تمكّن مسلم من الحصول على البيعة استطاع بمساندة أهل الكوفة محاصرة الحاكم في قصره، إلّا أنّهم تخلّوا عن مسلم دفعة واحدة، وانتهى به الأمر إلى الاستشهاد على يدي الحاكم. بالإضافة إلى ذلك انحاز أهل الكوفة إلى صفوف العدوّ في محاربة الإمام عليه السلام.

وبسبب أهميّة المسألة، فقد ارتسمت صورة في الأذهان عن المجتمع الكوفيّ، صورة غير متعارف عليها. لذلك كان ينبغي دراسة هذا البلد وتقييمه في ضوء علم الاجتماع لتتضح أسباب وعلل عدم الوفاء عند أهل الكوفة.

حصلت حادثة عاشوراء بعد عشرين سنة من شهادة الإمام عليّ عليه السلام وسنتحدّث لاحقاً أن أهل الكوفة، في هذه المدّة، تعرّضوا لأقصى أنواع الضغوطات، فقتل الكثير منهم وهاجر آخرون. فلو لم تقع هذه الحوادث، لكان جيل عصر الإمام الحسين عليه السلام جيلاً جديداً. لذلك فأهل الكوفة في عصر الإمام عليه السلام ليسوا هم أهل الكوفة في العصور السابقة، ولذا ومن أجل التعرّف على هؤلاء في العام ستّين للهجرة لا يمكن التمسّك بكلّ الأخبار التي تتحدّث عن السنين السابقة. وإذا كان 
 
 
 
 

1-السيّد حسن فاطميّ موحّد.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
225

215

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 الإمام عليّ عليه السلام قد تحدّث حول وفاء أهل الكوفة أو عدم وفائهم، فالمقصود من هذا الحديث هو الناس الذين كانوا يعيشون في عصره وليس في العصور اللاحقة. وعندما أراد الإمام الحسين عليه السلام الحركة نحو الكوفة حذّره بعض المقرّبين منه وذكَّروه بعدم وفائهم للإمام عليّ عليه السلام والإمام الحسن عليه السلام . ولعلّ السبب الذي جعل الإمام الحسين عليه السلام يصرّ على الحركة باتجاه الكوفة، هو أنّ أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام هم غير أهلها الذين عاشوا في ما مضى، أي في عصر أبيه وأخيه .


بناءً على ما تقدّم ينبغي دراسة عدم وفاء أهل الكوفة في كلّ عصر وزمان، بعيداً عن الأزمنة الأخرى. وسنحاول، في هذا المقال، دراسة ومعرفة المجتمع الكوفيّ في عصر الإمام الحسين عليه السلام أي في العام ستّين للهجرة ولن نعتني كثيراً بأوضاع أهل الكوفة قبل ذلك.

وأمّا المشكلة الأساسيّة في معرفة مجتمع الكوفة، فهي وجود أغراض وأهداف خاصّة سيطرت على المؤرّخين فكان الوصول إلى تفاصيل صحيحة لأخبار الكوفة صعباً. مثال ذلك ما ذكرته بعض الكتب التاريخيّة من أنّ الفرصة قد سنحت لمسلم في منزل هاني، أن يقتل عبيد الله إلّا أنّه لم يفعل ذلك. وبما أنّ الأخبار حول هذه الحادثة مضطربة، فلا يمكننا الإطلاع بشكل دقيق على سبب عدم قيام مسلم بذلك. فهل كان الأمر مراعاة لهاني حيث أراد أن لا يقتل عبيد الله في منزله؟ وهل قتل عبيد الله وهو يعود هاني، سيمنع من التفاف عواطف الناس حول مسلم؟ وهل أراد العمل بوصيّة الرسول صلى الله عليه واله وسلم الذي نهى عن الغدر؟ وعلى كلّ حال ليس بمقدورنا إصدار حكم قطعيّ في هذا الخصوص.

المثال الآخر الذي يمكن ذكره في هذا الخصوص أنّ مسلماً وبعد محاصرته القصر، تفرّق الناس عنه فلم يبق معه أحد. مع العلم أنّ من جملة الذين بايعوا مسلماً مجموعة من الأشخاص كانوا على استعداد للتضحية بأرواحهم من أجل الإمام، وقد شهدنا ذلك في كربلاء من أمثال حبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة وأبي ثمامة. أمّا المصادر التاريخيّة فلم تذكر شيئاً عن هؤلاء الأشخاص في تلك البرهة الزمنيّة الحسّاسة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
226

216

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 على كلّ حال، فإنّ التحليلات الموجودة تعتمد على هذه الأخبار النادرة والبعيدة عن الصواب. ومن المؤكّد أنّنا لو كنّا نمتلك من الأخبار التي تتحدّث عن تلك المرحلة الزمنيّة، عدداً أكبر، لاستطعنا تقديم تحليل أدقّ وأوضح.

 
مجتمع الكوفة
 
لا يمكن الاعتماد على الإحصاءات التي تحدّثت عن عدد سكان الكوفة قبل ثورة الإمام الحسين عليه السلام لمعرفة عدد سكّانها في عصر الثورة، والسبب في ذلك أنّه وبعد شهادة الإمام عليّ عليه السلام وتولّي زياد ابن أبيه (م 53 ق) الكوفة حيث نصبه معاوية والياً عليها في العام خمسين، فقد عمد إلى ممارسة الضغوطات القاسية على الشيعة. وقد عمل زياد على ملاحقة الشيعة وقتلهم أينما وجدهم وتحت كلّ حجر ومدر. كان زياد يمارس أقصى أنواع التعذيب ضدّ الشيعة، فيقطع الأيادي والأرجل ويعلّق على المشانق، ويسمل الأعين بالحديد المحمّى بالنّار، وينفيهم إلى أماكن مختلفة، بحيث لم يبق في العراق أيّ شخص من الشيعة المشهورين.1 
 
بناءً على ما تقدّم، ينبغي الرجوع إلى الإحصاءات التي حصلت في عصر الإمام الحسين عليه السلام لمعرفة عدد سكّان الكوفة. وأمّا بعض العبارات التي دوّنها أهل الكوفة في رسائلهم عند دعوتهم الإمام الحسين، فكانت على النحو الآتي: "إنّا معك مائة ألف"2، "أقدم علينا فنحن في مائة ألف"3. وبما أنّ جميع أهل الكوفة لم يكونوا موالين للإمام الحسين عليه السلام لذلك يمكن الحدس بأنّ عدد سكّان الكوفة في عصر الإمام عليه السلام أعمّ من المحارب وغير المحارب، الكبير والصغير، المرأة والرجل، كانوا حوالي مائه وخمسين ألف نسمة. وقد جاء في بعض المرويّات أنّهم كتبوا للإمام عليه السلام فقالوا: "إنّ لك ها هنا مائة ألف سيف"4، وهذا من جملة المبالغات أو الأخطاء حيث تشير أعلى الإحصاءات والتقديرات بأنّ الذين بايعوا 
 
 
 

1-الإحتجاج، ج 2، ص 17.
2-مثير الأحزان، ص 25.
3-تذكرة الخواصّ، ص 237.
4-الإرشاد، ج 2، ص 69، بحار الأنوار، ج 44، ص 370.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
227

217

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 الإمام عليه السلام لم يتجاوز عددهم الأربعين ألفاً.1

 
تركيب المجتمع الكوفيّ
 
بنيت الكوفة عام 17 ق بأمر من عمر باعتبارها مدينة عسكريّة2، فاجتمع فيها عدد من القبائل التي وفدت من أماكن متعدّدة وثقافات مختلفة. وعلى هذا الأساس فهذه المدينة الحديثة الوجود كانت تفتقد للهويّة التاريخيّة، وهي مليئة بالأخطار بسبب عدم التناسب والانسجام بين ساكنيها. وقد كتب أحد المحقّقين حول الذين سكنوا الكوفة وطوائفها والأديان المنتشرة فيها ما يأتي: 
 
كانت الكوفة أمميّة قد امتزجت فيها عناصر مختلفة في لغاتها وعاداتها وتقاليدها فكان فيها العربيّ والفارسيّ والنبطيّ والسريانيّ إلى جانب العبيد وغيرهم.
 
وأمّا القبائل العربيّة التي سكنت الكوفة فكانت عبارة عن القبائل اليمنيّة وهي تشمل: قضاعة، غسان، بجيلة، خثعم، كندة، حضرموت، الأزد، مذحج، حمير، همدان ونخع. والقبائل العدنانيّة وتشمل: تميم وبني العصر. وكذلك كان فيها قبائل بني بكر وهي عبارة عن: بني أسد، غطفان، ومحارب ونمير.
وهناك قبائل عربيّة أخرى استوطنت الكوفة وهي: كنانة وجديلة وضبيعة، وعبد قيس وتغلب وأياد وطي، وثقيف وعامر ومزينة.
 
وسادت في قبائل المجتمع العربيّ في الكوفة الروح القبليّة، فكانت كلّ قبيلة تنزل في حيٍّ معيّن لها لا يشاركها فيها إلّا حلفاؤها، كما كان لكلّ قبيلة مسجدها الخاصّ، ومقبرتها الخاصّة، وعاش في الكوفة أتباع عدد من الأديان، فكان إلى جانب المسلمين بفرقهم المختلفة، المسيحيّون واليهود.3
 
وقد دفعت الحساسيّات والعصبيّات القبليّة أهل الكوفة إلى الإسراع في اتخاذ 
 
 
 

1-تاريخ مدينة دمشق، ج 14، ص 203، بغية الطلب في تاريخ حلب، ج 6، ص 2604، البداية والنهاية، ج 8، ص 161، مثير الأحزان، ص 25.
2-تاريخ الطبريّ، ج 3، ص 144 145.
3-راجع: حياة الإمام الحسين ، ج 2، ص 432 445.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
228

218

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 القرارات عند مشاهدة أقلّ نفع أو ضرر كي لا تتقدّم عليها القبائل الأخرى. وبعبارة أخرى: جعلتهم تلك العصبيّات أشخاصاً متسرّعين، لا يمكنهم اتخاذ قرارات انطلاقاً من التعمّق والدراسة، وبالتالي وقعوا في المهلكات.

 
وقد ساهمت العصبيّات القبليّة في عدم وجود حالة وفاق اجتماعيّ، حتّى إذا حصل وفاق في مكان ما كان سريعاً ما يتمّ القضاء عليه، حيث كان الأساس هو التآمر. إنّ التركيب غير المتوازن والغالب على هذه المدينة، قد منح بعض المجموعات القدرة على تغيير السياسة الحاكمة في كلّ آن، وأن يجذب المجتمع نحو جهة معيّنة أخرى.
 
ومن الخصائص الأخرى للأفراد العسكريّين والحاملين للسلاح، عدمُ الانضباط والطاعة للحاكم، وهذا غير مختصّ بأهل الكوفة.
 
 يقول ابن أبي الحديد:"قيل: إنّ أهل الكوفة كانوا قد فسدوا في آخر خلافة أمير المؤمنين، وكانوا قبائل في الكوفة، فكان الرجل يخرج من منازل قبيلة فيمر بمنازل أخرى فينادي باسم قبيلته: يا للنخع مثلاً أو يا لكندة نداءً عالياً يقصد به الفتنة وإثارة الشرّ، فيتألّب عليه فتيان القبيلة التي مرّ بها فينادون: يا لتميم ويا لربيعة ويقبلون إلى ذلك الصائح فيضربونه، فيمضي إلى قبيلته فيستصرخها، فتسلّ السيوف وتثور الفتن"9.
 
إنّ أشخاصاً كهؤلاء لا يمكن أن يكونوا منقادين حتّى لحكّامهم، وقد شهد التاريخ أنّ أهل الكوفة- بعد موت زياد ابن أبيه- بدّلوا حاكم الكوفة خمس مرّات، منذ العام 53 إلى العام 60.
 
فقدان الإدارة الصحيحة للنهضة 
 
إذا كان من غير الممكن إدارة وهداية الحركات الشعبيّة بشكل صحيح، فإنّها تفقد بريقها عند أيّ حادثة فجائيّة، ويصاب الناس بالضياع، لا بل قد يتغيّر مسير 
 
 
 

1-شرح نهج البلاغة، ج 13، ص 167.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
229

219

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 الثورة. وبما أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان بعيداً عن الكوفة فهذا يعني أنّه كان غير قادر على إدارة الثورة في الكوفة وضبطها، وقد احتمل البعض وجود ضعف في إدارة مسلم بن عقيل.

 
وأمّا الذي يجعل احتمال ضعف إدارة مسلم بعيداً فهو أنّ الإمام عليه السلام أرسله، بعد ورود الرسائل والدعوات واتضاح حساسيّة الموقف. لو كان مسلم عاجزاً عن إدارة الثورة، لما أرسله الإمام عليه السلام إليها. حتّى إنّ الدخول الكبير والقويّ لعبيد الله إلى الكوفة، والتهديدات التي أطلقها إلى حين محاصرة القصر،لم تمنعه من الاستمرار بنشاطه. إنّ الطريقة التي عمل بها عبيد الله، والحوادث التي وقعت تجعل أقوى إنسان، على مستوى الإدارة، عاجزاً عن المواجهة! وقد حصل ما يشبه هذا الأمر في عصر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في حرب صفّين، عندما كان على مقربة من الانتصار فيها.
 
القسوة وإدارة عبيد الله 
 
بعد أن بايعت جموع أهل الكوفة مسلماً، كتب عدد من أتباع الحكومة إلى يزيد أن النعمان بن بشير عاجز عن إدارة المدينة، وطلبوا منه أن يرسل شخصاً أكثر قوّة لذلك.1
 
وبما أنّ حكومة يزيد المستبدّة تمتلك تجربة، منذ عهد معاوية، فقد كانت قادرة على معرفة الولاة والقادة في مختلف المجالات. وقد وصلت هذه الرسالة إلى يزيد، في وقت حصلت فيه مجموعة من الأمور، من جملتها إرسال رسالة إلى الإمام عليه السلام ، وبيعة الناس لمسلم. هنا، كان يدرك يزيد ما هي طبيعة ومواصفات الحاكم الذي ينبغي إرساله إلى الكوفة. تشاور يزيد مع سرجون غلامه وكاتب معاوية، فوقع الاختيار على عبيد الله بن زياد والي البصرة، لإرساله إلى الكوفة، 
 
 
 

1-تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 354، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 535، الإرشاد، ج 2، ص 12، روضة الواعظين، ص 192، مناقب، ابن شهر آشوب، ج 1، ص 91، إعلام الورى، ج 1، ص 137، ص 334، الفتوح، ج 5، ص 35، مقتل الحسين، الخوارزميّ، ج 1، ص 198، أنساب الأشراف، ج 2، ص 335، تسلية المجالس، ج 2، ص 178، بحار الأنوار، ج 11.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
230

220

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 مع احتفاظه بموقعه السابق، فأوكل إليه أمر الكوفة1. وتذكر بعض الأخبار أنّ يزيد قد شاور أهل الشام في هذا الأمر2.

 
لا يجب الغفلة عن ما كان يمتاز به عبيد الله بن زياد من دهاء وقوّة إدارة وسلوك خشن، ومعرفته السابقة بالكوفة، عند تحليل أسباب تخلّف أهل الكوفة. وقبل سنوات من ذلك كان والده زياد بن أبيه والياً على الكوفة، فوجّه ضربات مؤلمة للشيعة. بمجرّد دخول عبيد الله بن زياد الكوفة ترك آثاراً سلبيّة في نفوس الذين دعوا الإمام عليه السلام وعلى العكس من ذلك تنفّس أتباع بني أميّة الصعداء. وقد ذكرت بعض الأخبار مدى الأذى الذي شعر به أهل الكوفة بمجرّد معرفتهم بدخول عبيد الله 3، وهذا يشير إلى التأثير الذي تركه عبيد الله في الناس. 
 
إنّ التساهل الذي امتاز به حاكم الكوفة السابق، أيّ النعمان بن بشير، كان له التأثير الكبير في التفاف الناس حول الإمام ومسلم. ولو كان عبيد الله حاكماً على الكوفة منذ البداية، فمن المستبعد حصول حركات ثوريّة، أو إرسال دعوات من قبل أهل الكوفة للإمام عليه السلام. والشاهد على ذلك- إضافة إلى إرساله مسلماً إلى الكوفة- أنّه أرسل سليمان إلى البصرة يحمل رسائل إلى كبارها يدعوهم فيها للنصرة. وهذا يشير إلى أنّ للإمام عليه السلام أتباعاً وأنصاراً أيضاً في هذه المدينة، لا بل كان يأمل بمساعدتهم. في تلك الفترة كان عبيد الله حاكماً على البصرة التي كانت تخضع لمراقبة شديدة، حتّى إنّ الذين تلقّوا الرسائل حرصوا على بقائها مخفيّة، ولم يتمكّنوا من الإتيان بأيّ حركة. وقد ذكر التاريخ أنّ المنذر بن جارود- خوفاً من أن تكون الرسالة التي وصلت إليه هي خدعة يقوم بها عبيد الله بن زياد- أخبر عبيد الله برسول الإمام عليه السلام حيث قام بضرب عنقه. 4
 
 
 
 

1-الفتوح، ج 5، ص 34، تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 318 و 354، الإرشاد، ج 2، ص 12، روضة الواعظين، ص 192، إعلام الورى، ج 1، ص 137، تهذيب الكمال، ج 4، ص 123، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 535، تهذيب التهذيب، ج 1، ص 591، البداية والنهاية، ج 8، ص 152، مقتل الحسين ، الخوارزميّ، ج 1، ص 198، تسلية المجالس، ج 2، ص 178، بحار الأنوار، ج 11، ص 334.
2-المحاسن والمساوئ، ص 59، العقد الفريد، ج 3، ص 341، الإمامة والسياسة، ج 2، ص 8، المحن، ص 111، جواهر المطالب، ج 2، ص 245.
3-تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 358، الإرشاد، ج 2، ص 13، روضة الواعظين، ص 192، إعلام الورى، ج 1، ص 137، البداية والنهاية، ج 8، ص 152، بحار الأنوار، ج 11، ص 310. 
4-تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 357، أنساب الأشراف، ج 2، ص 335، البداية والنهاية، ج 8، ص 157، الفتوح، ج 5، ص 37، مثير
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
231

221

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 عندما دخل عبيد الله الكوفة غطّى وجهه، فظنّ الناس أنّه الإمام الحسين عليه السلام فاستقبلوه بحرارة. في هذه الأثناء، أعلن أحد مرافقي عبيد الله أنّ هذا الشخص هو عبيد الله الحاكم الجديد للمدينة، فأصيب الناس بالذهول والحزن من جراء ذلك1. وينقل البعض أنّ أهل الكوفة ظنّوا أنّ الداخل هو الإمام الحسين عليه السلام لذلك قاموا بتقبيل يديه ورجليه2

 
لقد ترك سلوك عبيد الله هذا فوائد متعدّدة منها: أنّه قد تعرّف على أوضاع المدينة بسرعة، وتعرّف على المخالفين، وأهان الثوريّين، وبقي في مأمن من استهداف الكوفيّين. وبعد هذه المحاولة التي عمل من خلالها على توجيه ضربة لروحيّة الناس، تحدّث، في أوّل مناسبة، بكلام قويّ هدّد فيه أهل الكوفة وحذّرهم من العصيان3. وهناك نماذج أخرى تدلّ على القدرة الإداريّة التي كان يتمتّع بها، من جملة ذلك أنّه، عندما حاصر مسلم القصر، بدأ عبيد الله إشاعة الأخبار في المدينة متحدّثاً من أعلى القصر عن قدوم قوّات كبيرة من جيش يزيد، ممّا أوجد حالة من الرعب ودفع بالناس لرفع لواء الإستسلام وطلب الأمان، وقد ساهم هذا الأمر في إخماد الثورة دفعة واحدة. ثمّ بإعدامه لمسلم وهاني أمام أعين الجميع أخذ منهم الطاعة.
 
عندما اعتقل هاني وأرسل إلى السجن، شاع بين الناس أنّه قد قتل، فحاصرت الجموع القصر، ممّا اضطرّ عبيد الله لإرسال شريح ليتحدّث إلى الناس ويخبرهم بأنّه ما زال حيّاً، فتفرّق الجمع4. وهاني كان ذاك الذي إذا اعتلى صهوة حصانه رافقه أربعة آلاف فارس وثمانية آلاف من المشاة. وإذا رافقه حلفاؤه كان يصل عدد المرافقين له إلى ثلاثين ألف فارس5. بعد مدّة تسلّط عبيد الله على الكوفة، 
الأحزان، ص 27.
 
 
 

1-تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 358.
2-الطبقات الكبرى، الطبقة الخامسة من الصحابة، ج 1، ص 459.
3-الأخبار الطوال، ص 232، تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 358، أنساب الأشراف، ج 2، ص 334، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 534، مقاتل الطالبيّين، ص 100، مقتل الحسين ، الخوارزميّ، ج 1، ص 200، البداية والنهاية، ج 8، ص 153، الإرشاد، ج 2، ص 11، إعلام الورى، ج 1، ص 138، بحار الأنوار، ج 11، ص 311، الملهوف، ص 111.
4-تاريخ الطبريّ، ج 4، ص 275، الإرشاد، ج 2، ص 50 51.
5-مروج الذهب، ج 3، ص 69.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
232

222

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 حتّى إنّهم عندما جاءوا بهاني إلى السوق، مخفور اليدين، وقاموا بقتله أمام أعين الجميع لم يجرؤ شخص على الإعتراض1. وإذا أخذنا بعين الإعتبار العصبيّات القبليّة التي كانت موجودة في ذلك الزمان، فكيف يمكن فهم سكوت بني مراد، على الأقل، عن مقتل زعيمهم بهذا الأسلوب المهين؟! هذا الأمر يدلّ على مستوى الاضطراب الذي كان يسيطر على الأوضاع. 

 
إنّ الخشونة التي امتاز بها عبيد الله لم تقتصر على أعدائه، بل طالت أقرب الناس إليه. فبعد أن أرسل عمر بن سعد إلى كربلاء، أرسل في أثره الشمر بن ذي الجوشن وأمره أن يضرب عنقه إذا رفض قتال الإمام الحسين عليه السلام، وأن يحلّ مكانه في قيادة الجيش. 2
 
ومن جملة الأساليب التي مارسها عبيد الله بن زياد، من أجل السيطرة على الأوضاع: التهديد، قتل الأفراد والجماعات، التآمر والخديعة، مراقبة الطرق، بثّ الإشاعات، السجن، جلب الأشراف بوساطة الرشاوي، نشر الجواسيس، إفشاء الأكاذيب، إعطاء الأمان للسائرين مع مسلم، إعطاء الجوائز على التعاون، اعتقال المخالفين، إلزام قادة القبائل بالكشف عن المخالفين ليزيد. 3
 
في أجواء كهذه يملؤها الرعب والخوف، يتراجع العوامّ عادة، عن الوعود التي التزموا بها، ويبقى عدد قليل من الأفراد، وهذا غير مختصّ بأهل الكوفة. فعندما كتب الناس إلى الإمام عليه السلام كان النعمان بن بشير المتساهل حاكماً، وكان عدم الوفاء بالعهود بعد حضور حاكم ظالم، كعبيد الله بن زياد.
 
 
 
 

1-راجع: تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 378.
2-ترجمة الإمام الحسين ومقتله، ص 69.
3-أنساب الأشراف، ج 2، ص 334 338 و ج 3، ص 382، تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 359 105، مطالب السؤول، ص 71، كشف الغمّة، ج 2، ص 255، الفصول المهمّة، ص 183، الإرشاد، ج 2، ص 11 72، إعلام الورى، ج 1، ص114-138، روضة الواعظين، ص 193 194، الفتوح، ج 5، ص 50 82، الأخبار الطوال، ص 115 213، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 534 553، البداية والنهاية، ج 8، ص 153 173، مثير الأحزان، ص 32 و 11، مقاتل الطالبيّين، ص 100 105، مروج الذهب، ج 3، ص 47، تهذيب الكمال، ج 4، ص 121، تهذيب التهذيب، ج 1، ص 591، سير أعلام النبلاء، ج 3، ص 307، الإصابة، ج 2، ص 70، تذكرة الخواصّ، ص 211، أمالي، شجريّ، ج 1، ص 190، الحدائق الورديّة، ج 1، ص 115، بحار الأنوار، ج 11، ص 311 371، مناقب، ابن شهر آشوب، ج 1، ص 91 93، مقتل الحسين، الخوارزميّ، ج 1، ص 204 208، المختصر في أخبار البشر، ج 1، ص 189 190، الملهوف، ص 119.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
233

223

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 عدم البيعة مع شخص مسلم

 
كان تكليف مسلم أن يدرس الأوضاع في الكوفة، فإذا وجد أنّ الدعوات جدّيّة أخبر الإمام عليه السلام ليتوجّه نحو الكوفة، ولم يكن مكلّفاً بتحريك الثورة ضدّ عبيد الله. بايع الناس مسلماً باعتباره سفير الإمام. وعندما أرسل عبيد الله أحد جواسيسه، ويدعى معقلاً، ليطّلع على مكان اختفاء مسلم، سمع الناس في المسجد وهم يتحدّثون عن مسلم بأنّه يأخذ البيعة للإمام الحسين عليه السلام 1وبعبارة أخرى فإنّ أهل الكوفة قد قبلوا قيادة الإمام عليه السلام وليس قيادة مسلم. فهؤلاء لم يبايعوا مسلماً على أن ينصروه في كلّ ما أراد فعله. ومن غير البعيد أن يكون هذا الأمر هو أحد أسباب عدم تبعيّة الناس له. ولو كان الإمام عليه السلام حاضراً في الكوفة بدلاً من مسلم لاختلفت الأجواء، مع العلم أنّه ليس من الصلاح حضور الإمام عليه السلام إلى الكوفة قبل إرسال مسلم.
 
تجدر الإشارة إلى أنّه من غير المعلوم ما إذا كانت ثورة مسلم هي لأجل القضاء على عبيد الله، بل إنه تحرّك نحو قصر عبيد الله عندما سمع خبر اعتقال هانيويظهر من بعض الأخبار أنّه كان يرغب بتحرير هاني. والشاهد على هذا الأمر أنّه عندما حاصر القصر مع تلك الجموع ، كان هناك ثلاثون شخصاً من الحراس وعشرون من الأشرافولم يكن من الصعب التغلّب على هذا العدد، لذلك فإنّ من الصعب القول إنّ حركة مسلم كانت لأجل إسقاط الحكومة في الكوفة، فكان يتوقّع من الناس المساعدة.
 
عندما دخل عبيد الله الكوفة فقد الكثير من الناس معنويّاتهم، وساهمت شهادة مسلم في زيادة سوء الأوضاع، فسيطر اليأس على الناس، فلم يفوا بوعودهم للإمام عليه السلام.
 
 
 
 

1-تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 362.
2-الإرشاد، ج 2، ص 51، أنساب الأشراف، ج 2، ص 338، مروج الذهب، ج 3، ص 47، تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 350، تهذيب الكمال، ج 4، ص 124، تهذيب التهذيب، ج 1، ص 591، الإصابة، ج 2، ص 70، بحار الأنوار، ج 11، ص 318، إعلام الورى، ج 1، ص 111، سير أعلام النبلاء، ج 3، ص 307، تذكرة الخواصّ، ص 212، الحدائق الورديّة، ج 1، ص 115، البداية والنهاية، ج 8، ص 151، مناقب، ابن شهر آشوب، ج 1، ص 92.
3-أنساب الأشراف، ج 2، ص 338، تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 349، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 510، روضة الواعظين، ص 193، مقاتل الطالبيّين، ص 193، المختصر في أخبار البشر، ج 1، ص 189. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
234

224

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 عدم التنبّؤ بالمستقبل

 
خمدت الثورة عندما أصبح مسلم وحيداً. بعد ذلك أصبحت قوّة عبيد الله تزداد شيئاً فشيئاً. هنا عاود ضربته الأساسيّة مجدّداً. لعلّ الكثير من الناس لم يكن يتوقّع أنّ ما حصل سيؤدّي إلى شهادة الإمام وأصحابه، كما حصل مع الحرّ عندما التحق صبيحة يوم عاشوراء بالإمام عليه السلام وقال له في معرض حديثه معه: ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة1
 
بعد أن سيطرت أجواء الرعب والخوف على الكوفة، أثناء محاصرة القصر، فليس ببعيد أن يكون البعض قد اعتقد بأنّ هذه الحركة السريعة لن تكون موفّقة، لذلك حاولوا الافتراق عن مسلم والوصول إلى الإمام عليه السلام بهدف الاستمرار بالجهاد. وقد نجح بعض هؤلاء الأشخاص أمثال حبيب بن مظاهر في الإلتحاق بالإمام عليه السلام ولم ينجح آخرون بسبب الحصار الذي فرضه ابن زياد.
 
الاحتمال الآخر هو أنّ البعض كان يظنّ بأنّ الابتعاد عن الثورة، وعدم نصرة مسلم قد يؤدّيان إلى خمود الحركة الثوريّة، فيعود الإمام عليه السلام إلى المدينة، حيث يهيّئ للثورة في وقت لاحق. ولعلّ الشاهد على هذا هو حالة الندم التي سيطرت عليهم، بعد حادثة كربلاء، فخرجوا طالبين بالثار للإمام الحسين عليه السلام وأصحابه.
 
الدوافع من الدعوات
 
إنّ مدينة كبيرة يسكنها طوائف وقبائل غير متجانسة، سيكون أهلها فاقدين للهدف الواحد. بناءً على الأخبار الواردة، فإنّ أهداف أصحاب الدعوات تتجلّى في الآتي:
 
أ- تشكيل حكومة العدل الإسلاميّ: إنّ أغلب أصحاب الدعوات هم من الأشخاص الذين كانوا يرغبون، وبشكل صادق، في تشكيل حكومة العدل الإسلاميّ من قبل الإمام عليه السلام.
 
 
 

1-تجارب الأمم، ج 2، ص 77.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
235

225

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 في الحركات الإعتراضيّة، تتحرّك مجموعة قليلة، وبعد الوصول إلى مستويات أعلى من التقدّم، تتبع الجماهير هذه الأقليّة. وأمّا إذا وجد الناس أنّ حياتهم في خطر، فإنّهم يتركون الساحة، ويصبحون غير جاهزين لتحمّل الضربات الماديّة والمعنويّة القاسية. وفي العادة فإنّ عدداً قليلاً من الأشخاص يكون جاهزاً للتضحية حتّى النهاية.

 
وفي ما يتعلّق بأهل الكوفة، فإنّ الناس أيضاً وجّهوا دعواتهم للإمام عليه السلام بشكل صادق، وبقصد القربة، وإلّا فإنّ الإمام عليه السلام لم يكن ليقبل دعوتهم. ولكن عندما أصبحت حياة الأفراد في خطر، فلم يبق إلّا العدد القليل. لذلك عندما سمع الإمام ما قام به أهل الكوفة، تحدّث ذامّاً الناس بشكل عامّ فقال: "الناس عبيد المال والدّين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت به معايشُهم، فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الديّانون"1
 
قبل رسائل سليمان بن صرد، الذي كان يتوقّع عدم وفاء الناس بوعودهم، وصل خبر موت معاوية إلى أهل الكوفة، فاجتمعوا في منزله، فخطب في الناس وشجّعهم على الكتابة للإمام إذا رغبوا حقيقة في مساعدة الإمام والجهاد ضدّ أعدائه، وأكّد عليهم عدم خداع الإمام إذا وجدوا في أنفسهم ضعفاً. أمّا الناس فأجابوا بأنّهم جاهزون لمحاربة عدوّه حتّى آخر لحظات حياتهمإنّ أشخاصاً يتحدّثون إلى سليمان بهذه اللهجة، لا يتحدّثون بذلك من باب النفاق.
 
يقول سعد بن عبيدة: إنّ أشياخاً من أهل الكوفة لَوُقوف على التلّ يبكون ويقولون: اللهمّ أنزل نصرك، فقلت: يا أعداء الله ألا تنزلون فتنصرونه؟3
 
وفي الوقت نفسه الذي كانت فيه هذه المعنويّات هي التي تحكم عموم الناس، فإنّه إذا وُجد من يقوم بهدايتها بشكل صحيح، ولم يكن هناك موانع كبيرة 
 
 
 

1-كشف الغمّة، ج 2، ص 244.
2-تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 352، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 533، الإرشاد، ج 2، ص 34، مناقب، ابن شهر آشوب، ج 1، ص 89، روضة الواعظين، ص 190، بحار الأنوار، ج 11، ص 332، الإمامة والسياسة، ج 2، ص 7، إعلام الورى، ج 1، ص 134، الفتوح، ج 5، ص 27، مقتل الحسين ، الخوارزميّ، ج 1، ص 193، الملهوف، ص 102، مثير الأحزان، ص 25.
3-تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 392.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
236

226

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 أمامها، فإنّ بمقدورها إيجاد تحوّلات عجيبة. وفي الواقع فإنّ دعوة أهل الكوفة للإمام، كانت دعوة صادقة لتشكيل حكومة العدل الإسلاميّ حيث كانت الأكثريّة ترمي إلــى ذلـــك، وهـذا ما يسوّغ الاهتمام المنطقيّ الذي صدر عن الإمام عليه السلام فهو عليه السلام لم يقع في خديعة. فلو كان معلوماً من البداية أنّ أرواحهم على المحكّ، وأنّ القضيّة ستنتهي بشهادة الإمام وأصحابه، لما كتب أكثر أهل الكوفة له يدعونه للقدوم. نعم، يستثنى من هذا الكلام صنفان: أحدهما: المنافقون الذين كانوا يريدون هلاك الإمام عليه السلام، والصنف الآخر: الذين حملوا دماءهم على أكفّهم من أمثال حبيب بن مظاهر.


ب ـ إعادة الاعتبار والمكانة الخاصّة للكوفة: كانت هذه المدينة عاصمة الحكومة في زمان الإمام عليّ عليه السلام وكانت تتمتّع بموقع خاصّ. بعد شهادة الإمام عليّ عليه السلام فقدت المدينة ذاك الموقع السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، ونهضت الشام لمنافستها ولتكون بديلاً منها.

لعلّ مسألة إعادة الاعتبار إلى الكوفة، هي واحدة من الدوافع التي جعلت البعض يكتب للإمام ويدعوه إليها. الواضح أنّ دوافع كهذه هي دوافع دنيويّة، ومن القليل أن نجد أشخاصاً على استعداد للتضحية بأنفسهم بهدف الوصول إلى الدنيا، ولا يتراجعون أمام التهديدات الحقيقيّة.

ج ـ الحصول على المال والجاه: عندما يكون هناك أمل في انتصار أيّ ثورة، نجد في داخلها أشخاصاً يدافعون عنها بهدف الحصول على المنافع الماديّة. هؤلاء الأشخاص هم أسرع انهزاماً أمام التهديدات أو المطامع. ويعتبر الكثيرون من أشراف قبائل الكوفة وقادتها من جملة هذه المجموعة. في العادة لا يحمل هؤلاء الأشخاص دوافعَ تقودهم لترويج العدل والدّين، بل التعلّق بالماديّات والتعلّق بالسلطة يجعل منهم أشخاصاً في نهاية الضعف، لا يفكّرون إلّا بمصالحهم، بحيث يشتريهم عبيد الله. وقد حضر بعض الأشراف وأخبروا الإمام عليه السلام بأنّ عبيد الله يشتري الأشراف بالرشاوي وأنّ العديد منهم قد أصبح عدوّاً لك. هؤلاء كتبوا لك 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
237

227

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 يدعونك لأجل الحصول على منافعهم الماديّة1

 
لقد سمع أشراف القبائل وزعماؤها ورأوا أنّ الإمام عليّاً عليه السلام لم يكن يفرّق بين العالي والداني. فلم يستسغ هؤلاء الأفراد مثل هذه السيرة. من هنا يمكن القول إنّهم كانوا، ومنذ البداية، غير جادّين في دعوة الإمام الحسين عليه السلام ليقوم بتأسيس حكومة كحكومة والده.
 
إنّ اليأس الذي عاشه هؤلاء وكذلك ابتعادهم عن الساحة، لم يؤثّرا فقط في إضعاف معنويّات الجبهة الثوريّة، بل إنّ بعض الجماعات قد التحقت بهم أيضاً.
 
د. أتباع الجماعة: عندما تحصل حالة عامّة في مجتمع ما، فإنّ بعض العوامّ يحاولون اتباعها، فيتحرّكون ضمن الجوّ الحاكم من دون أن يكون عملهم هذا منطلقاً من معرفة أو اعتقاد. هؤلاء الأشخاص يقعون تحت تأثير الإعلام فيتحرّكون طبق الجوّ الحاكم على المجتمع.
 
بالإضافة إلى العوامّ، فإنّ بعض قادة القبائل يحاولون التأسّي بالجماعة حفاظاً على مصالحهم ومواقعهم المستقبليّة. من هنا يمكن القول إنّ الدافع الذي دفع البعض للكتابة ودعوة الإمام هو اتباع الجماعة. فما دامت الأجواء في مصلحة الإمام عليه السلام ، كانوا يبايعون مسلماً ولكن عندما تغيّرت الأجواء لمصلحة عبيد الله، غيّروا مواقفهم.
 
هـ. النفاق وتوجيه ضربة للإمام: كان من بين الذين وجّهوا الدعوة للإمام، مجموعة من المنافقين الذين كان هدفهم توجيه ضربة للإمام. كانوا يرغبون استدراج الإمام وأصحابه إلى الكوفة ليتمّ قتلهم، وبذلك يحطّمون سدّاً من السدود الواقفة في مواجهة يزيد. لذلك تحدّث الإمام ليلة العاشر وقال: "إنّما يطلبونني وقد وجدوني، وما كانت كتب من كتب إليّ في ما أظنّ إلّا مكيدة لي وتقرّباً إلى ابن معاوية بي"2
 
لقد قام هؤلاء بدورٍ بارزٍ في تغيير مسار الثورة.
 
 
 

1-أنساب الأشراف، ج 3، ص 382.
2-المصدر نفسه، ص 393.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
238

228

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

  ماضي الأحداث المريرة 

 
قدّم أهل الكوفة الكثير من القتلى في الأحداث المختلفة ومن جملتها حروب: الجمل، صفّين، والنهروان، حيث ترك هذا الأمر آثاراً معنويّة عديدة، وما زالت آثار تلك الأحداث ورواسبها النفسيّة ماثلة أمام أعينهم. يضاف إلى ذلك أنّ زياد بن أبيه عندما أصبح والياً على الكوفة، عامَ خمسين، تعرّض لأتباع أهل البيت بالتعذيب والقتل والنفي. ولعلّ هذه الذكريّات المريرة كانت من الأمور التي جعلت أهل الكوفة جادين في الابتعاد عن الأحداث الخطيرة؛ لأنّهم كان يحذرون الشاميّين ويخشونهم؛ لذلك وبمجرّد انتشار خبر قدوم أهل الشام تفرّق أهل الكوفة عن مسلم بعد أن كانوا يحاصرون القصر.
 
وفي الأحداث المريرة السابقة قُتل الكثير من المضحّين الحقيقيّين الذين لم يكتفوا بمجرّد الشعارات فقط. استشهد البعض منهم في زمان الإمام عليّ عليه السلام ثمّ تعرّض معاوية بعد شهادة الإمام عليه السلام لشيعته ولا سيّما شيعة الكوفة. والبعض الآخر منهم استشهد في مدّة العشرين سنة أو أنّهم هاجروا إلى أماكن أخرى. لذلك فإنّ عدداً قليلاً من هؤلاء المخلصين المستعدّين للشهادة كان قد بقي حتّى زمان الإمام الحسين عليه السلام.
 
حضور أهل الكوفة في جيش ابن زياد
يتحدّث التاريخ عن عمر بن سعد في كربلاء طلب إلى بعض قادة القبائل الذين كتبوا للإمام الحسين عليه السلام ، الذهاب إليه والاستعلام منه عن سبب قدومه والهدف منه، إلّا أنّ الحياء كان يمنعهم من الذهاب على أساس أنّهم كتبوا له1
 
وقد خاطب الإمام الحسين عليه السلام العدوّ بهذا المضمون: يا شبث بن ربعيّ، يا حجّار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وإنّما تقدم على جند لك مجند؟ماذا لم يفِ 
 
 
 
 

1-تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 41، راجع: إعلام الورى، ج 1، ص 451.
2-تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 121، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 541، البداية والنهاية، ج 8، ص 178، الإرشاد، ج 2، ص 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
239

229

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 أهل الكوفة بالبيعة، بل لم يكتفوا بذلك حتّى حاربوا الإمام عليه السلام ؟ لعلّ الأجدر بهم أن يجلسوا في بيوتهم- على الأقل- فلا يهبّوا لمساعدة عدوّ الإمام عليه السلام.

 
أمّا الجواب عن هذا السؤال فيتطلّب الإشارة إلى عدد من النقاط المهمّة:
 
أ- بالإضافة إلى أنّنا لا نمتلك دليلا ًعلى تهافت جميع الكوفيّين باختيارهم للحضور في جيش عمر بن سعد، فإنّ المصادر التاريخيّة تؤكّد أنّ ابن زياد أجبر الناس على الحضور في جيشهوقد أمر الجميع بالتحرّك مع الجيش وأعلن أنّ ذمّته بريئة ممّن يتخلّف عنه. بعد ذلك، أمر بعض جنوده بالتجوال في المدينة والطلب من الناس الإسراع للحضور مع الجيش وتحذيرهم من عواقب التخلّف2
 
بعد ذلك أمر ابن زياد سويد بن عبد الرحمن النقريّ، مع عدد من الأشخاص بالتجوال في الكوفة وإحضار كلّ متخلّف. وقد وجد هؤلاء رجلاً شاميّاً حضر الكوفة لتحصيل مال إرث له، فجاءوا به إلى ابن زياد الذي أمر بقطع عنقه3
 
لم يبق في الكوفة أيّ شخص بالغ، فخرج الجميع منها تحت عنوان جيش ابن زيادلعلّ في هذا الأمر شيئاً من المبالغة، إلّا أنّه يحكي عن أوج تخلّف الناس وقعودهم عن النصرة.
 
من غير المعقول أن ينقلب الناس إلى مستوى كبير ضدّ الإمام ومسلم، وهم كانوا قبل أيّام معدودة من المدافعين عنهما! ومن هنا ندرك أنّ في الأمر حالة إجبار. التقى الإمام الحسين عليه السلام، في الطريق، عدداً من الأشخاص القادمين من الكوفة. وعندما سأل عن أحوال أهل تلك المدينة أجاب مجمع بن عبد الله: إنّ أفئدتهم تهوي إليك، وسيوفهم غداً مشهورة عليكوقد يُفهم من هذا الجواب
97، إعلام الورى، ج 1، ص 158، بحار الأنوار، ج 15، ص 4، أنساب الأشراف، ج 3، ص 394، المنتظم، ج 5، ص 339، تذكرة الخواصّ، ص 251.
 
 
 
 

1-الأخبار الطوال، ص 251، بغية الطلب في تاريخ حلب، ج 4، ص 2424، أنساب الأشراف، ج 3، ص 384، الطبقات الكبرى، الطبقة الخامسة من الصحابة، ج 1، ص 144.
2-أنساب الأشراف، ج 3، ص 386.
3-الأخبار الطوال، ص 254.
4-أنساب الأشراف، ج 3، ص 386.
5-أنساب الأشراف، ج 3، ص 382، تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 105، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 553، البداية والنهاية، ج 8، ص 173، مثير الأحزان، ص 11.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
240

230

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 وجود حالة من الإجبار.

 
الشاهد الآخر على حالة الإجبار التي تعرّض لها أهل الكوفة، أنّ من بين كلّ ألف شخص خرج من الكوفة كان يصل منهم، إلى مقصده، ثلاث مائة أو أربعمائة شخص فقط، وكان الباقي يفرّ من الجيش في أثناء الطريق1.
 
يقول الدينوريّ: "وكان ابن زياد إذا وجه الرجل إلى قتال الحسين في الجمع الكثير، يصلون إلى كربلاء ولم يبق منهم إلّا القليل، كانوا يكرهون قتال الحسين فيرتدعون ويتخلّفون"2.
 
وإذا أخذنا بعين الإعتبار الجوّ المضطرب الذي أوجده عبيد الله، ندرك حينها أهميّة انفصال أهل الكوفة عن جيش عبيد الله.
 
بناءً على ما تقدّم، فأغلب أهل الكوفة حضروا بالإجبار في جيش عبيد الله، وتمكّن العدد الكبير منهم من الانفصال عنه أثناء الطريق. أمّا الذين تابعوا المسير مع جيش العدوّ حتّى النهاية، فلا عذر لهم في عملهم، بل هم مقصّرون ومذمومون. وكذلك فإنّ الذين انفصلوا عن جيش عبيد الله، وكان بإمكانهم الإلتحاق بالإمام عليه السلام ولم يفعلوا ذلك، مذمومون أيضاً. وعلى هذا الأساس، لم يكن كافّة أهل الكوفة قد شهروا السيوف بوجه الإمام.
 
ب - لم يكتفِ عبيد الله بإجبار الناس على الإلتحاق بجيشه، بل كان شديد المراقبة والملاحقة لئلّا يلتحق أحد بالإمام عليه السلام 3.
 
وعندما وصل الإمام عليه السلام إلى كربلاء قام حبيب بن مظاهر وطلب من بني أسد نصرة الإمام، فقبلوا ذلك. وعندما وصل الخبر إلى عمر بن سعد أرسل مجموعة تمنع بني أسد من الإلتحاق بالإمام عليه السلام حيث رجع بنو أسد إلى ديارهم4. ومع ذلك تمكّن بعض أهل الكوفة من الإلتحاق بالإمام عليه السلام واستشهدوا في كربلاء،
 
 
 

1-أنساب الأشراف، ج 3، ص 386.
2-الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص 254.
3-أنساب الأشراف، ج 3، ص 384، الإرشاد، ج 2، ص 72، روضة الواعظين، ص 194، بحار الأنوار، ج 11، ص 371.
4-أنساب الأشراف، ج 3، ص 338، الفتوح، ج 5، ص 90، مقتل الحسين، الخوارزميّ، ج 1، ص 213، تسلية المجالس، ج 2، ص 240، بحار الأنوار، ج 11، ص 384.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 


231

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 ويبدو أنّ عدد الذين كانوا سيلتحقون بالإمام عليه السلام كان كبيراً لولا الإجراءات التي قام بها ابن زياد.


أشرنا إلى أنّ أغلب أهل الكوفة قد فرّوا من جيش عبيد الله في وسط الطريق، وأمّا الأرقام التي يتحدّث بها البعض والتي تشير إلى عدد جنوده، فإمّا فيها شيء من المبالغة، أو أنّها تعود إلى مرحلة بداية الحركة من الكوفة. فمن المستبعد أن يكون جيش عبيد الله في كربلاء قد تجاوز عشرة آلاف شخص.

بناءً على ما تقدّم، فأغلب محاربي الكوفة، إمّا أنّهم اختفوا ولم يحضروا في جيش عبيد الله، أو أنّهم قد انفصلوا عنه في الطريق. هنا يجب الدقّة لمعرفة طبيعة الأشخاص الذين كتبوا للإمام عليه السلام ولمعرفة الأشخاص الذين حاربوه، ومن هم الذين قام أهل البيت عليه السلام بمذمّتهم. ليس من الصحيح أنّ كلّ الذين كتبوا للإمام عليه السلام وقفوا مع العدوّ. نعم من المسلّم به أنّ هناك عدداً معيناً من الذين دعوه بقي مع العدوّ حتّى النهاية. والشاهد على أنّ أهل الكوفة لم يشاركوا بأجمعهم، في الحرب ضدّ الإمام عليه السلام بل القليل منهم من فعل ذلك، هو ثورة أهل الكوفة ثأراً للإمام عليه السلام حيث حصلوا على نتائج مهمّة في تلك المرحلة. فإذا كان الجميع قد حارب ضدّ الإمام، فمن هو الذي سيُنتقم منه؟

ج- أشرنا إلى وجود بعض المنافقين من الذين كتبوا للإمام عليه السلام حيث شكّل البعض منهم مجموعة من المقرّبين من عمر بن سعد.

د- من الممكن أن يكون البعض قد رافق عمر بن سعد بهدف المشاهدة فقط، وذلك انطلاقاً من الجهل الذي كان يحيط به. هؤلاء مقصّرون أيضاً، لأنّ أقلّ ما يترتّب على ذلك هو رفع مستوى جيش ابن سعد وترك آثار سلبيّة على معنويّات الطرف المقابل، وإن كان أصحاب الإمام عليه السلام بعيدين كلّ البعد عن التزلزل.

هـ- يلاحظ في الحركات الثوريّة عادةً وجود حالات استغلال للفرص. بعد خسارة الثوّار يحاول بعض من شارك في الثورة، التصرّفَ بشكل مفرط مستعملين القوّة وبشكل إفراطيّ، لإبعاد تهمة مساعدة القوى الثوريّة، عن أنفسهم، أو لإثبات أنّهم قد تخلّوا عن تاريخهم الثوريّ؛ لذلك فمن المحتمل التحاق بعض الأشخاص بجيش عمر بن سعد، بعد فشل ثورة مسلم، لإبعاد تهمة مساعدة مسلم وللحصول 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
242

232

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 على بعض المنافع الخاصّة.

 
و- قد تكون الحرب عند بعض المحاربين ذات بعد ماديّ صرف، حيث يكون هدفهم المال والغنائم، فتكون حروبهم بعيدة عن الأسس العقائديّة. عندما أراد عبيد الله تعبئة الناس للحرب ضدّ الإمام عليه السلام تحدّث في مسجد الكوفة، وأعلن أمام الجميع بأنّ يزيد أرسل له أن ينفق بين الناس أربعة آلاف دينار ومائتي ألف درهم للمشاركة في الحرب ضدّ الحسين بن عليّ عليه السلام1.
 
المبالغات والاتهامات غير المقبولة
 
المعروف أنّ الكوفة مدينة يسكنها الشيعة وقد قدّم أهلها خدمات جليلة نصرة للتشيّع. من جهة أخرى فإنّ التاريخ، في القرون الأولى، دوّنه له غير الشيعة، الذين كانوا تابعين لبني أميّة وبني العبّاس، حيث كانوا يحملون الكثير من الكراهية لأهل الكوفة. والظاهر أنّ عدم وفاء أهل الكوفة أحاط به الكثير من المبالغات، حيث تُضرب الأمثال في عدم وفائهم من دون أيّ ذكر للدور الذي قاموا به، والخدمات التي قدّموها.
 
ينقل التاريخ أنّه عندما التقى الفرزدق بالإمام الحسين عليه السلام في الطريق أخبره بأنّ أهل الكوفة قلوبهم معك وسيوفهم عليك، فقال له الإمام:
"يا فرزدق، إنّ هؤلاء قوم لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد في الأرض، وأبطلوا الحدود وشربوا الخمور، واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين"2. الإشكال الأوّل الذي يحمله هذا النقل هو: لماذا أجاب الإمام دعوة من لزم طاعة الشيطان والمفسدين في الأرض، وشاربي الخمور والغاصبين؟! الإمام لا يرضى بأشخاص كهؤلاء على الإطلاق. من جهة أخرى فإنّ التاريخ يشهد على عدم صحّة هذه الاتهامات لأهل الكوفة. وقد نُقل كلام الإمام في مكان آخر بشكل مختلف عن الأوّل، وأكثر منطقيّة ومعرفة بواقع المجتمع:
 
 
 
 

1-الفتوح، ج 5، ص 89.
2-تذكرة الخواصّ، ص 240.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
243

233

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 "الناس عبيد المال والدّين لعق عن ألسنتهم، يحوطونه ما درّت به معايشهم فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الديّانون"1.

 
الأمور التي تحدّث بها الإمام غير مختصّة بأهل الكوفة بل تصدُق على كافّة الناس. وقد نُقل كلام آخر عن الإمام، عند لقائه الفرزدق، لا يتنافى مع العبارات الأخيرة، حيث من الممكن أن تكون تلك الكلمات قد صدرت عنه أيضاً.
 
فمن ناحية، نجد أنّ التاريخ في القرون الأولى قد خطّته أيدي أتباع الحكومة، ومن ناحية أخرى نرى أنّ حادثة عاشوراء، منذ عصر الصفويّة وما بعد ذلك، بدأ الاهتمام بها بعنوان كونها حادثة عاطفيّة حزينة، وبما أنّ خبر عدم وفاء أهل الكوفة يساهم في تحريك العواطف، فقد اهتمّوا به وأولوه عناية خاصّة.
 
وقد أشرنا إلى أنّ من بين الذين دعوا الإمام، هناك مجموعة من غير الصادقين، ولكن عند الحديث عن أهل مدينة معيّنة، يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عموم الناس، وليس مجموعة خاصّة.
 
النتيجة
إنّ عدم الإنصاف في الحديث عن أهل الكوفة التي يشكّل الشيعة عمدة ساكنيها، أدّى إلى رسم صورة عنهم تتمحور حول دعوتهم للإمام الحسين عليه السلام للحضور بهدف تشكيل حكومة، ثمّ ندموا على ذلك، بعد قبوله من غير حصول أمر مهمّ، فتفرّقوا عن مسلم، لا بل ساعدوا في قتل الإمام عليه السلام وأصحابه.
 
لقد عمل أهل الكوفة حسب الظروف التي كانت موجودة بشكل منطقيّ، في مسألة دعوة الإمام والبيعة لمسلم، إلّا أنّهم كانوا لا يتوقّعون حضور عبيد الله وممارساته القمعيّة. إنّ أيّ مجتمع آخر مكان أهل الكوفة كان سيقع منه عادة ما وقع من أهل الكوفة من الانهزام والتقهقر. وعند وصول الرسائل من الكوفة إلى الإمام عليه السلام أرسل سليمان أيضاً إلى البصرة حيث دعا الناس لنصرة الإمام، إلّا 
 
 
 
 

1-كشف الغمة، ج 2، ص 244.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
244

234

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 أنّ أمراً لم يحصل هناك1. وهكذا لم نشهد، في أيّ مدينة أخرى، أيّ حركة ذات أهميّة في نصرة الإمام الحسين عليه السلام. وعلى الرغم من أنّ حركة كبيرة قد ظهرت في الكوفة، وإن لم تصل إلى النتائج المطلوبة، فإنّ أكبر اللوم والذمّ قد سجّل باسم أهل الكوفة.

 
بناءً على بعض الأسباب والعوامل الظاهريّة يمكن الوصول إلى النتيجة الآتية وهي: أنّه لو لم يأت عبيد الله بن زياد وبقي النعمان بن بشير والياً على الكوفة، لكان عاجزاً عن مواجهة الثورة الشعبيّة، ولتمكّن الإمام الحسين عليه السلام بعد مجيئه إلى الكوفة من تشكيل حكومة إسلاميّة والوصول إلى نتيجة محمودة.
 
صحيح أنّ بعض أهل الكوفة، بسبب عدم التحاقهم بالإمام عليه السلام وقد كانوا قادرين على ذلك لا سيّما من شارك في القتال ضدّ الإمام عليه السلام هم مورد ذمّ ولوم، إلّا أنّ هؤلاء الأشخاص لم يكونوا أشخاصاً استثنائيّين، أو أصحاب خصائص لا توجد في غيرهم. إنّ الظروف التي سيطرت على الكوفة لو وجدت في أيّ مكان آخر لكانت تركت الأثر نفسه الذي تركته في الكوفة، كما أنّ العديد من وجوه الشبه موجودة بين الحركة الثوريّة لأهل الكوفة والحركات الثوريّة الأخرى التي حصلت في أماكن أخرى. وليس ببعيد أن تشمل شفاعة الإمام الحسين عليه السلام يوم القيامة بعض الذين كتبوا له من أهل الكوفة، من الذين تخلّوا عنه تحت ضغط عبيد الله، ولكنّهم لم يشاركوا في جيش عمر بن سعد، وذلك على الرغم من كونهم مخطئين. ولو نظرنا بعين الانصاف، فالعجب ليس من هؤلاء الناس، بل العجب من أشخاص كحبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة وأبي ثمامة الصائديّ، كيف تمكّنوا من الثبات حتّى الرمق الأخير!
 
في الختام نشير إلى مقطع للمرحوم حجّة الإسلام الدكتور محمّد إبراهيم آيتي بعنوان مؤيّد للتحليل المتقدّم: "مرّت قرون متعدّدة والكثير من الناس يوجّهون اللوم لأهل الكوفة بسبب عدم وفائهم بالعهود، وكما يرسلون السلام والتحيّات إلى 
 
 
 

1-تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 357، أنساب الأشراف، ج 2، ص 335، البداية والنهاية، ج 8، ص 157، الفتوح، ج 5، ص 37، مثير الأحزان، ص 27.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
245

235

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

 أصحاب الإمام عليه السلام الأوفياء، فإنّهم يرسلون اللعن على من وعد الإمام بالنصر وعاهده على المضيّ معه ثمّ تخلّى عن العهود والمواثيق، بل وشهروا السيوف أيضاً في وجهه حتّى قتلوه. إلّا أنّ الإنصاف يقتضي القول إنّ أهل الكوفة لم يتصرّفوا خلافاً للمعتاد ممّا يوجب الحيرة، وإنّ كلا عمليهما كان طبق القاعدة: سواء تلك الرسائل التي كتبوها، أو السيوف التي رفعوها بوجه الإمام"1.2 

 
 
 
 

1-دراسة تاريخ عاشوراء، ص 61. 
2-نلفت نظر القارئ الكريم أنّ ما جاء من تحليل في هذه المقالة، يمثّل وجهة نظر صاحبها، وعهدته على مدّعيه،وكذلك سائر المقالات المتقدمة، وما احتوته من آراء ونظريات خاصًة. ( معهد سيد الشهداء ).

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
246

236

الفهرس

 الفهرس

مقدمة الكتاب

5

إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله

9

العدد (أربعون)

10

العدد (أربعون) في المصادر الدينيّة

12

(أربعون) الإمام الحسين عليه السلام

13

وأمّا ما هو منشأ الأربعين؟

14

رجوع الأسرى إلى المدينة أو إلى كربلاء

15

الميرزا حسين النوريّ والأربعون:

17

 الشهيد القاضي الطباطبائيّ والأربعون:

19

ملاحظتان صغيرتان

21

تحقيق حول أربعين الإمام الحسين عليه السلام

23

تمهيد:

23


 

المقدّمة:

23

(الأربعون) في المتون والنصوص الدينيّة:

24

 استحباب زيارة الأربعين في الروايات والشواهد التاريخيّة:

25

الزائر الأوّل لقبر الإمام الحسين عليه السلام هو جابر بن عبد الله الأنصاريّ:

26

هل حضر أهل البيت عليهم السلام في يوم الأربعين إلى كربلاء؟

28

زمان وصول الأسرى من أهل البيت إلى الشام:

29

مدّة إقامة أهل البيت عليهم السلام في الشام:

31

المنكرون لمسألة وصول أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء في الأربعين الأوّل:

33

المؤيّدون لمسألة وصول أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء

37

البحث حول أدلّة إنكار المحدّث النوريّ لحضور أهل البيت عليهم السلام في كربلاء يوم الأربعين:

39

الإشكال الأوّل: عدم تناسب الزمان مع الوقائع:

39

النقد:

39


 

الإشكال الثاني: عدم ذكر هذه الحادثة في المصادر التاريخيّة القديمة:

40

النقد:

41

 

 

 

 

 

 

 

247


237

الفهرس

 

الإشكال الثالث: الأخبار الحاكية عن رجوع أهل البيت عليهم السلام إلى المدينة في العشرين من صفر.

42

الجواب والنقد:

42

الإشكال الرابع: عدم ذكر ملاقاة جابر مع أهل البيت عليهم السلام في الرواية.

42

النقد:

43

الإشكال الخامس: حركة أهل البيت عليهم السلام على الطريق السلطانيّ.

43

النقد:

45

الإشكال السادس: لماذا عدّ، جابر هو الزائر الأوّل؟

48

النقد:

48

الإشكال السابع: المقصد الذي أراده الأسرى:

49

الجواب:

49

الشواهد الأخرى:

52

1-محلّ دفن رأس الإمام عليه السلام:

52

2- إلحاق الرأس بالبدن:

54

3- علّة استحباب زيارة الأربعين:

55

تلخيص واستنتاج:

55

تحقيق حول الأربعين الحسينيّ

57

تمهيد:

57

المقدّمة:

57

البحث حول الوقائع المتعلّقة بحادثة الأربعين

59

1-مدّة حبس أهل بيت الإمام عليه السلام في الكوفة، والزمان الذي تحرّكوا فيه نحو الشام.

60

2- مسير قافلة الأسرى من الكوفة إلى الشام:

66

3-المدّة اللازمة للوصول إلى الشام:

70

4- المدّة التي بقي فيها أهل بيت الإمام في الشام:

75

5- التوجّه إلى كربلاء والوصول إليها في الأربعين الأوّل:

82

النتيجة

88

الرأس المقدّس للإمام الحسين عليه السلام ورؤوس بقيّة الشهداء، مصيرهم ومحلّ دفنهم

91

تمهيد

91

المقدّمة

91

الأوّل: مصير رأس الإمام الحسين عليه السلام:

92

1-كربلاء:

93

1-     النجف:

96

3- المدينة:

98

 

 

 

 

 

 

 

 

248


238

الفهرس

 


 

بحث ونقد:

98

4- دمشق:

99

أ- باب قلعة فراديس:

99

ب- مسجد دمشق:

99

نقد وتحقيق:

100

5-الرقّة:

100

6- الكوفة:

101

7- عسقلان:

101

5-     القاهرة (مصر):

102

9- مرو:

103

10- حرّان:

104

النتيجة والقول المختار:

104

الثاني: مصير ومحلّ دفن رؤوس بقيّة الشهداء

106

1ـ دفن الرؤوس في جبّانة الكوفة:

106

2. إلحاق الرؤوس بالأبدان:

106

3.      دفن بعض الرؤوس في مقبرة (باب الصغير) في الشام:

107

النتيجة:

107

حزن الموجودات على سيّد الشهداء عليه السلام دراسة وتحقيق

111

تمهيد:

111

المقدّمة:

111

عود على بدء

114

1-     الكسوف وظلمة السماء

115

2-     هبوب الرياح السوداء والحمراء، وهطول الدم والرماد من السماء

116

3- رؤية الدم في أماكن عدّة:

119

أ‌-       احمرار تراب كربلاء عند أمّ سلمة

120

ب- ظهور الدم تحت الأحجار والصخور

120

ج- تحوّل مياه الآبار والأنهار إلى دم

122

د- خروج الدم من شجرة أمّ معبد

123

هـ- خروج الدم من جدار قصر الإمارة في الكوفة

125

دراسة الروايات:

125

4-بكاء بعض أجزاء الكون

126

5-بكاء الأنبياء والملائكة وعزاؤهم

132

6-بكاء مؤمني الجنّ وحزنهم

134

7-بكاء الحيوانات وحزنها

135

 

 

 

 

 

 

 

249


239

الفهرس

 

8- تبدُّلُ الأشياءِ التي نُهِبت من حرم الإمام الحسين‌ عليه السلام وعياله بعد شهادته

136

أ‌-       الغنائم المشتعلة ناراً

137

ب- مرارة لحم الأبل وتحوّلها إلى دم

138

ج- تبدّل الدراهم والدنانير والذهب إلى حجر ونحاس

138

د- مصير الوَرْس والزعفران المنهوب

139

5-     العقوبات الدنيويّة العجيبة التي حلّت بجُناة كربلاء

139

أ‌-       الإصابة بأمراض غريبة، ونقص بعض الأعضاء، وتغيّر ملامح الوجه

140

ب- النّار في الدنيا والرؤى المخيفة

142

ج- تسليط الحيوانات

143

د- قصر العمر وقلّة التوفيق في الدنيا

145

الوقائع المتعلّقة بجسد الإمام عليه السلام وتربته الطاهرة

145

أ‌-       تكلّم الرأس الشريف وقراءته القرآن

146

ب- انبعاث النور وفوح العطر من الرأس الشريف

148

ج- طيب رائحة تربة الإمام الحسين عليه السلام وخصوصيّتها الشفائيّة

149

النتيجة

152

محمّد بن الحنفيّة والنهضة الحسينيّة

153

تمهيد:

153

نسب محمّد بن الحنفيّة

153

الموقف السياسيّ لمحمّد بن الحنفيّة في زمان الأئمّة عليهم السلام

155

أ‌.         رأي مؤلّفي أهل السنة

158

ب ـ رأي الشيعة ـ اقتراحات محمّد بن الحنفيّة

159

ج ـ أسباب عدم حضور محمّد في كربلاء.

160

1- المرض:

161

2-نيابته عن الإمام في المدينة

162

3- عدم وجود اسم محمّد بن الحنفيّة في اللوح المحفوظ

163

1-     التخلّف عن الفتح

164

النتيجة

166

عبد الله بن جعفر وثورة كربلاء

169

تمهيد

169

المقدّمة

169

أ- الشواهد والقرائن التاريخيّة الدالّة على موافقة عبد الله على النهضة الحسينيّة.

172

1-إرسال زوجته وأبنائه برفقة الإمام الحسين عليه السلام.

172

2-ردّة فعل عبد الله بن جعفر بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام:

173

 

 

 

 

 

 

 

 

250


240

الفهرس

 

3-رسالة عبد الله بن جعفر إلى الإمام الحسين:

173

رسالة عبد الله إلى الإمام الحسين عليه السلام:

173

4-عذر عبد الله في عدم الإلتحاق بالإمام:

175

ب ـ الشواهد والقرائن التاريخيّة الدالّة على مخالفة عبد الله للثورة الحسينيّة:

176

1-طلب الأمان من بني أميّة

176

2-روحيّة عبد الله بن جعفر في الصلح وإقامة العلاقات مع بني أميّة

179

النتيجة

181

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

183

تمهيد

183

المقدّمة

183

أ‌-       إطلالة إجماليّة على شخصيّة سليمان بن صرد

185

ب- أسباب عدم حضور سليمان في واقعة عاشوراء

189

1ـ وضع قادة الشيعة في السجون، منذ تحرّك مسلم إلى ما بعد عاشوراء:

189

2-وجود مانع لعدم الحضور في كربلاء:

191

3-عدم توقّع شهادة الإمام الحسين عليه السلام:

192

4-خطأ التوّابين في خذلان الإمام عليه السلام:

194

أ-اعتراف التوّابين بذنبهم:

194

ب-سليمان وسابقة مخالفة الإمام عليّ عليه السلام:

195

ج - تقييم ثورة التوّابين:

197

النتيجة

198

الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ

201

دراسة وتحليل لموقفه في كربلاء

201

الصراع في مرحلتَي التنزيل والتأويل

201

شريحة المُتخلِّفين عن الصراع

203

خبر الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ:

204

تأمّلات في خبَر الضحّاك

206

النقطة الأُولى الاعتذار

207

وجها الحياة الدنيا:

208

كيف تتحوّل العوائق إلى مُنطلَقات؟:

209

مقارنة بين زُهير بن القَين رحمه الله والضحّاك

210

النقطة الثانية: (الاستجابة المَشروطة):

212

العلاقة بين العمل والجزاء:

213

وهاتان طائفتان من الناس:

214

وهذه ثلاث خصائص للجزاء الإلهيّ:

216

 

 

 

 

 

 

 

 

251


241

الفهرس

 

النقطة الثالثة: (التَحلّل من الالتزام):

217

(التزام) و (حِلّ):

217

الجسر الذي مدَّه الضحّاك إلى الدنيا من عُمق (الطفّ):

220

أهل الكوفة في عصر الإمام الحسين عليه السلام

225

مجتمع الكوفة

227

تركيب المجتمع الكوفيّ

228

فقدان الإدارة الصحيحة للنهضة

229

القسوة وإدارة عبيد الله

230

عدم البيعة مع شخص مسلم

234

عدم التنبّؤ بالمستقبل

235

الدوافع من الدعوات

235

ماضي الأحداث المريرة

239

حضور أهل الكوفة في جيش ابن زياد

239

المبالغات والاتهامات غير المقبولة

243

النتيجة

244

 

 

 

 

 

 

 

 

252


242
(1) نهضة عاشوراء