دروس في أصول الدين


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2014-12

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمدلله رب العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين وبعد

 

النظام العقائدي لكل دين هو رؤيته الشاملة التي يقدّمها عن العالم من أجل بناء تصوّر صحيح حوله. هذه الرؤية التي من المتوقّع أن تقدّم أجوبة منطقية وصحيحة حول أسئلة حساسة ومصيرية مرتبطة بفهم هذا الوجود التكويني والإنساني على حد سواء، ليكون هذا الفهم مقدمة لبناء منظومة فكرة وعقائدية متكاملة تمهّد الطريق لاحقاً أمام بناء إيماني قوي وراسخ في النفس، وأرضية صالحة للأعمال الصالحة.

 

فالعقيدة تكمن أهمّيتها الأساسية في أنّها مقدمة حتمية وضرورية للإيمان والعمل. بمعنى أنّه لا إيمان ولا عمل من دون معتقد. بل كل إيمان وعمل هو مسبوق حكماً باعتقاد راسخ وجازم بماهية هذا الإيمان ونوعيّة هذا العمل. من هنا تظهر الخطورة البالغة في عدم الاعتناء بهذا البناء والتأسيس العقادئي في النفس والعقل، لما سوف يتركه من تداعيات أكيدة على مصير الإنسان في الدنيا والآخرة. من هنا نفهم لماذا صنّفت العقيدة في خانة أصول ومبادئ هذا الدين وليس من فروعه, لأنّها وبكل بساطة تعتبر الأصل الذي تبتنى عليه كل الفروع والمسائل الدينية المتفرّعة عنها.

 

13


1

المقدمة

ولما كان هناك حاجة ماسة وأكيدة لتبيين الآراء العقائدية بشكل مبسّط، واختصار غير مخل من أجل إيصال الحقائق والمعارف المرتبطة بفهم هذا الوجود والكون بقدر المستطاع، وإيصالها إلى أكبر شريحة ممكنة من الناس المتعطّشة إلى معرفة الحقيقة بحكم الفطرة التوّاقة إلى الكمال دوماً، كان هذا المتن الذي يعد محاولة في هذا المجال لتقديم رؤية عقائدية شاملة وعميقة بأسلوب مبسّط وسهل بعيداً عن التعقيدات اللغوية والاصطلاحات العلمية.

 

والمادة العلمية لهذا المتن مأخوذة بالأصل من كتاب: "العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام" للشيخ العلامة المحقّق جعفر السبحاني، إضافة إلى بعض المراجع العقائدية حيث تدعو الحاجة، وما قمنا به هو إعادة ترتبيت وتبويب وعنونة المادة على شكل دروس متكاملة ومترابطة مع بعضها البعض، مع ما يلزم في بعض الأحيان من تقديم وتأخير في الفقر أو العناوين أو حتى حذف بعض المطالب التي تعتبر غير ضرورية في موردها. على أمل أن يحقّق هذا الجهد العملي الغرض الأساسي من طرحه والله ولي الوفيق.

 

والحمد لله رب العالمين

مركز نون للتأليف والترجمة

14


2

الدرس الأول: طرقُ المعرفة في الإسلام

  

الدرس الأول: طرقُ المعرفة في الإسلام

 

 

 

أهداف الدرس:

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعدّد طرق وأنواع المعرفة.

2- يوضّح حجّيّة العقل والوحي.

3- يبيّن عدم التعارض بين الوحي والعقل.

15


3

الدرس الأول: طرقُ المعرفة في الإسلام

 مقدّمة

يتميّز الدين الإسلاميّ بدعوته الحثيثة نحو المعرفة، وبأن لا يكون المرء منقادًا إلى الإيمان بما يطرحه دون تعقّل وتفكّر، بل وحُكم في الشرع الإسلامي أنّ من أقرّ بالإسلام وبوجود الله عن تقليد بحت فإيمانه غير مقبول، ولهذا نجد المصادر الإسلامية الأساسيّة أكان من جهة القرآن الكريم أم أحاديث المعصومين نجدها مفعمة بتحريك العقل نحو التأمل والتفكر بأمور الكون والحياة والدين، وتدعو إلى ذلك بكلّ إصرار ووضوح.

 

طرق المعرفة

يستعين الإسلام لمعرفة الكون، وللوصول إلى الحقائق الدينيّة بثلاثة أنواع من الأدَوات مع أنّه يعتبر لكلّ واحدٍ منها مجالاً مختصّاً به.

 

وهذه الطرق هي:

1- الحِسّ، وأهّم الحواسّ هما حاسّتا السمع والبصر.

2- العقل الّذي يكتشف الحقيقة في مجالٍ محدودٍ وخاصّ، منطلِقاً في ذلك من أُصول ومبادئ خاصّةٍ.

3- الوحي الّذي هو وسيلة لارتباط ثُلّةٍ ممتازة ومميّزة من البشر بعالم الغيب.

17


4

الدرس الأول: طرقُ المعرفة في الإسلام

 وفي إمكان البشريّة جميعاً أن يستفيدوا من الطّريقين الأوَّلين في معرفة الكون وفي فهمِ الشّريعة كذلك، بينما الطريق الثالث خاصّ بمن شملتهُ العنايةُ الإلهيّة، وأبرز نموذج لهذا النمط من النّاس هم رسُلُ الله وأنبياؤه الكرام.

 

هذا مضافاً إلى أنّ أدَوات الحسّ وما يسمّى بالحواسّ الخمس، لا يستفاد منها إلاّ في مجال المحسوسات، كما لا يستفاد من أداة العقل إلاّ في مجال محدودٍ يملك العقلُ مبادئه.

 

على حين يكون مجال الوحي أوسع نطاقاً وأكثر شموليّة، كما أنّه نافذٌ في جميع الأصعدة سواء في مجال العقيدة أو في إطار الوظائف والتَّكاليف.

 

لقد تحدّث القرآنُ الكريمُ حولَ هذه الطرق الثلاث في آياتٍ متعددة نأتي هنا بنموذجَين منها:

 

فقد قال تعالى عنِ الحسّ والعقل: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[1].

 

والمراد من الأفئدةَ في الآية، وهي جمع فؤاد بقرينة لفظتَي: "السَّمع" و"البصر" هو العقل البشريّ.

 

على أنّ ذَيلَ الآية المذكورة الذي يتضّمن أَمراً بالشُكر يفيد أنّ على الإنسان أن يستفيد من هذه الأدَوات الثلاث, لأنّ الشّكر يعني صَرفَ كلّ نعمةٍ في موضِعِها المناسِب.

 

وحول "الوحي" قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾[2].



[1] سورة النحل، الآية 78.

[2] سورة النحل، الآية 43.

18


5

الدرس الأول: طرقُ المعرفة في الإسلام

 إنَّ الإنسان المتديّن يستفيد في معرفة الكون والحياة والعقيدة والدين، مِن الحسّ، ولكن غالباً ما تكون المدرَكات الحسيّة أَساساً ومنطلقاً لأحكامِ العقل، أي أنّ تلك المدرَكات تصنع الأرضيّة للفكر وحُكمه، كما أنّه قد يُستفاد من العقل والفكر في معرفة الله وصفاته وأفعاله وتكون حصيلةُ كلّ واحدة من هذه الطرق والأدَوات مقبولةً، ونافذةً ومعتبرة في اكتشاف الحقيقة ومعرفتها.

 

دعوة الأنبياء والرسل عليهم السلام

تتلخّص دعوةُ الأنبياء والرسُل عليهم السلام في أمرين:

1- العقيدة.

2- العمل.

 

وتتمثّل مهمّتُهم في مجال "العقيدة" في الدعوة إلى الإيمان بالله، وصفاته الجماليّة والجلاليّة، وأفعاله.

 

بينما المقصود من "العمل" هو التّكاليف والأحكام التي يجب أن تَقوم الحياةُ الفرديّة والاجتماعيّة على أساسِها.

 

والمطلوبُ في مجال العقيدة إنّما هو العلم واليقين، ومن المسلَّم أنَّه لا يكون شيءٌ ما حجةً، (وبعبارة أُخرى: لا يَتّسِمْ بالحجيّة) إلاّ ما يؤدّي إلى هذا الأمر المطلوب.

 

ولهذا يجب على كلّ مُسلمٍ أنْ يصلَ في عقائده إلى اليقين، فليس له أن يكتفيَ في هذا المجال بمجرّد التقليد، فيأخذَ عقائدَه تقليداً، ويعتنِقها من غير تحقيقٍ.

 

وأمّا في مجال الوظائف والتّكاليف (العمل) فإِنّ ما هو المطلوب فيها هو تطبيق الحياة على أساسِها، والأخذُ بموازينها في جميع المَجالات الفرديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة.

 

وفي هذا الصَعيد ثَمَّت بالإضافة إلى اليقين، طُرق أُخرى أيضاً قد أيَّدَتْها الشّريعةُ

19


6

الدرس الأول: طرقُ المعرفة في الإسلام

 وفرض علينا الاعتماد عليها للوصول إلى هذه التّكاليف والوظائف، والرجوع إلى المجتهد الجامع للشّرائط هو أَحدُ الطرق التي أيّدها وأقرّها صاحبُ الشريعة.

 

حجّية العقل والوحي

نحن نعتمد في أَخذ العقائد والأحكام الدّينيّة على حُجّتين إلَهيّتين هما: العقل والوحي.

 

وعمدة الفرق بينهما، هو أنّنا نستفيد مِن "الوحي" في جميع المجالات، بينما نستفيد مِن "العقل" في مجالات خاصّة.

 

والمقصود مِن "الوحي" هو كتابُنا السَّماوي "القرآن الكريم" والأحاديث التي تنتهي أسانيدها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وأمّا أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام: فبما أنّها تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتنبع منه، تسمّى جميعُها بالإضافة إلى أحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالسُّنة، وتُعتَبر من الحجج الإلهيّة.

 

إنّ العقل والوحي يؤيّد كلٌّ منهما حجيّةَ الآخر وإذا أثبتنا بحكم العقل القطعي حجيّة الوحي، فإنّ الوحي بدوره يؤيّد كذلك حجيّة العقل في مجاله الخاصّ به.

 

إنّ القرآن الكريم يَقُودُ في كثير من المواضع إلى حكم العقل وقضائه، ويدعو النّاس إلى التّفكر والتّدبر العقلي في عجائب الخلق، ويستعينُ هو كذلك بالعقل لإثبات مضامين دعوتهِ، وليس ثمَّتَ كتابٌ سماويٌ كالقرآن الكريم يحترِم المعرفةَ العقليَّة (والقضاياَ التي يُستدلّ عليها بالعقل السليم). فَالقرآن زاخرٌ بالبراهين العقلية في مجال العقائد، حتّى أنّها تفوقُ الحصرَ.

 

ولقد أكّد أئمّةُ أهل البيت عليهم السلام على حجيّة العقلِ وأحكامهِ في المجالات التي يحقُّ للعقل الحكمُ فيها، حتّى أنّ الإمام السّابع موسى بنَ جعفرٍ عليهما السلام عدّه إحدى

20


7

الدرس الأول: طرقُ المعرفة في الإسلام

 الحجج إذ يقول: "إنّ لله على الناس حجّتين: حجّةً ظاهرةً وحجّةً باطنةً، فأمّا الظّاهرةُ فالرُّسل والأنبياء والأئمة، وأمّا الباطنةُ فالعُقول"[1]

 

العقل والوحي لا يتعارضان

لمّا كانَ الوحيُ دليلاً قطعيّاً، وكان العقلُ مِصباحاً منيراً جعلهُ الله في كيان كلّ فردٍ من أفراد النَّوع الإنسانيّ، لذلك لَزِمَ أنْ لا يقع أَيُّ تعارُضٍ بين هاتين الحجّتينِ الإلَهيَّتين.

 

ولو بدا تعارضٌ بدائيٌ أحياناً بينَ هاتينِ الحجَّتينِ، فيجب أنْ يُعْلَم بأَنّه ناشئٌ من أحد أمرين: إمّا أنّ اسْتنباطنا مِن الدِّينِ في ذلك المورد غيرُ صحيحٍ، وإمّا أنّ هناك خطأً وقع في مقدّمات البرهانِ العقليّ, لأنّ الله الحكيم تعالى لا يدعُو النّاس إِلى طريقينِ متعارضينِ مُطلقاً.

 

وكما أنّه لا يُتصَوَّر أيّ تعارض حقيقيّ بين العقل والوحي، كذلك لا يحدثُ أَيُّ تعارضٍ بين "العلم" و"الوحي" مطلقاً، وإذا لُوحظَ نوعٌ مِن التعارض بين هذين في بعضِ الأحيان فإنّه أيضاً ناشئ من أحد أمرين: إمّا أَنْ يكونَ استنباطُنا من الدّين في هذا الموضع استنباطاً خاطئاً، وإمّا أنَّ العلمَ لَمْ يَصِل في هذا الموضوعِ إلى المرحلة القطعيَّة، وغالبًا ما يكون تصوّر التعارض ناشئ من الشقّ الثاني، فإنّ العقل الإنسانيّ قاصر عن إدراك جميع الأمور، فقد تخفى عليه تفاصيلها وعوارضها، بخلاف الوحي الذي يخبرنا بما هو من عند الله سبحانه، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماوات، وبالتالي فإنّنا نقدّم هنا حكم الوحي على حكم العقل لو ظهر لنا أن هناك تعارضًا.




[1] الكليني، الكافي، تحقيق: علي أكبر الغفاري، طهران - إيران، دار الكتب الإسلامية، ج 1، ص16، ح 12.

21


8

الدرس الأول: طرقُ المعرفة في الإسلام

 المفاهيم الرئيسة

- يستعين الإسلام لمعرفة الكون، وللوصول إلى الحقائق الدينيّة بثلاثة أنواع من الأدَوات هي الحِسّ والعقل والوحي.

 

- إنّ أدَوات الحسّ وما يُسمّى بالحواسّ الخمس، لا يستفاد منها إلاّ في مجال المحسوسات، كما لا يستفاد من أداة العقل إلاّ في مجال محدودٍ يملك العقلُ مبادئه.

 

- الوحي هو وسيلة لارتباط ثُلّةٍ ممتازة ومميّزة من البشر بعالم الغيب.

 

- نحن نعتمد في أَخذ العقائد والأحكام الدّينيّة على حُجّتين إلَهيّتين هما: العقل والوحي.

 

- إنّ العقل والوحي يؤيّد كلٌّ منهما حجيّةَ الآخر وإذا أثبتنا بحكم العقل القطعي حجيّة الوحي، فإنّ الوحي بدوره يؤيّد كذلك حجيّة العقل.

 

- إنّ القرآن الكريم يَقُودُ إلى حكم العقل وقضائه، ويدعو النّاس إلى التّفكر والتّدبّر العقليّ في عجائب الخلق.

 

- لأنّ الوحي دليل قطعيّ، والعقلُ مِصباح منير جعلهُ الله في كيان كلّ فردٍ من أفراد النَّوع الإنسانيّ، لذلك، لَزِمَ أنْ لا يقع أَيُّ تعارُضٍ بين هاتين الحجّتينِ الإلَهيَّتين.

 

 

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

- تكلّم عن طرق المعرفة الثلاثة.

- اشرح كيف تكون حجيّة العقل والوحي؟

- لماذا لا يمكن التعارض بين الوحي والعقل؟

22


9

الدرس الأول: طرقُ المعرفة في الإسلام

 للمطالعة

 

أنواع الإدراك

الألفاظ المستعملة في القرآن الكريم في أنواع الإدراك كثيرة ربما بلغت العشرين، كالظن والحسبان، والشعور، والذكر، والعرفان، والفهم، والفقه، والدراية، واليقين، والفكر، والرأي، والزعم، والحفظ، والحكمة، والخبرة، والشهادة، والعقل، ويلحق بها مثل القول والفتوى والبصيرة ونحو ذلك.

 

والظن: هو التصديق الراجح وإن لم يبلغ حد الجزم والقطع، وكذا الحسبان، غير أن الحسبان كأن استعماله في الإدراك الظني استعمال استعاري، كالعد بمعنى الظن، وأصله من نحو قولنا: عدّ زيداً من الأبطال وحسبه منهم، أي ألحقه بهم في العد والحساب. والشعور: هو الإدراك الدقيق مأخوذ من الشعر لدقته، ويغلب استعماله في المحسوس دون المعقول، ومنه إطلاق المشاعر للحواس.

 

والذكر: هو استحضار الصورة المخزونة في الذهن بعد غيبته عن الإدراك، أو حفظه من أن يغيب عن الإدراك.

 

والعرفان: والمعرفة تطبيق الصورة الحاصلة في المدركة على ما هو مخزون في الذهن، ولذا قيل: إنه إدراك بعد علم سابق.

 

والفهم: نوع انفعال للذهن عن الخارج عنه بانتقاش الصورة فيه.

 

والفقه: هو التثبّت في هذه الصورة المنتقشة فيه، والاستقرار في التصديق.

 

والدراية: هو التوغّل في ذلك التثبّت والاستقرار حتى يدرك خصوصية المعلوم وخباياه ومزاياه ولذا يستعمل في مقام تفخيم الأمر وتعظيمه، قال تعالى: ﴿الْحَاقَّةُ *

23


10

الدرس الأول: طرقُ المعرفة في الإسلام

 مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ[1]، وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ[2].

 

واليقين: هو اشتداد الإدراك الذهني بحيث لا يقبل الزوال والوهن.

 

والفكر: نحو سير ومرور على المعلومات الموجودة الحاضرة لتحصيل ما يلازمها من المجهولات. والرأي: هو التصديق الحاصل من الفكر والتروي، غير أنه يغلب استعماله في العلوم العملية مما ينبغي فعله وما لا ينبغي دون العلوم النظرية الراجعة إلى الأمور التكوينية، ويقرب منه البصيرة، والإفتاء، والقول، غير أن استعمال القول كأنه استعمال استعاري من قبيل وضع اللازم موضع الملزوم، لأن القول في شيء يستلزم الاعتقاد بما يدل عليه.

 

والزعم: هو التصديق من حيث إنه صورة في الذهن، سواء كان تصديقاً راجحاً أو جازماً قاطعاً والعلم كما مر: هو الإدراك المانع من النقيض.

 

والحفظ: ضبط الصورة المعلومة بحيث لا يتطرق إليه التغير والزوال.

 

والحكمة: هي الصورة العلمية من حيث إحكامها وإتقانها.

 

والخبرة: هو ظهور الصورة العلمية بحيث لا يخفى على العالم ترتب أي نتيجة على مقدماتها.

 

والشهادة: هو نيل نفس الشيء وعينه إما بحس ظاهر كما في المحسوسات، أو باطن كما في الوجدانيات نحو العلم والإرادة والحب والبغض وما يضاهي ذلك[3].



[1] سورة الحاقة، الآيات 1 - 3.

[2]  سورة القدر،الآيتان 1 و2.

[3] الطباطبائي، السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، قم - إيران، مؤسسة النشر الإسلامي التبعة لجماعة المدرسين بقم، ج2، ص247.

24


11

الدرس الثاني: الكون في نظر الإسلام

الدرس الثاني: الكون في نظر الإسلام

 

 

أهداف الدرس

 

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن كيف أنّ النظام الكونيّ ليس أبديًّا.

2- يشرح نظام العلّة والمعلول.

3- يبيّن الحكمة من خلق الكون.

25

 

12

الدرس الثاني: الكون في نظر الإسلام

 الكون مخلوق لله

الكون - أَيْ كلّ ما سِوَى الله - مخلوقٌ لله تعالى، وليس واقعُ الكونِ هذا سِوَى التعلّق، والرَّبط بالله تعالى، وليست الكائنات في غنىً عن الحقّ تعالى ولا لحظةً واحدة، ومعنى قولنا: إِنَّ الكون مخلوق لله، هو أَنَّ الكون خُلِقَ بإِرادة الله ومشيئته، وأنّ نسبته إلى الله ليس مِنْ نمطِ نسبة الوَلد إلى الوالد، فليست العَلاقة بين الكون وبين الله علاقة توْليد وَولادةٍ، يقول سبحانه: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ[1].

 

نظام الكون الحالي ليس أبديّاً

النِّظام الحالي للكون ليس خالداً ولا أبديّاً، بل سينهدمُ ويندثر بعد زمانٍ يعلمه الله وحده على وجه التحديد، ويقوم مكانه نظامٌ آخر هو العالم الأخروي وما يسمّى بالمعاد، كما يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾[2]. وفي قوله سبحانه: ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾[3] إِشارَة إلى هذه الحقيقة.

 

وبالتالي فإنّ خلق الكون بما أنّه خلق ذو أهداف تتبيّن في محلّها، يعني ذلك أنّه سوف يفنى ويزول، أمّا أنّه سيخلق الله كونًا جديدًا بعد انهدام هذا الكون الموجود، فهذا خارج عن تفكيرنا ولم يبيّنه الله سبحانه وتعالى.




[1] سورة الإخلاص، الآية 3.

[2] سورة إبراهيم، الآية 48.

[3] سورة البقرة، الآية 156.

27


13

الدرس الثاني: الكون في نظر الإسلام

 العلّة والمعلول

النِّظامُ الكونيّ الرّاهنُ قائمٌ على أَساس العلَّة والمعلول، وتقومُ بين ظواهرِهِ وأجزائه رابطةُ العليّة والمعلوليّة.

 

وتأثيرُ كلّ ظاهرة في ظاهرة أُخرى متوقّف على الإذن الإلهي وَالمشيئة الإلهيّة، وقد تَعلَّقت المشيئة الإلهيّة الحكيمة بتحقيق فيضه غالباً عن طريق النِّظام السببيّ، وعَبْرَ الأسباب والمسبّبات.

 

ومن الواضح أَنَّ الاعتقاد بتأثير الظّواهر بعضُها في بعض، لا يعني الاعتقاد بخالقيّتها قَطُّ، بل المقصود هو أنّ تلك الأسبابَ والعلل توفِّر - بإِذن الله ومشيئته - أرضيّة تحقّق ظواهر أُخرى، وأَنّ أيّ نوع من أَنواع التأثير والتأثر مظهرٌ من مشيئة الله وإِرادته الكلّيّة.

 

وقد أشار القرآنُ الكريمُ إلى كلا المطلبين المذكورَين ونعني خضوع الظواهر الطّبيعية لقانون العليّة وكذا توقُّفَ تأثيرِ كلّ علّة وسبب في الكون على الإذن الإلَهيّ الكلّيّ.

 

ففي المجال الأوّل نكتفي بذكر الآية التالية: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ[1].

 

وفي المَجالِ الثّاني نكتفي بالآيةِ التّالِيَة أَيْضاً: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ[2].




[1] سورة البقرة، الآية 22.

[2] سورة الأعراف، الآية 58.

28


14

الدرس الثاني: الكون في نظر الإسلام

 الوجود ليس مساوقاً للطبيعة المادية

الوجودُ ليس مساوِقاً للطبيعة المادّيّة، فهو لا ينحصرُ في المادّة وحدها بل هو أوسع من المادّة ومن ما وراءَها الَّذي أَطلقَ عليه القرآنُ اسْمَ "عالَمِ الغيبِ"، في مقابل عالَمِ الشَّهادةِ.

 

وكما أنّ الظواهر المادّيّة يؤثّر بعضُها في بعضٍ بإذن الله تعالى، كذلك تؤثّر الموجوداتُ الغيبيّة في عالَم الطبيعة بالإذن الإلَهيّ.

 

وبعبارة أُخرى: هي وسائط للفيض الاِلَهيّ.

 

ويتحدّث القرآنُ الكريمُ عن تأثير مَلائكةِ الله وتسَبّبِها لحوادثِ العالَمِ الطبيعيّ إذ يقول تعالى: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾[1]. ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً﴾[2].

 

نَستَنتجُ من الآيات الصَريحة السابقة:

إنّ عالَمَ الخلق بقسمَيْه: الطبيعة وما وراء الطبيعة مع ما يسوده من النظام السببي، قائمٌ برمَّته بمشيئة الله سبحانه ومرتبط به، بلا استثناءٍ.

 

خضوع الكون لهداية خاصة

إنَّ الكونَ حقيقةٌ تخضع لهدايةٍ خاصّةٍ، وإنّ جميع ذرّات العالم - كلٌّ في مرتبته - تتمتّع بحسب ما هي عليها بنورِ الهداية.

 

كما وإنّ مراتب هذه الهداية العامّة والشاملة تتكوّن من الهداية الطبيعيّة، والغريزيّة والتكوينيّة.

 

ولقد ذكَّر القرآنُ الكريمُ في آيات عديدةٍ بهذه الهداية التكوينيّة والعامّة، نأتي فيما يلي بواحدةٍ منها: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[3].




[1] سورة النازعات، الآية 5. 

[2] سورة الأنعام، الآية 61.

[3] سورة طه، الآية 50.

29


15

الدرس الثاني: الكون في نظر الإسلام

 الكون نظام كامل

إنَّ نظامَ الخليقة الحاضر هو النظامُ الأكملُ والأحسنُ، وإنّ جهاز الوجود قد صُوِّر على أفضل صورة، فلا يمكن تصوّر ما هو أكمل وأفضل ممّا عليه الآن.

 

يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾[1].

 

والدليلُ العقليُّ يدعمه، وذلك لأنّ فعلَ أيّ فاعل يتناسب من حيث الكمال والنقص، مع ما عليه الفاعلُ من حيث الصفات والكمالات، فإذا كان الفاعلُ منزَّهاً عن أيّ نقص من حيث الصفات الوجوديّة، كان فعلهُ كذلك عارياً عن أيّ نوع من أنواع النقص والعيب.

 

وحيث إنّ الله تعالى يُوصف بكلّ الكمالات الوجوديّة على وجهها الأتمّ الأكمل يكون فعله أيضاً - وبطبيعة الحال - أكملَ فعلٍ وأفضلَه. هذا مضافاً إلى أنّ كونَ اللهِ حكيماً يقتضي ما دام خلقُ العالمِ الأحسنِ ممكناً، أن لا يوجِدَ غيره.

 

والجدير بالذِكرِ أنّ ما في العالَم الطبيعيّ ممّا يسمّى بالشُّرور لا ينافي النظامَ الأحسنَ للوجود، وتوضيحُ هذه النقطة سيأتي في أبحاث "التوحيدِ في الخالقيّة".

 

الحكمة في خلق الكون

حيث إنَّ العالَمَ مَخلوقٌ لله - تعالى - وفعلهُ، فإنَّ مصنوعَه كذلك حقٌّ ويتَّسم بالحِكمة، فلا مجالَ للعبثيّة واللّاهدفيّة فيه. وقد أشار القرآنُ الكريمُ إلى هذا الموضوع في آياتٍ عديدةٍ نذكر واحدةً منها هنا: ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ[2].

 

على أنّ غايةَ هذا العالم والإنسان إنّما تَتَحقّق عندما تقومُ القيامة، كما قال الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام: "فإنّ الغاية القِيامة"[3].




[1] سورة السجدة، الآية 7.

[2] سورة الأحقاف، الآية 3.

[3] نهج البلاغة، الخطبة 190.

30


16

الدرس الثاني: الكون في نظر الإسلام

 المفاهيم الرئيسة

1- الكون مخلوقٌ لله تعالى، وليس واقعُ الكونِ هذا سِوَى التعلّق، والرَّبط بالله تعالى.

 

2- النِّظام الحاليّ للكون ليس خالداً ولا أبديّاً، بل سينهدمُ ويندثر بعد زمانٍ يعلمه الله وحده على وجه التحديد، ويقوم مكانه نظامٌ آخر هو العالم الأخروي.

 

3- النِّظامُ الكوني الرّاهنُ قائمٌ على أَساس العلَّة والمعلول، وتقومُ بين ظواهرِهِ وأجزائه رابطةُ العليّة والمعلوليّة.

 

4- الوجودُ ليس مساوِقاً للطبيعة المادّيّة، فهو لا ينحصرُ في المادّة وحدها بل هو أوسع من المادة ومن ما وراءَها.

 

5- إنَّ الكونَ حقيقةٌ تخضع لهدايةٍ خاصّةٍ، وإنّ جميع ذرات العالم - كلٌّ في مرتبته - تتمتّع بحسب ما هي عليها بنورِ الهداية.

 

6- إنّ عالَمَ الخلق بقسمَيْه: الطبيعة وما وراء الطبيعة مع ما يسوده من النظام السببي، قائمٌ برمَّته بمشيئة الله سبحانه ومرتبط به، بلا استثناءٍ.

 

7- غاية هذا العالم والإنسان إنّما تَتَحقّق عندما تقومُ القيامة.

 

 

اسئلة الدرس

1- بيّن نظام العلّة والمعلول.

2- ما هو المقصود بأنّ نظام الكون نظام كامل؟

3- ما هي الحكمة من خلق الكون؟

31


17

الدرس الثاني: الكون في نظر الإسلام

 للمطالعة

 

العلة والمعلول

إن العلة والمعلول قد يكونان مقترنين تماماً ومع ذلك ندرك علية أحدهما للآخر، كحركة اليد وحركة القلم حال الكتابة، فإن حركة اليد وحركة القلم توجدان دائماً في وقت واحد، فلو كان مردً الضرورة والعلية إلى استتباع احدى العمليتين العقليتين للأخرى بالتداعي لما أمكن في هذا المثال أن تحتل حركة اليد مركز العلة لحركة القلم، لأن العقل قد أدرك الحركتين في وقت واحد فلماذا وضع إحداهما موضع العلة والأخرى موضع المعلول؟

 

وبكلمة أخرى: إن تفسير العلية بضرورة سيكولوجية يعني أن العلة إنما اعتبرت علة لا لأنها في الواقع الموضوعي سابقة على المعلول ومولدة له، بل لأن إدراكها يتعقّبه دائماً إدراك المعلول بتداعي المعاني فتكون لذلك علة له، وهذا التفسير لا يمكنه أن يشرح لنا كيف صارت حركة اليد علة لحركة القلم مع أن حركة القلم لا تجيء عقب حركة اليد في الإدراك، وإنما تدرك الحركتان معاً فلو لم يكن لحركة اليد سبق واقعي وسببية موضوعية لحركة القلم لما أمكن اعتبارها علة[1].




[1] الصدر، محمد باقر، فلسفتنا، دار الكتاب الاسلامي، 1425هـ- 2004م، ط3، ص72.

32


18

الدرس الثالث: الإنسان في نَظَر الإسلام

 الدرس الثالث: الإنسان في نَظَر الإسلام

 

 

 

أهداف الدرس:

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن: 

1- يبيّن نظرة الإسلام إلى الإنسان من حيث الفطرة والحرّيّة وقابليّته للتربية.

2- يوضّح العلاقة بين تقدّم الأمم أو تخلّفها وبين عقائدها وأخلاقها.

3- يشرح كيف يكون الانسجام بين الحرّيّة الفرديّة ومبدأ التكامل المعنويّ.

33


19

الدرس الثالث: الإنسان في نَظَر الإسلام

 ماهيّة الإنسان

الإنسان كائنٌ مركّبٌ من الرّوح والجَسَد، وجَسَده يتلاشى بعد الموت وتتفرّق أَجزاؤه، إلاّ أنَّ روحه تواصل حياتها، وموت الإنسان لا يعني فناءَه، ولهذا فإنّه سيمرّ بحياةٍ برزخيّةٍ حتى تقومَ القيامة، ولقد أشار القرآن الكريم عند بيان مراتب خَلْق الإنسان وتكوّنه، إلى آخر مرحلةٍ من تلك المراحل، وهي التي تتحقّق بنفخ الرّوح في جسده، إذ يقول: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ[1]. كما أنّ القرآن أشار إلى حياة الإنسان البرزخيّة في عدّة آيات أيضاً، ومن تلك الآيات قوله: ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[2].

 

خلق الإنسان بفطرة سليمة

يولَد كلّ إنسان بفطرةٍ نقيّةٍ توحيديّةٍ بحيث إذا بقي بعيداً عن تأثير العوامل الخارجيّة (كالتربية والصّداقةِ والإعلام) التي تُسبِّب انحرافَ عقيدتهِ، سَلَكَ طريقَ الحق.

 

فليس ثمّة شرّيرٌ بالولادة والخلقة، بل الشرور والقبائح أُمور ذات صفة عارضة وطارئة تنشأ بسبب العوامل الباطنيّة والاختياريّة.




[1] سورة المؤمنون، الآية 14.

[2] سورة المؤمنون، الآية 100.

35


20

الدرس الثالث: الإنسان في نَظَر الإسلام

 ولهذا فإنَّ فكرةَ المعصية الذاتيّة في بني آدم، المطروحة من قِبل العقيدة المسيحيّة، لا أساس لها من الصحّة أبدًا. يقول القرآنُ الكريمُ في هذا الصدد: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا[1].

 

الإنسان كائن حرّ الإرادة

الإنسان كائنٌ حرُّ الإرادة، مخيّرٌ، يعني أنّه بَعد أن يدرسَ النواحي المختلفة لموضوعٍ مّا في ضوء العقل، يختار فعلَهُ أو تركَه، دون إجبار. يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا[2]. ويقول أيضاً: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾[3].

 

الإنسان مخلوق قابل للتربية والتأديب

حيث إنّ الإنسان يتمتّع بفطرةٍ سليمةٍ وقوّة تُمكِّنه من معرفة الخير والشرّ، كما أنّه كائن مخيّر غير مجبور، لذلك كلّهِ فهو موجودٌ قابل للتربية والتأْديب، قادرٌ على سلوك طريق الرّشد والتكامل، وباب العودة إلى الله مفتوحٌ عليه، اللّهم إلاّ أن يتوبَ إلى الله لحظة المعاينة، ومشاهدة الموت التي لا تُقبل فيها التوبة، ولا تنفع فيها العودة إلى الله. ومن أَجل هذا تكون دعوةُ الأنبياء موجَّهة إلى جميع البشر حتى نظير فرعون كما يقول تعالى: ﴿فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾[4]. وعلى هذا الأساس يجب أن لا ييأس الإنسان من الرّحمةِ والمغفرةِ الإلَهيّتين كما يقول تعالى: ﴿لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾[5].




[1] سورة الروم، الآية 30.

[2] سورة الإنسان، الآية 3.

[3] سورة الكهف، الآية 29.

 [4] سورة النازعات، الآيتان 18 و 19.

[5] سورة الزمر، الآية 53.

36


21

الدرس الثالث: الإنسان في نَظَر الإسلام

 الإنسان كائن مسؤول

حيث إنّ الإنسان يتمتّع بنورِ العقل وموهبة الاختيار لذلك فإنّه كائنٌ مسؤُولٌ، مسؤولٌ أمام الله، وأمام الأنبياء، والقادة الإلَهيين، وأمام غيره من أبناء البشر الآخرين، وأمام العالَم. وقد صَرّحَ القرآن الكريم بهذه المسؤوليّة الّتي تَقَعُ على الإنسان في آيات عديدة يقول: ﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً[1].

 

ويقول كذلك: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى[2]. ويقول الرسولُ الأَكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: "كُلُّكُمْ راعٍ وَكُلُّكُمْ مَسؤُولٌ عَنْ رَعِيّتهِ"[3].

 

كرامة الإنسان

يحظى الإنسان - حسب رؤية القرآن الكريم - بكرامةٍ خاصّة إلى دَرَجةِ سجود الملائكة له، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً[4].

 

وحيث إنّ جوهر الحياة الإنسانيّة يكمنُ في حفظ الكرامة والعزّة، لهذا منَعَ الإسلام من أيّ عمل يضرُّ بهذه الموهبة، وبعبارة أكثر وضوحاً, إنّ أيّ نوع من التسلّط على الآخرين وكذا قبول السلطة من الآخرين ممنوعٌ من وجهة نظر الإسلام منعاً باتاً، فلا بدّ أن يعيش المرء حُرّاً كريماً بعيداً عن أيّ شكلٍ من أشكال الصَّغار والذلّ.

 

قال الإمام أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: "ولا تكُنْ عَبْدَ غيرِك وقدْ جَعَلك الله حُرّاً"[5].




[1] سورة الإسراء، الآية 34.

[2] سورة القيامة، الآية 36.

[3] ابن حنبل، المسند، بيروت- لبنان، دار صادر، ج2، ص54.

[4] سورة الإسراء، الآية 70.

[5] نهج البلاغة، الخطبة 31.

37


22

الدرس الثالث: الإنسان في نَظَر الإسلام

 وكما قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله تبارَك وتعالى فَوَّض إلى المؤمن كلَّ شيء إلاّ إِذلالَ نفسهِ"[1]، ومن الواضح جداً أنّ الحكومات الإلهيّة المشروعة لا تنافي هذا الأصل كما سيأتي توضيحه مستقبلاً.

 

رؤية الإسلام للعقل الإنسانيّ

إنّ للعقل الإنسانيّ مكانةً خاصّةً في رؤية الإسلام ونظره، وذلك لأَنّ ما يميّز الإنسان عن سائر الأحياء بل ويجعله مفضّلاً عليها هو عقله ومدى قوّته في التفكير. من هنا دُعِيَ البشر - في آيات عديدة من القرآن الكريم - إلى التفكّر والتأمّل، والتدبّر والتعقّل، إلى درجة، عُدَّت تنمية القوّة العقليّة، والتفكّر في مظاهر الخلق، من علائم العقلاء وذوي الألباب قال تعالى في القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً﴾[2].

 

هذا وإنّ الآيات التي ترتبط بضرورة التفكّر والتأمّل في مظاهر الخلقة أكثر بكثير من أن يمكن سردها في هذا البيان المقتضب. وعلى أساس هذه الرؤية نجد القرآن الكريمَ ينهى الناس عن التقليد الأعمى، وعن الاتّباع غير المدروس للآباء والأجداد.

 

ملاك التفاضل بين الناس

لا فَضْلَ لإنسانٍ على إنسان آخر إلاّ بما يكسبه، ويحصل عليه من الكمالات المعنويّة، وأفضل هذه الكمالات التي هي ملاكُ التفوّق والأفضليّة هو التقوى كما يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[3].




[1] الكليني، الكافي، ج5، ص62، باب من أسخط الخالق في مرضاة المخلوق، ح3.

[2] سورة آل عمران، الآية 191.

[3] سورة الحجرات، الآية 13.

38


23

الدرس الثالث: الإنسان في نَظَر الإسلام

 وعلى هذا الأساس لا تكون الخصائصُ العرقيّة والجغرافيّة وغيرها من وجهة نظر الإسلام سبباً للتمييز، ومبرِّراً للتفاخر والتكبّر، والاستعلاء على الآخرين.

 

ثبات الأسس الأخلاقية

الأسُسُ الأخلاقيّة التي تُمثّل - في الحقيقة - أُسُسَ الهويّة الإنسانيّة، ولها جذورٌ فطريّةٌ، أُسسٌ ثابتةٌ وخالدةٌ، وهي لا تتغيّر بسبب مُضِيّ الزمان وطروءِ التحوّلات والتطوّرات الإجتماعيّة. فمثلاً, حسنُ الوفاء بالعهد والعقد، أو حسن مقابلة الإحسان بالإحسان، قضيّةٌ خالدةٌ، وحقيقةٌ ثابتةٌ مطلقاً، وهذا القانون الاَخلاقيّ لا يتغيّر أبداً. وهكذا الحكمُ بقبح الخيانة وخُلف الوعد.

 

وعلى هذا الأساس فإنّ في الحياة البشريّة الاجتماعيّة طائفةً من الأصول والأسُس التي امتزجت بالفطرة، والطبيعة البشريّة وتكون ثابتةً وخالدةً. وقد أشارَ القرآنُ الكريمُ إلى بعض هذه الأصول والأسُس العقليّة الأخلاقيّة الثابتة إذ قال:

﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾[1]. وقال: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ﴾[2].

 

وقال أيضًا: ﴿فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ[3]. وقال: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[4].

 

والكلام عن الأسس الأخلاقية يختلف عن الآداب والعادات والتقاليد التي تكون لدى الناس، فالأخلاق ليست كالآداب، فإن الأولى كما ثبت لدينا أسس ثابتة لا تتغيّر، والثانية قابلة للتغيّر والتبدّل بفعل الزمان والمكان، ولا ضير في ذلك طالما أنّها لا تعبّر عن الثوابت الإنسانية، فعلى سبيل المثال والفرض إذا كان الناس في بلاد الصين لا يقفون للرجل إذا جاءهم، فإنهم في البلاد العربية يعتبر الوقوف للرجل




[1] سورة الرحمن، الآية 60.

[2] سورة التوبة، الآية 91.

[3] سورة يوسف، الآية90.

[4] سورة النحل، الآية 90.

39


24

الدرس الثالث: الإنسان في نَظَر الإسلام

 من الاحترام، ولكن لا يعني ذلك أن تقاليد الصينيّين في عدم الوقوف غير أخلاقية إنما هي فقط تقاليد مختلفة، وهكذا في الكثير من العادات والتقاليد، فلا ينبغي الخلط بين الأخلاق والأداب.

 

الانسجام بين الحريّة الفرديّة ومبدأ التكامل المعنويّ

إنّ الحرّيّات الفرديّة (الشخصيّة) في المجالات الاقتصاديّة السياسيّة مقيّدة في الإسلام بأنْ لا تُنافي مبدأَ التكامل المعنويّ للإنسان كما هي مقيّدة بأن لا تضرّ بالمصالح العامة.

 

وفي الحقيقة إنّ حكمة التكليف بالوظائف والواجبات الدينيّة في الإسلام تكمن في أنّ الإسلام يريد بهذه الوظائف التي يُكلّف بها الإنسان أن يحافظ على كرامته الذاتيَّة، وفي الوقت نفسه يضمن سلامة واستمرار المصالح الاجتماعية.

 

إنّ مَنع الإسلام من الوثنيّة، ونهيه المؤكّد عن تعاطي ومعاقرة الخمر وما شابه ذلك إنّما هو للحفاظ على الكرامة الإنسانيّة (فرداً وجماعة). وبهذا تتضح حكمة التشريعات الجزائية في الإسلام أيضاً.

 

فالقرآن الكريم يعتبر القصاص ضماناً للحياة الإنسانيّة إذ يقول: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ[1].

 

يقول النبيّ الأَكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ المعصيةَ إذا عَمِلَ بها العبدُ سرًّا لم تَضرّ إلاّ عامِلَها، فإذا عَمِل بها علانيّة، ولم يُغَيّر أضرّت بالعامّة"[2]. ويضيف الإمام جعفر الصادق عليه السلام بعد نقل هذا الحديث قائلاً: "ذلك أنّهُ يذلّ بعَملِه دين الله، وَيَقْتدي به أهلُ عَداوةِ اللهِ"[3].




[1] سورة البقرة، الآية 179.

[2] المجلسي، بحار الأنوار، تحقيق: محمد مهدي السيد حسن الموسوي والسيد ابراهيم الميانجي ومحمد الباقر البهبودي، بيروت- لبنان، مؤسسة الوفاء، ج97، ص68،ح15.

[3] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، ج16، باب4، ح1، ص135.

40


25

الدرس الثالث: الإنسان في نَظَر الإسلام

 لا إكراه في الدين

إنّ من مظاهر الحريّة الفرديّة في الإسلام هو أن لا يُجبرَ الشخصُ على قبول الدين واعتناقه كما قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾[1].

 

وذلك لأن الدّين المطلوب في الإسلام هو الاعتقاد والإيمان القلبيّان وهما لا يتحقّقان في قلب الإنسان بالعُنف والقهر، والقسر والإجبار، بل ينشئان بعد حصول مقدّمات أهمها اتّضاح الحقّ والباطل وتميّز أحدهما عن الآخر.

 

فإذا حَصَلت مثل هذه المعرفة اختار الإنسانُ الحقَّ في ظروف طبيعيّة قطعاً.

 

صحيح أنّ "الجهاد" هو أحد الفرائض والواجبات الإسلاميّة المهمّة جداً، ولكن لا يعني الجهادُ قط إجبارَ الآخرين على اعتناق الإسلام، بل المقصود منه إزالة الموانع والعراقيل عن طريق الدعوة الإسلاميّة وإبلاغ الرسالة الإلهيّة إلى مسامع الناس في العالم لكي يتبيّن الرّشد من الغيّ.

 

ومن الطبيعيّ إذا مَنَعَ أرباب الثروة والسلطة انطلاقاً من الدوافع المادّيّة والشيطانيّة من إبلاغ الرسالة الإلهيّة الهادية إلى مسامع الناس وأفئدتهم، اقتضت فلسفة النبوّة (وهي هداية البشريّة وإرشادهم) أن يقوم المجاهدون بإزالة هذه الموانع، والعراقيل، لتتوفّر الشروط والظروف اللازمة لإبلاغ دعوة الحقّ إلى أبناء البشرية.

 

اتّضح مّما سبق من الأبحاث، رؤية الإسلام حول الكون والإنسان والحياة، على أنّ هناك نقاطاً وأصولاً أُخرى أيضاً سنأتي بها في مكانها المناسب. وها نحن نشرع في استعراض مواقف الإسلام ورؤاه في صعيد المعتقدات والأحكام.



[1] سورة البقرة، الآية 256.

41


26

الدرس الثالث: الإنسان في نَظَر الإسلام

 المفاهيم الرئيسة

- الإنسان كائنٌ مركّبٌ من الرّوح والجَسَد، وجَسَده يتلاشى بعد الموت وتتفرّق أَجزاؤه، إلاّ أنَّ روحه تواصل حياتها.

 

- يولَد كلّ إنسان بفطرةٍ نقيّةٍ توحيديّةٍ بحيث إذا بقي بعيداً عن تأثير العوامل الخارجيّة (كالتربية والصَداقةِ والإعلام) التي

تُسبِّب انحرافَ عقيدتهِ، سَلَكَ طريقَ الحق.

 

- الإنسان كائنٌ حرُّ الاِرادة، مخيّرٌ، يعني أنّه بَعد أن يدرسَ النواحي المختلفة لموضوعٍ مّا في ضوء العقل، يختار فعلَهُ أو تركَه، دون إجبار.

 

- الإنسان موجودٌ قابل للتربية والتأْديب، قادرٌ على سلوك طريق الرشد والتكامل، وباب العودة إلى الله مفتوحٌ عليه.

 

- لا فَضْلَ لإنسانٍ على إنسان آخر إلاّ بما يكسبه، ويحصل عليه من الكمالات المعنوية، وأفضل هذه الكمالات التي هي ملاكُ التفوّق والأفضليّة هو التقوى.

 

- الأسُسُ الأخلاقيّة التي تُمثّل أُسُسَ الهويّة الإنسانيّة، ولها جذورٌ فطريّةٌ، أُسسٌ ثابتةٌ وخالدةٌ، وهي لا تتغيّر.

 

- إنّ الحرّيّات الفرديّة (الشخصيّة) في المجالات الاقتصاديّة السياسيّة مقيّدة في الإسلام بأنْ لا تُنافي مبدأَ التكامل المعنويّ للإنسان.

 

 

أسئلة الدرس

1- اذكر الشواهد التي تبرز تكريم الإسلام للإنسان.

2- ما هو المقصود بثبات الأسس الأخلاقيّة؟

3- تكلّم عن الانسجام بين الحرّيّة الفردية ومبدأ التكامل المعنوي.

42


27

الدرس الثالث: الإنسان في نَظَر الإسلام

للمطالعة

 

الحرية

الحرية هي انعتاق الإنسان وتحرّره من أسر الرق والطغيان، وتمتعه بحقوقه المشروعة. وهي من أقدس الحقوق وأجلها خطراً، وأبلغها أثراً في حياة الناس.

 

لذلك أقر الإسلام هذا الحق وحرص على حمايته وسيادته في المجتمع الإسلامي. وليست الحرية كما يفهمها الأغرار هي التحلل من جميع النظم والضوابط الكفيلة بتنظيم المجتمع، وإصلاحه وصيانة حقوقه وحرماته، فتلك هي حرية الغاب والوحوش الباعثة على فساده وتسيبه. وإنما الحرية الحقة هي: التمتع بالحقوق المشروعة التي لا تناقض حقوق الآخرين ولا تجحف بهم. وإليك طرفاً من الحريات:

 

1- الحرية الدينية:

فمن حق المسلم أن يكون حراً طليقاً في عقيدته وممارسة عباداته، وأحكام شريعته. فلا يجوز قسره على نبذها أو مخالفة دستورها، ويعتبر ذلك عدواناً صارخاً على أقدس الحريات، وأجلها خطراً في دنيا الإسلام. والمسلمين. وعلى المسلم أن يكون صلباً في عقيدته، صامداً إزاء حملات التضليل التي يشنها أعداء الاسلام، لإغواء المسلمين وإضعاف طاقاتهم ومعنوياتهم.

 

2- الحرية المدنية:

ومن حق المسلم الرشيد أن يكون حراً في تصرفاته، وممارسة شؤونه المدنية، فيستوطن ما أحب من البلدان، ويختار ما شاء من الحرف والمكاسب ويتخصص فيما يهوى من العلوم، وينشئ ما أراد من العقود، كالبيع والشراء والإجارة والرهن ونحوها. وهو حر في مزاولة ذلك على ضوء الشريعة الإسلامية.

43


28

الدرس الثالث: الإنسان في نَظَر الإسلام

 3- حرية الدعوة الإسلامية:

 

وهذه الحرية تحض الأكفاء من المسلمين القادرين على نشر التوعية الإسلامية، وإرشاد المسلمين وتوجيههم وجهة الخير والصلاح. وذلك ما يبعث على تصعيد المجتمع الإسلامي ورقيه دينياً وثقافياً واجتماعياً، ويعمل على وقايته وتطهيره من شرور الرذائل والمنكرات.

 

﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[1].

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء"[2].



[1] سورة آل عمران، الآية 104.

[2] المجلسي، بحار الأنوار، ج97، ص94.

44


29

الدرس الرابع: مراتب التوحيد (1) التوحيد في الذات والتوحيد في الصفات

 الدرس الرابع: مراتب التوحيد (1) التوحيد في الذات والتوحيد في الصفات

 

 

 

 

أهداف الدرس:

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يشرح طرق إثبات وجود الله من خلال القرآن.

2- يبيّن معنى التوحيد الذاتي.

3- يبيّن معنى التوحيد في الصفات.

45


30

الدرس الرابع: مراتب التوحيد (1) التوحيد في الذات والتوحيد في الصفات

 وجود الله تعالى

إنّ الاعتقاد بوُجود الله أصلٌ مشترك بين جميع الشرائع السماويّة، وأساساً يكمنُ الفارقُ الجوهريُّ والأساسيُّ بين الإنسان الاِلَهيّ المتديّنِ (مهما كانت الشريعة التي ينهجها) والفردِ الماديّ، في هذه المسألة. إنّ القرآنَ الكريمَ يعتبر وجودَ الله أمراً واضحاً وغنيّاً عن البرهنة، ويرى أنّ الشك والتردّد في هذه الحقيقة أمر غير مبرَّر، بل ومرفوضاً كما قال تعالى: ﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ[1].

 

إلاّ أنّه رغم وضوحِ وجودِ الله وبداهته قد وضع القرآنُ الكريمُ أمام من يريدُ معرفة الله عن طريق التفكّر والبرهنة، وإزالة جميع الشكوك والاحتمالات المضادّة عن ذهنه، طرقاً تؤدّي هذه المهمّة وأبرزها هو:

 

1ـ إحساس الإنسان بالحاجة إلى كائنٍ أعلى، هذا الإحساس الذي يتجلّى في ظروف وحالاتٍ خاصّة، وهذا هو نداء الفطرة الإنسانيّة التي تدعوه إلى مبدأ الخلق يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾[2]. ويقول أيضاً: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾[3].




[1] سورة إبراهيم، الآية 10.

[2] سورة الروم، الآية 30.

[3] سورة العنكبوت، الآية 65.

47


31

الدرس الرابع: مراتب التوحيد (1) التوحيد في الذات والتوحيد في الصفات

 2ـ الدعوة إلى مطالَعة العالَم الطبيعيّ والتأمّل في عجائب المخلوقات التي هي آياتٌ واضحةٌ، ودلائلٌ قويةٌ على وجود الله. إنّها آيات تدلّ على تأثير ودور العلم والقدرة، والتدبير الحكيم في عالم الوجود: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ﴾[1]. إنّ الآيات في هذا المجال كثيرة وما ذكرناه ليس سوى نماذج من ذلك.

 

 

ومن البديهيّ أن ما ذكرناه لا يعني بالمرّة أنّ الطريق إلى معرفة وجودِ الله وإثباته يختصّ في هذين الطريقين، بل هناك طرق

عديدة أُخرى لإثبات وجودِ الله أتى بها علماء العقيدة، والمتكلّمون المسلمون في مؤلفاتهم المختصّة بهذه المواضيع.

 

مراتب التوحيد

تقوم جميعُ الشرائع والمناهجِ السماوية على أساس التوحيد كما وأنّ الاعتقاد بالتوحيد هو أبرز أصلٍ مشتركٍ بين تلك الشرائع، وإن كان هناك شيء من الانحراف لدى أتباع بعض تلك الشرائع في هذه العقيدة المشتركة. وفيما يأتي مراتب التوحيد وأبعاده في ضوء القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، والبراهين العقلية:

 

التوحيد في الذات

إنّ أوّل مرتبة من مراتب التوحيد هو التوحيد الذاتيّ، وللتوحيد الذاتيّ معنيان:

1- إنّ الله واحدٌ، لا مثيل له ولا نظير ولا شبيهَ ولا عديل.

2- إن الذات الإلهيّة المقدّسة ذاتٌ بسيطةٌ لا كثرةَ فيها، ولا تركّب.

 

يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام حول كلا المعنيَين:

أ- "هُو وَاحدٌ لَيسَ له في الأشْياء شَبَهٌ".

ب- "وإنّه عزّ وجل أَحديّ المعنى لا ينقسم في وجودٍ ولا وَهمٍ ولا عقلٍ"[2].

 

وسورة "الإخلاص" التي تعكس عقيدة المسلمين في مجال التوحيد تشير إلى كلا القسمين:




[1] سورة آل عمران، الآية 190. 

[2] الصدوق، التوحيد، قم - إيران، مؤسسة النشر الإسلامي، ص 81، الباب 3، الحديث 3.

 48


32

الدرس الرابع: مراتب التوحيد (1) التوحيد في الذات والتوحيد في الصفات

 فقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ[1] إشارةٌ إلى القسم الأوّل.

 

وقوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[2] إشارةٌ إلى القسم الثاني.

 

وعلى هذا الأساس يكون "التثليث" باطلاً من وجهة نظر الإسلام، وقد صرّح القرآنُ الكريمُ في آيات عَديدة بعدم صحة ذلك.

 

كما أنّ هذه المسألة تَناولَتْها الكتبُ الكلاميّة (العقيديّة) بالبحث المُفَصَّل وفَنَّدَتْ التثليثَ بطرق مختلفة، ونحن نكتفي هنا بذكر طريق واحد: إنّ التثليث بمعنى كون الإلَه ثلاثاً لا يخلو عن أحد حالين:

 

أ- إمّا أن يكون لكلِّ واحدٍ من هذه الثلاثة وجودٌ مستقلٌّ، وشخصيّة مستقلّة، أي أنْ يكون كلُّ واحدٍ منها واجداً لكلّ حقيقةِ الألوهية، وفي هذه الصورة يتنافى هذا مع التوحيد الذاتيّ بمعناه الأوّل (أي كون الله لا نظير له).

 

ب- وإمّا أن تكون هذه الآلهة الثلاثة ذات شخصيّة واحدة، لا متعدّدة ويكون كلُ إلَهٍ جزءاً من تلك الحقيقة الواحدةِ، وفي هذه الصورة يكون التثليث كذلك مستلزماً للتركب، ويخالف المعنى الثانيَ للتوحيد الإلَهيّ (أي بساطة الذاتِ الإلهيّة).

 

التوحيد في الصفات

المرتبة الثانيّة من مراتب التوحيد هو: التوحيد في صفات الذات الإلهيّة.

 

نحن نعتقد أنّ الله تعالى موصوف بكلّ الصفات الكمالية، وأنّ العقلَ والوحيَ معاً يَدُلاّن على وجودِ هذه الكمالات في الذات الإلهيّة المقدسة. وعلى هذا الأساس فإنّ الله عالمٌ، قادرٌ، حيٌّ، سميعٌ، بصيرٌ وغيرها من الصفات...

 

وهذه الصفات تتفاوت فيما بينها من حيث المفهوم، فما نفهمه من لفظة "عالِم" غير ما نفهمه من لفظة: "قادر". ولكن النقطة الجديرة بالبحث هو أنّ هذه الصفات




[1] سورة الإخلاص، الآية 4.

[2] سورة الإخلاص، الآية 1.

49


33

الدرس الرابع: مراتب التوحيد (1) التوحيد في الذات والتوحيد في الصفات

 كما هي متغايرة من حيث المفهوم هل هي في الواقع الخارجيّ متغايرة أم متحدة؟

 

يجب القول في معرض الإجابة على هذا السؤال: حيث إنّ تغايرَها في الوجود، والواقع الخارجي، يستلزم الكثرةَ والتركّب في الذات الإلهيّة المقدسة، لذلك يجب القولُ حتماً بأنّ هذه الصفات مع كونها مختلفةً ومتغايرةً من حيث المعنى والمفهوم إلاّ أنّها في مرحلة العينيّة الخارجيّة، والواقع الخارجِيّ متحدةٌ.

 

وبتعبير أخر: إنّ الذات الإلهيّة في عين بساطتها، واجدةٌ لجميع هذه الكمالات، لا أنّ بعض الذات الإلهيّة "عِلم" وبعضها الآخر "قُدرة" والقسم الثالث هو "الحياة" بل هو سبحانه، كما يقول المحقّقون: علمٌ كلُّه وقدرةٌ كلّهُ وحياةٌ كلهُ... وعلى هذا الأساس فإنّ الصفاتِ الذاتية للهِ تعالى، مع كونها قديمةً وأزليةً فهي في نفس الوقت عين ذاته سبحانه لا غيرها.

 

وأمّا ما يقولهُ فريقٌ من أنّ الصفات الإلهيّة قديمةٌ وأزليةٌ ولكنها زائدةٌ على الذات غير صحيح، لأنّ هذه النظرة تنبع في الحقيقة من تشبيه صفات الله بصفات الإنسان وحيث إنّ صفات الإنسان زائدةٌ على ذاته فقَد تصوَّروا أنّها بالنسبة إلى الله كذلك.

 

يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "لم يَزلِ اللهُ - جلّ وعزّ - ربُّنا والعلمُ ذاتُه ولا معلومَ، والسَمعُ ذاتُه ولا مسموعَ، والبَصَرُ ذاتُه ولا مُبْصَرَ، والقدرةُ ذاتُه ولا مقدورَ"[1].

 

ويقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "وكمالُ الإخلاصِ له نفي الصفاتِ عنه، لشهادة كلِّ صفَةٍ أنّها غيرُ الموصوف، وشهادةِ كلّ موصوفٍ أنّه غير الصفة"[2] [3] .




[1] الصدوق، التوحيد، ص 139 الباب 211، الحديث 1.

[2] نهج البلاغة، الخطبة: 1.

[3] سمّى بعض من لا إلمامَ له بالمسائل الكلاميّة هذه النظرية بالتعطيل والمعتقدينَ بها بالمعطلة، في حين أنّ المعطّلة إنما يُطلَقُ على من لا يُثبت الصفات الجمالية للذات الإلهيّة، ويستلزم موقفُهم هذا خلوَّ الذات الإلهيّة من الكمالات الوجودية، وهذه العقيدة الخاطئة لا علاقة لها مطلقاً بنظرية (عينيّة الصفات للذات الإلهيّة ووحدتهما خارجاً) بل نظريةُ العينيّة هذه في عين كونها تُثبت الصفاتِ الجماليّة والكماليّة لله، مُنزَّهَة من الاِشكالات والاِعتراضات الواردةِ على نظريّة زيادةِ الصفاتِ على الذات.

50


34

الدرس الرابع: مراتب التوحيد (1) التوحيد في الذات والتوحيد في الصفات

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ الاعتقاد بوُجود الله أصلٌ مشترك بين جميع الشرائع السماويّة.

 

- إنّ القرآنَ الكريمَ يعتبر وجودَ الله أمراً واضحاً وغنيّاً عن البرهنة، ويرى أنّ الشك والتردّد في هذه الحقيقة أمر غير مبرَّر.

 

- وضع القرآنُ الكريمُ أمام من يريدُ معرفة الله عن طريق التفكّر والبرهنة، طرقاً تؤدّي هذه المهمّة وأبرزها هو:

1- إحساس الإنسان بالحاجة إلى كائنٍ أعلى.

2- الدعوة إلى مطالَعة العالَم الطبيعيّ والتأمّل في عجائب المخلوقات.

 

- تقوم جميعُ الشرائع والمناهجِ السماوية على أساس التوحيد كما وأنّ الاعتقاد بالتوحيد هو أبرز أصلٍ مشتركٍ بين تلك الشرائع.

 

- إنّ أوّل مرتبة من مراتب التوحيد هو التوحيد الذاتيّ.

 

- نحن نعتقد أنّ الله تعالى موصوف بكلّ الصفات الكمالية، وأنّ العقلَ والوحيَ معاً يَدُلاّن على وجودِ هذه الكمالات في الذات الإلهيّة المقدسة،وعلى هذا الأساس فإنّ الله عالمٌ، قادرٌ، حيٌ، سميعٌ...

 

- إنّ الذات الإلهيّة في عين بساطتها، واجدةٌ لجميع هذه الكمالات.

 

أسئلة الدرس

1- ما هي الطرق التي وضعها القرآن الكريم لإثبات وجود الله؟

2- ما هو المقصود من التوحيد في الذات؟

3- ما هو المقصود من التوحيد في الصفات؟

51


35

الدرس الرابع: مراتب التوحيد (1) التوحيد في الذات والتوحيد في الصفات

 للمطالعة

 

أهل التوحيد

عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي بعثني بالحقّ بشيراً لا يعذّب الله بالنار موحّداً أبداً، وإنّ أهل التوحيد لَيشْفَعون فيشفَّعون، ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إنّه إذا كان يوم القيامة أمر الله تبارك وتعالى بقوم ساءت أعمالهم في دار الدنيا إلى النار، فيقولون يا ربّنا كيف تدخلنا النار وقد كنّا نوحّدك في دار الدنيا؟ وكيف تحرق بالنار ألسنتنا وقد نطقت بتوحيدك في دار الدنيا؟ وكيف تحرق قلوبنا وقد عقدت على أن لا إله إلّا أنت؟ أم كيف تحرق وجوهنا وقد عفّرناها لك في التراب؟ أم كيف تحرق أيدينا وقد رفعناها بالدعاء إليك, فيقول الله جلّ جلاله: عبادي ساءت أعمالكم في دار الدنيا فجزاؤكم نار جهنّم، فيقولون: يا ربّنا عفوك أعظم أم خطيئتنا؟ فيقول عزّ وجلّ: بل عفوي، فيقولون: رحمتك أوسع أم ذنوبنا؟ فيقول عزّ وجلّ: بل رحمتي، فيقولون: إقرارنا بتوحيدك أعظم أم ذنوبنا؟ فيقول عزّ وجلّ: بل إقراركم بتوحيدي أعظم، فيقولون: يا ربّنا فليسعنا عفوك ورحمتك التي وسعت كلّ شيء، فيقول الله جلّ جلاله: ملائكتي وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحبّ إليّ من المقرين لي بتوحيدي وأن لا إله غيري، وحقٌّ عليّ أن لا أُصلي بالنار أهل توحيدي، أدخلوا عبادي الجنّة"[1].




[1] الصدوق، التوحيد، ص31، ح31.

52


36

الدرس الخامس: مراتب التوحيد (2) التوحيد في الخالقية والتوحيد في العبادة

 الدرس الخامس: مراتب التوحيد (2)  التوحيد في الخالقية والتوحيد في العبادة

 

 

 

 

أهداف الدرس:

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن المقصود من التوحيد في الخالقيّة.

2- يبيّن المقصود من التوحيد في العبادة.

3- يوضح الفرق بين العبادة والتكريم.

53


37

الدرس الخامس: مراتب التوحيد (2) التوحيد في الخالقية والتوحيد في العبادة

 التوحيد في الخالقية

المرتبة الثالثة من مراتب التوحيد هي التوحيد في الخالقية، بمعنى انّه لا خالق إلاَّ الله، وأنّ الوجود برمته مخلوقُه، وقد أكّد القرآن الكريم على هذه الحقيقة إذ قال: ﴿قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ[1].﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾[2].

 

وليس الوحي وحده يثبت ذلك بل يقول به العقل ويؤكّده، لأنّ كلّ ما سوى الله ممكنٌ محتاجٌ، وترتفع حاجته ويتحقّق وجوده من جانب الله.

 

إنّ التوحيد في الخالقيّة لا يعني نفي أصل السببيّة والعليّة في عالم الوجود، لأنّ تأثيرَ كلِّ ظاهرة مادّيّة في مثلها منوطٌ بإذن الله، ووجودُ السبب وسَبَبيّتُه كلاهُما من مظاهر المشيئة الإلهيّة، فالله سبحانه هو الذي أعطى النور، والضوء للشمس والقمر، وإذا أراد سَلْبَه عنهما فعل ذلك دون مانع ومنازع، ولهذا كان الخالق الوحيد بلا ثان.

 

وقد أيّد القرآن الكريم - كما أسلفنا سابقًا - قانون العليّة ونظام السببيّة في الكون كما قال الله: ﴿يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء[3]. فقد صَرَّحَتِ الآيةُ المذكورة بتأثير الرّياح في تحريك السحابِ وسَوْقها.




[1] سورة الرعد، الآية 16.

[2] سورة غافر، الآية 62.

[3] سورة الروم، الآية 48.

55


38

الدرس الخامس: مراتب التوحيد (2) التوحيد في الخالقية والتوحيد في العبادة

 إنّ تعمِيم خالقيّة الله على جميع الظواهر الطبيعيّة لا يستلزم أبداً أن ننسب أفعال البشر القبيحة إلى الله تعالى، لأنّ كلّ ظاهرة من الظواهر الكونيّة لكونها كائناً إمكانيّاً وإن كان مستحيلاً أن ترتدي ثوب الوجود من دون الاستناد إلى القدرة، والإرادة الإلهيّة الكليّة.

 

ولكن في مجال الإنسان يجب أن نضيف إلى ذلك، أنّ الإنسان لكونهِ كائناً مختاراً، وموجوداً ذا إرادة، فهو يفعلُ أو يترك بإرادته واختيارِهِ بحكم التقدير الإلهيّ أي إنّ الله قدّر وشاء أن يفعلَ الإنسان ما يريد فعلهُ بإرادته، ويترك ما يريد تركه بإرادته، لهذا فإنّ اصطباغ الفعل البشري من حيث كونه طاعة أو معصية لله تعالى ناشئ مِن نوعيّة إرادته واختيار الإنسان نفسهِ.

 

وبعبارة أُخرى: إنّ الله واهبُ الوجود، والوجود مطلقاً مستند إليه، ولا قبح في الأمر من هذه الناحية كما قال: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾[1]. ولكنّ جَعْلَ وجود هذا الفعل مطابقاً أو غير مطابق لمعايير العقل والشرع، نابعٌ في الحقيقة من كيفيّة اختيار الإنسان وإرادته، وعزمه. ولإيضاح المقصود نأتي بمثال: إنّ الأكل والشرب من أفعال الإنسان بلا ريب فيقال أكل فلان وشرب، ولكنّ كلاً من الفعلين يشتملان على جهتين:

 

الأولى: الوجود، وهو الأصل المشترك بينه وبين سائر الموجودات.

 

الثانيّة: تحديد الوجود وصبّه في قالب خاص وانصباغه بعنواني الأكل والشرب، فالفعل من الجهة الأولى منسوب إلى الله سبحانه، فلا وجود في الكون إلاّ وهو مفاض منه تعالى، ولكنّه من الجهة الثانيّة منسوب إلى العبد إذ هو الذي باختياره وقدرته صَبَغ الوجود بصبغة خاصة وأضفى عليه عنواني الأكل والشرب، فهو بفمه يمضغ الغذاء ويبلع الماء.



[1] سورة السجدة، الآية 7.

 56


39

الدرس الخامس: مراتب التوحيد (2) التوحيد في الخالقية والتوحيد في العبادة

وبعبارة أُخرى: إنّ الله سبحانه هو الذي أقدر العبد على إيجاد الفعل، وفي الوقت نفسه أعطى له الحرّيّة لصرف القدرة في أيّ نحو شاء، وهو صرفها في مورد الأكل والشرب.

 

التوحيد في العبادة

إنّ التوحيدَ في العبادة هو الأصل المشترك والقاعدة المتّفق عليها بين جميع الشرائع السماويّة. وبكلمة واحدة: إنّ الهدف الأسمى من بَعث الأنبياء والرُسُل الإلَهيّين هو التذكير بهذا الأصل كما يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ[1]. إِنّ جميع المسلمين يعترفون في صلواتهم اليوميّة بهذا الأصل ويقولون: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾[2].

 

وعلى هذا الأساس فإنّ وجوبَ عبادة الله وحده، والاجتناب عن عبادة غيره أَمرٌ مسلَّمٌ لا كلامَ فيه، ولا يخالف أحد في هذه القاعدة الكلّيّة أبداً، وإنّما الكلام هو في أنّ بعض الأعمال والممارَسات هل هي مصداق لعبادة غير الله أم لا؟ وللوصُول إلى القولِ الفصلِ في هذا المجال يجب تحديد مفهوم العبادة تحديداً دقيقاً، وتعريفها تعريفاً منطقياً، بغية تمييز ما يدخل تحت هذا العنوان ويكون عبادة، ممّا لا يكون كذلك، بل يُؤتى به من باب التعظيم والتكريم.

 

لا شكّ ولا ريبَ في أنّ عِبادةَ الوالدين والأنبياء والأولياء حرامٌ وشركٌ، ولكن مع ذلك يكون احترامهم واجباً وعينَ التوحيد: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[3].




[1] سورة النحل، الآية 36. 

[2] سورة الفاتحة، الآية 5.

[3] سورة الإسراء، الآية 23.

57

 

40

الدرس الخامس: مراتب التوحيد (2) التوحيد في الخالقية والتوحيد في العبادة

والآن يجب أن نرى ما هو العنصر الذي يميّز "العبادةَ" عن "التكريم"؟ وكيف يكون العملُ الواحدُ في بعض الموارد (مثل سجود الملائكة لآدم، وَسُجود يعقوب وأولاده ليوسف) عينَ التوحيد، ولكن نفسَ العمل يكونُ في مواردَ أُخرى عينَ الشرك والوثنيّة.

 

إنّ العبادَة (التي نُفيت عَنْ غير الله ونُهي عنها) عبارة عن خضوع إنسانٍ أمام شيء أو شخصٍ باعتقاد أنّ بيده مصير العالم كلّهِ أو بعضه، أو بيده اختيار الإنسان ومصيره، وأنّه مالك أمره، وبتعبير آخر: ربّه.

 

أمّا إذا كان الخضوع أمام كائن مّا لا بهذا الاعتقاد، إنّما من جهة كونه عَبداً صالحاً لله، وصاحبَ فضيلةٍ وكرامة، أو لكونه منشأَ إحسان، وصاحب يدٍ على الإنسان، فإنّ مثل هذا العمل يكون مجردَ تكريم وتعظيم لا عبادةً له.

 

ولهذا السبب بالذات لا يوصف سجود الملائكة لآدم، أو سجود يعقوب وأَبنائه ليوسف بصفة الشرك والعبادة فهذا السجود كان ينبع من الاعتقاد بعبوديّة آدم ويوسف إلى جانب كرامتهما ومنزلتهما عند الله، وليس نابعاً من الاعتقاد بربوبيّتهما أو أُلوهيّتهما.

 

بالنظر إلى هذه الضابطة يمكن الحكم في ما يقوم به المسلمون في المشاهد المشرَّفة من احترام وتكريم لأولياء الله المقرَّبين، فإنَّ من الواضح أنّ تقبيل الضرائح المقدّسة، أو إظهار الفَرَح والسُرور يوم ميلادِ النبيّ وبعثته صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطوي إلاّ على تكريم النبي الكريم ولا يُقصَد منه إلاّ إِظهار مودّته ومحبته ولا تكون ناشئةً من أُمورٍ مثل الاعتقاد بربوبيته قط.

 

وهكذا الحال في الممارسات الأخرى مثل إنشاء القصائد والأشعار في مدح أولياء الله أو مراثيهم، وكذا حفظ آثار الرسالة، وإقامة البناء على قبور عظماء الدين، فإنّها ليست بشركٍ ولا بدعة. وأَمّا كونها ليست بشركٍ فلأنّها تنبع من مودَّة

58

 

41

الدرس الخامس: مراتب التوحيد (2) التوحيد في الخالقية والتوحيد في العبادة

أَولياء الله (لا الاعتقاد بربوبيّتهم). وأمّا كونها ليست ببدعَة أيضاً فلأنّ جميع هذه الأعمال تقومُ على أساسٍ قرآنيّ ورِوائيٍ، وينطلق من أصل وجوب محبّة النبيّ وآله.

 

فأَعمال التكريم هذه مَظْهَرٌ من مظاهِر إبراز هذه المودّة والمحبّة التي حثّ عليها الكتاب والسنّة (وسيأتي توضيح هذا الموضوع في الفصل المتعلّق بالبدعة لاحقاً).

 

وفي المقابل يكون سجودُ المشركين لأصنامهم مرفوضاً ومردوداً لكونه نابعاً من الاعتقاد بربوبيّتها ومدبريَّتها وأنّ بيدها قسماً من شؤون الناس... أو على الأقل لأنّ المشركين كانوا يعتقدون بأنّ العزّة والذِلّة، والمغفرة والشفاعة بأَيدي تلك الأصنام!!.

59


42

الدرس الخامس: مراتب التوحيد (2) التوحيد في الخالقية والتوحيد في العبادة

 المفاهيم الرئيسة

- المرتبة الثالثة من مراتب التوحيد هي التوحيد في الخالقية، بمعنى انّه لا خالق إلاَّ الله، وأنّ الوجود برمته مخلوقُه.

 

- إنّ التوحيد في الخالقيّة لا يعني نفي أصل السببيّة والعليّة في عالم الوجود، لأنّ تأثيرَ كلِّ ظاهرة مادّيّة في مثلها منوطٌ بإذن الله.

 

- إنّ تعمِيم خالقيّة الله على جميع الظواهر الطبيعيّة لا يستلزم أبداً أن ننسب أفعال البشر القبيحة إلى الله.

 

- المرتبة الرابعة: التوحيد في العبادة وهو الأصل المشترك والقاعدة المتّفق عليها بين جميع الشرائع السماويّة.

 

- إنّ وجوبَ عبادة الله وحده، والاجتناب عن عبادة غيره أَمرٌ مسلَّمٌ لا كلامَ فيه، ولا يخالف أحد في هذه القاعدة الكلّيّة أبداً.

 

- إنّ العبادَة (التي نُفيت عَنْ غير الله ونُهي عنها) عبارة عن خضوع إنسانٍ أمام شيء أو شخصٍ باعتقاد أنّ بيده مصير العالم كلّهِ أو بعضه.

 

- إنّ ما يقوم به المسلمون في المشاهد المشرَّفة من احترام وتكريم لأولياء الله المقرَّبين، لا ينطوي إلاّ على تكريم النبي وليس ناشئاً من أُمورٍ مثل الاعتقاد بربوبيته قَطْ.

 

 

أسئلة الدرس

1- هل يستلزم التوحيد في الخالقية نفي أصل السببيّة؟ ولماذا؟.

2- ما هو المقصود من التوحيد في العبادة؟

3- ما هو الفرق بين التكريم والعبادة؟

60


43

الدرس الخامس: مراتب التوحيد (2) التوحيد في الخالقية والتوحيد في العبادة

 للمطالعة

 

أوّل ما خلق الله

عن جابر الجُعْفي، قال: جاء رجل من علماء أهل الشام إلى الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام، فقال: جئت أسألك عن مسألة لم أجد أحداً يفسّرها لي، وقد سألت ثلاثة أصناف من الناس، فقال كلّ صنف غير ما قال الآخر، فقال أبو جعفر عليه السلام: "وما ذلك"؟ فقال: أسألك، ما أوّل ما خلق الله عز وجل من خلقه؟ فإنّ بعض من سألته قال: القدرة، وقال بعضهم: العلم، وقال بعضهم: الروح، فقال أبو جعفر عليه السلام: "ما قالوا شيئاً، أخبرك أنّ الله علا ذكره كان ولا شيء غيره، وكان عزيزاً ولا عزّ لأنّه كان قبل عزّه وذلك قوله: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾[1] وكان خالقاً ولا مخلوق فأوّل شيء خلقه من خلقه الشيء الذي جميع الأشياء منه وهو الماء"، فقال السائل: فالشيء خلقه من شيء أو من لا شيء؟ فقال: "خلق الشيء لا من شيء كان قبله، ولو خلق الشيء من شيء إذاً لم يكن له انقطاع أبداً، ولم يزل الله إذاً ومعه شيء ولكن كان الله ولا شيء معه، فخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه، وهو الماء"[2].




[1] سورة الصافات، الآية 180.

[2] الصدوق، التوحيد، ص65، ح20.     

61


44

الدرس السادس: مراتب التوحيد (3) التوحيد في الربوبية والتوحيد في الحاكمية

 الدرس السادس: مراتب التوحيد (3) التوحيد في الربوبية والتوحيد في الحاكمية

 

 

 

أهداف الدرس:

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن: 

1- يبيّن معنى التوحيد في الربوبيّة.

2- يبيّن معنى التوحيد في الحاكمية.

3- يشرح لماذا يجب التوحيد في الحاكميّة والتقنين.

62


45

الدرس السادس: مراتب التوحيد (3) التوحيد في الربوبية والتوحيد في الحاكمية

التوحيد في الربوبيّة

المرتبة الخامسة من مراتب التوحيد هو: التوحيد في الربوبيّة وتدبير الكون والإنسان.

 

والتوحيد الربوبيّ يكون في مجالين:

1- التَدبير التكوينيّ

2- التَدبير التشريعيّ.

 

إنّ تاريخ الأنبياء يشهد بأنّ مسألة التوحيد في الخالقية لم تكن قط موضع نقاش في أُممهم وأقوامهم، وانما كان الشرك - لو كان - في تدبير الكون وإدارة العالم الطبيعي الذي كان يتبعه  الشرك في العبادة.

 

فمشركو عصر النبيّ إبراهيم الخليل عليه السلام كانوا يعتقدون بوحدة خالق الكون، إلاّ أنّهم كانوا يعتقدون خطأً بأنّ النجوم والكواكب هي الأرباب والمدبّرات لهذا الكون، وقد تركّزت مناظرة إبراهيم لهم على هذه المسألة كما يتّضح ذلك من بيان القرآن الكريم[1].

 

وكذا في عهد النبيّ يوسف عليه السلام الذي كان يعيش بعد النبيّ إبراهيم الخليل عليه السلام فإنّ الشرك كان في مسألة الربوبيّة، وكأنَّ الله بعد أن خلقَ الكون، فوّض أمر تدبيره وإدارته إلى الآخرين.




[1] راجع سورة الأنعام، الآيات 76 - 87.

64


46

الدرس السادس: مراتب التوحيد (3) التوحيد في الربوبية والتوحيد في الحاكمية

 ويتّضح هذا جليّاً من الحوار الذي دار بين يوسف الصدِّيق عليه السلام وأصحابه في السجن إذ يقول: ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾[1].

 

كما ويُستفاد من آيات القرآن الكريم أن مشركي عصر الرسالة كانوا يعتقدون بأنّ بعض مصيرهم إنّما هو بإيدي معبوداتهم إذ يقول: ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا[2]. ويقول أيضاً: ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ﴾[3].

 

إنّ القرآنَ الكريم يحذّر المشركين في آياتٍ عديدة بأنّ ما يعبدونه من الأرباب المختلفَة غير قادرةٍ على جلب نفعٍ إلى عابِدِيها ولا دفعِ ضررٍ عنهم أبداً. إنّ هذه الآيات تكشف عن أنّ مشركي عصر الرسالة المحمّديّة كانوا يعتقدون بأنّ تلكَ المعبودات تضرُ أو تنفع عُبّادها[4]، وهذا الذي كان الدافع لهم إلى عِبادتها.

 

إنّ هذه الآيات ونظائرَها ممّا يعكس ويصوّر عقائد المشركين في عصر الرسالة، تحكي عن أنّه رغم أنّهم كانوا يعتقدون بالتوحيد في الخالقيّة، إلاّ أنّهم كانوا مشركين في بعض الأمور المتعلّقة بربوبيّة الحق تعالى، إذ كانوا يعتقدون بأنّ معبوداتهم مؤثرة - على نحو الاستقلال - في الأمور والأشياء، أي إنَّها فاعِلة في صفحة الكون من دون إذنِ الله ومشيئته بل بصورة مستقلّةٍ وحسب مشيئتها وإرادتها لا غير، وهي من صفات الربِّ الحقيقيّ.

 

ولقد عَمَدَ القرآنُ الكريمُ - بهدف منع أُولئك المشركين عن عبادة الأصنام بصورة جذرية - إلى إبطال هذا الاعتقاد الفاسد وهذا التصوّر الخاطئ، وقال بأنّ هذه الأصنام لا تضرّ ولا تنفع ولا مثقال ذرّة، فليس لهم أيّ تدبير وربوبيّة.




[1] سورة يوسف، الآية 39.

[2] سورة مريم، الآية 81.

[3] سورة يس، الآيتان 74 و 75.

[4] راجع: سورة يونس، الآية 18، وسورة الفرقان، الآية 55.

 

65


47

الدرس السادس: مراتب التوحيد (3) التوحيد في الربوبية والتوحيد في الحاكمية

 ففي بعض الآيات يندّد القرآنُ بالمشركين لكونهم يتّخذون لله تعالى نظيراً وندّاً، وشبيهاً ومثيلاً، إذ يقول: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ﴾[1].

 

وقد ورد تقبيح اتّخاذ الندّ للهِ في آيات قرآنيّة أُخرى أيضًا[2]، ويتّضح من الآيات المذكورة أنّ المشركين كانوا يعتقدون بأنّ لتلك الأصنام شؤوناً مثل شؤون اللهِ سبحانه، ثم انطلاقاً من هذا التصوّر كانوا يحبّون تلك الأصنام ويودّونها بل ويعبدونها!!.

 

وبعبارة أُخرى: لقد كان المشركون يعبدون تلك الأوثان والأصنام لكونها - حسب تصوّرهم وزعمهم - "أنداداً" و "نظراء" لله سبحانَه في التدبير. إنّ القرآن الكريم ينقل عن المشركين يومَ القيامة بأنّهم يقولون تنديداً بأَنفسهم وبأَصنامهم:

 

﴿تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِين ٍ* إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ[3]، أجل إنّ دائرةَ ربوبيّة الله واسعة، ومن أجل هذا كان مشركو عصر الرسالة موحّدين في أُمور هامّة، كالرزق والإحياء والإماتة والتدبير الكلي للكون كما يقول القرآن الكريم: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ[4].

 

﴿قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ[5].




[1] سورة البقرة، الآية 165.

[2] راجع سور: البقرة، الآية21، إبراهيم،الآية30، سبأ، الآية33، الزمر، الآية 8، فصّلت، الآية9.

[3] سورة الشعراء، الآيتان 97 و 98.

[4] سورة يونس، الآية 31.

[5] سورة المؤمنون، الآيات 84 -87.

66


48

الدرس السادس: مراتب التوحيد (3) التوحيد في الربوبية والتوحيد في الحاكمية

 وَلكنَّ هؤلاء الأفراد أنفسَهم - كما مرّ في آيات سورة مريم - ينسبون بعض الأمور والشؤون مثل النَصر في القتال والحفْظ في السَفَر، وَما شابهَ ذلك، إلى مَعْبُوداتهم وأصنامِهمْ ويَعْتَقدون بتأثيرها الذاتيّ والمُستقلِّ في مصائرهم.

 

وأبْرزُ من كل ذلك, الشفاعةُ التي كانوا يرون أنّها حقٌّ طلْقٌ لتلك الأصنام وكانوا يَعتقدون بأنّها تشفع من غير إذن الله، وأنّ شفاعَتها مفيدةٌ لا مَحالة ومؤثّرة قطعاً وجزماً.

 

وعلى هذا فلا منافاة بين أن يكون بعض الأفراد يعتقدون بتدبير اللهِ لبعض الأمور دون سواه فيكونون موحّدين في هذا المجال، بينما يعتقدون بتدبير الأصنام والأوثان لأمور وجوانب أُخرى من مصائرهم وشؤونهم كالشفاعة والإضرار والإنفاع والإعزاز والمغفرة، فيكونون مشركين في هذه المجالات وَلكنّ "التوحيد في الربوبيّة" يفنّد كلَّ لونٍ من ألوان تصوّر الاستقلال، والتأثير المستقلّ عن الإذن الإلَهيّ كليّاً كان، أو جزئياً.

 

فهو يُبطل أيّ إسنادٍ، لتأثير غير الله في مصير الإنسان والكون، وتدبير شؤونها بمعزلٍ عن الإذن الإلَهيّ وبهذا يُبطل ويرفُضُ عبادةَ غير اللهِ تعالى.

 

إنَّ الدّليل على التوحيد الربوبيّ واضحٌ تمامَ الوضوح، لأنّ تدبيرَ عالمِ الخلق، في مجال الإنسان والكون، لا ينفصل عن مسألة الخَلْقِ، وليس شيئاً غير عمليّة الخَلق. فإذا كانَ خالقُ الكونِ والإنسان واحداً، كان مدبّرهما بالطبع والبداهة واحداً كذلك، لوضوح العلاقة الكاملة بين عمليّة التدبير وعملية الخَلْق للعالم.

 

ولهذا فإنّ الله تعالى عندما يصف نفسَه بكونه خالِقَ الأشياء يصف نفسَه في ذاتِ الوَقتِ بأنّه مدبّرُها ﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ[1].



[1] سورة الرعد، الآية 2.

67


49

الدرس السادس: مراتب التوحيد (3) التوحيد في الربوبية والتوحيد في الحاكمية

 وفي آية أُخرى يعتبر التناسقَ والانسجام السائد والحاكم على الكون دليلاً على وحدة مدبر العالم إذ يقول: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا[1].

 

إنَّ التوحيد في التدبير لا ينافي وجودَ مدبّراتٍ أُخرى تقومُ بوظائفها بإذن الله في صفحة الكون، فهي بالحقيقةِ مظاهِر لِربوبيّة الحقّ تعالى. ولهذا فإنَّ القرآن الكريم مع تأكيده الشديد على التوحيد في الربوبيّة والتدبير يصرّح بوجود مدبّراتٍ أُخرى في صفحة الكون إذ يقول: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا[2].

 

التوحيد في الحاكميّة والتقنين

بعد أن ثبت سابقًا أنّ للكون مدبّراً حقيقيّاً واحداً هو الله تعالى وأنّ تدبير العالم وحياة الإنسان بيده دون سواه، كان تدبير أمر الإنسان في صعيد الشريعة - سواء في مجال الحكومة أو التقنين أو الطاعة أو الشفاعة أو المغفرة - برمّته بيده تعالى، ومن شؤونه الخاصّة به، فلا يحقّ لأحد أن يتصرّف في هذه المجالات والأصعدة من دون إذن الله تعالى، ولهذا يُعتبر التوحيدُ في الحاكميّة، والتوحيد في التشريع، والتوحيد في الطاعة، والتوحيد في الشفاعة والمغفرة.. من فروع التوحيد في التدبير وشقوقه ولوازمه. فإذا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حاكماً على المسلمين فإنّ هذا نابعٌ من اختيار الله تعالى إيّاه لهذا المنصب. وانطلاقاً من هذه العلّة ذاتها تجب إطاعتهُ صلى الله عليه وآله وسلم بل إنّ إطاعته نفس إطاعة الله، قال تعالى: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ[3]. وقال أيضاً: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ[4].




[1] سورة الأنبياء، الآية 22.

[2] سورة النازعات، الآية 5.

[3] سورة النساء، الآية 80.

[4] سورة النساء، الآية 64.

68


50

الدرس السادس: مراتب التوحيد (3) التوحيد في الربوبية والتوحيد في الحاكمية

 فلو لم يكن الإذنُ الإلهيّ ما كانَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حاكماً ولا مُطاعاً، فحكومتهُ وطاعتهُ مظهرٌ لحاكميّة الله وطاعته. كما أنّ تحديدَ الوظيفَة وتشخيص التكليف بما أنّه من شُؤون الربوبيّة، لم يَحِقّ ولا يحقّ لأحدٍ أن يحكم بغير ما أمر اللهُ به، وأن يقضيَ بغير ما أنزل: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[1].

 

وهكذا تكون الشفاعة ومغفرة الذنوب من حقوق الله الخاصة به فلا يقدر أَحَدٌ أنْ يَشْفَعَ لأحدٍ من دُون إذنهِ تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ[2].

 

وَعَلى هذا الأساس يكونُ شراء صُكوك الغفران وبَيعُها، تصوّراً بأنّ لأحدٍ غير المقام الربوبيّ أن يَهبَ الجنّة لأحَدٍ، أو يخلّصَ أحداً من العذاب الأخروي كما هو رائجٌ في المسيحيّة، أمراً باطلاً لا أساس له من الصحَّة في نظر الإسلام كما جاء في القرآن الكريم: ﴿فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ[3].

 

فالموَحِّدُ - في ضوء ما قلناه - يجب أن يعتقِدَ في مجال الشريعة بأنّ الله وحده لا سواه هو الحاكم والمرجَع، إلاّ أنْ يعيّن الله شخصاً للقيادة، وبيانِ الوظائف الدينيّة.




[1] سورة المائدة، الآية 44.

[2] سورة البقرة، الآية 255.

[3] سورة آل عمران، الآية 135.

69


51

الدرس السادس: مراتب التوحيد (3) التوحيد في الربوبية والتوحيد في الحاكمية

 المفاهيم الرئيسة

- المرتبة الخامسة من مراتب التوحيد هو: التوحيد في الربوبيّة وتدبير الكون والإنسان.

 

- التوحيد الربوبي يكون في مجالين:

1- التَدبير التكوينيّ.

2- التَدبير التشريعيّ.

 

-  إنّ التوحيدَ في العبادة هو الأصل المشترك والقاعدة المتفق عليها بين جميع الشرائع السماوية.

 

- وجوب عبادة الله وحده، والاجتناب عن عبادة غيره أَمرٌ مسلَّمٌ لا كلامَ فيه، وإنّما الكلام هو في أنّ بعض الأعمال والممارَسات هل هي مصداق لعبادة غير الله أم لا.

 

- المرتبة السادسة من مراتب التوحيد هي التوحيد في الحاكميّة والتقنين.

 

- يُعتبر التوحيدُ في الحاكمية، والتوحيد في التشريع، والتوحيد في الطاعة، والتوحيد في الشفاعة والمغفرة.. من فروع التوحيد في التدبير وشقوقه ولوازمه.

 

- فالموَحِّدُ يجب أن يعتقِدَ - في مجال الشريعة - بأنّ الله وحده لا سواه هو الحاكم والمرجَع، إلاّ أنْ يعيّن الله شخصاً للقيادة، وبيانِ الوظائف الدينيّة.

 

 

أسئلة الدرس

1- ما هو المقصود من التوحيد في الربوبيّة؟

2- ما هو الربط بين التوحيد في الربوبيّة والتوحيد في الخالقيّة؟

3- عرّف التوحيد في الحاكميّة والتقنين.

70


52

الدرس السادس: مراتب التوحيد (3) التوحيد في الربوبية والتوحيد في الحاكمية

 للمطالعة

 

التوحيد

عن محمّد بن أبي عمير، قال: دخلت على سيّدي موسى بن جعفر عليهما السلام فقلت له: يا ابن رسول الله علّمني التوحيد فقال: "يا أبا أحمد لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره الله تعالى ذكره في كتابه فتهلك واعلم أنّ الله تعالى واحد، أحد، صمد، لم يلد فيورث، ولم يولد فيشارك، ولم يتّخذ صاحبة ولا ولداً ولا شريكاً، وإنّه الحيّ الذي لا يموت، والقادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا يغلب، والحليم الذي لا يعجل، والدائم الذي لا يبيد، والباقي الذي لا يفنى، والثابت الذي لا يزول، والغنيّ الذي لا يفتقر، والعزيز الذي لا يذلّ، والعالم الذي لا يجهل، والعدل الذي لا يجور، والجواد الذي لا يبخل، وإنّه لا تقدّره العقول، ولا تقع عليه الأوهام، ولا تحيط به الأقطار، ولا يحويه مكان، ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا[1] هو الأوّل الذي لا شيء قبله، والآخر الذي لا شيء بعده، وهو القديم وما سواه مخلوق محدث، تعالى عن صفات المخلوقين علوّاً كبيراً"[2].




[1] سورة المجادلة، الآية 7.

[2] الصدوق، التوحيد، ص74، ح32.

71


53

الدرس السابع: الصفات الإلهية (1) صفات الذات

الدرس السابع: الصفات الإلهية (1) صفات الذات

 

 

 

أهداف الدرس:

على الطالب مع نهية هذا الدرس أن:

1- يفهم الطرق التي يستفاد منها في معرفة صفات الله الجماليّة والجلاليّة.

2- يفرِّق بين الصفات الذاتيّة والصفات الفعليّة.

3- يبيّن الصفات الثبوتيّة مع أمثلة لها.

73


54

الدرس السابع: الصفات الإلهية (1) صفات الذات

 طرق معرفة الصفات الإلهيّة

لقد أسلفنا في بحث المعرفة أنّ أبرز طرق المعرفة بالحقائق تتمثّل في: الحسّ، والعقل، والوحي.

 

ويمكن لمعرفة الصفات الإلهيّة الجماليّة والجلاليّة الاستفادة من الطريقين التاليين:

 

1- طريق العقل:

إنّ التأمّل في عالم الخَلق، ودراسة الأسرار الكامنة فيه والتي تدل برمّتها على أنّها مخلوقة لله، تقودنا إلى كمالات الله الوجودية، فهل يمكن أن يتصوّر أحدٌ أنّ بناء الكَون الشاهق قد تمّ من دون عِلمٍ وقدرةٍ واختيارٍ.

 

إنّ القرآن الكريم يدعو - تأْييداً لحكم العقل في هذا المجال - بالتدبّر في الآيات التكوينيّة في صعيد الآفاق والأنفس إذ يقول: ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ[1]. أي أُنظُروا نظرة تدبّر وتأمل لتكتشفوا الحقائق العظيمة.

 

على أَنّ من البديهيّ أنّ العقلَ يسلك هذا الطريق بمعونة الحسّ، أي أنّ الحس يبدأ أوّلاً باكتشاف وإدراك الموضوع بصورةٍ عجيبةٍ، ثم يعتبر العقل عظمة الموضوع، وتكوينه العجيب، دليلاً على عظمة الخالق وجماله.




[1] سورة يونس، الآية 101.

75


55

الدرس السابع: الصفات الإلهية (1) صفات الذات

 2ـ طريق الوحي:

 

فبعد أن أثبتت الأدلّة القاطعةُ النبوّةَ والوحيَ، واتّضح أنّ الكتاب الذي أتى به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكذا قوله كان برمّته من جانب الله، كان من الطبيعيّ أن يكون في مقدور الكتاب والسُّنّة أن يساعدا البشريةَ في معرفة صفات الله، فقد ذُكِرت صفات الله الجماليّة والجلاليّة في هذين المصدرين بأفضل نحو.

 

ويكفي أن نعرف أنّه جاء بيان قرابة 140 صفة لله تعالى في القرآن الكريم، ونكتفي هنا بذكر آية واحدة تذكر بعض تلك الصفات: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[1].

 

هذا والجدير بالذكر أنّ هناك من احتج بعجز البشر عن معرفة الموجودِ الأعلى فترك البحثَ عن صفات الله، ونهى عن ذلك، وهؤلاء في الحقيقة هم "المعطِّلة" لأنَّهم حَرَموا الإنسان من المعارف السامية التي أرشد إليها العقلُ والوحيُ معاً.

 

ولو كانَ البحثُ والنّقاش حولَ هذه المعارف مَمنُوعاً حقاً لكان ذِكرُ كّلِ هذه الصفات في القرآن الكريم، والأمرُ بالتدَبر فيها غيرَ ضروريّ بل لغواً.

 

ويجب أن نقول مع بالغ الأسف إنّ هذا الفريق حيث إنّه أوصد على نفسه بابَ المعرفة، وقع نتيجةً لتعطيل البحث العلميّ في ورطة "تجسيم الله وتشبيهه وإثبات الجهة له سبحانه".




[1] سورة الحشر، الآيتان 23 و 24.

76


56

الدرس السابع: الصفات الإلهية (1) صفات الذات

أقسام الصفات الإلهيّة

تنقسم الصفات الإلهيّة إلى ثلاثة أقسام وهي:

1- الصفات الثبوتيّة: ومنها الصفات الذاتيّة والصفات الفعليّة.

2- الصفات السلبيّة.

3- الصفات الخبريّة.

 

الصفات الثبوتيّة

حيث إنّ الذاتَ الإلهيّة لا مثيلَ لها ولا نظير، ولا يُتصوّر لله عديل ولا شبيه، فهو سبحانه أعلى من أن يعرفه الإنسان بالكُنْه، أي ليس للإنسان سبيلٌ إلى معرفةِ حقيقة الذات الإلهيّة، على حين يمكن معرفته تعالى عن طريق صفاته الجماليّة والجلاليّة.

 

والمقصود من الصفات الجماليّة هي الصفات التي تدلّ على كمالِ الله في وجوده وذلك كالعلم والقدرة، والحياة، والإرادة والاختيار وما شابه ذلك. وتُسمّى بالصفات الثبوتية أيضاً.

 

والمقصود من الصفات الجلاليّة هي الصفات التي يجلّ الله تعالى عن وصفه بها، لأنّ هذه الصفات تدلّ على نقص الموصوف بها وعجزه، والله تعالى غنيٌّ غِنىً مطلقاً، ومنزّه عن كلِّ نقص وعيب.

 

والجسمانيّة، والاحتياج إلى المكان والزمان، والتركيب وأمثاله من جملة هذه الصفات، وتسمّى هذه الصفات أيضاً بالصفات السلبية في مقابل الصفات الثبوتية (التي مرَّ ذكرها أوّلاً) والمقصود في كلتا التسميتين واحد. والصفات الثبوتيّة بدورها تنقسم الي قسمين:

الأول: صِفات الذات.

الثاني: صِفات الفِعل.

77

 

57

الدرس السابع: الصفات الإلهية (1) صفات الذات

 والمقصودُ من (صفات الذات) هي الصفات الّتي تنتزع من مقام الذات الإلهية مباشرة، كالعلم والقدرة والحياة، وإن لم يصدر منه سبحانه فعلٌ من الأفعال.

 

والمقصود من (صفات الفِعل) هي الصفات التي تُوصف الذات الإلهيّة بها بملاحظة صدور فعل مّا منه تعالى، كالخالقية، والرازقية وما شابَهَ ذلك من الصفات التي تنتزَعُ من مقام الفعل، ويوصَف بها اللهُ تعالى بعد ملاحظة ما صدر منه من الأفعال.

 

وبعبارةٍ أُخرى ما لم يصدر من الله فعل كالخالقيّة والرازقيّة والغفاريّة والراحميّة لا يمكن وصفه فعلاً بالخالق والرازق وبالغفّار والرحيم، وإن كان قادراً ذاتاً على الخلق والإرزاق والمغفرة والرحمة.

 

ونذكّر بأنّ كلَّ صفات الفعل التي يوصف بها اللهُ تعالى نابعةٌ من كماله الذاتي، وأن الكمال الذاتي المطلق له تعالى هو مبدأ جميع هذه الكمالات الفعلية ومنشؤها. وفيما يلي سوف نتحدّث عن الصفات الذاتيّة، وأما الصفات الفعليّة فسوف تكون في الدرس اللاحق.

 

الصفات الذاتية

1- العلمُ الأزَليّ:

عِلمُ الله - لكونه عينَ ذاته - أزليٌّ، كما أنّه مثل ذاته مطلقٌ، ولا نهاية له. إنّ الله تعالى - مضافًا إلى علمه بذاته - يعلم بكل شيء ممّا سوى ذاته، كليّاً كان أم جزئياً، قبل وقوعه وتحقّقه، وبَعد وقوعه وتحقّقه. ولقد أكّد القرآنُ الكريمُ على ذلك تأكيداً كبيراً إذ قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[1]. وقال أيضاً: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾[2].




[1] سورة العنكبوت، الآية 62. 

[2] سورة الملك، الآية 14.

78


58

الدرس السابع: الصفات الإلهية (1) صفات الذات

 ولقد وَرَدَ مثل هذا التأكيد المكرّر والقويِّ على أزليّة العلمِ الإلَهيّ، وسعته وإطلاقه في الأحاديث المرويّةَ عن أئمة أهل البيت عليهم السلام: مثل قول الإمام جَعْفَرِالصادق عليه السلام: "لَمَ يَزَل عالِماً بالمَكانِ قَبْلَ تَكوينه كَعِلْمِهِ به بَعْدَ ما كوَّنَهُ وَكَذلِكَ عِلمُهُ بِجَمِيِعِ الأشياءِ"[1].

 

2- القُدرةُ الواسِعَةُ:

إنّ قدرةَ الله مثلُ عِلمه أَزَليّةٌ، وَلكونها عينَ ذاته فهي مثلُ عِلمِهِ تعالى، مطلقةٌ وغير محدودة. إنّ القرآن الكريم يؤكّد على سِعةِ قدرة الله ويقول: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا[2]. ويقول: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا[3]. وقالَ الإمام جعفرُ الصّادق عليه السلام: "الأشياءُ لَهُ سَواءٌ عِلماً وقُدْرةً وَسُلْطاناً، ومُلْكاً وإحاطةً"[4].

 

وأمّا إذا كان إيجاد الأشياء المستحيلة والممتنِعة ذاتاً خارجة عن إطار القُدرة الإلهيّة، فليس ذلك لأجْل نقصٍ في القدرة الإلهيّة، بَلْ لاجل عدم قابليّة الشيء الممتنع، للتحقّق والوجُود (فهو نَقْصٌ في جانب القابل لا في جانب الفاعل).

 

يقول الإمام عليٌّ عليه السلام في الردّ على من سَألَ حول إيجاد الممتنعات: "إنّ الله تباركَ وتعالى لا يُنسَبُ إلى العَجز، والّذي سَألْتنِي لا يَكُونُ"[5].

 

3- الحياة:

إنّ اللهَ العالِمَ القادرَ حيٌّ كذلك قطعاً، لأنّ الصفتين السابقتين من خصوصيات الموجود الحي وتوابعه، ومن هذا تتضح دلائل الحياة الإلهيّة أَيضاً.




[1] الصدوق، التوحيد، ص 137، الباب 10، الحديث 9.

[2] سورة الأحزاب، الآية27.

[3] سورة الكهف، الآية 45.

[4] الصدوق، التوحيد، ص128، الباب 9، الحديث 15.

[5] م.ن، ص 125، باب القُدرة، ح9.

79


59

الدرس السابع: الصفات الإلهية (1) صفات الذات

 على أنّ صِفة الحياة التي يُوصف بها الحقُّ تعالى هي مثل سائر الصفات الإلهيّة منزَّهةٌ عن كلّ نقص، ومن كل خصوصيّات هذه الصّفة في الإنسان وما شابهه (كعروض الموت)، وحيث إنّ اللهَ حيّ بالذات لهذا لا سبيلَ للموت إلى ذاته المقدّسة كما يقول: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ[1].

 

4- الإرادةُ والاختيار:

إنَّ الفاعلَ الواعي لفعله أكملُ من الفاعِلِ غير الواعي لفعله، كما أنّ الفاعلَ المريدَ لفعلِهِ المختار فيه (وهو الّذي إذا أراد أن يفعلَ فَعَل، وإذا لم يُردْ أن يفعَلَ لم يفعل) أكمل من الفاعل المضطرّ المجبور، أي الذي ليس أمامَه إلاّ أحد أمرين: إمّا الفعل وإمّا الترك.

 

وبالنظر إلى ما قلناه، وكذلك نظراً إلى أنّ الله أكملُ الفاعلين في صفحة الوُجود، فإنَّ من البديهي أن نقول إنَّ اللهَ فاعلٌ مختارٌ، وليس تعالى بمجبورٍ من جانب غيرهِ، ولا بمضطرٍ من ناحية ذاته. والمقصود من قولنا: إن اللهَ مريدٌ، هو أنّه تعالى مختارٌ وليس بمجبورٍ ولا مضطَرّ.

 

إنّ الإرادة - بمعناها المعروف في الإنسان والذي هو أمر تدريجي وحادث - لا مكان لها في الذات الإلهيّة المقدسة.

 

من أجل هذا وُصِفت الإرادة الإلهيّة في أحاديث أهل البيت: بأنّها نفسُ إيجاد الفعل وعينُ تحقّقه، مَنعاً من وقوع الأشخاص في الانحراف والخطأ في تفسير هذه الصفة الإلهيّة وتوضيحها.




[1] سورة الفرقان، الآية 58.

80


60

الدرس السابع: الصفات الإلهية (1) صفات الذات

 على أنّ صِفة الحياة التي يُوصف بها الحقُّ تعالى هي مثل سائر الصفات الإلهيّة منزَّهةٌ عن كلّ نقص، ومن كل خصوصيّات هذه الصّفة في الإنسان وما شابهه (كعروض الموت)، وحيث إنّ اللهَ حيّ بالذات لهذا لا سبيلَ للموت إلى ذاته المقدّسة كما يقول: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ[1].

 

4- الإرادةُ والاختيار:

إنَّ الفاعلَ الواعي لفعله أكملُ من الفاعِلِ غير الواعي لفعله، كما أنّ الفاعلَ المريدَ لفعلِهِ المختار فيه (وهو الّذي إذا أراد أن يفعلَ فَعَل، وإذا لم يُردْ أن يفعَلَ لم يفعل) أكمل من الفاعل المضطرّ المجبور، أي الذي ليس أمامَه إلاّ أحد أمرين: إمّا الفعل وإمّا الترك.

 

وبالنظر إلى ما قلناه، وكذلك نظراً إلى أنّ الله أكملُ الفاعلين في صفحة الوُجود، فإنَّ من البديهي أن نقول إنَّ اللهَ فاعلٌ مختارٌ، وليس تعالى بمجبورٍ من جانب غيرهِ، ولا بمضطرٍ من ناحية ذاته. والمقصود من قولنا: إن اللهَ مريدٌ، هو أنّه تعالى مختارٌ وليس بمجبورٍ ولا مضطَرّ.

 

إنّ الإرادة - بمعناها المعروف في الإنسان والذي هو أمر تدريجي وحادث - لا مكان لها في الذات الإلهيّة المقدسة.

 

من أجل هذا وُصِفت الإرادة الإلهيّة في أحاديث أهل البيت: بأنّها نفسُ إيجاد الفعل وعينُ تحقّقه، مَنعاً من وقوع الأشخاص في الانحراف والخطأ في تفسير هذه الصفة الإلهيّة وتوضيحها.




[1] سورة الفرقان، الآية 58.

81


61

الدرس السابع: الصفات الإلهية (1) صفات الذات

 المفاهيم الرئيسة

- حيث إنّ الذاتَ الإلهيّة لا مثيلَ لها ولا نظير، ولا يُتصوّر لله عديل ولا شبيه، فهو سبحانه أعلى من أن يعرفه الإنسان بالكُنْه، أي ليس للإنسان سبيلٌ إلى معرفةِ حقيقة الذات الإلهيّة.

 

- المقصود من الصفات الجمالية هي الصفات التي تدلّ على كمالِ الله في وجوده وذلك كالعلم والقدرة، والحياة، والإرادة والاختيار وما شابه ذلك.

 

- المقصود من الصفات الجلالية هي الصفات التي يجلّ الله تعالى عن وصفه بها.

 

- يمكن لمعرفة الصفات الإلهيّة الجمالية والجلاليّة الاستفادة من الطريقين التاليين: طريق العقل وطريق الوحي.

 

- تنقسمُ الصِفات الإلهيّة إلى قسمين:

1- صِفات الذات: وهي الصفات الّتي يلازم تصوُّرها تصوّرَ الذات الإلهيّة، كالعلم والقدرة.

 

2- صِفات الفِعل: وهي الصفات التي تُوصف الذات الإلهيّة بها بملاحظة صدور فعل مّا منه تعالى، كالخالقية، والرازقية...

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- ما هي الطرق التي يستفاد منها في معرفة الصفات الإلهية؟ وتكلم عنها.

2- ما هي الصفات الثبوتية؟ وإلى ماذا تنقسم؟

3- ما هو المقصود من الصفات الفعليّة؟

82


62

الدرس السابع: الصفات الإلهية (1) صفات الذات

 للمطالعة

 

علم الله بالأشياء

حدّثنا عبد الله بن محمّد بن عبد الوهاب، قال: حدّثنا أحمد بن الفضل بن المغيرة، قال: حدّثنا أبو نصر منصور بن عبد الله بن إبراهيم الإصفهاني، قال: حدّثنا عليّ بن عبد الله، قال: حدّثنا الحسين بن بشّار، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام قال: سألته أيعلم الله الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون أو لا يعلم إلّا ما يكون؟ فقال: إنّ الله تعالى هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ[1] وقال لأهل النار: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ[2] فقد علم الله عز وجل أنّه لو ردّهم لعادوا لما نهو عنه، وقال للملائكة لمّا قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[3] فلم يزل الله عز وجل علمه سابقاً للأشياء قديماً قبل أن يخلقها، فتبارك ربّنا تعالى علوّاً كبيراً خلق الأشياء وعلمه بها سابق لها كما شاء، كذلك لم يزل ربّنا عليماً سميعاً بصيراً[4].



[1] سورة الجاثية، الآية 29.

[2] سورة الأنعام، الآية 28.

[3] سورة البقرة، الآية 30.

[4] الصدوق، التوحيد، ص132، باب العلم، ح8.

83


63

الدرس الثامن: الصفات الإلهية (2) الصفات الفعلية

 الدرس الثامن: الصفات الإلهية (2) الصفات الفعلية

 

 

 

أهداف الدرس:

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يشرح صفة التكلّم.

2- يبيّن مسألة خلق القرآن وقدمه وربطها بصفة التكلّم.

3- يشرح صفات الفعل التالية: الصدق والحكمة.

85


64

الدرس الثامن: الصفات الإلهية (2) الصفات الفعلية

 بعد أن اطَّلعنا على أُمّهات المطالب المتعلّقة بصفات الذات ينبغي التعرّف على بعض صفات الفعل. وندرس هنا ثلاث صفات فقط من صفات الفِعل:

1- التكلّم.

2- الصِدق.

3- الحِكمة.

 

كون الله متكلّماً

إنّ القرآن الكريم يصفُ الله تعالى بصفة التكلّم إذ يقول: ﴿وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا[1]. وقال أيضاً: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا[2]. وعَلى هذا الأساس لا شكّ في كون التكلّم إحدى الصّفات الإلهيّة.

 

إنّما الكلام هو في حقيقة التكلّم وأنّ هذه الصِفة هل هي من صِفات الذات أم من صفات الفعل؟ إذْ مِنَ الواضح أنّ التكلّم بالشَكل الموجود عند الإنسان لا يجوزُ تصوّرُهُ في الحقّ تعالى.

 

وحيث إنّ صفَةَ التَكلّم ممّا نطق بها القرآن الكريم، وَوَصَف بها الله، لذلك يجب الرّجوع إلى القرآنِ نفسه لِفَهم حقيقته كذلك. إنّ القرآن يقسّم تكلّم اللهِ مع عباده -




[1] سورة النساء، الآية 164.

[2] سورة الشورى، الآية 51.

87


65

الدرس الثامن: الصفات الإلهية (2) الصفات الفعلية

 كما عرفنا - إلى ثلاثةِ أنواع، إذ يقول: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾[1]. إذَن فلا يمكن للبشر أن يكلّمهُ الله إلاّ من ثلاث طرق:

1- "وَحْياً" وهو الإلهام القلبيّ.

2- "أو مِنْ وَراءِ حِجابٍ" كأن يكلّم اللهُ البشرَ من دون أن يراه كتكلّم اللهِ مع موسى عليه السلام.

3- "أو يُرسِلَ رسولاً" أي مَلَكاً يوحي إلى النبيّ بِإذنِ الله تعالى.

 

ففي هذه الآية بَيَّنَ القرآنُ تكلُّمَ اللهِ بأنّه تعالى يوجدُ الكَلامَ تارةً من دون واسطةٍ، وَأحْياناً مع الواسطةِ، عَبر مَلك من الملائكة.

 

كما أنّ القِسمَ الأوّل تارةً يكون عن طريقِ الإلقاء والإلهام إلى قلب النبي مباشرةً، وتارةً بالإلقاء إلى سَمْعِهِ ومنه يصلُ الكَلامُ إلى قلبه. وعلى كلّ حال يكونُ التكلّم بِصُوره الثلاث بمعنى إيجاد الكلام وَهَو من صِفات الفعل. إنّ هذا التَفْسير والتحليل لصفة التكلّم الإلَهيّ هو أحدُ التفاسير التي يمكن استفادتها بمعونةِ القرآنِ وإرشاده وهدايته.

 

وهناكَ تفسيرٌ آخرٌ لهذه الصفة وهو: أنَّ اللهَ اعتبر مخلوقاتهِ من كلماتِه فقال: ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾[2].

 

فالمقصودُ من "الكلمات" في هذه الآية هو مخلوقات الله الّتي لا يقدرُ شيءٌ غيرُ ذاته سبحانه على إحصائها وعدّها، ويدعم هذا التفسيرَ للكلمة وصفُ القرآن الكريم المسيحَ ابنَ مريم عليه السلام بأنّه "كلمة الله" إذ قال: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ[3].




[1] سورة الشورى، الآية 51.

[2] سورة الكهف، الآية 109.

[3] سورة النساء، الآية 171.

88


66

الدرس الثامن: الصفات الإلهية (2) الصفات الفعلية

 إنّ الإمام أميرَ المُؤْمنين عليه السلام فسّر تَكَلّم الله تعالى في إحدى خُطَبِه وأحاديثه بأنّه إيجادٌ وفِعلٌ، فقال: "يَقُولُ لِمَنْ أرادَ كَوْنَهُ, كُنْ، لا بصَوتٍ يَقرَعُ، ولا بنداءٍ يُسْمَعُ وَإنّما كَلامُهُ سُبحانَه فِعلٌ منه، أنشَأهُ وَمَثَّله"[1].

 

فإذا كان الكلام اللفظيّ معرباً عمّا في ضمير المتكلّم، فما في الكون من عظائم المخلوقات إلى صغارها يعرب عن علم الله تعالى وقدرته وحكمته.

 

هل القرآن مخلوق أم قديم؟

اتّضح مِنَ البَحْث المتَقَدّم الذّي تضمّن تفسيراً لِحقيقة كلامِ الله، بنحوين، أنَّ التفسيرَ الثاني لا يخالف التفسير الاَوّل، وانّه سبحانه متكلم بكلا الوجهين. كما ثَبَتَ أنَّ كلامَ اللهِ حادثٌ وليس بقديمٍ، لأنّ كلامَهُ هو فِعْلُه، ومن الواضح أنّ الفِعلَ حادثٌ، فَيَنتُجُ من ذلك أنّ "التكلّم" أمرٌ حادِثٌ أيضاً.

 

ومع أنّ كلامَ الله حادثٌ قطعاً فإنّنا رعايةً للأدب، وكذا دَرءاً لسوءِ الفهم لا نقول: إنّ كلام الله (القرآن) مخلوق إذ يمكن أن يصفه أحدٌ في ضوء ذلك بالمجعول والمختلق وإلاّ فإنّ ما سوى اللهِ مخلوقٌ قطعاً.

 

يقول سليمان بن جعفر الجعفري: سألت الإمام عليَ بن موسى بن جعفر عليه السلام: يا اْبن رسول الله أخبِرني عن القرآن أخالقٌ أو مخلوقٌ؟ فأجاب عليه السلام قائلاً: "ليس بخالقٍ ولا مخلوقٍ، ولكنّه كلامُ الله عزّ وجلّ"[2].

 

وهنا لا بدّ من التذكير بنقطةٍ تاريخيةٍ في هذا المجال وهي أنّه طُرحت في أوائل القرن الثالث الهجري، في عام 212 هـ في أوساط المسلمين مسألة ترتبط بالقرآن الكريم، وهي: هل القرآنُ حادثٌ أو قديمٌ؟




[1] نهج البلاغة، الخطبة: 186.

[2] الصدوق، التوحيد، ص 223، باب القرآن ما هو، الحديث 2.

 89


67

الدرس الثامن: الصفات الإلهية (2) الصفات الفعلية

 وقد صارت هذه المسألة سبباً للفرقة والاختلاف الشديدين، في حين لم يمتلك القائلون بِقدَم القرآن أيَّ تبرير صحيح لمزعمتهم، لأنّ هناك احتمالات يكون القرآنُ حسب بعضها حادثاً، وحسب بعضها الآخر قديماً.

 

فإذا كان المقصود من القرآن هو كلماته التي تُتلى وتُقرَأ، أو الكلمات التي تلقّاها الاَمينُ جبرائيل، وأنزلها على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ كل ذلك حادثٌ قطعاً ويقيناً.

 

وإذا كان المقصود هو مفاهيم الآيات القرآنيّة ومعانيها، والتي يرتبط قسمٌ منها بقصص الأنبياء، وغزوات الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فهي أيضاً لا يمكن أن تكون قديماً.

 

وإذا كان المقصودُ هو علم الله بالقرآن لفظاً ومعنى فإنّ من القطعيّ والمسلَّم به هو أنّ علم الله قديمٌ، وهو من صفات الذات، ولكن العلِمَ غيرُ الكلام كما هو واضحٌ.

 

كون الله صادقاً

ومن صفاته سبحانه "الصدقُ" وهو القول المطابق للواقع في مقابل الكذب الذي هو القول المخالف للواقع. فاللهُ تعالى صادقٌ لا سبيلَ للكذب إلى قوله، ودليلُ ذلك واضحٌ تمام الوضوح، لأنّ الكذبَ شيمةُ الجَهَلة، والعَجَزة والجُبَناء. والله منزّهٌ عن ذلك كُلّه. وبعبارة أُخرى, إنَّ الكذبَ قبيحٌ والله منزّهٌ عن القبيح.

 

كون الله حكيماً

ومِنَ الصّفات الكماليّة الإلهيّة "الحكمةُ" كما يوحي بذلك تسميتهُ تعالى بالحكيم. والمقصود من كون الله حكيماً:

أوّلاً: أنّ أفعال الله تعالى تتسم بمنتهى الإتقان والكمال.

ثانياً: أنَّ الله تعالى منزّهٌ عن الأفعال الظالمة، والعابثة.

90


68

الدرس الثامن: الصفات الإلهية (2) الصفات الفعلية

 ويدل نظامُ الخلق الرائع العجيب على المعنى الأوّل حيث أُقيم صرحُ الكَون العظيم على أتمّ نظامٍ وأحسن صورةٍ، إذ يقول: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾[1]. ويشهد بالمعنى الثاني قولُه تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا﴾[2]. وهو أمرٌ يَدْعَمُه العلمُ والعقْلُ كلَّما تقدَّم بهما الزمنُ، وَوَقفنا على أَسرارِ الكونِ وقوانينه.



[1] سورة النمل، الآية 88.

[2] سورة ص، الآية 27.

91


69

الدرس الثامن: الصفات الإلهية (2) الصفات الفعلية

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ القرآن يقسّم تكلّم اللهِ مع عباده، إلى ثلاثةِ أنواع، إذ يقول: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾.

 

- لا يمكن للبشر أن يكلّمهُ الله إلاّ من ثلاث طرق:

 

1- "وَحْياً".

 

2- "أو مِنْ وَراءِ حِجابٍ".

 

2- "أو يُرسِلَ رسولاً...".

 

- إذا كان المقصود من القرآن هو كلماته التي تُتلى وتُقرَأ، أو الكلمات التي تلقّاها الأمينُ جبرائيل، وأنزلها على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ كل ذلك حادثٌ قطعاً ويقيناً.

 

- إذا كان المقصود هو مفاهيم الآيات القرآنيّة ومعانيها، والتي يرتبط قسمٌ منها بقصص الأنبياء، وغزوات الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فهي أيضاً لا يمكن أن تكون قديماً.

 

- إذا كان المقصودُ هو علم الله بالقرآن لفظاً ومعنى فإنّ من المسلَّم به هو أنّ علم الله قديمٌ، وهو من صفات الذات، ولكن العلِمَ غيرُ الكلام كما هو واضحٌ.

 

- مِنَ الصّفات الكماليّة الإلهيّة "الحكمةُ" كما يوحي بذلك تسميتهُ تعالى بالحكيم.

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- كيف تُفسر صفة التكلم لله سبحانه وتعالى؟

2- ما هو المقصود من خلق القرآن وقدمه؟

3- ما هو المقصود من صفة الحكمة؟

92


70

الدرس الثامن: الصفات الإلهية (2) الصفات الفعلية

 للمطالعة

معرفة الله

عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "اسم الله غير الله، وكلّ شيء وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا الله، فأمّا ما عبّرت الألسن عنه أو عملت الأيدي فيه فهو مخلوق والله غاية من غاياه، والمغيّى غير الغاية، والغاية موصوفة، وكلّ موصوف مصنوع، وصانع الأشياء غير موصوف بحدّ مسمّى، لم يتكوّن فتعرف كينونته بصنع غيره، ولم يتناه إلى غاية إلّا كانت غيره، لا يذلّ مَنْ فَهِم هذا الحكم أبداً وهو التوحيد الخالص، فاعتقدوه وصدّقوه وتفهّموه بإذن الله عز وجل، ومن زعم أنّه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لأنّ الحجاب والمثال والصورة غيره وإنّما هو واحد موحّد، فكيف يوحّد من زعم أنّه عرفه بغيره، إنّما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه، إنّما يعرف غيره، والله خالق الأشياء لا من شيء، يسمّى بأسمائه فهو غير أسمائه والأسماء غيره، والموصوف غير الواصف فمن زعم أنّه يؤمن بما لا يعرف فهو ضالّ عن المعرفة، لا يدرك مخلوق شيئاً إلّا بالله، ولا تدرك معرفة الله إلّا بالله، والله خِلْو من خلقه، وخلقه خلو منه، إذا أراد الله شيئاً كان كما أراد بأمره من غير نطق، لا ملجأ لعباده ممّا قضى، ولا حجّة لهم فيما ارتضى، لم يقدروا على عمل ولا معالجة ممّا أحدث في أبدانهم المخلوقة إلّا بربّهم، فمن زعم أنّه يقوى على عمل لم يرده الله عزّ وجلّ فقد زعم أنّ إرادته تغلب إرادة الله تبارك الله ربّ العالمين"[1].




[1] الصدوق، التوحيد، ص138، باب صفات الذات وصفات الأفعال، ح7.

93


71

الدرس التاسع: الصفات الإلهية (3) الصفات السلبيّةُ والصفات الخبريّة

 الدرس التاسع: الصفات الإلهية (3) الصفات السلبيّةُ والصفات الخبريّة

 

 

 

أهداف الدرس:

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يشرح معنى الصفات السلبيّة.

2- يشرح معنى الصفات الخبريّة.

3- يبيّن المقصود من عين الله ويد الله.

95


72

الدرس التاسع: الصفات الإلهية (3) الصفات السلبيّةُ والصفات الخبريّة

 الصفات السلبيّة

تقدّم الكلام عن القسم الأول من الصفات الإلهيّة والآن يأتي الحديث عن القسم الثاني وهو الصفات السلبيّة.

 

ذكَرْنا عند تصنيف صفات الله تعالى أنَّ الصفات الإلهيّة على نَوعين: صفات الجمال، وصفات الجلال، وأنّ ما هو من سِنخ الكمال ومقولته يُسمّى "الصفات الجماليّة" أو "الثبوتية"، وما هو من مقولة النقص وسنخه يسمّى "الصفات الجلالية" أو "السلبية".

 

والهَدَف من الصّفات السَلبيّة هو تنزيه ذات الله سبحانه من النقص، والحاجة والفقر.

 

إنّ الله تعالى لكونه غنيّاً موصوفاً بالكمال المطلق، منزَّهٌ عن كُلّ وصفٍ يحكي النقص، والحاجة والفقر، ولهذا قال علماء العقيدة المسلمون (علماء الكلام) إنّ الله ليس بجسمٍ ولا جسماني، ولا محلاً لِشيءٍ، ولا حالاًّ في شيء، ذلك لأنّ كل هذه الخصوصيات ملازمة للنقص والاحتياج ومستتبعة للفقر والإمكان، وهي تعارضُ كونه غنياً غنىً مطلقاً، وتنافي كونه واجبَ الوجود قطعاً ويقيناً.

97


73

الدرس التاسع: الصفات الإلهية (3) الصفات السلبيّةُ والصفات الخبريّة

 وسوف نتناول مسألة تنزيه الله عن التجسيم في نقطتين:

1- إنّ الله لا يرى بالعين مطلقاً:

هذا ومن الصفات التي تحكي النقص كون الشيء مرئياً، ذلك لأن الشيء لا يكون مرئياً إلاّ بعد تحقّق شروط ضرورية هي:

أ- أن يكون في مكانٍ وجهةٍ خاصةٍ.

ب- أن لا يكون في ظلمة، بل يشع عليه النور.

ج- أن يكون بينه وبين الرائي فاصلة معينة ومسافة مناسبة.

 

ومن الواضح أنّ هذه الشرائط من آثار الكائن الجسماني ومن خصائص الموجود المادّي لا الاِلَه ذي الوجود الأسمى والأعلى من ذلك. هذا مضافاً إلى أنّ كون الله مرئياً لا يخلو من حالتين:

الأولى: إمّا أن يكونَ كلّ وجودِه مرئياً.

الثانية: وإمّا أن يكونَ بعض وجودِه مرئياً.

 

وفي الصورة الأولى يكون الله المحيط, مُحاطاً ومحدوداً.

 

وفي الصورة الثانيّة يكونُ الحق تعالى ذا أجزاء وأبعاض.

 

وكلا الأمرين لا يليقان بالله سبحانه فهو تعالى محيطٌ غير محاط به، مطلق غير مقيد، منزّه عن التركُّب والتبعُّض.

 

على أنَّ ما قلناه يرتبط بالرؤية الحسّيّة والبصريّة، لا الرؤية القلبيّة، والشهود الباطنيّ الّذي يتحقّق للمرء بفضل الإيمان الكامل، واليقين الصادق، فإنّ هذا القسمَ خارجٌ عن محطّ البحث وإطار النقاش. ولا ريب في إمكان وقوعه بل وقوعه لأولياءِ الله، وعباده الصالحين المقربين.

 

قال ذعلب اليمانيّ وهو من أصحاب الإمام علي عليه السلام قلت للإمام عليه السلام: "هل

98


74

الدرس التاسع: الصفات الإلهية (3) الصفات السلبيّةُ والصفات الخبريّة

 رأيتَ ربَّك يا أميرَ المؤمنيِن؟ قالَ الإمام عليه السلام: أفَأَعْبُدُ ما لا أرى، فقال ذعلب: وكيف تراهُ ؟ فقال عليه السلام: لاَ تراهُ العُيُونُ بمشاهدة العَيانِ وَلكِنْ تدرِكهُ القُلُوب بِحَقائِقِ الإيمان"[1].

 

إنّ الرؤية بالبصر علاوةً على كونِها ممتنعةً عقلاً، مرفوضةً من جانبِ القرآن الكريم، فقد صرّحَ القرآن الكريم بنفِي إمكان ذلك.

 

فعندما طَلَب النبيّ موسى عليه السلام من الله (تحت إلحاحٍ وضغطٍ مِن قومه) أن يريه نفسَه ردّ عليه سبحانه بالنفي المؤكد قائلاً: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي[2].

 

2- رؤية الله في القرآن الكريم:

ويمكن أن يَسأَل أحد: إذا كانت رؤيةُ الله بالبصر والعَين غير ممكنة فلماذا قال القرآن الكريم: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾[3]؟.

 

والجواب على ذلك هو: أنّ المقصود من النظر في الآية الكريمة، هو انتظار الرحمة الإلهيّة، لأنّ في الآية شاهدين على ذلك:

 

1- إن النظر في هذه الآية نُسِبَ إلى الوجوه وقال ما معناه: إنّ الوجوه المسرورة تنظرُ إليه. ولو كان المقصود هو رؤية الله بالبصر لنُسِبَ النظر إلى العيون لا إلى الوجوه.

 

2- إن الكلام في هذه السورة عن فريقين: فريق يتمتّع بوجوهٍ مسرورةٍ مشرقةٍ وقد بيّن ثوابَها بقوله: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾.

 

وفريق يتسم بوجوه حَزينة مكفهرّة وقد بيّن جزاءها وعقابها بقوله: ﴿تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ[4].




[1] نهج البلاغة، الخطبة 179.

[2] سورة الأعراف، الآية 143.

[3] سورة القيامة، الآيتان 22 و23.

[4] سورة القيامة، الآية 25.

99


75

الدرس التاسع: الصفات الإلهية (3) الصفات السلبيّةُ والصفات الخبريّة

 والمقصود من الفقرة الثانيّة واضح وهو أنّ هذا الفريق يعلم بأنّه سيصيبه عذابٌ يفقر الظهر، ويكسره ولهذا فهو ينتظر مثل هذا العذاب الأليم.

 

وبقرينة المقابلة بين هذين الفريقين يمكن معرفة المقصود من الآية الأولى وهو أنَّ أصحاب الوجوه المسرورة تنتظر رحمة الله، فقوله تعالى: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ كنايةٌ عن انتظار الرَّحمة الإلهيّة، ولهذا النّوع من التكنية وذكر شيء وإرادة شيء آخر كنايةً نظائر في المحاورات العرفية فيقال فلانٌ عينه على يد فلان، أي أنّه ينتظر إفضاله وإنعامه عليه.

 

وخلاصة القول, أنّه كما ينتظر أصحابُ الوجوهِ الحزينةِ عذاباً إلَهيّاً، ينتظرُ أصحابُ الوجوهِ المسرورةِ رحمةً إلَهيةً كُنّي بها بالنَظَر إليه جرياً على العادةِ المألوفةِ في المحاورات العرفيّة العربيّة، وبقرينة المقابلة التي هي من قوانين البلاغة وقواعدها.

 

هذا مضافاً إلى أنّه يجب أن لا يُكتفى في تفسير الآيات القرآنيّة بآيةٍ واحدةٍ بل لا بدّ من استعراض ما يشابهُها من الآيات من حيثُ الموضوع، والتوصل إلى المفهوم الحقيقي بعد ملاحظة مجموعة تلك الآيات. وفي مسألة الرُؤية لو لاحظنا كلّ الآيات المتعلّقة بها في القرآن الكريم، بالإضافةِ إلى الأحاديثِ الشريفةِ في هذا المجال لاتّضحَ عدمُ إمكان رؤية الله تعالى في نظر الإسلام من دون غموضٍ.

 

الصِّفات الخَبَريّة

كُلُّ ما ذُكر إلى هُنا من الصّفاتِ الإلهيّة (ما عدا التكلّم) كانَ برمّته مِن نوع الصّفاتِ التّي يقضي العقلُ بِإِثباتِها للهِ أو نَفْيِها عنهُ. غَير أنَّ هناكَ مجموعةً من الصّفات وَرَدَت في آياتِ القرآنِ وفي السُّنة ولم يكن لها من مُسْتَنَدٍ ومَصْدرٍ سوى النقلِ مثل:

100


76

الدرس التاسع: الصفات الإلهية (3) الصفات السلبيّةُ والصفات الخبريّة

 1ـ يَدُ الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ[1].

 

2 ـ وَجْهُ الله: ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[2].

3 ـ عَيْنُ الله: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا[3].

4 ـ الاسْتواء عَلى العَرش: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[4].

 

والعلّة في تسمية هذا النوع من الصفات، بالصفات الخبرية، هو ثبوتها لله بإخبار الكتابِ والسُنّة بِها فقط.

 

بيان لحقيقة الصفات الخبرية

للحصول على التفسير الواقعيّ لهذا النوع من الصفات يجب أيضاً ملاحظة كلّ الآيات المتعلّقة بهذا المجال. كما أنّه يجب أن نعلم أنّ اللّغة العربيّة شأنها شأن غيرها من اللّغات الأخرى زاخرة بالكنايات والاستعارات والمجازات، وبما أنّ القرآن نزل بلغة القوم لذلك استخدم هذه الاساليب أيضاً. وفيما يلي بيان هذه الصفات وتفسيرها على ضوءِ ما مرّ:

 

1- بيان معنى اليد:

في الآية الأولى قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ لأنّ مبايعة الرسول بمنزلةِ مبايعةِ المرسِلِ، ثم يَقُول بعد ذلك: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ وهذا يعني أن قدرة الله أعلى وأقوى من قدرتهم وَلا يعني أنّ لله يَداً جسمانيّة حِسيّة تكون فوق أياديهم. ويشهد على ذلك أنّهُ قال في ختام الآية وعقيب ما مرّ: ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[5]. فمن نكث بيعته



[1] سورة الفتح، الآية 10.

[2] سورة البقرة، الآية 115.

[3] سورة هود، الآية 37.

[4] سورة طه، الآية 5.

[5] سورة الفتح، الآية 10.

101


77

الدرس التاسع: الصفات الإلهية (3) الصفات السلبيّةُ والصفات الخبريّة

  فلا يضرّ الله شيئاً لأنّ قدرة الله فوق قدرتهم. إنّ هذا النمط من الكلام والخطاب الذي يتضمن تهديدَ الناكثين لعهدهم والتنديد بهم، وامتداح الموفين بعهدهم وتبشيرهم، يدل على أنّ المقصود من "يَدِ الله" هو القدرةُ والحاكمية الإلهيّة. على أنّ لفظة "اليَد" تُستخدَم أحياناً في جميع اللُغات للكناية عن القُدرةِ والقُوةِ، والسُلطةِ والحاكميةِ، ومن هذا الباب قولِهم: فَوْقَ كل يدٍ يدٌ، أي فوقَ كُلّ قوةٍ قوةٌ أعلى، وفوق كلّ قدرةٍ قدرةٌ أكبر.

 

 

2- بيان معنى الوجه:

إنّ المقصودَ من الوَجه الذي نُسِبَ إلى الحقّ تعالى هنا هو ذاته سبحانه لا العضوُ الخاصُ الموجودُ في جسم الإنسان وما يشابِهُهُ. فالقرآنُ عندما يتحدّث عن هلاك ما سوى الله وفنائه يقول: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ[1]. ثم يخبر عقيبَ ذلك مباشرةً عن بقاء الذات الإلهيّة ودوامِها وأنّه لا سبيل للفناء إليها فيقول: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ[2]، أي تَبقى ذاته المقدسة، ولا تفنى أبداً.

 

من هذا البيان يتّضح بجلاءٍ معنى الآية المبحوثة هنا، ويتبيّن أنّ المقصودَ هو أنّ الله ليس في جهةٍ أو نقطةٍ معيّنةٍ، بل وجوده محيط بجميع الأشياء فأينما وَلَّيْنا وُجوهَنا، فقد وَلَّيْنا وجوهَنا شطرهُ. ثم إنّ القرآن أتى لإثبات هذه الحقيقة العظيمة بوصفين لله تعالى:

أ- واسعٌ: أيْ إِنّ وجود الله لا نهاية له ولا حدود.

ب- عَلِيْمٌ: أيْ إنّه عارفٌ بجميع الأشياء.




[1] سورة الرحمن، الآية 26.

[2] سورة الرحمن، الآية 27.

102


78

الدرس التاسع: الصفات الإلهية (3) الصفات السلبيّةُ والصفات الخبريّة

 3- بيان معنى عين الله:

 

في الآية الثالثة يذكر القرآنُ الكريم أنّ نوحاً عليه السلام كُلّف من جانب اللهِ بصنع سفينة وإعدادها. وحيث إنّ صنعَ تلك السفينة كان في مكان بعيدٍ عن البحر، لذلك استهزأ قومُه به، وسخر به الجهلة منهم، وآذَوه. ولذا في مثل هذه الظروف قال له الله تعالى: اصنع أنتَ السفينة ولا تُبالي، فأنتَ تفعل ذلك تحت إشرافنا، وهو أمرٌ قد أوحينا نحن به إليك. فالمقصود من قوله ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا[1] هو أن نوحاً قامَ بما قام من صُنْع السفينة حسب أمر الله له، ولهذا فإنّ الله سيحفظه ويكَلاَؤه برعايته، ويحميه، ولن يَصل إليه من المستهزئين شيءٌ إذ هو في رعاية الله، ويعمل تحت عنايته.

 

4- بيان معنى الاستواء على العرش:

إنّ العَرشَ في اللغة العربيّة بمعنى السرير، ولفظ "الاستواء" إذا جاء مع لفظة "على" كان المعنى هو الاستقرار والاستيلاء. وحيث إنّ الملوك والأُمراء بعد أن جلسوا على منصة العرش يعمدون إلى تدبير الأمور، وتسييرها في بلادهم، لهذا كان هذا النوعُ من التعبير (أعني: الاستواء على العرش) كناية عن الاستيلاء، والسيادة، والقدرة على تدبير الأمور، خاصة إذا نُسِبَ ذلك إلى الله سبحانه. هذا مضافاً إلى أنّ الأدلّة العَقلية والنقلية أثبتت تنزّه الحق تعالى عن المكان.

 

وممّا يشهد بأنّ الهدف من هذا النمط من التعابير، ليس هو الجلوسُ على السَرير الماديّ، بل هو كناية عن تدبير أُمور العالم أمران:

 

أ- إنّ هذه العبارة جاءت في كثير من آيات الكتاب العزيز مسبوقةً بالحديث عن خلق السماوات والارض، للإشارة إلى أنّ هذا الصرح العظيم قائم من غير أعمدة مرئيّة.



[1] سورة هود، الآية 37.

103


79

الدرس التاسع: الصفات الإلهية (3) الصفات السلبيّةُ والصفات الخبريّة

 ب- إن هذه العبارة جاءت في آيات كثيرة من الكتاب العزيز ملحوقةً بالكلام عن تدبير العالم.

 

إنّ ورود هذا التعبير في القرآن الكريم مسبوقاً تارةً بالحديث عن الخلق، وملحوقاً تارة أُخرى بالحديث عن التدبير يمكن أن يساعِدَنا على فهم المقصود من الاستواء على العرش، وأنّ القرآن يُريدُ بهذه العبارة أن يُفَهّمَ البشريةَ أنَّ خلق الوجود على سعته، وعظمتهِ، لم يوجب خروج هذا الكون العظيم عن نطاق تدبيره ومشيئته، بل الله تعالى مضافاً إلى كونه خالقَ الكون، وموجده، فهو مدّبرُه، ومصرّفُ شؤونه. وها نحن نختارُ من بين الآيات العديدة في هذا الصعيد آيةً جامعةً للحالتَين (المذكورتين سابقاً) تفيد ما ذكرناه: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ[1]،[2].



[1] سورة يونس، الآية 3.

[2] يراجَع في هذا الصدد الآيات: 2، سورة الرعد، 4، سورة السجدة، 54، سورة الأعراف.

104


80

الدرس التاسع: الصفات الإلهية (3) الصفات السلبيّةُ والصفات الخبريّة

 المفاهيم الرئيسة

- الهَدَف من الصّفات السَلبيّة هو تنزيه ذات الله سبحانه من النقص، والحاجة والفقر.

 

- إنّ الله - تعالى- لكونه غنيّاً موصوفاً بالكمال المطلق، منزَّهٌ عن كُلّ وصفٍ يحكي النقص، والحاجة والفقر.

 

- إنّ كون الله مرئياً لا يخلو من حالتين:

1- إمّا أن يكونَ كلّ وجودِه مرئياً، وفي هذه الصورة يكون الله المحيط, مُحاطاً ومحدوداً.

2- وإما أن يكونَ بعض وجودِه مرئياً، وفي هذه الصورة يكونُ الحق - تعالى- ذا أجزاء وأبعاض.

 

- وكلا الأمرين لا يليقان بالله سبحانه فهو تعالى محيطٌ غير محاط به، مطلق غير مقيد، منزّه عن التركب والتبعّض.

 

- يجب أن لا يُكتفى في تفسير الآيات القرآنيّة بآيةٍ واحدةٍ بل لا بدّ من استعراض ما يشابهُها من الآيات من حيثُ الموضوع، والتوصل إلى المفهوم الحقيقي بعد ملاحظة مجموعة تلك الآيات.

 

- إنّ الله ليس في جهةٍ أو نقطةٍ معيّنةٍ، بل وجوده محيط بجميع الأشياء فأينما وَلَّيْنا وُجوهَنا، فقد وَلَّيْنا وجوهَنا شطرهُ.

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- ما هو الدليل على نفي التجسيم لله؟

2- كيف نفى القرآن الكريم القدرة على رؤية الله ؟

3- ما هو المقصود من الصفات الخبرية؟

105


81

الدرس التاسع: الصفات الإلهية (3) الصفات السلبيّةُ والصفات الخبريّة

 للمطالعة

 

الولاية والتوحيد

عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام في قول الله عز وجل: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا[1] قال: "إنّا الله تبارك وتعالى لا يأسف كأسفنا، ولكنّه خلق أولياء لنفسه يأسَفون ويرضون، وهم مخلوقون مدبّرون، فجعل رضاهم لنفسه رضى وسخطهم لنفسه سَخَطاً، وذلك لأنّه جعلهم الدعاة إليه والأدلّاء عليه، فلذلك صاروا كذلك، وليس أنّ ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه، ولكن هذا معنى ما قال من ذلك، وقد قال أيضاً: من أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها. وقال أيضاً: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ[2] وقال أيضاً: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ[3] وكل هذا وشبهه على ما ذكرت لك، وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء ممّا يشاكل ذلك ولو كان يصل إلى المكوّن الأسَف والضجر وهو الذي أحدثهما وأنشأهما لجاز لقائل أن يقول: إنّ المكوّن يَبيد يوماً ما، لأنّه إذا دخله الضجر والغضب دخله التغيير وإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة، ولو كان ذلك كذلك لم يعرف المُكوِّن من المكوَّن، ولا القادر من المقدور، ولا الخالق من المخلوق، تعالى الله عن هذا القول علوّاً كبيراً، هو الخالق للأشياء لا لحاجة، فإذا كان لا لحاجة استحال الحدّ والكيف فيه، فافهم ذلك إن شاء الله"[4].




[1] سورة الزخرف، الآية 55.

[2] سورة النساء، الآية 80.

[3] سورة الفتح، الآية 10.

[4] الصدوق، التوحيد، ص164، باب معنى رضاه عزوجل وسخطه، ح2.

106


82

الدرس العاشر: العَدلُ الإلهي

 الدرس العاشر: العَدلُ الإِلَهيُّ

 

 

 

أهداف الدرس:

 

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن: 

1- يذكر الأسباب التي تؤدّي إلى فعل الظلم.

2- يشرح أدلّة إدراك العقل للحسن والقبح.

3- يبيّن كيف يتجلّى العدل الإلهيّ في التكوين والتقنين.

107


83

الدرس العاشر: العَدلُ الإلهي

 مقدّمة

إنّ لمسألة العدل الإلهي في التاريخ الإسلاميّ أخذاً وردًّا طويلين، ويتبيّن ذلك من خلال النقاشات التي دارت بين المذاهب الإسلامية، وخاصّة في زمن الإمامين الصادقين عليه السلام، فقد كثر الكلام في زمانهما عن الجبر والتفويض، واختيارية الإنسان، وانقسم المسلمون حينذاك إلى فرق متعدّدة يمكن حصرها في ثلاث فرق وهي الأشاعرة الذين قالوا بالجبر الإلهي، والمعتزلة الذين قالوا بالتفويض، والإمامية الذين قالوا بدورهم باختياريّة الإنسان وأنه لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين.

 

وقد أطلق على كلّ من الإماميّة والمعتزلة وصف العدليّة انسجامًا مع قولهم بعدم الجبر الإلهي في مقابل الأشاعرة الذين بقولهم بالجبر نسبوا الظلم إليه تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا.

 

والملاحظ أن مسألة العدل الإلهي ترتبط بمسألة القضاء والقدر وبمسألة الجبر والتفويض، فكل هذه المسائل تنسجم فيما بينها، ولذلك سوف نتكلم عن الجبر والتفويض في الدروس اللاحقة.

109


84

الدرس العاشر: العَدلُ الإلهي

 العدل من الصفات الجمالية

يعتقدُ المسلمون جميعاً بعدل الله تعالى والعَدلُ من الصفات الإلهيّة الجماليّة. وَيَنطلقُ اعتقاد المسلمين جميعًا بعدل الله عزّ وجلّ مِن نفيِ القرآن لأيّ نوعٍ من أنواعِ الظُلْم عَنِ اللهِ تعالى، ووَصفِه بكونهِ "قائماً بالقِسط" كما يقول: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾[1]. ويقول أيضاً: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا[2]. ويقولُ كذلك: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[3].

 

إنّ العقل مضافاً إلى الآيات المذكورة يحكم بوضوح بالعَدلِ الإلَهيّ لأنَّ العَدْلَ صفةُ كمالٍ، والظلمُ صفةُ نقصٍ، والعقلُ يحكمُ بأنّ الله تعالى مُستجمعٌ لجميع صفاتِ الكمالِ، منزَّهٌ عن كلّ عيبٍ ونقصٍ في مقام الذات والفعل.

 

الذات الإلهيّة منزّهة عن الظلم

الظلمُ أساساً نابعٌ من أَحَدِ عواملَ ثلاثة:

1 ـ جَهل الفاعلِ بقبح الظُلم.

2 ـ احتياج الفاعلِ للظُلم إلى الظلم مع عِلمه بقبحه، أو عجزه عن القيام بالعدل.

3 ـ كون فاعلِ الظُلم سفيهاً غيرَ حكيم، فهو لا يبالي بإتيان الأفعالِ الظالِمة رغم علمه بقبحها، ورغمَ قدرتهِ على القيامِ بالعدل.

 

ومِن البديهي أنّه لا سبيل لأيّ واحدٍ من هذه العَوامل إلى الذات الإلهيّة المقدّسة، فهو تعالى منزّهٌ عن الجَهل، والعَجز، وعن الاحتياج والسَّفه، ولهذا فإنّ جميع أفعالهِ تتسم بالعَدل والحكمة.




[1] سورة النساء، الآية 40.

[2] سورة يونس، الآية 44.

[3] سورة آل عمران، الآية 18.

110


85

الدرس العاشر: العَدلُ الإلهي

 ولقد أشار الشيخ الصدوق إلى هذا إذ قال: "والدليل على أنّه لا يقع منه عزّ وجلّ الظلم ولا يفعلهُ أنّه قد ثبت أنّه تبارك وتعالى قديم غنيٌ عالم لا يجهل، والظلم لا يقع إلاّ من جاهل بقبحه أو محتاج إلى فعله منتفع به"[1]. كما أشار إليه المحقّق نصير الدين الطوسي بقوله: "واستغناؤه وعلمه يدلاّن على انتفاء القبح عن أفْعالِهِ تعالى"[2].

 

معنى العدل

ونظراً إلى هذه الآيات اتّفقَ المسلمون على ثبوت العدل لله تعالى والاعتقاد بكونه عادلاً، إلاّ أنّهم اختلفوا في تفسير العدل الإلَهي واختارَ كلُ فريقٍ إحدى النظريّتين التاليتين:

1- إنّ العقلَ البشريّ السليمَ يدرك بنفسه حسنَ الأفعال وقبحها، ويعتبر الفعلَ الحَسَن علامةً لكمال فاعله، والفعلَ القبيحَ علامةً لنقصان فاعله. وحيث إنّ الله مستجمعٌ بذاته لجميع صفات الكمال، لهذا فإنّ فعلَه كاملٌ ومحمودٌ، وذاته المقدّسة منزّهةٌ عن كل فعلٍ قبيحٍ. هذا ويجدُر التذكيرُ بنقطة هامّةٍ هنا، وهي أنّ العقلَ لا يحكم على الله بشيءٍ، ولا يقول: يجب على الله أن يكون عادلاً، بل كلُ ما يفعلهُ العقلُ هنا هو أن يكتشفَ واقعيّةَ الفعلِ الإلَهيّ، يعني أنّه بالنَظَرِ إلى كمالِ اللهِ المطلَقِ، وتنزُّهِهِ سبحانه عن كلّ نقصٍ وعيبٍ، يكتشف أنّ فِعلَه كذلك في غاية الكمال، وأنّه منزَّه أيضاً عن النقص، فهو بالتالي سيعامل عباده بالعدل، ولا يظلم أحداً منهم أبداً. وما ذكَرَتهُ الآياتُ القرآنيّة في هذا المجال إنّما هو في الحقيقة تأكيدٌ وتأييدٌ لما أدركه الإنسان من طريق العقل. وهذا هو ما اصَطُلِحَ عليه في علم الكلام الإسلاميّ بمسألة الحُسن والقُبح




[1] الصدوق، التوحيد، ص 396 و 397.

[2] الحلي، كشف المراد، تحقيق: حسن زادة آملي، قم- إيران، مؤسسة النشر الإسلامي، 1417هـ، ص470.

111


86

الدرس العاشر: العَدلُ الإلهي

 العقليّين، ويُسمّى القائلون بهذه النظرية بالعَدليّة، ويقف في طليعتهم الشيعةُ الإماميّةُ الاثنا عشرية.

 

2- وتقابل تلك النظرية، نظريةٌ أُخرى وهي أنّ العقلَ البشريّ عاجز عن إدراك الحُسن والقُبح في الأفعال حتى في صورتها الكليّة، وتحصر الطريق لمعرفة الحسن والقبح في الوحي الإلَهيّ وهذا ما يصطلح عليه بالحسن والقبح الشرعيين، فما أمرَ به اللهُ فهو حَسَنٌ وما نهى عنه فهو قبيحٌ. وعلى هذا الأساس فلو أمَرَ اللهُ بإلقاءِ إنسان بَريء في النار، أو إدخال عاصٍ في الجنة كان ذلك عينَ الحسن والعدل. وقول هذا الفريق هو: إنّ وصف الله بالعدل ليس إلاّ لكون هذا الوصف جاء في القرآن الكريم ليس إلاّ.

 

إدراك العقل للحسن والقبح

حيث إنّ مسألة الحُسن والقُبح العقليّين تُمَثّلُ الأساس والقاعدة للكثير من عقائد الشيعة الإمامية، لذلك نشير فيما يأتي إلى دليلَين من أدلّتها العديدة:

 

1- إنّ كلَّ إنسان مهما كان دينه ومسلكه، وأينما حلّ من بقاع الأرض ـ يدرك بنفسه حُسنَ العدل، وقبح الظلم، وكذلك يدرك حُسنَ الوفاءِ بالعهد، وقبحَ نقضه، وحسنَ مقابلة "الإحسان بالإحسان" وقبح مقابلةِ "الإحسان بالإساءة". ودراسةُ التاريخ البشريّ تشهدُ بهذه الحقيقة وتؤكّدُها، ولم يُرَ حتى اليوم إنسانٌ عاقلٌ ينكرها قط.

 

2- لو فَرَضْنا أنّ العقل عجز تماماً عن إدراك حسنِ الأفعال وقبحها، واحتاج الناس في معرفة حسن جميع الأفعال وقبحها إلى الشرع، لزم من ذلك عدم إمكانِ إثبات الحسن والقبح الشرعيّين أيضاً ذلك لأنّنا لو فَرضنا أن الشارع أخبَرَ عن حُسن فعل أو قبح آخر لا يمكننا أنْ نتوصَّل إلى معرفة حُسن ذلك الفعلِ أو قبحِه، بواسطة هذا الإخبار، ما دمنا نحتمل الكذب في إخبار الشارع وكلامِهِ،

112


87

الدرس العاشر: العَدلُ الإلهي

 إلاّ إذا ثبت قَبْل ذلك قبحُ الكذب وتنزّهِ الشارع عن هذه الصفةِ القبيحةِ، ولا يمكن إثبات ذلك إلاّ من طريق العقل[1].

 

هذا مضافاً إلى أنّه يُستفاد من الآيات القرآنيّة أنّ العقل البشريّ قادرٌ على إدراك حسنِ بعض الأفعال أو قبحها، ولهذا احتكم القرآنُ إلى العقل واللبّ، ودعا إلى تحكيمه أكثر من مرة إذ قال: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾[2]. وقال أيضاً: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ[3].

 

وهنا يُطرح سؤال لا بدّ من الإجابة عليه وهو أن الله تعالى قال: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾[4]. والسُؤال الآن هو: إذَنْ لا يمكن أن يُسأَل اللهُ عن أيّ فعل قامَ به والحال أنّه بناءً على كونِ الحُسن والقبح عَقْليَّيْن إذا فَعَلَ اللهُ قبيحاً - افتراضَاً - يُسأَل ويُقال: لماذا فَعَلَ هذا الفِعْل؟

 

والجواب هو: إنّما لا يُسأَل الله عن فعله لأنّه حكيمٌ، والحكيم لا يصدر منه القبيحُ قط، ففعلهُ ملازمٌ للحكمة أبداً، ولهذا لا يَبقى هناك ما يَستدعي المساءلة والاستفسار.

 

تجلّيات العدل الإلهيّ في مجالي التكوين والتقنين

إنّ للعَدل الإلَهي في مجالات التكوين والتشريع والجزاء، مظاهر مختلفة نبيّنها واحداً بعد آخر:

 

1- العَدلُ التكوينيّ: لقد أعطى الله تعالى لكلّ مخلوقٍ خَلَقَه، ما هو لائقٌ به، ولازمٌ له، ولم تَغَبْ عنه القابليّاتُ عند الإفاضة والإيجاد أبداً.




[1] وعبارة المحقّق الطوسي في تجريد الاعتقاد تشير إلى هذا البرهان حيث قال: "ولانتفائهما مطلقاً (أي عقلاً وشرعاً) لو ثبتا شرعاً" أي لو انحصر إثبات الحسن والقبح في إخبار الشرع لانتفى حسنُ الاَفعال وقبحُها بالكلية، ولم يثبُتا لا شرعاً ولا عقلاً.

[2] سورة القلم، الآيتان 35 و 36.

[3] سورة الرحمن، الآية 60.

[4] سورة الأنبياء، الآية 23.

113


88

الدرس العاشر: العَدلُ الإلهي

 يقول القرآنُ الكريمُ في هذا الصدد: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى[1].

 

2- العدلُ التشريعيّ: لقد هدى اللهُ الإنسان الّذي يمتلكُ قابليّة الرُشد والتكامل، واكتساب الكمالات المعنويّة، بإرسال الأنبياء، وتشريع القوانين الدينيّة له. كما أنّه لم يُكلّف الإنسان بما هوَ فوق طاقته، ووُسعه، كما يقول: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[2].

 

وحيث إنّ العَدل والإحسان وإيتاء ذي القربى توجب كمال الإنسان وتوجب الأفعالُ الثلاثة الأخرى (الفحشاء والمُنكر والبغي) سقوطَه، أمرَ سبحانه بالأعمال الثلاثة الأولى، ونهى عن الأفعال الأخيرة.

 

ويقول عن ملائمة التكاليف الإلهيّة لاستطاعة الإنسان وقدرته وعدم كونها خارجة عن حدود هذه الاستطاعة أيضاً: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا[3].

 

3- العدل في الجزاء: إنّ الله لا ينظر إلى المؤمن والكافر، والمحسن والمسيء من حيث الجزاء نظرةً سواء قط، بل يجازي كُلاًّ طبقاً لاستحقاقه ووفقاً لِعَمله فيثيبُ المحسنَ، ويعاقبُ المسيء.

 

وعلى هذا الأساس لا يعاقبُ مَن لَمْ تبلُغْهُ تكاليفهُ عن طريق الأنبياء والرسل، ولم تتم عليه الحجةُ كما يقول: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً[4]. ويقول أيضاً: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا[5].




[1] سورة طه، الآية 50.

[2] سورة النحل، الآية 90.

[3] سورة البقرة، الآية 286.

[4] سورة الإسراء، الآية 15.

[5] سورة الأنبياء، الآية 47.

114


89

الدرس العاشر: العَدلُ الإلهي

 الهدفيّة في خلق الإنسان

إنّ الله خلق الإنسان، وكان لخلقه وإيجاده هدفٌ خاصٌ، وهو وُصول الإنسان إلى الكمالِ الإنساني المطلوبِ الذي يتحقّق في ظلّ عِبادةِ اللهِ، وطاعتهِ.

 

ولو كان وصولُ الإنسان إلى الهدف متوقِّفاً على مقدّمات، هَيَّأ سبحانه تلكَ المقدّمات، وسهّل لَه طريق الوُصول إلى الهدف، وإلاّ كان خلقُ الإنسان عبثاً خالياً عَنِ الهَدَف.

 

مِن هنا بعث اللهُ أنبياءَه ورسُله وزوّدهم بالبيّنات والمعاجز، كما أنّه ترغيباً لعبادِهِ في الطاعة، وتحذيراً لَهُمْ عن المعصيَةِ ضمَّنَ تلكَ الرِسالات وَعْدَه ووعيده، فبشّروا وأنذروا.

 

وهذا الّذي قُلناه هو خلاصة ما يسمّى في كلام "العدليّة" بـ "قاعدةِ اللُّطف" وهي من فُروع قاعدة الحُسنِ والقبحِ العقليّين، كما أَنّها هي الأساس والمنطلَق للكثيرِ من قضايا العقيدة ومسائلها.

115


90

الدرس العاشر: العَدلُ الإلهي

 المفاهيم الرئيسة

- يعتقدُ المسلمون جميعاً بعدل الله تعالى والعَدلُ من الصفات الإلهيّة الجماليّة.

 

- إنّ العقل مضافاً إلى الآيات المذكورة يحكم بوضوح بالعَدلِ الإلَهيّ لاَنَّ العَدْلَ صفةُ كمالٍ، والظلمُ صفةُ نقصٍ.

 

- الظلمُ نابعٌ من أَحَدِ عواملَ ثلاثة:

1- جَهل الفاعلِ بقبح الظُلم.

2- احتياج الفاعلِ للظُلم إلى الظلم مع عِلمه بقبحه، أو عجزه عن القيام بالعدل.

3- كون فاعلِ الظُلم سفيهاً غيرَ حكيم، فهو لا يبالي بإتيان الأفعالِ الظالِمة رغم علمه بقبحها، ورغمَ قدرتهِ على القيامِ بالعدل.

 

- ومِن البديهي أنّه لا سبيل لأيّ واحدٍ من هذه العَوامل إلى الذات الإلهيّة المقدّسة، فهو تعالى منزّهٌ عن الجَهل، والعَجز، وعن الاحتياج والسَفه.

 

- اختلف المسلمون في تفسير العدل الإلَهي فمنهم من قال بنظريّة الحسن والقبح العقليين ومنهم من قال بالحسن والقبح الشرعيين.

 

- إنّ الله خلق الإنسان، وكان لخلقه وإيجاده هدفٌ خاصٌ، وهو وُصول الإنسان إلى الكمالِ الإنساني المطلوبِ الذي يتحقّق في ظلّ عِبادةِ اللهِ وطاعتهِ.

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- ما معنى العدل؟ بيّن ذلك.

2- ما هو الدليل الذي يطرح على كون الحسن والقبح عقلييّن؟

3- اذكر بعض المظاهر التي تتجلّى فيها عدالة الله سبحانه وتعالى.

116


91

الدرس العاشر: العَدلُ الإلهي

 للمطالعة

 

الحكمة في أفعال الله

عن جابر بن يزيد الجُعْفي، قال: "قلت لأبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليهما السلام: يا ابن رسول الله إنّا نرى من الأطفال من يولد ميّتاً، ومنهم من يسقُط غير تامّ، ومنهم من يولد أعمى أو أخرس أو أصمّ، ومنهم من يموت من ساعته إذا سقط على الأرض، ومنهم من يبقى إلى الاحتلام، ومنهم من يعمَّر حتّى يصير شيخاً، فكيف ذلك وما وجهه؟ فقال عليه السلام: إنّ الله تبارك وتعالى أولى بما يدبّره من أمر خلقه منهم، وهو الخالق والمالك لهم، فمن منعه التعمير فإنّما منعه ما ليس له، ومن عمّره فإنّما أعطاه ما ليس له، فهو المتفضّل بما أعطاه وعادل فيما منع، ولا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون، قال جابر: فقلت له: يا ابن رسول الله وكيف لا يسأل عمّا يفعل؟ قال: لأنّه لا يفعل إلّا ما كان حكمة وصواباً, وهو المتكبّر الجبّار والواحد القهّار فمن وجد في نفسه حرجاً في شيء ممّا قضى الله فقد كفر، ومن أنكر شيئاً من أفعاله جحد"[1].




[1] الصدوق، التوحيد، مصدر سابق، ص386، ح13.

117


92

الدرس الحادي عشر: القضاء والقَدَر

 الدرس الحادي عشر: القضاء والقَدَر (1)

 

 

 

أهداف الدرس:

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن: 

1- يبيّن معنى القضاء والقدر لغة.

2- يشرح المعنى الاصطلاحي للقضاء والقدر.

3- يذكر نماذج من الكتاب والسنة تتحدّث عن القضاء والقدر.

119


93

الدرس الحادي عشر: القضاء والقَدَر

 القدر والقضاء لغةً واصطلاحًا

1- لغة:

أ- القدر: قال ابن فارس: "القدر بفتح الدال وسكونه حدّ كل شيء ومقداره وقيمته وثمنه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ[1] أي قدر بمقدار قليل"[2].

 

وقال الراغب: "القدر والتقدير تبين كمية الشيء، يقال قدرته وقدّرته وقدّره بالتشديد: أعطاه القدرة فتقدير الأشياء على وجهين: أحدهما بإعطاء القدرة، والثاني (وهو ما يهمنا) بأن يجعلها على مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسب ما اقتضت الحكمة"[3].

 

ب- القضاء: (قضى) القاف والضاد والحرف المعتل أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته قال الله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ[4] أي أحكم خلقهن. والقضاء الحكم. قال الله سبحانه في ذكر من




[1] سورة الطلاق، الآية 7.

[2] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الإعلام الإسلامي، 1404هـ، ج5، ص36.

[3] الراغب الأصفهاني، مفردات غريب القرآن، تحقيق نديم مرعشلي، ط دار الكتاب العربي، مادة "قدر"، ص409.

[4] سورة فصلت، الآية: 12.

121


94

الدرس الحادي عشر: القضاء والقَدَر

  قال: ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ[1] أي أصنع واحكم. ولذلك سُمي القاضي قاضياً لأنه يحكم الأحكام وينفذها[2].

 

 

2- اصطلاحًا:

بعد أن اتَّضَحَ معنى الْقَدر والقضاء من حيث اللُّغة، نَعْمَدُ إلى بيان معناهما حسب المصطلَح الديني:

أ- القَدَر: إنَّ لِوُجود كلّ مخلوقٍ من المخلوقات بحكم كونه من الموجودات الممكنة (أي موصوفاً بصفة الإمكان) حَدّاً معيناً، ومقداراً خاصّاً. فلوجود "الجماد" مثلاً حدّ خاص، ومقدار  معيّن، ولوجود "النبات" و"الحيوان" مقدار وحَدّ آخر.

 

وحيث إنّ الوجود المقدَّر لكلّ شيء هو بدوره مخلوق لله تعالى، لذا فإنّ من الطبيعي أن يكونَ التقديرُ والتحديدُ نفسه تقديراً إلَهياً.

 

كما أنّ هذا التقديرَ من جهة كونه فِعلَ الله يسمّى "التقدير الفِعلي" ومن جهة كون الله يعلم به قبل خَلْقه يُسمّى "التقدير العِلميّ". وفي الحقيقة إن الاعتقاد بالقَدَر، اعتقادٌ بخالقية الله بلحاظ خصوصيات الأشياء.

 

وحيث إنّ هذا التقدير الفعليّ مُستندٌ إلى علم الله الأزليّ، لهذا فإنَّ الاعتقاد بالقَدَر العِلميّ يكون في حقيقته اعتقاداً بعلمِ الله الأزلي.

 

ب- القضاء: إنّ "القضاء" كما أسلفنا يعني الحَتمَ والجَزمَ بوجود الشيء، ومن المُسلَّم أنّ حتمية وجود أيّ شيء وتحقّقه على أساس العليّة والمعلولية رهن تحقّق علّته التامّة، وحيث إنّ سلسلة العلل والمعلولات (وبالأحرى النظام العِلّي) تنتهي إلى الله تعالى، لهذا فإنّ حتمية تحقّق أيّ شيءٍ يستند - في




[1] سورة طه، الآية: 72.

[2] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج5، ص99.

122


95

الدرس الحادي عشر: القضاء والقَدَر

 الحقيقة - إلى قدرةِ الله ومشيئته سبحانه. وهذا هو قضاءُ الله في مقامِ الفعل والخَلق. وعلمُ اللهِ الأزَليّ في مجال هذه الحتميّة يكون قضاءَ الله الذاتيّ.

 

ممّا تقدّم يتبيّن معنا أن القدر متقدّم على القضاء، فإنّ القضاء هو نتيجة ما قدّر، ولكن درج بين العلماء أن يذكروا القضاء قبل القدر لسهولة التلفظ بها لا أكثر.

 

كلُّ ما سَلَف يرتبط بقضاءِ الله وقَدَره التكوينيين، فعليّاً كان أم ذاتياً، وقد يكونُ "القضاء والقدر" مرتبطين بعالم التشريع ومجاله، بمعنى أنّ أصلَ التشريع، والتكليف الإلَهيّ يكون قضاءَ الله، وكذا تكون كيفيته وخصوصيّته كالوجوب، والحرمة، وغير ذلك تقديراً تشريعياً لله تعالى.

 

وعليه يكون معنى القضاء والقدر التشريعي, الأوامر والنواهي الإلهية الواردة في الكتاب والسنّة. وقد ذكّر الإمام أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام في جواب من سَأَل عن حقيقة القضاء بهذه المرحلة من "القضاء والقدر" إذ قال: "الأمرُ بالطاعَة، والنَّهْيُ عَنِ المعصِيَةِ، والتَمْكِينُ مِن فِعْلِ الْحَسَنَةِ، وتركُ المَعْصِيَة، والمعُونَةُ على القُرْبةِ إلَيْه، والخِذْلانُ لِمَنْ عصاهُ، والوَعْدُ والوَعِيْدُ، والتَرْغِيْب والتَرْهِيْبُ كُلُّ ذلكَ قضاءُ الله في أفعالنا وقَدَرُهُ لأعمالنا"[1].

 

هذا ولعلّ اقتصار الإمام أمير المؤمنين عليه السلام - في الإجابةِ على سؤال السائل - على شرحِ "القضاء والقَدَر" التشريعيين، كان رعايةً لحال السائل، أو الحاضرين في ذلك المجلس، لأنّه كان يُستنبطُ مِنَ القضاء والقدر التكوينيين وشمولهما لأفعال الإنسان في ذلك اليوم الجَبْرُ وسلبُ الاختيار.

 

ولهذا ختم الإمام عليه السلام كلامه المذكور بقوله: "أمّا غير ذلك فلا تَظُنَّهُ فَإِنَّ الظّنَّ لَهُ مُحْبِطٌ لِلأعمال"[2]. والمقصود هو أنَّ قيمةَ الأعمال تنبُعُ من كونِ الإنسان




[1] المجلسي، بحار الأنوار، ج5، ص84، ح20.

[2] م.ن.

123


96

الدرس الحادي عشر: القضاء والقَدَر

 مختاراً يأتي بأفعاله باختيارٍ وإرادةٍ منه، ومع فَرضِ الجَبْرِ لا تبقى للأفعالِ أيَّةُ قيمةٍ. والحاصلُ أنّ "القَضاء والقدر" قَد يكونان في مجال التكوين، وقد يكونان في مجال التشريع.

 

القضاء والقدر في الكتاب والسنّة

القضاءُ والقدرُ من العقائد الإسلامية المسلَّمة الّتي وَرَدَت في الكتاب والسُّنة، وأيَّدَتْها الأدلّة والبراهينُ العقليّةُ القاطعةُ.

 

1- الآيات القرآنيّة:

إنّ الآيات التي تَتَحدَّثُ عن "القضاء والقدر" كثيرة جداً ونحن نأتي بنماذج منها هنا:

 

يقول القرآن حول القدر: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ[1].

 

ويقول أيضاً: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ[2].

 

ويقول تعالى: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا[3].

 [4]

كما يقول حول القضاء: ﴿وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ[5].

 

ويقول أيضاً: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً﴾.

 

2- الروايات:

هناك العديد من الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام في مسألة القدر والقضاء، منها ما يحكي عنها من الناحية العقائديّة، ومنها ما يحكي عنها من




[1] سورة القمر، الآية49.

[2] سورة الحجر، الاية 21.

[3] سورة الطلاق، الآية 3.

[4] سورة البقرة، الآية 117. 

[5] سورة الأنعام، الآية2.

124


97

الدرس الحادي عشر: القضاء والقَدَر

 الناحية العباديّة، وهذا طبعًا يرجع للارتباط والانسجام بين الإيمان بالقضاء والقدر عند الإنسان وبين عمله.

 

وفي تفسير القضاء والقدر يقول الإمام الرّضا عليه السلام: "القَدَرُ هي الهَنْدَسَة، وَوَضْعُ الحُدود من البقاء والفَناء. والقضاء هو الإبرامُ، وإقامة العَيْن"[1].

 

عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وأن الضار النافع هو الله عز وجل"[2].

 

وعنه عليه السلام أيضًا أنّه قال لأحد أصحابه: "أو تدري ما " قدر؟، قال: لا. قال: هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء، ثمّ قال: إن الله إذا شاء شيئًا أراده، وإذا أراده قدّره، وإذا قدّره قضاه، وإذا قضاه أمضاه"[3].

 

وعنه عليه السلام أنّه قال: "إن القضاء والقدر خلقان من خلق الله، والله يزيد في الخلق ما يشاء"[4].

 

عن الأصبغ بن نباتة، قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتفرّ من قضاء الله؟ فقال: "أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزّ وجلّ"[5].

 

لقد تبيّن أنّ لعمل الإنسان دخالة في القدر، ويمكن للإنسان أن يتصرّف به حينئذٍ، وهذا - طبعًا - يرجع لحرّية الاختيار التي أولاها الله إليه، أمّا القضاء فهو ما حكم به الله عزّ وجلّ ويكون متأخرًا عن القدر رتبة، ويبتني عليه، وبعبارة أخرى




[1] الكليني، الكافي، ج 1، ص 158.

[2] م.ن، الكافي، ج2، ص58، ح7.

[3] المجلسي، بحار الأنوار، ج5، ص122، ح69.

[4] الصدوق، التوحيد، ص354، باب القضاء والقدر..، ح1.

[5] م.ن، ص 369، بيانه في حديث الشقي من شقي، ح 8.

125


98

الدرس الحادي عشر: القضاء والقَدَر

 الناحية العباديّة، وهذا طبعًا يرجع للارتباط والانسجام بين الإيمان بالقضاء والقدر عند الإنسان وبين عمله.

 

وفي تفسير القضاء والقدر يقول الإمام الرّضا عليه السلام: "القَدَرُ هي الهَنْدَسَة، وَوَضْعُ الحُدود من البقاء والفَناء. والقضاء هو الإبرامُ، وإقامة العَيْن"[1].

 

عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وأن الضار النافع هو الله عز وجل"[2].

 

وعنه عليه السلام أيضًا أنّه قال لأحد أصحابه: "أو تدري ما " قدر؟، قال: لا. قال: هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء، ثمّ قال: إن الله إذا شاء شيئًا أراده، وإذا أراده قدّره، وإذا قدّره قضاه، وإذا قضاه أمضاه"[3].

 

وعنه عليه السلام أنّه قال: "إن القضاء والقدر خلقان من خلق الله، والله يزيد في الخلق ما يشاء"[4].

 

عن الأصبغ بن نباتة، قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتفرّ من قضاء الله؟ فقال: "أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزّ وجلّ"[5].

 

لقد تبيّن أنّ لعمل الإنسان دخالة في القدر، ويمكن للإنسان أن يتصرّف به حينئذٍ، وهذا - طبعًا - يرجع لحرّية الاختيار التي أولاها الله إليه، أمّا القضاء فهو ما حكم به الله عزّ وجلّ ويكون متأخرًا عن القدر رتبة، ويبتني عليه، وبعبارة أخرى




[1] الكليني، الكافي، ج 1، ص 158.

[2] م.ن، الكافي، ج2، ص58، ح7.

[3] المجلسي، بحار الأنوار، ج5، ص122، ح69.

[4] الصدوق، التوحيد، ص354، باب القضاء والقدر..، ح1.

[5] م.ن، ص 369، بيانه في حديث الشقي من شقي، ح 8.

126


99

الدرس الحادي عشر: القضاء والقَدَر

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ سلسلة العلل والمعلولات تنتهي إلى الله تعالى، لهذا فإنّ حتمية تحقّق أيّ شيءٍ يستند إلى قدرةِ الله ومشيئته سبحانه، وهذا هو قضاءُ الله في مقامِ الفعل والخَلق.

 

- القضاءُ والقدرُ من العقائد الإسلاميّة المسلَّمة الّتي وَرَدَت في الكتاب والسُّنة.

 

- إنّ الوجود المقدَّر لكلّ شيء هو بدوره مخلوق لله - تعالى-، لذا فإنّ من الطبيعيّ أن يكونَ التقديرُ والتحديدُ نفسه تقديراً إلَهياً.

 

- التقدير من جهة كونه فِعلَ الله يسمّى "التقدير الفِعليّ" ومن جهة كون الله يعلم به قبل خَلْقه يُسمّى "التقدير العِلميّ".

 

- بالنَظَر إلى الآيات والروايات العديدة لا يُمكنُ لمسلم أن يُنكر "القضاءَ والقدرَ" وإنْ لَم يجب الإلمامُ بتفاصِيل هذه المسألة ومعرفةُ جزئياتِها.

 

- إنّ أصلَ التشريع، والتكليف الإلَهيّ يكون قضاءَ الله، وكذا تكون كيفيته وخصوصيّته كالوجوب، والحرمة، وغير ذلك تقديراً تشريعياً لله تعالى.

 

- لا يَصْلُح الخَوضُ في هذه المسائل الدقيقة لمن لم يمتلك القابلية الذهنيّة والفكريّة اللازمة.

 

أسئلة الدرس

1- ما هو المعنى الاصطلاحي للقضاء والقدر ؟

2- ما الذي يتقدّم رتبة القضاء أم القدر؟ ولماذا؟

3- اذكر آيتين من الآيات التي تحكي عن القضاء والقدر.

127


100

الدرس الحادي عشر: القضاء والقَدَر

 للمطالعة

 

سرّ الله

روي أنّه جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القَدَر، قال عليه السلام: بحر عميق فلا تلجه، قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، قال عليه السلام: طريق مظلم فلا تسلكه، قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، قال عليه السلام: سرّ الله فلا تكلّفه[1] قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أمّا إذا أبيت فإنّي سائلك، أخبرني أكانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد أم كانت العباد قبل رحمة الله؟! قال: فقال له الرجل: بل كانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: قوموا فسلّموا على أخيكم فقد أسلم وقد كان كافراً، قال: وانطلق الرجل غير بعيد، ثمّ انصرف إليه فقال له: يا أمير المؤمنين أبالمشيّة الأولى نقوم ونقعد ونقبض ونبسط؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: وإنّك لبَعْدُ في المشيّة[2] أما إنّي سائلك عن ثلاث لا يجعل الله لك في شيء منها مخرجاً: أخبرني أخلق الله العباد كما شاء أو كما شاؤوا؟ فقال: كما شاء، قال عليه السلام: فخلق الله العباد لما شاء أو لما شاؤوا؟ فقال: لما شاء، قال عليه السلام: يأتونه يوم القيامة كما شاء أو كما شاؤوا؟ قال: يأتونه كما شاء. قال عليه السلام: قم فليس إليك من المشيّة شيء[3],[4].

 




[1] في البحار باب القضاء والقدر: "فلا تتكلفه".

[2] وفي نسخ أخرى: "وإنك لبعيد في المشيئة".

[3] إنّ السائل توهّم أنّ أعمال العباد لو كانت واقعة بقدر الله تعالى لزم الظلم إذا عذّبوا عليها إذ لا محيص لهم عن القدر، كما أنّ هذا التوهّم ألجأ المفوّضة إلى التفويض ونفي القدر فأجاب عليه السلام أنّ أعمال العباد مسبوقة برحمته، مرتبطة بها، مقدّرة بها كسائر الأشياء، فإنّ رحمته وسعت كلّ شيء، فإن كانت مقدّرة بها فلا معنى لأنّ يكون في التقدير ظلم، فالجواب يرجع إلى نفي الملازمة بإثبات ضدّ الظلم في القدر، وحيث إنّه عليه السلام نفى التفويض وأثبت القدر توهّم الجبر فرجع وقال: "أبا لمشيئة الأولى - إلخ" إذ إثبات القدر في الأعمال يستلزم كونها بمشيئته، وهذا من عجيب أمر هذا المبحث إذ نفي أحد الطرفين يجرّ إلى الطرف الآخر والقرار في الوسط يحتاج إلى قريحة لطيفة وفكرة دقيقة، فأثبت عليه السلام للعبد مشيئة ولله تعالى المشيئة إلّا أنّها متقدّمة حاكمة عليها مؤثّرة فيها. وقوله:"فليس إليك من المشيئة شيء" أي ليس شيء من مشيئتك مفوّض إليك من دون تأثير مشيئته، وهذا هو الأمر بين أمرين، وفي نسخة آخرى "فليس إليك في المشيئة شيء" وفي نسخة أخرى "فليس لك من المشيئة شيء" وفي نسخة أخرى"ليس لك في المشيئة شيء".

[4] الصدوق، التوحيد، ص353، ح12.

128


101

الدرس الثاني عشر: القضاء والقدر

 الدرس الثاني عشر: القضاء والقدر (2)

 

 

 

أهداف الدرس:

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن كيف لا يتنافى القضاء والقدر مع الاختيار.

2- يشرح مسألة "لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين".

3- يبيّن عدم التنافي بين علم الله الأزلي وحريّة الإنسان.

129


102

الدرس الثاني عشر: القضاء والقدر

 الحديث عن القضاء والقدر يجرّنا تلقائيًّا إلى الحديث عن اختيارية الإنسان وحرّيّته، وذلك للارتباط الوثيق بينهما، وسوف نتناول هذه المسألة ضمن نقاط أربع:

 

لا تنافي بين القضاء والقدر والاختيار

إنّ "القَضاء والقَدَر" في مجال أفعال الإنسان لا ينافيان اختياره، وما يوصف به من حرّية الإرادة قط، لأنَّ التقديرَ الإلَهيَّ في مجال الإنسان هو فاعليّتُهُ الخاصّة وهو كونه فاعلاً مختاراً مريداً، وأن يكون فعلُهُ وتركُهُ لأيّ عَمَلٍ تحت اختياره وبإرادته.

 

إنّ القضاء الإلَهي في مجال فعلِ الإنسان هو حتميَّتُهُ وتحقُّقهُ القطعيُّ بعد اختيار الإنسان له بإرادته. وبعبارةٍ أُخرى, إنّ خلْقَةَ الإنسان مجبولةٌ على الاختيار، ومزيجةٌ بحرّية الإرادة ومقدّرة بذلك، وإنّ القضاءَ الإلَهيَّ ليس إلاّ هذا، وهو أنَّ الإنسان متى ما أوْجَدَ أسباب وقوعِ فِعْلٍ مّا تمَّ التنفيذ الإلَهيّ من هذا الطريق.

 

إنّ بعض الأشخاص يَعتَبر أن العصيان، ظاهرة ناشئة من التقدير الإلَهيّ، ويتصوَّر أنّ العاصي لا يقدر على اختيار طريق آخر غير ما يسلكهُ، في حين يَرفُضُ العقلُ والوحيُ هذا التصوّرَ لأنّ العقلَ يقضي بأنَّ الإنسان هو الّذي يختار بنفسِهِ مصيرَه وهو كذلك في نظر الشرع أيضاً، أي إنّه حَسْب نظرِ الوَحْيِ يقْدِر انْ يكون إنساناً شاكِراً صالحاً، أو كافراً طالِحاً. ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[1].




[1] سورة الإنسان، الآية 3.

131


103

الدرس الثاني عشر: القضاء والقدر

 وفي عصر الرّسالة كان ثمّت فريق من الوثنيّين يتصوّرون أنّ ضلالَهم ناشئٌ من المَشيئة الإلهيّة. وكانوا يقولون: لَوْ لَمْ يُرِدِ اللهُ أن نكَون مشركين لما كنا مشركين.

 

إنّ القرآن الكريم يروي منطِقَهم وتصوُّرَهم هذا بقوله: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ﴾[1]. ثم يقول في معرض الردّ عليهم: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا[2].

 

وفي الختام نُذَكّر بأنّ سُنَنَ الله الكليّة في عالم الخلق والتي تؤدّي إلى سعادةِ الإنسان تارةً، وإلى شقائه وخُسرانهِ تارة أُخرى، هي من مظاهر "القضاء والقَدَر" الإلَهيّين، وأنّ البشر هو الّذي يختار أحد هذين بنفسه. وقد مرّت الإشارَةُ إلى أُمورٍ في هذا المجال في الأبحاث السابقة المتعلّقة بالإنسان وموقِعِهِ في نظرةِ الإسلام إلى الحياة.

 

الاختيار حقيقة مسلّمة

إنّ اختيار الإنسان، وحريّة إرادته، حقيقة مسلّمةٌ وواضحةٌ، وفي مقدور كلّ أحَدٍ أن يُدركَه، ويقف عليه من طُرُقٍ مختلِفةٍ نشير إليها فيما يأتي:

1- إنّ وجدان كُلّ شخص يشهَد بأنّه قادرٌ ـ في قراراته ـ على أن يختارَ أحدَ الطرفين: الفعلَ أو التركَ، ولو أنّ أحداً تردّد في هذا الإدراك البديهي وجب أن لا يقبل أيَّة حقيقةٍ بديهيةٍ أيضاً.

 

2- إنَّ المدحَ والقدحَ للأشخاص المختلفين في كلّ المجتمعات البشرية الدينيّة وغير الدينيّة، علامةٌ على أَن المادحَ أو القادحَ اعتبر الممدوح، أو المقدوحَ فيه، مختاراً في فعلهِ، وإلاّ لَما كانَ المدحُ والقدح منطقياً، ولا مُبرَّراً.




[1] سورة الأنعام، الآية 148.

[2] سورة الأنعام، الآية 148.

132


104

الدرس الثاني عشر: القضاء والقدر

 3- إذا تَجاهَلنا اختيارَ الإنسان وحرّية إرادته، كان التشريعُ أمْراً لَغواً وغيرَ مفيد أيضاً، لأنّ الإنسان إذا كان مضطراً على سلوك دون اختياره، بحيث لا يمكنه تجاوزه، والخروجَ عنه، لم يكن للأمرِ والنهي والوَعد والوعيد، ولا الثواب والعقاب أيُّ مَعنى.

 

 

4- نَحنُ نرى طوالَ التاريخ البشري أشخاصاً أقدَموا على إصلاح الفردِ، أو المجتمع البشري وبذَلوا جهوداً في هذا السبيل فَحَصَلُوا على نتائجها وثمارها.

 

إنّ مِنَ البَدِيهي أنّ تحقّق هذه النتائج لا يتناسب مع كون الإنسان مجبوراً، لأنّه مع هذا الفَرض تكونُ كلُّ تلك الجهود لاغيةً وغيرَ منتجة. إنَّ هذه الشواهدَ الأربعةَ تؤكّدُ مبدأَ الاختيار، وحرية الإرادة، وتجعله حقيقة لا تقبل الشك والترديد.

 

على أنّنا يجب أن لا نستنتج من مبدأ حرية الإنسان وكونه مختاراً أن الإنسان متروكٌ لحالهِ، وأن إرادته مطلقةُ العنان، وأنّه ليس لله أيّ تأثيرٍ في فعله، لأنّ مثل هذه العقيدة التي تعني التفويض تنافي أصل احتياج الإنسان الدائم إلى الله، كما أنّ ذلك يحدّد دائرةَ القُدرة والخالقية الإلَهيّتين، ويقيّدهما، بل حقيقة الأمر هي على النحو الذي سيأتي بيانهُ في الدرس اللاحق إن شاء الله.

 

لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين

بعد وَفاة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم طُرحَت مسائل خاصّة في المجتمع الإسلامي منها مسألة كيفية صدورِ الفِعل من الإنسان. فقد ذَهَبَ فريق إلى اختيار عقيدةِ الجبر، وقالوا بأنَّ الإنسان فاعلٌ مجبور، مسيَّر. وفي المقابل ذَهَبَ فريقٌ آخر إلى اختيار نظرية مخالفة، وقالوا إنّ الإنسان كائن متروكٌ لحاله، مفوّضٌ إليه، وأنّ أفعاله لا تستند إلى الله مطلقاً.

133


105

الدرس الثاني عشر: القضاء والقدر

 إنّ كلا الفريقين تصوّرا ـ في الحقيقة ـ أنّ الفِعل إمّا أنّه يجب أن يستند إلى الإنسان، أو يستند إلى الله، أي إمّا أن تكون القدرة البشرية لوحدها هي المؤثرة، وإمّا أن تكون القدرةُ الإلهيّة هي المؤثّرةُ، ليس إلاّ. في حين هناك طريق ثالث أرشدنا إليه الأئمة المعصومون. يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "لا جَبْرَ ولا تفويضَ، ولكن أمرٌ بَين الأمرين"[1].

 

يعني أنّ فعل الإنسان في حال كونه مستنداً إلى العبد، مستند إلى الله أيضاً، لأنّ الفعلَ صادرٌ مِن الفاعل، وفي نفس الوقت يكون الفاعلُ وقدرتهُ مخلوقين لله، فكيف يمكن أن ينقطع عن الله تعالى؟ إنّ طريقة أهل البيت: في بيان حقيقة الفعل البشريّ تتطابق تماماً مع ما جاء في القرآن الكريم.

 

فإنّ هذا الكتاب السماوي ربّما نَسَب فِعلا ًـ مع نِسبَتِه وإسناده إلى فاعله إلى الله تعالى أيضاً، يعني أنه يقبل كِلا الإسنادين وكلتا النِسبتين، إذ يقول: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى[2]. والمراد هو أنّ النبيَّ الأكرمَ صلى الله عليه وآله وسلم عندما قام بفعل لم يفعَلْه بنفسه، بل فَعَله بالقُدرةِ الإلهيّة، وعلى هذا الأساس تصحّ كلتا النسبتين.

 

لا تنافي بين علم الله الأزلي وحرّية الإنسان

نحن مع إعتقادنا باختيار الإنسان، وحريّة إرادته، نعتقد أنّ اللهَ كان عالماً بفعلنا من الأوّل، ولا منافاة بين العقيدتين، فإنّ على الذين لا يمكنُهم الجمعُ بين هذين الاعتقادين أنّ يعلموا بأنَّ عِلم الله الأزليّ تعلَّقَ بصُدُور الفِعلِ مِن الإنسان على نحو الاختيار، ومِن الطبيعيّ أن لا يتَنافى مِثلُ هذا العلم مع حريّة الإنسان وكونهِ مختاراً.




[1] الصدوق، التوحيد، ص352، الباب 59 الحديث 8.

[2] سورة الأنفال، الآية 17.

134


106

الدرس الثاني عشر: القضاء والقدر

 وبعبارةٍ أُخرى, إنّ العلم الإلَهيّ كما تعلّق بأصلِ صُدُور الفِعل مِنَ الإنسان تعلّق كذلك بِكيفيّة صُدُور الفِعل عنه (وهو اختيار الإنسان وانتخابه بنفسه).

 

إنّ مثل هذا العِلم الأزَليّ ليس فقط لا يتنافى مع اختيار الإنسان بل يُثبتُ ذلك، ويؤكّدُهُ، لأنّ الفعلَ إذا لم يصدُر من اختيار الإنسان لم يكن علمُ اللهِ آنذاك كاشفاً عن الواقع، لأنّ كاشفيّة العلمِ إنّما تكون إذا تحقّقت على النحو الّذي تعلّق بالشيء. ومن الطبيعيّ أنّ العلمَ الإلَهيّ تعلّق بصدورِ الفِعل البشريِّ على النحو الاختياريّ، يعني أن يقوم الإنسان بهذا العَمَل بصورةٍ حرّة وباختياره وإرادته، ففي هذه الصورة يجب أن يقع الفعل ويتحقّق بهذه الخصوصية، لا على نحو الجبر والاضطرار.

 

مِن هذا البَيان اتّضَحَ عدمُ تنافي إرادة اللهِ الأزليّة مع اختيار الإنسان، وكونه حرّاً في إرادته.

135


107

الدرس الثاني عشر: القضاء والقدر

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ "القَضاء والقَدَر" في مجال أفعال الإنسان لا ينافيان اختياره.

 

- إنّ القضاء الإلَهي في مجال فعلِ الإنسان هو حتميَّتُهُ وتحقُّقهُ القطعيُّ بعد اختيار الإنسان له بإرادته.

 

- إنّ اختيار الإنسان، وحريّة إرادته، حقيقة مسلّمةٌ وواضحةٌ، وفي مقدور كلّ أحَدٍ أن يُدركَه، ويقف عليه من طُرُقٍ مختلِفةٍ.

 

- ذَهَبَ فريق إلى اختيار عقيدةِ الجبر، وقالوا بأنَّ الإنسان فاعلٌ مجبور، مسيَّر، وفي المقابل ذَهَبَ فريقٌ آخر إلى اختيار نظريّة مخالفة، وقالوا إنّ الإنسان كائن متروكٌ لحاله، مفوّضٌ إليه، وأنّ أفعاله لا تستند إلى الله مطلقاً.

 

- مع اعتقادنا باختيار الإنسان، وحريّة إرادته، نعتقد أنّ اللهَ كان عالماً بفعلنا من الأوّل، ولا منافاة بين العقيدتين.

 

- إنّ العلم الإلَهيّ كما تعلّق بأصلِ صُدُور الفِعل مِنَ الإنسان تعلّق كذلك بِكيفيّة صُدُور الفِعل عنه (وهو اختيار الإنسان وانتخابه بنفسه).

 

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- لماذا لا يتنافى القضاء والقدر مع اختيار الإنسان؟ بيّن ذلك؟

2- اشرح المصطلحات التالية: الجبر- التفويض - الاختيار.

3- كيف يمكن الجمع بين القول بعلم الله الأزلي بأفعال الإنسان واختياريّة الإنسان؟

136


108

الدرس الثاني عشر: القضاء والقدر

 للمطالعة

 

التشبيه والجبر

عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليهم السلام، قال: قلت له: يا ابن رسول الله إنّ الناس ينسبوننا إلى القول بالتشبيه والجبر لما روي من الأخبار في ذلك عن آبائك الأئمّة عليهم السلام، فقال: "يا ابن خالد أخبرني عن الأخبار التي رويت عن آبائي الأئمّة عليهم السلام في التشبيه والجبر أكثر أم الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك؟!"، فقلت: بل ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك أكثر، قال: "فليقولوا: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول بالتشبيه والجبر إذاً، فقلت له: إنّهم يقولون: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل من ذلك شيئاً وإنّما روي عليه، قال: فليقولوا في آبائي عليهم السلام: إنّهم لم يقولوا من ذلك شيئاً وإنّما روي عليهم، ثمّ قال عليه السلام: من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر مشرك ونحن منه براء في الدنيا والآخرة، يا ابن خالد إنّما وضع الأخبار عنّا في التشبيه والجبر الغلاة الذين صغّروا عظمة الله، فمن أحبّهم فقد أبغضنا، ومن أبغضهم فقد أحبّنا، ومن والاهم فقد عادانا، ومن عاداهم فقد والانا، ومن وصلهم فقد قطعنا، ومن قطعهم فقد وصلنا، ومن جفاهم فقد برّنا، ومن برّهم فقد جفانا، ومن أكرمهم فقد أهاننا، ومن أهانهم فقد أكرمنا، ومن قَبِلهم فقد ردّنا، ومن ردّهم فقد قبلنا، ومن أحسن إليهم فقد أساء إلينا، ومن أساء إليهم فقد أحسن إلينا، ومن صدّقهم فقد كذّبنا، ومن كذّبهم فقد صدّقنا، ومن أعطاهم فقد حَرَمنا، ومن حرمهم فقد أعطانا، يا ابن خالد من كان من شيعتنا فلا يتّخذنّ منهم وليّاً ولا نصيراً"[1].




[1] الصدوق، التوحيد، ص353، ح12.

137


109

الدرس الثالث عشر: البَداء

 الدرس الثالث عشر: البَداء

 

 

 

أهداف الدرس:

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن معنى البداء.

2- يوضّح أصل إطلاق لفظة البداء في التاريخ الإسلاميّ.

3- يبيّن ما هو أثر الاعتقاد بالبداء.

139


110

الدرس الثالث عشر: البَداء

 مقدمة

إنّ لله تعالى في شأنِ الإنسان نوعين من التقدير:

1- تقدير محتومٌ وقطعيٌّ لا يقبل التغييرَ والتبديلَ مطلقاً.

2- تقديرٌ معلَّقٌ ومشروطٌ وهو يتغيَّر ويَتَبَدّلُ مع فقدان بعضِ الشرائطِ، ويحلُّ محلَّه تقديرٌ آخرٌ.

 

وبالنَّظَر إلى هذا الأصل نُذَكِّرُ بأن الاعتقاد بالبَداء هو أحَدُ الأُصول الاعتقاديّة الإسلاميّة الأصِيْلَة التي اتَّفَقَتْ جميعُ الفِرَقِ الإسلاميّة على الاعتقادِ بها إجمالاً، وإنْ أحجَمَ البعضُ عن استخدام لَفظة "البَداءِ" وهذا الاستيحاش من استعمال لفظة "البَداء" لا يَضُرُّ بالقَضِيّة أيضاً، إذ إنّ المقصود هو بَيان محتوى "البَداء" ومعناه، لا لفظه واسمه.

 

حقيقة البداء

إنّ حقيقةَ "البَداء" تقومُ في الحقيقة على أصلين:

الأوّل: أنّ لله تعالى قدرةً وسلطةً مُطلقةً، فهو قادرٌ على تغيير أيّ تقديرٍ، وإحلالِ تقديرٍ آخر محلَّه متى شاءَ، في حين يعلم سلفاً بكلا التقديرين، ولا سبيل لأيّ تغيير إلى عِلمه قط أيضاً، لأنّ التقديرَ الأوّل لم يكن بحيث يحدُّ من قدرةِ الله أو يَسلُبَ منه القدرةَ، فإنّ قدرة الله تعالى على خلاف ما تعتقِدُهُ اليهود من

141


111

الدرس الثالث عشر: البَداء

 كَونها محدودةً لقولهم: ﴿يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ﴾، قدرةٌ مطلقةٌ، أو كما قال القرآن: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ[1].

 

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ خلاّقية الله وإعمال السُّلطة والقُدرة من جانبهِ تعالى مستمرٌ، وبحكم قوله تعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾[2] فالله تعالى لم يفرغ سبحانه عن أمر الخلقِ، بل عمليّة الخَلق لا تزال متواصِلة ومستمرة.

 

روى الصدوق بإسناده عن الإمام الصادق عليه السلام: أنّه قال في قول الله عزّ وجل: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ لم يعنوا أنّه هكذا، ولكنّهم قالوا قد فرَغَ من الأمر فلا يزيدُ ولا ينقص (أي في العمر والرّزق وغيرهما)، فقال الله جلّ جلالُه تَكذيباً لقولهم: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء[3]. أَلم تسَمع الله عزَّ وجَلَ يقول: ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾[4]،[5].

 

فالعقيدة الإسلاميّة تقومُ على أساس الاعتراف بقدرة الله المطلقة وسلطتهِ التي لا تُحدُّ، وبدوام خلاّقيته واستمرارها، وبأنّ الله تعالى قادر كلّما شاءَ ومتى شاء أن يُغيّر المقدَّرات المرتبطة بالإنسان في مجال العُمرِ والرِزقِ وغيرهما، ويُحلَّ مَحَلَّ ذلك مقدراتٍ أُخرى، وكلا التقديرين موجودان في "أُمّ الكتاب" وفي علم الله سبحانه.

 

الثاني: إنّ إعمالَ القُدرةِ والسُّلطَة من جانبِ الله تعالى، وإقدامَه على إحلال تقديرٍ مكان تقديرٍ آخر لا يتمُّ من دون حكمةٍ ومصلَحةٍ، وإن قسماً من هذا التغيير يرتبط في الحقيقة بِعَمل الإنسان وسلوكه، وإنتخابه، واختياره، وبنمط حياته الصالح أو السيّء، فهو بهذه الأمور يُهيِّىُ أرضيّة التغيير في مصيره.



[1] سورة المائدة، الآية 64.

[2] سورة الرحمن، الآية 29.

[3] سورة المائدة، الآية 64.

[4] سورة الرعد، الآية 39.

[5] الصدوق،التوحيد، ص 167، الباب 25، ح 1.

142


112

الدرس الثالث عشر: البَداء

 وَلْنفترض أنَّ إنساناً لم يراعِ - لا سمح اللهُ - حقوقَ والدَيه، فإن منَ الطبيعيّ أنّ هذا العَمل غير الصالح سيكونُ له تأثيرٌ غير مرغوب في مصيره.

 

فإذا غيَّر من سُلُوكِهِ هذا في النصفِ الآخر من حياتهِ، واهتمَّ بِرعاية حقوقِ والدَيْهِ فإنَّه في هذه الحالة يكون قد هَيَّأ الأرْضيّة لتغيير مصيرِهِ، وصار مشمولاً لقولِهِ تعالى: ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ﴾.

 

وينعكس هذا الّذي ذكرناه إذا انعكسَ الأمر.

 

إنَّ الآيات والرّوايات في هذا المجال كثيرةٌ نذكرُ بعضها هنا:

1- ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ[1].

 

2- ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ[2].

 

3- يروي السيوطيُ في تفسيره "الدرّ المنثور" أنَّ الإمام أمير المؤمنين علياً عليه السلام سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله: ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء﴾. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لأُقِرنَّ عَيْنَك بِتفسيرها ولَأُقِرَنَّ عَين أُمّتي بَعدي بتفسيرها: الصّدَقةُ على وَجهها، وبِرُّ الوالِدَين وَاصطِناعُ المعروف يُحوّلُ الشقاءَ سعادةً ويزيدُ في العُمُر ويقي مصارَع السُّوء"[3].

 

وقالَ الإمام الباقُر عليه السلام: "صِلةُ الأرحام تُزَكّي الأعْمالَ، وتُنمّي الأموالَ، وَتَدْفَعُ البَلوى، وتُيَسِّرُ الحِساب، وَتُنْسِئُ فِي الْأَجَلِ"[4].

 

وبالنَظر إلى هذين الأصلين يتَّضح أن الاعتقاد بالبداء عقيدة إسلاميّة قطعيّة، وأنّ جميع الفرق الإسلامية تعتقد به بغضِّ النظر عن التعبير والتسمِية، واستخدام لفظ "البَداء".




[1] سورة الرعد، الآية 11.

[2] سورة الأعراف، الآية 96.

[3] السيوطي، الدر المنثور، بيروت- لبنان، دار المعرفة للطباعة والنشر، ج 4، ص66. 

[4] الكليني، الكافي، ج2، ص 470، الحديث 13.

143


113

الدرس الثالث عشر: البَداء

 أصل لفظة البداء

وفي الختام نُذَكّرُ بُنقطتين لنعرف لماذا أُطلقت لفظة "البدَاء" على هذه المسألة في الرّوايات فجاء التعبير عن هذه العقيدة الإسلامية بقولهم: "بَدا لله":

 

1- إنّ استخدامَ هذه اللَّفَظة في هذه المسألة جاء تبعاً للنَبيّ الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روى البخاريُ في صحيحه أنّ النبيّ قال في شأن ثلاثة أشخاص: أبرص وأقرع وأعمى: "بدا لله عزَّ وجلّ أن يَبْتَلِيهُمْ..."[1]. ثم ذكر بعد ذلك قصّتهم بصورةٍ مفصَّلةٍ وبيَّن كيف أن اثنين منهم سُلبَت منهما سلامتُهما بسبب كفران النعمة، وأصابَهما ما أصيب به أسلافُهم من الأمراض.

 

2- إنّ هذا النّوع من الاستعمال من باب المشاكلة، والتحدّث بلسان القوم حتى يفقهوا، ويفهموا الموضوع. فقد تعارَفَ في العرف الاجتماعي أنَّه إذا غيَّرَ أحد قراراً قد اتخذه أن يقول بدا لي. وقد تَحدَّث أئمةُ الدين بلسان القوم ليمكنهم تفهيم مخاطبِيهم، وقد استعملوا مثلَ هذه اللفظة في حق الله تعالى.

 

والجدير بالذِّكر أنّ القرآنَ الكريمَ استخدمَ في شأن الله تعالى ألفاظاً وصفات مثل المكر والكيد، والخداع والنسيان، في حين أنّنا نعلم أنّ الله تعالى منزَّهٌ عن مثل هذه الأمور (بِمعانيها ومفاهيمها الرائجة بين البشر) قطعاً ويقيناً، ومع ذلك كرّرَ القرآنُ الكريمُ هذه الصِفات واستعمل الألفاظ في حق الله سبحانه:

 

- ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا[2].

 

- ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا[3].




[1] البخاري، الصحيح، ج 4، ص 171 - 172، باب حديث أعمى وأبرص وأقرع.

[2] سورة الطارق الأيتان15 ـ 16.

[3] سورة النمل، الآية 50.

144


114

الدرس الثالث عشر: البَداء

 - ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ[1].

 

 

- ﴿نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾[2].

 

وعَلى كلّ حالٍ فإنّ لمحقّقي الشيعة حول استعمال لفظ البداء، بالنظر إلى امتناع حصول التغيّر، والتبدّل في علم الله تعالى دراساتٍ وتحقيقاتٍ قَويّةً وشيِّقةً لا مجال لذكرها هنا، ونحن نحيل من يحب الاطّلاعَ عليها إلى الكتب والمؤلّفات التي تتضمن هذه الأبحاث[3].

 

أثر الاعتقاد بالبَداء

لو اعتقد الإنسان أنّ مِنَ الناس من كتب في السعداء فلن تتبدّل حاله ولن يكتب في الأشقياء، ومنهم من كتب في الأشقياء فلن تتبدّل حاله ولن يكتب في السعداء، وجفّ القلم بما جرى لكلّ إنسان، عندئذ لا يتوب العاصي من معصيته، بل يستمرّ في ما هو عليه، لاعتقاده بأنّ الشقاء قد كُتب عليه ولن تتغيّر حاله، ومن الجائز أن يوسوس الشيطان الى العبد المنيب أنّه من السعداء ولن يكتب في الأشقياء وتؤدّي به الوسوسة الى التساهل في الطاعة والعبادة، ولعدم استيعاب بعض المسلمين معاني الآيات والروايات المذكورة في المشيئة، اعتقد بعضهم أنّ الإنسان مجبور على ما يصدر منه، وآخرون على أنّ الأمر كلّه مفوّض للإنسان.




[1] سورة النساء الآية 142.

[2] سورة التوبة، الآية 67.

[3] التوحيد للصدوق، ص 331 ـ 336, تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد ص 24, عدة الاَُصول ج2، ص 29, كتاب الغيبة، ص 262 ـ 264 طبعة النجف.

145


115

الدرس الثالث عشر: البَداء

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ لله تعالى في شأنِ الإنسان نوعين من التقدير:

1- تقدير محتومٌ وقطعيٌّ لا يقبل التغييرَ والتبديلَ مطلقاً.

2- تقديرٌ معلَّقٌ ومشروطٌ وهو يتغيَّر ويَتَبَدّلُ مع فقدان بعضِ الشرائطِ، ويحلُّ محلَّه تقديرٌ آخرٌ.

 

- إنّ حقيقةَ "البَداء" تقومُ على أصلين:

1- إنّ لله تعالى قدرةً وسلطةً مُطلقةً.

2- إنّ الإقدام من جانب الله تعالى على إحلال تقديرٍ مكان تقديرٍ آخر لا يتمُّ من دون حكمةٍ ومصلَحةٍ، وإن قسماً من هذا التغيير يرتبط في الحقيقة بِعَمل الإنسان وسلوكه، وانتخابه، واختياره.

 

- أُطلقت لفظة "البدَاء" على هذه المسألة في الرّوايات فجاء التعبير عن هذه العقيدة الإسلامية بقولهم: "بَدا لله":

1- إنّ استخدامَ هذه اللَّفَظة في هذه المسألة جاء تبعاً للنَبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

2- إنّ هذا النّوع من الاستعمال من باب المشاكلة، والتحدّث بلسان القوم حتى يفقهوا، ويفهموا الموضوع.

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- عرّف المصطلحين التاليين: التقدير المحتوم - التقدير المعلّق.

2- ما هي حقيقة البداء؟ وما هو الربط بين البداء والعلم الإلهي؟

3- ما هو أثر الاعتقاد بالبداء على أفعال وتصرفات الإنسان؟

 


146


116

الدرس الثالث عشر: البَداء

 للمطالعة

البداء

الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد قال: سئل العالم عليه السلام كيف علم الله؟ قال: علم وشاء وأراد وقدر وقضى وأمضى، فأمضى ما قضى، وقضى ما قدَّر، وقدَّر ما أراد، فبعلمه كانت المشيئة، وبمشيئته كانت الإرادة، وبإرادته كان التقدير، وبتقديره كان القضاء، وبقضائه كان الإمضاء، والعلم متقدّم على المشيئة، والمشيئة ثانية، والإرادة ثالثة، والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء.

 

فللّه تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء، وفيما أراد لتقدير الأشياء، فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء، فالعلم في المعلوم قبل كونه، والمشيئة في المنشأ قبل عينه، والإرادة في المراد قبل قيامه، والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عياناً ووقتاً، والقضاء بالإمضاء هو المبرم من المفعولات، ذوات الأجسام المدركات بالحواسّ من ذوي لون وريح ووزن وكيل وما دبَّ ودرج من إنس وجن وطير وسباع وغير ذلك ممّا يدرك بالحواسّ.

 

فللّه تبارك وتعالى فيه البداء ممّا لا عين له، فإذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء، والله يفعل ما يشاء، فبالعلم علم الأشياء قبل كونها، وبالمشيئة عرف صفاتها وحدودها وأنشأها قبل إظهارها، وبالإرادة ميّز أنفسها في ألوانها وصفاتها،وبالتقدير قدَّر أقواتها وعرف أوَّلها وآخرها، وبالقضاء أبان للناس أماكنها ودلَّهم عليها، وبالإمضاء شرح عللها وأبان أمرها وذلك تقدير العزيز العليم[1].




[1] الكليني، الكافي، ج1، ص203، ح16.

147


117

الدرس الرابع عشر: النبوّة (1) ضرورة النبوّة

 الدرس الرابع عشر: النبوّة (1) ضرورة النبوّة

 

 

أهداف الدرس:

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن الدليل العقليّ على ضرورة النبوّة.

2- يشرح الدليل النقليّ على ضرورة النبوّة.

3- يستذكر طرق معرفة النبوّة.

149


118

الدرس الرابع عشر: النبوّة (1) ضرورة النبوّة

 الأدلّة على ضرورةِ النُبوّةِ

تميّز علم الكلام الإسلامي بقدرته على إظهار الأدلة بشقيها العقلية منها والنقلية، ولذلك نجد النقاش في العقائد الإسلامية نقاشًا بنّاءً وشيّقًا، وخاصّة فيما يتعلق بالأصول والأركان، وسوف نطرح هنا بعض الأدلة التي تثبت ضرورة النبوة:

 

1- بعث الرسل للهداية والإرشاد:

لقد اختار اللهُ الحكيم رجالاً صالحين لهدايةِ البَشَرِ وإرشادِهم، وحمّلهم رسالته إلى أفراد النوع الإنساني، وهؤلاء الرجال هُمُ الأنبياء والرُسل الذين بواسطتهم جَرى فيضُ الهداية من جانب الحق تعالى إلى عباده. وهذا الفيضُ المبارك بدأ بالنزول من جانب الله منذ أن تهيّأ البشرُ للاستفادة منه وإلى عصر النبي الأكرمِ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

ويجب أن نعلم بأنَّ دين كلّ نبيٍّ من الأنبياء يُعدّ بالنسبة إلى عصره وأُمّته أكملَ دين، وأتَمَّ شريعة، ولو أنّ هذا الفيض الربانيّ لم يستمرّ لما بلغ البشرُ إلى حدِّ الكمال.

 

وحيث إنّ خَلقَ الإنسان هو من فعل الله "الحكيم" فلا بدّ أن يكون له من هَدَف وغرض، ونظراً إلى أن تركيب الكيان البشري - مضافاً إلى الغرائز التي هي مشتركة بينه وبين الحيوان - ينطوي على العَقل أيضاً، لهذا لا بُدّ أنْ يكونَ لِخَلقه غرض عُقلائيٌّ، وهَدَفٌ مَعْقولٌ.

151


119

الدرس الرابع عشر: النبوّة (1) ضرورة النبوّة

 ومن جانب آخر، فإنّ عَقل الإنسان، وإنْ كان مؤثِّراً ومفيداً في سلوكه طريقَ الكمال، إلاّ أنّه غيرُ كاف لذلك.

 

ولو اكتُفيَ في هداية الإنسان بالعقل وحده لما عَرفَ الإنسان طريقَ الكمال بشكل كامل قط، ونذكر للمثال مسألة الوقوف على قضايا المبدأ والمعاد التي هي من أَهم مسائل الفكر البشري، وقضاياه على مدار التاريخ.

 

فإنّ البشر يريد أن يَعْلَم من أين جاء؟ ولماذا جاءَ؟ وإلى أين يذهب؟ ولكنّ العقلَ لا يقدر وحدَه على إعطاء الإجابات الصحيحة الكافية على كلّ هذه الأسئلة، ويشهد بذلك أنّه رغم كل ما أحرزته البشرية المعاصرة من التقدّم والرقيّ في ميادين العلم لا يزالُ قِسمٌ عظيمٌ من البشريّة وثنيّين.

 

إنّ عجز العَقل والعلم البشريَّين، وقصورهما لا ينحصر في مجال قضايا المبدأ والمعاد، بل الإنسان لم يتمكّن من أن يختار الطريقَ الصحيحَ في كثير من مجالات الحياة أيضاً.

 

إنّ اختلاف الرؤى والنظريّات البشريّة في قضايا الاقتصاد، والأخلاق، والعائلة، وغير ذلك من مناحي الحياة ومجالاتها، خير دليل على قصوره عن الإدراك الصحيح لهذه المسائل، ولهذا ظهرت المدارس المتعارضة.

 

مع أخذ كلّ هذا بنظر الاعتبار يحكم العقلُ الصحيحُ بأنّه لا بدّ - بمقتضى الحكمة الإلهيّة - من بعث وإرسال قادة ربانيّين، ومربّين إلَهيّين، لِيعَلِّمِوا البَشريّة النهجَ الصحيحَ للحياة.

 

إنَّ الّذين يَتصوَّرون أنّ في مقدور "الهدايات العقليّة" أنّ تحلَّ محلّ "الهدايات الإلهيّة السّماويّة" يجب أن يدركوا أمرين:

 

أـ إنّ العَقل والعلم البشريّين قاصران عن المعرفة الكاملة بالإنسان، وبمسيره في صعيد الماضي والمستقبل، في حين يعلم خالقُ البشر - بحكم كون كلّ صانع عارفاً بمصنوعه - بالإنسان، ومحيطٌ بأبعاده، وأسرار وجوده، إحاطةً كاملةً.

152


120

الدرس الرابع عشر: النبوّة (1) ضرورة النبوّة

 ب ـ إنّ الإنسان بمقتضى غريزة حبّ الذات المودَعة في كيانه، يحاول - عِلماً أو جهلاً - أن يُتابعَ منافِعَه الشخصيّة ويهتمّ بها، فيعجز في تخطيطه وبرمجته عن الخروج من دائرة منافعه الفرديّة أو الجماعية بشكلٍ كاملٍ.

 

ولهذا من الطبيعي أن لا تتّسم البرامج البشريّة بالجامعيّة والشموليّة الكاملة، ولكن برامج الأنبياء والمرسلين لكونها من جانب الله العالم، المحيط، الحق، المنزّه، مبرّأةٌ عن مِثل هذه النقيصة.

 

وبملاحظة هاتين النقطتين يمكن القولُ - على وَجه القطع واليقين -: بأنّ البشر ليس في غنىً قط عن الهدايات الإلهيّة، وعن برامج الأنبياء، لا في الماضي، ولا في المستقبل إنما هو في حاجةٍ مستمرةٍ إليها.

 

2- تقوية الأسس التوحيدية:

تعرّفنا سابقًا على الأدلّة الّتي تثبت من طريق العقل ضرورةَ النبوّة، ووُجوب إرسال الرسل الإلَهيّين. والآن ندرس ضرورة إرسال الرسل في ضوء أهدافها المذكورة في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، وإن كانت النظرةُ القرآنيّة إلى هذه المسألة هي نوع من التحليل العقليّ في حقيقته.

 

إنّ القرآن يُلَخّص أهدافَ بعثة الأنبياء في الأمور التالية:

أـ تقوية أُسُسِ التوحيد ومكافحة كلّ نوع من أنواع الانحراف في هذا الصعيد. كما يقول القرآن: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ[1]. يقول الإمام أمير المؤمنين عليٌ عليه السلام حول الهدف من بعث الأنبياء: "ليعلم العبادُ ربّهم إذ جهلوه، وليقرّوا به بعد إذ جحدوه، وليثبتوه بعد إذ أنكروه"[2].




[1] سورة النحل، الآية 36.

[2] نهج البلاغة، الخطبة: 147.

153


121

الدرس الرابع عشر: النبوّة (1) ضرورة النبوّة

 بـ إيقاف الناس على المَعارف والرسالات الإلهيّة وعلى طريق التزكية والتهذيب. كما يقول: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ[1].

 

جـ إقامة القِسط في المجتمعِ البشريّ. كما يقول: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[2]. ومن المُسلَّم أن إقامة القِسط رهنُ معرفة الناس للعدالة في جميع الاَبعاد والمجالات، كما ويتوقف على أن يقوموا بتحقيق ذلك من طريق الحكومة الإلهيّة.

 

د ـ الفَصل في الخُصُومات وحَلّ الخلافات. كما يقول: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ[3]. ومن البديهيّ أنّ اختلافات الناس لا تنحصر في مجال العقائد، بل تشمل شتّى مجالات الحياة المتنوّعة.

 

هـ ـ إتمام الحجّة على العباد. كما يقول: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾[4]. ومن المسلَّم أن لله تعالى في خلق الإنسان هدفاً وغرضاً، وهذا الهدف إنّما يتحقّق عن طريق تنظيم برنامجٍ كامِلٍ لجميع شؤون البشر. وهذا البرنامج يجب أن يصل إلى البشرية، بحيث تَتُمُّ حُجّةُ الله على الناس ولا يبقى عذرٌ لأحدٍ ليقول: أنا لم أعرفِ البرنامجَ الصحيح للحياة.




[1] سورة الجمعة، الآية 2.

[2] سورة الحديد، الآية 25.

[3] سورة البقرة، الآية 213.

[4] سورة النساء، الآية 165.

154


122

الدرس الرابع عشر: النبوّة (1) ضرورة النبوّة

 طُرُق معرفةِ الأنبياء

إنّ فطرةَ البَشر تقضي بأن لا يَقْبَلَ الإنسان أيّ ادّعاءٍ من غير دليل، ومن قَبِل شيئاً أو زعماً من دون دليل، فإنّه يكون قد خالف فطرته الإنسانيّة.

 

إنّ ادّعاءَ النبوّة أعظمُ ادّعاءٍ يمكن أن يطرحه فردٌ من أفراد البشر، ومن البديهي أن زعماً وادعاءً في مثل هذه العظمة يجب أن يستند إلى برهان قاطع، ويُقرَنَ بالدلِيل الساطع.

 

ويمكن أن تكون الأدلّة في هذا المجال أحد أُمورٍ ثلاثة:

الأول: أن يصرّح النبيُ السابقُ الذي ثبتت نبوّتُه بالأدلّة القاطعة، على نبوة النبي اللاحِق كما صَرّح السيدُ المسيح عليه السلام بنبوة النبي محمّد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم وبشّر بمجيئه.

 

الثاني: أنْ تشهَد القرائنُ والشواهد المختلفة على صِدقِ دعواه. وهذه الشواهد والقرائن يمكن تحصيلُها من سيرته في حياته، وفي محتوى دعوته، ومن الشخصيات التي آمنت به، وانضوت تحت لوائه، وكذا في طريقة دعوته، وأُسلوبه في العمل لنشر مبادئه، وتبليغها. وهذه الطريقة هي التي يُستفاد منها في المحاكم في العالم اليوم لتمييز الحق عن الباطل، والبريء عن المجرم. وقد استفاد كثيرون مِن هذه الطريقة ذاتها للتأكّد من صِدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصحّة دعواه النبوة في صدر الإسلام.

 

الثالث: الإتيان بالمعجزة. يعني أن يُقرِنَ مدّعي النبوة دعواه، بعملٍ خارقٍ للعادة ويتحدّى به الآخرين، ويكونَ ذلك العمل الخارق مطابقاً لدعواه.

 

إنّ الطريقين الأوّلين ليسا عامّين في حين يكون الطريق الثالث عامّاً، وقد استفادت البشريّةُ على طول التاريخ من هذا الطريق لمعرفة الأنبياء والإيمان بدعوتهم وكان الأنبياء بدورهم يُقرنون دعواهم للنبوة بذلك، ويستفيدون من هذا الطريق الثالث. وسوف يأتي الحديث عن هذا الطريق في الدرس التالي.

155


123

الدرس الرابع عشر: النبوّة (1) ضرورة النبوّة

 المفاهيم الرئيسة

- اختار اللهُ رجالاً صالحين لهدايةِ البَشَرِ وإرشادِهم، وحمّلهم رسالته إلى أفراد النوع الإنساني، وهؤلاء الرجال هُمُ الأنبياء والرُسل.

 

- لو اكتُفيَ في هداية الإنسان بالعقل وحده لما عَرفَ الإنسان طريقَ الكمال بشكل كامل قط.

 

- إنّ عجز العَقل والعلم البشريَّين، لا ينحصر في مجال قضايا المبدأ والمعاد، بل في كثير من مجالات الحياة أيضاً.

 

- إنّ القرآن يُلَخّص أهدافَ بعثة الأنبياء في الأمور التالية:

1- تقوية أُسُسِ التوحيد ومكافحة كلّ نوع من أنواع الانحراف في هذا الصعيد.

2- إيقاف الناس على المَعارف والرسالات الإلهيّة وعلى طريق التزكية والتهذيب.

3- إقامة القِسط في المجتمعِ البشريّ.

4- الفَصل في الخُصُومات وحَلّ الخلافات.

5- إتمام الحجّة على العباد

 

- طُرُق معرفةِ الأنبياء:

1- أن يصرّح النبيُ السابقُ - الذي ثبتت نبوّتُه بالأدلّة القاطعة - بنبوّة النبي اللاحق.

2- أنْ تشهَد القرائنُ والشواهد المختلفة على صِدقِ دعواه.

3- الإتيان بالمعجزة.

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- ما هو الدليل العقلي على ضرورة بعث الأنبياء؟

2- بماذا يلخص القرآن الكريم أهداف بعث الانبياء؟

3- ما هي الأمور التي من خلالها يمكن إثبات دعوى مدّعي النبوة؟

 

 

156


124

الدرس الرابع عشر: النبوّة (1) ضرورة النبوّة

 للمطالعة

 

طريق إثبات الرسالة

عن هشام بن الحكم، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال للزنديق الذي سأله: من أين أثبت الرسل والأنبياء فقال: "أنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه، ويلامسوه، ويباشرهم ويباشروه، ويحاجهم ويحاجوه، ثبت أن له سفراء في خلقه يعبرون عنه إلى خلقه وعباده، ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم، وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه عز وجل وهم الأنبياء وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبون بالحكمة، مبعوثون بها، غير مشاركين للناس في شيء من أحوالهم، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة، ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان ما أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين، لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم على صدق مقالته وجواز عدالته"[1].




[1] الصدوق، محمّد بن علي، علل الشرائع، بيروت - لبنان، مؤسسة التاريخ العربي، ج1، ص183، ح3.

157


125

الدرس الخامس عشر: النبوّة (2) الوحي والمعجزة

 الدرس الخامس عشر: النبوّة (2) الوحي والمعجزة

 

 

 

أهداف الدرس:

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يشرح كيف أنّ الوحي ليس وليد نبوغ الأنبياء وتفكّرهم الخاص.

2- يبيّن العلاقة المنطقيّة بين المعجزة والنبوّة.

3- يبيّن الفرق بين المعجزة وكلّ من الكرامة والسحر.

159


126

الدرس الخامس عشر: النبوّة (2) الوحي والمعجزة

 الوحي

1- صلة النبيّ بعالم الغيب:

أوْضَحنا في السابق طُرُقَ التعرّفِ على النبيّ الواقعيّ وتمييزه عن مدّعي النبوة كذِباً. والآن يجب أنْ ندرسَ طريقَ اتصال النَبِي بعالمِ الغيب ونعني به "الوحي".

 

إنّ "الوحيَ" الذي هو أهَمُّ طريقٍ من طُرُق اتّصال الأنبياء بعالمِ الغيب ليس ناشئاً عن الغريزة أو العقل بل هو علم خاص يفيضُ به اللهُ تعالى على الأنبياء خاصّة، ليبَلّغُوا الرسالاتِ الإلهيّة إلى البشر. إنّ القرآنَ يصفُ الوحيَ قائلاً: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ[1].

 

إنّ هذه الآية تفيد أنّ معرفةَ الأنبياء بالرّسالات الإلهيّة ليست نابعةً وناشئةً من استخدام أشياء كالحواسّ الظاهريّة وما شابه ذلك، بل ينزل به مَلَك الوحيِ على قلب النبي. وعلى هذا الأساس لا يمكن تحليل حقيقة الوحي المعقّدة وتفسيرها بالمقاييس العادية.

 

وفي الحقيقة إنّ نزول الوَحْي هو أحدُ مظاهر الغيب الّتي يجبُ الإيمان بها وإنْ لم تتضّح لنا حقيقةُ هذه الظاهرة كما يقول: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ[2]؟




[1] سورة الشعراء، الآيتان 193 و 194.

[2] سورة البقرة، الآية 3.

161


127

الدرس الخامس عشر: النبوّة (2) الوحي والمعجزة

 2- الوحي ليس وليد نبوغ الأنبياء وتفكّرهم الخاص:

 

إنّ الّذين يريدونَ مقايسة كلّ شيء، وتفسيرها بالمقاييس الماديّة والأدوات الحِسيّة، ويريدون صَبَّ الحقائق الغيبيّة في قوالب حِسّية يفسرون ظاهرة "الوحي" بصور مختلفة، جميعها باطلة في نظرنا، وفيما يأتي نقدُ هذه التفسيرات والتحليلات في عدة نقاط:

 

أولاً: ثمت فريق يعتبر الأنبياء من نوابغ البشر، ويعتبرون الوحي حصيلة التفكير، ونتيجةً لفعاليات حواسّهم الباطنيّة. إنّ حقيقة "الروح الأمين" في تصور هذا الفريق هي روحُ هؤلاء النوابغ الزكية، ونفوسُهم الصافية النقية، وإنّ الكتب السماويّة كذلك ليست سوى أفكارهم السامية وتصوّراتهم الراقية. إنّ هذا النوع من التفسير والتحليل لظاهرة الوحي ليس سوى الانبهار بالعِلم التجريبيّ الجديد الذي يعتمد الأساليب الحسيّة - لا غير - وسيلةً لتفسير كلِّ حقائقِ الوجودِ. إنّ المشكلة الهامّة في هذه النَظَريّة هي منافاتُها لما قاله الأنبياء والرُسُلُ الإلَهيّون. فالأنبياء والرُسُل يصرِّحون ويعلنُون باستمرار بأنّ ما أتوا به إلى البشر ليس إلاّ الوحي الإلَهيّ.

 

وعلى هذا الأساس يكون التفسيرُ السالفُ للوحي مستلزماً لتكذيب الأنبياء، وهذا ممّا لا يليقُ بمقامِ الأنبياء الرفيع ومنزلِتهم المرموقة، وصدقهم، وصلاحهم الذي أخبر بها التاريخُ الثابتُ. وبعبارةٍ أُخرى: إنّ المصلِحِين على نوعين: مصلحون يَنسبون برامجَهم إلى الله، ومصلحون آخرون يَنسبُون برامجهم إلى أنفسهم، ويَطْرحونها على المجتمع على أنّها وليدةُ عقولِهِم، وأفكارهم. وقد تكون كلتا الطائفتين مخلِصتين، تتسمان بالاِخلاص والخير. وعلى هذا لا يمكن عدّ هذين الصنفين من رِجالِ الإصلاحِ صنفاً واحداً.

162


128

الدرس الخامس عشر: النبوّة (2) الوحي والمعجزة

 ثانياً: ثمّت فريقٌ آخر يعتبر الوحيَ - منطلقاً من نفسِ الدافعِ الذي ذُكر في النظرية المتقدّمة - نتيجةَ تجَلّي الحالات الرُّوحِيّة في النبيّ.

 

إنّ النبيَّ حسب زَعْم هذا الفريق بِسبَبِ إيمانه القويّ باللهِ، وفي ضوءِ عبادَتهِ الكثيرة للهِ يصل إلى درجة يجدُ في ذاتهِ طائفةً من الحقائق العالية ويتصوّر أنّ هذه الحقائق أُفيضت وأُلقيت إليه من عالم الغيب فيما لا يكون لِما توصل إليه من الحقائق المذكورة من منشأٍ سوى نفسه ذاته ليس إلاّ.

 

إنّ أصحاب هذه النظرية يقولون: نحن لا نشُكُّ مطلقاً في صدق الأنبياء بل نعتقد بأنّهم شاهدُوا حقائق عالية، ولكنّ الكلامَ هو في منشأ هذه الحقائق العالية. فالأنبياء يتصوّرون أنّ منشأ هذه الحقائق هو عالم الغيب، الخارج عن هذا العالم المادي، أي أنّ هذه الحقائق قد أُلقيتْ إليهِم من ذلك العالَم، على حين يكون منشأ ذلك أنفسهم، لا غير. إنّ هذه النظرية ليست كلاماً جديداً بل هي في الحقيقة طرحٌ مجدَّدٌ لإحدى النظريّات التي كانت مطروحةً في العَهد الجاهليّ حول الوحي ولكن في لباسٍ جديدٍ.

 

وحاصلُ هذه النظرية, هو أنّ الوحيَ ما هو الاّ حصيلة تخيُّلات الأنبياء، ورجوعهم إلى بواطنهم وتعمّقهم في نفوسهم، وأنّهم بسبب كثرة التفكّر في الله، وعبادته، والتفكّر في إصلاح أُممهم، وأقوامهم تمثّلت هذه الحقائق دفعة أمام عيونهم، فَظَنُّوا أنّها أُلقِيَت إليهم مِن عالَم الغيب - وهذا هو - بشكلٍ من الأشكال وبنحو مّا، نفسُ تصوُّر الجاهليّين حول الوحي إذ قالوا: ﴿أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ[1].

 

إنّ القُرآنَ الكريم ردَّ على هذه النظرية بشدّةٍ وأكَّدَ على أنّ النبيَّ صَدقَ في ادّعائهِ رؤيةَ مَلَكِ الوَحي، فهو لم يخطأ لا في قلبهِ ولا في بصره إذ يقول: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى[2].




[1] سورة يوسف، الآية 44.

[2] سورة النجم، الآية 11.

163


129

الدرس الخامس عشر: النبوّة (2) الوحي والمعجزة

 ويقول: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى[1]. وهذا يعني أنّ النبيّ رأى حقاً (مَلَك الوحي) بعين الرأس وبعين القلب، بعين الظاهِر وبعين الباطن.

 

المعجزة

1- العلاقة المنطقية بين دعوى النبوّة والمعجزة:

إنّ بَينَ المعجزة وبين صدق دعوى النُبوّة علاقةً منطقيّةً، لأنّه إذا كان الآتي بالمعجزة صادقاً في دعواه فإنّ من الطبيعيّ أنْ يُثْبِتَ مطلبَهُ.

 

وإذا كان كاذباً في دعواه النبوة ـ افتراضاً ـ لم يكن لائقاً بالله الحكيم الذي يَهتَمّ بهداية عبادهِ أن يُمكّنَ الكاذبَ في ادّعاء النبوّة من الإتيان بالمعجزة، لأنّ الناس سَيُؤمنون به إذا رأوا قدرته على الإتيان بالعَمَل الخارق للعادة، وسيَعملون بأقوالِهِ فيكونُ ذلِك إضلالاً للناس إذا كان المُدّعي للنبوّة كاذباً، ولا شكّ أنّ هذا يتنافى مع عَدلِ الله وحكمته. وهذه من إحدى فروع قاعدة الحسن والقبح العَقليين التي تمّ بحثها سابقاً.

 

2- الفرق بين المعجزة والكرامة:

إنّ الإتيان بالعَمَل الخارق للعادة الذي يقترن مع دعوى النبوة، ويتّفق مع الادّعاء، يسمى "معجزة". وأمّا إذا صدر العملُ الخارقُ للعادة من عبدٍ للهِ صالحٍ لم يَدَّعِ النبوّةَ سُمّي "كرامة". وممّا يشهد بأنّ عباد الله الصالحين من غير الأنبياء قادرون أيضاً على الإتيان بالاَعمال الخارقة للعادة، نزول مائدة سماويّة على السيدة مريم أُم النبي السيد المسيح عليه السلام وانتقال عرش بلقيس ملكة سبأ في سرعة خاطفة من اليمن إلى فلسطين على يد فردٍ بارزٍ من أنصار النبي سليمان (آصف بن برخيا) وقد أخبرَ القرآنُ الكريم بكلا الحَدَثين إذ قال في شأن مريم: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا




[1] سورة النجم، الآية 17.

164


130

الدرس الخامس عشر: النبوّة (2) الوحي والمعجزة

 الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً[1]. وقال حول حادثة عرش بلقيس أيضاً: ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ[2].

 

3- الفرق بين المعجزة والسِّحر:

إن الفَرق بين المعجزة وبين غيرها من الأعمال الخارقة يتلخّص في الأمور التالية:

أ- عَدَمُ التعلّم في المعجزة: فإنّ الآتي بالمعجزة يقوم بالإتيان بالمعجزة من دون سَبْق تعلّمٍ، في حين يتم الإتيان بالأعمال الخارقة الأُخرى نتيجة سلسلة من التعليمات والتمرينات. فالنبيّ موسى عليه السلام بعد أن انقضت فترةُ شبابه ذَهَب إلى مصر، وفي أثناء الطريق خوطب أن يا موسى ألقِ عصاك فإذا العَصا تتحول إلى ثعبان عظيم، بحيث استوحَشَ موسى لذلك[3].

 

وخُوطب أن أدخِل يَدَك في جَيبك، ولمّا أخرجها فإذا هي تضيء إضاءةً قويةً، تخلب الأبصار[4].

 

ب- عدم إمكان معارضةِ المعجزة: فإنّ المعجزة لكونها تنبُع من قدرة الله المطلقة لا يمكن معارضتها والإتيان بمثلها قط، على حين يمكن معارضة السِّحر والشعوذة، وما شابههما ممّا يفعلُه المرتاضون بمثلها لكونها تنشأ من قدرة البشر المحدودة المتناهية.

 

ج- التحدّي: إنّ الآتي بالمعجزة يتحدّى الآخرين بمعجزته أي يدعوهم إلى معارضته ومقابلته بمثله، في حين لا يفعل السَّحَرة والمرتاضون ذلك، لإمكانِ معارضتهم، ومقابلتهم بمثل ما يأتون به.




[1] سورة آل عمران، الآية 37.

[2] سورة النمل، الآية 40.

[3] لاحظ سورة القصص، الآية 31.

[4] لاحظ سورة القصص،الآية 32.

165


131

الدرس الخامس عشر: النبوّة (2) الوحي والمعجزة

 د- عدم المحدودية: فإنّ معاجزَ الأنبياء ليْست محدودة بنوعٍ أو نوعين بل هي متنوّعة بحيث لا يمكن الإشارة إلى جامع مشتَرك بينها. كإلقاء العصا وانقلابها إلى حَيّةٍ، وإدخال اليد في الجَيب وإِخراجها بيضاءَ تنير مثلاً، ومعجزة إنباعُ الماء، واستخراجه من صخرة بضربةٍ من عصا، ومعجزة تجفيف البحر، وفتح ممراتٍ يابسةٍ عظيمةٍ في قاعِهِ بضربةٍ من عصا على الحجر وغيرها الكثير من المعجزات. إنّنا نقرأ: أنّ النبي عيسى عليه السلام صنع من الطين كهيئة الطير، ثم نَفَخَ فيها الروح فصارت طيوراً حيَّة بإِذنِ الله. كما نقرأ أنّه عليه السلام كان بالمسح بيده على وجوه العميان وأجساد المصابين بالبرص يمنحهم الشفاء، بل ويُحيي الموتى، وينبئ عَمّا ادَّخره الناسُ في بيوتهم إلى غير ذلك من المعاجز العديدة.

 

هـ- وأساساً إنّ الذين يأتون بالمعجزة والكرامة يمتازون عن السَّحَرة الذين يأتون بالخوارق من الأعمال من حيث الهَدَف وكذا من حيث النَفْسِيّات. فالفريقُ الأوَّل يهدفون إلى غايات سامية، وأغراض قيّمة، بينما يهدف الفريق الثاني إلى أهدافٍ دنيويّة. ومن الطبيعي أن يختلف الفريقان على أساس ذلك في النفسيات.

166


132

الدرس الخامس عشر: النبوّة (2) الوحي والمعجزة

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ "الوحيَ" ليس ناشئاً عن الغريزة أو العقل بل هو علم خاص يفيضُ به اللهُ - تعالى- على الأنبياء خاصّة.

 

- إنّ نزول الوَحْي هو أحدُ مظاهر الغيب الّتي يجبُ الإيمان بها وإنْ لم تتضح لنا حقيقةُ هذه الظاهرة كما يقول سبحانه: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾.

 

- إنّ بَينَ المعجزة وبين صدق دعوى النُبوّة علاقةً منطقيّةً.

 

- إنّ الإتيان بالعَمَل الخارق للعادة الذي يقترن مع دعوى النبوة، ويتّفق مع الادّعاء، يسمى "معجزة". وأمّا إذا صدر العملُ الخارقُ للعادة من عبدٍ للهِ صالحٍ لم يَدَّعِ النبوّةَ سُمّي "كرامة".

 

- إن الفَرق بين المعجزة وبين غيرها من الأعمال الخارقة يتلخّص في الأمور التالية: عَدَمُ التعلّم في المعجزة, عدم إمكان معارضةِ المعجزة, التحدّي، عدم المحدوديّة، الهدف.

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- ما هو الردّ على النظريّة القائلة بأن الوحي وليد نبوغ النبي الفكري؟

2- ما هو الفرق بين المعجزة والكرامة؟

3- ما هو الفرق بين المعجزة والسحر؟

167


133

الدرس الخامس عشر: النبوّة (2) الوحي والمعجزة

 للمطالعة

طبقات الأنبياء والرسل والأئمة عليهم السلام

عن هشام بن سالم، ودرست بن أبي منصور، عنه قال: قال الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام: "الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات: فنبيٌّ منبّأ في نفسه لا يعدو غيرها، ونبيٌّ يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة، ولم يبعث إلى أحد وعليه إمامٌ مثل ما كان إبراهيم على لوط عليهما السلام، ونبيٌّ يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك، وقد أُرسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا، كيونس قال الله ليونس: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ[1] قال: يزيدون: ثلاثين ألفاً وعليه إمامٌ، والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمامٌ مثل أُولي العزم وقد كان إبراهيم عليه السلام نبيّاً وليس بإمام حتّى قال الله: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي[2] من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماماً"[3].




[1] سورة الصافات، الآية 147.

[2] سورة البقرة، الآية 124.

[3] الكليني، الكافي، ج1، ص230، ح1.

168


134

الدرس السادس عشر: النبوّة (3) - عصمة الأنبياء عليهم السلام

 الدرس السادس عشر: النبوّة (3) - عصمة الأنبياء عليهم السلام

 

 

 

أهداف الدرس:

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن مراتب العصمة الأربعة.

2- يشرح الآيات الظاهرة في عدم العصمة.

3- يبيّن منشأ العصمة وسببها، وكيف أنّها لا تلازم النبوّة.

169


135

الدرس السادس عشر: النبوّة (3) - عصمة الأنبياء عليهم السلام

 تفسير العصمة

العِصمة لغة: "هي الحفظ والوقاية، لأن عصم تعني: حفظ ووقى"[1]. وتعني بالمصطلح العقائدي: "لطف يفعله الله تعالى بالمكلف، بحيث تمنع منه وقوع المعصية وترك الطاعة، مع قدرته عليهما"[2]. وقال المحقق الجرجاني في كتاب التعريفات: "العصمة ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها"[3].

 

وردت لفظة العصمة في القرآن الكريم بجميع مشتقاتها المختلفة ثلاث عشرة مرة، والعصمة كما مرّ آنفاً مشتقة من "عصم" وتعني:

1- الإمساك والمنع: ونجد في القرآن الكريم مفهوم العصمة بنفس معناه اللغوي، فعلى سبيل المثال:

حينما يدعو الله تعالى الناس إلى الإيمان، يأمرهم بالاعتصام بحبل الله، يستعمل كلمة "العصمة"، فيقول: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ[4].

 

وفي موقف النبيّ يوسف عليه السلام وامتناعه عن الاستجابة والامتثال لدعوة امرأة العزيز ومراودتها إياه يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ[5].




[1] المصباح المنير، ص417، مادة "عصم".

[2]  المفيد، النكت الاعتقادية، تحقيق: رضا المختاري، بيروت - لبنان، دار المفيد، 1414هـ-1993م، ص37.

[3] التعريفات: 65، الطبعة الأولى، طهران.

[4] سورة آل عمران، الآية 103.

[5] سورة يوسف، الآية 32.

171


136

الدرس السادس عشر: النبوّة (3) - عصمة الأنبياء عليهم السلام

 ومن الملاحظ أنه استعملت لفظة "العصمة" في الآية الأولى في الإمساك والتحفظ، وفي الثانية في المنع والامتناع، وكلاهما يرجعان إلى معنى واحد.

 

2- وأحيانًا يطلق لفظ العصمة على الشيء الذي يمتلك خاصيّة الوقاية، ويمنع الانسان من الوقوع في ما يكره، ومن هذا المنطلق أطلق هذا المصطلح على قمم الجبال.

 

3- ونجد أيضًا أن العرب أطلقوا على الحبل الذي يشدّ الرحلَ أو الحمل "العصام" لأنه وبواسطة هذا الحبل يحفظ من السقوط والتبعثر.

 

مراتب العصمة

للعصمة في باب النبوّة مراتب هي:

1- العصمة في تلقي الوحي وتبليغه:

وعصمة الأنبياء عليهم السلام في المرحلة الأولى موضعُ اتّفاق الجميع، لأنّ احتمالَ الخطأ والالتباس في هذه المرحلة يؤثر على وثوق الناس، واطمئنانِهم، ويوجب أن لا يعتمدَ الناسُ على إخبارات النبي وأقواله، فينتقضُ هدفُ النبوّةِ في المآل.

 

هذا مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ الله يحفظُ نبيَّه، ويصونهُ صيانةً كاملةً حتى يبلّغ الوحيَ الإلَهيَّ بصورةٍ صحيحةٍ كما قال: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا[1].

 

ففي هذه الآية ذكَرَ القرآن الكريم نوعين من الحَفَظَة لصيانة الوحي:

أ- الملائكة الذين يحيطون بالنبيّ من كلّ ناحيةٍ وجانبٍ.

ب- إنّ الله تعالى نفسه يحيط بالملائكة والنبيّ.




[1] سورة الجن، الآيات 26 - 28.

172


137

الدرس السادس عشر: النبوّة (3) - عصمة الأنبياء عليهم السلام

 وهذه النظارة الشديدة والمراقَبَة الكاملة انّما هي لتحقيق غرض النبوّة، وهو إيصال الوحي الإلَهيّ إلى البشر.

 

2- عصمة الأنبياء من كلّ معصية وذنب:

إنّ أنبياء الله ورُسُلَه عليهم السلام معصومون من الذنب والزلل، في مجال العمل بأحكامِ الشريعةِ، عصمةً مطلقةً, لأنّ الهدف من بعثة الأنبياء إنّما يتحقّق أساساً إذا تمتّع الأنبياء والرُّسُل بمثل هذه العصمة، لأنّهم إذا لم يلتزموا بالأحكام الإلهيّة التي كُلِّفُوا بإِبلاغها إلى الناس، انتفى الوثوق بكلامهم، فلم يتحقّق الغرضُ المنشودُ من بعثِهم، وإرسالهم.

 

ولقد أشارَ المحققُ الطوسيُّ إلى هذا البرهان بعبارةٍ موجَزَة حيث قال: "ويجب في النبيّ العصمةُ ليحصلَ الوثوقُ فيحصل الغرضُ"[1].

 

إنّ عصمة الأنبياء عن المعصية أمر قد أكّده القرآنُ الكريمُ في آيات مختلفة نورد هنا بعضها:

أ- إنّ القرآن الكريم يعتبر الأنبياء أشخاصاً مهدِيّين ومختارين من قِبل الله تعالى إذ قال: ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[2].

 

ب- إنَّ القرآنَ الكريمَ يذكِّر بأنّ الذي يهديه الله لا يقدر أحد على إضلاله إذ يقول: ﴿وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ[3].

 

ج- يعتبر المعصية ضَلالاً إذ يقول: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا[4].

 

فيستفاد من مجموعة هذه الآيات أنّ الأنبياء معصومون من كلّ أنواع الضلال، ومصونون من كلّ ألوان المعصية.




[1]  الحلي، كشف المراد، تعليق: الشيخ جعفر السبحاني، ص 217.

[2] سورة الأنعام، الآية 87.

[3] سورة الزمر، الآية 37.

[4]  سورة يس، الآية 62.

173


138

الدرس السادس عشر: النبوّة (3) - عصمة الأنبياء عليهم السلام

 إنّ البُرهانَ العَقليّ الذي أقمناه فيما سبق على عِصمة الأنبياء يدلّ على عصمتهم قبل البعثة أيضاً، لأنّ الإنسان الذي صَرَفَ رَدْحاً من عمره في الذنب والمعصية، ثم حَمَلَ لواءَ الهداية والإرشاد لم يتمكّن من الحصول على ثقة النّاس به، وسكونهم إلى أقواله، بخلاف من عاش قَبلَ بعثته نقيَّ الجيب، طاهِرَ الذَيل، فإنّه قادرٌ على جَلب ثقة الناس، وكسب تأييدهم له.

 

هذا مضافاً إلى أنّ في مقدور معارضي الرسالة، أن يغتالوا بسهولة شخصيّة الرّسول، ويطعنوا فيه بالتلويح بسوابقه قبلَ النبوّة، ويحطُّوا ـبذلك من شأنه، وشأن رسالته.

 

إنّ الذي استطاع بفضل العيش بطهر ونقاء، في بيئةٍ فاسدةٍ أن يكتسب لقب "محمّد الأمين" هو الشخص الوحيد الذي يستطيع بشخصيّتهِ الساطعة النقيّة، أن يُبدّد حُجُب الدعايات المضادة، ويفنّد مزاعم أعدائه، ومعارضي رسالته، ويضيء باستقامته العجيبة، البيئةَ الجاهليةَ المظلمة تدريجاً.

 

هذا مضافاً إلى أنّ من البديهيّ أنّ الإنسان الذي كان معصوماً من بداية حياته، أفضلُ من الذي تحلّى بصفة العصمة منذ أن صار نَبيّاً، كما أنّ تأثيرَه، ودوره الإرشاديّ لا ريب يكون أقوى، والحكمة الإلهيّة تقتضي اختيار الفَردِ الأحسن الأكمل.

 

3- عصمة الأنبياء عن الخطأ والزلل:

إنَّ الأنبياء - مضافاً إلى كونهم معصومين من الذَّنْب - معصومون كذلك في الأمور التالية:

أ- في القضاء في المنازعات والفصل في الخصومات.

ب- في تشخيص موضوعات الأحكام الشرعية (مثل أنّ المائع الفلانيّ هل هو خمرٌ أم لا؟)

ج- في القضايا اليوميّة العاديّة.

174


139

الدرس السادس عشر: النبوّة (3) - عصمة الأنبياء عليهم السلام

 إنّ لزوم وصف النبيّ بالعصمة في الموارد المذكورة نابعٌ من أنّ الخطأ في مثل هذه المجالات ملازمٌ للخطأ في مجال الأحكام الدينيّة، وبالتالي فإنّ الخطأ في هذه الأمور والمجالات يَضُرُّ بثقةِ النّاس بشخص النبيّ، ويُوجب في المآل تَعَرُّضَ الغَرَض المنشُود للخَطَر، وإن كان لُزوم العصمة في الصورتين الأوُلَيَين، أوضح من العصمة في الصورة الأخيرة.

 

4- الأنبياء منزّهون عن العيوب الجسمية والروحية:

من مراتب العصمة أن لا تكون في وجود الأنبياء أُمور توجب تنفّرَ النّاس وابتعادهم عنهم. فكلُّنا يعلم بأنّ بعضَ الأمراض والعاهات الجسمية، أو بعض الخصال الروحيّة، التي تنم عن دناءة الطبع، وخِسّة النفس توجب تنفّرَ النّاسِ وابتعادهم عنه.

 

ولهذا فإنّ على الأنبياء أنّ يكونوا مُنَزَّهين عن العيوب الجسميّة والروحيّة، لأنّ تَنَفّرَ النّاس من النبيّ، واجتنابَهم عنه ينافي الهدف من بعثهم، وهو إبلاغ الرسالات الإلهيّة بواسطة الأنبياء إلى الناس.

 

كما أنّنا نُذَكِّرُ بأنَّ المراد من حكمِ العقل في هذا المجال هو الكشف عن حقيقة، هي أنّ على الله ـ لكونه حكيماً ـ أنّ يختارَ للنبوّة من يكون عارياً ومنزَّهاً عن مِثل هذه العيوب[1].




[1] إنّ حكمَ العقل في هذا المجال حكمٌ قَطعيٌّ، ولهذا فإنّ بعضَ الروايات التي وَرَدت حول النبي أيوب وهي تحكي عن ابتلائه بأمراض منفِّرة، مضافاً إلى كونها مخالفةً للحكمِ القَطعيِّ للعقل تنافي الرواياتِ المعارضة التي وَرَدَت عن أهل البيت في هذا المجال.فقد قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ أيوب مع جميع ما ابتُلي به لم تنتنْ له رائحةٌ، ولا قَبُحَتْ له صورةٌ، ولا خرجَتْ منه مَدّةٌ من دَمٍ، ولا قيحٍ، ولا استَقْذرَهُ أحَدٌ رآه، ولا استوحش منه أحدٌ شاهدَه ولا دوّد شيءٌ من جَسَدهِ، وهكذا يصنعُ الله عزّ وجلّ بجميع من يبتليه من أنبيائه، وأوليائه المكرَّمين عليه، وإنما اجتنَبَهُ الناسُ لِفَقره، وضَعْفِهِ في ظاهِرِ أمرهِ، لجَهْلهم بما لَهُ عند ربّه تعالى ذكْرُهُ، من التأييد والفَرَج".
(الخصال، الصدوق، ج 1، أبواب السبعة، الحديث 107) ولهذا فإنّ الروايةَ المخالفةَ لهذا الموضوع، لا أساس لها من الصحة فهي مرفوضة.

175


140

الدرس السادس عشر: النبوّة (3) - عصمة الأنبياء عليهم السلام

 منشأ العصمة

يطرح عند الحديث عن عصمة الأنبياء السؤال التالي:

ما هي الخاصيّة التي يمتلكها الأنبياء ويتميّزون بها عن غيرهم حتى تؤدي بهم أن يكونوا معصومين عن الخطايا والذنوب؟ وفي معرض الإجابة عن هذا السؤال يمكن أن نقول أنّ منشأ العصمة وسببها في أمرين:

 

الأول: إنّ الأنبياء حيث إنّهم يتمتعون بمعرفةٍ واسعةٍ بالله سبحانه، لا يَستبدلون رضاه تعالى بشيءٍ مطلقاً. وبِعبارةٍ أُخرى, إنّ إدراكهم العميق للعظمة الإلهيّة وللجمالِ والكمال الإلَهيّين يمنعهم من التوجّه إلى أيّ شيءٍ غير الحقّ تعالى، والتفكير في أيّ شيء غير الله سبحانه.

 

إنّ هذه المرتَبَة والدَّرَجة من المعرفة هي التي قال عنها الإمام أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام: "ما رَأَيتُ شَيئاً إلاّ وَرَأَيْتُ اللهَ قبْلَهُ، وبَعْدَهُ ومَعَهُ"[1]. وقال عنها الإمام الصادقُ عليه السلام: "وَلكنِّي أعْبُدُهُ حُبّاً لَهُ فتلكَ عِبادةُ الكِرامِ"[2].

 

الثاني: إنّ اطّلاع الأنبياء الكامل على نتائج الطاعة وثمارها، وعلى آثار المعصية وتبعاتها السَّيئة، هو سبب صيانتهم عن مخالفة الأمر الإلَهيّ.

 

على أنّ العصمة المطلقة مختصّة بثلَّة خاصّة من أولياء الله، إلاّ أنّ في إمكان بعض المؤمنين الأتقياء أنْ يكونوا معصومين عن ارتكاب المعصية في قسم عظيمٍ من أفعالهم، فالفَرد المتّقي مثلاً، لا يُقدم على الإنتحار، أو قتل الأبرياء أبداً[3].




[1]  المجلسي، بحار الأنوار، ج70، ص22.

[2]  م.ن، 70ج،ص 18 ضمن الحديث 9.

[3] قالَ الإمام عليُّ بن أبي طالب عليه السلام عن هذا الفريق: "هُم والجَنّةُ كَمَنْ قَدْ رآها فَهُمْ فيها مُنَعَّمون، وَهُمْ والنّارُ كَمَنْ قد رَآها فَهُمْ فيها مُعَذَّبُون" نهج البلاغة، الخطبة رقم 193 الموجّهة إلى همّام.

176


141

الدرس السادس عشر: النبوّة (3) - عصمة الأنبياء عليهم السلام

 ومن البَيّن أنّ العصمة في هذه الموارد ناشئ من العِلم القطعيّ بآثار هذه الأعمال السيئة. فإذا كان مثل هذا العِلم حاصلاً للشخص في مجال تبعات الذنوب الخطيرة جداً أيضاً، كان ذلك موجباً حتماً لصيانة الشخص عن المعصية، وهذا ما يتميّز به الأنبياء وخاصة الأولياء عن الآخرين.

 

لا تنافي بين العصمة والاختيار

نَظَراً لمَنشأ العصمة نُذَكّر بأنّ العصمة لا تنافي اختيار المعصوم، وكونه حرّاً في إرادته، بل إنّ الشخصَ المعصومَ مع مَعرفته الكاملة بالله، وبآثار الطاعة والمعصية ونتائجهما، يمكنه أن يرتكب المعصية وإنْ لم يستخدم هذه القدرة، مثل الوالد الحنون الذي يقدر على قتل ابنه، ولكنّه لا يفعل ذلك أبَداً.

 

وأوضحُ من ذلك هو عدمُ صدور القبيح من الله تعالى، فإنَّ الله القادرَ المطلَق يمكنه أن يُدخلَ الصالحين المطيعين في جهنم، أو يُدخِل العاصِين في الجنة، إلاّ أنّ عدلَه وحكمته يمنعان من القيام بمثل هذا العمل. ومِن هذا البيان يتضح أَنَّ تركَ المعصية والتزام الطاعة، والعبادة، يُعتبران مفخرة كبرى للأنبياء، لأنّهم مع كونهم قادرين على ترك الطاعة، وفعل المعصية، لا يفعلون ذلك اختياراً، وبإرادةٍ منهم.

 

العصمة لا تلازم النبوّة

نحن مع اعتقادنا بعصمة جميع الأنبياء لا نرى أنّ العصمة تلازم النبوّة، أي أنّنا لا نرى أنّ كلَّ معصومٍ هو نبيٌّ بالضرورةِ كالسيدة الزهراء عليها السلام، وإنْ كان كلّ نبيٍّ معصوماً بالضرورة، فربّ إنسان معصومٌ ولكنّه ليس بِنبيّ، فها هو القرآنُ الكريم يقول حول السيدة مريم: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ[1].




[1] سورة آل عمران، الآية 42.

177


142

الدرس السادس عشر: النبوّة (3) - عصمة الأنبياء عليهم السلام

 إنّ استخدامَ القرآن الكريم للفظة "الاصطفاء" في شأن السيّدة مريم عليها السلام، يَدلُّ على عِصمتها لأنّ نفسَ هذه اللَّفظة "الاصطفاء" استخدمت في شأن الأنبياء سلامُ الله عليهم أيضاً: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾[1]. هذا مضافاً إلى أنّ الآية قد تحدَّثتْ حول طهارة السيدة مريم عليها السلام، والمقصود هو طهارتها من أيّ نوع من أنواع الرجْس، والمعصية، وليست هذه الطهارة والبراءة هو براءتها من الذنب الذي رَمَتْها اليهودُ به في مجال ولادة عيسى منها من دون والدٍ، لأنّ تبرئة مريم من هذه المعصية ثبتت في الأيّام الأولى لولادة النبيّ عيسى عليه السلام بتكلُّمه[2]، فلم يعد هناك حاجة إلى بيان ذلك مجدّداً.

 

أضف إلى ذلك أنّ الآية تتحدّث عن مريم قبل ان تحمل بالمسيح، حيث جاء حديث حملها له عبر هذه الآية فلاحظ.




[1] سورة آل عمران، الآية 33.

[2]  ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ، سورة مريم، الآية 29.

178


143

الدرس السادس عشر: النبوّة (3) - عصمة الأنبياء عليهم السلام

 المفاهيم الرئيسة

- العِصمة لغة: "هي الحفظ والوقاية، لأن عصم تعني: حفظ ووقى".

 

- للعصمة في باب النبوّة مراتب هي:

1- العصمة في مرحلة تلقّي الوحي وتبليغه.

2- العصمة عن المعصية والذنب.

3- العصمة عن الخطأ في الأمور الفرديّة والاجتماعيّة.

4- عدم إصابتهم بالأمراض المنفّرة.

 

- يمكن انّ نلَخّص منشأ العصمة وسببها في أمرين:

الأول: إنّ إدراك الأنبياء العميق للعظمة الإلهيّة وللجمالِ والكمال الإلَهيّين يمنعهم من التوجّه إلى أيّ شيءٍ غير الحقّ - تعالى -، والتفكير في أيّ شيء غير الله سبحانه.

الثاني: إنّ اطّلاع الأنبياء الكامل على نتائج الطاعة وثمارها، وعلى آثار المعصية وتبعاتها السَّيئة، هو سبب صيانتهم عن مخالفة الأمر الإلَهيّ.

 

- مع اعتقادنا بعصمة جميع الأنبياء لا نرى أنّ العصمة تلازم النبوّة، أي أنّنا لا نرى أنّ كلَّ معصومٍ هو نبيٌّ بالضرورةِ، وإنْ كان كلّ نبيٍّ معصوماً بالضرورة.

 

 

 

 

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- ما هي مراتب العصمة الأربعة؟ اذكرها وأوضحها.

2- ما هي الخاصيّة التي يمتلكها الأنبياء والتي تؤدّي بهم الى العصمة؟

3- هل هناك تنافٍ بين العصمة والاختيار؟ بيّن ذلك.

179


144

الدرس السادس عشر: النبوّة (3) - عصمة الأنبياء عليهم السلام

 للمطالعة

 

عصمة الأنبياء

اختلف الناس في الأنبياء عليهم السلام فقالت الشيعة الإمامية لا يجوز عليهم شيء من المعاصي والذنوب كبيراً كان أو صغيراً لا قبل النبوة ولا بعدها. وجوّز أصحاب الحديث والحشوية على الأنبياء الكبائر قبل النبوة ومنهم من جوّز ذلك في حال النبوة بشرط الاستتار دون الإعلان، ومنهم من جوّز على الأحوال كلها.

 

ومنعت المعتزلة من وقوع الكبائر والصغائر المستخفة من الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة وفي حالها وجوّزت في الحالين وقوع ما لا يستخف من الصغائر ثم اختلفوا، فمنهم من جوّز على النبي الإقدام على المعصية الصغيرة على سبيل العمد، ومنهم من منع ذلك وقال إنهم لا يقدمون على الذنوب التي يعلمونها ذنوباً بل على سبيل التأويل.

 

وحكي عن النظام وجعفر بن مبشر وجماعة ممن تبعهما إن ذنوبهم لا تكون إلا على سبيل السهو والغفلة وإنهم مؤاخذون بذلك وإن كان موضوعاً عن أممهم لقوة معرفتهم وعلو مرتبتهم. ثم قال واعلم أن الخلاف بيننا وبين المعتزلة في تجويزهم الصغائر على الأنبياء عليهم السلام يكاد يسقط عند التحقيق لأنهم إنما يجوّزون من الذنوب ما لا يستقر له استحقاق عقاب وإنما يكون حظه تنقيص الثواب على اختلافهم أيضاً في ذلك لأن أبا علي الجبائي يقول إن الصغير يسقط عقابه بغير موازنة فكأنهم معترفون بأنه لا يقع منهم ما يستحقون به الذم والعقاب.

 

وهذه موافقة للشيعة في المعنى لأن الشيعة إنما تنفي عن الأنبياء عليهم السلام جميع المعاصي من حيث كان كل شيء منها يستحق به فاعله الذم والعقاب لأن الإحباط باطل عندهم وإذا بطل الإحباط فلا معصية[1].

 




[1] المرتضى، تنزيه الأنبياء، بيروت- لبنان، دار الأضواء، 1409هـ- 1989م، ط2، ص17.

180


145

الدرس السابع عشر: النبوّة (4) طرق إثبات نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 الدرس السابع عشر: النبوّة (4) طرق إثبات نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يذكر طرق إثبات نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.

2- يشرح بعض معاجز النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

3- يبيّن القرائن والشواهد على نبوّة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

181


146

الدرس السابع عشر: النبوّة (4) طرق إثبات نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 تحدَّثْنا سابقًا حول النبوّة بصورةٍ عامةٍ، وفي هذا الدرس نتحدَّث حول نبوّةِ رسولِ الإسلام "محمّد بن عبد الله" صلى الله عليه وآله وسلم خاصّة، وقبل ذلك نُذكّرُ بأنَّ النبوّة يمكن أنّ تثبت لشخصٍ بثلاثة طرق:

1- الإتيان بالمعجزة مقروناً بادّعاء النبوّة.

2- جمع القرائن والشواهد التي تشهد بصدق دعواه.

3- تصديق النبي السابق.

 

إنّ نبوّة رسولِ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم يمكن أن تثبت بجميع الطُرُق الثلاثة المذكورة، وها نحن نذكرها بصورة مختصرة:

الطريق الأول: المعجزة

يمكن أن نقسّم معاجز النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى قسمين:

الأول: المعاجز العامّة.

الثاني: معجزة القرآن الكريم، وسوف نفرد لذلك درسًا مستقلًا وهو الدرس التالي.

 

إنّ معاجز رسولِ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم كما أسلفنا لا تنحصر في القرآن الكريم، بل إنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان ربما قام بإتيان بعض المعجزات في مناسباتٍ مختلفة بهدف إقناع الناس.

183


147

الدرس السابع عشر: النبوّة (4) طرق إثبات نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 وفي هذا الصعيد يجب التذكيرُ بأن ثمّت محاسبةً عقليّةً تثبت أساساً وجودَ معاجزَ لرسولِ الإسلام عدا القرآنِ الكريم. فالنبيُّ الأكرمُ صلى الله عليه وآله وسلم تحدّث عن معاجز للنبيّ موسى عليه السلام وعن معاجز للنبيّ عيسى عليه السلام.

 

فهل يمكن أنْ نقبل بأنْ يكون رسولُ الإسلام أعلى وأفضل من الأنبياء السابقين، وخاتمهم، وأنّه أثبتَ معاجز عديدة للأنبياء السابقين، ومع ذلك لا تكون له إلاّ معجزة واحدة؟ترى أما كانَ الناسُ ـ وهم يَسمعون بصُدُور كل تلك المعجزات عن الأنبياء السابقين ـ يتمنّون صدورَ معاجز مختلفة ومتنوّعة على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يكتفون برؤية معجزةٍ واحدةٍ فقط؟!

 

وكيف لا تكون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معاجز سوى "القرآن الكريم" وهذا هو القرآنُ نفسُه يثبت صدور معاجز متعددة على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نشير إليها فيما يأتي:

 

1- شَقّ القَمَر: عندما اشترط المشركون إيمانهم برسول اللهِ ودعوته بشقّ القَمَر نصفين، قام النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بذلك بإذن الله تعالى، كما يقول القرآن الكريم: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ[1]. إنّ ذيلَ هذه الآية شاهدٌ واضحٌ على أنّ المقصود من الآية ليس هو انشقاق القمر في يوم القيامة بل يرتبط بعصر النبيّ الأكرمِ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

2- المعراج: إنّ عروجَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة واحدةٍ من المسجد الحرام في مكة المكرَّمة إلى المسجد الاَقصى في فلسطين، ومنه إلى السَّماء، وقد تمّت هذه الرحلة في مُدّةٍ قصيرةٍ جداً، يُعتَبَرُ هو الآخر من معاجز رسول الإسلام التي ذُكِرتْ في القرآن الكريم[2]. على أنّ قُدرة الله أقوى وأسمى من أن تحول العواملُ الماديةُ والطبيعيةُ دون تحقّق معراج نبيه الكريم إلى العالَم الأعلى، ووقوعه.




[1] سورة القمر، الآيتان 1 و 2.

[2] انظر سورة الإسراء الآية 1.

184


148

الدرس السابع عشر: النبوّة (4) طرق إثبات نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 3- الإخبار عن الغيب: قلنا عند الحديث عن الإخبار بالغَيب أن السيدَ المسيحَ عليه السلام كان يخبر عن الغيب[1] وقد أخبر النبيُّ الأكرمُ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم عن الغيب عن طريقِ الوحي كذلك، ومن إخباراته: الإخبار بغَلَبة الروم على الفرس[2] وبفتح مكة[3].

 

 

إنّ هذه المعاجز هي التي ذَكَرَها القرآن الكريم، وأمّا ما ذكرهُ المؤرّخون والمحدّثون المسلمون من معاجز أُخرى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيفوق ما جاء ذكرُه في القرآنِ الكريمِ، وهي وإنْ لم تكن في الأغلب ـ متواترة إلاّ أنّه يتمتع مجموعُها بتواترٍ إجماليٍّ.

 

الطريق الثاني: القرائن والشواهد على نبُوّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

إنّ جمع القرائن والشَّواهد - كما أسلفنا- يمكن أنْ تكون من الطُرُق الكفيلة بإثبات صدق دعوى الأنبياء، وها نحن نشير باختصار إلى القرائن الدّالة على صحَّة دعوى النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:

 

1- النبيٌّ الأكرم وسوابقُهُ المشرِقةُ:

كانت قريش تُسمّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل بعثه بالرسالة "محمّد الأمين" وتودع عنده أماناتِها الثمينة، وتستأمنه على أشيائها القيّمة. وعندما حصل خلافٌ بين أربعة قبائل في وضع "الحَجَرِ الأسودِ" في موضعه بعد تجديد بناء الكعبة، رضي الجميعُ بأن يقومَ عزيزُ قريش - أي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- بهذه المهمّة لكونه رجلاً صادقاً أميناً[4].



[1]  انظر سورة آل عمران، الآية 49.

[2] انظر سورة الروم، الآية 2.

[3]  انظر سورة الفتح، الآية 27.

[4]   ابن هشام، السيرة النبويّة، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة- مصر، مكتبة محمد علي صبيح، 1383هـ- 1963م، ج 1، ص 209.

185


149

الدرس السابع عشر: النبوّة (4) طرق إثبات نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 2- النَقاء من تلوّث البيئة الاجتماعية:

 

لقد نشأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وترعرع في بيئةٍ لم يكن فيها إلاّ الخمر والميسر ووأد البنات، ودفنهنّ أحياءً، وإلاّ أكل الميتة والظلم والغارة، ومع ذلك ورغم نشوئه وترعرعه في مثل هذه البيئة، كان إنساناً نقيّ الجيب، طاهِرَ السُّلوك، لم يُوصف بأيّ شيء من الصفات الرَّذيلة، ومن دونِ أن يتلوَّث بأيّةِ لوثةٍ عقائديّة، وفكريّةٍ.

 

3- محتوى الدعوة الإسلامية:

عندما نُلقي نظرةً فاحصة على محتوى دعوةِ النبيّ الأكرمِ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نراها تدعو الناس بالضبط إلى مخالفةِ كلّ ما كان رائجاً في تلك البيئة، ورفضه رفضاً مطلقاً. إنّهم كانوا يعبدون الأوثان وقد دعاهم إلى التوحيد، ورَفض الأوثان. إنّهم كانوا يُنكرون المعادَ، وقد دعاهُم إلى الإيمان به، واعتبره شرطاً من شروط الإسلام. وكانوا يئدون البنات ويقبرونهنّ وهنّ أحياء، ولم يكن للمرأة أيّة قيمة، ولكنّه أعاد إليها كرامتها الإنسانيّة، ومنزلتها اللائقة بها، كأفضل ما يكون.

 

4- أدوات الدعوة ووسائلها:

إنّ الأدوات والوسائل التي استخدمها النبيُّ، لِنشر دعوته، واستعان بها لِنشر دينه، كانت إنسانيّة وأخلاقيّة تماماً. فهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يستخدم أبداً الأساليبَ الّلا إنسانيّة كقطع الماء على خصومه، أو تسميمه وتلويثه، أو قطع الأشجار وما شابه ذلك من الأساليب الّلا إنسانيّة[1].

 

بل وأوصى بأن لا يُلحَق الأذى بالنساء والأطفال والعجائز وكبار السنّ، وأن لا تُقطَع الأشجار، وأن لا يُشرع في قتال العدوّ قبل الدعوة إلى الإسلام وإتمام الحجّة عليه.



[1] راجع الكتب التاريخية في هذا المجال.

186


150

الدرس السابع عشر: النبوّة (4) طرق إثبات نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 إنّ الإسلام يرفض رفضاً قاطعاً المنطق المكيافيلي القائل: "بأنّ الغاية تبرّر الوسيلة" وكمثال رَفَضَ اقتراح أحد اليهود لإخضاع العدوّ في وقعة خيبر عن طريق إلقاء السم في الماء. إنّ حياة رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم زاخرة بقصص التعامل الإنساني النبيل مع الأعداء.

 

5- شخصيّةُ المؤمنين به وخصالُهم:

إنّ دراسة أفكار المؤمنين بالنبيّ، والمنضوين تحت لوائه، وأحوالهم وشخصيّاتهم يمكن أن توضح مدى صدقه وصحة دعواه. فإنّ من البديهيّ أن الدعوة إذا تأثّر بها الشخصياتُ المتميزة في المجتمع فانضووا تحت رايتها، واعتنقوها بصدق وإخلاص، كان ذلك آية صدقها وصحتها ودليلاً على حقّانيتها، وواقعيّتها.

 

ولكن إذا التفَّ حولَه طلاّب الدنيا، وعُبّادُ المال والشهوة، كان ذلك دليلاً على ضعف ادّعائه. لقد كان بين المنضوين تحت لواء رسول الإسلام شخصيات عظيمة في غاية النُبل والفَضيلة كالإمام عليّ عليه السلام وكسلمان، وعمّار، وبلال، ومصعب، وابن مسعود، والمقداد، وأبي ذر وغيرهم ممّن شهد لهم التاريخُ بالطهر والصفاء، وسموّ الشخصية، ونزاهة الأخلاق.

 

6- التأثيرُ الاِيجابي في البيئة الاجتماعية، وتأسيسُ حضارة عظيمة:

إِنّ رسول الإسلام استطاع في مدة لا تتجاوز ثلاثاً وعشرين سنة أنْ يغيّر وضعَ الجزيرة العربية تغييراً جوهرياً. لقد استطاع أنْ يصنع من قُطّاع طُرُق، وسَلاّبين، أشخاصاً أُمناء، ومن عُبَّاد أوثان وأصنام، موحّدين بارزين، لم يَصنَعوا حضارةً عظيمة في محلّ سكونتهم فقط بل مدّوا حضارتهم الإسلامية الرائعة الفريدة، إلى مناطق أُخرى من العالم، كذلك.

187


151

الدرس السابع عشر: النبوّة (4) طرق إثبات نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 فها هو جعفر بن أبي طالب عليه السلام من مسلمي صَدر الإسلام يؤكّد على هذه النقطة عندما قال في معرَض الإجابة على سؤال النجاشيّ الذي سأله عن أحوال النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: "أيّها المَلِك, إنّ الله بَعَث إلينا رَسولاً مِنّا فَدعانا إلى الله لِنوَحّدَه ونعبدَه، ونخلعَ ما كنّا نعبُدُ نحن وآباؤنا من دونه، من الحجارة والأوثان، وأمَرَنا بصدقِ الحديث... وأمَرَنا بالصلاةِ، والزكاة وصلة الرَحم، وحُسن الجوار، ونهانا عن الفواحِشِ، وقولِ الزُّور"[1].

 

إنّ هذه القرائن، ونظائرها، يمكن أنْ تقودَنا إلى صدقِ قول رسول الإسلام وحقانيّة هدفه. إنّ من المحتّم أنّ رجلاً بهذه الخصوصيّات لا يرتكب الكذِبَ أبداً، وفي النتيجة يجب أن يُقال: إنّه كان صادقاً في ادّعائه النبوّة، وارتباطه بعالم الغيب كما تؤيّد القرائنُ الأخرى بالذات هذا الموضوع أيضاً.

 

الطريق الثالث: تصديقُ النبيّ السابق

إنّ تصديقَ النبيّ السّابق للنبيّ اللاحقِ هو أحد الطرق لإثبات دعوى النبوة وذلك لأنّ الفرض هو أنّ نبوّة النبيّ السابق قد ثبتت بالأدلّة القاطعة، ولهذا من الطبيعي أن يكون كلامُه سنداً قاطعاً للنبوّة اللاحقة، ويُستفادُ من بعض الآيات القرآنيّة أنَّ أهلَ الكتاب كانوا يعرفون رسول الإسلام كما يعرفون أبناءهم، يعني أنّهم قرأوا علائم نبوَّته في كتبهم السَّماوية، وقد ادّعى رسولُ الإسلام هذا الأمر، ولم يكذّبه أحدٌ منهم أيضاً، كما يقول: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾[2].




[1] ابن هشام، السيرة النبوية، ج 1، ص 359 - 360.

[2]  سورة البقرة، الآية 146.

188


152

الدرس السابع عشر: النبوّة (4) طرق إثبات نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 إنّ رسولَ الإسلام ادّعى أنّ السيد المسيحَ عيسى ابنَ مريم عليهما السلام بشّر به، وانّه يأتي من بعده نبيٌّ اسمُه "أحمد": ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾[1]. كما وأنَّ من الطريف أنْ نَعلمَ أنّ الاِنجيل رغم تعرُّضه للتحريف منذ قرون قد جاءَ في إحدى نُسَخِهِ وهو إنجيل يوحنا (الإصحاح 14، 15، 16) بتَنَبّؤٌ بمجيء شخصٍ بعد السيّد المسيح يُدعى "فارقلِيطا" (أي محمّد، بالسريانيّة) يمكن للمحقّقين الرجوع إلى ذلك، للوقوف على الحقيقة.



[1]  سورة الصف، الآية 6.

189


153

الدرس السابع عشر: النبوّة (4) طرق إثبات نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 المفاهيم الرئيسة

- يمكن أنّ تثبت النبوّة لشخصٍ ما بثلاثة طرق:

1- الإتيان بالمعجزة مقروناً بادّعاء النبوّة.

2- جمع القرائن والشواهد التي تشهد بصدق دعواه.

3- تصديق النبي السابق.

 

- يمكن أن نقسّم معاجز النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى قسمين:

1- المعاجز العامة.

2- معجزة القرآن الكريم

 

- إنّ معاجز رسولِ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم كما أسلفنا لا تنحصر في القرآن الكريم، بل إنّه صلى الله عليه وآله وسلم قام بإتيان بعض المعجزات في مناسباتٍ مختلفة بهدف إقناع الناس.

 

- القرآنُ نفسُه يثبت صدور معاجز متعددة على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها:

1- شَقّ القَمَر.

2- المعراج.

3- مباهلته مع أهل الكتاب.

 

- إنّ جمع القرائن والشَّواهد يمكن أنْ تكون من الطُرُق الكفيلة بإثبات صدق دعوى الأنبياء.

 

- إنّ تصديقَ النبيّ السّابق للنبيّ اللاحقِ هو أحد الطرق لإثبات دعوى النبوّة.

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- أذكر اثنتين من معاجز الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

2- هناك قرائن وشواهد عديدة على نبوّة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. اذكر ثلاثة منها مع توضيحها.

3- اذكر آية واحد فيها تأكيد من نبيّ سابق على نبوّة نبيّ لاحق.

190


154

الدرس السابع عشر: النبوّة (4) طرق إثبات نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 للمطالعة

 

علم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالكائنات وتوصيته بالصبر

عن الحسن بن راشد، قال: سمعت أبا إبراهيم عليه السلام (الإمام الكاظم) يقول: "إنّ الله أوحى إلى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: أنّه قد فنيت أيّامك، وذهبت دنياك، واحتجت إلى لقاء ربّك، فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده إلى السماء، وقال: اللهمّ عدتك التي وعدتني، إنّك لا تخلف الميعاد.

 

فأوحى الله إليه: "أن ائت أحداً أنت ومن تثق به، فأعاد الدعاء، فأوحى الله إليه: امض أنت وابن عمّك حتّى تأتي أحداً ثمّ لتصعد على ظهره، فاجعل القبلة في ظهرك، ثمّ ادع وأحسّ الجبل بمجيئك، فإذا حسّك فاعمد إلى جفرة منهنّ أنثى وهي تدعى الجفرة تجد قرينها الطلوع وتشخب أوداجها دماً، وهي التي لك، فمر ابن عمّك ليقم إليها، فيذبحها ويسلخها من قبل الرقبة، ويقلّب داخلها فتجده مدبوغاً، وسأنزل عليك الروح وجبرئيل معه دواة وقلم ومداد ليس هو من مداد الأرض يبقى المداد، ويبقى الجلد لا يأكله الأرض، ولا يبليه التّراب، لا يزداد كلّ ما ينشر إلّا جدّة، غير أنّه يكون محفوظاً مستوراً، فيأتي وحي يعلّم ما كان وما يكون إليك، وتمليه على ابن عمّك، وليكتب ويمدّ من تلك الدوات، فمضى صلى الله عليه وآله وسلم حتّى انتهى إلى الجبل ففعل ما أمره، فصادف ما وصف له ربّه، فلمّا ابتدأ في سلخ الجفرة نزل جبرئيل والروح الأمين وعدّة من الملائكة لا يحصي عددهم إلّا الله ومن حضر ذلك المجلس، ثمّ وضع عليّ عليه السلام الجلد بين يديه وجاء به والدوات والمداد أخضر كهيئة البقل وأشدّ خضراً وأنور، ثمّ نزل الوحي على محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل يملي على عليّ عليه السلام ويكتب عليّ: أنّه يصف كلّ زمان وما فيه غمزه بالنظر والنظر، وخبّره بكلّما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة،

191


155

الدرس السابع عشر: النبوّة (4) طرق إثبات نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 وفسّر له أشياء لا يعلم تأويلها إلّا الله والراسخون في العلم، فأخبره: بالكاينين من أولياء الله من ذريّته أبداً إلى يوم القيامة، وأخبره: بكلّ عدوّ يكون لهم في كلّ زمان من الأزمنة، حتّى فهم ذلك وكتب، ثمّ أخبره: بأمر يحدث عليه وعليهم من بعده، فسأله عنها، فقال: الصبر، الصبر، وأوصى الأولياء بالصبر، وأوصى إلى أشياعهم بالصبر والتسليم، حتّى يخرج الفرج، وأخبره: بأشراط أوانه، وأشراط تولّده، وعلامات تكون في ملك بني هاشم، فمن هذا الكتاب استخرجت أحاديث الملاحم كلّها، وصار الوصي إذا أفضى إليه الأمر تكلّم بالعجب"[1].



[1]  الصفار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات، تحقيق: ميرزا حسن كوجه باغي، بيروت- لبنان، منشورات الأعلمي، ص527، ح 6.

192


156

الدرس الثامن عشر: النبوّة (5) معجزة القرآن

 الدرس الثامن عشر: النبوّة (5) معجزة القرآن

 

 

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يوضّح كيف أنّ القرآن معجزة خالدة.

2- يفهم أوجه من الإعجاز الأدبيّ في القرآن الكريم.

3- يبيّن إعجاز القرآن في أسرار الكون والإخبار عن المستقبل.

193


157

الدرس الثامن عشر: النبوّة (5) معجزة القرآن

 القرآن الكريم المعجزة الخالدة

إنّ التاريخَ القاطعَ الثابتَ يشهد بأنّ رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم قَرَنَ دعوَته بالإتيان بمعاجز عديدة مختلفة، إلاّ أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يؤكّد - من بين هذه المعاجز- على واحدة منها، وهي في الحقيقة معجزته الخالدة، ألا وهي "القرآن الكريم".

 

فإنّ نبيّ الإسلام أعلن عن نبوّته ورسالته بالإتيان بهذا الكتاب السَّماويّ، وتحدّى الناسَ به، ودعاهم إلى الإتيان بمثله إن استطاعوا، ولكن لم يستطع أحدٌ- رغم هذا التحدِّي القرآنيّ القاطع - أنْ يأتي بمثله في عَصر النبوّة.

 

واليوم وبعد مرور القرون العديدة لا يزال القرآنُ يتحدّى الجميع ويقول: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا[1].

 

وفي موضع آخر يقول - وهو يقنع بأقلّ من ذلك -: ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ[2]، ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ[3].

 

إنّنا نعلمُ أنّ أعداء الإسلام لم يألوا جُهداً طيلة (15) قرناً من بدء ظهور الإسلام من توجيه الضربات إليه، ولم يفتروا عن محاولة إلحاق الضرر بهذا الدين، والكيد




[1] سورة الإسراء، الآية 88.

[2] سورة هود، الآية 13.

[3] سورة البقرة، الآية 23.

195


158

الدرس الثامن عشر: النبوّة (5) معجزة القرآن

 له بمختلف ألوانِ الكيد، وحتى أنّهم استخدموا سلاح اتّهام رسولِ الإسلام بالسّحرِ، والجنون، وما شابه ذلك، ولكنّهم لم يَستطيعوا قطّ مقابلةَ القرآن الكريم، ومعارضته فقد عجزوا عن الإتيانِ حتى بآية قصيرة مثل آياته.

 

والعالمُ اليوم مجهَّزٌ كذلك بكل أنواع الأفكار والآلات، ولكنّه عاجز عن مجابهة هذا التحدّي القرآنيّ القاطع، وهذا هو دليلٌ على أنّ القرآنَ الكريمَ فوق كلامِ البشر.

 

وجوه إعجاز القرآن الكريم

1- الإعجاز الأدبي:

كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معاجزُ مختلفة ومتعدّدة دُوّنَتْ في كُتُب التاريخ والحديث، ولكنّ المعجزة الخالدة التي تَتَلألأ من بين تلك المعاجز في جميع العُصُور والدهور هو القرآن الكريم، والسرُّ في اختصاص رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم، بمثل هذه المعجزة من بين جميع الأنبياء، هو أنَّ دينه دينٌ خاتِمٌ، وشريعَتهُ شريعةٌ خاتمةٌ وخالدةٌ، والدينُ الخالدُ والشريعة الخاتمة بحاجة إلى معجزةٍ خالدةٍ لتكون برهانَ الرسالة القاطع لكلِّ عصرٍ وجيلٍ، ولتستطيع البشرية في جميع القرون والدُّهور أنْ ترجع إليه مباشرةً من دون حاجةٍ إلى شهاداتِ الآخرين وأقوالهم.

 

إنّ القرآنَ الكريم يتّسمُ بصفة الإعجاز مِن عدة جهات، يحتاج البحث فيها بتفصيلٍ، إلى مجالٍ واسعٍ لا يناسب نطاق هذه الرسالة، ولكنّنا نشير إليها على نحو الإيجاز:

في عصر نزول القرآن الكريم كان أوّلُ ما سَحَر عيونَ العرب، وحيّر أرباب البلاغة والفصاحة منهم جمالُ كلمات القرآن، وعجيبُ تركيبه، وتفوّقُ بيانه، الذي يُعبَّر عن ذلك كله بالفصاحةِ والبلاغة.

 

إنّ هذه الخصُوصية كانت بارزةً ومشهودةً للعرب يومذاك بصورةٍ كاملةٍ، ومن

196


159

الدرس الثامن عشر: النبوّة (5) معجزة القرآن

 هنا كان رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة آيات الكتاب، مرةً بعد أُخرى، وبدعوته المكرّرة إلى مقابلته والإتيان بمثله إن استطاعواـ يدفع عمالقة اللغة والأدب، وأبطال الشعر وروّاده، إلى الخضوع أمام القرآن، والرضوخ لعظمة الإسلام، والاعتراف بكون الكلام القرآنيّ فوق كلامِ البشر.

 

فها هو "الوليد بن المغيرة" أحد كبار الشعراء والبلغاء في قريش يقول ـ بعد أنْ سمع آياتٍ من القرآنِ الكريمِ تلاها عليه رسولُ الإسلام، وطُلب منه أنْ يبدي رأيه فيهاـ: "وَوالله إنّ لِقَوله الّذي يقولُ لَحلاوةً، وإنّ عليه لطَلاوةً، وإنّه لَمُثْمرٌ أَعلاهُ، مُغدِقٌ أَسْفَلُهُ، وإنّه لَيَعْلُو وما يُعلى"[1].

 

وليس "الوليدُ بن المغيرة" هو الشخص الوحيدُ الذي يحني رأسه إجلالاً لجمال القرآن الظاهري، ولجلاله المعنوي، بل ثمة بلغاء غيره من العرب مثل: "عتبة بنِ ربيعة" و "الطفيلِ بن عمرو" أَبدَوا كذلك عجزَهم تجاه القرآن، واعترَفُوا بإعجاز القرآن الأدَبي.

 

على أنّ العَرَب الجاهليين نَظَراً لِتَدَنّي مستوى ثقافتهم لم يُدرِكوا من القرآن الكريم إلاّ هذا الجانبَ، ولكن عندما أشرقت شمسُ الإسلام على رُبع الكرة الأرضية، وعَرَفَتْ به جماعاتٌ بشريةٌ أُخرى اندفعَ المفكّرون إلى التدبّر في آيات هذا الكتاب العظيم، ووقفوا مضافاً إلى فصاحَته وبلاغته، وجمال أسلوبه، وتعبيره، على جوانب أُخرى من القرآنِ الكريم والتي يكون كلُّ واحدة منها بصورة مستقلّة خيرَ شاهدٍ على انتمائه إلى العالم القدسيّ، ونشأتهِ من المبدأ الأعلى للكون. وهكذا تنكشف في كلّ عَصر جوانب غير متناهية لهذا الكتاب العظيم.




[1] الشوكاني، فتح القدير، عالم الكتب، ج5، ص329.

197


160

الدرس الثامن عشر: النبوّة (5) معجزة القرآن

 2- أمّية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

 

إذا كان الإعجاز القرآنيُ من الناحية الأدبية قابلاً للدَرك والفهم عند طائفة خاصّة لها إلمامٌ كافٍ بالأدب العربي، فإنّ الجوانبَ الأُخرى من الإعجاز القرآني ولحسن الحظ مفهومة لآخرين. إنّ الآتي بالقرآن الكريم كان شخصاً أُميّاً لم يدرُس، ولم يَتلقَّ تعليماً قبل النبوة، فلا هو دخل مدرسة أو كتّاباً، ولا هو تلمَّذ على أحد، أو قَرَأَ كتاباً كما قال: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ[1].

 

إنّ نبيَّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم تلا هذه الآية على قومٍ كانوا يعرفون حياتَه وتفاصيلها، تمام المعرفة، فإذا كان له سابقة تحصيل وتعلّم لكذّبوا ادّعاءَهُ هذا. وأمّا اتّهام البعض إيّاه بأنه ﴿يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ[2] فهي تهمة لا أساس لها مثل سائر التهم الأُخرى، كما يقول: ﴿لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ[3].

 

3- عدم الاختلاف المضموني:

لقد تُلي القرآنُ الكريم على الناسِ طيلةَ ثلاثٍ وعشرينَ سنة وفي ظروف مختلفة (في الصلح والحرب، في السفر والحضر، و...) بواسطة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقتضي طبيعة هذا النمط من التحدُّث والتكلّم أن يقع في كلام المتكلّم نوعٌ من الاختلاف والتعدُّديّة في الأسلوب والخصُوصِيّات البيانيّة فلطالما يقع المؤلّفون الذين يُؤَلِّفُونَ كُتُبَهُمْ في ظُروفٍ عاديّةٍ متماثِلةٍ - رغم مراعاة قواعد التأليف والكتابة، وأُصولِها - في الاختلاف والاضطراب في الكلام، فكيف بالذي يُلقي كلاماً بالتدريج، وفي أوضاع متباينة وأحوال مختلفة تتراوح بين الشدّة والرخاء، والحزن والفرح، والقتال والسلام، والأمن والخطر؟!



[1] سورة العنكبوت، الآية 48. 

[2]  سورة النحل، الآية 103.

[3] سورة النحل، الآية 103.

198


161

الدرس الثامن عشر: النبوّة (5) معجزة القرآن

 إنّ المُلفت للنظر هو أنّ رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم تَحدَّث حول موضوعات مختلفة ومتنوّعة، بدءاً بالإلَهيّات ومروراً بالتاريخ، والتشريع، والأخلاق، والطبيعة، والإنسان، وانتهاء بالحياة الأخرى، وفي نفس الوقت تمتّع كلامه هذا من بدئه إلى ختمه بأعلى نوع من الانسجام، والتناغم، من حيث الأسلوب، والمحتوى. يقول القرآن نفسُهُ عن هذا الجانب من الإعجاز: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا[1].

 

4- تماهيه مع الفطرة الإنسانية:

إنّ القرآنَ الكريمَ جعل الفطرةَ الإنسانيّة الثابتة نُصب عَينيه وشرّع على أساسها قانونَه، فكانت نتيجةُ هذه الرؤية الأساسيّة أنْ أخَذَ في نظر الاعتبار جميع أبعاد الروح والحياة الإنسانيّة، وذكّر بالأصول والأسس الكليّة التي لا تقبَلُ الزوال والاندثار.

 

فمن خصائص القوانين الإسلامية الكليَّة هو أنَّ هذه القوانين قابلةٌ للتطبيق في جميع الظروف المختلفة والبيئات المتنوّعة، ويوم كان المسلمون يسيطرون على مساحة جدُّ كبيرة من العالم، كانوا يديرون المجتمعات البشرية قروناً عديدة في ظلّ هذه القوانين والتشريعات بقوّة، ونجاح.

 

يقول الإمام محمّد الباقر عليه السلام: "إنَّ اللهَ لَمْ يَدَع شَيْئاً تَحْتاجُ إلَيْهِ الأُمَّةُ إلاّ أَنْزَلَهُ في كتابهِ، وَبَيَّنَهُ لِرَسُولِهِ وجَعَلَ لِكُلّ شيءٍ حَدَّاً، وَجَعَلَ عَلَيْهِ دَلِيْلاً"[2].

 

5- الإعجاز في مجال أسرار الكون وأخبار المستقبل:

أ- إنّ القرآن الكريم بيّن في آيات مختلفة ومتعدّدة وفي مناسبات متنوّعة أسرارَ عالَم الخلق التي لم يَكُنْ لدى البَشَر أيُّ عِلمٍ، ولا إلمام بها. ولا شكَّ أنَّ الكشف عن هذه الأسرار لشخصٍ لم يتلقَّ تعليماً، ولم يدرس، وذلك في مجتمع جاهليّ لا يعرف شيئاً أصلاً، لا يمكن إلاّ عن طريق الوحي.




[1] سورة النساء، الآية 82.

[2] الكليني، الكافي، ج1، ص176، ح11.

199


162

الدرس الثامن عشر: النبوّة (5) معجزة القرآن

 إنّ الكشف عن قانون الجاذبية الذي يفسَّر على أساسِه قيامُ صرح الكون يُعَدّ من مفاخر العِلم الحديث. ولقد كَشَفَ القرآنُ الكريمُ القناعَ عن هذا القانونِ في عبارةٍ قصيرةٍ إذ قال: ﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾[1].

 

إنّ الكَشْفَ عن قانون الزوجية العامّة هو الآخر يُعدّ من مكتسَبات العِلم الحديث، وقد تحدّث عنه القرآنُ الكريمُ في عَصرٍ لم يكنِ البشرُ يعرف عنه أيَّ شيء مطلقاً إذ قال: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[2].

 

هذا وثمّت نماذج أُخرى في هذا المجال جاء ذكرُها في كتب التفسير والعقيدة، أو دوائر المعارف.

 

ب- إنّ القرآنَ الكريم أخبر عن طائفة من الحوادث والوقائع المستقبلية إخباراً قطعيّاً، وقد وقعت تلك الوقائع والحوادث فيما بعد بصورةٍ دقيقةٍ، ولهذا النمط من الإخبارات نماذج عديدة، وكثيرة إلاّ أنّنا نشير إلى واحدة منها هنا على سبيل المثال:

 

يَوم غَلَبَ الساسانيون عُبّادُ النار على الرُّوم الموحّدين تفاءَلَ المشركونَ العرب بهذا الحَدَث وقالوا سننتصر نحن على موحِّدي الجزيرة العربية (المسلمين) أيضاً، وعند ذاك أَخبر القرآنُ الكريمُ بانتصار الرُّوم على الفُرس: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ[3].

 

ولم تمض بضع سنوات إلاّ وتحقّقت النبوءةُ المذكورة، وانتصر كلا الفريقين المؤمنين (الرّوم المسيحيّون ومسلمو الجزيرة العربية) على أعدائهم (الساسانيين ومشركي قريش). ولهذه الناحية تحدّثَ القرآن في ذيل الآية




[1] سورة الرعد، الآية 2.

[2] سورة الذاريات، الآية 49.

[3] سورة الروم، الآيات 2 - 4.

200


163

الدرس الثامن عشر: النبوّة (5) معجزة القرآن

 عن سرور المؤمنين إذ قال: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾. لأنّ كلا الانتصارين حدثا في وقتٍ واحدٍ.

 

ج- إنّ القرآنَ الكريمَ تَحدَّثَ عن حياة الأنبياء عليهم السلام وأُممهم السابقة في سورٍ مختلفةٍ بتعابيرَ مختلفةٍ. إنّ هذه الوقائع وَرَدَت كذلك في كتاب العَهدين (التوراة والاِنجيل) أيضاً، ولكن إذا ما قيست تلك مع ما وَرَدَ في القرآنِ الكريمِ اتّضح أن القرآن الكريم من الوحي الإلَهيّ برمَّته، وأنّ ما جاء في العهدين لم يسلم من تحريف المحرّفين.

 

ففي رواية القرآن لقصص الأنبياء عليهم السلام لا يوجَد أيُّ موضوع يخالف العقلَ، والفطرة، ولا يناسب مقام الأنبياء، في حين تزخر الرِوايات والقصص الموجودة في كتاب العهدين بهذه العيوب والنواقص، ويتبن ذلك من خلال المقارنة بين العهدين والقرآن الكريم في قصة آدم على سبيل المثال.

201


164

الدرس الثامن عشر: النبوّة (5) معجزة القرآن

 المفاهيم الرئيسة

- أعداء الإسلام لم يألوا جُهداً طيلة 15 قرناً من بدء ظهور الإسلام من توجيه الضربات إليه، ولكنّهم لم يَستطيعوا قطّ مقابلةَ القرآن الكريم، ومعارضته فقد عجزوا عن الإتيانِ حتى بآية قصيرة مثل آياته.

 

- في عصر نزول القرآن الكريم كان أوّلُ ما سَحَر عيونَ العرب، وحيّر أرباب البلاغة والفصاحة منهم جمال كلمات القرآن، وعجيب تركيبه، وتفوّق بيانه.

 

- إنّ القرآن الكريم بيّن في آيات مختلفة ومتعدّدة وفي مناسبات متنوّعة أسرارَ عالَم الخلق التي لم يَكُنْ لدى البَشَر أيُّ عِلمٍ، ولا إلمام بها.

 

- إنّ القرآنَ الكريم أخبر عن طائفة من الحوادث والوقائع المستقبلية إخباراً قطعيّاً، وقد وقعت تلك الوقائع والحوادث فيما بعد بصورةٍ دقيقةٍ.

 

- إنّ القرآنَ الكريمَ جعل الفطرةَ الإنسانيّة الثابتة نُصب عَينيه وشرّع على أساسها قانونَه.

 

- إنّ الآتي بالقرآن الكريم كان شخصاً أُميّاً لم يدرُس، ولم يَتلقَّ تعليماً قبل النبوة، فلا هو دخل مدرسة أو كتّاباً، ولا هو تلمَّذ على أحد، أو قَرَأَ كتاباً كما قال: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾.

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- اذكر آيتين من القرآن الكريم تشيران إلى إعجازه.

2- بيّن الإعجاز الأدبيّ في القرآن الكريم.

3- بيّن الإعجاز القرآنيّ في أسرار الكون والمستقبل.

202


165

الدرس الثامن عشر: النبوّة (5) معجزة القرآن

 للمطالعة

 

القرآن الكريم كلّه حقّ

إنّ القرآن نور وتبيان، فمن أراد أن يعرف أنّه حقّ محض أو يتطرّفه البطلان (معاذ الله) فلا بدّ أن يرجع إليه، كما أنّه معجزة إلهيّة، والإعجاز يَلْقَفُ الباطل، سحراً كان أو غيره, لأنّ الحقّ نور ومعه لا مجال للظلام، كما أنّه لا مجال لليل إذا جاء النهار.

 

والذي يستفاد من هذا النور والتبيان بعد الرجوع إليه هو أنّه كتاب لا ريب فيه، وأنّه هدىً للناس بلا مرية، وأنّه يهدي للتي هي أقوم بلا شكّ، وأنّه شفاء ورحمة للمؤمنين بلا ترديد، وأنّه أنزل بالحق" أي مصحوباً بالحقّ، أو ملبوساً بلباسه، وأنّه لا عوج له وفيه، وأنّه مبارك إلى غير ذلك من النعوت الدالّة على صيانته عن شوب الخطأ، وشوْك السهو، ولَوْث الباطل، كما قال سبحانه: ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ[1]، ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾[2]، ﴿قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا[3]، والدليل على كونه برهاناً ونوراً هو أنّ متكلّمه وقائله الله الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، فهو عليم محض لا سبيل للجهل إلى علمه أصلاً، وما كان ربّك نسيّاً، فهو متذكّر صرف، لا مجال للسهو ولا للنسيان إليه أبداً.

 

والرسول الذي تلقّاه أتى به وبلّغه الناس، كريم، أمين، معصوم عن الدخل والتصرّف، وعن السهو والنسيان، كما أنّه منزّه عن العصيان ومبرّءٌ عن الافتراء.




[1] سورة الأحزاب، الآية 4.

[2] سورة فصّلت، الآية 42.

[3] سورة النساء، الآية 174.

203


166

الدرس الثامن عشر: النبوّة (5) معجزة القرآن

 فهو يدور مدار البرهان الذي أنزله الله، والحقّ الذي أرسله به بلا عَسْف ولا حيْف، وبلا ضنّة ولا هوى، حيث قال الله سبحانه ووصَفَه ثبوتاً وسلباً بقضيّين كلّيّتين لا مجال معهما للترديد، ولا وقع معهما لأيّ ريب.

 

أمّا القضيّة الموجبة الكلّيّة، فهي مستفادة من قوله سبحانه: ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ[1]، أي ليس ببخيل أصلاً في إبلاغ ما أوحي إليه، وغير شحيح أبداً في إعلام ما علّمه الله، ولا ضنّة له في إفشاء الغيب الذي أنزله إليه من المعارف الدينيّة، فجميع ما أوحي إليه برزَت منه صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس بلا استثناء شيء منه.

 

وأمّا القضيّة السالبة الكلّيّة فهي مستفادة من قوله سبحانه: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[2]، أي لا يقول في الدين ولا ينطق فيه أصلاً ما ليس منه ولا فيه، ولا ينقل عن الله ما لم يوح إليه أبداً، ولا يُخبر عنه ما لم يُعَلّمه الله، ولا يحكي عنه ما لم يُؤمر بإبلاغه، وحيث إنّ القول في الدين ممّا لم يوح إليه هوىً - كائناً ما كان - فلا شيء ممّا لم يقل الله سبحانه بصادر منه فعلاً أو قولاً أو تقريراً, إذ النطق الديني أعمّ من التلفّظ اللساني, لأنّ المعصوم عليه السلام الذي جعله الله أسوة للناس وأمرهم بالاقتداء به تكون سيرته وسنّته حجّة دينيّة، سواء في ذلك القول والفعل والتقرير الذي هو صنف من الفعل.




[1] سورة التكوير، الآية 24.

[2] سورة النجم، الآيتان 3 و 4.

204


167

الدرس التاسع عشر: النبوّة (6) صيانة القرآن من التحريف

 الدرس التاسع عشر: النبوّة (6) صيانة القرآن من التحريف

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس:

1- يوضّح ما هو المقصود من تحريف القرآن.

2- يذكر أدلّة عدم تحريف القرآن.

3- يبيّن الرّدود على الرّوايات الدالّة على تحريف القرآن.

205


168

الدرس التاسع عشر: النبوّة (6) صيانة القرآن من التحريف

 الكتب السماوية الماضية والتحريف

إنّ الكتبَ السماويّة التي عَرَضَها الأنبياء السابقون تعَرّضت - وللأسف - من بعدهم للتحريف بالتدريج بسبب الأغراض غير السليمة، وبسبب مواقف النفعيّين. ويشهَد بذلك - مضافاً إلى إخبار القرآنِ الكريم بذلك - شواهدُ تاريخيّة قاطعةٌ.

 

كما أنّ مطالعة نفس تلك الكتب والتأمّل في محتوياتها من المواضيع تدلُّ على ذلك أيضاً، فإنّ هناك طائفة من المواضيع في هذه الكتب لا يمكن أن يؤيّدها الوحيُ الإلَهيّ. هذا بغضّ النظر عن أنّ الإنجيل الحاضر يحتوي في أكثره على حياة السيّد المسيح عليه السلام، وحتى صَلْبِهِ.

 

ولكن رغم وقوع التحريفات الواضحة في الكتب السماويّة السابقة، فإنّ القرآنَ الكريم بقي مصوناً من أيّ نوعٍ من أنواع التحريف، والتغيير. فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك للبشرية من بعده (مائةً وأربع عَشَرة) سورة قرآنيّة، كاملة، وقد قام كُتّابُ الوَحي، وبالخُصوص الإمام عليّ عليه السلام بكتابة الوحي، وتدوينه منذ البداية، ولم ينقص من القرآن الكريم، وسُوَره، وآياتِهِ شيءٌ قَطّ رغم مرور قرابة (15) قرناً على بدء نزول القرآن، كما لم يُزَد عليه شيءٌ أبداً.

207


169

الدرس التاسع عشر: النبوّة (6) صيانة القرآن من التحريف

 أدلّة عدم تحريف القرآن الكريم

ونشير فيما يلي إلى بعض الأدلّة على عَدَم تحريف القرآنِ الكريم:

1- كيف يمكن أن يجدَ التحريفُ سبيلاً إلى القرآنِ الكريم، في حين أنّ الله تعالى تعهَّدَ صراحةً بحفظ القرآن، بنفسِهِ إذ قال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[1].

 

2- إنّ الله تعالى نفى تطرُّق أيِّ نوعٍ من أنواع الباطل إلى القرآن الكريم مهما يكن مصدرُهُ، نفياً قاطعاً فقال: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[2].

 

إنَّ الباطلَ الّذي يمكن أنْ يَتَطَرَّقَ إلى القرآن الكريمِ بصُوَرِهِ المختلفة، والذي قد نفاه الله تعالى نفياً قاطعاً، لا شكَّ هو الباطل الذي يوجب وَهْنَ القرآن الكريم، ويُضعِفُ مِن مكانتهِ ويَحُطُّ من مَنزلتِهِ، وحيث إنّ النَقْصَ من القُرآنِ الكريم، أو الزيادة في كلماته وألفاظه مما يوهن مكانة القرآن قطعاً، ويقيناً، ويَحطُّ من شأنه، لهذا لا يوجد أيّ لونٍ من ألوانِ الزيادةِ والنقص في القرآن الكريم أبَداً، ويقيناً.

 

3- إنّ التاريخ يشهدُ بأنَّ المسلمين كانوا يعتنون بالقرآن الكريم تعلّماً وتعليماً، قراءةً وحِفظاً أشدّ الاعتناء، وكان العرب في عصر النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يتمتّعون بحافظةٍ قويّةٍ وذاكرةٍ حادّة بحيث إذا سمعوا خطبةً أو قصيدةً طويلةً مرةً واحدةً حَفِظوها، وأتقنوها. وعلى هذا كيف يمكن أن يُقال أنّ كتاباً مثل هذا، مع كثرة قارئيه، ووفرة حافظيه والمعتنين به، تعرّض للتحريف، أو الزيادة والنقصان؟!.




[1] سورة الحجر، الآية 9.

[2] سورة فصلت، الآية 42.

208


170

الدرس التاسع عشر: النبوّة (6) صيانة القرآن من التحريف

 4- لا شكَّ في أنّ الإمام أميرَ المؤمنين عليَّ بن أبي طالب عليه السلام كان يختلف مع الخلفاءِ، في بعض المسائل، وكان يُظهِرُ مخالفَتهُ لهم في موارد مختلِفة بِصُورة منطقيّة.

 

 

ولكنّه لم يُسَمعْ ولا مرّةً واحدةً بأنّه عليه السلام تَحَدّثَ - ولا بِكلَمَةٍ واحدةٍ - عن تحريف القرآن الكريم، طيلة حياته. فإذا كان هذا التحريف قد حدث - والعياذ بالله - لما سَكتَ عنه الإمام أميرُ المؤمنين عليه السلام، بل - على العكس من ذلك - نجده عليه السلام يدعو إلى التأمُّل والتَدَبُّر في القرآنِ الكريمِ ومن ذلك قولهُ: "لَيْسَ لأحدٍ بَعْد القُرآنِ مِن فاقَةٍ ولا بَعْدَ القرآنِ مِن غِنىً فكونوا من حَرَثَتِهِ وأتباعِهِ"[1].

 

وبالنظر إلى هذه الأدلّة ونظائرها أكّدَ علماءُ الشيعة الإماميّة واتّباعاً لأهل البيت عليهم السلام: منذ أقدم العصور الإسلاميّة، على صيانة القرآن الكريم من التحريف نذكر منهم:

أ- الفضل بن شاذان (المتوفّى 260 هـ ق) والذي كان يعيش في عصر الأئمة عليهم السلام: وذلك في كتاب الإيضاح 21.

ب- الشيخ الصدوق (المتوفّى 381 هـ ق ) في كتاب الاعتقادات, 93.

ج- الشيخ المفيد (المتوفّى 413 هـ ق) في كتاب أجوبة المسائل السروّية، المطبوع ضمن مجموعة الرسائل, 266.

د- السيّد المرتضى (المتوفّى 436 هـ. ق) في كتاب: جواب المسائل الطرابلسيات الذي نقل الشيخ الطبرسي كلامه فيه، في مقدمة تفسيره: مجمع البيان.

هـ- الشيخ الطوسيّ المعروف بشيخ الطائفة (المتوفّى 460 هـ. ق ) في كتاب: التبيان1-3.



[1] - نهج البلاغة، الخطبة: 176.

209


171

الدرس التاسع عشر: النبوّة (6) صيانة القرآن من التحريف

 و- الشيخ الطبرسيّ (المتوفّى 548 هـ. ق) في مقدمة كتابه: "مجمع البيان"، حيث أكَّدَ فيها على عدم وقوع التحريف في القرآن الكريم.

ز- السيّد ابن طاووس (المتوفّى 664 هـ. ق) في كتاب: "سعد السعود،144" حيث يقول فيه: إن عدم التحريف هو رأي الإماميّة.

ح- العلامة الحِلّي (المتوفّى 26 هـ. ق) في كتاب: "أجوبة المسائل المهنّائية" حيث يقول فيه: "الحقُّ أنّه لا تبديلَ ولا تأخير ولا تقديم فيه، وأنّه لم يُزَد فيه ولم يُنْقص، ونعوذ بالله تعالى من أن يُعتَقَدَ مثلُ ذلك، فإنّه يوجب التَطَرُّق (أي تطرّق الشَكّ والوَهْن) إلى معجزة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المنقولة بالتّواتر".

 

ونكتفي بهذا القدر من أسماء علماء الإمامية المنكرين للتحريف، ونؤكّد على أنّ هذا كان ولم يزل اعتقاد عُلَماء الإمامية، ويتّضح ذلك من مراجعة ما كتبه ويقوله مراجع الشيعة في العصر الحاضر.

 

مناقشة الرّوايات الدالّة على تحريف القرآن وردّها

لقد وَرَدَت في كتب الحديث، والتفسير، رواياتٌ يدلُّ بعضُها على وُقوع التحريف في القرآن الكريم، ولكن يجب أن ننتبه إلى النقاط التالية:

أوّلاً: أنّ أكثر هذه الروايات نُقِلَتْ بواسطة أفراد غير موثوق بهم وجاءت في كتب لا قيمة لها. مثل كتاب "القراءات" لأحمد بن محمّد السياري (المتوفّى 286 هـ. ق) الذي ضَعَّفَهُ علماءُ الرجال وضعَّفوا رواياته، واعتبروه فاسد المذهب[1] أو كتاب علي بن أحمد الكوفي (المتوفّى 352 هـ ق) الذي قال عنه علماء الرجال بأنّه صار غالياً في أُخريات حياته[2].




[1] أنظر: معجم رجال الحديث للسيد الخوئي، 1413هـ- 1992م، ط5، ج3، ص71.

[2] م.ن، ج3، ص71.

210


172

الدرس التاسع عشر: النبوّة (6) صيانة القرآن من التحريف

 ثانياً: بعض هذه الروايات التي حُمِلَت على التحريف، لها جانبُ التفسير، أي أنّها تفسّر الآية، وتكون من قبيل تطبيق المفادِ الكليّ للآية على مصاديقه، أو أحد مصاديقه. غير أنّ البعضَ تصوّر أنّ ذلك التفسير والتطبيق هو جزءٌ مِن القرآن الكريم، وقد حُذِفَ، أو سقطَ من القرآن الكريم. فمثلاً فُسرت لفظةُ "الصِراط المُستَقيِم" في سورة الحمد في الروايات بـ "صراط النبي وأهل بيته" ومن الواضح جدّاً أنّ مثل هذا التفسير هو نوع من أنواع التطبيق الكليّ على المصداق الأكمل[1]. ولقد قَسَّمَ الإمام الخمينيّ قدس سره, الرواياتِ التي فُهِمَ منها وقوعُ التحريف في القرآن الكريم إلى ثلاثة أقسام:

1- الروايات الضَعيفةُ التي لا يمكن الاستفادة منها والأخذ بها أبداً.

2- الروايات المختلَقَة التي تلوح عليها علائم الوضع والاختلاق.

3- الروايات الصحيحة التي لو تأمَّلْنا فيها بدقّة لاتّضح أنّ المقصودَ منها ليس هو التحريف اللَفظيّ (أي الزيادة والنقصان اللفْظِيّ) بل هو التحريف المعنوي، أي التفسير الخاطىء للآيات الشريفة، مثال على ذلك قوله تعالى ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ[2] والتي بها استدل الخوارج على نفي ولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام جهلاً منهم بحقيقة تأويلها وتفسيرها[3].

 

ثالثاً: إنّ الواجب على الذين يريدون التعرّف على المعتقد الواقعي لأتباع مذهب من المذاهب، أنْ يرجعوا إلى الكتب الاعتقاديّة والعِلمية لذلك المذهب، لا الكتب الحديثية (أي التي تضم الأحاديث والأخبار) التي يَهتَمُّ مؤلّفها في الأغلب بجمع




[1] الطبرسي, مجمع البيان، بيروت- لبنان، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1415هـ- 1995م، ج1، ص 66.

[2] سورة الأنعام، الآية 57.

[3] من كلام للإمام علي عليه السلام في الخوارج لما سمع قولهم: لا حكم إلا لله, قال عليه السلام:"كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ!! نَعَمْ إِنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلهِ، ولَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَا إِمْرَةَ إِلَّا لِلهِ، وإِنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ، ويَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِر، ويُبَلِّغُ الله فِيهَا الأَجَلَ ويُجْمَعُ بِهِ الْفَيْءُ، ويُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ وتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ، ويُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ ويُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ" نهج البلاغة، خطبة: 40.

211


173

الدرس التاسع عشر: النبوّة (6) صيانة القرآن من التحريف

 الأحاديث وتدوينها، تاركاً التحقيق فيها، والاستفادة منها للآخرين. كما أنّه لا يكفي لمعرفة المعتقد الحقيقيّ والمسَلَّم لأي مذهَبٍ من المذاهب، الرجوعُ إلى الآراء الشاذّة التي طَرَحَها أو يطرحُها أفرادٌ من أتباع ذلك المذهب.

 

وأساساً لا يمكن الاِستناد إلى قولِ فردٍ أو فردين في مقابل رأي الأكثريّة القاطعة والساحقة من عُلَماء المذهب وجعله مِلاكاً صحيحاً للحُكمِ على ذلك المَذهَب. وفي خاتمة البحث عن التحريف من الضَروريّ أنْ نُذَكّرَ بعدة نقاط هي:

1- إنّ اتّهام بعض المذاهب الإسلامية البعضَ الآخر بتحريف القرآن وخاصّة في العصر الحاضر لا يستفيد منهُ سوى أعداء الإسلام، وخصومه، ومناوئيه.

2- إذا أقدَمَ أحدُ علماء الإمامية إلى كتابة كتاب حولَ تحريف القرآن، وجب أن نعتبر ذلك رأيه الشخصيّ وليس رأيَ الأكثريّة الساحقة من علماء الإمامية.

 

ولهذا نرى أنّه أقدم علماءُ كثيرون من الإمامية إلى كتابة ردودٍ عديدةٍ على ذلك الكتاب. تماماً كما حَدَثَ في أوساط أهل السنة حيث أقدم أحدُ علماء مصر على تأليف كتابٍ في تحريف القرآن باسم "الفرقان" عام 1345 هـ. ق، فَرَدَّ عليه علماءُ الأزهر، وأمَرُوا بمصادَرَتِهِ.

 

3- إنّ من العجيب جداً أن يحمل بَعْضُ المغرضين الذين أيسوا من الأساليب الأخرى، كلّ هذه التصريحات القاطعة من قِبَل علماء الشيعة الإماميّة بعدم تحريف القرآن الكريم على "التقيّة"!!.

 

فإنّه يقال لهؤلاء بأنّ "التقية" ترتبط بأحوال شخصٍ يكون في ظروف الخوف والخطر، وهؤلاء العلماء الكبار لم يكونوا يخافون أَحداً حتّى يضطرّوا إلى ممارسة "التقيّة".

 

ثم إنّ هذه الكتب قد ألّفها علماءُ الإمامية ـ في الأساس ـ لأتباع المذهب الشيعيّ، والهدف منها هو تعليم عقائد الشيعة لأتباع ذلك المذهب، ولهذا فإنّ من الطبيعي أنْ تحتوي هذه الكتُبُ على العَقائِدِ الحقيقية. 

212


174

الدرس التاسع عشر: النبوّة (6) صيانة القرآن من التحريف

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ الكتبَ السماويّة التي عَرَضَها الأنبياء السابقون تعَرّضت للتحريف.

 

- أدلّة عدم تحريف القرآن الكريم:

1- تعهَّدَ الله تعالى صراحةً بحفظ القرآن، بنفسِهِ إذ قال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.

2- نفى الله تعالى تطرُّق أيِّ نوعٍ من أنواع الباطل إلى القرآن الكريم مهما يكن مصدرُهُ، نفياً قاطعاً.

3- إنّ التاريخ يشهدُ بأنَّ المسلمين كانوا يعتنون بالقرآن الكريم تعلّماً وتعليماً، قراءةً وحِفظاً أشدّ الاعتناء.

 

- قَسَّمَ الإمام الخمينيّ قدس سره, الرواياتِ التي فُهِمَ منها وقوعُ التحريف في القرآن الكريم إلى ثلاثة أقسام:

1- الروايات الضَعيفةُ التي لا يمكن الأستفادة منها والأخذ بها أبداً.

2- الروايات المختلَقَة التي تلوح عليها علائم الوضع والاختلاق.

3- الروايات الصحيحة التي لو تأمَّلْنا فيها بدقّة لاتّضح أنّ المقصودَ منها ليس هو التحريف اللَفظيّ (أي الزيادة والنقصان اللفْظِيّ) بل هو تحريف حقائِقها ومفاهيمها.

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- كيف يمكن الاستدلال على عدم تحريف القرآن من خلال آية: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾؟

2- اذكر أسماء ثلاثة من علماء الشيعة ينكرون وقوع التحرف في القرآن الكريم.

3- كيف تمت مناقشة الروايات التي تشير إلى تحريف القرآن الكريم؟

213


175

الدرس التاسع عشر: النبوّة (6) صيانة القرآن من التحريف

 للمطالعة

 

أوصاف القرآن والنّجاة به

عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

 

أيّها الناس! إنّكم في دار هدنة[1]، وأنتم على ظهر سفر، والسير بكم سريع، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كلّ جديد، ويقرّبان كلّ بعيد، ويأتيان بكلّ موعود، فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز.

 

قال: فقام المقداد بن الأسود، فقال: يا رسول الله! وما دار الهدنة؟

 

"قال: دار بلاغ وانقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنّه شافع مشفّع، وماحل مصدّق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدلّ على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم، وباطنه علم، ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له نجوم، وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جال بصره، وليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب[2] ويتخلّص من نشب[3]، فإنّ التفكّر حياة قلب البصر، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، فعليكم بحسن التخلّص وقلّة التربّص"[4].




[1] الهدنة: السكون، الصلح بين المسلمين والكفّار وبين كلّ متحاربين، مجمع البحرين، ج4: ص413 (هدن).

[2] العطب: الهلاك. مجمع البحرين، ج3: ص201 (عطب).

[3] نشب في الشيء إذا وقع فيما لا مخلّص له منه. مجمع البحرين، ج4: ص312 (نشب).

[4] الكليني، الكافي، ج2، ص 598، ح 2.

214


176

الدرس العشرون: النبوّة (7) خصائصُ نُبُوّةِ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

 الدرس العشرون: النبوّة (7) خصائصُ نُبُوّةِ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

 

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن عالميّة الدّين الإسلاميّ.

2- يشرح مسألة كمال الدين الإسلامي وسرّ خلوده.

3- يبيّن مظاهر السهولة والاعتدال في الدين الإسلامي.

215


177

الدرس العشرون: النبوّة (7) خصائصُ نُبُوّةِ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

 مقدّمة

حيث إنّ نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبوة خاتمة لا نبوة بعدها، فقد تميّزت عن نبوّة الأنبياء السابقين له صلى الله عليه وآله وسلم بخصائص معيّنة نظرًا للأهداف المنشودة منها، وكان لتلك الخصوصيات تأثير كبير على نشر الديانة الإسلامية في المجتمع البشري بسرعة عالية، وعلى رقعة واسعة من العالم مع كل المصاعب التي كانت وما زالت تحيط بها. إنّ لِدَعوة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم خصائصَ، أهمُّها أربعة أُمور، وهي:

 

عالمية دعوة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته

إنّ دعوةَ النبيّ الأكرم ونبوَّتَه ورسالَتهُ، عالميةٌ، ولا تختصُّ بقومٍ دون قومٍ، ومنطقةٍ دون أُخرى. كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا[1]. ويقول أيضاً: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ[2]. من هنا نرى كيفَ أنّه كانَ يستفيدُ في دعوته من لفظة (النّاس) وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ﴾[3].

 

نعم عندما بدأَ النبيُّ الأكرمُ دعوَته كان طبيعيّاً أنْ ينذِرَ قومَه في المرحلةِ الأولى، ويوجّه خِطابه إلى قومِهِ لينذرَ قوماً لم يُنذَرُوا مِن قَبل: ﴿لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ




[1] سورة سبأ، الآية 28.

[2] سورة الأنبياء، الآية107.

[3] سورة النساء، الآية 170.

217


178

الدرس العشرون: النبوّة (7) خصائصُ نُبُوّةِ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

 مِّن قَبْلِكَ﴾[1]. ولكن هذا لم يكن ليعني أنَّ مجالَ رسالته محدودٌ بجماعةٍ خاصةٍ، وإرشادِ قومٍ خاصّين.

 

ولهذا السبب نرى القرآنَ - أحياناً - في الوقت الذي يوجّه دعوته إلى جماعة خاصّة، يعمد فوراً إلى اعتبار دعوته تلك حجةً على كلّ الذين يمكن أن تبلغَهُمْ دعوتُه. إذ يقول: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ[2].

 

إنّ مِنَ البديهيّ أنّ على الأنبياء أنْ يَبدأوا أقوامَهم في البداية سواء أكانت دعوتهم عالميّة، أم محلِّية.

 

وهذا هو القرآنُ الكريم يُذَكّرُ بهذه الحقيقة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ[3].

 

إنّ نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء

إنّ نبوّة رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم نبوّةٌ خاتمةٌ، كما أنّ شريعته كذلك خاتمةُ الشرائع، وكتابهُ خاتمُ الكتب أيضاً. يعني أنّه لا نبيَّ بعدَه، وأنّ شريعَتَه خالدةٌ، وباقيةٌ إلى يوم القيامة.

 

ونحنُ نستفيدُ من خاتميّة نبوّته أمرين:

1- إنّ الإسلام ناسخٌ لجميع الشرائعِ السابقة، فلا مكانَ لتلك الشرائعِ بعد مجيء الشريعةِ الإسلاميةِ.

2- إنّه لا وجودَ لِشَريعةٍ سماويةٍ في المستقبل، وادّعاء أي شريعة بعد الشريعة الإسلامية أمرٌ مرفوضٌ.



[1] سورة السجدة، الآية 3.

[2] سورة الانعام، الآية 19.

[3] سورة إبراهيم، الآية 4.

218


179

الدرس العشرون: النبوّة (7) خصائصُ نُبُوّةِ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

 إنّ مسألة الخاتميّة طُرحت - في القرآن والأحاديث الإسلامية - بشكلٍ واضحٍ، بحيث لا تترك مجالاً للشك لأحد.

 

وفيما يأتي نشيرُ إلى بعضها في هذا المجال: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا[1]. والخاتَم هو ما يوضع في الإصبع من الحُليّ، وكان في عصر الرسالة يُخَتُم بفصّه على الرسائل، والمعاهدات، ليكونَ آيةً على انتهاءِ المكتوب.

 

وفي ضوء هذا البيان يكون مفاد الآية هو أنّ كتابَ النبوّات والرسالات خُتِم بمجيء رسول الإسلام فلا نبيَّ بعدَه، كما يُخَتمُ الكتاب بالخاتَم، فلا كلامَ بعدَه.

 

على أنّ لفظَ الرسالة حيث إنّه ينطوي على معنى إبلاغ أشياء (الرسالة) يتلّقاها النبي عن طريق الوحي (النبوة)، لهذا فإنّ من الطبيعي أنْ لا تكونَ الرسالة الإلهيّة من دون نبوّة، فيكون ختم النبوات ملازماً في المآل لختم الرسالات. ثم إنّ في هذا المجال أحاديث وروايات متنوّعة، وعديدة، نكتفي بذكر واحد منها وهو حديثُ "المنزلة".

 

فعندما كان رسولُ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يتهيّأَ لغزوة تبوك، خلّف الإمام عليّاً عليه السلام في المدينة وقال له: "أما ترضى أنْ تكونَ منّي بِمَنزلةِ هارونَ مِن مُوسى إلاّ أنّه لا نبيَّ بَعدِي"[2]. هذا وثمَّت مجموعةٌ من الأحاديث المتواترةِ إجمالاً ترتبط بالخاتميّة عدا حديث "المنزلة" المتواتر نُقِلَت ورُوِيت في الكتب.

 

كمال الدين الإسلامي

إن سرَّ خلودِ الشريعة الإسلامية يَكْمُنُ في أمرين:

الأول: إنّ الشَريعة الإسلامية تُقَدّمُ لضمان وتحقيق حاجة البَشَرِ الطبيعيّة




[1] سورة الاَحزاب الآية 40. لا تنحصر الآياتُ الدالّة على خاتميّة رسول الإسلام في هذه، بل هناك سِت آيات قرآنيّة في هذا المجال تدلّ على خاتميته. راجع كتاب مفاهيم القرآن للشيخ السبحاني،:ج 3، ص 130 ـ 139.

[2] المجلسي، بحار الأنوار، ج5، ص20.

219


180

الدرس العشرون: النبوّة (7) خصائصُ نُبُوّةِ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

 والفطريّة، الى الهدايات الإلهيّة، أكمل برنامج عُرِف بحيث لا يمكن تصوّر ما هو أفضل وأكمل منه.

الثاني: بَيَّنَ الإسلام في مجال الأحكام العمليّة كذلك سلسلةً من الأصول والكليّات الجامعة والثابتة التي يمكنها أن تلبّي الحاجاتِ البشريةِ المتجدّدةِ والمتنوعة أوّلاً بأوّل.

 

ويشهد بذلك أنّ فُقَهاء الإسلام (وبالأخص الشيعة منهم) قدّروا طوال القرون الأربعة عشر الماضية أنْ يلبُّوا كلّ احتياجات المجتمعات الإسلامية على صَعيد الأحكام، ولم يَحْدُث إلى الآن أن عَجَزَ الفِقْهُ الإسلاميّ عنِ الإجابة على مُشكلةٍ في هذا المجال.

 

هذا والأمور التالية مفيدةٌ، ومؤثرةٌ في تحقيق هذه الغاية وهذا الهدف:

1- حجّيّة العقل:

إنّ اعتبار العقل، ومنحه الحجية، والقيمة المناسبة في المجالات التي يقدر فيها على الحكم والقضاء، هو إحدى طرق استِنْباط وظائِفِ البشر في الحياة.

 

2- فتح باب الاجتهاد:

إن فتح باب الاجتهاد في وجه الأمّة الإسلامية ـ الذي يُعتبر من مفاخر الشيعة وامتيازات التشيّع ـ هو الآخرَ من الاَسباب الضامنة لخاتمِيّة الدين الإسلاميّ واستمراريّته، لأنّه في ظلّ الاجتهاد الحيّ والمستمرّ يمكن استنباط أحكام الموضُوعات، والحوادث الجديدة، باستمرار، من القواعد والضوابط الإسلامية الكليّة.

 

السهولة والاعتدال

من خصائص الشَريعة الإسلاميّة "الاعتدالُ"، و"سهولة درك المفاهيم والأحكام الإسلامية"، وهو أمر يمكن أنْ يكون أَحدَ أهَمّ أسباب نفوذ هذا الدين وانتشاره بين شعوب العالم المختلفة.

 

إنّ الإسلام يعرض - في مجال معرفة الله - توحيداً

220


181

الدرس العشرون: النبوّة (7) خصائصُ نُبُوّةِ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

 خالصاً، وواضحاً، وبعيداً عن أيّ إيهام وتعقيدٍ. فسورة "التوحيد" التي هي من سُوَر القرآن القصار، يمكن أنْ تكون خير شاهد على هذا الأمر.

 

كما أنّ القرآنَ يُؤكّد في مجال مكانة الإنسان أيضاً على مَبدأ التَّقوى الّذي هو شاملٌ لجميع الخِصال الأخلاقية، الرفيعة، والنبيلة. وفي مجال الأحكام العملية نرى كذلك أنّ الإسلام يَنفي أيَّ عُسْرٍ وحَرَجٍ، وقد وَصَفَ النبيُّ نفسُهُ شريعتَهُ بالسهولة والسَّماحة فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لم يرسلني الله تعالى بالرهبانيّة، ولكن بعثني بالحنيفيّة السهلة السمحة..."[1].

 

ورغم أنَّ بعضَ المستشرقين بسبب جهلهم أو عنادِهم يرون أنّ القوّة والسِّيف كان هو السبب في انتشار الإسلام السريع، والعريض في العالم، فَإنّ المحقّقين المنصفين وغير المغرضين حتى من العلماء غير المسلمين يذعنُون - بكلّ صَراحة - أنَّ أهمَّ عاملٍ لانتشار الإسلام السريع، هو وضوح التعاليم والأحكام الإسلامية وجامعيّتها. كما قال العالِمُ الفرنسي المعروف، الدُكتور "غوستاف لوبون" في هذا المجال: إنّ رمزَ تقدّم الإسلام يكمن في سُهُولته. إنّ الإسلام منزّه عن الأمور التي يمتنعُ عن قبولها العقلُ السليم.

 

إنّنا مهما أمعنّا النظر وفكرنا فإنّنا لن نجد أبسط من أُصول الإسلام الذي يقول: اللهُ واحد، والناسُ أمامَ الله سواسية، والإنسان يحظى بالجنة والسعادة بالإتيان بعدّة فرائض دينيّة، ويقع بالإعراض عنها في جهنم. إنّ وضوح الإسلام وتعاليمه وبساطتها هذه ساعدت كثيراً على تقدّم هذا الدين في العالم.

 

والأهم من هذا، ذلك الإيمان الراسخُ الذي صَبَّه وأوجدَه في القلوب، إنّه إيمانٌ لا تقدر أيّةُ شُبْهةٍ على اقتلاعه. إنّ الإسلام كما أنّه يكون أنسبَ من أيّ دينٍ آخر، وأكثره ملائمةً مع المكتشفات العلمية. كذلك هو في مجال حمل الناس على العفو والصفح أكبر دين يستطيع أنّ يتولّى مهمة تهذيب النفوس والأخلاق[2].




[1] الكليني ، الكافي، ج5، ص494.

[2] حضارة العرب تأليف غوستاف لوبون.

 221


182

الدرس العشرون: النبوّة (7) خصائصُ نُبُوّةِ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ لِدَعوة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم خصائصَ أهمُّها أربعة أُمور، وهي:

 

الأولى: عالمية دعوة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته.

الثانية: كمال الدين الإسلامي.

الثالثة: السهولة والاعتدال من خصائص الشريعة الإسلامية.

 

- إنّ دعوةَ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ونبوَّتَه ورسالَتهُ، عالميةٌ، ولا تختصُّ بقومٍ دون قومٍ.

 

- إنّ نبوّة رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم نبوّةٌ خاتمةٌ، كما أنّ شريعته كذلك خاتمةُ الشرائع، وكتابهُ خاتمُ الكتب.

 

- إن سرَّ خلودِ الشريعة الإسلامية يَكْمُنُ في أمرين:

1- إنّ الشَريعة الإسلامية تُقَدّمُ لضمان وتحقيق حاجة البَشَرِ الطبيعيّة والفطريّة، أكمل برنامج عُرِف بحيث لا يمكن تصوّر ما هو أفضل وأكمل منه.

2- بَيَّنَ الإسلام في مجال الأحكام العمليّة كذلك سلسلةً من الأصول والكليّات الجامعة والثابتة التي يمكنها أن تلبّي الحاجاتِ البشريةِ المتجدّدةِ والمتنوّعة أوّلاً بأوّل.

 

- من خصائص الشَّريعة الإسلاميّة "الاعتدالُ"، و"سهولة درك المفاهيم والأحكام الإسلامية".

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- كيف بيّن القرآن الكريم عالميّة نبوة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم؟

2- ما الذي نستفيده من القول بخاتميّة نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم؟

3- بيّن ما هي الأمور التي تشير إلى سهولة الدين الإسلامي واعتداله.

222


183

الدرس العشرون: النبوّة (7) خصائصُ نُبُوّةِ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

 للمطالعة

 

النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء

عن عباية بن ربعي الأسدي، قال: دخلت على أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، وأنا خامس خمسة وأصغر القوم سنّاً، فسمعته يقول: حدّثني أخي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: إنّي خاتم ألف نبيّ وإنّك خاتم ألف وصيّ.

 

وكلّفت ما لم يكلّفوا، فقلت: ما أنصفك القوم: يا أمير المؤمنين! فقال: ليس حيث تذهب بك المذاهب يا ابن أخي! والله! إنّي لأعلم ألف كلمة لا يعلمها غيري وغير محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّهم ليقرءون منها آية في كتاب الله عزّ وجلّ وهي: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ[1] وما يتدبّرونها حقّ تدبّرها.

 

ألا أخبركم بآخر ملك بني فلان؟

 

قلنا: بلى، يا أمير المؤمنين! قال: قتل نفس حرام، في يوم حرام، في بلد حرام، عن قوم من قريش والذي فلق الحبّة! وبرأ النسمة! ما لهم ملك بعده غير خمس عشرة ليلة، قلنا: هل قبل هذا أو بعده من شيء؟

 

فقال: صيحة في شهر رمضان تفزع اليقظان، وتوقظ النائم، وتخرج الفتاة من خدرها[2].




[1] سورة النمل، الآية 82.

[2] النعماني، الغيبة، تحقيق: فارس كريم، منشورات أنوار الهدى، قم- إيران، 1422هـ، ص 267، ح 17.

223


184

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة (1) دور الإمامة وضرورته

  

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة (1) دور الإمامة وضرورتها

 

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن ضرورة الإمامة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

2- يوضح معنى كلمة الشيعة اصطلاحًا.

3- يلخِّص وظائف الإمام بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

225


185

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة (1) دور الإمامة وضرورته

 مقدّمة

لَقَدْ رَحَلَ النبيُّ الأكرمُ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في مطلع العام الحادي عشر الهجري بعد أنْ اجتهد طوال 23 سنة في إبلاغ الشريعة الإسلامية.

 

ومع رحيل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم انقطعَ الوحيُ، وانتهت النُبوَّةُ، فلم يكن نبيٌّ بعده ولا شريعةٌ بعد شريعته، إلاّ أنّ الوظائف والتكاليف التي كانت على عاتق النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم (ما عدا مسألة تلقِّي الوحي وإبلاغه) لم تنته حتماً.

 

ولهذا كان يجب أن يكونَ بعد وفاته شخصيةٌ بمستوى شخصيته واعيةٌ وصالحةٌ تواصل القيام بتلك الوظائف والمهام وتقود المسلمين ويكون لهم إمامٌ خلافةً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

إنّ مسألة ضرورة وجود خليفة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم موضعُ اتّفاق بين المسلمين، وإنْ اختلف الشيعة والسنة في بعض صفات ذلك الخليفة وطريقة تعيينه.

 

فلا بدّ في البداية من توضيح معنى "الشيعة" و "التشيع"، وتاريخ نشأته وظهوره، ليتسنّى بعد ذلك البحثُ في المسائل المتعلّقة بالإمامة والخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

الشيعة لغة واصطلاحاً

"الشِيعَة" في اللغة بمعنى التابِع، وفي الاصطلاح تُطلَقُ هذه اللفظة أو التسمية على فريقٍ من المسلمين يعتقدون بأنّ قيادة الأمّة الإسلاميّةِ بعد وفاةِ رَسُول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي من حقّ الإمام عليّ عليه السلام وأبنائه المعصومين.

227


186

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة (1) دور الإمامة وضرورته

 وقد تَحَدّثَ النبيُّ الأكرمُ أيّام حياته عن فضائل الإمام عليّ عليه السلام ومناقبه، وكذا عن قيادته وزعامته للأمّة الإسلاميّة من بعده، مراراً وفي مناسبات مختلِفة، بشهادة التاريخ المدوَّن.

 

إنّ هذه التوصيات والتأكيدات تسبَّبت - كما تحدِّثُنا الأحاديثُ الموثّقة - في أن يلتَفَّ فريقٌ مِنَ الصحابة حول الإمام عليّ عليه السلام في حياة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتحبّه قلوبُهم، فتُعْرف بشيعةِ عليّ عليه السلام.

 

ولقد بقيت هذه الثُلّة من الصحابة على ولائها واعتقادها السابق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون أنْ تؤثر المصالحَ الفرديّةَ على تنصيص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووصيَّته في مجال الخلافة وقيادة الأمّة من بعده.

 

وهكذا سُمِّيَت جماعةٌ من المسلمين في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبَعد حياته الشريفة بالشيعة. وقد صَرّحَ بهذا جماعةٌ من المؤلّفين في الملل والنحل. قال الشهرستاني: الشيعة هم الذين شايَعوا علِيّاً على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافتِهِ نصّاً ووصيّة[1].

 

وعلى هذا الأساس فليس للشيعة تاريخ غير تاريخ الإسلام وليس له مبدأُ ظهور غير مبدأ ظهور الإسلام نفسه، وفي الحقيقة إنّ الإسلام والتشيّع وَجْهان لعُملةٍ واحدةٍ أو وَجهان لحقيقةٍ واحدةٍ، وتوأمان وُلدا في زَمَنٍ واحدٍ.

 

وقد ذكر المحدّثون والمؤرّخون أنّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم دعا في السَنَوات الأولى من دعوته بني هاشم، وجمعهم في بيته وأعلن فيهم عن خلافة عليّ ووصايته (في ما يسمّى بحديث بَدء الدعوة أو يوم الدار) وأعلن عن ذلك للناس فيما بعد مكرّراً، وفي مناسبات مختلفة ومواقف متعدّدة، وبخاصة في يوم الغدير، الّذي طرح فيه خلافة عليٍّ بصُورةٍ رسميّة، وأخذَ البيعة من النّاس له وسيوافيك تفصيله.




[1] الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق: محمد سيد كيلاني، بيروت- لبنان، دار المعرفة،ج 1 ص146.

228


187

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة (1) دور الإمامة وضرورته

 إنّ التشيُّع ليس وليدَ حوادث السقيفة ولا فتنة مصرع عثمان، بل إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي بذر بذرة التشيّع لأوّل مرة وغرس غرستها في قلوب الصحابة بتعاليمه السماوية المكرّرة.

 

ونمت تلك الغرسة فيما بعد شيئاً فشيئاً، وعُرِف صحابةٌ كبارٌ كأبي ذرّ، وسلمان، والمقداد، باسم الشيعة. وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ[1]. قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "هُمْ عَلِيٌّ وَشِيْعَتُهُ"[2]. على أنّه لا تَسَعُ هذه الرسالةُ المختصرةُ لذكر أسماء الشيعة الأوائل من الصَّحابة، والتابعين الذين اعتَقَدُوا بخلافَتِهِ للنبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم بصورةٍ مباشرةٍ وبلا فصل.

 

إنّ التشيُّعَ بالمفهوم المذكور هو الوجه المشترك بين جميع الشيعة في العالم، والذين يشكّلون قِسماً عظيماً مِن مُسْلِمِي العالم. ولقد كانَ للِشيعة جنباً إلى جنب مع سائر المذاهب الإسلامية وعلى مدى التاريخ الإسلامي إسهامٌ عظيمٌ في نشر الإسلام، وقَدَّمُوا شخصياتٍ عِلميّة وأَدَبيّة وسياسيّة جدّ عظيمة إلى المجتمع البشري ولهم حضور فاعل في أكثر نقاط العالم الراهِن أيضاً.

 

ما هي وظائف الإمام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟

أشرنا في مطلعِ بحث الإمامة إلى أنّ خليفة النبي والإمام إنّما هو في نظر المسلمين من يقوم بوظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي من أبرزها:

 

1- تَبيين مفاهيمِ القُرآن الكَريم وحلّ مُعضلاته، وبيان مقاصده، وهذا هو من أبرز وظائف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقول عنها القرآن الكريم: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[3].




[1] سورة البيّنة، الآية 7.

[2] الحسكاني، شواهد التنزيل، تحقيق: محمد باقر المحمودي، قم- إيران، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، 1411هـ-1990م، ج2، ص466.

[3] سورة النحل، الآية 44.

229


188

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة (1) دور الإمامة وضرورته

 2- بيانُ الأحكام الشرعية، فقد كانَ هذا العَمَل من وظائفِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان يقوم بذلك عن طريق تلاوة الآيات المتضمّنة للأحكام حيناً وعن طريق السّنة حيناً آخر. ثمَّ إنّ بَيان الأحكام من جانب النبيّ تم بصورةٍ تدريجيّة، ومتزامناً مع وقوع حوادثَ جديدةٍ، وظهورِ احتياجات حديثة في حياة الأمّة، ومثل هذا الأمر يقتضي بطبيعته أن تستمر هذه الوظيفةُ، لعدم انحصار الحاجات بما حدث في عصره صلى الله عليه وآله وسلم.

 

 

3- حيث إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان محوراً للحقّ، وكان بتعليماته، يمنع من تطرّق أيّ انحرافٍ، وتسرّبِ أيّ اعوجاجٍ في عقائد الأمّة، لهذا لم يحدث أيُّ تفرّقٍ عقائديّ، وأي تشتُّتٍ مذهبيّ في عَصره أو لم يكن هناك أَرضية لظهور ذلك.

 

4- الإجابة على الأسئلةِ الدينيّة والاعتقادية، فقد كان هذا العملُ هو الآخر من وظائف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الهامَّة.

 

5- إقامةُ القِسطِ والعَدل والأمن العامّ الشامل في المجتمع الإسلاميِّ، وظيفة أُخرى من وظائف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

6- حِفظُ الثغور، والحدُود، والثروة الإسلاميّة تجاه الأعداء هو أيضاً من مسؤوليات النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ووظائفه.

 

من المُسَلَّم والقطعيّ أنّ القيامَ بهذه الوظائِفِ وبالخصوص بيانُ مَفاهيمِ القرآنِ الكريمِ الخفيّة، الغامِضَةِ، وبيانُ أحكامِ الشَّرع و... يَحتاج إلى قائد واعٍ خبيرٍ، يكون موضعَ عناية الله الخاصّة، كما يكون في عِلمِهِ صنوَ النبيّ ونظيرهُ، أيْ أن يكون حاملاً للعلومِ النَبَوّية ومَصُوناً من كل خطأ وزلل، ومعصوماً من كلّ ذنبٍ وخطلٍ، ليستطيع القيامَ بالوظائف الجسيمة المذكورة، وليملأ الفراغ الذي أحدثه غيابُ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بسبب وفاته، في الظروف الزاخرة بالأحداث الحُلوة والمرَّة، وبالوقائع الحرجة.

 

إنّ من البديهيّ أنّ تَشخيصَ مثلِ هذا الشخصِ، والمعرفة به لإيكال منصب

230


189

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة (1) دور الإمامة وضرورته

 القيادة إليه، خارجٌ عن حدود عِلمِ الأمّةِ ونِطاق معرِفتها، ولا يمكن أن يتُمَّ بغير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبالأمر الإلَهيّ وتعيينهما إيّاه. ومنَ الواضح أيضاً أنّ تَحقُّق الأهداف المذكورةِ رهنُ حماية النّاس، واستجابتهم وإطاعتهم للقائد المعيَّن، بواسطةِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وهذا جارٍ حتّى في القرآن الكريم والنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم نفسِه، فإنّهما ما لم يُطاعا لا تتحقّق أهدافهما.

 

الإمامة مسألة عقليّة

قبل أن نعمدَ إلى استعراض وبيان الأدلّة النقليّة والشرعيّة في هذا المجال، نستعرض حُكم العقلِ في هذه الحالة، آخذين بنظر الاعتبار ظروف تلك الفترة (أي فترة ما قبل وما بعد رحيل النبيّ)، وملابساتها.

 

إنَّ العقلَ البديهيَّ يحكم بأنّ أي إنسانٍ مصلحٍ إذا استطاع من خلال جهودٍ مُضنية دامت سَنَواتٍ عديدةً، من تنفيذ أُطروحةٍ اجتماعيّة خاصة له، وابتكر طريقة جديدة للمجتمع البشريّ فإنّه لا بدّ من أن يفكِّر في وسيلةٍ مؤثِّرة للإبقاء على تلك الأطروحة، وضمان استمرارها، بل رُشدها، ونموّها أيضاً، وليس من الحكمة أن يؤسّسَ شخصٌ مّا بناءً عظيماً، متحمّلاً في ذلك السبيل متاعبَ كثيرة، ولكن لا يفكِّر فيما يقيه من الأخطار، ولا ينصب أحداً لصيانته والعناية به، من بعده.

 

إنَّ النبيَّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من أكبر الشخصيّات العالميّة في تاريخ البشريّة، قد أوجَد ـ بما أتى من شريعة ـ أرضيّةً مساعدةً لتحوّلٍ إلهيٍّ عالميٍ كبيرٍ، ومَهَّدَ لقيام حضارةٍ جدُّ حديثةٍ، وفريدةٍ.

 

إنّ هذه الشخصيّة العظيمة، التي طَرَحَت على البشريّة شريعةً خالدةً، وقادت المجتمعَ البشريّ في عصرِهِ وأيام حياته، من المسلَّم أنّه فَكَّر لحفظ شريعته من الأخطار والآفات المحتملة التي تهدِّدها في المستقبل، وكذا لهداية أُمّته الخالدة،

231


190

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة (1) دور الإمامة وضرورته

 وإدارتها، وبيّن صيغة القيادة من بعده، وذلك لأنّه من غير المعقول أن يؤسّس هذا النبيُ الحكيمُ قواعدَ شريعةٍ خالدةٍ أبديّةٍ، دون أنْ يطرح صيغة قويّة لقيادتها من بعده، يضمن بها بقاء تلك الشريعة.

 

إنَّ النبيَّ الَّذي لم يألُ جُهداً في بيان أَصغر ما تحتاج إليه سعادةُ البشرية، كيفَ يُعقَل أنْ يسكتَ في مجال قيادة المجتمع الإسلامي وصيغتها، وكيفيتها، والحال أنّها من المسائل الجوهريّة، والمصيريّة، في حياة الأمّة، بل وفي حياة البشريّة، وفي الحقيقة يترك المجتمعَ الإسلاميَّ حيارى مهمَلين، لا يَعرِفون واجبهم في هذا الصعيد؟!

 

الإمامة والخطر الثلاثي

إنّ مراجعةَ التاريخ، وأخذِ الظروف التي كانت تحيط بالمنطقة، وبالعالم في زمان رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقُبَيل وفاتهِ بالذات بنظر الاعتبار تثبت ـ بِوُضوح بداهة وضرورةَ النصّ على منصب الإمامة، وذلك لأنّ أخطاراً ثلاثة كانت تهدّد الدينَ والكيانَ الإسلاميَّ، وتحيط به على شكلِ مُثَلّثٍ مَشؤُومٍ.

 

الضِلعُ الأوَّل: مِن هذا المثلَّث الخَطِر كان يتمثَّل في الإمبراطورية الروميّة.

 

والضلع الثانِي: كانَ يَتمثّل في الإمبراطوريّة الفارسيّة.

 

والضلعُ الثالث: كان يَتَمثَّل في فريق المنافقين الداخِلِيّين.

 

وبالنسبة لخَطَر الضلعِ الأوّل، وأهميّته القُصْوى يكفي أن نعلمَ أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل يفكِّر فيه حتى آخر لحظة من حياته، ولهذا جهّزَ ـ قُبَيل أيّام بل ساعاتٍ من وفاته ـ جيشاً عظيماً بقيادة "أُسامة بن زيد" وبَعَثَه لمواجهة الروم، كما ولَعَنَ مَن تَخلَّفَ عنه أيضاً.

 

وبالنسبة لخطَر الضِلعِ الثاني يكفي أن نعرفَ أنّه كان عَدُوّاً شرساً أيضاً أقدمَ

232


191

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة (1) دور الإمامة وضرورته

 على تمزيقِ رسالةِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكتب إلى حاكم اليمن بأنْ يقبضَ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، ويبعث به إليه، أو يرسلَ إليه برأسه.

 

وبالتالي بالنسبة إلى الخَطَر الثالث يجب أن نعلمَ أنّ هذا الفريق (أي المنافقين) كان يقوم في المدينة بمزاحمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستمرار وكان المنافقون هؤلاء يؤذونه بالمؤامرات المتنوِّعة، ويعرقلون حركته، وقد تحدّث القرآنُ الكريمُ عنهم وعن خصالهم، ونفاقهم، وأَذاهم، ومحاولاتهم الخبيثة في سوره المختلفة إلى درجة انّه سمّيت سورة كاملة باسمهم، وهي تتحدّث عنهم وعن نواياهم وأعمالِهم الشرّيرةِ.

 

والآن نطرحُ هذا السؤالَ وهو: هل مع وجودِ هذا المثلَّث الخَطِر كانَ من الصحيحِ أنْ يترك النبيُّ الأكرمُ صلى الله عليه وآله وسلم الأمّة الإسلاميةَ، والدينَ الإسلاميَ اللّذَين كانا محاطَين بالأخطار من كلّ جانب، وكان الأعداءُ لهما بالمرصاد من كلّ ناحية، من دونِ قائدٍ معيّنٍ؟!!

 

إنّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم ولا شكَّ كانَ يَعْلَم أن حياةَ العرب حياة قَبَليّة عشائرية، وأنّ أفرادَ هذه القبائِل كانَتْ مُتَعَصِبّة لرؤساء تلك القبائل، فهم كانوا يطيعون الرؤساء بشدّة، ويخضَعُون لهُمْ خضوعاً كبيراً، ولهذا فإنَّ ترك مِثل هذا المجتمع مِن دون نصبِ قائدٍ معيّن سوف يؤدّي إلى التشتّت والتنازع بين هذه القبائل، وسيستفيد الأعداء من هذا التخاصُم والتَنازع، والاختلاف.

 

وانطلاقاً من هذه الحقيقة قال الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا: "الاستخلاف بالنصّ أصوب، فإنّ ذلك لا يؤدّي إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف"[1].




[1] ابن سينا، الشفاء، الاِلَهيات، تحقيق: الأب قنواتي وسعيد زايد، 1404هـ، منشورات مكتبة آية الله المرعشي، المقالة العاشرة، الفصل الخامس، ج2، ص452.

233


192

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة (1) دور الإمامة وضرورته

 المفاهيم الرئيسة

- مع رحيل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم انقطعَ الوحيُ، وانتهت النُبوَّةُ، فلم يكن نبيٌّ بعده ولا شريعةٌ بعد شريعته، إلاّ أنّ الوظائف والتكاليف التي كانت على عاتق النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لم تنته حتماً.

 

- إنّ مسألة ضرورة وجود خليفة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم موضعُ اتّفاق بين المسلمين، وإنْ اختلف الشيعة والسنة في بعض صفات ذلك الخليفة وطريقة تعيينه.

 

- "الشيعَة" في اللغة بمعنى التابِع، وفي الاصطلاح تُطلَقُ هذه التسمية على من يعتقدون بأنّ قيادة الأمّة الإسلاميّةِ بعد وفاةِ رَسُول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي من حق الإمام عليّ عليه السلام وأبنائه المعصومين.

 

- أبرز الوظائف التي على الإمام هي:

 

1- تَبيين مفاهيمِ القُرآن الكَريم وحلّ مُعضلاته، وبيان مقاصده.

 

2- بيانُ الأحكام الشرعية.

 

3- منع الانحراف والتفرق العقائدي.

 

4- الإجابة على الأسئلةِ الدينيّة والاعتقادية.

 

5- إقامةُ القِسطِ والعَدل والأمن العامّ الشامل في المجتمع الإسلاميِّ.

 

6- حِفظُ الثغور، والحدُود، والثروة الإسلاميّة تجاه الأعداء.

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- ما هو المقصود بالتشيع لغةً واصطلاحًا.

2- كيف تثبت ضرورة الإمامة من خلال العقل؟

3- ما هي وظائف الإمام بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؟

 

234


193

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة (1) دور الإمامة وضرورته

 للمطالعة

العلّة التي من أجلها يحتاج إلى النبيّ والإمام عليهم السلام

حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رضي الله عنه قال: حدثنا عبد العزيز بن يحيى، قال: حدثنا المغيرة بن محمد، قال: حدثنا رجاء بن سلمة، عن عمرو ابن شمر، عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليهما السلام: لأي شيء يحتاج إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام؟ فقال: "لبقاء العالم على صلاحه، وذلك أن الله عز وجل يرفع العذاب عن أهل الأرض إذا كان فيها نبيّ أو إمام، قال الله عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾[1] وقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يكرهون، وإذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يكرهون، يعني بأهل بيته الأئمة الذين قرن الله عز وجل طاعتهم بطاعته، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ[2]، وهم المعصومون المطهرون الذين لا يذنبون ولا يعصون، وهم المؤيدون الموفقون المسددون، بهم يرزق الله عباده، وبهم تعمر بلاده، وبهم ينزل القطر من السماء، وبهم يخرج بركات الأرض، وبهم يمهل أهل المعاصي ولا يعجل عليهم بالعقوبة والعذاب، لا يفارقهم روح القدس، ولا يفارقونه، ولا يفارقون القرآن، ولا يفارقهم، صلوات الله عليهم أجمعين"[3].




[1] سورة الأنفال، الآية 33. 

[2] سورة النساء، الآية 59.

[3] الصدوق، علل الشرائع، ج1، ص187، ح1.

235


194

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة (2) الإمامة في الأحاديث الشريفة

  

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة (2) الإمامة في الأحاديث الشريفة

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يذكر النظريّتين المتعلّقتين في موقف النبيّ من الخلافة.

2- يعدّد الأحاديث التي ترد في ثبوت الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

3- يبيّن حديث الغدير بتفاصيله، وكيف استدلّ به على خلافة الإمام علي عليه السلام.

237


195

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة (2) الإمامة في الأحاديث الشريفة

 الإمام والخليفة في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

والآن وَبعدَ أنْ ثَبَتَ أنَّ الحكمة الإلهية وحِكمةَ النبيّ وعلمهُ كانا يقتَضِيانِ بأن يتخذ موقفاً مناسِباً في مجالِ الِقيادة الإسلاميّة مِن بَعدِهِ، فَلْنرَ ماذا كانَ الموقف الذي اتخذه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الصعيد؟

 

هُناكَ نظريَّتان في هذا المَجال نُدرِجُهُما هنا، ونعمَدُ إلى مناقشتهما:

النظرية الأولى: أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم اختار بأمرِ الله تعالى شخصاً مُمتازاً صالِحاً لقيادةِ الأمّة الإسلاميّة، ونَصَبَهُ لِخلافَتهِ وأخبرَ النّاسَ بذلك.

النظرية الثانيّة: أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوكَلَ اختيار القائد والخليفة من بعده إلى النّاس أنفسِهِم، لينتَخِبوا ـ هم بأنفسِهِم ـ شخصاً لهذا المنصب.

 

والآن يجب أن نرى أيّة واحدة من النظريتين تُستفاد من الكِتابِ والسُّنة والتاريخِ؟

إنَّ الإمعانَ في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مُنذ أن كُلّف بتبليغِ شرِيعتهِ إلى أقربائِهِ وعَشيرته، ثم الإعلان عن دعوتهِ إلى النّاس كافّة، يفيد أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سلك طريق "التنصيص" في مسألة القيادة، والخلافة، مراراً، دون طريق "الإنتخاب الشعبيّ" وهذا الموضوع نثبتهُ من خلال الأمور التالية:

239


196

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة (2) الإمامة في الأحاديث الشريفة

 1- حديث يوم الدار:

 

بعد أن مضى ثلاثُ سَنَوات على اليوم الذي بُعِثَ فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كَلّفهُ اللهُ تعالى بأن يبلّغَ رسالَتَه لأبناءِ قَبيلتِهِ، وذلك عندما نَزَل قولهُ عز وجلّ: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ[1].

 

فَجَمَع النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم رؤوسَ بني هاشم وقال: "يا بني عبد المطّلب إنّي واللهِ ما أعلمُ شابّاً في العَرَبِ جاء قومَه بأفضل ممّا قد جئتكم به إنيّ قد جئتكُم بخَيِر الدُنيا والآخِرة وقد أمَرَنيَ اللهُ تعالى أنْ أدعوكم إليه فأيُّكم يؤازرني على هذا الأمر يكون أخي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم"[2].

 

ولقد كرّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم العبارة الأخيرة ثلاثَ مرّات، ولم يقمْ في كلّ تلك المرّات إلاّ الإمام علي عليه السلام، الّذي أعلَنَ عن استعدادِهِ في كلّ مرّة لمؤازرةِ النَبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ونُصْرته، وفي المرّة الثالِثة قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ هذا أخِي وَوَصيِّي وخَلِيفَتِي فِيكُمْ فَاْسمَعوا لَه وأطيعُوا"[3].

 

2- حَديِثُ المَنْزِلَةِ:

لَقد اعتبر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم منزلةَ عليّ عليه السلام منه على غرارِ منزلةِ هارون من موسى عليهما السلام، ولم يستثنِ من منازِلِ ومراتبِ هارون من موسى إلاّ النبوّة حيث قال: "يا عليّ أما ترضى أن تكونَ مِنّي بمنزلةِ هارونَ من مُوسى إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي"[4] وهذا النفي والسَّلب هو في الحقيقة من بابِ "السالبة بانتفاءِ الموضوعِ". اذ لم تكن بعد رسولِ الله الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم نبوّةٌ حتى يكونَ عليٌّ نبيّاً من بعده إذ بنُبُوّة رسولِ الإسلام خُتمت النبوّات، وبِشريعتِهِ خُتِمت الشّرائِع.



[1] سورة الشعراء، الآية 214.

[2] المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص191.

[3] ابن حنبل، المسند، ج1، ص159.

[4] م.ن، ج3، ص32.

240


197

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة (2) الإمامة في الأحاديث الشريفة

 ولقد كانَ لِهارون عليه السلام بنَصّ القرآنِ الكريمِ مقامُ "النبوّة"[1] و"الخلافة"[2] و"الوزارة"[3] في زمانِ النبي مُوسى عليه السلام، وقد أثبتَ حديثُ "المنزلة" جميعَ هذه المناصب الثابتة لهارون للإمام عليّ عليه السلام ما عدا النُبُوَّة، على أنّه إذا لم يكن المقصودُ مِن هذا الحَديث هو إثباتُ جميعِ المناصبِ والمقاماتِ لعليّ إلاّ النبوَّة، لم يكنْ أيّة حاجة إلى استثناء النُبوّة.

 

3- حَدِيثُ السَّفِينَةِ:

لقد شَبَّه النبيُّ الأكرمُ صلى الله عليه وآله وسلم أهلَ بيته بِسَفينةِ النبيّ نوح عليه السلام الّتي من رَكبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق في الطوفانِ كما قال: "ألا إنّ مَثَل أهلِ بيتي فِيكم مَثلُ سَفينة نُوح في قومه مَن رَكبها نَجا، ومَن تَخلَّفَ عَنها غرِق"[4]. ونحنُ نَعلمُ أنّ سَفينة نوح عليه السلام كانت هي الملجأ الوحيد لنجاة الناس من الطوفان في ذلك الوقت.

 

وعلى هذا الأساس فإنّ أهلَ البيت النبويّ - وفقاً لحديث سفينة نوح - يُعتَبرُون الملجأ الوَحيد للأمّة للنجاة من الحوادث العصيبة والوقائع الخطيرة التي طالما تُؤدّي إلى انحراف البشرية وضلالها.

 

4- حديث "أمان الأمّة":

لقدَ وَصَفَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته بكونهم سَبَباً لوحدة المسلمين،وممّا يوجِبُ ابتعادهم عن الاختلاف والتَشتّت وأماناً من الغَرق في بحر الفِتنة، إذ قال: "النجومُ أمانٌ لأهل الأرض من الغَرَق وأهلُ بَيتي أمانٌ من الاختلاف، فإذا خالَفتها قبيلةٌ




[1] ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾ (سورة مريم، الآية 53).

[2] ﴿وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾ (سورة الاَعراف، الآية 142).

[3] ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي﴾ (سورة طه، الآية 29).

[4] المجلسي، بحار الأنوار، ج23، ص126.

241


198

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة (2) الإمامة في الأحاديث الشريفة

 مِنَ العَرَب اختَلَفوا فصارُوا حزب إبليس"[1]. وبهذا شبّه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته الكرام بالنجوم التي يقول عنها اللهُ سبحانه: ﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ[2].

 

5- حَديثُ الثَقَلَين:

إنّ حديثَ الثّقَلينِ مِنَ الأحاديث الإسلاميّة المتواترة، الّتي نَقَلها وَرَواها علماءُ الفريقين في كتبهم الحديثية. فقد خاطَبَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمّة الإسلامية قائلاً: "إنّي تاركٌ فيكُم الثّقَلَيْن كتابَ الله وَعِتْرَتي أهلَ بَيْتي ما إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بهما لَنْ تَضلُّوا أبَداً وإنّهما لَنْ يَفْتَرِقا حَتى يَرِدا عَلَيَّ الحَوْضَ"[3].

 

إنّ هذا الحديثَ، يُثبتُ - بوضوح - المرجَعيّة العِلميّة لأهلِ البَيْت النَبَويّ جَنْباً إلى جنب مع القرآن الكريم، وَيُلزِمُ المُسلمين بأن يتمسَّكُوا - في الأمور الدينيّة - بأهل البيت إلى جانب القرآن الكريم، ويلتمسوا رأيهم. ولكنّ المؤسفَ جدّاً أن يَلتَمس فريقٌ من النّاس رأيَ كلّ أحد إلاّ رأيَ أهلِ البيت، ويطرقوا بابَ بَيْت كلّ أحد إلاّ باب بيتِ أهل البيت.

 

إنّ "حديث الثقلين" الذي يتفق على روايته الشيعةُ والسنةُ يمكنهُ أن يجمع جميع مسلمي العالم حول محور واحدٍ، لأنّه إذا ما اختلفَ الفريقان في مَسألة تعيين الخليفة والقائد، والزعيم السياسي للأمّة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان لكلّ فريقٍ نظريّته وآلَ الاستنباطُ التاريخيّ في هذا الصعيد إلى انقسام المسلمين إلى فريقين، فإنّه لا يوجَدُ هناك أيُّ دليلٍ للاختلاف في مرجَعيّة أهلِ البيت العلِميّة، ويجب أن يكونوا ـ طِبقاً لحديث الثقلين المتَّفَق عليه ـ متفقين على كلمةٍ واحدةٍ.



[1] الحاكم النيسابوري، المستدرك، تحقيق: يوسف عبدالرحمن المرعشلي، ج3، ص 149.

[2]  سورة النحل، الآية16.

[3] الترمذي، سنن الترمذي، تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر للطباعة والنشر، 1403ه- 1983م، ط2، ج5، ص329، ح3876.

242


199

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة (2) الإمامة في الأحاديث الشريفة

وأساساً كانت مرجعيَّة أهلِ البَيت العلميّة في عَصر الخُلَفاء لعليّ عليه السلام أيضاً، فقد كانوا يرجعون إليه عند الاختلاف في المسائل الدينيّة وكانت المشكلة تُحلُّ بواسطته. وفي الحقيقة منذُ أن عُزل أهلُ بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ساحة المرجَعيّة العلميّة ظهرَ التفرُّقُ والتشرذُمُ، وبرزت الفِرَقُ الكلامِيّةُ المتعدّدةُ الواحدةُ تلو الأخرى.

 

6- حديث الغدير:

كان رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم - كما يبدو في الأحاديث السالفةُ - يعرّف بخليفته ووصيه تارةً بصورةٍ كليّةٍ، وأُخرى بصورةٍ معيّنةٍ، أي بذكر اسم الخليفة والوصيّ بحيث يمثّلُ كلُّ واحدٍ من تلك الأحاديث حجةً كاملةً وتامّةً لمن يطلبُ الحقيقة وهو شهيدٌ واعٍ. ولكن مع ذلك ولكي يُوصِلَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم نداءَه إلى كلّ قاصٍ ودانٍ من المسلمين في ذلك اليوم، ويرفعَ كلّ إبهام وغموضٍ، ويدفع كلّ شكٍ أو تشكيكٍ في هذا المجال، توقّفَ عند قُفوله ومراجَعَته من حجّة الوَداع في أرض تسمى بغدير خم، وأخبر من مَعَه من الحجيج بأنّه كُلِّف مِن جانب الله تعالى بأن يُبلِّغ رسالة إليهم، وهي رسالة تحكي عن القيام بأمرٍ جدّ عظيم، بحيث إذا لم يُبلِّغها يكون كأنّه لم يُبَلّغ شيئاً من رسالته كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾[1]، ثم رقى النبيُّ منبراً من أقتاب الإبل وحُدُوجها، وقال صلى الله عليه وآله وسلم مخاطباً الناس: "يوشك أنْ أُدعى فأجيب فماذا أنتم قائلون؟" قالوا: نَشهدُ أنّك قد بَلّغتَ ونَصحتَ وجَهَدتَ فجزاك اللهُ خيراً.

 

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ألَسْتم تَشهَدون أن لا إلَه إلاّ الله وأنّ محمّداً عَبدُه ورسولهُ وأن الساعة آتيةٌ لا ريبَ فيها؟"

 

قالوا: بَلى نَشْهدُ بذلك.




[1]  سورة المائدة، الآية 67. أشار المحدّثون والمفسِّرون المُسلمون إلى نُزُول هذه الآية في حجّة الوداع، يومَ الغدير، اُنظر: كتابَ "الدرّ المنثور" للسيوطي ج2، ص 298 و "فتح القدير" للشوكاني ج2، ص57.

243


200

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة (2) الإمامة في الأحاديث الشريفة

 قالَ صلى الله عليه وآله وسلم: "فإنّي فَرَطٌ (أي أسبقكُم) على الحوض (أي الكوثر)، فَانظُرُوا كيفَ تَخلِفوُني في الثّقَلَين؟"

 

فنادى مناد: وما الثّقَلان يا رَسولَ الله ؟

 

قالَ صلى الله عليه وآله وسلم: "الثّقَلُ الأكبر كتابُ الله طَرَفٌ بيدِ اللهِ عزَّ وجَلَّ وطَرَفٌ بأيدِيكُمْ فتمَسَّكُوا به لا تَضِلُّوا، والآخَر الأصغَر عترتي، وإنّ اللطيفَ الخبيرَ نبّأني أَنَّهما لنْ يفترقا حتى يَردا عليَّ الحَوضَ، فلا تقدمُوهُما فتَهلكوا، ولا تقصِّروا عنْهما فَتَهْلَكُوا".

 

ثم أخذ بيد عليّ عليه السلام فَرفَعها حتى رؤي بياضُ آباطهما فعرفَه القومُ أجمعون فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أيُّها الناسُ من أولى النّاس بالمؤْمِنين من أنفسِهِم؟"

 

قالوا: اللهُ ورسولهُ أعلمُ.

 

قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله مولايَ، وأنا مَولى المؤمِنِين، وأنا أولى بِهِمْ مِن أنفسهِمْ، فَمَن كنتُ مَولاه فَعَلِيٌّ مولاهُ".

 

ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: "اللّهُمَّ والِ مِن والاهُ، وعادِ من عاداهُ، وأحِبَّ من أحَبَّهُ، وأبْغَضْ مَن أبْغَضَهُ، وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، واخْذُلْ من خَذَلهَ، وأدِرِ الحقَّ معه حيث دارَ، ألا فَلْيُبَلّغِ الشّاهِدُ الغائبَ"[1].

 

حديث الغدير من الأحاديث المتواترة

إنّ حديثَ الغَدِير منَ الأحاديثِ المتَواتِرة، وقد رَواهُ من الصَّحابة والتابعين وعُلماءِ الحديث في كلّ قرنٍ بصورَةٍ متواترةٍ.

 

فقد نقل حديثَ الغدير ورواه (110) من الصحابة، و (89) من التابعين،




[1]  يراجع موسوعة الغدير، ج1،ج2، حيث أورد العلامة الأميني رواية الغدير بصيغها جميعاً، وذكر رواتها من السنّة والشيعة.

 244


201

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة (2) الإمامة في الأحاديث الشريفة

 و(3500) من العلماء والمحدِّثين، وفي ضوء هذا التواتر لا يبقى أيُّ مجالٍ للشّكِ في أصالةِ، وصحّة هذا الحديث.

 

كما أَنّ فريقاً من العُلَماء ألَّفوا كُتباً مستَقِلّةً حولَ حديث "الغدير" أشْمَلُها وأكثرُها اسْتِيعاباً لِطُرق وأسنادِ هذا الحديث كتابُ "الغدير" للعلاّمة الشيخ عبد الحسين الأميني (1320 - 1390 هـ).

 

والآن يجب أن نَرى ما هو المقصود من لفظة "المولى" وماذا تَعني "مولويّة" عليّ عليه السلام؟

 

إنّ القرائن والشواهدَ الكثيرةَ والعديدةَ تشهد بأنَّ المقصودَ من هذه اللفظة، والكلمة هو: الزعامة والقيادة، وها نحن نشيرُ إلى بعض هذه الشَّواهدِ والقرائن:

 

1- في واقعة الغدير، أمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنْ يحطَّ الحُجّاج الّذين كانوا يرجعون معه من الحج، في أرض قاحِلةٍ لا ماء فيها، ولا كلأ، وفي وقتِ الزوال، وتحت أشعّة الشَّمس الحارقة.

 

ولقد كانت حرارةُ الهَجير من الشِدّة في ذلك الوَقت بحيث أنّ الشخص من الحاضرين في ذلك المشهد كان يضع بعض عباءته تحت رجليه وبعضها فوق رأسه تَوقِّياً من شدّة الرَّمضاء، وحرارة الشّمس.

 

من الطبيعي أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يريد في هذه الحالة الخاصّة، أن يقول ما له دورٌ مصيريٌّ هامٌّ في هداية الأمّة.

 

ترى أي شيء يمكنه أن يكون له دور مصيريٌّ وهامٌّ في حياة المسلمين أكثر من تعيين القيادة التي توجب وحدةَ كَلِمةِ المسلمين، وتكونُ حافظة لدينهم.

 

2- لقد تحدّث رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذكر مسألة ولاية الإمام علي عليه السلام عَن أُصول الدين الثلاثة: التوحيد، والنبوّة، والمعاد، وأخَذَ من الناس الإقرارَ بها، ثم طرَحَ مسألة ولاية الإمام علي عليه السلام بعد ذلك.

245


202

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة (2) الإمامة في الأحاديث الشريفة

 إنّ التقارن بين إبلاغ هذه الرسالة وأخذ الاعتراف والإقرار بالأصول المذكورة يمكن أن يقودنا إلى معرفة أهميّة الرسالة التي أمَرَ النبيُّ بإبلاغِها إلى النّاس في "غدير خم"، ويمكن معرفة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما كانَ يقصُد مِن ذلك الاجتماع العظيم في تلك الظروفِ الاستثنائيّةِ والملابَسات الخاصّة التوصية فقط بمحبّة ومودّة شخصٍ معيّنٍ.

 

3- قبل إبلاغِ الرِسّالة الإلهيّة في شأنِ عليٍّ عليه السلام تحدَّثَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عن ولايَته ومولويَّتهِ وقال: اللهُ مولايَ وأنا مولى المْؤُمِنِين، وأنا أولى بِهِمْ مِن أنْفسِهِمْ.

 

إنّ ذكر هذه المطالب دليلٌ على أنّ مولويّةَ الإمام علي عليه السلام كانت من نمط وسنخ مولوية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأنّ النبي أثبت بأمر الله تعالى مَولويّته وأولويّته بالأمر لعليّ أيضاً.

 

4- إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال بعد إبلاغ هذه الرسالة الإلهيّة: فَلْيبلّغِ الشاهدُ الغائبَ.

246


203

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة (2) الإمامة في الأحاديث الشريفة

 المفاهيم الرئيسة

- هُناكَ نظريَّتان في الموقف الذي اتخذه النبيّ قبل وفاته بالنسبة لتعيين الخليفة بعده:

 

النظرية الأولى: أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم اختار بأمرِ الله تعالى شخصاً مُمتازاً صالِحاً لقيادةِ الأمّة الإسلاميّة، ونَصَبَهُ لِخلافَتهِ وأخبرَ النّاسَ بذلك.

 

النظرية الثانيّة: أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوكَلَ اختيار القائد والخليفة من بعده إلى النّاس أنفسِهِم، لينتَخِبوا شخصاً لهذا المنصب.

 

- النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سلك طريق "التنصيص" في مسألة القيادة والخلافة، مراراً، دون طريق "الانتخاب الشعبيّ" وهذا الموضوع نثبتهُ من خلال الأمور التالية: حديث يوم الدار، حَديِثُ المَنْزِلَةِ، حَدِيثُ السَّفِينَةِ، حديث "أمان الأمّة"، حَديثُ الثقَلَين، حديث الغدير.

 

- إنّ حديثَ الغَدِير منَ الأحاديثِ المتَواتِرة، وقد رَواهُ من الصَّحابة والتابعين وعُلماءِ الحديث في كلّ قرنٍ بصورَةٍ متواترةٍ.

 

- إنّ القرائن والشواهدَ الكثيرةَ والعديدةَ تشهد بأنَّ المقصود منَ لفظة المولى في حديث الغدير، هو: الزعامة والقيادة.

 

- لقد تحدّث رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذكر مسألة ولاية الإمام علي عليه السلام عَن أُصول الدين الثلاثة: التوحيد، والنبوّة، والمعاد، وأخَذَ من الناس الإقرارَ بها، ثم طرَحَ مسألة ولاية الإمام علي عليه السلام بعد ذلك.

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- هناك نظريتان في الموقف الذي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تعيين الخليفة. ما هما؟

2- اذكر حديثًا يثبت مرجعيّة أهل البيت العلمية.

3- اذكر القرائن والشواهد التي تثبت أنّ كلمة مولى في حديث الغدير بمعنى الزعامة والقيادة.

247


204

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة (2) الإمامة في الأحاديث الشريفة

 للمطالعة

الإشارة والنص على أمير المؤمنين عليه السلام

عن زيد بن الجهم الهلاليّ، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: سمعته يقول: "لما نزلت ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام وكان من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين، فكان ممّا أكّد الله عليهما في ذلك اليوم يا زيد قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهما: قوما فسلّما عليه بإمرة المؤمنين فقالا أمن الله أو من رسوله يا رسول الله؟ فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من الله ومن رسوله، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ[1] يعني به قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهما وقولهما أمن الله أو من رسوله: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ[2] أئمة هي أزكى من أئمتكم، قال: قلت: جعلت فداك أئمة؟ قال: إي والله أئمة قلت: فإنا نقرأ أربى، فقال: ما أربى؟ وأومأ بيده فطرحها ﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ﴾ (يعني بعلي عليه السلام) ﴿وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ *  وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾[3] (يعني بعد مقالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في علي عليه السلام ﴿وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾ (يعني به علياً عليه السلام) ﴿وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾"[4].

 




[1] سورة النحل، الآية 91.

[2] - سورة النحل، الآية 92.

[3] سورة النحل، الآيات 92 - 94.

[4] - الكليني، الكافي، ج1، ص292، ح1.

248


205

الدرس الثالث والعشرون: الإمامة (3) عصمة الإمام

 الدرس الثالث والعشرون: الإمامة (3) عصمة الإمام

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن الدليل العقليّ على عصمة الأئمّة عليهم السلام.

2- يذكر بعض الآيات والأحاديث التي تدل على عصمتهم.

3- يبيّن طرق معرفة الإمام المعصوم.

249


206

الدرس الثالث والعشرون: الإمامة (3) عصمة الإمام

 عِصمَة الإمام وطرق معرفته

أثبتنا سابقًا أنّ الإمام والخليفة ليس قائداً عاديّاً، يقدر على إدارة دفّة البلاد اقتصادياً، وسياسيّاً، وحفظ ثغور البلاد الإسلامية تجاه الأعداء فقط، بل ثمّت وظائف أُخرى يجب أن يقومَ بها مضافاً إلى الوظائف المذكُورة في درس سابق.

 

إنّ القيام بِهذه الوَظائف الخطيرة مثل تفسير القرآن الكَريم، وبَيان الأحكام الشرعيّة، والإجابة على أسئلة الناس الاعتقادية، والحيلولة دون تسرّب الانحراف إلى العقيدة، والتحريف إلى الشريعة، رهنُ علمٍ واسعٍ، لا يخطئ ولا يتطرّق إليه الاشتباهُ، والأشخاص العاديّون إذا تَوَلَّوا هذه الأمور لن يكونوا في مأمنٍ عن الخطأ والزللِ.

 

على أنّه يجب أن نَعلمَ بأنّ العصمة لا تساوي النبوّة، ولا تلازمُها ولا تستلزمها، لأنّه ربما يكونُ الشخص معصوماً عن الخطأ ولكن لا يتمتع بمقام النبوة أي لا يكون نبياً.

 

وأوضحُ نموذجٍ لذلك السيدةُ الزهراء عليها السلام والسيدة مريم العذراء عليها السلام التي مرّت الإشارةُ إلّى أدلّة عصمتهما، عند الحديث عن عصمة الأنبياء والرُّسُل[1]. ثم إنّ هناك ـ مضافاً إلى التحليل والاستدلال العقلي السابق ـ أُموراً تدلُّ على عصمةِ الإمام نذكر هنا بعضها:



[1] راجع كتاب الإلَهيّات، تأليف الشيخ السبحاني، بيروت- لبنان، دار الأميرة، 1427هـ- 2006م، ط7، ج2، ص 146 ـ 198.

251


207

الدرس الثالث والعشرون: الإمامة (3) عصمة الإمام

 1- تعلّق إرادةِ الله القطعيّة والحتمية بطهارة أهل البيت عليهم السلام عن "الرجس" كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾[1].

 

 

وإنّ دَلالَة هذه الآية على عِصمة أهل البيت تكونُ على النحو التالي, إنّ تعلّق إرادة الله الخاصّة بطهارة أهل البيت من أي نوعٍ من أنواع الرّجس يلازمُ عصمَتهم مِن الذّنوب والمعاصي، لأنّ المقصودَ مِن تطهيرهم من "الرِّجس" في الآية هو تطهيرهم من أيّ نوعٍ مِن أنواع القذارة الفِكرية والرُّوحِيَّة، والعَمَليّة التي من أبرزها المعاصي والذّنوب.

 

وحيث إنّ هذه الإرادة تعلّقَتْ بأفراد مخصوصين لا بجميع الأفراد، فإنّها تَختَلِف عن إرادة التطهير التي تعَلّقت بالجميع بدونِ استثناءٍ.

 

إن إرادةَ التَّطهير التي تَشملُ عامّة المسلمين إرادةٌ تشريعيةٌ[2] وما أكثر الموارد الّتي تتخلّف فيها هذه الإرادةُ، ولا تتحقق بسبب تمرّد الأشخاص، وعدم إطاعتهم للأوامر والنواهي الشرعية في حين أنّ هذه الإرادة إرادةٌ تكوينيّة لا يتخلّف فيها المرادُ والمتعلَّقُ (وهو العصمة عن الذَّنب والمعصية) عنها أبداً.

 

والجدير بالذكر أن تعلّق الإرادة التكوينيّة الإلهيّة بعصمة أهل البيت لا توجبُ سَلب الاختيار والحريّة عنهم تماماً كما لا يوجب تعلّق الإرادة التكوينيّة الإلهيّة بعصمة الأنبياء سلبَ الاختيار والحرية عن الأنبياء أيضاً (وقد جاءَ تفصيل هذا الموضوع في كتب العقائد).

 

2- إنّ أئمة أهل البيت عليهم السلام يمثِّلون بحكم حديث الثقلين الذي قال فيه رسولُ الله: "إني تاركٌ فيكمُ الثَّقَلَين كتابَ الله وعترتي"[3] عِدلَ القرآن الكريم، يعني أنّه



[1] سورة الأحزاب، الآية 33.

[2] ﴿وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ﴾ سورة المائدة، الآية 6.

[3]  الكليني، الكافي، ج2، ص414.

252


208

الدرس الثالث والعشرون: الإمامة (3) عصمة الإمام

 كما يكون القرآنُ الكريمُ مصوناً من أيّ لونٍ من ألوانِ الخطأ والاشتباه، كذلك يكون أئمة أهلِ البَيت مصونين من أيّ لونٍ من ألوانِ الخطأ الفكري، والعملي، ومعصومين من أيّ نوعٍ من أنواعِ الزَلَل والخَطَل. وهذا المطلب واضحٌ تمامَ الوضوح، إذا أمعنّا في العبارات التي جاءت في ذيلِ الحَديث المذكور:

أ- "ما إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِما لَنْ تَضِلُّوا أَبَداً"[1].

ب- "إنَّهما لَنْ يَفْتَرِقا حَتّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوضَ"[2].

 

لأنّ ما يكون التمسُّكُ به موجباً للهداية وأنه لا يفترق عن القرآن (المصون والمعصوم) مَصُونٌ ومعصومٌ هو كذلك.

 

3- لقد شَبَّهَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم أهلَ بيته بسفينةِ نوح التي ينجو من الغرق من رَكِبها ويغرق في الأمواج من تخلّف عنها، إذ قال: "إنّما مَثَلُ أهل بَيْتي كَسَفينَةِ نُوْحٍ مَن رَكِبَها نَجا وَمَنْ تخلَّفَ عَنهاَ غَرِقَ"[3]. وبالنّظَر إلى هذه الأدلّة الّتي بيّناها بصورةٍ موجزةٍ تكونُ عصمة أهل البيت واضحةً، وحقيقةً مبرهَناً عليها. ومن الجدير بالذِّكر أنّ الأدلّة النَقليّة على عِصمة أهل البَيت: لا تنحصر في ما ذكرناه.

 

طرق معرفة الإمام

إنّ معرفةَ الإمام تُمكِنُ مِن طريقين:

الأول: نَصُّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على إمامة شخصٍ خاصٍ.

الثاني: نَصُّ الإمام المعصومِ السابِق على الإمام اللاحِق.




[1] الكليني، الكافي، ج2، ص414.

[2] م.ن.

[3] المجلسي، بحار الأنوار، ج23، ص126.

253


209

الدرس الثالث والعشرون: الإمامة (3) عصمة الإمام

 إنّ إمامة الأئمة الاثني عَشَر ثَبَتت من خلال الطَريقين المذكورَين معاً أي عن طريق نصّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسب الرّوايات المروِيّة عنه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المجال. وكذا عن طريق الأئمة، حيث نصّ الإمام السابق على الإمام اللاحق.

 

ونحن رِعايةً للاختصار نوردُ هنا حديثاً واحداً في هذا الصّعيد[1]  يفيد أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتف بنَصب عليّ عليه السلام، بل ذكر بأنّه سَيخلفهُ صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشر إماماً تتحقّق بهم عزةُ الإسلام إذ قال: "لا يَزالُ الدّين مَنيِعاً إلى اثنَيْ عَشَر خَلِيفة"[2].

 

وقد وَرَدت هذه الأحاديث الدالة على وجود اثني عشر خليفة في أوثق صحاح أهل السنة أيضاً[3].

 

ومن المُسلَّم أنّ هؤلاء الخُلَفاء الاثني عشر الذين تتوقّف عليهم عزّة الإسلام ومنعتهُ ومضاؤه، لا تنطبق صفاتهم إلاّ على أئمة الشيعةِ الاثني عَشَر إذ لم تكن تلك الأوصاف تتوفر في الخلفاء الأمويين ولا العباسيين قط.

 

وأئمة الشِيعة الاثنا عشر هم:

1- أميرُ المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب (المولود قبل البعثة بعشر سنوات والمستشهد عام 40 هجري) والمدفون في النجف الأشرف.

2- الإمام الحسَنُ بن علي (المجتبى) (3 ـ 50 هـ ق) المدفونُ في البقيع بالمدينة.

3- الإمام الحسين بن علي سيدُ الشهداء (4 ـ 61 هـ ق) المدفون في كربلاء.

4- الإمام عليُّ بن الحسينُ بن علي زينُ العابدين (38 ـ 94 هـ ق) المدفون في البقيع.




[1] للإطلاع على بقيّة الأحاديث في هذا المجال يراجع كتب الحديث مثل أُصول الكافي، كفاية الأثر، إثبات الهداة، ومنتخب الأثر، وغيرها.

[2] روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا يزال الدين قائماً حتى يكون اثنا عشر خليفة من قريش". المجلسي، مصدر سابق، ج36، ص297.

[3] صحيح البخاري،ج 9، ص81، باب الاستخلاف, وصحيح مسلم ج6، ص3، كتاب الامارة, ومسند أحمد ج5، ص86 ـ 108, ومستدرك الحاكم 3، 81.

254


210

الدرس الثالث والعشرون: الإمامة (3) عصمة الإمام

 5- الإمام محمّد بن علي باقرُ العلوم (5 ـ 114 هـ ق) المدفون في البقيع.

 

6- الإمام جعفرُ بنُ محمّد الصادقُ (83 ـ 148 هـ ق) المدفونُ في البقيع.

7- الإمام موسى بنُ جعفر الكاظمُ (128 ـ 183 هـ. ق) المدفونُ في الكاظمية قرب بغداد.

8- الإمام عليُّ بن موسى الرضا (148 ـ 203 هـ. ق) المدفونُ في خراسان بإيران.

9- الإمام محمّد بن علي الجوادُ (195 ـ 220 هـ ق) المدفونُ في الكاظمية.

10- الإمام عليُّ بن محمّد الهادي (212 ـ 254 هـ ق) المدفونُ في سامراء بشمال بغداد.

11- الإمام الحسنُ بنُ علي العسكريُ (233 ـ 260 هـ. ق) المدفونُ في سامراء.

12- الإمام المهديِّ عجَّل الله فرجَه الشريف ـ وهو الإمام الثاني عشر، وهو حيٌّ حتى يظهر بأمر الله (طبقاً للوعودِ الواردةِ في القرآنِ في سورة النور، الآية 54، وسورة التوبة، الآية 33 وسورة الفتح، الآية 28، وسورة الصف، الآية 9) ويقيم الحكومة الإلهيّة على كلّ الكرةِ الأرضِيّةِ[1].

 

ولقد جاءَت تفاصيلُ حياة أئمةِ الشيعة الاثني عشر في كتب التاريخ والسيرة وحيث إِنّ الإمام الثاني عشر لا يزال حيّاً، ويتولّى منصبَ الإمامة بإرادةِ الله تعالى، لهذا سنَذكر نقاطاً حولَ هذا الإمام فيما بعد.



[1] قد وقع بعض الاختلاف في تواريخ وفيات ومواليد بعض الأئمّة وقد اخترنا أحدها. كما أنّ التاريخ يثبت أنّ هؤلاء الأئمّة قضوا شهداء.

 255


211

الدرس الثالث والعشرون: الإمامة (3) عصمة الإمام

 المفاهيم الرئيسة

 

- هناك أُمور تدلُّ على عصمةِ الإمام نذكر هنا بعضها:

1- تعلّق إرادةِ الله القطعيّة والحتمية بطهارة أهل البيت عن "الرجس" كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾.

 

2- إنّ أئمة أهل البيت: يمثِّلون بحكم حديث الثقلين عِدلَ القرآن الكريم، يعني أنّه كما يكون القرآنُ الكريمُ مصوناً من أيّ لونٍ من ألوانِ الخطأ والاشتباه، كذلك يكون أئمة أهلِ البَيت مصونين.

 

3- لقد شَبَّهَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم أهلَ بيته بسفينةِ نوح التي ينجو من الغرق من رَكِبها ويغرق في الأمواج من تخلّف عنها، إذ قال: "إنّما مَثَلُ أهل بَيْتي كَسَفينَةِ نُوْحٍ مَن رَكِبَها نَجا وَمَنْ تخلَّفَ عَنهاَ غَرِقَ".

 

- إنّ معرفةَ الإمام تُمكِنُ مِن طريقين:

1- نَصُّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على إمامة شخصٍ خاصٍ.

2- نَصُّ الإمام المعصومِ السابِق على الإمام اللاحِق.

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- اذكر دليلاً عقليًّا على عصمة الإمام عليه السلام.

2- كيف نستدلّ على عصمة الإمام من خلال آية التطهير؟

3-  ما هي طرق معرفة الإمام ؟

256


212

الدرس الثالث والعشرون: الإمامة (3) عصمة الإمام

 للمطالعة

علم الأئمّة عليهم السلام

عن عبد الله بن جندب أنه كتب إليه الإمام الرضا عليه السلام: "أما بعد، فإن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان أمين الله في خلقه فلما قبض صلى الله عليه وآله وسلم كنا أهل البيت ورثته، فنحن أمناء الله في أرضه، عندنا علم البلايا والمنايا، وأنساب العرب، ومولد الإسلام، وإنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان، وحقيقة النفاق، وإن شيعتنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، أخذ الله علينا وعليهم الميثاق، يردون موردنا ويدخلون مدخلنا، ليس على ملة الإسلام غيرنا وغيرهم، نحن النجباء النجاة، ونحن أفراط الأنبياء ونحن أبناء الأوصياء، ونحن المخصوصون في كتاب الله عز وجل، ونحن أولى الناس بكتاب الله، ونحن أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.."[1].




[1] الكليني، الكافي، ج1، ص282، باب33، ح1.

257


213

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة (4) مودّة أهل البيت عليهم السلام ومحبّتهم

 الدرس الرابع والعشرون: الإمامة (4) مودّة أهل البيت عليهم السلام ومحبّتهم

 

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يذكر بعض الآيات والروايات التي تثبت لزوم مودّة أهل البيت عليهم السلام.

2- يبيّن الثمرة من حب أهل البيت عليهم السلام.

3- يوضح كيفيّة مودّة أهل البيت عليهم السلام.

259


214

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة (4) مودّة أهل البيت عليهم السلام ومحبّتهم

 سوف نتناول في هذا الدرس ثلاث نقاط وهي:

الأولى: مودة أهل البيت في الكتاب والسنّة.

الثانية: ثمرة مودة أهل البيت عليهم السلام.

الثالثة: كيفيّة مودّة أهل البيت عليهم السلام.

 

مودّة أهل البيت في الكتاب والسنّة

1- الكتاب:

إنّ محبَّةَ أهلِ البَيت: من الأمور الّتي أكَّد عليها القرآنُ قالَ تعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى[1]. والمقصودُ من "القُربى" هم أقرباءُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقرينة أن طالِبَ هذا الأمر هو النبيُّ نفسه.

 

إنّ محبّة أهلِ البَيت ومودَّتهم - مضافاً إلى كونها كمالاً كبيراً - تسبّب في أن يحاولَ الشخصُ المحبُّ أن يجعل نفسَه مشابِهاً للمحبوب، ويقتدي به في كَسب الفضائِل، والاجتناب عن الرَّذائل.

 

وقال سبحانه: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[2].




[1] سورة الشورى، الآية 23.

[2] سورة التوبة، الآية 24.

261


215

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة (4) مودّة أهل البيت عليهم السلام ومحبّتهم

 وقال في آية أُخرى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[1]. فَإنّ الله تعالى يَعُدُّ في هذه الآية أربع خصوصيّات للمفلحين وهي:

أ- الإيمان بالنبي: ﴿آمَنُواْ بِهِ﴾.

ب- تكريمهُ وتوقيره: ﴿وَعَزَّرُوهُ﴾.

ج- نصرهُ وتأييده: ﴿وَنَصَرُوهُ﴾.

د- اتّباعُ النور (القرآن) الذي أُنزِلَ معه: ﴿وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ﴾.

 

ونظراً إلى أنّ "نصرةَ" النبيّ الأكرم جاءَت في الخصّيصة الثالثة لذا لا مناص من أنْ يكون المرادُ بلفظة "عَزّرُوه" في الخصيصة الثانيّة هو تكريمُ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه ولا شك أنّ تعظيمه وتكريمه لا يختص بزمان حياته، كما أَنّ الإيمان الذي ورد ذكره في الآية ليس محدوداً كذلك.

 

وفي مجال لزوم محبّة أهل بيته ومودّتهم يكفي أنّ القرآن الكريم اعتبرها أجراً للرسالة (أي أنّه بمنزلة الأجر لا الأجر الواقعي)، إذ يقول تعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى[2].

 

2- السنّة:

إنّ الدّعوة إلى محبّة النبيّ، ومودَّته والحثّ عليها لم يرد في القرآن الكريم وحده، بل جاء التأكيد عليها حتى في الأحاديث الشريفة التي نذكر منها نموذجين على سبيل المثال لا الحصر:

 

أ- روي عن رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده ووُلْدِهِ والنّاسِ أجمعين"[3].




[1] سورة الأعراف، الآية 157.

[2] سورة الشورى، الآية 23.

[3] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: يوسف عبد الرحمن المرعشلي، بيروت - لبنان، دار المعرفة، 1412هـ- 1992م، ج2، ص356.

 262


216

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة (4) مودّة أهل البيت عليهم السلام ومحبّتهم

 ب- روي عن رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديثٍ آخر: "ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه، ذاقَ طَعمَ الإيمان: مَنْ كانَ لا شيءَ أحبَّ إليه من الله ورسوله، وَمَنْ كان لئِن يُحَرق بالنّارِ أحبّ إليه من أن يرتدَّ عن دِينهِ، وَمَنْ كانَ يحبُّ لله ويُبْغِضُ لله"[1].

 

ج- روي عن رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يُؤمِنُ عَبْدٌ حَتّى أكونَ أحبَّ إليه من نَفْسِهِ وَتكونُ عِترتي أحبَّ إليه من عِترَتِهِ ويكون أهلي أحبَّ إليه من أَهْلِهِ"[2].

 

د- و في حديثٍ آخر: "مَنْ أحبَّهُمْ أحَبَّهُ الله، ومَنْ أبْغَضَهُمْ أبَغْضَهُ اللهُ"[3].

 

ثمرة المودّة لأهل البيت عليهم السلام

بعد أن تَعَرّفنا على أَدلّة لزوم محبّة النبيّ وعترتِهِ ومودّتهم، الآن يُطرح السؤالان التالِيان:

1- ما هي الثمرة الّتي تجنيها الأمّةُ من مودَّة النبيّ وعترته؟

2- ما هي كيفيَّة مَودّةِ النبيّ وعترتهِ؟

 

لا بدّ في هذا المجال أن نذكرَ أنّ محبّة الإنسان الفاضِل الكامِل ومودَّته توجب بنفسها صعودَ الإنسان في مدارج الكمال، فإنَّ الإنسان إذا أحبّ شخصاً من صميم قلبه سعى إلى التشبّه به في حركاته وسكناته، وتحصيل ما يُسرُّ ذلك الشخص في نفسه وذاته، وترك ما يؤذيه ويزعجه.

 

ومن الواضح أنَّ وجودَ مثلَ هذه الروحيّة في الإنسان توجب التحوّل فيه، وتبعَثُه على سلوكِ طريقِ الطاعة واجتنابِ طريقِ المعصيَة دائماً. إنّ الّذي يُظهرُ التعلُّقَ بأحدٍ ويتظاهر بمودّته بينما يخالِفه في مقام العمل يفتقد المحبَّةَ الحقيقيّة. وقد




[1] الطبراني، المعجم الأوسط، دار الحرمين، 1415هـ- 1995م، ج5، ص144.

[2] القندوزي، ينابيع المودّة، تحقيق: علي جمال أشرف الحسيني، دار الأسوة، ط1، ج2، ص457.

[3] ابن عساكر، مصدر سابق، ج36، ص313.

263


217

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة (4) مودّة أهل البيت عليهم السلام ومحبّتهم

 نُسِب بيتان من الشعر إلى الإمام جعفر الصادق عليه السلام جاءت الإشارة فيهما إلى هذه النقطة، إذ يقول:

تعصي الاِلَه وأنتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ        هذا لَعْمري في الِفعالِ بَديعُ

لَو كانَ حُبُّكَ صادِقاً لأطعتهُ         إنّ المحبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيْعُ[1]

 

مظاهر المودّة لأهل البيت عليهم السلام

والآن، وبعد أن تَبَيَّن بعضُ ثمرات مودّةِ النبيّ وعترتِه، يجب أن نشيرَ إلى أُسلوب إظهار تلك المودة. لا شك أنّ المقصودَ من "الحبّ" ليس هو الحبُّ الباطنيّ العاري عن أيّ عمل يناسبُه، بل المقصودُ هو المودّة التي تَظهَر آثارُها المناسبة على قول الإنسان وفعله.

 

ومن أحد الآثار البارزة لمحبّة النبيّ وآله الطاهرين هو اتّباعه العمليّ كما مرّت الإشارة إلى ذلك، ولكن الحديث هنا هو عن الآثار الأخرى لهذه الحالة الباطنيّة، وتتمثل في كلّ ما يعدّه الناس من الأقوالِ والأفعال، علامةً للحبّ والمودّة تحتَ هذه القاعدة، شريطة أن يكون تكريم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعملٍ مشروعٍ لا بعملٍ حرامٍ.

 

وعلى هذا فإنّ تكريمَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته: في كلّ زمانٍ، وبخاصة في مواليدهم أو وَفياتهم، يتحقّق بإظهار المودّة لهم وإبراز التكريم لشَخصيّاتِهم.

 

فالاحتفال بمواليدهم وإشعال المصابيح ونصب الأعلام والرّايات الملوّنة، ونشر معالم الزينة، وإقامة مجالس تُعرَضُ فيها فضائلُ النبيّ أو أهل بيته يُعدّ آيةَ المودة وعلامة المحبّة لهم، وعلى هذا الأساس كان تكريمُ النبي في يوم مولِدهِ سنّةً مستمرةً بين المسلمين.



[1] النمازي، علي، مستدرك سفينة البحار، قم- إيران، مؤسسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، 1419هـ، ج5، ص483.

264


218

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة (4) مودّة أهل البيت عليهم السلام ومحبّتهم

 إقامة مجالس العزاء

من البيان السابق اتّضَحَت فلسفةُ وحكمةُ إقامة مجالس العزاء، والمآتم لأئمةِ الدّين، لأنّ إقامةَ مثل هذه المجالس من أجل ذكر مصائبهم وبيان ما جرى عليهم من المحَن في سبيل الدين، هو نوعٌ من أَنواع إظهار المودَّة والمحبَّة لهم. فإذا ما بكى محبُّو أهلِ البيت في مُصابهم فبسبب علاقتهم القلبيّة بهم، وحبّهم العميق لهم.

 

إنّ إقامة مجلس في مصاب الأحبّة والبكاء لفقدانهم هي في الأساس عملٌ أسَّسَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك عندما سمع نساء الأنصار يبكين قتلاهن في معركة "أحُد"، فقال وهو يَذكر عمّه "حمزة" سيد الشهداء: "وَلكِنَّ حمزة لا بواكي له"[1].

 

وعندما عرف أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برغبته في إقامة مجلس العزاء لعمّه "حمزة" أمروا أزواجهم بأن يبكين على قتلاهم الشهداء وعلى "حمزة" ويقمن مجلس العزاء له، فأُقيم مجلسٌ لذلك الغرض فلمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما فعلَهُ الأنصارُ وأزواجهم شكَرَهُم على ذلك، ودعا في حقّهم قائلاً: "رَحم اللهُ الأنصار"، ثم طلب من أصحابه من الأنصار بأن يأمُروا أزواجهنّ بأن يَعدن إلى منازِلِهنّ[2].

 

وثمة روايات عديدة تكاد تبلغ حدّ التواتر تعرب عن أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكى على الحسين سبطه الأصغر لما يلمَّ به وبأهله وأنصاره على أيدي الفئة الباغية، في وقعة كربلاء، كما يلاحظ ذلك من يراجع كتاب "الصواعق المحرقة" لابن حجر و"نور الأبصار" للشبلنجي الشافعي، و"المستدرك على الصحيحين" للحاكم النيسابوري. كما رثاه وبكاه طائفة من علماء الإسلام من سنة وشيعة وأنشأوا في مصابه القصائد المطوّلة. فهذا الإمام الشافعي يقول:[3]




[1] ابن حنبل، المسند، ج2، ص92.

[2] ابن هشام، السيرة النبوية، ج3، ص614.

[3] المجلسي، بحار الأنوار، ج45، ص253.

 265


219

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة (4) مودّة أهل البيت عليهم السلام ومحبّتهم

 تأوّب قلبي فالفؤاد كئيب          وأرّق نومي فالسهاد غريب

 

إلى أن يقول:

فمن مُبلغٌ عَنّي الحسينَ رسالةً       وإن كَرِهَتْها أنفسٌ وقلوبُ

ذَبيحٌ بلاَ جُرمٍ كأنَّ قميصَه           صَبِغ بماءِ الأرجوان خضيبُ

 

هذا مضافاً إلى أنّ لإقامة المآتم ومجالس العزاء للشهداء في سبيل الحق فلسفة هامّة أُخرى وهي أنّ إحياء ذكراهم يوجب الحفاظ على عقيدتهم التي قُتلوا من أجلها... تلك العقيدة التي يتكوّن جوهرُها من التفاني في سبيل الدين وعدم الخضوع للذُلّ، والهوان وهم يردّدون شعار "الموت في عزٍّ خيرٌ من الحَياة في الذلّ" ويجدّدون في كلّ يوم عاشوراء هذا المنطق العظيم ويتعلم الشعوب والأمم دروساً حيويّة من نهضتهم وثورتهم الكبرى.

266


220

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة (4) مودّة أهل البيت عليهم السلام ومحبّتهم

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ محبَّةَ أهلِ البَيت من الأمور الّتي أكَّد عليها القرآنُ.

- إنّ الدّعوة إلى محبّة النبيّ، ومودَّته والحثّ عليها جاء التأكيد عليها في الأحاديث الشريفة.

- إنّ محبّة الإنسان الفاضِل الكامِل ومودَّته توجب بنفسها صعودَ الإنسان في مدارج الكمال، فإنَّ الإنسان إذا أحبّ شخصاً من صميم قلبه سعى إلى التشبّه به في حركاته وسكناته.

- إنّ محبّة أهلِ البَيت ومودَّتهم، تسبّب في أن يحاولَ الشخصُ المحبُّ أن يجعل نفسَه مشابِهاً للمحبوب، ويقتدي به في كَسب الفضائِل، والاجتناب عن الرَّذائل.

- إنّ تكريمَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته: في كلّ زمانٍ، وبخاصة في مواليدهم أو وَفياتهم، يتحقّق بإظهار المودّة لهم وإبراز التكريم لشَخصيّاتِهم.

- إنّ إقامة مجلس في مصاب الأحبّة والبكاء لفقدانهم هي في الأساس عملٌ أسَّسَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك عندما سمع نساء الأنصار يبكين قتلاهن في معركة "أحُد"، فقال وهو يَذكر عمّه "حمزة" سيد الشهداء: "وَلكِنَّ حمزة لا بواكي له".

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- اذكر آية قرآنية تشير إلى مودّة أهل البيت مع تفسيرها.

2- ما هي ثمرة مودة أهل البيت عليهم السلام؟

3- كيف يمكن إظهار مودة أهل البيت عليهم السلام؟ ومن خلال ماذا يمكن ذلك؟.

267


221

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة (4) مودّة أهل البيت عليهم السلام ومحبّتهم

 للمطالعة

علة محبّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام

عن أنس مالك، قال: جاء رجل من أهل البادية، وكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "يا رسول الله متى قيام الساعة؟ فحضرت الصلاة، فلما قضى صلاته قال: أين السائل عن الساعة؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: فما أعددت لها؟ قال: والله ما أعددت لها من كثير عمل، لا صلاة ولا صوم، إلّا إني أحب الله ورسوله، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: المرء مع من أحب، قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشيء أشد من فرحهم بهذا"[1].




[1] الصدوق، علل الشرائع، ج1، ص206، ح2.

268


222

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة (5) الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

 الدرس الخامس والعشرون: الإمامة (5) الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

 

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن أنّ هناك مصلحًا عالميًّا في آخر الزمان.

2- يستدل على أنّ المصلح العالمي هو الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.

3- يثبت أنّ هناك وكلاء للإمام في غيبته.

269


223

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة (5) الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

 ظهور مصلح عالمي في آخر الزمان

إنّ ظهورَ رجلٍ من أهل بَيت الرِّسالة لإقامة حكومة الله العادلة العالَميّة في مُستقبل الحياةِ البَشريّة (بَعد أن تُملأ الأرضُ ظلماً وجَوراً) مِن مُسَلَّماتِ العقائِدِ الإسلامية التي اتّفقَ عليها جمهورُ المُسْلمين، ونقلوا في هذا المجال أحاديث بَلَغَتْ حَدَّ التواتر. فهناك - طبق بعض إحصاءات أهلِ التحقيقِ من العُلَماء - حوالي 65 حديثاً حول هذه المسألة نذكر منها حديثاً واحداً رواه "أحمدُ بن حنبل" في مسنده:

 

قالَ النَبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنيْا إلاّ يومٌ واحِدٌ لَطَوَّل اللهُ ذلك اليومَ حَتّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ وُلْدِي فَيَمْلأها عَدْلاً وقِسطاً كما مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً"[1]. وعلى هذا الأساس يكونُ قيامُ رَجُلٍ من أهلِ البيت النَبَويّ وظَهورُهُ في آخِر الزمان موضعَ اتفاقٍ بين المسلمين شيعةً وسنةً.

 

المصلح العالمي هو الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

لقد جاءَت خصوصياتُ هذا المصلِحِ العالَميّ في الرّوايات الإسلامية نَقَلها الفريقان، وهي على النحو التالي:

1- أنّه من أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم 389 رواية.

2- أنّه من أولاد الإمام عليّ 214 عليهم السلام رواية.




[1] ابن حنبل، المسند، ج1، ص 99.

271


224

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة (5) الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

 3- أنّه من أولاد فاطمة الزهراء عليها السلام 192 رواية.

 

4- أنّه تاسع وُلد الحسين عليه السلام 148 رواية.

5- أنّه من أولاد الإمام علي بن الحسين عليهما السلام 185 رواية.

6- أنّه ابن الإمام الحسن العسكري عليه السلام 146 رواية.

7- أنّه الثاني عشر من أئِمة أهل البيت عليهم السلام136 رواية.

8- الرّوايات التي تتحدّث عن ولادته عجل الله تعالى فرجه الشريف 214 رواية.

9- الرّوايات التي تقول: إنّه يعمّر طويلاً، 318 رواية.

10- الرّوايات التي تقول: إنّ غيبته ستكون طويلة، 91 رواية.

11-  الرّوايات التي تقول: إنّ الإسلام سيصير عالمياً عند ظهوره عجل الله تعالى فرجه الشريف.

12- الرّوايات التي تقول: إنّ الأرض ستُملأ عَدلاً وقِسطاً عند ظهوره، 132 رواية.

وعلى هذا الأساس فإنّ وجود مثل هذا المصلح العالمي في مستقبل البَشَرية أمر مقطوعٌ به ومسلَّمٌ من حيث الرّوايات والأحاديث الإسلامية بحيث لا يمكن الشكّ أو التشكيك فيه.

 

وأما ما وَقَعَ الخلافُ فيه فهو ولادته، وأنّه هل وُلِدَ هذا الرَّجُل من أُمّه ولا يزال منذُ ولادَته حَيّاً، أم أنّه سيولد في المستقبل؟

 

يذهب الشيعة وفريقٌ من أهل التحقيق من أهل السُّنّة إلى الرأي الأوّل، فيعتقدون بأنّ الإمام المهديّ وُلدِ من أُمّه (نرجس) عام 255 هـ وهو لا يزال حَيّاً إلى هذا اليوم، وذهَبَ فريقٌ من أهلِ السّنة إلى أنّه سيُولَد فيما بعد.

 

وحيث إنّنا نحن الشيعة نعتقدُ بأنّ الإمام المهديَّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وُلِدَ عام 255 هجرية، وهو لا يزال على قيد الحياة إلى هذه الساعة، لهذا لا بدّ من أن نذكّر بنقاط حول غيبته وطول عمره في حدود ما يسعُه هذا المختصرُ.

272


225

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة (5) الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

 الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وليّ إلهيّ غائب عن الأنظار

إنّ أولياءَ اللهِ - حَسْب نَظَر القرآن - على نوعين:

1- وَليٌّ ظاهرٌ يعرفُه الناسُ.

2- ووَليٌّ غائَبٌ عن أنظارِ الناس لا يعرفُه أحدٌ منهم، وإن كان يعيشُ بينَهم، ويعرفُ هو أحوالَهُمْ وأخبارهم.

 

وقد ذُكر في سورة الكَهف كلا النوعين منَ الأولياء في مكانٍ واحدٍ أحدهما موسى بن عمران عليه السلام والآخر مصاحبُهُ ورفيقهُ المؤقّت، الذي صحِبَه في سَفَره البرّي والبَحْري، ويُعْرَف بالخِضر.

 

إنّ هذا الوليّ الإلَهيَّ كانَ بِحَيْث لم يعرفُه مصاحِبهُ ومرافِقُه النبيُّ موسى وإنّما صاحَبَه ورافقه بتعليمٍ وأَمرٍ من الله، واستفاد من عِلمه خلال مرافَقَته إيّاه كما يقول تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا[1].

 

ثم إنّ القرآنَ الكريم يُقَدّم شرحاً مفصّلاً عمّا فَعَله هذا الوليُّ الإلَهيّ من أعمال مفيدة، ذلك الذي لم يكن أحدٌ حتى النبيّ موسى عليه السلام يَعرفهُ، ولكن كانوا يَستفيدون من آثار وجوده المبارك ومن أفعاله المفيدة[2].

 

إنَّ الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف على غرارِ مرافق النبيّ موسى عليه السلام، وليٌّ غيرُ معروف للنّاس مع أنّه في نفس الوقت منشأ لآثار طيبة للأمّة. أي لا يعرفهُ أحَدٌ منهم مع أنّهم يَستَفيدون مِن بركات وجودهِ الشريف.

 

وبهذا لا تكونُ غيبةُ الإمام المهَديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بمعنى الانفصال عن المجتمع، بل هو - كما جاءَ في روايات المعصومين: - كذلك مثل "الشَمس خَلفَ السَحاب لا تُرى عينُها،




[1] سورة الكهف، الآيتان 65 و 66.

[2] راجع سورة الكهف، الآيات 71 ـ 82.

273


226

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة (5) الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

 ولكنها تبعَث الدفءَ والنورَ إلى الأرض وساكِنِيها"[1].

 

هذا مضافاً إلى أنّ فريقاً من الأبرار والطيّبين الأتقياء الذين كانوا يَتمتّعون باللياقة والأهليّة للتشرّف بِلقاءِ الإمام المهديّ قد رأوه وَالتَقَوْا به واستفادوا مِن إرشاداته، وعُلُومِه، واسْتفادَ الآخرون من هذا الطريق، من آثارهِ المباركة وبركات وجوده الشريف.

 

وكلاء الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

إنّ الطَّريقة المتعارَفة والمَعْمُول بها بين البشر ـ ماضياً وحاضراً ـ هو أنّ الحاكمَ والقائد يقوم ببعض الأعمال بنفسه مباشرةً، ويقومُ بالبعض الآخر وكلاؤُهُ ونوّابه.

 

صحيح أنّ عِلَلاً مختَلِفَة تَسَبَّبت في غيبة الإمام المَهْدي عجّل الله فَرَجَه الشريف فحُرِمت البشريةُ من الاستفادة المباشرة من ذلك الإمام ولكنه ولحسن الحظ لم يُغلَقْ بابُ الاستفادة من وُكَلائه ونوّابه ـ وهم الفقهاء العُدول الاَتقياء ـ في وجه أتباعه، ومريديه.

 

فالفقهاء والمجتهدون الأجلّة كانوا ولا يَزالون نُوّابَ الإمام المهديّ الذين أوكَلَ أمرَ بَيان الأمور الشَرعية والحكوميَّة وإدارة شؤون المجتمع الإسلامي في عصر الغيبة إليهم.

 

هذا مع العلم بأنّ حرمان الأمّة الإسلامية من آثار حضور الإمام المهدي كان لعلل وظروف خاصة جَعَلت غيبتَه أمراً لا مناص منه.




[1] الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، قم- إيران، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، الباب 44، الحديث 4، ص 485.

274


227

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة (5) الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ ظهورَ رجلٍ من أهل بَيت الرِّسالة لإقامة حكومة الله العادلة العالَميّة في مُستقبل الحياةِ البَشريّة مِن مُسَلَّماتِ العقائِدِ الإسلامية.

 

- ما وَقَعَ الخلافُ فيه فهو ولادته، وأنّه هل وُلِدَ ولا يزال منذُ ولادَته حَيّاً، أم أنّه سيولد في المستقبل؟ يذهب الشيعة وفريقٌ من أهل التحقيق من أهل السُّنّة إلى الرأي الأوّل، وذهَبَ فريقٌ من أهلِ السّنة إلى أنّه سيُولَد فيما بعد.

 

- إنّ أولياءَ اللهِ - حَسْب نَظَر القرآن - على نوعين:

1- وَليٌّ ظاهرٌ يعرفُه الناسُ.

2- ووَليٌّ غائَبٌ عن أنظارِ الناس لا يعرفُه أحدٌ منهم، وإن كان يعيشُ بينَهم، ويعرفُ هو أحوالَهُمْ وأخبارهم.

 

- إنَّ الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف على غرارِ مرافق النبيّ موسى عليه السلام، وليٌّ غيرُ معروف للنّاس.

 

- الفقهاء والمجتهدون كانوا ولا يَزالون نُوّابَ الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- اذكر حديثًا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشير فيه إلى ظهور مصلح في آخر الزمان.

2- ينقسم أولياء الله إلى نوعين، ما هما؟

3- ما هي الطريقة التي استخدمها الإمام المهدي في غيبته الصغرى؟ ومن هم وكلاؤه في غيبته الكبرى؟ بيّن ذلك.

275


228

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة (5) الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

 للمطالعة

 

الإشارة والنص إلى صاحب الدار عليه السلام

عن ضوء بن عليّ العجليّ، عن رجل من أهل فارس سمّاه قال: أتيت سامرّا ولزمت باب أبي محمّد عليه السلام فدعاني، فدخلت عليه وسلّمت فقال: ما الذي أقدمك؟ قال: قلت: رغبة في خدمتك، قال: فقال لي: فالزم الباب، قال: فكنت في الدار مع الخدم، ثم صرت أشتري لهم الحوائج من السوق وكنت أدخل عليهم من غير إذن إذا كان في الدار رجال قال: فدخلت عليه يوماً وهو في دار الرجال فسمعت حركة في البيت فناداني: مكانك لا تبرح، فلم أجسر أن أدخل ولا أخرج، فخرجت عليَّ جارية معها شيء مغطّى، ثمّ ناداني ادخل، فدخلت ونادى الجارية فرجعت إليه، فقال لها: اكشفي عمّا معك، فكشفت عن غلام أبيض حسن الوجه وكشف عن بطنه فإذا شعر نابت من لبَّته إلى سرَّته أخضر ليس بأسود، فقال: هذا صاحبكم، ثمّ أمرها فحملته فما رأيته بعد ذلك حتّى مضى أبو محمْد عليه السلام[1].




[1] الكليني، الكافي، ج1، ص390، ح6.

276


229

الدرس السادس والعشرون: الإمامة (6) حكمة الغيبة وعلامات الظهور

 الدرس السادس والعشرون: الإمامة (6) حكمة الغيبة وعلامات الظهور

 

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن الحكمة من غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.

2- يعلّل طول عمر الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.

3- يذكر علامات ظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.

277


230

الدرس السادس والعشرون: الإمامة (6) حكمة الغيبة وعلامات الظهور

 سوف نتعرّض في هذا الدرس لمسألتين مهمّتين هما حكمة الغيبة وعلامات الظهور.

 

حكمة الغيبة

إنّ من المسائل الأساسيّة التي تتعلق بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف هي مسألة الغيبة، ولذلك سوف نتعرض لها ولو كان بشكل مختصر في هذا الدرس.

 

غيبة بعض الأنبياء والأولياء في الأمم السابقة

إنّ علّة غَيبة الإمام المَهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف هي من الأسرار الإلهيّة التي لا نستطِع الوقوف على حقيقتها وكنهها، كما أنّ لهذه الغَيبة المؤقتة نظائر في حياة أولياء الله السابقين والأمم السابقة.

 

فقد غابَ النبيُّ موسى الكليمُ عليه السلام عن أُمّته أربعين يوماً، وقضى كلَّ هذه المدة في الميقات[1].

 

وغاب السيّدُ المسيح عليه السلام بمشيئة الله عن أنظار أُمّته، فلم يقدر أعداؤُه على قَتْله، والقضاء عليه[2].




[1] لاحظ سورة الأعراف، الآية 142.

[2] لاحظ سورة النساء، الآية 158.

279


231

الدرس السادس والعشرون: الإمامة (6) حكمة الغيبة وعلامات الظهور

 وغاب النبيُّ يونس عليه السلام عن قومه مدّةً من الزّمان[1].

 

إذن فليست غيبةُ الإمام المهَدي عليه السلام عن أنظار الناس بدعاً من الأمر كما لا يصحّ أن تَقَعَ هذه الغَيبة مهما طالت ذريعةً لإنكار أصل وجودِ المهَديّ عليه السلام.

 

وأساساً إنّ كلَّ ما يثبُتُ عن طريق النقل المتواتر، ولكن لا يقدر الإنسان على التحقّق منه، ومشاهدته لا يجوز له أن ينكره أو يتردّد في القبول به ما دام رُوِيَ ونُقِلَ بالتّواتر الموجب للاطمئنان، لأنّ قِسماً من الأحكام الإلهيّة التي هي من مسلّمات الدين الإسلاميّ وضروريّاته سيتعرَّض للتردِيد والإنكار إذا تجاهَلْنا هذه القاعدةَ العقلائيةَ الصائبةَ، وهذا الأمر العرفي المعقول جداً.

 

وغيبةُ الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ليس بمستثنىً من هذه القاعدة، وعَدَم الإطلاع على سِرّها أو أسرارها الحقيقية لا يجوزُ الترديدُ فيها، وإنكارُها. ومع ذلك فإنّنا يجب أن نقول: إنّه من الممكن إدراك سرّ الغيبة هذه في حدود فكرِنا البشري وهذا السِرّ هو ما يلي:

 

حيث إنّ آخرَ حُجَّةٍ من حُجَج الله وآخر إمامٍ من أئِمة أهلِ البيت قد أرادَ اللهُ تعالى أن يُحقّق به الأمنية الكبرى (وهي بسط العدل والقسط ورفع راية التوحيد على كل ربوع الأرض) وهذه الأمنية الكبرى وهذا الهدف العظيم لا يمكن أن يَتحقّق إلاّ بعد مرور ردح من الزمان، وإلاّ بعد تكاملِ العقلِ البَشَريّ وتهيّؤهِ الروحيِّ والنفسِيّ لذلك، حتى يستقبلَ العالَمُ - بشوقٍ ورغبةٍ - موكبَ الإمام والمصلح العالميّ، موكبَ العَدلِ والحريّةِ والسلامِ، لهذا فإنّ منَ الطبيعيّ أنّ هذا الإمام لو ظَهَرَ بين النّاس، وعاشَ بين ظهرانيِّهم قبلَ نُضُوج الأمر، وحصولِ المقدّمات اللازِمة، والأرضيّة المناسبة، كان مَصيرُه ومآلهُ، مصيرَ من سَبَقه من آبائِه من الأئمِةِ الكرامِ البرَرَة (أي الشهادة)، ولَقُتل عليه السلام قبل أن يتحقّق ذلك الهدفُ العظيم، وتلك الأمنية الكبرى على يديه.




[1] لاحظ سورة الصافات، الآية 140.

280


232

الدرس السادس والعشرون: الإمامة (6) حكمة الغيبة وعلامات الظهور

 ولقد أُشير إلى هذه الحكمة في بعض الرّوايات الصادِرةِ عن أهل البَيْت: أيضاً.

 

فقد رُوي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "إنّ لِلْقائِمِ غَيْبَةً قَبْلَ ظُهُورِهِ".

 

يقول الراوي: قلتُ: ولِمَ؟

 

فقالَ الإمام الباقر: "يَخافُ أي القتل"[1].

 

أي منعاً من أن يُقتَل قبل تحقّق الهدفِ المنتظَرَ مِنه.

 

وَرُبّما ذُكِرَ وجهٌ آخر لغيبته في بعض الرّوايات وهي اختبارُ النّاس وتمحيصُهم، وامتحانهم، يعني أنّ الناس يُختَبَرون في عَصر الغَيبة، ويمرُّون بالامتحان الإلَهيّ، ويُعرَفُ مدى ثباتهِم على طريق الإيمان، ومدى استقامَتهِم في طريق الإيمان والعقيدة[2].

 

وجود الإمام المعصوم لطف إلهي في حضوره وغيابه

إنّ البراهينَ الكلاميَّة ترى أنّ وجودَ الإمام المعصوم في المجتمع، وحضورَه بين الناس لُطفٌ من ألطاف الله الكبرى لكونه سبباً لِهداية الناس. ومِنَ البديهيّ أنّ النّاسَ إذا رَحَّبوا بهذا المظهر البارِزِ مِن مظاهر اللُطفِ الإلَهيّ واستقبلوه، والتفّوا حولَه، انتفَعوا بآثار وجوده المباركة. وإلاّ حُرِموا من الاستفادة الكامِلَة والانتفاع التامّ من نعمة وجوده الشريف. وفي هذه الحالة لا يكونُ السبب في هذا الحِرمان إلاّ الناس أنفسُهم، لا الله ولا الإمام[3].




[1] الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص 481، الباب 44، الحديث 8.

[2] راجع بحار الاَنوار: ج52، ص 102، 113 ـ 114، باب التمحيص والنهي عن التوقيت. 

[3] وقد أشار المحقّق نصيرُ الدين الطوسيّ إلى هذه الحقيقة في كتابه تجريد الاعتقاد (مبحث الإمامة) حيث قال: وجودُهُ (أي الإمام) لُطفٌ وتصرُّفُهُ لُطفٌ آخر وغيبته مِنّا.

281


233

الدرس السادس والعشرون: الإمامة (6) حكمة الغيبة وعلامات الظهور

 طول عمر الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف

لقد وُلِدَ الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عام 255 هجرية، وعلى هذا الأساس يكونُ عُمرُه الآن (عام 1418 هـ ) قد تجاوَزَ أحَدَ عشر قرناً. إنّ الإذعان بهذا العُمُر الطَويل جداً، مع أخذ القُدرة الإلهيّة المطلقة بعين الاعتبار ليس أمراً مشكلاً.

 

وفي الحقيقة إنّ الذين يَعتَبروُن طولَ عُمُر الإمام المهَديّ عليه السلام مشكلةً في طريق الإيمان بوجوده، ومانعاً من القول بولادته، يَغْفَلُون عن قدرة الله اللاّمتناهية فهم كمن قالَ عنهم سبحانه: ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ[1]. هذا مضافاً إلى أنّ في الأمَم السالِفة معمِّرين كثيرين عاشوا طويلاً ذكرهم القرآن الكريم. فقد ذكَر أن نوحاً عاشَ في قومه ألفَ سنة إلاّ خمسين عاماً[2].

 

كما أنّ العِلم البشريّ الحديث يسعى في عَصرِنا إلى أنْ يُحِلّ مشكلة طولِ العُمُرِ، بالأساليبِ الِعلميّة، والصحية. وهذا يُفيد أنَّ الإنسان يمكن ـ في نظر العُلَماء ـ أن يَعيشَ طويلاً بعد رَفْع الموانِعِ الّتي تحول دونَ العُمُر الطويل. إنّ اللهَ قادرٌ على إطالة عُمُر من يُريد إلى يوم القيامة إذا شاء، أليسَ هو القائل بأن يونس لو لم يكن من المسبّحين لَلَبِث في بَطن الحوتِ إلى يَومِ الدِّين[3]. ألا يَستَطيع هذا الاِلَهُ الخالقُ القادر أن يُطيلَ عُمُرَ حُجَّته البالِغَة، وخَلِيفَتِهِ الحقّ بِلُطْفِهِ وعِنايَتِهِ؟ الجوابُ هو: نعم.

علامات ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

لا يعرف أحدٌ بَوْقت ظهور الإمام المهدي قط، فهذه الحقيقة من الأسرارِ الإلهيّة، مثل مَوعد يومِ القيامة، الذي لا يَعرفُ بِهِ أحدٌ إلاّ الله وحده. ولهذا يجب أن لا




[1] سورة الأنعام، الآية 91.

[2] لاحظ سورة العنكبوت، الآية 14.

[3] لاحظ سورة الصافات، الآيتان 143 و 144.

282


234

الدرس السادس والعشرون: الإمامة (6) حكمة الغيبة وعلامات الظهور

 

يُصدَّقُ زعمُ من يَدّعي أنّه يَعْلَمُ بوقتِ ظهورِ الإمام المهديّ، أو يعيّن وَقتاً، ويضرب أجلاً معيّناً لذلك، (كَذِبَ الَوقّاتُون). ولو أنّنا تجاوَزْنا مَسألة توقيت ظهور الإمام المهديّ عليه السلام، وَجَبَ أنْ نقولَ: إنّ الروايات ذَكَرَتْ علائمَ كُليَّةً لِظهورِ الإمام المهديّ وهي تَنْقَسِمُ إلى نَوعين:

1- العلائم الحَتمية القَطعيّة.

2- العلائم غير الحتمية.

 

ويُطلب التفصيل ممّا كتب حول الإمام المهدي من الموسوعات.

283


235

الدرس السادس والعشرون: الإمامة (6) حكمة الغيبة وعلامات الظهور

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ علّة غَيبة الإمام المَهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف هي من الأسرار الإلهيّة التي لا نستطِع الوقوف على حقيقتها وكنهها.

 

- إنّ كلَّ ما يثبُتُ عن طريق النقل المتواتر، ولكن لا يقدر الإنسان على التحقّق منه ومشاهدته، لا يجوز له أن ينكره أو يتردّد في القبول به ما دام رُوِيَ ونُقِلَ بالتّواتر الموجب للاطمئنان.

 

- حيث إنّ آخرَ حُجَّةٍ من حُجَج الله وآخر إمامٍ من أئِمة أهلِ البيت عليهم السلام قد أرادَ اللهُ تعالى أن يُحقّق به الأمنية الكبرى (وهي بسط العدل والقسط ورفع راية التوحيد على كل ربوع الأرض) وهذه الأمنية الكبرى وهذا الهدف العظيم لا يمكن أن يَتحقّق إلاّ بعد مرور ردح من الزمان.

 

- إنّ البراهينَ الكلاميَّة ترى أنّ وجودَ الإمام المعصوم في المجتمع، وحضورَه بين الناس لُطفٌ من ألطاف الله الكبرى لكونه سبباً لِهداية الناس.

 

- إنّ اللهَ قادرٌ على إطالة عُمُر من يُريد إلى يوم القيامة إذا شاء.

 

- إنّ الروايات ذَكَرَتْ علائمَ كُليَّةً لِظهورِ الإمام المهديّ وهي تَنْقَسِمُ إلى نَوعين:

1- العلائم الحَتمية القَطعيّة.

2- العلائم غير الحتمية.

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- ما هي الحكمة من غيبة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف؟

2- كيف يمكن تعليل طول عمر الإمام عليه السلام؟

3- تكلّم عن علامات الظهور بقسميها.

284


236

الدرس السادس والعشرون: الإمامة (6) حكمة الغيبة وعلامات الظهور

 للمطالعة

الغيبة

عن سدير الصيرفي قال: سمعت أبا عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام يقول: "إنّ في القائم سنة من يوسف قلت: كأنّك تذكر خبره أو غيبته؟ قال لي: وما تنكر من هذه الأمّة أشباه الخنازير، إنّ إخوة يوسف عليه السلام كانوا أسباطاً أولاد أنبياء تاجروا بيوسف، وباعوه وخاطبوه، وهم إخوته، وهو أخوهم، فلم يعرفوه حتّى قال لهم يوسف: أنا يوسف، فما تنكر هذه الأمّة الملعونة أن يكون الله عزّ وجلّ في وقت من الأوقات يريد أن يستر حجّته، لقد كان يوسف عليه السلام أحبّ إليه من ملك مصر، وكان بينه وبين والده مسيرة ثمانية عشر يوماً، فلو أراد الله عزّ وجلّ أن يعرف مكانه لقدر على ذلك، والله لقد سار يعقوب عليه السلام وولده عند البشارة تسعة أيّام من بدوهم إلى مصر، فما تنكر هذه الأمّة أن يفعل الله عز وجل بحجّته ما فعل بيوسف، وأن يمشي في أسواقهم ويطأ بسطهم حتّى يأذن الله في ذلك له كما أذن ليوسف حين: ﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي[1]"[2].

 




[1] سورة يوسف، الآيتان 89 و 90.

[2] الصدوق، علل الشرائع، ج 1، ص 244. 

285


237

الدرس السابع والعشرون: الموت

 الدرس السابع والعشرون: الموت

 

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن حقيقة الموت.

2- يثبت جهل الإنسان بساعة الموت.

3- يشرح كيف يكون الموت سنّة إلهية وأنّه ليس عدمًا مطلقًا.

287


238

الدرس السابع والعشرون: الموت

 مقدّمة

يعيش الإنسان مراحل ثلاث، أو بتعبير آخر ثلاثة أنواع من الحياة، يعيش الحياة الدنيا ثمّ حياة البرزخ ثم الحياة الثالثة والأبدية والتي لا نهاية لها وهي حياة عالم الآخرة، ولكل مرحلة من هذه المراحل قوانينها الخاصّة بها، ويُمثّل الموت فيها جسر عبور للإنسان من عالم الدنيا إلى عالم البرزخ، وهو الذي لن يستطيع أن يفرّ منه أحد، مهما علا شأنه في الدنيا، ولذلك ولأنه أمر محتوم فقد أرشدتنا الآيات القرآنيّة وأحاديث المعصومين عليهم السلام إليه وبيّنت لنا تفاصيل منه، منها ما هو رادع ومنها ما هو محفز ليستعد الإنسان إلى ذاك العالم ويكون مهيئًا للقاء الله سبحانه.

 

حقيقة الموت

الموت لغة: قال في المقاييس: "الموت، أصلٌ صحيحٌ يدلّ على ذهاب القوّة من الشيء، منه الموت خلاف الحياة"[1].

 

أما اصطلاحًا: فقد ذكر في آيات عديدة من القرآن الكريم، منه ما هو بهذا اللفظ "الموت"، ومنه ما هو بلفظ التوفّي، الذي يشترك فيه الموت والنوم، وإن كان في الأوّل توفياً كاملاً وتامّاً، وفي الثاني توفيّاً ناقصاً ومؤقّتاً، ولا حاجة ضروريّة لذكر




[1] إبن زكريا، مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مركز النشر، مكتب الإعلام الإسلامي، 1404هـ، ج 5، ص 283.

289


239

الدرس السابع والعشرون: الموت

 تلك الآيات لوضوحها وعدم خفاء المقصد منها.

 

ولكن هناك آية من تلك الآيات قد أخذت حظّها لدى المفسّرين واختلفوا في المقصود منها وهي آية: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[1].

 

فقد اختلفوا في تفسير الموت والحياة المذكورين فيهما فقيل:

1- إنّه تعالى كنّى بالموت عن الدنيا، إذ هو واقعٌ فيها، وبالحياة عن الآخرة من حيث لا موت فيها، فكأنّه قيل، الذي خلق الدنيا والآخرة[2].

 

2- وقيل: "المعنى: خلقكم للموت والحياة، يعني للموت في الدنيا والحياة في الآخرة"[3].

 

3- وقيل: "الحياة هي الصفة التي يكون الموصوفُ بها، بحيث يصحّ أن يَعلم ويَقدر"[4].

 

ولكن عند التأمّل، نجد أنّ الآية صريحة في خلق الموت والحياة، والخلق لغة هو التقدير، فكأنّ الآية الكريمة تقول الذي قدّر لكم الموت والحياة.

 

والتقدير هذا يعني إيجادَ الأسباب التي تؤدّي إلى الموت والحياة، فهناك أسباب تؤدّي إلى الحياة، كما أنّ هناك أسباباً أخرى تؤدّي إلى الموت، وبذلك يكون كلّ من الموت والحياة حالتين عَرَضيتين، إذا ما قيس أحدُهُما إلى الآخر.

 

وما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال:

"الحياة والموت خلقان من خلق الله، فإذا جاء الموتُ فدخل في الإنسان، لم يدخل في شيء إلا وقد خرجت منه الحياة"[5]، لا يدلّ على أنّ لهما تحققاً خارجيّاً،



[1] سورة الملك، الآية 2.

[2] الألوسي، تفسير روح المعاني، ج 29، ص 24.

[3] القرطبي، تفسير القرطبي، تحقيق: عبد العليم البردوني، بيروت - لبنان، دار إحياء التراث العربي، ج 18، ص 26.

[4] الرازي، التفسير الكبير، ج 3، ص 579.

[5] الكليني، الكافي، ج3، ص259.

290


240

الدرس السابع والعشرون: الموت

 فإنّنا لا نراهما بأعيننا، ولم يَرد أن أحداً قد رآهما، أكان معصوماً ومقرّباً من الله أم لم يكن، وعليه يمكن تفسير كلامه عليه السلام بأن يقال: إنّ الحياة والموت تقديران من تقديرات الله عزّ وجلّ فإذا ما كان هذا التقدير لإنهاء حياة الإنسان أو إحيائه، وتحققت الأسباب المُوجبة لأحدهما، فلا مفرّ ولا رادّ لهما، فقوله عليه السلام: "لم يدخل في شيء إلا وقد خرجت منه الحياة" يعني: إذا ما تحقّقت أسباب الموت للحيّ بالتقدير الإلهيّ، إلا وقد خرجت منه أسباب الحياة والعكس صحيح.

 

الموت سنّة إلهيّة عامّة

هذا الموت أكان عن قتل أو عن قبض الرّوح دون واسطة تكوينيّة، لا يمكن أن يفرّ منه أحد ولو كان محصّناً في بروج مشيّدة وقويّة، كما قال تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ[1].

 

وقال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ[2]. وقال عزّ وجلّ: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ[3].

 

وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "ولو أنّ أحداً يَجدُ إلى البقاء سلماً، أو لدفع الموت سبيلاً لكان ذلك لسليمان بن داوود عليهما السلام الذي سُخِّر له مُلك الجنّ والإنس"[4].

 

جهلنا بساعة الموت

أجمع العلماء على اختلاف مذاهبهم العقائدية الإسلاميّة، على أنّ الموت ليس له سنّ معلوم، ولا أجلٌ معلوم، ولا مرضٌ معلوم، فأمره موكول إلى الله، ولكن هناك ما يسمّى بالأجل والأجل المسمّى، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ[5].




[1] سورة النساء، الآية 78. 

[2] سورة آل عمران، الآية 185.

[3] سورة الأنبياء، الآية 34.

[4] نهج البلاغة، الخطبة 185.

[5] سورة الأنعام، الآية 2.

291


241

الدرس السابع والعشرون: الموت

 والأجل كما ورد في تفسير الآية المباركة عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "الأجل غير المسمّى موقوف، يقدّم منه ما شاء ويؤخّر منه ما شاء، وأمّا الأجل المسمّى فهو الذي ينزل ممّا يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها من قابل، فذلك قول الله: ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ[1].

 

قال الشيخ الصدوق رحمه الله: "أجلُ موت الإنسان هو وقت موته، وأجلُ حياته هو وقت حياته وذلك معنى قول الله عزّ وجلّ: ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ وإن مات الإنسان حتف أنفه على فراشه أو قتل من ساعته، وقد يجوز أن يكون لو لم يُقتل لبقي، وعلمُ ذلك مغيّب عنّا وقد قال الله عزّ وجلّ: ﴿قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ[2]، وقال عزّ وجلّ: ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ[3]، ولو قتل جماعة لجاز أن يقال: إنّ جميعهم ماتوا بآجالهم وأنّهم لو لم يقتلوا لماتوا من ساعتهم، كما كان يجوز أن يقع الوباء في جميعهم فيميتهم في ساعة واحدة، وكان لا يجوز أن يقال: إنّهم ماتوا بغير آجالهم، وفي الجملة إنّ أجلَ الإنسان هو الوقت الذي علم الله عزّ وجلّ أنّه يموت فيه أو يقتل"[4].

 

هل الموت أمرٌ عدميّ نسبيّ أم عدميّ مطلق؟

ثبت ممّا تقدّم في تفسير الموت، أنّه عدم الحياة، ولكن هل أنّ هذا العدم عدمٌ مطلق أم عدمٌ نسبيّ؟ هذا ما اختلف عليه الإلهيّون مع المادّييّن أيضاً الذين - أي المادّييّن - يَروْن عالم الموت عالماً مظلماً ومعتماً، ليس له أيّ واقع، ولذلك يقومون بأعمالهم في هذه الدنيا على أنّها الحياة النهائيّة للإنسان، فيقدمون على كلّ ما




[1] سورة الأعراف، الآية 34.

[2] سورة آل عمران، الآية 154.

[3] سورة الأحزاب، الآية 16.

[4] الصدوق، التوحيد، ص 367.

292


242

الدرس السابع والعشرون: الموت

 تشتهيه أنفسهم وضمائرهم! دون رادع لهم عن ذلك، ولذا نشأت في وسطهم مذاهب أخلاقيّة تنسجم مع نظرتهم لهذه الحياة، مثل "مذهب اللذّة الشخصيّة" و"مذهب الضمير" و"مذهب القوّة" إلى غير ذلك من المذاهب الأخلاقيّة المطروحة في وسطهم!!، وعليه فقد قالوا بأنّ الموت أمرٌ عدميّ مطلق، فينقطع الإنسان أو يفنى كليّاً، ولا يبقى له أيّ ارتباط بأيّ شيء بعد ذلك.

 

أمّا الإلهيون، فقد قالوا بأنّ الموت عدمٌ نسبيّ، أي أنّه ليس أكثر من انتقال من حياة إلى أخرى، فيكون عدماً بالنسبة للحياة الدنيا، وليس كذلك بالنسبة للحياة الأخرى.

 

فمثله مثل تبدّل التراب إلى نبات، فإنّ التراب لم ينله العدم المطلق، وإنّما عانى الموت النسبيّ، لأنّ الشكل السابق والخواص التي كان عليها قد انتفت، وظهوره بشكل جماد قد انعدم، ولكن إذا كان قد فقد حالة الموت فإنّه قد اكتسب حالة الحياة.

 

ويشبّهون الموت كذلك بتولّد الجنين من بطن أمّه، فالجنين يموت في الواقع، أي يفقد الحياة في بطن أمّه، لكنّه في نفس الوقت يضع قدمه في عالم أوسع وأفسح، وإذا ما قيس إلى المحيط الذي كان فيه لكان عالماً مملوّاً بالنّعم والجمال.

 

وبذلك يكون الموت حالة انتقال للإنسان من حياة إلى أخرى، من عالم الدنيا الفانية إلى عالم البقاء، إلى عالم البرزخ ثمّ الآخرة، الذي خلق من أجلها. وعليه الموت عدم إذا ما قيس إلى الحياة الأولى فقط، وهو المقصود من الموت، أي من عدم الحياة الدنيوية.

 

الموت بيد الله عزّ وجلّ

الموت "يضادّ الحياة، يبطل معه النموّ، ويستحيل معه الإحساس، وهو محلّ الحياة فينفيها، وهو من فعل الله تعالى ليس لأحد فيه صنع، ولا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى"[1].




[1] المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامية، تحقيق: حسين دور كاهي، بيروت - لبنان، دار المفيد، 1414 هـ - 1993م، ص 74.

293


243

الدرس السابع والعشرون: الموت

 قال عزّ وجلّ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾[1]، فالحياة على اختلاف أنواعها، والموت على اختلاف أنواعه بيد الله تعالى، فإنّه لا يقدر أيّ مخلوق على صنع الحياة في أيّ شيء، إلا إذا أراد الله ذلك، فالمسيح عليه السلام كان يُحيي الموتى ولكن ما كان ليفعل ذلك، أو لم يكن ليقدر على ذلك لولا إذن الله تعالى، وقد أكّد ذلك لقومه مراراً بقوله: ﴿وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ[2]، الآية، فإحياؤه هذا عليه السلام للموتى لم يكن إحياء حقيقياً، أي إنّه ليس هو المُحيي للموتى بشكل مستقلّ دون إرادة الله تعالى وإذنه.

 

والذي يؤدّي إلى الموت بالأسباب المختلفة، يرجع إلى إرادة الله تعالى وإذنه كذلك، كما الإحياء، وهذا يدخل تحت القدر والقضاء، الذي يبحث في علم الكلام ليؤكّد أنّ الموت أيّاً كان سببه، يرجع بنهايته إلى الذي خلق الموت والحياة، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[3].




[1] سورة المؤمنون، الآية 80.

[2] سورة آل عمران، الآية 49.

[3] سورة الملك، الآية 2.

294


244

الدرس السابع والعشرون: الموت

 للمطالعة

 

خصائص أبناء الآخرة

عن عبدالله بن مسعود قال: نعى إلينا حبيبنا ونبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم نفسه- فبأبي وأمي ونفسي له الفداء- قبل موته بشهر، فلما دنا الفراق جمعنا في بيت فنظر إلينا فدمعت عيناه، ثمّ قال: "مرحبًا بكم، حيّاكم الله، حفظكم الله، نصركم الله، نفعكم الله، هداكم الله، وفقكم الله، سلّمكم الله، قبلكم الله، رزقكم الله، رفعكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم، إنّي لكم نذير مبين، ألّا تعلوا على الله في عباده وبلاده، فإنّ الله تعالى قال لي ولكم: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[1]، وقال سبحانه: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ﴾[2]"[3].

 




[1] سورة القصص، الآية 83.

[2] سورة الزمر، الآية 32.

[3] الطوسي، محمّد بن الحسن، الأمالي، قم - إيران، دار الثقافة للطباعة والنشر، ص207، ح354.

296


245

الدرس السابع والعشرون: الموت

 المفاهيم الرئيسة

- ذكر الموت في آيات عديدة من القرآن الكريم، منه ما هو بهذا اللفظ، ومنه ما هو بلفظ التوفّي، الذي يشترك فيه الموت والنوم، وإن كان في الأوّل توفياً كاملاً وتامّاً، وفي الثاني توفّياً ناقصاً ومؤقّتاً.

 

- الموت أكان عن قتل أو عن قبض الرّوح دون واسطة تكوينيّة، لا يمكن أن يفرّ منه أحد ولو كان محصّناً في بروج مشيّدة وقويّة.

 

- أجمع العلماء على اختلاف مذاهبهم العقائدية الإسلاميّة، على أنّ الموت ليس له سنّ معلوم، ولا أجلٌ معلوم، ولا مرضٌ معلوم، فأمره موكول إلى الله سبحانه.

 

- قال الإلهيون، بأنّ الموت عدمٌ نسبيّ، أي أنّه ليس أكثر من إنتقال من حياة إلى أخرى، فيكون عدماً بالنسبة للحياة الدنيا، وليس كذلك بالنسبة للحياة الأخرى.

 

- الحياة على اختلاف أنواعها، والموت على اختلاف أنواعه بيد الله تعالى، فإنّه لا يقدر أيّ مخلوق على صنع الحياة في أيّ شيء، إلا إذا أراد الله ذلك.

 

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- ما هو المعنى الاصطلاحي للموت؟

2- ما هو المقصود بجهل الإنسان بساعة موته؟

3- هل أن الموت عدم نسبيّ أم عدم مطلق؟ بيّن ذلك.

295


246

الدرس الثامن والعشرون: الاحتضار

 الدرس الثامن والعشرون: الاحتضار

 

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يفهم المقصود من الاحتضار.

2- يذكر الأعمال التي تهوّن سكرات الموت.

3- يذكر الأعمال التي تبعد العديلة.

297


247

الدرس الثامن والعشرون: الاحتضار

 ما هو المقصود من الاحتضار؟

كلمة الاحتضار مشتقّة من الحضور، وهو إمّا من جهة الفاعل أي أنّ الفاعل يحضر، أو من جهة المفعول به فيكون الفاعل محتضراً هذا المفعول به فيكون الاحتضار.

 

يمكن توجيه هذه الكلمة إلى مقصودين:

1- إمّا أنّها تعني أنّ الإنسان من خلال هذه الحالة، يصل إلى حضرة الله تعالى أكان مؤمناً أم كافراً على السواء، حيث إنّ الناس جميعهم سيقفون أمام الله بحضرته، فيحاسب كلّ إنسان على أفعاله، فإن كان كافراً كان وصوله إلى تلك الحضرة محفوفاً بغضب الله وسخطه، وإن كان مؤمناً كان وصوله إليها محفوفاً برضى الله وغفرانه.

 

يقول تعالى: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ *  وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ *  وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ *  إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ[1].

 

أي عندما تصلُ النّفس إلى الحلقوم وتلتفّ ساقاه ببعضهما، يَفهم المحتضر أنّه في لحظة الموت والانتقال من عالم الدنيا إلى عالم البرزخ، ليساق إلى الله ويسير إلى جهة الله ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾، إذن لا فناء في البين أصلاً، بل توفّ ووفاة، وتستمرّ هذه الحركة إلى أن يصل إلى دار القرار ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ[2] مقرّ حضوره سبحانه وتعالى.




[1] سورة القيامة، الآيات، 26 - 30.

[2] سورة القيامة، الآية12.

299


248

الدرس الثامن والعشرون: الاحتضار

 2- وإمّا أنّها تعني حضورَ مَلك الموت عند الإنسان وهذا ما يمكن فهمُه من بعض الروايات التي تشير إلى حالات الإنسان عند الاحتضار كما سوف يتبيّن، والسكرة كلمة مأخوذة من مادّة "سُكر" وهي حالة تحولُ بين الإنسان وعقله، وغالباً ما تستعمل في موارد شرب الخمر، وقد استخدمت تارة في الحالات الناجمة عن شدّة الغضب، أو الحالات الناجمة عن شدّة الحب الملتهب.

 

 

صفة المحتضر

طبقًا للمعتقدات الإسلامية في مسألة الموت، فإنّ الموت ليس شيئًا عدميّا، وهذا ما أشرنا إليه في الدرس السابق، ولذلك فإنّ الإنسان في كل حالات الموت ومواقفه التي يمرّ بها سوف يتلقّى أمورًا ويواجه أخرى لم يراها في حياته الدنيا، وسوف يعيش حالة أخرى غير تلك التي كان عليها في الدنيا، وهذا يرجع لتغير قوانين الحياة الجديدة عن سابقتها. ومن ذلك حاله حين الاحتضار.

 

عن الإمام عليّ عليه السلام في صفة المأخوذين على الغرّة قال: "اجتمعت عليهم سَكرة الموت وحسرة الفوت، ففترَت لها أطرافهم، وتغيّرت لها ألوانهم ثمّ ازداد الموت فيهم ولوجاً، فحيل بين أحدهم وبين منطقه، وإنّه لبين أهله ينظر ببصره، ويسمع بأذنه على صحّة من عقله وبقاء من فكره، يفكّر فيمَ أفنى عمره، وفيمَ أذهب دهره! ويتذكّر أموالاً جمعها، وأشرف على فراقها، تبقى لمن وراءه ينعمُون فيها ويتمتعون بها، فيكون المهنأ لغيره، والعبءُ على ظهره، والمرء قد غلقت رهونُه بها، فهو يعضّ يدَه ندامة على ما أصحِرَ له عند الموت من أمره، ويزهدُ فيما كان يرغب فيه أيّام عمره، ويتمنّى أنّ الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه.

 

فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتى خالط لسانه سمعه، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه ولا يسمع بسمعه، يردّد طرفه بالنظر في وجوههم، يرى حركات

300


249

الدرس الثامن والعشرون: الاحتضار

 ألسنتهم ولا يسمع رجْعَ كلامهم.

 

ثمّ ازداد الموت التياطاً به فقبض بصره كما قبض سمْعه، وخرجت الروحُ من جسده، فصار جيفة بين أهله..."[1].

 

شدّة النزع

المقصود بالنزع هو اللحظات التي يكون فيها خروج الروح من الجسد، ولهذه الحالة وقعها الصعب على الإنسان.

 

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "احضروا موتاكم ولقّنوهم لا إله إلا الله وبشّروهم بالجنّة، فإنّ الحليم من الرجال والنساء يتحيّر عند ذلك المصرع، وإنّ الشيطان أقرب ما يكون من ابن آدم عند ذلك المصرع، والذي نفسي بيده! لمعاينة ملك الموت أشدّ من ألف ضربة بالسيف، والذي نفسي بيده! لا تخرج نفسُ عبدٍ من الدنيا حتى يتألمَ كلّ عرقٍ منه على حياله"[2].

 

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً قال: "لو علمت البهائم من الموت ما علم ابن آدم، ما أكلوا منها لحماً سميناً"[3].

 

وعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: "فإنّكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزَعْتم ووهلتم، وسمعتم وأطعتم، ولكن محجوبٌ عنكم ما قد عاينوا وقريبٌ ما يُطرح الحجاب"[4].

 

حال الكافر عند الاحتضار

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إن كان لأوليائنا مُعادياً، ولأعدائنا مُوالياً، ولأضدادنا بألقابنا ملقباً، فإذا جاءه ملك الموت لنزع روحه، مَثل الله عزّ وجلّ لذلك الفاجر سادته الذين اتخذهم أرباباً من دون الله، عليهم من العذاب ما يكاد




[1] نهج البلاغة، الخطبة 109.

[2] الهندي، كنز العمال، بيروت - لبنان، مؤسسة الرسالة، 1409هـ - 1989م، ج 15، ح 42158. 

[3] المصدر نفسه، ح 42142.

[4] نهج البلاغة، الخطبة 20.

301


250

الدرس الثامن والعشرون: الاحتضار

 نظرُه إليهم يُهلكه، ولا يزال يصل إليه من حرّ عذابهم ما لا طاقة له به، فيقول له ملك الموت: يا أيّها الفاجر الكافر، تركت أولياءَ الله إلى أعدائه؟! فاليوم لا يُغنون عند الله شيئاً، ولا تجد إلى مناص سبيلاً، فيردّ عليه من العذاب ما لو قسّم أدناه على أهل الدنيا لأهلكهم"[1].

 

ما يراه المحتضر من الآخرة

عن أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه لمحمّد بن أبي بكر لمّا ولّاه مصر: "احذروا يا عباد الله الموتَ وسكراته، وأعدّوا عدّته، فإنّه يَفجؤكم بأمر عظيم، بخير لا يكون معه شرّ أبداً، أو بشرّ لا يكون معه خيرٌ أبداً.... إنّه ليس أحدٌ من الناس تفارق روحُه جسَده، حتى يعلم إلى أيّ المنزلين يصير، إلى الجنّة أم النار، أعدوّ هو لله أم وليّ، فإن كان وليّاً لله فتحت له أبوابُ الجنّة وشرع له طرقها ورأى ما أعدّ الله له فيها، ففزع من كلّ شُغل ووُضع عنه كلّ ثقل، وإن كان عدوّاً لله فتحت له أبوابُ النار وشرّعت له طرُقها، ونظر إلى ما أعدّ الله له فيها، فاستقبل كلّ مكروه وترك كلّ سرور. كلّ هذا يكون عند الموت، وعنده يكون اليقين، قال الله عزّ اسمه: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[2]"[3].

 

تمثّل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة للمحتضر المؤمن

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "انظروا من تحادثون؟ فإنّه ليس من أحد ينزل به الموتُ إلا مثُل له أصحابُه إلى الله، إن كانوا خياراً فخياراً، وإن كانوا شراراً فشراراً، وليس أحدٌ يموت، إلا تمثّلتُ له عند موته"[4].




[1] المجلسي، بحار الأنوار، ج 6، ح 1، ص 176.

[2] سورة النحل، الآية 28.

[3] الطوسي، الأمالي، ص 27.

[4] الكليني، الكافي، ج 2، ص 638، ح 3.

302


251

الدرس الثامن والعشرون: الاحتضار

 وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "من أحبّني وجدني عند مماته بحيث يُحبّ، ومن أبغضني وجدني عند مماته بحيث يَكره"[1].

 

ما يهوّن سكرات الموت

ذكر في روايات أهل البيت عليهم السلام بعض الأمور التي تُخفّف من وطأة سكرات الموت التي تعتبر من أشدّ ما يتلقّاه الإنسان عند احتضاره ونزع روحه، ويمكن إيرادها ضمن العناوين التالية:

 

1- صلة الرّحم:

عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "من أحبّ أن يخفّف الله عزّ وجلّ عنه سكرات الموت، فليكن لقرابته وصولاً وبوالديه بارّاً، فإذا كان كذلك هوّن الله عزّ وجلّ عليه سكرات الموت، ولم يُصبْه في حياته فقرٌ أبداً"[2].

 

2- برّ الوالدين:

رُويَ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضَرَ شابّاً عند وفاته فقال له: "قل: لا إله إلا الله.

قال: فاعتقل لسانُه مراراً.

فقال لامرأة عند رأسه: "هل لهذا أمّ"؟

قالت: نعم أنا أمّه.

قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أفساخطة أنت عليه"؟

قالت: نعم ما كلّمته منذ ستّة حجج.




[1] صحيفة الإمام الرضا عليه السلام، تحقيق: محمد مهدي نجف، بيروت - لبنان، دار الأضواء، 1986م، ط 2، ح 86، ص 203.

[2] الطوسيّ، الأمالي، ج 1، ص 67، ح 9.

303


252

الدرس الثامن والعشرون: الاحتضار

 قال صلى الله عليه وآله وسلم لها: "ارضي عنه".

قالت: رضي الله عنه يا رسول الله برضاك عنه.

فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قل: لا إله إلا الله"، فقالها.

فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ما ترى"؟

قال: أرى رجلاً أسودَ الوجه قبيحَ المنظر وسِخ الثيابِ منتن الرّيح قد وَليني الساعة، وأخذ بكظمي.

فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "قل: يا من يقبلُ اليسيرَ ويعفو عن الكثير إقبل منّي اليسيرَ واعفُ عنّي الكثير إنّك الغفورُ الرّحيم". فقالها الشاب.

فقال له النبيّ: "انظرْ ماذا ترى"؟

قال: أرى رجلاً أبيضَ اللون حسن الوجه طيّبَ الرّيح حسنَ الثياب قد وليني. وأرى الأسودَ قد تولّى عنّي.

فقال له: "أعِدْ"، فأعاد. فقال له: "ما ترى"؟

قال: لست أرى الأسودَ، وأرى الأبيضَ قد وليَني. ثمّ طفيَ على تلك الحال[1].

 

إنّ صلة الرّحم وبرّ الوالدين من أخطر الواجبات التي ينبغي للمؤمن أن يهتمّ بها، ولذا فإنّ الله تعالى قد ذكرهما في كتابه المحكم وشدّد النكير على تاركهما، بل قرَنَ عبادته ببرّ الوالدين، وقطع من قطع صلة الرّحم، وإن دلّ ذلك على شيء إنّما يدلّ على الأثر الإيجابيّ الواقع من جرّاء القيام بهما، وعلى الأثر السلبيّ من جراء تركهما، ولكن ما نعيشه اليوم من انشغالات في مادّيّاتنا وحاجياتنا وكثرة متطلباتنا ينحو بنا كلّ ذلك لأن تكون أنفسنا مشغولة فقط بأنفسنا، بل ربّما ينسى أحدُنا أنّ له قرابة وأنّ لوالديه عليه واجباً، فيحسب نفسَه أنّه مبرأ الذمّة وأنّ لديه حجة، ولكن




[1] الطوسي، الأمالي، ج 1، ص 62 - 63، ح 4.

304


253

الدرس الثامن والعشرون: الاحتضار

 على من؟ إنّ الساعة آتية، ولقاء الله قريب، وسوف تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء.

 

العديلة عند الموت

وهي تعني العدولَ من الحقّ إلى الباطل في وقت الموت والاحتضار، وذلك بأن يحضر الشيطان عند المحتضر ويوسوس له حتّى يوقعه في الشكّ، ويخرجه من الإيمان إلى الشرك والكفر، في لحظة حرجة يحتاج فيها الإنسان إلى الثبات والتوفيق للرحيل إلى ذاك العالم وهو مرضيّ عنه عند الله عزّ وجلّ.

 

ما هي الأعمال التي تبعد العديلة؟

1- الحفاظ على أوقات الصلوات: في حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد ذكر أنّ ملك الموت قال: "... إنّه ليس في شرقها ولا غربها أهل بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا وأنا أتصفحهم في كلّ يوم خمس مرّات، قال صلى الله عليه وآله وسلم: إنّما يتصفّحهم في مواقيت الصلاة، فإن كان ممّن يواظب عليها عند مواقيتها لقّنه شهادة أن لا إله الله، محمّداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحّى عنه مَلَكُ الموت إبليس"[1].

 

2- قراءة سورة المؤمنون: وذلك في كلّ نهار جمعة، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "من قرأ سورة المؤمنون ختم الله له بالسعادة، وإذا كان يُدمن قراءتها في كلّ جمعة كان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيّين والمرسلين"[2].




[1] الكليني، الكافي، ج 3، ص 136.

[2] الصدوق، ثواب الأعمال، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، قم - إيران، منشورات الرضا عليه السلام، ص 135.

305


254

الدرس الثامن والعشرون: الاحتضار

 3- ذكر آية: ﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ[1].

 

 

4- المواظبة على تسبيح الزهراء عليها السلام.

 

5- التختّم بخاتم عقيق.

 

6- دعاء العديلة (تجده في كتاب مفاتيح الجنان).



[1] سورة آل عمران، الآية 8.

306


255

الدرس الثامن والعشرون: الاحتضار

 المفاهيم الرئيسة

- كلمة الاحتضار مشتقّة من الحضور، وهو إمّا من جهة الفاعل - أي أنّ الفاعل يحضر -، أو من جهة المفعول به - فيكون الفاعل محتضراً هذا المفعول به - فيكون الاحتضار.

 

- المقصود بالنزع هو اللحظات التي يكون فيها خروج الروح من الجسد، ولهذه الحالة وقعها الصعب على الإنسان.

 

- ما يهوّن سكرات الموت:

1- صلة الرّحم.

2- برّ الوالدين.

 

- ما هي الأعمال التي تبعد العديلة؟

1- الحفاظ على أوقات الصلوات.

2- قراءة سورة المؤمنون.

3- ذكر آية:﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا

4- المواظبة على تسبيح الزهراء عليها السلام.

5- التختّم بخاتم عقيق.

6- دعاء العديلة.

 

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- هناك احتمالان للمقصود من كلمة الاحتضار، تكلم عنهما.

2- اذكر الأعمال التي تهوّن سكرات الموت.

3- ما هو المقصود بالعديلة، واذكر الأعمال التي تبعدها عن الإنسان.

 

307


256

الدرس الثامن والعشرون: الاحتضار

للمطالعة

 

من أقوال لقمان الحكيم

قال لقمان لابنه: يا بني، أمر لا تدري متى يلقاك، استعد له قبل أن يفجأك. والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات وأطيب مجالس اللهو: فانتظر أن يدخل عليه جندي فيضربه خمس خشبات، لتكدّرت عليه لذّته وفسد عليه عيشه. وهو في كل نفس بصدد أن يدخل عليه ملك الموت بسكرات النزع، وهو عنه غافل. فما لهذا سبب إلا الجهل والغرور. واعلم أن شدة الألم في سكرات الموت لا يعرفها بالحقيقة إلا من ذاقها، ومن لم يذقها فإنما يعرفها، إما بالقياس إلى الآلام التي أدركها، وإما بالاستدلال بأحوال الناس في النزع على شدة ما هم فيه. فأما القياس الذي يشهد له فهو أن كل عضو لا روح فيه فلا يحس بالألم. فإذا كان فيه الروح فالمدرك للألم هو الروح. فمهما أصاب العضو جرح أو حريق سرى الأثر إلى الروح، فبقدر ما يسري إلى الروح يتألم. والمؤلم يتفرق على اللحم، والدم، وسائر الأجزاء، فلا يصيب الروح إلا بعض الألم. فإن كان في الآلام ما يباشر نفس الروح ولا يلاقى غيره، فما أعظم ذلك الألم وما أشده! والنزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح، فاستغرق جميع أجزائه، حتى لم يبق جزء من أجزاء الروح المنتشر في أعماق البدن إلا وقد حل به الألم[1].

 




[1] الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء، مؤسسة النشر الإسلامي، 1417هـ، ط4، ج8، ص252.

308


257

الدرس التاسع والعشرون: عالَمُ ما بَعدَ الموتِ (1) عالم البرزخ

 الدرس التاسع والعشرون: عالَمُ ما بَعدَ الموتِ (1) عالم البرزخ

 

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن معنى البرزخ لغةً واصطلاحًا.

2- يذكر بعض الآيات الدالة على حياة البرزخ.

3- يذكر بعض الروايات الدالة على البرزخ.

309


258

الدرس التاسع والعشرون: عالَمُ ما بَعدَ الموتِ (1) عالم البرزخ

معنى البرزخ لغةً واصطلاحًا

لغة: "البرزخ الحائل بين الشيئين، كأنّ بينهما برازاً أي متسعًا..."[1].

 

أما اصطلاحًا: فهو النشأة الأخرى التي ينتقل إليها الإنسان بعد الموت، ويبقى فيها إلى قيام الساعة وبعث من في القبور، فتكون مرحلة وسطى بين عالم الدنيا وعالم الآخرة، فالموت حينئذٍ ليس إلا جسر انتقال من الحياة الدنيا إلى الحياة الأخرى التي تبدأ بعالم البرزخ والقبر.

 

ينال الإنسان في ذاك العالم أنواع النعيم وأنواع العذاب، كل امرئٍ حسب أعماله، وبالتالي فإن عالم البرزخ يؤكد عدم فناء الإنسان بالموت، إنّما بقاءَه.

 

ويوكّد ذلك ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: "خلقنا للبقاء، وكيف تفنى جنّة لا تبيد، ونار لا تخمد؟، ولكن قل: إنّما نتحرّك من دار إلى دار"[2].

 

البرزخ في الكتاب والسنّة

لا نعلم عن حقيقة البرزخ شيئاً واضحاً وكاملاً، سوى ما جاء في القرآن والأحاديث من إشارات وذكر لبعض أجوال جنّة البرزخ وناره، ولنذكر طائفة من الآيات والأحاديث بغية التعرّف على ملامح تلك النشأة.




[1] ابن زكريا، مقاييس اللغة، ج1، ص333. 

[2] الصدوق، علل الشرائع، باب 9، علّة خلق الخلق، ص11.

311


259

الدرس التاسع والعشرون: عالَمُ ما بَعدَ الموتِ (1) عالم البرزخ

 1- الآيات القرآنيّة:

 

أ- إنّ المحتضر إذا وقف على سوء مصيره يتمنّى عوده إلى الدنيا ليتدارك ما فات منه، يقول سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[1]. ولكن يخيب سعيه، ويُردُّ طلبه، ويقال له: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[2]. والآية تحكي عن وجود حياة برزَخية مخفية للمشركين.

 

ب- ويصف حياة المجرمين، ولاسيما آل فرعون، بقوله: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ[3]. فالآية تحكي عن أنّ آل فرعون يعرضون على النار صباحاً ومساءً، قبل القيامة. وأمّا بعدها فيقحمون في النار.

 

ج- ويصف سبحانه حياة الشهداء في تلك النشأة، بقوله: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ[4]. ويصف في آية أُخرى حياة الشهداء بقوله: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[5].

 

2- الرّوايات:

وفيما يلي نماذج من الروايات التي تثبت حياة البرزخ، نضعها ضمن العناوين التالية:

أ- أرواح المؤمنين تتنعّم في القبر: ورد في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام



[1] سورة المؤمنون، الآيتان 99 و 100.

[2] سورة المؤمنون، الآية 100.

[3] سورة غافر، الآية 46.

[4] سورة البقرة، الآية 154.

[5] سورة آل عمران، الآية 170.

312


260

الدرس التاسع والعشرون: عالَمُ ما بَعدَ الموتِ (1) عالم البرزخ

 الصادق عليه السلام أنّه قال في قوله تعالى ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا[1] قال: "ذلك في جنّات الدنيا قبل القيامة، والدليل على ذلك قوله ﴿بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾، فالبكرة والعشيّة لا تكونان في الآخرة في جنات الخلد، وإنما يكون الغداة والعشي في جنات الدنيا، التي تنتقل إليها أرواح المؤمنين وتطلع فيها الشمس"[2].

 

ب- أرواح الكافرين تتعذّب في القبر: ورد في تفسير القمّي أنّ رجلًا قال لأبي عبدالله عليه السلام: "ما تقول في قول الله عزّوجلّ: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا[3] فقال أبو عبدالله عليه السلام: ما تقول الناس فيها؟فقال: إنّها دار الخلد وهم لا يعذبون فيما بين ذلك، فقال عليه السلام: فهم من السعداء، فقيل له: جعلت فداك، فكيف هذا؟ فقال: إنما هذا في نار الدنيا، فأمّا في نار الخلد فهو قوله: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ[4]".[5]

 

ج- أرواح المؤمنين تنتقل إلى وادي السلام: عن حبّة العرنيّ عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث قال: "ما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض إلا قيل لروحه: الحقي بوادي السلام، وإنّها لبقعة من جنّة عدن"[6].

 

د- أرواح الكافرين تنتقل إلى وادي برهوت: عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: شرّ اليهود يهود بيسان[7]، وشر النصارى نصارى نجران[8]، وخير ماء على وجه الأرض




[1] سورة مريم، الآية 62.

[2] القمي، تفسير القمي، تحقيق: طيب الموسوي الجزائري، منشورات مكتبة الهدى، ج1، ص53.

[3] سورة غافر، الآية 46.

[4] سورة غافر، الآية 46.

[5] القمي، تفسير القمي، ج2، ص229.

[6] الكليني، الكافي، ج3، كتاب الجنائز، ص243، ح1.

[7] بيسان: قرية بمرو وموضع بالشام وقرية باليمامة.

[8] نجران: موضع بالبحرين.

313


261

الدرس التاسع والعشرون: عالَمُ ما بَعدَ الموتِ (1) عالم البرزخ

 ماء زمزم، وشرّ ماء على وجه الأرض ماء برهوت، وهو واد بحضر موت يرد عليه هام[1] الكفار وصداهم"[2].

 

هذا وهناك الكثير من الروايات التي تحكي حياة البرزخ، إلا أن المقام هنا لا يسع لذكرها جميعًا.

 

سؤال القبر

تبتدأ الحياة البرزَخية بقبض الروح من البدن، وعندما يودع بدن الإنسان في القبر، يأتي إليه ملائكة الربّ فيسألونه عن التوحيد والنبوّة وأُمور عقائدية أُخرى، ومن الواضح أنّ إجابة المؤمن ستختلف عن إجابة الكافر وبالتالي يكون عالم البرزخ مظهراً من مظاهر الرحمة للمؤمن، أو مصدراً من مصادر النقمة والعذاب للكافر.

 

إنّ السؤال في القبر وما يستتبع من الرحمة أو العذاب من الأمور المسلّمة عند أئمة أهل البيت، وفي الحقيقة إنّ القبر يُعدّ أُولى المراحل للحياة البرزخية التي تدوم إلى أنْ تقوم الساعة.

 

ورد عن أمير المؤمنين أنه قال: "حتى إذا انصرف المشيّع ورجع المتفجّع، أقعد في حفرته نجيًّا لبهتة السؤال وعثرة الامتحان"[3].

 

وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾[4] قال: "في القبر إذا سئل الموتى"[5].




[1] المقصود بها أرواحهم.

[2] الكليني، الكافي، ج3، كتاب الجنائز، باب آخر في أرواح الكفار، ح4، ص248.

[3] المجلسي، بحار الأنوار، ج 6، ص 228، ح 29.

[4] سورة إبراهيم، الآية 27.

[5] المجلسي، بحار الأنوار، ج 6، ص 228.

314


262

الدرس التاسع والعشرون: عالَمُ ما بَعدَ الموتِ (1) عالم البرزخ

 أقوال العلماء في المساءلة في القبر

قال الشيخُ الصدوق: اعتقادُنا في المساءلةِ في القَبرِ، أنَّه حقٌّ لا بدَّ منها، فمن أجابَ بالصواب فازَ برَوحٍ ورَيحانٍ في قَبرهِ، وبِجَنّةِ النعيمِ في الآخرة، ومَن لم يُجِبْ بِالصَّوابِ فَلهُ نُزُلٌ من حميمٍ في قبره، وتَصْلِيةُ جَحيم في الآخرةِ[1].

 

وقال الشيخُ المفيد في كتابه "تصحيحُ الاعتقاد": جاءَت الآثارُ الصحيحة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الملائكة تنزل على المقبُورين فتسألُهم عن أدْيانهم، وألفاظُ الأخبارِ بذلك متقاربة فمِنها أنّ مَلكَينِ لله تعالى يُقالُ لهما ناكر ونكير ينزلان على الميّتِ فَيَسألانِهِ عن رّبِهِ ونبيِّهِ ودينِهِ وإمامِهِ، فإنْ أجابَ بالحق سَلَّموهُ إلى ملائكةِ النَّعيم، وإن ارتجَّ عليه سَلَّموهُ إلى ملائكةِ العَذاب[2].

 

وقال المحقّق نصيرُ الدين الطوسي في كتابه: "تجريد الاعتقاد" أيضاً: وعذابُ القبر واقعٌ لإمكانِهِ، وتواتُرِ السَّمعِ بِوقوعِهِ[3].

 

ومن راجَعَ كتب العقائد لدى سائر المذاهب الإسلامية اتّضح له أنّ هذه العقيدة هي موضع اتفاقٍ بين جميع المسلمين، ولم يُنسَب إنكار عذابِ القبر إلاّ إلى شخص واحِدٍ هو "ضرار بن عمرو"[4].




[1] الصدوق، الاعتقادات في دين الإمامية، تحقيق: عصام عبد السيد، بيروت- لبنان، دار المفيد، 1414هـ-1993م، الباب 17، ص 58.

[2] المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامية، ص 99.

[3] الحلي، كشف المراد، المقصد 6، المسألة 14.

[4] راجع كتاب "السنة" لأحمد بن حنبل, و"الإبانة" لأبي الحسن الاَشعري, وشرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي.

315


263

الدرس التاسع والعشرون: عالَمُ ما بَعدَ الموتِ (1) عالم البرزخ

 المفاهيم الرئيسة

1- النشأة الأخرى هي التي ينتقل إليها الإنسان بعد الموت، ويبقى فيها إلى قيام الساعة وبعث من في القبور، فتكون مرحلة وسطى بين عالم الدنيا وعالم الآخرة.

 

- البرزخ في الآيات القرآنيّة:

1- إنّ المحتضر إذا وقف على سوء مصيره يتمنّى عوده إلى الدنيا ليتدارك ما فات منه.

2- ويصف حياة المجرمين، لاسيما آل فرعون، بقوله: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾.

 

3- ويصف سبحانه حياة الشهداء في تلك النشأة، بقوله: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾.

 

هناك روايات عديدة تدل على حياة البرزخ كالتي تحكي عن: السؤال في القبر وأنّ أرواح المؤمنين تتنعّم في القبر، وأرواح الكافرين تتعذّب في القبر، وأنّ أرواح المؤمنين تنتقل إلى وادي السلام وأرواح الكافرين تنتقل إلى وادي برهوت...

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- ما معنى البرزخ اصطلاحًا؟

2- اذكر آيتين تشيران إلى عالم البرزخ.

3- ما هي عقيدة الشيعة في المساءلة في القبر؟.

316


264

الدرس التاسع والعشرون: عالَمُ ما بَعدَ الموتِ (1) عالم البرزخ

 للمطالعة

 

العلّة التي من أجلها يكون عذاب القبر

عن الإمام أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقيل: إنّ سعد بن معاذ قد مات، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقام أصحابه، فحمل، فأمر فغسل على عضادة الباب، فلما أن حنط وكفن وحمل على سريره تبعه رسول الله، ثمّ كان يأخذ يمنة السرير مرة ويسرة السرير مرة حتى انتهى به إلى القبر، فنزل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى لحده، وسوى عليه اللبن، وجعل يقول: ناولني حجراً، ناولني تراباً رطباً يسد به ما بين اللبن، فلما أن فرغ وحثا التراب عليه وسوّى قبره، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لأعلم أنه سيبلى ويصل إليه البلى، ولكن الله تعالى يحب عبداً إذا عمل عملاً فأحكمه، فلما أن سوى التربة عليه، قالت أم سعد من جانب: هنيئاً لك الجنّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أم سعد مه، لا تجزمي على ربك، فإن سعداً قد أصابته ضمة، قال: ورجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورجع الناس، فقالوا: يا رسول الله لقد رأيناك صنعت على سعد ما لم تصنعه على أحد، إنّك تبعت جنازته بلا رداء، ولا حذاء، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الملائكة كانت بلا حذاء، ولا رداء، فتأسيت بهم، قالوا: وكنت تأخذ يمنة السرير مرة ويسرة السرير مرة، قال: كانت يدي في يد جبرئيل، آخذ حيث ما أخذ، فقالوا: أمرت بغسله وصليت على جنازته ولحدته، ثمّ قلت: إنّ سعداً قد أصابته ضمة، قال: فقال صلى الله عليه وآله وسلم: نعم إنه كان في خلقه مع أهله سوء"[1].

 




[1] الصدوق، علل الشرائع، ج1، ص406، ح4.

317


265

الدرس الثلاثون: عالم ما بعد الموت (2) المعاد

 الدرس الثلاثون: عالم ما بعد الموت (2) المعاد

 

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن كيف أنّ المعاد ضرورة من الضروريات.

2- يردّ على بعض الشبهات المطروحة حول المعاد.

3- يبيّن الفرق بين المعاد والتناسخ.

319


266

الدرس الثلاثون: عالم ما بعد الموت (2) المعاد

 مقدمة

تَتّفِقُ جميعُ الشَرائع السَّماويّة على لزوم الإيمان بالآخرة ووجوب الاعتقاد بالقيامة، فقد تحدّث الأنبياء جميعاً - إلى جانب التوحيد - عن المَعاد، وعالم ما بعد الموت أَيضاً. وجَعَلُوا الإيمان باليوم الآخر في طليعة ما دَعَوا إليه. وعلى هذا الأساس يكونُ الاعتقاد بالقيامة من أركانِ الإيمان في الإسلام.

 

إنّ مسألةَ المعاد وإن طُرحَت في كتاب العهدين (التوراة والإنجيل معاً) إلاّ أنّها طُرحت في العَهد الجديدِ بشكلٍ أوضح، ولكنّ القرآنَ الكريمَ اهتمّ بهذه المسألة أكثر من جميع الكتب السماوية الأخرى، حتى أنَّهُ اختص قسمٌ عظيمٌ من الآيات القرآنيّة بهذا الموضوع.

 

وقد أُطلق على المعاد في القرآن الكريم أسماءٌ كثيرة مثل: يومِ القيامة، يوم الحِساب، اليوم الآخر، يوم البعث وغير ذلك. وعلّة كلّ هذا الاهتمام والعِناية بمسألة القيامة هي أن الإيمان والتديّن من دون الاعتقاد بيوم القيامة غير مثمر.

 

ضرورة المعاد

لقد أقام الحكماء والمتكلّمون المُسلمون أدلّة عديدة ومتنوعة على ضرورة المعاد، وحياة ما بعد الموت، وفي الحقيقة كان القرآن الكريم هو مصدر الإلْهام في جميع هذه الأدلّة. من هنا فإننا نذكر بعضَ الدلائل القرآنيّة على هذه المسألة:

321


267

الدرس الثلاثون: عالم ما بعد الموت (2) المعاد

 1- إنّ الله تعالى حقٌّ مطلقٌ، وفعلُهُ كذلك حقٌّ، منزَّهٌ عن أي باطلٍ ولغوٍ. وخَلق الإنسان من دونِ وجودِ حياةٍ خالدةٍ سيكون لغواً وعبثاً كما قال: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ[1].

 

 

2- إنّ العدلَ الاِلَهيَّ يوجبُ أن لا يعامَل المحسنون والمسيئون في مقام الجزاءِ على شكلٍ واحدٍ.

 

ومن جانِبٍ آخر إنّه لا يمكن تحقّقُ العدالةِ الكاملةِ بالنسبة إلى الثَّوابِ والعِقاب في الحياة الدنيوية، لأنّ مصيرَ كلا الفريقين في هذا العالم متداخِلَين وغير قابلَين للتفكِيك والفَصل. ومن جهة ثالثة فإنّ لِبعض الأعمال الصالِحة، والطالحة جزاءً لا يسع له نطاقُ هذا العالم. فَمَثَلاً هناك من ضَحّى بنفِسِه في سَبِيل الحق، وهناك من خضّب الأرض بدماء المؤمنين.

 

ولهذا لا بُدَّ مِن وجود عالمٍ آخر يتحقَّق فيه العدلُ الإلَهيّ الكاملُ في ضوءِ الإمكانات غير المتناهية. كما قال تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ[2].

 

ويقولُ تعالى أيضاً: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾[3].

 

3- إن خلقَ البشَر بَدَأَ في هذا العالمَ من ذَرّةٍ حقيرةٍ ثم ترقّى في مدارج الكمال الجسمي شيئاً فشَيئاً، حتى بَلغَ مرحلةً نُفِخَت فيها الرُّوح في جسمه. وَقدْ وَصَفَ القرآنُ الكريمُ، خالقَ الكون بكونه "أحسنَ الخالقين" نظراً إلى تكميل خلقِ هذا الموجودِ المتميّز.



[1] سورة المؤمنون، الآية 115.

[2] سورة ص، الآية 28.

[3] سورة يونس، الآية 4.

 322


268

الدرس الثلاثون: عالم ما بعد الموت (2) المعاد

 ثم إنّه ينتَقل بالمَوْت من مَنْزله الدنيويّ إلى عالمٍ آخر، يُعتَبَر كمالاً للمرحلة المتقدّمة وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى إذ قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾[1].

 

جواب الشبهات المثارة حول المعاد

لقد طَرَحَ مُنكرو القيامة والمعاد في عصر نزول القرآن، شُبُهاتٍ ردّ عليها القرآن، ضمن توضيحه لأدلّة وجود المعاد. وفيما يلي بعضُ هذه الموارد:

 

1- تارةً يؤكّدُ القرآنُ الكريم على قدرة اللهِ المطلقة فيقول تعالى: ﴿إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[2].

 

2- وتارةً يُذكّر بأنّ الذي يقدرُ على خَلق الإنسان ابتداءً قادرٌ على إعادته، ولملمة رفاته، وإرجاع الروح إليه ثانيّة. فهو مَثَلاً ينتقدُ قولَ المنكرين للمعاد قائلاً: ﴿فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا﴾ ثم يقول: ﴿قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ[3].

 

3- وفي بَعضِ الموارد يُشَبِّهُ إحْياءَ الإنسان بعدَ مَوْته بإعادةِ الحَياة إلى الأرض في فَصْل الرَّبيع بعد رقدةٍ شتائيّة من جديدٍ وولوج الحياة في الطبيعة وعلى هذا يقيسُ المعادَ وعودةَ الرُّوح إلى الموتى، قال تعالى: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ  * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ[4].



[1] سورة المؤمنون، الآيات 14 - 16.

[2] سورة هود، الآية 4.

[3] سورة الإسراء، الآية 51.

[4] سورة الحج، الآيات 5 - 7.

323


269

الدرس الثلاثون: عالم ما بعد الموت (2) المعاد

 4- في الإجابة على هذه الشُّبهة التي تقول "من يُحيي العِظام" وقد أصبحت رميماً، وَكَيف يَجمعُها وقد ضاعَت في الأرض ويخلق منها جَسَداً كالجسد الأول؟ يقولُ سبحانه: ﴿...بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ[1]. وفي موضع آخَر يُخبرُ عَن ذلك العلم الواسع قائلاً: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ[2].

 

 

5- ربّما يتصوّر أنّ الإنسان يتألف من أجزاء جسمانيّة، وأعضاء مادّية تنحل بموته وتستحيل إلى تراب. فكيف يكون الإنسان يوم القيامة هو عينه في الحياة الدنيا، وبعبارة أُخرى ما هي الصلة بين البدن الدنيوي والأخروي كي يحكم بوحدتهما؟ والقرآن ينقل تلك الشبهة عن لسان الكافرين ويقول: ﴿أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ[3]. ثُمّ يعود ويجيب عليها بقوله: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ[4].

 

ويكمن حاصل الجواب في الوقوف على معنى "التوفّي" المأخوذ في الآية. الذي هو "الأخذ"، وهو يعرب أنّ للإنسان وراء البدن الذي يبلى حين موته شيئاً آخر يأخذه ملك الموت وهي الروح، فحينها تتضح إجابة القرآن عن الشبهة.

 

وهي أنّ ملاك وحدة البدنين والحكم بأنّ البدن الأخروي هو عين البدن الدنيوي - مضافاً إلى وحدة الأجزاء - هي الروح المأخوذة من قِبَل ملك الموت، فإذا ولجت نفس الأجزاء يكون المعاد عين المبتدأ. فيستفاد من هذه الآية ونظائرها أنّ الإنسان المحشور يوم البعث هو عينه الموجود في نشأة الدنيا، قال سبحانه: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾[5].



[1] سورة يس، الآية 81.

[2] سورة ق، الآية 4.

[3] سورة السجدة، الآية 10.

[4] سورة السجدة الآية 11.

[5] سورة يس، الآية 79.

324


270

الدرس الثلاثون: عالم ما بعد الموت (2) المعاد

 معاد الإنسان هو جسمانيّ وروحانيّ

صرّحت الآيات القرآنيّة والأحاديث بأنّ معاد الإنسان: جسماني وروحاني، ويراد من الأوّل هو حشر الإنسان ببدنه في النشأة الأخرى، وأنّ النفس الإنسانيّة تتعلّق بذلك البدن في تلك النشأة فيثاب أو يعاقب بأُمور لا غنى في تحقّقها عن البدن والقوى الحسية.

 

ويراد من الثاني أنّ للإنسان وراء الثواب والعقاب الحسيّين لذّات وآلآم روحيّة ينالها الإنسان دون حاجة إلى البدن، وقد أُشير إلى هذا النوع من الجزاء في قوله سبحانه: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[1]، وقال سبحانه: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ[2]. فرضوانه سبحانه من أكبر اللذائذ للصالحين، كما أنّ الحسرة من أكبر الآلام للمجرمين.

 

تفسير المعاد بالتناسخ وردّه

لقَد اتّضحَ مّما سبق أَنّ حقيقةَ المَعاد هي أنّ الرُّوح بعد مفارَقَتها للجَسَد تعودُ مرة أُخرى ـ وبإذن الله ومشيئته ـ إلى نفسِ البدنِ الذي عاشت به ليلقى الإنسان جزاءَ ما عَمِلَهُ في الدنيا، في العالم الآخر، إنْ خيراً فخيرٌ، وإنْ شراً فشرّ.

 

ولكن ثمَّتَ من يُنكر "المعاد" الذي دَعَت الشرائعُ السماويةُ إلى الإيمان بهِ، وإن أقرّوا بمسألةِ الثوابِ والعقابِ، الذي يلحق أعمال البَشَر، إلاّ أنّهم فسروه بطريقِ "التناسخ". إنّهم ادّعَوا أنّ الرُّوح تعودُ مرّةً أُخرى إلى العالم الدنيوي عن طريق تعلّقِها بالجنين، وعبْر طيّ مراحلِ الرُّشد والنموّ، ويطوي دورات الطفولة، والشباب، والشيخوخة، غاية ما في الأمر، يحظى أصحاب الأعمال الصالحة بحياة لذيذةٍ جميلةٍ، بينما يعاني أصحاب الأعمال الفاسدة من حياةٍ مُرّةٍ وقاسيةٍ. فهي إذن ولادةٌ




[1] سورة التوبة، الآية 72.

[2] سورة مريم، الآية 39.

325


271

الدرس الثلاثون: عالم ما بعد الموت (2) المعاد

 جديدةٌ، تتبعُها حياةٌ سعيدةٌ أو تعيسةٌ. ولقد كانَ لعقيدة التناسخ هذه على طول التاريخ البشريّ أنصار ومؤيّدون، وتُعَدُّ إحدى أُصول الديانة الهندوسية.

 

ويجب أن نَنتبه إلى هذه النقطة، وهي أنّ النفوسَ والأرواح البشرية إذا سَلكتْ طريقَ التناسخ بصورة دائميةٍ لم يبق مجالٌ للمعاد والقيامة، والحال أنّ الاعتقاد بالمعاد أمرٌ ضروريٌّ وبديهيٌّ في ضوءِ أدلّته وبراهينه العقلية والنقلية. وفي الحقيقة لا بدّ أن يُقال: إنّ القائلين بالتناسخ حيث إنّهم لم يتمكّنوا مِن تصوّر "المعاد" بصورته الصحيحة أَحلُّوا "التناسخَ" محلَّه، واعتقدوا به، بَدَلَ الاعتقاد بالمعاد.

 

إنّ التناسخَ في المنطق الإسلاميّ يستلزم الكفرَ، ولقد بُحِثَ في كتبنا الاعتقادية وأُثبِتَ بطلانه، وعدم انسجامه مع العقائد الإسلاميّة بشكلٍ مفصَّلٍ، ونحن نشير هنا إلى ذلك باختصار:

 

1- إنّ النّفس والرّوحَ البشرية تكون قد بلغت عند الموت مرتبة من الكمال.

 

وعلى هذا الأساس فإنّ تعلُّق الروح المجدّد بالجنين بحكمِ لُزُوم التناسقِ والانسجامِ بين "النّفْسِ" و"البَدَن" يستلزمُ تنزُّل النّفْسِ من مرحلة الكمال إلى مرحلة النقص، والفعليَّة إلى القُوّةِ، وهو يتنافى مع السُّنّة الحاكمة على عالم الخَلقِ (المتمثّلة في السَّير التكامليّ للموجوداتِ من القوّة إلى الفعل).

 

2- إذا قَبلنا بأن النفس تتعلّق بعد الانفصال من البَدَن، ببدنٍ حيٍّ آخر، فإنَّ هذا يستلزمُ تعلّق نفسين ببدنٍ واحد، ونتيجته هي الازدواجيّة في الشخصيّة، ومثلُ هذا المطلبِ يتنافى مع الاِدراك الوجداني للاِنسان عن نفسه التي لا تمتلك إلاّ شخصيّةً واحدةً لا شخصيّتين[1].

 

3- الاعتقاد بالتناسُخ مع أنّه يتنافى مع السُنّة الحاكمة على نظام الخلق يعتبر بنفسه ذريعة للظالمين والنفعيّين الذين يرون أنَّ عزَّتَهم ورفاههم الفِعلِيّين




[1] الحلي، كشف المراد، المقصد الثاني، الفصل الرابع المسألة الثامنة.

326


272

الدرس الثلاثون: عالم ما بعد الموت (2) المعاد

 نتيجةٌ لطهارة أعمالهم في حياتهم المتقدمة، ويرونَ أن شقاء الأشقياء كذلك نتيجةٌ لِسوءِ أعمالهم في المرحلة السابقة، وبهذا يبرِّر هؤلاء الظَّلَمة أعمالَهم القبيحة، ووجود الظُّلم والجور في المجتمعات التي تخضع لسلطانِهِم.

 

الفرق بين المسخ والتناسخ

في ختام البحث حول التناسخ من الضروريّ أن نجيبَ على سؤالين:

السؤال الأوّل: لقد صَرَّح القرآنُ الكريم بوقوع حالات من المَسخ في الأمم السابقة، حيث تحوّل البعضُ إلى قِردةٍ، والبعض الآخر إلى خنازير كما يقول تعالى: ﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ[1]. فكيفَ تحقّق المسخُ إذا كان التناسخ باطلاً؟

 

الجواب: إنّ "المسخ" يختلف عن "التناسخ" الاصطلاحيّ، لأنّ في التناسخ تتعلَّق الروحُ بعد انفصالها من بَدَنِها بجنينٍ أو ببدن آخر. ولكن في المسخ لا تنفصلُ الروحُ عن البَدن بل يتغير شكلُ البدَن وصورتُه، ليرى العاصي والمجرم نفسَه في صورة القِرد والخنزير، فيتألّم من ذلك.

 

وبعبارة أُخرى: إنّ نفسَ الإنسان لا تتنزّل من المقام الإنساني إلى المقام الحيواني، لأنّه إذا كان كذلك لما كان أُولئك الذين مُسِخوا من البشر يدُرِكون العذاب، ولما لَمَسوا عقاب عَمَلهم، في حين يعتبر القرآنُ الكريمُ "المسخَ" "نكالاً" وعقوبة للعصاة[2].

 

يقول التفتازاني: إنّ النفوس بعد مفارقتها للأبدان تتعلّقُ في الدنيا بأبدان أُخرى للتصرّف والاكتساب، لا أن تتبدّل صُوَرُ الأبدان كما في المسخ[3]. ويقول العلامة الطباطبائي: الممسوخ من الإنسان إنسانٌ ممسوخٌ لا أنّه ممسوخٌ فاقدٌ للإنسانيّة[4].




[1] سورة المائدة، الآية 60.

[2] ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (سورة البقرة، الآية 66).

[3] التفتازاني، شرح المقاصد، ج 3، ص337.

[4] الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص209.

327


273

الدرس الثلاثون: عالم ما بعد الموت (2) المعاد

 السؤالُ الثاني: يذهبُ البعض إلى أنّ القول بالرجعة ناشئ من القول بالتناسخ، فهل يستلزمُ الاعتقادُ بالرجعة القولَ بالتناسخ؟

 

الجواب: إنّ الرجعة - كما سنتحدّث عنها في محلّها - حسب اعتقاد أكثر علماء الشيعة الإمامية تعني أنّ طائفةً من أهلِ الإيمان، وأهل الكفر سيعودُون إلى هذه الحياة (أي العالم الدنيويّ) في آخر الزمان مرةً أُخرى، وتكون عودتهم إلى الحياة مثل إحياءِ الموتى على يد السيد المسيح، ومثل عودة "عزير" للحياة بعد مائة سنة[1]. وعلى هذا الأساس لا يكون للاعتقاد بالرجعة أيّ ارتباطٍ وعلاقة بمسألة التناسخ قط، وسنعطي المزيد من التوضيحات في هذه المسألة في مبحث "الرجعة" مستقبلاً.




[1] لاحظ سورة آل عمران، الآية 49.

328


274

الدرس الثلاثون: عالم ما بعد الموت (2) المعاد

 المفاهيم الرئيسة

- تَتّفِقُ جميعُ الشَّرائعُ السَّماويّة في لزوم الإيمان بالآخرة ووجوب الاعتقاد بالقيامة.

 

- لقد أقام الحكماء والمتكلّمون المُسلمون أدلّة عديدة ومتنوعة على ضرورة المعاد.

 

- لقد طَرَحَ مُنكرو القيامة والمعاد في عصر نزول القرآن، شُبُهاتٍ ردّ عليها القرآن، ضمن توضيحه لأدلّة وجود المعاد.

 

- صرّحت الآيات القرآنيّة والأحاديث على أنّ معاد الإنسان: جسماني وروحاني، ويراد من الأوّل هو حشر الإنسان ببدنه في النشأة الأخرى، وأنّ النفس الإنسانيّة تتعلّق بذلك البدن في تلك النشأة فيثاب أو يعاقب بأُمور لا غنى في تحقّقها عن البدن والقوى الحسية. ويراد من الثاني أنّ للإنسان وراء الثواب والعقاب الحسيّين لذّات وآلام روحيّة ينالها الإنسان دون حاجة إلى البدن.

 

- إنّ القائلين بالتناسخ حيث إنّهم لم يتمكّنوا مِن تصوّر "المعاد" بصورته الصحيحة أَحلُّوا "التناسخَ" محلَّه، واعتقدوا به، بَدَلَ الاعتقاد بالمعاد.

 

- إنّ التناسخَ في المنطق الإسلاميّ يستلزم الكفرَ، ولقد بُحِثَ في كتبنا الاعتقادية وأُثبِتَ بطلانه. 

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- اذكر دليلين من الأدلة التي استدلّ بها على ضرورة المعاد.

2- كيف تمّ الردّ على من شبّه المعاد بالتناسخ؟

3- ما هو الفرق بين التناسخ والمسخ؟

329


275

الدرس الثلاثون: عالم ما بعد الموت (2) المعاد

 للمطالعة

 

المعاد وفلسفة الخلق

 

يتساءل الكثيرون: لماذا خلقنا الله؟

 

وقد يتجاوزن ذلك أحياناً ليسألوا: بل ما هي فلسفة خلق هذا العالم الكبير؟

 

إن البستاني يزرع الشجرة من أجل ثمرها، ويحرث الأرض ويبذر الحب من أجل غلتها، فمن أجل أي شيء خلقنا بستاني الخليقة؟

 

أكان هناك ما ينقص الله حتى يستكمله بالخلق؟ إذا كان الأمر كذلك فهو إذن محتاج، ولكن الاحتياج لا يأتلف ومقام الربوبية ولا نهائية وجوده.

 

للإجابة عن هذا السؤال يمكن قول الكثير، ولكن من الممكن تلخيص ذلك في بضع جمل واضحات، وهي:

 

الخطأ الكبير هو أنا نقارن صفات الله بصفاتنا نحن، فنحن لكوننا كائنات محدودة، نقوم بأعمالنا لكي نسد حاجة من حاجاتنا، فندرس مثلاً لسد نقصنا من العلم، ونشتغل لسد حاجتنا إلى المال ونفتش عن الطب والعلاج لضمان سلامتنا.

 

ولكن فيما يتعلق بالله الذي لا نهاية له من جميع الجهات، علينا أن نبحث عن أهداف ما يفعله خارج ذاته، فهو لا يخلق لمنفعة ولا لسد حاجة، بل هدفه من ذلك هو أن يفيض بلطفه ووجوده على عباده.

 

إنه شمس مشعة لا نهاية لها، تشع بنورها، لا لحاجة بها إلى ذلك، بل لكي ينعم الجميع بنور وجودها، إذ إن من مقتضيات ذاته اللامتناهية الفياضة أن يأخذ بيد الكائنات ويتقدم بها على طريق التكامل.

 

إن خلقنا من العدم يعتبر بذاته خطوة تكاملية بارزة، كما إن إرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية والشرائع والقوانين، ما هي إلّا قواعد لهذا التكامل[1].




[1] الشيرازي، الشيخ ناصر مكارم، سلسلة أصول الدين، بيروت- لبنان، دار الصفوة، 1430هـ-2009م، ط2، ص61-62.

330


276

الدرس الحادي والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الساعة والنفخ في الصور والحساب

 الدرس الحادي والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الساعة والنفخ في الصور والحساب

 

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يذكر علامات الساعة وأشراطها.

2- يذكر الآيات التي تتحدّث عن النفخ في الصور.

3- يبيّن مراحل الحساب والقيامة.

331


277

الدرس الحادي والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الساعة والنفخ في الصور والحساب

 أشراط الساعة أو علامات يوم القيامة

لقد ورَدَت في كلمات العلماء تبعاً للقرآن مسألة باسم "أشراط الساعة" وتعني علامات القيامة، يقول تعالى ﴿فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا[1]. إنّ علاماتِ يومِ القيامة على قسمين:

الأولى: حوادث تقع قبل وقوع القيامة وانهدام النظام الكوني وعند وقوع ذلك يكونُ البشر لا يزالون يعيشون على وجه الأرض، ولفظة "أشراط الساعة" تُطلَق في الأغلب على هذا النَمَط من الحوادث والوقائع.

 

الثانية: الحوادث التي توجب تخلخل النظام الكونيّ، وقد جاء أكثرها في سور: التكوير، والانفطار، والانشقاق والزلزال.

 

والعلائم من القسم الأوّل عبارة عن:

1- بعثة النبي الخاتم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم:

يقول سبحانه: ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ[2].

 

روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "بعثت والساعة كهاتين، وأشار بإصبعيه صلى الله عليه وآله وسلم السّبّابة والوسطى"[3].




[1] سورة محمّد، الآية 18.

[2] سورة محمد، الآية 18.

[3] المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص315.

333


278

الدرس الحادي والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الساعة والنفخ في الصور والحساب

 2- اندكاك السدّ وخروج يأجوج ومأجوج:

 

قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ[1].

 

3- إتيان السماء بدخان مبين:

قال تعالى: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ *  ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ[2].

 

4- نزول السيد المسيح عليه السلام:

قال تعالى: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ *  وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ[3]. فالآية تدلّ على أنّ وجود عيسى في ظرف من الظروف يعلم به دنوّ الساعة، وأما ظرفه، فالظاهر من الروايات هو نزوله بعد خروج الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

5- خروج دابّة من الأرض:

قال تعالى: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ



[1] سورة الأنبياء، الآيتان 96 و 97.

[2] سورة الدخان، الآيات 10 - 16.

[3] سورة الزخرف، الآيات 57 - 61.

334


279

الدرس الحادي والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الساعة والنفخ في الصور والحساب

 كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ[1]. ولا بُدَّ من مراجعة كتُبِ التفسير والحديث للحصول على تفاصيل هذه العلائم. ولقد تحدّث القرآنُ الكريمُ بإسهاب حولَ العلائم والأشراط من النوع الثاني مثل: انهدام النظام الكونيّ وتلاشيه وتكوير الشمس والقمر، وانكدار النجوم، وتناثرها، وتفجير البحار وتسجيرها، وتسيير الجبال[2] وغيرها من الحوادث التي ملخّصُها هو اندثار النظام السائد فعلاً، وظهور نظام جديدٍ، وهو في حقيقته تجلّ للقدرةِ الإلهيّة التامّة، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ[3].

 

النَفخُ في الصُّور

إنّ القرآنَ الكريم يتحدَّث عن حادثةٍ باسم "النَفخُ في الصُّور" والذي يتم مرتين:

الأول: النَفْخُ في الصُّور، الذي يوجبُ موتَ كلّ الأحياء في السَّماوات والأرضين.

الثاني: النَّفخُ في الصُّور، الذي يوجبُ إحياءَ الموتى.

 

وهو ما ورد في كتاب الله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾[4].

 

مراحل الحساب والقيامة

القرآنَ الكريم يتحدَّث عن خصوص حَشر البَشَر ونشْرهم يومَ القيامة قائلاً: ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ﴾[5]. وبعد عَودة الموتى إلى الحَياة، وحَشْرِهمْ ونَشْرِهِمْ، تتحقَّق عدةُ أُمور قبلَ دُخولِ الجنة أو النار، أخبر بها القرآنُ الكريمُ، والأحاديثُ الشريفة:




[1] سورة النمل، الآية 82.

[2] سور: التكوير، والانفطار، والانشقاق، والقارعة.

[3] سورة إبراهيم، الآية 48.

[4] سورة الزمر، الآية 68.

[5] سورة القمر، الآية 7.

335


280

الدرس الحادي والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الساعة والنفخ في الصور والحساب

 1- محاسَبة النّاس على أعْمالهم بشكلٍ خاصّ، أو بصورٍ معيّنة إحداها إعطاءُ صحيفةِ عملِ كل أحد بيده[1]. قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا[2].

 

 

2- مضافاً إلى ما هو مُدرَجٌ في صحيفة كل واحد من الصغائر والكبائر، ثمّتَ شهُودٌ من داخلِ الإنسان وخارجه تشهدُ يومَ القيامة بأعمالهِ التي عَمِلَها في العالمِ الدُّنْيويّ.

والشُهود الّذين من الخارج هم عبارةٌ عن:

أ- الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ[3].

ب- نبيّ كلّ أُمّة: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ[4].

ج- نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا[5].

د- الصَفوة الأخيار من الأمّة[6]، والملائكة[7]، والأرض[8].

 

وأمّا الشهودُ من داخل الكيانِ البشريّ فهم عبارة عن الأعضاء والجوارح[9]، وتجسّم الأعمال نفسِها[10].



[1] لاحظ سورة الإسراء، الآيتان 13 و 14.

[2] سورة الانشقاق، الآيات 7-11.

[3] سورة الحج، الآية 17.

[4] سورة النحل، الآية 89.

[5] سورة النساء، الآية 41.

[6] سورة البقرة، الآية 143.

[7] سورة ق، الآية 18.

[8] سورة الزلزلة، الآية 4-5.

[9] سورة النور، الآية 24.

[10] سورة التوبة، الآية 34-35.

336


281

الدرس الحادي والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الساعة والنفخ في الصور والحساب

 3- هناكَ لمحاسبة الإنسان على أعماله ـ مضافاً إلى ما قلناه ـ ما يُسمّى بـ "موازين العَدل" التي تُقامُ يومَ القيامة، وتضمن وصولَ كلّ إنسان إلى ما يستحقه من الجزاء على وجهِ الدِقّة كما يقول تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ[1].

 

 

4- ويُستفاد من الأحاديث الشريفة أنّ هناك ـ في يومَ القيامة ـ ممرّاً يجبُ أن يعبر منه الجميعُ بلا استثناء. وهذا الممرّ يُعبّر عنهُ في الروايات بالصراط، وقد ذهبَ المفسّرون إلى أنّ قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾[2] ناظرة إليه.

 

5- هناكَ حائلٌ بين أهل الجنّة وأهل النار أسماه القرآنُ الكريم بـ (الحجاب) كما أنّه يقف شخصياتٌ رفيعةُ المستوى على مكانٍ مرتفعٍ يعرفون كلاًّ مِن أهلِ الجنّة وأهلِ النارِ بسيماهُم كما يقولُ سبحانه: ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ﴾[3]. وهؤلاءُ الشخصيّات العالِية المستوى هم ـ كما تُصرّح رواياتُنا ـ الأنبياء وأوصياؤهم الكرام البرَرَة.

 

6- عندما تَنْتهِي عمليّةُ الحساب ويَتّضح مصيرُ الأشخاص يومَ القيامة يعطي اللهُ سبحانه لواءً بيد النبيّ الأكرمِ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم يُدعى "لواء الحمد" فيتحرّكُ أمامَ أهلِ الجنة، إلى الجنّة[4].

 

7- أخبَرَتِ الرواياتُ العديدةُ بوجود حوضٍ كبير في المحشر يُعرَف بحوض "الكوثر"، يحضر عنده رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ويسقى الصالحون من الأمّة من ماء ذلك الحوض بأيدي النبيّ وأهلِ بيته.



[1] سورة الأنبياء، الآية 47.

[2] سورة مريم، الآيتان 71 ـ 72.

[3] سورة الأعراف، الآية 46.

[4] المجلسي، بحار الأنوار، ج 8، الباب 18، الاَحاديث 1 ـ 12

337


282

الدرس الحادي والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الساعة والنفخ في الصور والحساب

 المفاهيم الرئيسة

- لقد ورَدَت في كلمات العلماء تبعاً للقرآن مسألة باسم "أشراط الساعة" وتعني علامات القيامة، يقول تعالى ﴿فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا﴾.

 

- إنّ علاماتِ يومِ القيامة على قسمين:

الأول: حوادث تقع قبل وقوع القيامة وانهدام النظام الكوني وعند وقوع ذلك يكونُ البشر لا يزالون يعيشون على وجه الأرض، ولفظة "أشراط الساعة" تُطلَق في الأغلب على هذا النَمَط من الحوادث والوقائع.

 

الثاني: الحوادث التي توجب تخلخل النظام الكونيّ، وقد جاء أكثرها في سور: التكوير، والانفطار، والانشقاق والزلزال.

 

- إنّ القرآنَ الكريم يتحدَّث عن حادثةٍ باسم "النَفخُ في الصُّور" والذي يتم مرتين:

الأول: النَفْخُ في الصُّور، الذي يوجبُ موتَ كلّ الأحياء في السَّماوات والأرضين.

الثاني: النَّفخُ في الصُّور، الذي يوجبُ إحياءَ الموتى.

 

- هناك مراحل وأشكال متعددة للحساب يوم القيامة ذكرها القرآن الكريم ضمن آياته الكريمة.

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- ما هو المقصود بأشراط الساعة، وإلى كم قسم تنقسم؟

2- ما هو المقصود بالنفخ في الصور؟

3- ما هي مراحل الحساب ؟ اذكرها بالتفصيل.

338


283

الدرس الحادي والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الساعة والنفخ في الصور والحساب

 للمطالعة

الآخرة في كلام الأمير عليه السلام

في كتاب كتبه أمير المؤمنين عليه السلام إلى أهل مصر مع محمّد بن أبي بكر: "يا عباد الله إن بعد البعث ما هو أشد من القبر، يوم يشيب فيه الصغير، ويسكر فيه الكبير، ويسقط فيه الجنين، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، يوم عبوس قمطرير، يوم كان شره مستطيراً، إن فزع ذلك اليوم ليرهب الملائكة الذين لا ذنب لهم وترعد منه السبع الشداد، والجبال الأوتاد، والأرض المهاد، وتنشق السماء فهي يومئذ واهية وتتغير فكأنها وردة كالدهان، وتكون الجبال سراباً مهيلاً بعد ما كانت صماً صلاباً، وينفخ في الصور فيفزع من في السماوات والأرض، إلا من شاء الله، فكيف من عصى بالسمع والبصر واللسان واليد والرجل والفرج والبطن إن لم يغفر الله له ويرحمه من ذلك اليوم ؟ لأنه يصير إلى غيره إلى نار قعرها بعيد، وحرها شديد، وشرابها صديد، وعذابها جديد، ومقامعها حديد، لا يغير عذابها، ولا يموت ساكنها، دار ليس فيها رحمة، ولا تسمع لأهلها دعوة"[1].




[1] الطوسي، الأمالي، ص29.

339


284

الدرس الثاني والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الشفاعة

 الدرس الثاني والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الشفاعة

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعدِّد بعض الآيات التي تدلّ على الشفاعة.

2- يعدِّد بعض الروايات التي تدلّ على الشفاعة.

3- يبيّن الأدلّة على جواز الشفاعة.

341


285

الدرس الثاني والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الشفاعة

 مقدّمة

تتعدّد أشكال الرحمة الإلهيّة للإنسان، وما المغفرة والتوبة والتكفير عن الذنوب إلاّ من تلك الرّحمة التي وسعت كلّ شيء، وكذلك الشفاعةُ التي ربَّما تكون آخرَ ما يأمل به الإنسان يوم القيامة للخلاص من العقاب والعذاب، فهي أيضًا من صور تلك الرحمة، التي من عظم سعتها يتمنّى إبليس أن تناله أيضًا في ذاك اليوم العصيب.

 

حقيقة الشفاعة

الشفاعة هي أن تصل رحمة الله تعالى ومغفرته وفيضه إلى عباده عن طريق أوليائه وصفوة عباده، وليس هذا بأمر غريب، فكما أنّ الهداية الإلهيّة التي هي من فيوضه - سبحانه -، تصل إلى عباده في هذه الدّنيا عن طريق أنبيائه وكتبه، فهكذا تصل مغفرته - عزّوجلّ - إلى المذنبين والعصاة من عباده يوم القيامة، عن ذلك الطريق وعن طريق عباده الذين جعل دعاءهم في الحياة الدنيويّة سبباً لذلك حيث يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾[1].

 

وتُعتبر شفاعة الشافعين يوم القيامة بإذن الله تعالى إحدى العقائد الإسلاميّة المُسَلَّمة الضروريّة. وهي تشملُ أُولئك الذين لم يقطعوا صِلتهم بالله، وبالدين بصورةٍ




[1] سورة النساء، الآية 64.

343


286

الدرس الثاني والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الشفاعة

 كاملة، فصاروا صالحين لشمولِ الرحمةِ الإلهيّة لهم بواسطة شفاعةِ الشافعين، رغم تورُّطِهم في بعض المعاصي والذنوب. والاعتقادُ بالشَفاعة مأخوذٌ من القرآن الكريم والسُّنة ونشير إلى بعض تلك النصوص فيما يأتي:

 

1- الشَفاعة في القرآن:

إنَّ الآياتِ القرآنيّة تحكي عن أصل وجودِ الشفاعة يومَ القيامة، وتصرّح بأصل وجودِ الشفاعة وأنّها تقع بإذنِ اللهِ تعالى. ويقول: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى[1].

 

فمَنْ هُم الشُفَعاء؟ يُستَفادُ من بعض الآيات أنّ الملائكة من الشُفعاء يومَ القيامة كما يقولُ: ﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى[2].

 

ويذهبُ المفسِّرون في تفسير قولِهِ تعالى: ﴿عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا[3] إلى أنّ المقصود مِنَ "المقام المحمود" هو مقامُ الشّفاعة الثابتُ للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

 

2- الشَفاعة في الروايات:

لقد تحدّثت روايات كثيرة ورَدَت في كتبِ الحديث عن الشفاعة مضافاً إلى القُرآنِ الكريم. ونشيرُ إلى بعضِ هذه الأحاديث, ما روي عن النبيِّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّما شَفاعَتي لأهلِ الكَبائِر مِن أُمَّتِي"[4]. والظاهر أنّ عِلّة اختصاص الشفاعة بمرتكبي الكبائر من الذنوب وشمولها لهم خاصة، هو: أنّ اللهَ وَعَد في القرآنِ بصراحة بأن يغفرَ للناسِ السيئات الصغيرة إذا ما هم اجتنبوا الكبائرَ[5] فبقيّة الذنوب ما عدا




[1] سورة الأنبياء، الآية 28.

[2] سورة النجم، الآية 26.

[3] سورة الإسراء، الآية 79.

[4] الصدوق، من لا يحضره الفقيه، تحقيق: علي أكبر الغفاري، قم- إيران، مؤسسة النشر الإسلامي التبعة لجماعة المدرسين بقم، 1404هـ، ج3، ص574، ح4963.

[5] انظر: سورة النساء، الآية 31.

344


287

الدرس الثاني والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الشفاعة

 الكبائر تشمُلُها المغفرة، في الدنيا ومع المغفرة لا موضوع للشفاعة.

 

وفي رواية أخرى يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "أُعْطِيْتُ خَمْساً... وأُعطِيتُ الشَفاعَة، فَادّخَرْتُها لأمَّتي فهيَ لِمَن لا يُشْرك بِاللهِ"[1].

 

وعلى من أراد التعرّف على غيره من شفعاء يوم القيامة كالأئِمة المعصومين، والعلماء، وكذا المشفوع لهُمْ، أن يُراجِعَ كتبَ العقائد، والكلام، والحديث.

 

كما أنّه لا بُدّ أن نَعلَمَ بأنّ الاعتقاد بالشَفاعة، مثل الاعتقاد بقبُول التوبة، يجب أن لا يوجبَ تجرُّؤَ الأشخاص على ارتكاب الذنوب، بل يجب أن يُعَدَّ هذا الأمر "نافذةَ أمَل" تعيدُ الإنسان إلى الطريقِ الصحيحِ، لكونه يرجو العفو، فلا يكونُ كالآيسين الّذين لا يفكّرون في العودة إلى الصِراط المستقيم قط. ومِن هذا يتضح أنّ الأثر البارز للشفاعة هو مغفرة ذنوب بعض العُصاة والمذنبين ولا ينحصر أثَرُها في رفع درجة المؤمنين كما ذهبَ إلى ذلك بعض الفِرق الإسلامية (كالمعتزلة).

 

هل يجوز طلب الشفاعة في الدنيا؟

إنّ الاعتقادَ بأصلِ الشَفاعة في يَوم القيامة (في إطار الإذن الإلَهيّ) ـ كما أسلَفنا ـ من العقائِد الإسلاميّة الضرورية ولم يخدش فيها أحدٌ. يبقى أنْ نرى هل يجوز أن نطلب الشفاعةَ في هذه الدنيا من الشافعين المأذون لهم في الشفاعة يوم الحساب، كالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم؟

 

وبعبارةٍ أُخرى، هل يصحُ أن يقول الإنسان: يا رسولَ الله يا وجيهاً عند الله اشفع لي عند الله؟

 

الجواب هو: أنّ هذا الموضوعَ كان محلَّ اتفاقٍ وإجماعٍ بين جميع المسلمين إلى القرن الثامن، ولم ينكرْه إلاّ أشخاصٌ معدودُون من منتصف القرنِ الثامن، حيث




[1] ابن حنبل، المسند، ج1، ص301.

345


288

الدرس الثاني والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الشفاعة

  خالَفوا طلبَ الشفاعة من الشفعاء المأذون لهم، ولَم يجوّزوه في حين أنّ الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة المعتبرة، وسيرة المسلمين المستمرة تشهَدُ جميعُها بجوازه، وذلك لأنَّ الشَفاعة هو دُعاؤهم للأشخاص ومن الواضح أن طلبَ الدعاء من المؤمن العاديّ (فضلاً عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم) أمرٌ جائز ومستحسَن، بلا ريب.

 

 

ولقد رَوى ابنُ عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يُستفاد منه بوضوحٍ بأنّ شفاعة المؤمن هو دعاؤه في حق الآخرين فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما مِن رَجُلٍ مُسْلِم يَموتُ فَيَقومُ على جَنازَتِهِ أربَعون رَجُلاً لا يُشركُونَ بالله شيئاً إلاّ شفَّعهُم اللهُ فِيه"[1].

 

ومِنَ البديهيّ والواضح أنّ شفاعة أربعين مؤمن عند الصلاة على الميّت ليس سوى دعائهم لذلك الميت. ولو تَصَفَّحْنا التاريخَ الإسلاميَّ لوَجَدنا أنّ الصَحابة كانوا يطلبون الشفاعة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فها هو الترمذيّ يروي عن أنَس بن مالك أنّه قال: "سألتُ النبيَّ أنْ يَشْفَعَ لي يومَ القِيامة فقال: أنا فاعل. قلتُ: فأَينَ أطلبُك؟ فقالَ: عَلى الصّراطِ"[2].

 

ومع الأخذ بِنَظَر الاعتبار أن حقيقة الاستشفاع ليست سوى طلب الدعاءِ من الشَفيع، يمكنُ الإشارةُ إلى نماذج مِن هذا الاَمر في القرآن الكريم نفسِه:

1- طلبَ أبناءُ يعقوب من أبيهِم أن يستغفرَ لهم، وقد وَعَدَهم بذلك ووفى بوعده، يقول تعالى: ﴿قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ[3].

 

2- يَقولُ القرآنُ الكريمُ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾[4].




[1] مسلم، الصحيح، بيروت - لبنان، دار الفكر، ج3،ص53. 

[2] الترمذي، سنن الترمذي، ج4، ص 43، باب ما جاء في شأن الصراط.

[3] سورة يوسف، الآيتان 97 و 98.

[4] سورة النساء، الآية 64.

 346


289

الدرس الثاني والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الشفاعة

 3- يقولُ في شأن المنافقين: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ﴾[1].

 

 

فإذا كانَ الإعراضُ عن طَلَب الاستغفار من النَبيّ ـ الذي يَتّحدِ في حقيقته مع الاستشفاع ـ علامةَ النِّفاق، والاستكبار، فإنّ الإتيان بهذا الطَلَب وممارسته يُعدّ بلا شكّ علامةُ الإيمان.

 

وحيثُ إنّ مقصودَنا ـ هنا ـ هو إثبات جواز طلب الشفاعة، ومشروعيّتهِ، لذلك لا يَضرُّ موتُ الشفيعِ في هذه الآيات بالمقصود، حتى لو فُرض أنّ هذه الآيات وَرَدَت في شأنِ الأحياء من الشُفَعاءِ لا الأموات، لأن طَلَبَ الشَفاعة مِنَ الأحياء إذا لم يكن شركاً فإنّ من الطبيعي أن لا يكونَ طلبُها من الأموات كذلك شركاً لأنّ حياة الشَفيع وموته ليس ملاكاً للتوحيد والشرك أبداً، والأمرُ الوحيدُ الذي هو ضروريٌّ ومطلوبٌ عندَ الاستشفاعِ بالأرواح المقدَّسة هو قدرتُها على سماع نداءاتنا، وهو أمرٌ قد أثبتْناه في مبحث التوسُّل حيث أثبتنا ـ هناك. وجود مثل هذا الارتباط.

 

الفرق بين شفاعة الموحدين والوثنيين

وهنا لا بدّ أن نلتفتَ إلى نقطةٍ هامّة وهي أن استشفاعَ المؤمنين والموَحّدين من الأنبياء والأولياء الإلَهيّين يختلفُ اختلافاً جَوهرياً عن استشفاع الوثنيّين من أصنامهم وأوثانهم. فالفريقُ الأوّل يطلبُ الشَّفاعةَ من أولياءِ الله، وهو مذعِنٌ بحقيقتين أساسيّتين:

1- إنَّ مقامَ الشفاعة مقامٌ خاصٌّ بالله، وحقٌّ محضٌ له سبحانه كما قال: ﴿قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا[2].



[1] سورة المنافقون، الآية 5.

[2] سورة الزمر، الآية 44.

347


290

الدرس الثاني والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الشفاعة

 أي قل: إنّ أمر الشَفاعة كلَّه بِيَدِ اللهِ ولا يحقّ لأحدٍ أن يشفَعَ مِن دون إذنِهِ ولن تكونَ شفاعةٌ مؤثرةً بغيره.

 

2- إنّ الشُّفعاء الذين يَستشفِعُ بهم الموحِّدون عبادٌ صالحون مخلصُون لله سبحانه يستجيب الله دعاءَهم لِمكانَتِهِم عندهَ وَلِقُربِ مَنزِلَتهِم منه سبحانه.

 

وبهذين الشرطين يفترقُ الموحِّدُون عن الوثنييّن في مسألة الاستشفاع افتراقاً أساسياً.

 

أوّلاً: انّ المشركين لا يرون لنفوذ شفاعتهم وتأثيرها أيَّ قيد أو شرط، وكأنّ اللهَ فَوَّضَ أمرَ الشَفاعة إلى تلك الأصنام العَمياء الصَمّاء. في حين أنّ الموحّدين يعتبرون الشفاعة كلّها حقاً مختصاً بالله، تبعاً لما جاء في القرآن الكريم، ويُقيِّدون قبولَ شفاعة الشافعين وتأثيرها بإذن الله ورضاه وإجازته.

 

ثانياً: إنّ مشركي عصر الرسالة كانوا يَعتبرون أوثانهم وأصنامَهم ومعبوداتهم المختلفة أرباباً وآلهةً، وكانوا يظنّونَ سفهاً أنّ لِهذهِ الموجودات الميّتة، والجمادات سَهْماً في الربوبيّة، والألُوهيّة، بينما لا يرى الموحّدون، الأنبياء والأئمةَ إلاّ عباداً صالحين، وهم يردّدُون في صلواتهم وتحياتهم دائماً عبارة: "عَبْدُه ورسوله" و "عباد الله الصالحين". فانظرْ إلى الفرق الشاسِعِ، والتفاوت الواسِع بين الرؤيتين والمنطِقَين.

 

بِناءً على هذا فإنّ الاستدلالَ بالآيات التي تَنفي وتندّدُ باستشفاعِ المشركين من الأصنام، على نَفي أصل طلب الشفاعة في الإسلام، استدلالٌ مرفُوضٌ وباطلٌ وهو من باب القياس مع الفارق.

348


291

الدرس الثاني والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الشفاعة

 المفاهيم الرئيسة

- تُعتبر شفاعة الشافعين يوم القيامة بإذن الله تعالى إحدى العقائد الإسلاميّة المُسَلَّمة الضروريّة.

 

- إنَّ الآياتِ القرآنيّة تحكي عن أصل وجودِ الشفاعة يومَ القيامة، وتصرّح بأصل وجودِها.

 

- تحدّثت روايات كثيرة ورَدَت في كتبِ الحديث عن الشفاعة مضافاً إلى القُرآنِ الكريم.

 

- إنّ استشفاعَ المؤمنين والموَحّدين من الأنبياء والأولياء الإلَهيّين يختلفُ اختلافاً جَوهرياً عن استشفاع الوثنيّين من أصنامهم وأوثانهم. فالفريقُ الأوّل يطلبُ الشَّفاعةَ من أولياءِ الله، وهو مذعِنٌ بحقيقتين أساسيّتين:

 

1- إنَّ مقامَ الشفاعة مقامٌ خاصٌّ بالله، وحقٌّ محضٌ له سبحانه كما قال: ﴿قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾. أي قل: إنّ أمر الشَفاعة كلَّه بِيَدِ اللهِ ولا يحقّ لأحدٍ أن يشفَعَ مِن دون إذنِهِ ولن تكونَ شفاعةٌ مؤثرةً بغيره.

 

2- إنّ الشُّفعاء الذين يَستشفِعُ بهم الموحِّدون عبادٌ صالحون مخلصُون لله سبحانه يستجيب الله دعاءَهم لِمكانَتِهِم عندهَ وَلِقُربِ مَنزِلَتهِم منه سبحانه. 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- اذكر ما هي حقيقة الشفاعة؟

2- اذكر آية قرآنيّة تشير إلى الشفاعة.

3- هل يجوز طلب الشفاعة في الدنيا وما هو الدليل على ذلك؟

349


292

الدرس الثاني والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الشفاعة

 للمطالعة

 

الشفاعة في المعاد

عن الإمام جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهم السلام، عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: "قالت فاطمة عليها السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبتاه أين ألقاك يوم الموقف الأعظم ويوم الأهوال ويوم الفزع الأكبر؟

 

قال صلى الله عليه وآله وسلم: يا فاطمة عند باب الجنّة ومعي لواء الحمد وأنا الشفيع لأمّتي إلى ربّي.

 

قالت عليها السلام: يا أبتاه فإن لم ألقك هناك؟

 

قال صلى الله عليه وآله وسلم: القيني على الحوض وأنا أسقي أمّتي.

 

قالت عليها السلام: يا أبتاه إن لم ألقك هناك؟

 

قال صلى الله عليه وآله وسلم: القيني على الصراط وأنا قائم أقول: ربّ سلّم أمّتي.

 

قالت عليها السلام: فإن لم ألقك هناك؟

 

قال صلى الله عليه وآله وسلم: القيني وأنا عند الميزان أقول: ربّ سلّم أمّتي.

 

قالت عليها السلام: فإنّ لم ألقك هناك؟

 

قال صلى الله عليه وآله وسلم: القيني على شفير جهنّم أمنع شررها ولهبها عن أمّتي.

 

فاستبشرت فاطمة عليها السلام بذلك، صلّى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها"[1].




[1] المجلسي، بحار الأنوار، ج 8، ص 35.

 

350


293

الدرس الثالث والثلاثون: جزاء الأعمال

 الدرس الثالث والثلاثون: جزاء الأعمال

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيِّن كيف ينال الإنسان جزاء أعماله.

2- يذكر الآيات التي تؤكّد خلود الكفّار في النار.

3- يبيّن معنى التوبة وحقيقتها.

351


294

الدرس الثالث والثلاثون: جزاء الأعمال

 الإنسان ينال جزاء أعماله

تؤكّد العقيدة الإسلاميّة على أنّ أعمال الإنسان في الدّنيا لها ربط وثيق بعالم الآخرة ويوم الحساب، ويَشهدُ العقلُ والنقلُ بأنّ كلَّ إنسانٍ يَرى جزاءَ عملِهِ، إنْ خيراً فخيرٌ، وإن شرّاً فعذاب شديد.

 

أما من ناحية العقل فإنّ جزاء الأعمال من مقتضيات العدل الإلهيّ والحكمة الإلهيّة، وهما مبنيّان على الإيمان بوجود الخالق والمقنّن سبحانه وتعالى، فإن لم يكن هناك جزاء يعني ذلك أنّ الناس يوم القيامة سوف يتساوى المطيع منهم مع المسيء، وأنّ الذي أفنى عمره وهو يتجنّب المعاصي خشية غضب الله- تعالى- سوف يتساوى مع من أفنى عمره في هتك الحرمات والظلم والإفساد، وهذا خلاف العدالة الإلهيّة.

 

ومن ناحية أخرى فإنّ القول بعدم الجزاء يخالف الحكمة الإلهيّة في التشريع، من حيث الأوامر والنواهي، وكلّ ما كان أداة لإيصال تلك التشريعات، من بعث الأنبياء والرّسل وإنزال الكتب، فيكون كلّ ذلك عبثيّاً لا جدوى منه في هذه الحالة. وبالتالي فإنّ الإيمان بالله وما يتعلّق بتشريعاته يقتضي الجزاء عليه لمن امتثله أو لمن خالفه. أما من ناحية النقل فيمكن الاكتفاء هنا ببعض الآيات التي تدلّ على ذلك:

353


295

الدرس الثالث والثلاثون: جزاء الأعمال

 يقول تعالى في هذا الصَّدد: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ[1]. ويقول أيضاً: ﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *  ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى[2].

 

ويُستفاد من الآيات السابقة أنَّ أعمالَ الإنسان القبيحة، لا تُزيل أعمالهُ الصالحة ولا تقضي عليها، ولكن يجب أنْ نعلم في نفس الوقت أنّ الذين يرتكبون بعضَ الذنوب الخاصّة كالكُفر والشرك، أو يَسلكون سبيلَ الارتداد سيُصابون بالحَبط، أيْ أنّ أعمالَهم الصّالِحة تُحبط وتهلَكَ، ويَلقون في الآخرة عَذاباً أبديّاً كما يَقول سبحانه: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[3].

 

ونظراً إلى ما قلناه فإنّ كلَّ إنسانٍ مؤمنٍ سيَرى ثوابَ أعماله الصّالِحَة في الآخرة خيراً كانت أو شراً، إلاّ إذا ارتدّ، أو كَفَرَ، أو أشرَكَ، فإنّ ذلك سيأتي على أعماله الصالِحَة ويقضي عليها ـ كما دَلّ على ذلكَ الكتابُ والسُنّةُ.

 

ولا بُدَّ من التذكير بالنقطة التالية وهي: أَنّ اللهَ سبحانه وتعالى وإنْ وَعَدَ المؤمِنين بالثواب على أعمالِهم الصالِحة، وفي المقابل أوعد على الأعمال السيئة، ولكن "الوعدَ" و "الوَعيد" هذين يختلف أحدُهما عن الآخر ـ في نظر العقل ـ لأنّ العَملَ بالوعد أصلٌ عقليٌّ، والتخلّفَ عنه قبيح، لأنّ في التخلّف عنه تضييعاً لِحقّ الآخرين، وإن كانَ هذا الحقُّ مما أوجبَهُ الواعدُ، نفسُه على نفسه، وهذا بخلاف الوعيد فهو حق للمُوعِد وله الصفح عن حقه والإعراض عنه ولهذا لا مانعَ مِن أن تستر بعضُ الأعمالِ الصالِحة الحسنة قباحةَ بعض الأعمال السيئة وهو ما يُسمّى بالتكفير[4].




[1] سورة الزلزلة، الآية7.

[2] سورة النجم، الآيتان 40 و 41.

[3] سورة البقرة، الآية 217.

[4] الحلي، كشف المراد، ص 413، المقصد 6، المسألة 7.

354


296

الدرس الثالث والثلاثون: جزاء الأعمال

 وقد صَرَّحَ القرآنُ الكريمُ بكونِ بعضِ الأعمال الصّالحة الحَسَنة مكفّرةً للأعمال السَّيئة، وأحَد هذه الأعمال هو اجتناب الشخص للذنوب الكبيرة: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا[1].

 

وكذا يكونُ لأعمالٍ أُخرى مثل التوبة[2]، وصدقة السر[3] وغير ذلكَ مِثل هذا الأثر.

 

الخلود في الجحيم خاصّ بالكفّار

إنّ الخُلودَ في عذاب جهنّم خاصّ بِالكفّار، وأمّا المؤمنون العُصاة الذين أشرقت أرواحهم بنورِ التوحيد، فطريقُ المغفرة والخروج من النار غير مسدودة عليهم كما يقولُ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا[4].

 

إنّ الآيةَ المذكورةَ الّتي تخبرُ بِصراحة عَن إمكان المغفرة والعفو عن جميع الذنوب (ما عدا الشرك) ناظرة من دون شَكٍّ إلى أُولئك الّذين ماتُوا من دون توبة، لأنّ جميعَ الذنوب والمعاصي - حتى الشرك - يشملُها العفوُ والغفرانُ إذا تابَ عنها الإنسان. وحيث إنّ هذه الآية فَرَّقت بين المشرك وغير المشرك، وَجَب أن نقول: إنّها تحكي عن إمكان مغفرةِ من ماتوا من دونِ توبة.

 

ومن الواضح أنّ مثلَ هذا الإنسان إذا كان مشركاً لم يغفرِ اللهُ له، وأمّا إذا لم يكنْ مُشركاً فيمكنهُ أن يأمَل في عَفو اللهِ ويَطمع في غفرانه ولكن لا بشكلٍ قَطعيّ وحتميّ، إنما يحظى بالعفو والغفران من تعلَّقت الإرادةُ والمشيئةُ الإلهيّة بمغفرته.

 

فإنّ قَيْد "لِمنْ يَشاءُ" في الآية تضعُ العُصاة والمُذنبين بين حالَتي "الخَوْف" و"الرَّجاءِ" وتحثهم على التوقّي من الخطر وهو التوبة قبلَ الموت.




[1] سورة النساء، الآية 31.

[2] لاحظ سورة التحريم، الآية 8.

[3] لاحظ سورة البقرة، الآية 271.

[4] سورة النساء، الآية 48.

355


297

الدرس الثالث والثلاثون: جزاء الأعمال

 ولهذا فإنّ الوَعدَ المذكور يدفع بالإنسان على طريق التربية المستقيم، بإبعاده عن منزلَق "اليَأس" و"التجرّي".

 

الجنة والنار مخلوقتان

دار بحث بين المسلمين في مسألة خلق الجنة والنار، فهل هما مخلوقتان الآن أم لا؟

 

قال الإمامية تبعًا لتفسير الآيات القرآنية والروايات الواردة عن أهل بيت العصمة أنهما مخلوقتان، أما المخالفون فاختلفوا فيما بينهم، منهم من قال بخلقهما ومنهم من أنكر ذلك. وما يهمنا هنا هو ما يقوله الشيعة الإماميّة.

 

قال الشيخ المفيد: "إنَّ الجنّة والنّارَ في هذا الوَقتِ مخلوقَتان وبذلك جاءتِ الأخبارُ، وعليه إجماعُ أَهل الشّرعِ والآثار"[1].

 

وإنّ الآيات القرآنيّة هي الأخرى تشهد بالوجودِ الفِعليّ لِلجنَّة والنار إذ يقول: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى[2].

 

ويصرّح في موضعٍ آخر: بأنَّ الجنّة مهيَّئَةٌ للمؤمنين، وإن النّار مهيّئة للكافِرين، إذ يقول حولَ الجنّةِ: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ[3]. ويقولُ حَولَ النّار: ﴿وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ[4].

 

ومَعَ ذلك فلا نعرِفُ مكانَ الجَنَّةِ والنّار على وَجهِ الدّقةِ واليقينِ، وإن كان المُستفاد من بعض الآيات هو أن الجَنّة موجودةٌ في القِسم الأعلى كما يقولُ سبحانه: ﴿وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ[5].




[1] المفيد، أوائل المقالات، تحقيق: ابراهيم الأنصاري، بيروت- لبنان، دار المفيد، 1414هـ- 1993م، ط2، ص124.

[2] سورة النجم، الآيات 13 - 15.

[3] سورة آل عمران، الآية 133.

[4] سورة آل عمران، الآية 131.

[5] سورة الذاريات، الآية 22.

356


298

الدرس الثالث والثلاثون: جزاء الأعمال

 التوبة من الذنوب في الدنيا

ينسجم الكلام المتقدّم عن الجنة والنار وجزاء الأعمال مع الحديث عن التوبة، والتي يمكن للإنسان من خلالها أن يُفتح له باب العودة إلى الله، بعد أن يكون قد اقترف ما يوجب دخوله النار- والعياذ بالله- عدا الشرك به عزّوجلّ ، وهذا طبعًا يرجع إلى رحمة الله غير المتناهية بحقّ عباده.

 

ولذلك سوف نتطرّق إليها ولو بشكل مختصر فنقول: إنّ انفتاح بابِ التوبةِ في وجهِ العُصاة والمُذنبين والدعوة إليها من التَعاليمِ الإسلاميّة بل مِن مقرّرات جميعِ الشرائع السَّماويّة.

 

فعندما يندَمُ الإنسان المذنبُ من عَمَلِهِ القبيحِ نَدَماً حقيقيّاً ويملأ التوجّهُ إلى الله، والتضرُّع إليه فضاءَ رُوحه، فيقرّر من صميمِ قَلبه أن لا يرتكبَ ما ارتكبَ ثانيّة، قَبِل اللهُ الرحيمُ أوبتَه وتَوبته، بشروطٍ مَذكورةٍ في كتُب العقيدة والتفسير. يقول القرآنُ الكريمُ في هذا الصَّدَد: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[1].

 

إنّ الّذين لا يَعرفونَ الآثار التربويّة الإيجابيّة للتوبة يتصوَّرُون أنّ فتح هذين البابين (بابِ الشفاعة وباب التوبة) في وجه العُصاة والمذنبين يشجّعهم ـ بشكلٍ مّا ـ على المعصية، في حين يغفل هؤلاء عن أنّ كثيراً من النّاس متورّطونَ في بعض المعاصي، وقلّما يوجَد من لم يرتكبْ ذَنباً في حياته طوال عمره.

 

وعلى هذا الأساس، إذا لم يكن بابُ التوبة مفتوحاً في وَجه هؤلاء لقالَ الذين يريدون أن يغيّروا مسيرهم ويقضوا بقيَّةَ أيّام حياتِهِمْ في الطُّهْر والنَّقاء مع أنفسهم: إنَّنا سنَلقى ـ على كلّ حالٍ ـ جزاءَ ذُنوبنا، وندخل جهنّم فلِمَ لا نستجيبُ لِرَغباتنا؟ ولمَ لا نحقّق شهواتِنا فيما تبقّى من عُمُرنا ما دام هذا هو مصيرُنا، وهو مصيرٌ لا يَتَغيَّر قطّ ولا مفرّ منه أبداً؟




[1] سورة النور، الآية 31.

357


299

الدرس الثالث والثلاثون: جزاء الأعمال

 وهكذا نكونُ بإغلاقنا بابَ التَّوبة قد فَتَحْنا في وجه النّاس بابَ اليأس والقنوط، ومَهَّدْنا للَمزيد من المعصية وللتمادي في ارتكاب القبائِح والذنوب.

 

إنَّ الآثار الإيجابيّة لأصل التوبة تتّضحُ أكثر فأكثر عندما نعلم بأن الإسلام يقيِّد قبولَ التوبة بشروطٍ خاصّةٍ ذكرَها - بتفصيل - أئمةُ الدّين، والمحقّقون من علماءِ الإسلام. إنَّ القرآن الكريم يتحدّث عن التوبة بصراحةٍ تامةٍ إذ يقول: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[1]. ثمّ إنّه قد ذُكرَ الأشخاصُ الذين لا تُقبَلُ توبتهم عندَ الله سبحانه في كُتب الفِقه، والتفسير، والعقيدة فمنَ شاء راجَعَها.




[1] سورة الأنعام، الآية 54.

358


300

الدرس الثالث والثلاثون: جزاء الأعمال

 المفاهيم الرئيسة

- تؤكّد العقيدة الإسلاميّة على أنّ أعمال الإنسان في الدّنيا لها ربط وثيق بعالم الآخرة ويوم الحساب، ويَشهدُ العقلُ والنقلُ بأنّ كلَّ إنسانٍ يَرى جزاءَ عملِهِ، إنْ خيراً فخيرٌ، وإن شرّاً فشرّ.

 

- إنّ اللهَ سبحانه وتعالى وإنْ وَعَدَ المؤمِنين بالثواب على أعمالِهم الصالِحة، وفي المقابل أوعد على الأعمال السيئة، ولكن "الوعدَ" و"الوَعيد" هذين يختلف أحدُهما عن الآخر.

 

- إنّ كلَّ إنسانٍ مؤمنٍ سيَرى ثوابَ أعماله الصّالِحَة في الآخرة خيراً كانت أو شراً، إلاّ إذا ارتدّ، أو كَفَرَ، أو أشرَكَ.

 

- إنّ الخُلودَ في عذاب جهنّم خاصّ بِالكفّار، وأمّا المؤمنون العُصاة الذين أشرقت أرواحهم بنورِ التوحيد، فطريقُ المغفرة والخروج من النار غير مسدودة عليهم.

 

- قال الإماميّة تبعًا لتفسير الآيات القرآنية والروايات الواردة عن أهل بيت العصمة أنهما مخلوقتان.

 

- إنّ انفتاح بابِ التوبةِ في وجهِ العُصاة والمُذنبين والدعوة إليها من التَعاليمِ الإسلاميّة بل مِن مقرّرات جميعِ الشرائع السَّماويّة.

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- هل أشارت الآيات القرآنية إلى خلود الكفار بالنار؟ بيّن ذلك.

2- تحدّث عن مسألة مخلوقيّة الجنة والنار.

3- ما هي التوبة، وما هي آثارها؟

359


301

الدرس الثالث والثلاثون: جزاء الأعمال

 للمطالعة

حقيقة التوبة

عن أمير المؤمنين عليه السلام قال لقائل بحضرته "أستغفر الله": "ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ إن الاستغفار درجة العليين وهو اسم واقع على ستة معان:أولها: الندم على ما مضى، والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة، والرابع: أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيّعتها فتؤدي حقها، والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت من السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول: أستغفر الله"[1].




[1] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج11، ص361، باب87، ح4.

360


302

الدرس الرابع والثلاثون: معالم الإيمان والكفر

 الدرس الرابع والثلاثون: معالم الإيمان والكفر

 

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن حدّ الإيمان والكفر.

2- يفهم العلاقة بين الإيمان والعمل الصالح.

3- يعلّل عدم جواز تكفير المؤمن المعتقد بالأصول الثلاثة.

362


303

الدرس الرابع والثلاثون: معالم الإيمان والكفر

 حدّ الإيمان والكُفر

إنّ حدَّ "الإيمان" و"الكُفر" من المباحث الكلاميّة والاعتقاديّة الهامّة جدّاً. فالإيمان في اللُّغة يعني التّصديق و"الكُفر" يعني السَّتر، ولهذا يُقال للزارع "كافر" لأنّه يستر الحبَّةَ بالتراب، ولكن المقصود من "الإيمان" في علم الكلام والعقيدة، هو الاعتقاد بوحدانيّة الله تعالى، والآخرة ورسالة النبي الخاتم محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

 

على أنَّ الإيمان برسالة النبيّ الخاتِم يشمُلُ الإيمان بِنبوّة الأنبياء السابقين عليه، والكتب السّماوية السابقة، وما أتى به نبيُّ الإسلام من تعاليم وأحكام إسلاميّة للبشر من جانب الله أيضاً. إنّ المكان الواقعي والحقيقي للإيمان هو قلب الإنسان وفؤادُه كما يقول القرآن: ﴿أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ[1]. كما أنّه يقول لسُكّان البَوادي الذِين استسْلَمُوا لِلحاكميّة الإسلامية وسلطتها من دون أن يَدخلَ الإيمان في أفئدتِهِم: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾[2].

 

ولكنّ الحكمَ بإيمان الشخص مشروطٌ بأن يعبّر عن ذلك بِلسانه وإقرارِهِ اللفظي أو يُظهِرَه بطريقٍ آخر، أو لا يُنكر اعتقادَه به على الاَقلّ، وذلك لأنّ في غير هذه الصورة لا يُحكم بإيمانِهِ كما قال: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ[3].




[1] سورة المجادلة، الآية 22.

[2] سورة الحجرات، الآية 14.

[3] سورة النمل، الآية 14.

 364


304

الدرس الرابع والثلاثون: معالم الإيمان والكفر

 في ضوءِ هذا يكونُ قد تبيَّنَ معنى "الكفر" وحدّه أيضاً، فاذا أنكر شخصٌ وحدانيّة الحقِّ تعالى، أو أنكرَ يومَ القيامة، أو رسالة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حُكِمَ بكفره حتماً، كما أنّ إنكار أحد مسلّمات الدين المحمّديّ وضروريّاته التي يكون إنكارها مستلزِماً لإنكار رسالةِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بشكلٍ واضحٍ يجعلُ الإنسان محكوماً بالكفر أيضاً.

 

فعندما أعطى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم الراية لعلي عليه السلام لفتحِ قِلاعِ خيبر، وأخبرَ الناسَ بأن حاملَ هذه الراية سيفتح خيبراً، في هذه اللحظة قال الإمام عليٌّ عليه السلام لرسول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسولَ الله فعلى مَا أُقاتلهُمْ؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: "قاتِلْهُمْ حَتّى يَشهَدُوا أنْ لا إِلَه إلاّ اللهُ وأنّ محمّداً رسولُ الله، فإذا فَعَلُوا ذلك فقد مَنَعوا مِنْكَ دِماءَهُمْ وأموالَهم إلاّ بحقها، وحسابُهم على الله"[1]. وسَأَلَ شخصٌ الإمام الصادق عليه السلام فقال: ما أدنى ما يكونُ به العَبدُ مُؤمِناً؟ قالَ عليه السلام: "يَشْهَد أن لا إلَه إلاّ الله، وأنّ محمّداً عبدُهُ ورسولهُ، ويُقرّ بالطّاعَةِ، ويعرف إمامَ زمانِهِ، فاذا فَعل ذلكَ فَهُو مؤمِنٌ"[2].

 

الإيمان مشروط بالالتزام بالعمل الصالح

إنّ حقيقةَ الإيمان وان كانت هي الاعتقاد القلبي (المشروط بالإظهار أو عدم الإنكار على الأقلّ) ولكن يجب ان لا يُظَنَّ أنّ هذا القَدَر من الإيمان كافٍ في فلاحِ الإنسان، بل يجب على الشَّخْصِ أن يَلتَزِمَ بلوازم الإيمان وآثاره العَمَليّة أيضاً.

 

ولهذا فقد وُصِف المؤمنُ الواقعي وعُرّف في كثير من الآيات والرّوايات بأنه الملتزم بآثار الإيمان، والمؤدّي للفرائض الإلهيّة. فقد اعتبر القرآنُ الكريمُ في سورة "العصر" كلّ الناس في خسر إلاّ من اتّصف بالصّفات التالية حيث قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[3]؟




[1] البخاري، الصحيح، كتاب الإيمان، ص10.

[2] المجلسي، بحار الأنوار، ج69، ص 16.

[3] سورة العصر، الآية 3.

365


305

الدرس الرابع والثلاثون: معالم الإيمان والكفر

 وقد روى الإمام الباقر عليه السلام عن الإمام علي عليه السلام أن رجلاً قال له: من شهد أن لا إلَه إلاّ اللهُ وأنّ محمّداً رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم كانَ مؤمناً؟ قال: "فأينَ فرائضُ الله[1].

 

وَقال عليه السلام أيضاً: "لو كانَ الإيمان كلاماً، لم ينزلْ فيه صومٌ، ولا صلاةٌ، ولا حلالٌ، ولا حرام"[2]. فيُستنتَج من البَيان السابق أنّ الإيمان ذو مراتب ودَرَجات، وأنّ لكلٍّ مرتبة أثراً خاصّاً بها، وأن الاعتقاد إذا اقترن بالإظهار أو عدم الإنكار على الاَقل، كان أضعف مراتب الإيمان وأدونها، وتترتّب عليه سلسلةٌ من الآثار الدِّينيّة، والدنيويّة، في حين أن المرتبة الأخرى للإيمان التي توجب فلاحَ الإنسان في الدنيا والآخرة رهنٌ للإلتزام بآثاره العمليّة.

 

والنقطة الجديرةُ بالذّكر هي أنّ بعضَ الروايات اعتبرت العَمَلَ بالفرائض الدينيّة ركناً من أركان الإيمان، فقد روى الإمام الرضا عليه السلام عن رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الإيمان معرفة بالقلب وإقرارٌ باللسان وعملٌ بالأركان"[3]؟

 

وفي بعضِ الرّوايات جُعِلَت أُمور، مثل إقامة الفرائض، وأداء الزكاة والحج، وصومِ شهرِ رمَضَان، إلى جانب الشهادتين أيضاً[4]. إنّ هذه الروايات إمّا هي ناظرةٌ إلى أنّه يمكن تمييز المسلم عن غير المسلم بواسطة هذهِ الأعمال، أو أنّ ذكرَ الشهادتين إنّما يكونُ سبباً للنجاة وموجباً للفلاح إذا اقترنَت وانضمّت إلى أعمالٍ شرعيةٍ أهمُّها وأبرزُها: الصلاةُ، والزكاةُ، والحجُ، والصوم.




[1] الكليني، الكافي، ج2، ص 33، ح2.

[2] م.ن، ج2، 33، ح 2. 

[3] الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، تحقيق: حسين الأعلمي، بيروت- لبنان، مؤسسة الأعلمي، 1404هـ- 1984م، ج1، ص 204.

[4] البخاري، الصحيح، ج1، ص 16، كتاب الإيمان شهادة أن لا إلَه إلاّ الله وأنّ محمّداً رسولُ الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحجّ، وصوم رمضان.

 366


306

الدرس الرابع والثلاثون: معالم الإيمان والكفر

 بالنّظَر إلى هذين الأصلين يجب أن لا تُكَفِّرَ أيَّةُ فِرقة من فِرَقِ المسلمين الفرقةَ الإسلامية الأخرى التي تخالفُها في بعض الفُروع، لأنّ ملاكَ "الكُفر" هو أنْ ينكرَ الشخصُ أحدَ الأصول الثلاثة، أو إنكار ما يلزَمُ من إنكاره إنكار أحَدِ الأصول الثلاثة المذكورَة، وهذه الملازمة إنّما تتحقَّق إذا كان حكمُ ذلك الشيء بديهيّاً من وجهة نظرِ الشّرع، وواضحاً جِدّاً إلى درجة أنّه لا يستطيع أنْ يجمعَ بين إنكاره والاعترافِ بالأصول الثلاثة.

 

وعلى هذا الأساس ينبغي للمسلمين أن يحفظوا في جميع المراحل أُخوَّتَهم الإسلاميَّة، ولا يَسْمَحُوا بأنْ يَصيرَ الاختلافُ في الأمور المتعلّقة بالأصولِ سبباً للنزاع، وربّما لتفسيقِ أو تكفير فرقةٍ لأخرى، وأن يكتفوا في الاختلافات الفكريّة والعقيديّة بالحوار العلميّ والمناقشة الموضوعيّة، ويتجنَّبوا إقحام التعصُّب غير المنطقيّ، والاتهام والتحريف في هذا المجال إبقاءً على الصّفاء والمودّة بين المسلمين.

 

لا يجوز تكفير المسلم المعتقد بالأصول الثلاثة

إنّ المسلمين في عالمنا الراهن يتّفقون في الأصُول الأساسية الثلاثة[1]، فيلزمُ أنْ لا يكفِّرَ فريقٌ فريقاً آخر بسبب الاختلاف في بعض الأصولِ، أو الفروع الأخرى، وذلك لأنَّ الكثيرَ من الأصول المختَلف فيها، هي في الحقيقة من القضايا الكلاميّة التي طرِحَت على بساط البحثِ والمناقشة بين المسلمين فيما بعد، ولكَلِّ فريقٍ منهم أدلّتهُ وبراهينهُ فيها.

 

وعلى هذا لا يُمكن أن يُتّخَذَ الاختلافُ في هذه المسائل وسيلةً لتكفير هذه الفرقة، أو تلك أو ذريعة لتفسيق هذه الطائفة، أو تلك، ولا سبباً لِتفتيت وحدةِ المسلمين.




[1] وهي الأصُول التي يرتبط تحقّق "الإيمان" و "الكفرُ" بقبولها أو رفضِها. وهي: الشهادة بوحدانيّة الله، والإيمان بنبوة خاتم الأنبياء محمّد صلى الله عليه وآله وسلم والمعاد في يوم القيامة.

367


307

الدرس الرابع والثلاثون: معالم الإيمان والكفر

 إنّ أفضلَ الطُرق لحلّ هذا الاختلاف هو الحوارُ العلميُّ بمنأى عن العَصَبيّات الجافّة، وَالمواقف المتزمّتة وغير الموضوعية.

 

يقول القرآنُ الكريمُ في هذا الصَّدَد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾[1].

 

ولقد صرّح النبيُّ الأكرمُ صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذكرهِ لأهَمّ أُسُس الإسلام وأُصُوله، بأنَّه لا يحقُّ لمسلمٍ أنْ يُكفّرَ مُسلماً آخر لارتكابه معصية، أو يرميَه بالشرك، إذ قال: "لا تُكَفّروُهُمْ بِذَنبٍ ولا تَشْهَدُوا عليهِم بِشِرْكٍ"[2].




[1] سورة النساء، الآية 94.

[2] الهندي، كنز العمّال، ج 1، ص277، ح30.

 

368


308

الدرس الرابع والثلاثون: معالم الإيمان والكفر

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ حدَّ "الإيمان" و "الكُفر" من المباحث الكلاميّة والاعتقاديّة الهامّة جدّاً.

 

- الإيمان برسالة النبيّ الخاتِم يشمُلُ الإيمان بِنبوّة الأنبياء السابقين عليه، والكتب السّماوية السابقة، وما أتى به نبيُّ الإسلام من تعاليم وأحكام إسلاميّة للبشر من جانب الله أيضاً.

 

- الحكم بإيمان الشخص مشروطٌ بأن يعبّر عن ذلك بِلسانه وإقرارِهِ اللفظيّ، أو يُظهِرَه بطريقٍ آخر، أو لا يُنكر اعتقادَه به على الأقل.

 

- إنّ حقيقةَ الإيمان وان كانت هي الاعتقاد القلبي ولكن يجب ان لا يُظَنَّ أنّ هذا القَدَر من الإيمان كافٍ، بل يجب على الشّخْصِ أن يَلتَزِمَ بلوازم الإيمان وآثاره العَمَليّة.

 

- بعض الروايات اعتبرت العَمَلَ بالفرائض الدينيّة ركناً من أركان الإيمان.

 

- إنّ المسلمين في عالمنا الراهن يتّفقون في الأصُول الأساسية الثلاثة، فيلزمُ أنْ لا يكفِّرَ فريقٌ فريقاً آخر بسبب الاختلاف في بعض الأصولِ، أو الفروع الأخرى.

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- ما هو المقصود بحدّ الإيمان والكفر؟ بيّن ذلك.

2- هل الإيمان مشروط بالعمل الصالح أم لا؟ أوضح ذلك.

3- اذكر آية قرآنيّة تشير إلى عدم جواز تكفير المعتقد بالأصول الثلاثة.

369


309

الدرس الرابع والثلاثون: معالم الإيمان والكفر

 للمطالعة

 

صِفَة الإِيمَانِ

عن الإمام أبي جعفر الباقد عليه السلام قال: سُئِل أمير المؤمنين عليه السلام عن الإيمان فقال: "إنّ الله عزَّ وجلّ جعل الإيمان على أربع دعائم على الصّبر واليقين والعدل والجهاد، فالصّبر من ذلك على أربع شُعَبٍ: على الشّوق والإشفاق والزّهد والتّرقّب، فمن اشتاق إلى الجنّة سلا عن الشّهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرّمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن راقب الموت سارع إلى الخيرات. واليقين على أربع شعب: تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ وتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ ومَعْرِفَةِ الْعِبْرَةِ وسُنَّةِ الأَوَّلِينَ.

 

"فمن أبصر الفطنة عرف الحكمة، ومن تأوّل الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة عرف السّنَة ومن عرف السّنَة فكأنّما كان مع الأوّلين واهتدى إلى التي هي أقوَم، ونظر إلى من نجا بما نجا، ومن هلك، بما هلك وإنّما أهلك الله من أهلك بمعصيته، وأنجى من أنجى بطاعته. والعدل على أربع شعب: غامض الفهم، وغمر العلم، وزهرة الحكم، وروضة الحلم، فمن فهم فسّر جميع العلم، ومن علم عرف شرائع الحكم، ومن حلم لم يفرّط في أمره، وعاش في النّاس حميداً، والجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصّدق في المواطن، وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شدّ ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق وأمن كيده، ومن صدق في المواطن قضى الّذي عليه، ومن شنئ الفاسقين غضب لله، ومن غضب لله غضب الله له، فذلك الإيمان ودعائمه وشعبه"[1].




[1] الكليني، الكافي، ج2، ص51.

370


310

الدرس الخامس والثلاثون: البدعة

 الدرس الخامس والثلاثون: البدعة

 

 

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يوضّح المعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة البدعة.

2- يفهم حقيقة البدعة المحرّمة في الشرع الإسلامي.

3- يبيّن الضابطة الصحيحة في البدعة.

372


311

الدرس الخامس والثلاثون: البدعة

 معنى البدعة

"البِدعة" في اللغة تعني العَمَل الجديد والذي لا سابق له، الذي يبيّن نوعاً من الحُسن والكمال في الفاعل، فلفظ "البديع" من صفات الله كما نعلم، كما قال تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ[1].

 

وأمّا المفهومُ الاصطلاحيّ للبدعة، فهو أيضاً نسبةُ ما ليس من الشريعة إلى الشريعة، وأكثر التعاريف اختصاراً للبدعة الاِصطلاحيّة هو: "إدخالُ ما ليسَ مِنَ الدّينِ في الدينِ".

 

البدعة في الشرع

إنَّ الابتداع في الدين من الذُّنوب الكبيرة، وهو مما لا شك في حرمته أبدًا، فقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كلُّ مُحدَثَةٍ بِدعَة وكلُّ ضَلالةٍ في النّار"[2]. والنقطةُ المهمّة الوحيدةُ في مسألة البِدعة هي أن يُحدَّدَ مفهومُ "البِدعة" بصورةٍ جامِعةٍ ومانِعةٍ ليمكن تمييزُ ما هو بدعةٌ عمّا ليس ببدعةٍ. وفي هذا الصَّعيد، ولإزالة الإبهام عن حقيقة "البدعة" يجب الالتفات والانتباه إلى نقطتين:




[1] سورة البقرة، الآية 117.

[2] المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص263.

373


312

الدرس الخامس والثلاثون: البدعة

 1- إنّ البِدعة نوعٌ من التصرّف في الدِّين، وذَلك بإحداث الزيادة أو النقص فيه.

 

وعلى هذا الأساس إذا لم يَكُن إحداثُ شيءٍ، مما يرتبطُ بالدِّين والشريعة، بل كان أمراً عاديّاً أو عُرفيّاً، لم يكن بدعةً (وإن كانت مشروعيّته مشروطة بأن لا يكونَ الابتداع والابتكار المذكور محرَّماً أو ممنُوعاً في الشرع بدليلٍ خاصٍ).

 

وللمثال: إن البشريّة تبتكرُ باستمرار أساليب جديدة في مجال المسكن والمَلبس وغير ذلك من وسائل العيش وخاصّة في عصرنا الحاضر الذي تتطور فيه الأساليب والأدوات المستخدَمة في المعيشَة باستمرار، وبشكلٍ متواصلٍ ونضربُ على ذلك مثلاً أنواع النزهة والرياضة الجديدة، بل والمتجدّدة على الدوام.

 

إنّ من البديهي أنّ كلَّ هذه الأشياء والأمور نوعٌ من البدعة والأمور البديعة (بمعنى ما لم يكن له سابق) ولكنها لا صلة لها بالبدعة المصطلَح عليها شرعاً. إنّما تتوقَّفُ حلّيّتُها وحلّيّةُ الاستفادةِ منها ـ كما قلنا ـ على أن لا تكونَ مخالِفةً لأحكام الشَّرع وموازينه.

 

فمثلاً اختلاط الرجلِ والمرأة من دون حجابٍ في المجالس، والمحافل ـ الذي هو من مستورَدات الغرب الفاسد، ومعطيات ثقافته المنحرفة ـ حرامٌ، إلاّ أنّه ليس ببدعَة، لأنّ الذين يشتركونَ في هذه المحافل لا يأتونَ بهذا العمل باعتباره عملاً أقرّ الشرعُ الإسلاميُّ صحَّته وقرَّره، بل ربما أتَوا به من بابِ اللاّمبالاة مع الاعتقاد بأنّه مخالفٌ للشرع، ولهذا ربما تنبَّهوا وعادوا لرشْدهِمْ فقرّرُوا بجديّةٍ تركَه، وعدم الاشتراك فيه.

 

وانطلاقاً من التوضيح السابقِ إذا عيَّنَ شعبٌ مّا يوماً، أو بعض الأيّام للفَرحَ والابتهاج والاجتماع، ولكن لا بقصد أنّ الشَّرع أمرَ بهذا، لم يكن مثل هذا العمل بدعة وإن كانت حليّةُ أو حرمة هذا العمل من جهاتٍ أُخرى يجب أن تقع محطّاً للبحث والدراسة.

374


313

الدرس الخامس والثلاثون: البدعة

 من هنا اتّضح أنَّ الكثيرَ من مبتكرات البشر، وبدائعه، في مجال الفنّ والرياضة، والصناعة وغير ذلك خارجٌ عن نطاق البدعة الاصطلاحية، وما يقالُ حول حرمَتها، أو حليّتها، إنّما هو ناشئ من جهات أُخرى ولهما ملاكٌ ومقياسٌ خاص.

 

2- إنّ أساس البدعة في الشرع يرجع إلى نقطةٍ واحدة وهي الإتيان بعملٍ بزعم أنّه أمرٌ شرعيٌّ أمَرَ به الدين في حين لا يوجد لمشروعيته أيُّ أصل ولا ضابطة، ولكن اذا أَتى بعمل على أنّه أمر شرعي ويدل على مشروعيته دليل شرعي (بشكلٍ خاصٍ، أو بصورةٍ كليّةٍ وعامّة) لم يكن ذلك العملُ بدعةً.

 

ولهذا قالَ العلاّمةُ المجلسي: "البدعة في الشرع ما حَدَثَ بعد الرَسول ولم يكن فيه نصٌّ على الخصوصِ ولا يكونُ داخلاً في بعضِ العمومات"[1].وقال ابن حجر العسقلانيّ: "البِدعة ما أُحدِثَ وليسَ لهُ أصلٌ في الشَّرعَ. وما كان له أصلٌ يدل عليه الشرع فليس بِبِدعة"[2].

 

الضابطة الصحيحة في البدعة

إذا كان العملُ الذي نَسَبْناه إلى الشرع يستندُ إلى دَليلٍ خاصّ، أو ضابطةٍ كليّةٍ في الشرع لم يكن بدعةً حتماً. والصورةُ الأولى (أيْ وجود الدليل الخاص) لا يحتاج إلى بيانٍ. إنّما المهم هو القِسم الثاني لأنّه رُبَّ عَمَلٍ كانَ في ظاهرهِ عَملاً مبتدَعاً جديداً ومبتكراً، ولم تكن له سابقةٌ في الإسلام، ولكنّه في معناه وحقيقتهِ يدخُلُ تحت ضابطةٍ أقرَّها الشرعُ الإسلاميُّ بصورةٍ كليّةٍ.

 

ولِلمثال: يمكنُ الإشارة إلى التجنيدِ الإجباريّ العامّ اليوم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فإنَّ دعوةَ الشباب إلى خدمة العَلَم كوظيفةٍ دينيّة، وإن كانت في ظاهرها




[1] المجلسي، بحار الأنوار، ج74، ص 202.

[2] ابن حجر، فتح الباري،بيروت - لبنان، دار المعرفة، ج13، ص212.

375


314

الدرس الخامس والثلاثون: البدعة

 عَمَلاً مبتكراً ومبتدعاً إلاّ أنّها حيث تنخرطُ تحت أصلٍ أو قاعدةٍ دينيّة لا تُعدّ بِدعة، وذلك لأنّ القرآنَ الكريمَ يقول: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ[1].

 

ومن البديهيّ أنّ التربية العَسكرِيّة العامة للشباب ـ تُعدُّ في ظلّ التحوُّلات والتَطَوّرات والأجواء العالميّةـ سبباً للتهَيّؤ الأكثر في مقابلِ العدوّ المتربّص، والعملُ بروح الآية المذكورة في عصرنا الراهنِ يقتضي هذا الأمر. في ضوء البيان السابق يمكن حلّ ومعالجة الكثير من الشُّبهات التي تقيّد البعضَ وتعيقهم عن الحركة.

 

ونضرب لذلك مثلاً: ما يقومُ به جماهيرُ المسلمين العظمى من الاحتفالِ بمولدِ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ويراهُ البَعض أو يسمّونه بِدعة، في حين لا ينطبق عليه عنوان البدعة وملاكُها، في ضوء ما قلناه، لأنّه على فرضِ أنّ هذا النمطَ من التكريم وإظهار المحبّة والتكريم لم يَردْ في الشرع بخصوصهِ. ولكنَّ موَدّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحُبَّه وحبَّ أهل بيته المطهَّرين عليهم السلام يُعتبر أحد أُصول الإسلام الضروريّة وتُعتَبَر هذه الاحتفالات والاجتماعات الدينيّة البهيجة مِن مظاهر ذلك الأصل الكليّ ونعني المحبة والمودة للنبي وآله. فقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يؤمِنُ أحدُكم حتّى أكونَ أحبَّ إليه مِن مالِهِ وأهْلِهِ والناسِ أجمعين"[2].

 

ولا يخفى أن الذين يُظهِرُون البَهجة والفرح في مواليد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين، ويقيمون لأجل هذه الغاية، الاحتفالات والمجالس لا يهدفون من إقامة الاحتفال في هذه الأيام إلى أنّ هذه الأعمال منصوصٌ عليها ومأمُور بها شرعاً بعينها وشكلها الراهن، بل يفعلون هذه الأعمال باعتقاد أنّ حُبَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمودّة لرسول الله وأهل بيته أصلٌ كلّيٌّ وَرَدَ التأكيد عليه في الكتاب والسُّنة بتعابير مختلِفةٍ ومتنوّعةٍ. إنّ القرآنَ الكريم يقول: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى[3].

 

وهذا الأصل يمكن أن تكونَ له تجلياتٌ ومظاهرُ مختلِفة ومتنوّعة، منها إقامة




[1] سورة الأنفال، الآية 60.

[2] النسائي، سنن النسائي، بيروت - لبنان، دار الفكر، 1348هـ- 1930م، ط1، ج8، ص115.

[3] سورة الشورى، الآية 23.عَمَلاً مبتكراً ومبتدعاً إلاّ أنّها حيث تنخرطُ تحت أصلٍ أو قاعدةٍ دينيّة لا تُعدّ بِدعة، وذلك لأنّ القرآنَ الكريمَ يقول: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ[1].

 

ومن البديهيّ أنّ التربية العَسكرِيّة العامة للشباب ـ تُعدُّ في ظلّ التحوُّلات والتَطَوّرات والأجواء العالميّةـ سبباً للتهَيّؤ الأكثر في مقابلِ العدوّ المتربّص، والعملُ بروح الآية المذكورة في عصرنا الراهنِ يقتضي هذا الأمر. في ضوء البيان السابق يمكن حلّ ومعالجة الكثير من الشُّبهات التي تقيّد البعضَ وتعيقهم عن الحركة.

 

ونضرب لذلك مثلاً: ما يقومُ به جماهيرُ المسلمين العظمى من الاحتفالِ بمولدِ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ويراهُ البَعض أو يسمّونه بِدعة، في حين لا ينطبق عليه عنوان البدعة وملاكُها، في ضوء ما قلناه، لأنّه على فرضِ أنّ هذا النمطَ من التكريم وإظهار المحبّة والتكريم لم يَردْ في الشرع بخصوصهِ. ولكنَّ موَدّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحُبَّه وحبَّ أهل بيته المطهَّرين عليهم السلام يُعتبر أحد أُصول الإسلام الضروريّة وتُعتَبَر هذه الاحتفالات والاجتماعات الدينيّة البهيجة مِن مظاهر ذلك الأصل الكليّ ونعني المحبة والمودة للنبي وآله. فقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يؤمِنُ أحدُكم حتّى أكونَ أحبَّ إليه مِن مالِهِ وأهْلِهِ والناسِ أجمعين"[2].

 

ولا يخفى أن الذين يُظهِرُون البَهجة والفرح في مواليد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين، ويقيمون لأجل هذه الغاية، الاحتفالات والمجالس لا يهدفون من إقامة الاحتفال في هذه الأيام إلى أنّ هذه الأعمال منصوصٌ عليها ومأمُور بها شرعاً بعينها وشكلها الراهن، بل يفعلون هذه الأعمال باعتقاد أنّ حُبَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمودّة لرسول الله وأهل بيته أصلٌ كلّيٌّ وَرَدَ التأكيد عليه في الكتاب والسُّنة بتعابير مختلِفةٍ ومتنوّعةٍ. إنّ القرآنَ الكريم يقول: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى[3].

 

وهذا الأصل يمكن أن تكونَ له تجلياتٌ ومظاهرُ مختلِفة ومتنوّعة، منها إقامة




[1] سورة الأنفال، الآية 60.

[2] النسائي، سنن النسائي، بيروت - لبنان، دار الفكر، 1348هـ- 1930م، ط1، ج8، ص115.

[3] سورة الشورى، الآية 23.

376


315

الدرس الخامس والثلاثون: البدعة

 هذه الاحتفالات البهيجة على حياة المسلمين الفرديّة والاجتماعية، فإنّ إقامة الاحتفالات، في الحقيقة مما يذكّر بنزول الرحمةِ والبركةِ الإلهيّة في هذه الأيّام، وهي نوعٌ من أنواع الشُّكر لله تعالى أو عملٌ باعث عليه، وهذا المطلب (أي إقامة الاحتفال في يوم نزول الرحمة والفيضِ الربانيّ) كان في حياة الأمم السابقة أيضاً كما يصرّحُ بذلك القرآنُ الكريمُ.

 

فقد طلَبَ النبيُّ عيسى ابنُ مريم عليهما السلام مائدةً سماويّة تنزلُ عليه وعلى حواريّيه ليكونَ يومُ نزول تلك المائدة عيداً للجيل الذي كان يعيش بينهم، وللأجيال اللاحقة كما يقولُ تعالى: ﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ﴾[1].

 

أضف إلى ذلك أنّ الله تعالى يقول في آية أُخرى في مجال تكريم النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[2].

فإنّ الله تعالى يأمر الناسَ في هذه الآية بأربعة أُمور:

1- الإيمان بالنبيّ ﴿آمَنُواْ بِهِ﴾.

2- تكريم النبيّ وتعظيمه ﴿وَعَزَّرُوهُ﴾.

3- نصرته ﴿وَنَصَرُوهُ﴾.

4- اتّباع القرآن ﴿وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ﴾.

 

فلزومُ التكريم والتعظيم للنبيّ كما هو واضح أصلٌ دينيٌّ وقرآنيّ، وله في كل زمان مصاديق خاصّة: فالصلاةُ والسلام على النبيّ وأهلِ بيته عند ذكر اسمِهِ، وإظهارُ الفرح والابتهاج يومَ ولادته وبعثته، وكذا إعلانُ الحزنِ والأسى في مأتمه ومأْتم أهل




[1] سورة المائدة، الآية 114.

[2] سورة الأعراف، الآية 157.

377


316

الدرس الخامس والثلاثون: البدعة

بيته، وحفظُ آثارِ النبيّ وتعمير مرقده الطاهر وحفظُ آثار أهل بيته، وتعميرُ مراقدهم الطاهرة، كلُّها مصاديقُ لإظهار المودّة والمحبّة للنبيّ الأكرم وعترتِهِ الطاهرة صلواتُ الله عليهم أجمعين.

 

على أنّه يجب أن لا يتصوَّر أحَدٌ بأنّ محبّة النبيّ وأهل بيته ومودّتَهم تنحصرُ في هذه الأمور فقط، بل يجب الانتباه إلى أنّ اتّباعَهم في أقوالهم وأفعالهم، والذي جاءَت الإشارة إليه في الآية أدناه أيضاً هو من أظهر مصاديق محبّتهم ومودّتهم، كما أنّه سببٌ لنيلِ العِناية الإلهيّة واللطفِ الربانيّ كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ[1].

 

والبِدعَة - كما أسلَفْنا - عبارةٌ عن نوعٍ من التصرّف في الدّين من دون أن يكون له مستندٌ صحيحٌ (خاصٌّ أو كلِّيٌّ عامٌّ) في الشرع، ويجب التنويه بأنّ روايات أئمةّ أهلِ البيت بحكم حديث الثقلين المتواتر، تُعَدُّ من مصادر الشريعة، وأدلّةِ الأحكام الدينيّة وعلى هذا الأساس إذا صرَّحَ الأئمةُ المعصومُون: بجواز أو عدم جواز شيءٍ كان اتّباعهم في ذلك اتّباعاً للدِّين ولم ينطبق عليه عنوانُ الابتداع والاحداث في الدّين.

 

وفي الخاتمة: نُذَكّر بأنّ "البدعة" بمعنى التَصَرُّف في الدين من دون إذن الله سبحانه كان ولا يزال عَمَلاً قبيحاً وحراماً، وقد أشار إليه القرآن بقوله تعالى: ﴿آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ[2].

 

وعلى هذا الأساس لا يصحُّ تقسيم البِدعة (بهذا المعنى) إلى القبيح والحَسَن والحرامِ والجائزِ، بل كلُّها (بهذا المعنى) حرامٌ غير جائز.

 

نعم البِدعة بمعناها اللغويّ العامّ (أي الإتيان بأشياء حديثة في أُمور المعيشة من دون نسبة ذلك إلى الشرع) يمكن أن تكون له صُوَرٌ مختلفة ومتنوّعة، وتكون مشمولةً لأحد الأحكام التكلِيفيّة الخمسة: (الوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب والإباحة).




[1] سورة آل عمران، الآية 31.

[2] سورة يونس، الآية 59.

378

 

317

الدرس الخامس والثلاثون: البدعة

 المفاهيم الرئيسة

- "البِدعة" في اللغة تعني العَمَل الجديد والذي لا سابق له، الذي يبيّن نوعاً من الحُسن والكمال في الفاعل، فلفظ "البديع" من صفات الله كما نعلم.

 

- المفهومُ الإصطلاحيّ للبدعة، هو: "إدخالُ ما ليسَ مِنَ الدّينِ في الدينِ".

 

- إنَّ الابتداع في الدين من الذُنوب الكبيرة، وهو ممّا لا شك في حرمته أبدًا، فقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كلُّ مُحدَثَةٍ بِدعَة وكلُّ ضَلالةٍ في النّار".

 

- إذا كان العملُ الذي نَسَبْناه إلى الشرع يستندُ إلى دَليلٍ خاصّ، أو ضابطةٍ كليّةٍ في الشرع لم يكن بدعةً حتمًا.

 

- وفي هذا الصَّعيد، ولإزالة الإبهام عن حقيقة "البدعة" يجب الالتفات والانتباه إلى نقطتين:

1- إنّ البِدعة نوعٌ من التصرّف في الدِين، وذَلك بإحداث الزيادة أو النقص فيه.

2- إنّ أساس "البدعة" في الشرع يرجع إلى نقطةٍ واحدة وهي الإتيان بعملٍ بزعم أنّه أمرٌ شرعيٌّ أمَرَ به الدين في حين لا يوجد لمشروعيته أيُّ أصل ولا ضابطة.

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- ما هو معنى البدعة لغة واصطلاحًا؟

2- ما هو المعيار في اعتبار أمر ما بدعة أم غير بدعة؟

3- ما هو مفهوم تكريم النبيّ وآله حسب الآيات القرآنيّة؟

379


318

الدرس الخامس والثلاثون: البدعة

 للمطالعة

موت الفقيه

عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "ما من أحد يموت من المؤمنين أحبّ إلى إبليس من موت فقيه"...

 

وأمّا سبب زيادة محبّته موت الفقيه فهو أنّ الفقيه روح قلوب المؤمنين إذ به حياتهم وهدايتهم إلى زمرة القدِّيسين وفرقة المقرّبين وحصنهم، إذ به نجاتهم عن سنان غوائل الأعادي وسهام مكائد الشياطين وقائدهم في بيداء الطبيعة، إذ به رشادهم إلى الأخلاق والكمالات البشرية وأعمال الصالحين وحافظهم، إذ به خلاصهم عمّا يضعه إبليس من شَرَك الشرك وحبالة البدعة لاصطياد الناس أجمعين. فإذا مات ذلك الفقيه فكأنّه مات بموته جميع المؤمنين لخروج روحهم عن أجساد قلوبهم وانهدام حصنهم وموت قائدهم وفقد حافظهم، فيبقون متحيّرين لا يجدون إلى سبيل الحقّ دليلاً ولا إلى منزل القرب سبيلاً فيستولي عليهم خيول إبليس وجنوده الغاوين ولا شيء أحبُّ من هذا عند ذلك الخبيث اللعين[1].




[1] المازندراني، محمد صالح، شرح أصول الكافي، بيروت- لبنان، دار احياء التراث العربي، 1421هـ- 2000م، ج2، ص78.

380


319

الدرس السادس والثلاثون: التقيّة

 الدرس السادس والثلاثون: التقيّة

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن أدلة جواز التقيّة.

2- يذكر موارد التقيّة وشروطها.

3- يوضّح متى تكون التقيّة واجبة.

381


320

الدرس السادس والثلاثون: التقيّة

 أدلّة جواز التقية

إنّ جوازَ "التَقيَّة" لا يحظى بالدَّليل النقليّ فحسب، بل إنّ العقلَ يحكم أيضاً بصحّتها ولزومها، لأنّ حفظ النَّفس، والمالِ، والعِرض، واجبٌ، ولازمٌ من جهة، وإظهارَ العقيدة والعمل وفقَ تلك العقيدة وظيفةٌ دينيّة من جانبٍ آخر، ولكن إذا جرَّ إظهارُ العقيدةِ إلى الخطر على النّفس والمال، والعرض، وتعارضت هاتان الوظيفتان عَمليّاً، حكم العقلُ السليمُ بأن يُقدِّم الإنسان الوظيفةَ الأهمّ على المهمّ.

 

والتقية - في الحقيقة - سلاحُ من لا قدرة له في مقابل الأقوياء القُساة، ومن الجَليّ أنّه إذا لم يكن خطرٌ ولا تهديدٌ لم يكتم الإنسان عقيدَتَه، كما لم يَعَمل على خلافِ معتقَده.

 

ينصُّ القرآنُ الكريمُ بشكل صريح على عدم البأس عمّن يَقعُ في أيدي الكفار، ويُظهرُ كلمة الكفر على لِسانِه للخلاص والنجاة، وقلبُه عامرٌ بالإيمان مشحونٌ بالاعتقاد الصحيح: ﴿مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ[1].

 

وَفي آية أُخرى يقولُ: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ[2].




[1] سورة النحل، الآية 106.

[2] سورة آل عمران، الآية 28.

383


321

الدرس السادس والثلاثون: التقيّة

 إنّ المفَسّرين المسلمين يَتّفقون ـ عند ذِكرِ وتفسيرِ هاتين الآيَتين ـ على أنّ أصل "التَقيّة" أصلٌ مشروع.

 

ومن طالَعَ - ولو على عَجَل - ما جاء في التفسير والفقه الإسلاميّ في هذا المجال عَرفَ بوضوحٍ أن أصلَ "التقيّة" من الأصول الإسلاميّة، ولا يمكن تجاهلُ الآيتين المذكورَتين أعلاه، ولا عَمَل مؤمنِ آل فرعَون في كتمان إيمانِه[1] وإنكار "التقيّة" بالمرَّة.

 

التقيّة غير مختصة بالكفر

الجَدير بالذّكر أنّ آياتِ "التقيّة" وإن وَرَدَت في مجال التَقيّة من الكافر إلاّ أنّ الملاكَ (وهو حِفظ نفسِ المسلم ومالهِ وعرضهِ في الظروف الحسّاسة والخطيرة) لا يختصُّ بالكفار، فَلَو استوجَبَ إظهار الشخص لعقيدته، أو العَمَل وفقها عندَ المسلمين، خوفَ ذلك الشخص على نفسهِ أو مالهِ أو عرضهِ أي احتَملَ بقوة تعرّضها للخَطَر من جانبِ المسلمين، جرى في المقام حكمُ "التقيّة" أي جاز له التقيّة من المسلمين كما جاز له التقيّة من الكفار، وذلِكَ لوحدة العلّة والمِلاك، وتحقّق الأمر الموجب للتقيّة.

 

وهذا هو ما صَرَّحَ الآخرون به أيضاً فهذا هو الفخر الرازي يقول: إنّ مذهب الشافعي أنّ الحالةَ بَين المسلمين إذا شاكَلتْ الحالةَ بَين المسلمِين والمشركين حَلَّتْ التقيّةُ محاماةً على النفسِ.

 

وقال: التقيّةُ جائزةٌ لصونِ النَّفسِ، وهل هي جائزةٌ لصونِ المال؟ يُحتَمل أنْ يُحْكَمَ فيها بالجواز لقولهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "حُرْمَةُ مالِ المُسْلِمِ كَحُرمةِ دَمِهِ" ولقولِهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن قُتِلَ دُون مالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"[2].




[1] لاحظ سورة غافر، الآية 28.

[2] الرازي، التفسير الكبير، ج 8، ص14.

384


322

الدرس السادس والثلاثون: التقيّة

 وقال أبو هريرة: "حَفِظْتُ مِن رسُول الله صلى الله عليه وآله وسلم وِعائَين، أمّا أحَدُهما فَبَثَثْتُهُ في النّاس، وأمّا الآخرَ فَلَوْ بَثَثْتُهُ لقُطِعَ هذا البَلعُومُ"[1].

 

إنّ تاريخَ الخُلَفاء الأمويّين والعَباسيّين زاخرٌ بالظلمِ والعَسْفِ، والحيْفِ والجَور. ففي تلكَ الأيّام لم تكنِ الشيعةُ وحدَهم هُمُ المطرودُون، والمحجور عليهم بسببِ إظهار عقائِدِهم، بل سَلَكَ أغلَبُ محدّثيِ أهلِ السُّنّة في عَصرِ المأمون أيضاً مَسْلَكَ التقيّة في محنة "خَلْقِ القرآنِ" وَلم يخالف المأمونَ في خَلْق القرآنِ وحُدُوثهِ بعدَ صُدُور المرسُوم الخليفي العامّ، سوى شخصٍ واحدٍ، وقصَّتُهُ معروفةٌ في التاريخ وعامّة المحدّثين تظاهروا بالوفاق تقيّةً.

 

التقية واجبة في بعض الحالات فقط

إنّ التقيّة - حسبَ منطِقِ الشيعَة - واجبة في ظروف خاصّة، إلاّ أنّها مُحرَّمةٌ في بعضِ الشروطِ أيضاً، ولا يجوز للإنسانِ في مثل هذهِ الشُّروط أنْ يَستخدمَ التقيّة بحجّة أنّه قد يعرّض نفسُه، أو مالهُ أو عرضه للخطر.

 

فَقَد يَتَصوَّرُ بعضٌ أنّ الشّيعة يوجبونَ التَقيّة دائماً وفي جميع الحالات والظروف والأوضاع، والحال أنّ هذا تصوّرٌ خاطِىء، فإنّ سيرةَ أئمّة أهلِ البيت: لم تكنْ هكذا، لأنّهم، وبغية رعايةِ المصالحِ والمفاسِدِ كانوا يَسلكون في كلّ زمانٍ موقفاً خاصّاً، وأُسلوباً مناسباً ولهذا نجدُهم كانُوا تارةً يتّخذون مَسلَك التقيّة أُسلوباً، وتارة أُخرى كانوا يُضحُّون بأنفسِهم وأموالِهم في سبيلِ إظهارِ عَقيدتهم.

 

ومما لا شك فيه أنّ أئمَّةَ الشّيعَة استشهدوا بالسَّيف أو السُّمّ على أيدي الأعدْاء في حين أنّهم لو كانُوا يُصانِعُونَ حُكّام عصورهم ويجارونهم، لمَنحهمْ أُولئِك الحكّام أعلى المناصب، وأسمَى المَراتب في حكوماتِهم ولكنهم كانُوا يَعلموُن أنّ التقيّة قبال أُولئك الحُكّام (كيزيد بن معاوية مثلاً) كان يؤدّي إلى زوال الدّين، وهلاك المذهب.




[1] ابن عربي، الفتوحات المكية، تحقيق: عثمان يحيى، 1392هـ- 1972م، ج1، ص142.

 

385


323

الدرس السادس والثلاثون: التقيّة

 وفي مِثل هذهِ الشُروط أمام القادة الدينيّين المسلِمين نوعان من الوظيفة: أن يسلكوا مَسلَك التقيّة في ظروف خاصَّة، وأنْ يحملوا حياتهم على أكفّهِمْ ويَستَقْبلوا الموتَ في ظروفٍ أُخرى، أي إذا وَجَدوا أساس الدِين في خطرٍ جدّيٍ.

 

ونذكّرُ بأنّ التقيّةَ أمرٌ شخصيٌّ ويَرتبط بوضعِ الفرد، أو الأفراد الضعفاء العاجزين في مقابل العدوّ الغاشِم. فإنّ مثل هؤلاءِ إذا لم يَعْمَلوا بالتقيّة فَقَدوا حياتهم مِن دون أن يترتّب أثرٌ مفيدٌ على مقتَلِهِمْ.

 

ولكن لا تجوز التقيّة مطلقاً في بيان معارف الدين وتعليم أحكام الإسلام مثل أن يكتُبَ عالمٌ شيعيٌّ كتاباً على أساس التقيّة، ويذكرَ فيه عقائدَ فاسدة، وأحكاماً منحرفة على أنّها عقائدُ الشيعة وأحكامُهم.

 

ولهذا فإننّا نرى علماءَ الشيعة أظهروا في أشدّ الظروف والأحوال، عقائِدَهُمُ الحقَّة، ولم يحدُثْ طيلةَ التاريخ الشيعيّ ولا مرة واحدةً أن أقدَمَ علماءُ الشيعة على تأليف رسالةٍ أو كتابٍ على خلافِ عقائدِ مذهبهِم، بحجّة التقيّة، وبعبارة أُخرى: أن يقولوا شيئاً في الظاهر، ويقولُوا في الباطن شيئاً آخر، ولو أن أحَداً فَعَلَ مِثلَ هذا العملِ وسَلَكَ مثلَ هذا المسلَكَ أُخرِجَ من مجموعةِ الشيعةِ الإماميَّة.

 

وهنا نوصي الّذين يصعُب عليهم هضمُ مسألة التقيّة، وتقبُّل هذه الظاهرة، أو خَضَعُوا لِتأثير دعايات أعداءِ التشيُّع السيّئة، بأنْ يطالِعوا ولو مرّةً تاريخَ الشيعة في ظلّ الحُكُومات أُموِيّةً، وعبّاسيّةً، وفي عصر الخلفاء العثمانيّين في الأناضول والشامات، لِيَعلَموا بَهاظةَ ما قَدَّمهُ هذا الفَريقُ من الثَمن للدّفاع عن العَقيدة وبِسَبب اتّباع أهلِ البَيت عليهم السلام، وجَسامةَ ما قدّموه من تضحياتٍ، وقرابين، وعظمةَ ما تحمّلوه من مصائبَ مرّة، حتى أنّهم ربّما هَجَرُوا بيوتهم ومنازلهم ولجأوا إلى الجبال.

 

لقد كانَ الشيعة على هذه الحال مع ما كانوا عليه من التقيّة، فكيف إذا لم يُراعُوا هذا الأصل..ترى هل كانَ يبقى من التَشيُّع اليومَ إذا لم يَتّقوا، أثرٌ أو خَبَرٌ؟

386


324

الدرس السادس والثلاثون: التقيّة

 وأساساً لا بُدَّ مِن الانتباه إلى نقطةٍ مهمّةٍ وهي أنّه إذا استوجَبَت التقيّة لَوماً فإنّ هذا اللومَ يجب أن يُوجَّهَ إلى من تَسبَّبَها، لأنّ هؤلاء بَدَل إجراء العَدل ومراعاة الرأفةِ الإسلاميّة أوجَدوا أصعَب ظروف الكَبت السياسي والمذهبي ضِدّ أتباع أهل البيت النبويّ، لا أن يُلامَ مَن لَجَأ إلى التقيّة اضطراراً وحفاظاً على نُفُوسهم وأموالِهِم وأَعراضِهِمْ.

 

والَعَجَبُ العجاب في المقام هو أن يتوجَّه البعضُ باللوم والنقد إلى العاملين بالتقيّة المظلومين ووصفهم بالنفاقِ بدل توجيه ذلك إلى مسبّبي التقيّة، أي الظالمين، هذا مضافاً إلى أنَّ "النفاق" يختلف عن "التقيّة" كاختلافِ المتناقضين، والبَونُ بينهما شاسع وبعيدٌ بُعدَ السَّماءِ عن الأرض.

 

فالمنافِقُ، يُبْطِنُ الكُفْرَ في قَلبهِ ويُظهِرُ الإيمان لِغَرض التجسُّس على عورات المسلمين أو الوصول الى منافع لا يستحِقّها، في حين يكونُ قلبُ المسلم في حال التقيّة مفعماً بالإيمان، وإنما يُظهرُ خلاف ما يعتقد لعلّة الخوف من الأذى، والاضطهاد.

387


325

الدرس السادس والثلاثون: التقيّة

 المفاهيم الرئيسة

- إنَّ أحَدَ التعاليم القرآنيّة هو أن يكتم الإنسان المسلمُ عقيدتَه إذا تعرَّضَ في نفسه، أو عِرضِه أو مالِه لِخطرٍ لو أظهرها، ويُسمّى هذا العَمل في لسانِ الشَّرع "التقيّة".

 

- إنّ جوازَ "التَقيَّة" لا يحظى بالدَّليل النقليّ فحسب، بل إنّ العقلَ يحكم أيضاً بصحّته ولزومه.

 

- ينصُّ القرآنُ الكريمُ في شأن عَمّارِ بن ياسر على عدم البأس عمّن يَقعُ في أيدي الكفار، ويُظهرُ كلمة الكفر على لِسانِه للخلاص والنجاة، وقلبُه عامرٌ بالإيمان مشحونٌ بالاعتقاد الصحيح.

 

- إنّ آياتِ "التقيّة" وإن وَرَدَت في مجال التَقيّة من الكافر إلاّ أنّ الملاكَ (وهو حِفظ نفسِ المسلم ومالهِ وعرضهِ) لا يختصُّ بالكفار.

 

- إنّ التقيّة واجبة في ظروف خاصَة، إلاّ أنّها مُحرَّمةٌ في بعضِ الشروطِ أيضاً.

 

-  التقيّة أمرٌ شخصيٌّ ويَرتبط بوضعِ الفرد، أو الأفراد الضعفاء العاجزين في مقابل العدوّ الغاشِم.

 

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- اذكر الدليل العقليّ على جواز التقيّة.

2- اذكر دليلًا نقليًا على جواز التقيّة.

3- ما هي الظروف التي توجب وتصحّح التقيّة؟ بيّن ذلك.

388


326

الدرس السادس والثلاثون: التقيّة

 للمطالعة

 

المؤمن

سئل الإمام أبو عبدالله الصادق عليه السلام عن إيمان من يلزمنا حقّه وأخوّته كيف هو وبما يثبت وبما يبطل، فقال: "إنّ الإيمان قد يتّخذ على وجهين, أما أحدهما فهو الذي يظهر لك من صاحبك، فإذا ظهر لك منه مثل الذي تقول به أنت حقّت ولايته وأخوّته، إلا أن يجيء منه نقض للذي وصف من نفسه وأظهره لك، فإن جاء منه ما تستدلّ به على نقض الذي أظهر لك خرج عندك مما وصف لك وأظهر وكان لما أظهر لك ناقضاً، إلّا أن يدّعي أنّه إنما عمل ذلك تقية ومع ذلك ينظر فيه فإن كان ليس ممّا يمكن أن تكون التقية في مثله لم يقبل منه ذلك، لأنّ للتقية مواضع من أزالها عن مواضعها لم تستقم له، وتفسير ما يتّقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحقّ وفعله فكلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقيّة ممّا لا يؤدّي إلى الفساد في الدين فإنه جائز"[1].

 




[1] الكليني، الكافي، ج2، ص168.

389


327

الدرس السابع والثلاثون: التوسّل

 الدرس  السابع والثلاثون: التوسّل

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن: 

1- يبيّن معنى التوسّل وحقيقته.

2- يميّز بين التوسّل الذي يؤدّي إلى الشرك وبين غيره.

3- يذكر ما يدلّ على جواز التوسّل بأسماء الله ودعاء الصالحين.

391


328

الدرس السابع والثلاثون: التوسّل

 حقيقة التوسل

إنّ حياةَ البَشَر قائمةٌ على أساس الاستفادة من الوسائل الطبيعيّة والاستعانة بالأسباب، التي لِكلّ واحدٍ منها أثرٌ خاصٌ. فَكُلُّنا عندما نعطش نشربُ الماء، وعندما نجوعُ نأكلُ الطعام، وعندما نريد الانتقالَ من مكانٍ إلى آخر نستخدم وسائلَ النّقل، وعندما نريد إيصال صوتنا إلى مكانٍ نستخدم الهاتفَ، لأنّ رفعَ الحاجة عن طريق الوسائل الطبيعيّة - بشرط أن لا نعتقد باستقلالها في التأثير - هو عينُ "التوحيد" ومن صميمه.

 

فالقرآنُ الكريمُ وهو يُذكّرُنا بقصّة ذي القرنين في بنائه للسدِّ يُخبرُنا كيف طلب العونَ والمعونة من النّاس إذ قال: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا[1].

 

وإنّ الذين يُفسّرُون الشركَ بالتعلُّق والتوسُّل بغير الله، إنَّما يصحُّ كلامُهم هذا إذا اعتقد الإنسان بتأثيرِ الوسائل والأسباب على نحوِ الاستقلال والأصالةِ. وأمّا إذا اعتقد بأنَّها تؤثّر بإذن الله فإنّه سينتهي حينئذ إلى نتيجةٍ لا تُخرِجُه عَن مسيرِ التوحيد. ولقد قامَت حياةُ البشرية من أوّل يوم على هذا الأساس والقاعدة أي على الاستفادة من الوسائل والوسائط الموجودة، ولم يزل يتقدم في هذا السبيل.




[1] سورة الكهف، الآية 95.

393


329

الدرس السابع والثلاثون: التوسّل

 والظاهر أنّ التَوَسُّل بالأسباب والوسائلِ الطبيعيّة لِيس مَحَطّاً للمناقشة والبحث، إنّما الكلام هو في الأسباب غير الطبيعيّة التي لا يعرفها البَشرُ، ولا سبيلَ له إليها إلاّ عن طريق الوحي.

 

فإذا وُصِفَ شيءٌ في الكتاب والسُّنة بالوسِيلِيَّةِ كانَ حكمُ التوسّل به نظير حكم التوسّلِ بالأمور الطبيعيّة. وعلى هذا الأساس فإنّنا إنّما يجوز لنا التوسل بالأسباب غير الطبيعيّة إذا لاحَظنا مطلبين:

 

1- إذا ثَبَتَ كونُ ذلك الشيء "وسيلةً" لنيل المقاصد الدنيويّة أو الأخروية بالكتاب أو السنة.

2- إذا لم نعتقد بأيّة أصالةٍ أو استقلال للوسائل والأسباب، بل اعتبرنا تأثيرها منوطاً بالإذنِ الإلَهي والمشيئةِ الإلهيّة.

 

إنّ القرآنَ الكريمَ يدعونا إلى الاستفادة من الوسائل المعنوية إذ يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[1]. هذا ويجب الانتباهُ إلى أنّ "الوسيلة" لا تعني (التقرُّب) بل تعني الشيء الذي يوجب التقرّبَ إلى الله، وأحَد هذه الطرق هو الجهادُ في سبيل الله الذي ذُكِرَ في الآية الحاضِرة كما يمكن أن تكون أشياء أُخرى وسيلة للتقرّب أيضاً[2].

 

التوسُّل بأسماء الله الحسنى ودعاء الصالحين

ثَبَت لدينا أنّ التوسّلَ بالأسباب الطبيعيّة، وغير الطبيعيّة (بشرط أن لا تُصبَغ بصبغة الأصالة ولا يعتقد فيها بالاستقلال في التأثير) عينُ التوحيد، ولا شك في أنّ القيام بالواجباتِ والمستحبّاتِ، كالصَّلاة والصَّوم والزَّكاة والجِهاد في سبيل الله




[1] سورة المائدة، الآية 35.

[2] قال الراغبُ الاِصفهاني في مفرداته (في مادة وسل): الوَسيلة التوصّلُ إلى الشيء برغبة، وحقيقةُ الوسيلة إلى الله سبيلُه بالعلمِ والعِبادة وتحرّي مكارم الشريعة.

394


330

الدرس السابع والثلاثون: التوسّل

 وغير ذلك وسائل معنويّة تُوصِل الإنسان إلى المقصد الأسمى، ألا وهو التقرّبُ إلى الله تعالى. فالإنسان في ظلّ هذه الأعمال يجد حقيقة العبوديَّة، ويتقرّب في المآل إلى الله تعالى.

 

ولكن يجب الانتباهُ إلى أنّ الوسائل غير الطبيعيّة لا تنحصر في الإتيان بالأعمالِ العبادِيّةِ، بل هناك سلسلة من الوسائل ذكرَت في الكتابِ والسُّنةِ يستعقبُ التوَسلُ بها استجابةَ الدعاءِ، نذكر بعضَها فيما يأتي:

 

1- التوسُّل بالأسماء والصّفات الإلهيّة الحُسنى التي ورَدَت في الكتاب العزيز، والسُّنة الشريفة، إذ يقول سبحانه: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا[1]. ولقد وَرَدَ التوسُّل بالأسماء والصفات الإلهيّة في الأدعية الإسلامية كثيراً.

 

2- إن التوسُّل بأدعية الصالحين، والذين يكون أفضلُ أنواعه: التوسّلُ بالأنبياء والأولياء المقرّبين إلى الله، لِيَدعو للإنسان في محضر ذي الجلال.

 

إنّ القرآنَ الكريمَ يحثُّ الذين ظَلَموا أنْفُسَهم (أي العُصاة) إلى أن يذهَبوا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم ويطلبوا منه أن يَستغفِرَ لهم، إلى جانب استغفارِهم هم بأنفسِهم، ويبشِّرُهم بأنّهم سيجدون الله توّاباً رحيماً: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا[2].

 

ويَذمُّ في آية أُخرى المنافقين، بأنّهم كلّما دُعوا إلى الذهاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لِيَستغفر لهم أعرَضوا عن ذلك إذ يقول: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ[3]. ويُستفاد من بعض الآيات أنّه كان مثل هذا العَمَل جارياً ورائجاً في الأمم السابقة. وللمثال: طلب أبناءُ يعقوب من أبيهم أن يستغفرَ لهم، واستجاب لهم أبوهم يعقوبُ عليه السلام ووعدهم بذلك:




[1] سورة الأعراف، الآية 180.

[2] سورة النساء، الآية 64.

[3] سورة المنافقون، الآية 5.

395


331

الدرس السابع والثلاثون: التوسّل

 ﴿يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[1].

 

 

ومن الممكن أنْ يُقال إنّ التوسُّل بدعاء الصالحين يكون في صورةٍ خاصّة عين التوحيد (أو على الأقلّ مفيداً ومؤثراً) وهي إذا كان من نتوسّلُ به على قيد الحياة.

 

حقيقة تفسير التوسّل بالأموات؟

كان الحديث عن التوسّل بالأنبياء والأولياء فيما إذا كانوا على قيد الحياة، أما لو لم يكونوا على قيد الحياة فكيفَ يكونُ التوسُّل بهم مُفيداً وعين التوحيد؟

 

في الجواب على هذا الإشكال لا بدّ من التذكير بنقطتين:

الأولى: إذا افترَضْنا أنّ التوسُّل بالنّبي أو الوليّ مشروطٌ بكونهم على قيد الحياة، ففي هذه الصورة يكون التوسُّل بالأنبياء والأولياء الإلَهيّين بعد الموت مجرّد عملٍ غيرِ مفيد، لا أنّه يكون موجباً للشرك.

 

وقد غُفِلَ عن هذه النقطة الهامّة في الغالب، وتَصوّر البعض أنّ الموتَ والحياةَ رمزُ التوحيد والشرك! مع أنّ هذا الشرط (أي حياة النبيّ أو الولي عند توسُّلِ الآخرين به) ملاكٌ لكون التوسّل مفيداً أو غير مفيدٍ، لا أنّه "ملاكٌ" لكون التوسُّلِ عَمَلاً توحِيديّاً أو شِركيّاً.

 

الثانية: إنّ تأثيرَ التوسّل وكونَه مفيداً يُشترط فيه أمران:

1- أن يكونَ الفردُ المتوسَّلُ به مُتصِفاً بالعلم والشعور والقدرة.

2- أن يكونَ بين المتوسّلِ، والمتوسَّل به ارتباط واتصال وكلا هذين الشرطين (الإدراك والشعور ووجود الارتباط بينهم وبين المتوسَّل بهم) موجودان في التوسّلِ بالأنبياء، وإن فارقت أرواحُهم أجسْادَهم وذلك ثابت بالأدلّة العقلية والنقلية الواضحة.




[1] سورة يوسف، الآيتان 97- 98.

396


332

الدرس السابع والثلاثون: التوسّل

 إنَّ وجودَ الحياة البرَزَخيّة من المسائل القرآنيّة والحديثيّةِ المسلّمة الضَّرُوريّة، وقد مرّت أدلّتها سابقًا. فإذا كانَ الشهداء الّذين قُتلُوا في سبيلِ الحقِّ أحياءً حسب تصريح القرآن الكريم، فأولى أن يكون أنبياء الشهداء والأولياء المقرّبون أحياءً عند ربّهم ـ خاصة وأنّ أكثرهم قد استشهد في سبيل الله ـ أيضاً بحياة أعلى وأفضل.

 

ثم إنّ هناكَ قرائن كثيرةً على وجود الارتباط بيننا وبين الأولياء الإلَهيين نذكر بعضَها:

 

1- إنّ جميع المسلمين يقولون في نهاية الصّلاة مخاطِبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "السَّلامُ عَليكَ أيُّها النبيُّ ورحمةُ اللهِ وَبَرَكاتهُ".

 

فهل هم يقولون ما يقولونه لغواً وعبثاً؟ وهل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا يسمع كلّ هذه التحيات وكل هذا السلام ولا يردّ عليها؟!!

 

2- إنّ النبيَ الأكرم أَمَر - في معركة بدر - بأن تلقى أجسادُ المشركين في بئر (قليب) ثم وَقَفَ يُخاطبهم قائلاً: لَقَد وَجَدْنا ما وَعَدنا ربُّنا حقاً، فهل وَجَدتُم ما وَعَدَكم ربُّكم حَقاً؟ فقال أحدُ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسولَ الله أتكلم الموتى؟! فقالَ النبيُ صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أنْتُمْ بأسَمعَ مِنْهُمْ"[1].

 

3- لقد ذَهَبَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى البقيع مراراً وقال مخاطباً أَرواح الراقدين في القبور والأجداث: "السَلامُ على أهلِ الدّيار مِن المؤمِنين والمؤمِنات".

 

وفي رواية كان يقولُ: "السلامُ عليكمْ دارَ قومٍ مؤمِنين"[2].

 

وفي الختام نُذَكّرُ بأنّ للتَوَسُّلِ بالأنبياء والأولياء صُوَراً مختلِفةً جاء شرحُها في كُتُبِ العَقائد.




[1] البخاري، الصحيح، ج 2، ص101، باب قتل أبي جهل.

[2] مسلم، الصحيح، ج 3، ص 63، باب ما يقال عند دخول القبر.

397


333

الدرس السابع والثلاثون: التوسّل

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ حياةَ البَشَر قائمةٌ على أساس الاستفادة من الوسائل الطبيعيّة والاستعانة بالأسباب، التي لِكلّ واحدٍ منها أثرٌ خاصٌ.

 

 - وإنّ الذين يُفسّرُون الشركَ بالتعلُّق والتوسُّل بغير الله، إنَّما يصحُّ كلامُهم هذا إذا اعتقد الإنسان بتأثيرِ الوسائل والأسباب على نحوِ الاِستقلال والأصالةِ، وأمّا إذا اعتقد بأنَّها تؤثّر بإذن الله فإنّه سينتهي حينئذ إلى نتيجةٍ لا تُخرِجُه عَن مسيرِ التوحيد.

 

- يجوز لنا التوسل بالأسباب غير الطبيعيّة إذا لاحَظنا مطلبين:

1- إذا ثَبَتَ كونُ ذلك الشيء "وسيلةً" لنيل المقاصد الدنيويّة أو الأخروية بالكتاب أو السنة.

2- إذا لم نعتقد بأيّة أصالةٍ أو استقلال للوسائل والأسباب، بل اعتبرنا تأثيرها منوطاً بالإذنِ الإلَهي والمشيئةِ الإلهيّة.

 

- وَرَدَ التوسُّل بالأسماء والصفات الإلهيّة في الأدعية الإسلامية كثيراً.

 

- هناكَ أدلة كثيرة على وجود الارتباط بيننا وبين الأولياء الإلَهيين وهم أموات.

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

- ما هي حقيقة التوسّل؟

- ما هي حقيقة التوسّل بأسماء الله ؟

- كيف يمكن التوسّل بالأموات؟ وما الدليل على صحّة ذلك؟

398


334

الدرس السابع والثلاثون: التوسّل

 للمطالعة

 

في التوسُل

كان الإمام الصادق عليه السلام أكثر ما يلحّ في الدعاء على الله بحقّ الخمسة: النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والأمير عليه السلام، والزهراء، والحسنين عليهم السلام.

 

وعن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام: "إنّ عبداً مكث في النار سبعين خريفاً، والخريف: سبعون سنة، ثمّ إنّه سأل الله تعالى بحقّ محمّد وأهل بيته لما رحمتني، فأوحى الله إلى جبرئيل أن اهبط إلى عبدي فأخرجه، فقال له تعالى: يا عبدي كم لبثت في النار؟ فقال: لا أُحصي يا ربّ، قال: وعزّتي وجلالي، لولا ما سألتني به لأطلت هوانك، ولكنّي ضمنت على نفسي أن لا يسألني عبد بحقّ محمّد وأهل بيته إلا غفرت له ما كان بيني وبينه، وقد غفرت لك اليوم"[1].

 

والكلمات اللاتي تلقّاها آدم من ربّه، وسأله بحقّها أن يتوب عليه فتاب عليه: محمّد، وعليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين عليهم السلام، فإنّه سأله بحقّهم أن يتوب عليه. وهي الكلمات الَّتي ابتلي بها إبراهيم حيث دعا الله تعالى بحقّهم أن يتوب عليه، فتاب عليه.




[1] الصدوق، الأمالي، ص 771.

399


335

الدرس الثامن والثلاثون: الرجعة

 الدرس الثامن والثلاثون: الرجعة

 

 

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن: 

1- يبيّن حقيقة الرجعة.

2- يبيّن إمكانية وقوع الرجعة وتحقّقها.

3- يذكر الأدلّة على وقوعها في المستقبل.

401


336

الدرس الثامن والثلاثون: الرجعة

 مقدّمة

قضيّة الرّجعة التي تحدّثت عنها بعض الآيات القرآنيّة والأحاديث المرويّة عن أهل بيت الرسالة، ممّا تعتقد به الشيعة من بين الأمّة الإسلاميّة - وليس هذا بمعنى أنّ مبدأ الرجعة يُعدُّ واحداً من أصول الدين، وفي مرتبة الاعتقاد بالله وتوحيده، والنبوة والمعاد، بل إنّها تُعَدُّ من المسلّمات القطعيّة.

 

حقيقة الرجعة

الرّجعة في اللُّغة ترادف العودة، وتطلق اصطلاحاً على عودة الحياة إلى مجموعة من الأموات بعد النهضة العالميّة للإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وهذه العودة تتم بالطبع قبل حلول يوم القيامة. وطبقاً لهذا المبدأ، فالحديث عن العودة، يُعَدُّ من أشراط القيامة.

 

وعلى ضوء ذلك، فظهور الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف شيءٌ، وعودة الحياة إلى مجموعة من الأموات شيء آخر، كما أن البعث يوم القيامة أمر ثالث، فيجب تمييزها وعدم الخلط بينها.

 

كلمات بعض العلماء في الرجعة

قال الشيخ المفيد: "إنّ الله تعالى يحشر قوماً من أمة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، بعد موتهم، قبل يوم القيامة، وهذا مذهب يختص به آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، والقرآن شاهد به"[1].




[1] المجلسي، بحار الأنوار، ج 53، ص 136.

403


337

الدرس الثامن والثلاثون: الرجعة

 وقال المرتضى متحدّثاً عن الرجعة عند الشيعة: "اعلم أنّ الذي تذهب الشيعة الإمامية إليه، أنّ الله تعالى يعيد عند ظهور إمام الزمان، المهدي عليه السلام، قوماً ممن كان قد تقدّم موته من شيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته، ومشاهدة دولته، ويعيد أيضاً قوماً من أعدائه لينتقم منهم، فيلتذوا بما يشاهدون من ظهور الحق وعلو كلمة أهله"[1].

 

وقال العلامة المجلسي: "والرجعة إنما هي لممحضي الإيمان من أهل الملّة، وممحضي النفاق منهم، دون من سلف من الأمم الخالية"[2].

 

فالاعتقاد بالرجعة من الأمور القطعيّة المسلّم بها، والروايات الكثيرة الواردة عن الأئمة المعصومين لا تُبقي أي مجال للشك في وقوعها.

 

يقول العلامة المجلسي: "كيف يشك مؤمن بحقيّة الأئمة الأطهار فيما تواتر عنهم فيما يقرب من مائتي حديث صريح، رواها نيّف وثلاثون من الثقات العظام، في أزيد من خمسين من مؤلفاتهم كثقة الإسلام الكليني والصدوق و..."[3].

 

وقد وصف الشيخ الحرّ العاملي الروايات المتعلّقة بالرجعة بأنها أكثر من أن تعدّ وتحصى وأنّها متواترة معنىً[4].

 

هذه بعض كلمات كبار علماء الشيعة ومحدثيهم حول الرجعة، ويقع الكلام في مقامين:

الأول: إمكان الرجعة.

الثاني: الدليل على وقوعها في هذه الأمة.




[1] المرتضى، الرسائل، تحقيق: أحمد الحسيني، قم- إيران، مطبعة سيد الشهداء، 1405هـ، ج1، ص125.

[2] المجلسي، بحار الأنوار، ج53، ص138.

[3] م.ن، ج53، ص122.

[4] الحر العاملي، الإيقاظ من الهجعة، تحقيق: مشتاق المظفر، ص 89، الباب الثاني، الدليل الثالث.

404


338

الدرس الثامن والثلاثون: الرجعة

 إمكان الرجعة

يكفي في إمكان الرجعة، إمكان بعث الحياة من جديد يوم القيامة، فإنّ الرجعة والمعاد، ظاهرتان متماثلتان ومن نوع واحدٍ مع فارق أنّ الرجعة محدودة كيفاً وكمّاً، وتحدث قبل يوم القيامة، بينما يبعث جميع الناس يوم القيامة ليبدأوا حياتهم الخالدة.

 

وعلى ضوء ذلك، فالاعتراف بإمكان بعث الحياة من جديد يوم القيامة، ملازم للاعتراف بإمكان الرجعة في حياتنا الدنيوية. وحيث إنّ حديثنا مع المسلمين الذين يعتبرون الإيمان بالمعاد من أصول شريعتهم، فلا بدّ لهؤلاء إذن من الاعتراف بإمكانية الرجعة.

 

أضف إلى ذلك أنّه قد وقعت الرجعة في الأمم السالفة كثيراً، وقد تحدّثنا عنه عند ذكر شواهد من إحياء الموتى في الأمم السالفة نظير:

1- إحياء جماعة من بني إسرائيل[1].

2- إحياء قتيل بني إسرائيل[2].

3- موت ألوف من الناس وبعثهم من جديد[3].

4- بعث عُزَيْر بعد مائة عام من موته[4].

5- إحياء الموتى على يد النبيّ عيسى عليه السلام[5].

 

وبعد وقوع الرجعة في الأمم السالفة، هل يبقى مجال للشك في إمكانها؟

 

وتصوُّر أنّ الرجعة من قبيل التناسخ المحال عقلاً، تصوُّر باطلٌ، لأنّ التناسخ عبارة عن رجوع الفعلية إلى القوة، ورجوع الإنسان إلى الدنيا عن طريق النطفة،




[1] سورة البقرة، الآيتان 55 و 56.

[2] سورة البقرة، الآيتان 72 و 73.

[3] سورة البقرة، الآية 243.

[4] سورة البقرة، الآية 259.

[5] سورة آل عمران، الآية 49.

405


339

الدرس الثامن والثلاثون: الرجعة

 والمرور بمراحل التكوُّن البشري من جديد، ليصير إنساناً مرة أخرى، سواء أدَخَلَتْ روحُه في جسم إنسان أم حيوان، وأين هذا من الرجعة وعود الروح إلى البدن المتكامل من جميع الجهات، من دون أن يكون هناك رجوع إلى القوة بعد الفعلية.

 

أدلة وقوع الرجعة

يدل على وقوع الرجعة في هذه الأمّة قوله تعالى: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ[1].

 

لا يوجد بين المفسّرين من يشك بأنّ الآية الأولى تتعلّق بالحوادث التي تقع قبل يوم القيام، ويدل عليه ما روي عن النبي الأكرم من أنّ خروج دابة الأرض من علامات يوم القيامة، إلا أنّ هناك خلافاً بين المفسرين حول المقصود من دابة الأرض، وكيفيّة خروجها، وكيف تتحدث، وغير ذلك ممّا لا نرى حاجة لطرحه؟

 

روى مُسلم أنّه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات: خسفٌ بالمشرق، وخسْفٌ بالمغرب، وخسف في جزيرة العرب، والدخان، والدّجال، ودابّة الأرض، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، ونارٌ تخرج من قعر عدن ترحل الناس"[2].

 

إنّما الكلام في الآية الثانية، والحق أنّها ظاهرة في حوادث قبل يوم القيامة، وذلك لأنّ الآية تركز على حشر فوج من كل جماعة بمعنى عدم حشر الناس جميعاً، ومن المعلوم أنّ الحشر ليوم القيامة يتعلق بالجميع، لا بالبعض، يقول سبحانه: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا[3]. أفبعد هذا التصريح، يمكن تفسير ظرف الآية بيوم البعث والقيامة؟




[1]  سورة النمل، الآيتان 82 و 83.

[2]  مسلم، الصحيح، ج 8، كتاب الفتن، وأشراط الساعة، باب في الآيات التي تكون قبل الساعة، ص 179. 

[3] سورة الكهف، الآية 47.

406


340

الدرس الثامن والثلاثون: الرجعة

 وهناك قرينتان أخريان، تحقّقان ظرفها لنا، إن كنّا شاكين، وهما:

 

أولاً: إنّ الآية المتقدمة عليها تذكر للناس علامة من علامات القيامة، وهي خروج دابة الأرض، ومن الطبيعي، بعد ذلك أنّ حشر جماعة من الناس يرتبط بهذا الشأن.

 

ثانياً: ورد الحديث في تلك السورة عن القيامة في الآية السابعة والثمانين، أي بعد ثلاث آيات، قال سبحانه: ﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ[1].

 

وهذا يعرب عن أنّ ظرف ما تقدم عليها من الحوادث يتعلق بما قبل هذا اليوم، ويُحقّق أنّ حشر فوج من الذين يكذبون بآيات الله يحدث حتماً قبل يوم القيامة، وهو من أشراط هذا اليوم، وسيقع في الوقت الذي تخرج فيها دابة من الأرض تكلم الناس.

 

ومن العجب قول الرازي بأنّ حشر فوج كلّ من أمّة سيقع بعد قيام الساعة[2]، فإنّ هذا الكلام خاوٍ لا يستند إلى أيّ أساس. وترتيب الآيات وارتباطها ببعضها، ينفيه، ويؤكّد ما ذهب إليه الشيعة من أنّ الآية تشير إلى حدثٍ سيقع قبل يوم القيامة. أضف إلى ذلك أنّ تخصيص الحشر ببعضٍ، لا يجتمع مع حشر جميع الناس يوم القيامة. نعم، الآية قد تحدثت عن حشر المكذبين، وأمّا رجعة جماعة أخرى من الصالحين فهو على عاتق الروايات الواردة في الرجعة. وأمّا كيفيّة وقوع الرجعة وخصوصياتها فلم يتحدّث عنها القرآن، كما هو الحال في كلامه عن البرزخ والحياة البرزخيّة.

 

ويؤيّد وقوع الرّجعة في هذه الأمّة وقوعها في الأمم السالفة كما عرفت، وقد روى أبو سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لتتَّبِعُنّ سُنَنَ من كان قبلكم، شبراً




[1] سورة النمل، الآية 87.

[2] ابن حنبل، المسند، ج3، ص94.

407


341

الدرس الثامن والثلاثون: الرجعة

 بشبر، وذراعاً بذراع. حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموه. قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟[1].

 

وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تُؤخذ أمّتي بأخذ القرون قبلها، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، فقيل: يا رسول الله: كفارس والروم، قال: وَمَنِ الناس إلّا أولئك؟"[2].

 

وروى الشيخ الصدوق رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كل ما كان في الأمم السابقة فإنه يكون في هذه الأمة مثله، حذو النعل بالنعل، والقذّة بالقذة"[3].

 

وبما أنّ الرجعة من الحوادث المهمّة في الأمم السالفة، فيجب أن يقع نظيرها في هذه الأمّة أخذاً بالمماثلة، والتنزيل. وقد سأل المأمون العباسيّ، الإمام الرضا عليه السلام عن الرّجعة فأجابه، بقوله: إنّها حقّ، قد كانت في الأمم السالفة، ونطق بها القرآن، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يكون في هذه الأمّة كلّ ما كان في الأمم السالفة حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة"[4].

 

هذه هي حقيقة الرجعة ودلائلها، ولا يدّعي المعتقدون بها أكثر من هذا، وحاصله عودة الحياة إلى طائفتين من الصالحين والطالحين، بعد ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، وقبل وقوع القيامة. ولا ينكرها إلّا من لم يمعن النظر في أدلّتها[5].




[1] البخاري، الصحيح، كتاب الإعتصام بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ج 9، ص 112.

[2]  م.ن، ج 9، ص 102، وكنز العمّال، ج 11، ص 133.

[3] الصدوق، كمال الدين، ص345.

[4] المجلسي، بحار الأنوار، ج 53، ص 59، الحديث 45.

[5] بقي هنا بحثان: من هم الراجعون. ما هو الهدف من إحيائهم.
وإجمال الجواب عن الأول أن الراجعين لفيف من المؤمنين ولفيف من الظالمين.

 وإجمال الجواب عن الثاني ما جاء في كلام السيد المرتضى المنقول آنفاً، حيث قال: "إن الله تعالى يعيد عند ظهور إمام الزمان، المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، قوماً ممن كان تقدم موته من شيعته ليفوزوا  بثواب نصرته ومعونته، ومشاهدة دولته، ويعيد أيضاً قوماً من أعدائه لينتقم منهم... إلى آخر كلامه".

 لاحظ تفصيل جميع ذلك في البحار، ج 53. والإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة، للشيخ الحر العاملي.

 

408


342

الدرس الثامن والثلاثون: الرجعة

 المفاهيم الرئيسة

- قضيّة الرجعة التي تحدثت عنها بعض الآيات القرآنية والأحاديث المروية عن أهل بيت الرسالة، ممّا تعتقد به الشيعة من بين الأمة الإسلامية.

 

- الرجعة في اللُّغة ترادف العودة، وتطلق اصطلاحاً على عودة الحياة إلى مجموعة من الأموات بعد النهضة العالمية للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

- يكفي في إمكان الرجعة، إمكان بعث الحياة من جديد يوم القيامة.

 

- يدل على وقوع الرجعة في هذه الأمّة قوله تعالى: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ *  وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾.

 

- كيفيّة وقوع الرجعة وخصوصياتها لم يتحدث عنها القرآن، كما هو الحال في تحدثه عن البرزخ والحياة البرزخية.

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

- ما هي حقيقة الرّجعة؟ واذكر بعض كلمات العلماء في شأنها.

- هل تعتبر الرجعة ممكنةً؟ بيّن ذلك.

- اذكر الأدلة والقرائن التي تفيد إمكان الرجعة ووقوعها مستقبلًا.

409


343

الدرس الثامن والثلاثون: الرجعة

 للمطالعة

 

النبيّ موسى عليه السلام والرجعة

﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[1]. هاتان الآيتان تذكران بني إسرائيل بنعمة إلهية أخرى، كما توضحان في الوقت نفسه روح اللجاج والعناد في هؤلاء القوم، وتبيان ما نزل بهم من عقاب إلهي، وما شملهم الله به من رحمة بعد ذلك العقاب. تقول الآية الأولى: وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.هذا الطلب قد ينم عن جهل بني إسرائيل، لأن إدراك الإنسان الجاهل لا يتعدى حواسه. ولذلك يرمي إلى أن يرى الله بعينه.أو قد يحكي هذا الطلب عن ظاهرة لجاج القوم وعنادهم التي يتميزون بها دوماً.

 

على أي حال، طلب بنو إسرائيل من نبيهم بصراحة أن يروا الله جهرة، وجعلوا ذلك شرطاً لإيمانهم عندئذ شاء الله سبحانه أن يرى هؤلاء ظاهرة من خلقه لا يطيقون رؤيتها، ليفهموا أن عينهم الظاهرة هذه لا تطيق رؤية كثير من مخلوقات الله، فما بالك برؤية الله سبحانه نزلت الصاعقة على الجبل وصحبها برق شديد ورعد مهيب وزلزال مروع، فتركهم، على الأرض صرعى من شدة الخوف فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون. اغتم موسى لما حدث بشدة، لأن هلاك سبعين نفراً من كبار بني إسرائيل، قد يوفر الفرصة للمغامرين من أبناء القوم أن يثيروا ضجة بوجه نبيهم. لذلك تضرع موسى إلى الله أن يعيدهم إلى الحياة، فقبل طلبه وعادوا إلى الحياة: ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون[2].




[1] سورة البقرة، الآيتان 55 و 56.

[2] الشيرازي، سلسلة أصول الدين، ج1، ص230.

410


344

الدرس التاسع والثلاثون: صيانة الآثار الإسلامية

 الدرس التاسع والثلاثون: صيانة الآثار الإسلامية

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يذكر ما حكاه القرآن في حفظ تراث الأنبياء.

2- يبيّن مشروعيّة زيارة القبور من خلال القرآن والسنّة.

3- يوضّح ما هو المقصود من الغلو.

411


345

الدرس التاسع والثلاثون: صيانة الآثار الإسلامية

 منافع حفظ آثار السابقين

يسعى كلُّ العقلاء في العالَم في حفظ آثار عظمائهم، وأسلافِهمْ، ويحمونها من الاندثار والزوال بحجّة كونها "تراثاً فكريّاً" وآثاراً حضاريّة، وتجتهدُ الأممُ المتحضّرة والراقية في حفظ الآثار الوطنيّة القديمة وما خلّفه أسلافُها من مفاخر جديرة بالاعتزاز، لأنّ آثار الأسلاف هي في الحقيقة حلقة الوصل بين القديم والجديد، والماضي والحاضر، وهي ترسم حركة الشّعوب والأمم في مسار التقدّم والرقيّ، وتضيء لها الطريق، والسبيل.

 

ثم إنّ الآثارَ القديمةَ إذا كانت ترتبط بالرّسلِ والأنبياء عليهم السلام فإنّ الحفاظَ عليها وحراستَها ـ مضافاً إلى ما ذُكِرَ من الفائدة ـ تساعد بصورةٍ قويةٍ في المحافظة على اعتقاد الناس وإيمانهم بأُولئك الرسُل والأنبياء، ويكون لها أبلغ الأثر في تقوية دعائِمها، وتجذيرها وتأصيلها، بينما يؤدّي زوالُها، واندثارها بعد مدّة إلى انقداح روح الشك، والريب في نفوس أتباعهم، ويعرض أصلَ الموضوع لخطر الغموض، والإبهام، والنسيان والضياع.

 

وللمثال نشير إلى المجتمع الغربي، فإنّ الناس في هذا المجتمع وإن اصطبغت حياتهم بالصبغة الغربية، وأخذوا بآدابها وأخلاقها تماماً، ولكنهم في مجال العقيدة مدّوا أيديهم نحو الشرق، واعتنقوا الدين المسيحي وخضعوا لسلطانه ردحاً

413


346

الدرس التاسع والثلاثون: صيانة الآثار الإسلامية

 من الزمن بيد أنّهم مع تغيّر الأوضاع، وتنامي روح البحث والتحقيق لدى الشباب الغربيّ بدأ الشك والترديد يدَبُّ في نفوسهم، وباتوا يشكّون في أصل وجود السيد "المسيح" عليه السلام إلى درجة أنّهم على أثر عدم وجود آثار ملمُوسة من السيّد "المسيح" عادوا يعتبرونه أُسطورةً تاريخيّةً.

 

في حين أنّ المسلمين ظلّوا في منأى عن مثل هذه الحالة، فقد حافظوا على طول التاريخ وبكلّ فخر واعتزاز على الآثار المتبقّية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبنائه من خطر الاندثار، والزوال بسبب الحوادث.

 

فالمسلمون يَدّعُون أنّ شخصيّة نبيلة طاهرةً اختيرت قبل أربعة عشر قرناً للنبوة وللرسالة، وقام ذلك النبي بمعونة برنامجه الراقي جداً بإصلاح المجتمع، وأوجد في ذلك المجتمع تحوّلاً عظيماً، وانقلاباً عميقاً، وأسّس حضارة كبرى لا يزال المجتمع يستفيد من معطياتها، وثمارها، ولا سبيل للشك قط في وجود مثل هذه الشخصيّة المُصلِحة، ولا في الحضارة التي أسّسها وأرسى قواعدها، لبقاء آثاره إلى هذا اليوم، فمحل ولادته، ومكان عبادته ومناجاته، والنقطةُ التي بُعثَ فيها، والنقاط الأخرى التي ألقى فيها خُطَبَه، والأماكن التي دافع فيها عن عقيدته ورسالته، والرسائل التي تبودلت بينه وبين ملوك العالم وحكام الدُّول في عصره، والعشرات بل المئات من آثاره، والعلائم الدالة عليه، باقية من دون أنْ تمسّها يدُ التغيير، ومن دون أن تطالها معاول الزوال، فهي محسوسةٌ ومشهودة للجميع.

 

حفظ آثار الأنبياء وتراثهم في القرآن الكريم

وهذا البيان يمكن أن يوضّح أَهميّة حفظ الآثار من جهة التفكير الاجتماعي ودورها في هدايته وقيادته. وهو أمر أيّدته النصوص القرآنيّة وسيرة المسلمين، فقد قال تعالى في القرآن الكريم: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ *  رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ

414


347

الدرس التاسع والثلاثون: صيانة الآثار الإسلامية

 يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾[1].

 

وليس المراد من لفظِ "البيوت" الواردِ في هذه الآية "المساجد" لأنّ البيوت جاءَ في القرآن الكريم في مقابل المساجد، لأنّ "المسجد الحرام" غير "بيت الله الحرام" فالبيوتُ في هذه الآية يراد منها بيوتُ الأنبياء، وخاصة بيت الرسولِ الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وذرّيته الطاهرة.

 

فقد روى السيوطيّ في تفسيره "الدرّ المنثور": عن أنس بن مالك، وبرَيدة، قالَ: "قرَأَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية، فقام إليه رجلٌ فقال: أيُّ بُيوتٍ هذِهِ يا رسُول اللهِ؟  قال: بيوت الأنبيا. فقام إليه أبو بكر فقال: يارسول الله هذا البيت منها؟ مشيراً إلى بيت علي وفاطمة، قال: نعم من أفاضلها"[2]. والآن - بعد أنْ اتّضح المرادُ من "البيوت" - لا بدّ من توضيح المراد من "ترفيع البيوت".

 

إنّ هناك احتمالين في هذا المجال:

1- الترفيع: بمعنى بناءِ البيوت وتشييدها، كما جاء هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ[3].

 

2- الترفيع: بمعنى احترام تلك البيوت وحراستها، والمحافظة عليها.

 

فعلى المعنى الأوّل، حيث إنّ بيوت الأنبياء قد بُنِيَت قبلَ ذلك، لهذا لا يمكن أن يكون المراد من الترفيع في الآية الحاضرة هو إيجاد البيوت، بل المراد هو حفظها من الانهدام والزوال.

 

وبناءً على المعنى الثاني، يكون المراد من حفظ تلك البيوت هو ـ مضافاً إلى صيانتها من الخراب والانهدام ـ حفظها من أيّ نوع من أنواع التلوث المنافي لقداستها وحرمتها.



[1] سورة النور، الآيتان 36 و 37.

[2] السيوطي، الدر المنثور، ج 5، ص 50.

[3] سورة البقرة، الآية 127.

415


348

الدرس التاسع والثلاثون: صيانة الآثار الإسلامية

 وعلى هذا الأساس يجب على المسلمين السعيُ في تكريم، وحراسة البيوت المرتبطة بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وعليهم أنْ يعتبروا هذا العمل أمراً قربيّاً، أي مقرّباً إلى الله سبحانه. ثم إنّه يُستفاد من الآية التي تدورُ حول أصحاب الكهف أنّه عندما اكتُشفَ موضعُ اختفائهم، اختلف الناس في كيفية تكريمهم فصاروا فريقين: فريق قالوا: يجب البناء على قبرهم بغية تكريمهم. وفريق آخر قالوا: يجب بناء مسجد على مرقدهم، وقد أخبر القرآنُ الكريم بكلا الاقتراحين، وكلا الرأيين، ولو كان هذا العمل، أو ذلك مخالفاً لأصول الإسلام لأخبر بهما بنحوٍ آخرٍ، ولتناوَلهما بالنقد. ولكنه رواهما من دون نقدٍ، إذ قال: ﴿إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا[1].

 

إنّ هاتين الآيتين (مع ملاحظة سيرة المسلمين المستمرة من عصر رسول الإسلام إلى هذا اليوم والمستقرة على حفظ هذه الآثار، والمحافظة على البيوت المرتبطة برسول الله وأهل بيته المطهرين وحراستها) دليل واضحٌ وبرهان قاطع على كون هذا الموقف موقفاً إسلامياً، وأصلاً شرعياً.

 

ولهذا تقوم مسألة تعمير مراقد الأنبياء ـ وبصورة خاصّة مراقد رسولِ الله وعترتهِ الطاهِرة صلوات الله عليهم ـ وبناءِ المساجد عليها، أو إلى جانبها، على أساس هذا الأصل الإسلامي.

 

زيارة قبور المؤمنين

تُعتبر زيارةُ قبور المؤمنين، وبخاصّة قبور الأقرباء والأبناء منهم، من الأصول الإسلامية التي تنطوي على آثار تربويّة في نفس زائريها، وذلك لأنّ مشاهدة تلك الديار الصامتة التي يرقد فيها أُناس كانوا قبل ذلك يعيشون في الدنيا، ويقومون بمختلف النشاطات، ولكنّهم أصبحوا بعد حين أجداثاً خامدة، وجثثاً هامدة، جديرة




[1] سورة الكهف، الآية 21.

416


349

الدرس التاسع والثلاثون: صيانة الآثار الإسلامية

 بأن تهزَّ الضمير، وتوقظ القلوب، وتنبّه الغافلين، وتكون درس عبرة لا ينسى.

 

فإنّ من يشاهد هذا المنظر سيحدّث نفسه قائلاً: وما قيمة هذه الحياة الدنيا التي سرعان ما تنتهي، وتكون مآلُها موت الإنسان ورقوده تحت التراب. هل يستحق العيش في مثل هذه الدنيا الفانية أن يقوم فيها الإنسان من أجله بأعمالٍ ظالمة، وممارسات فاسدةٍ؟

 

إنّ هذا التساؤل الذي يواجهه ضميرُ الإنسان المفكّر في مصير البشر، سيدفع به إلى إعادة النظر في سلوكه وممارساته، وسيؤدِّي ذلك إلى حصول تحوّلٍ كبيرٍ في روحه ونفسه. وقد أشارَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا الأثر الهامّ، إذ قال في حديث شريف: "زُورُوا القبورَ فإنّها تذَكِّرُكُم بِالآخِرَةِ"[1].

 

ثم إنّه مُضافاً إلى هذا تُعتبر زيارةُ مراقد أئمة الدين وقادته نوعاً من الترويج للقيم الدينيّة، والمعنويّة، كما أنّ اعتناءَ الناس بمراقد أُولئك الشخصيّات سيُقوّي لديهم الفكرة التالية، وهي أنّ الحالة المعنوية التي كانت تلك الشخصيات تتمتّع بها هي التي جذبت قلوب الناس إليهم، وهي التي رفعتهم إلى تلك المنزلة العظيمة التي حازوا بها احترام الناس وتكريمهم لهم، إذ رُبّ رجال من أصحاب السلطان والقوّة يرقدون تحت التراب دون أن يحظوا بمثل هذه العناية والاحترام من قِبَل الناس.

 

ولقد كانَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذهبُ في أُخريات حياته إلى البقيع، ويستَغْفر لأصحاب القبور، ويقول: "أَمَرَني رَبّي أنْ آتي البَقيعَ وأستَغْفِرَ لَهمْ" ثم قالَ: إذا زُرْتُمُوهُمْ فقولوا: "السلامُ على أهْلِ الدّيارِ مِنِ المُؤمِنِين والمُسْلِمين يَرحَمُ اللهُ المُسْتقدِمِينَ مِنّا والمُسْتَأخِرِين، وإنّا إنْ شاءَ الله بكم لاحِقُون"[2].




[1] القزويني، سنن ابن ماجة، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت - لبنان، دار الفكر، ج 1، باب ما جاء في زيارة القبور، ص 500.

[2] مسلم، الصحيح، ج 2، باب ما يقال عند دخول القبور، ص 64.

 

417


350

الدرس التاسع والثلاثون: صيانة الآثار الإسلامية

 وقد اعتُبرت زيارَةُ قُبور أولياء الله وأئمّة الدين ـ في كُتبِ الحديث ـ من الأعمال المستحبَّة المؤكدة، وكان أئمة أهلِ البيت يَذهَبُون دائماً لزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم من الاَئمة المتقدمين عليهم، وكانوا يحثُّون أتْباعَهم على هذا العمل.

 

المنع عن الغلو

تقع مسألة الغلو في أولويات الكلام عن حفظ الآثار الإسلامية، وذلك لأن الغلو يعمل على تغيير معالم تلك الآثار وتحويرها بما لا يتناسب مع المسلمات والأصول، بل فإن الغلو يأتي في مقابل حفظ تلك الآثار، وبالتالي لا بدّ من بيان حقيقته.

 

"الغُلُوّ" في اللُّغة هو التجاوز عن الحدّ، وقد خاطب القرآنُ الكريمُ أهلَ الكتاب قائلاً: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ[1].

 

ولقد خاطَبهم القرآنُ بهذا الخطاب لأنّهم كانُوا يغالُون في حق السيّد "المسيح" ويتجاوزون الحدّ، إذ يقولون إنّه إلَهٌ، أو ابنُ الله، أو ربّ.

 

وقد ظَهَرتْ بعد وفاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم فرقٌ وطوائفُ غالَت فيه صلى الله عليه وآله وسلم أو في الأئمة المعْصُومين، من بعده وتجاوزت الحدَّ، ووصفوهم بمقامات مختصَّة بالله وحده، ومن هنا سُمّي هؤلاء بالغُلاة، لتجاوزِهم حدود الحق.

 

يقولُ الشيخُ المفيد: "الغُلاة من المتظاهرين بالإسلام همُ الذين نَسَبوا أمير المؤمنين إلى الألُوهية والنبوَّة، ووصفوهم من الفضلِ في الدين والدنيا، إلى ما تجاوزوا فيه الحدَّ، وخَرَجُوا عن القصد"[2].

 

ويقول العلاّمةُ المجلسيّ: إنّ الغُلُوّ في النبيّ والأئمّة: إنّما يكون بالقول بأُلُوهيتهم، أو بكونهم شركاء لله تعالى في المعبوديّة، أو في الخلق، والرزق، أو أنّ الله تعالى حلَّ فيهم، أو اتّحدَ بهم، أو أنّهم يعلمون الغيب بغير وحيٍ أو إلهامٍ من الله تعالى، أو




[1] سورة النساء، الآية 171.

[2] المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامية، ص 131.

418


351

الدرس التاسع والثلاثون: صيانة الآثار الإسلامية

 بالقولِ في الأئمّة أنّهم كانوا أنبياء، أو القول بأنّ معرفتهم تُغني عن جميع الطاعات، ولا تكليف معها بترك المعاصي[1].

 

ولقد تبرَّأَ الإمام عليٌّ وأبناؤُهُ الطاهرون صلوات الله عليهم من الغلاة، وكانوا يلعنونهم على الدّوام، ونحن هنا نكتفي بإدراج حديثٍ واحدٍ في هذا المجال.

 

يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "احذَرُوا على شَبابِكُمُ الغُلاةَ لا يُفْسدُوهُمْ، فإنَّ الغلاةَ شرُّ خلقِ اللهِ، يُصغِّرونَ عظمةَ اللهِ ويَدَّعُون الربوبيّة لِعبادِ اللهِ"[2].

 

ولهذا لا قيمة لتظاهر الغُلاة بالإسلام، فهم عند أئمةِ الدين كفارٌ ضُلاَّلٌ.

 

هذا ومن الجدير بالذِكر هنا أنْ يقال: كما يجب الاجتنابُ حتماً عن الغلوّ، يجب أن لا نعتبر كلَّ تصوّرٍ واعتقادٍ في حقّ الأنبياء، وأولياء الله غُلوّاً، ويجب الاحتياط في هذا المجال كبقيّة المجالات الأخرى، وتقييم العقائد بشَكل صحيح.



[1] المجلسي، بحار الأنوار، ج 25، ص 347.

[2] م.ن، ج25، ص265، ح6.

419


352

الدرس التاسع والثلاثون: صيانة الآثار الإسلامية

 المفاهيم الرئيسة

- يسعى كلُّ العقلاء في العالَم في حفظ آثار عظمائهم، وأسلافِهمْ، ويحمونها من الاندثار والزوال بحجّة كونها "تراثاً فكرياً" وآثاراً حضاريّة.

 

- إنّ الآثارَ القديمةَ إذا كانت ترتبط بالرّسلِ والأنبياء فإنّ الحفاظَ عليها وحراستَها تساعد بصورةٍ قويّةٍ في المحافظة على اعتقاد الناس وإيمانهم بأُولئك الرسُل والأنبياء.

 

- حفظ الآثار أمر أيّدته النصوص القرآنيّة وسيرة المسلمين.

 

- تُعتبر زيارةُ قبور المؤمنين، وبخاصّة قبور الأقرباء والأبناء منهم، من الأصول الإسلامية التي تنطوي على آثار تربويّة في نفس زائريها.

 

- "الغُلُوّ" في اللُّغة هو التجاوز عن الحدّ.

 

- وقد خاطب القرآنُ الكريمُ أهلَ الكتاب قائلاً: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ[1]، وذلك لأنّهم كانُوا يغالُون في حق السيّد "المسيح" ويتجاوزون الحدّ، إذ يقولون إنّه إلَهٌ، أو ابنُ الله، أو ربّ.

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- كيف بيّن القرآن ضرورة حفظ تراث الأنبياء عليهم السلام؟ بيّن ذلك.

2- هل يوجد دليل على مشروعية زيارة القبور؟ اذكر ذلك.

3- اذكر آية قرآنيّة تنهى عن الغلو. واشرحها.




[1] سورة النساء، الآية 171.

420


353

الدرس التاسع والثلاثون: صيانة الآثار الإسلامية

 للمطالعة

 

زيارة القبور

عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إذا كان يوم الجمعة فزرهم، فإنه من كان منهم في ضيق وسع عليه ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يعلمون بمن أتاهم في كل يوم، فإذا طلعت الشمس كانوا سدى، قلت: فيعلمون بمن أتاهم فيفرحون به؟ قال: نعم ويستوحشون له إذا انصرف عنهم".

 

بيان: السدى بالضم ويفتح: المهمل، ولعل المعنى: أنهم يوم الجمعة بعد طلوع الشمس أيضاً مهملون غير معذبين، أو المعنى أنه يوسع عليهم في يوم الجمعة أو الزيارة في يوم الجمعة تصير سبباً لذلك. وقوله: "ما بين طلوع الفجر استيناف كلام. أي في كل يوم يطلعون على زوارهم في ذلك الوقت لأنهم في القبور فإذا طلعت الشمس يرخص لهم فيخرجون من قبورهم"[1].




[1] المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص256.

421


354

الدرس الأربعون: مصادر الحديث وحجيّتها

 الدرس الأربعون: مصادر الحديث وحجيّتها

 

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن: 

1- يعدّد مصادر علم الأئمّة عليهم السلام.

2- يبيّن حجية الأحاديث المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام.

3- يبيّن أهميّة المجاميع الحديثية الأربعة لدى الشيعة.

423


355

الدرس الأربعون: مصادر الحديث وحجيّتها

 مقدمة

يَعملُ الشيعة الإمامية في العَقائد والأصول بأحاديث مرويّةٍ عن رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق ثقات يُعتَمَد عليهم، سواء أكانت هذه الروايات والأحاديث. في كتب الشيعة أم في كتب أهل السُّنّة.

 

من هنا ربّما استَنَد الشيعة في كتبهم الفقهيّة إلى رواياتٍ منقولة عن طريق رواة من أهل السّنة أيضاً، ويُسمّى هذا النوع من الحديث الذي تُصَنَّف أقسامه على أربعة أقسام، بالموثّق.

 

وعلى هذا فإنّ ما يرمي به البعض من المغرضين "الشيعةَ الإماميةَ" في هذا المجال لا أساس له من الصحّة مطلقاً.

 

إنّ الفقه الشيعيَّ الإماميَّ يقوم أساساً على الكتاب والسُّنّة، والعقل، والإجماع. والسُّنَّة عبارة عن قول المعصومين وفعلهم وتقريرهم وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وعلى هذا إذا روى شخصٌ ثقة حديثاً عن رَسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واشتمل ذلك الحديثُ على قولِ النبي، أو فعله، أو تقريره، كانَ معتبراً في نظر الشيعة الإمامية وتلقّوه بالقبول وعملوا وفقه.

 

وما نجده في مؤلّفات الشيعة ومصنّفاتهم شاهدُ صدق على هذا القول، ويجبُ أن نقول: إنَّه ليس هناك أيُّ فرقٍ بين كتب الشيعة في الحديث، وكتب أهل السنّة في الحديث، في هذا المجال، إنّما الكلام هو في تشخيص من هو الثقة، وفي درجة اعتبار الراوي.

425


356

الدرس الأربعون: مصادر الحديث وحجيّتها

 حجيّة الأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام

إنّ الأحاديث والرّوايات التي تُنْقَل عن أئمة أهل البيت المعصومين بأسنادٍ صحيحة، حجّةٌ شرعيّة، ويجب العمل بمضمونها، والإفتاء على أساسها.

 

إنّ أئمة أهل البيت: ليسوا بمجتهِدين أو "مفتين" - بالمعنى الاصطلاحيّ الرائج للَّفظَتين - بل كلُّ ما يُنقَلُ عنهم حقائق حَصَلوا عليها من الطُرُقِ التالية:

1- النَقْل عن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:

إنّ الأئمّة المعصومين: أخَذَوا أحاديثهم من جَدّهمْ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم (خَلفاً عن سَلَف وكابِراً عن كابر) ثم رووها للنّاس. وإنّ هذا النَوع من الأحاديث والرِّوايات التي رَواها كلُّ إمام لاحق عن الإمام السابِق إلى أن يصل السَند إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة في أحاديث الشيعة الإمامية.

 

ولو أنّ هذه الأحاديث التي وردت عن أهل البيت واتصل سَنَدها ابرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جُمِعَت في مكانٍ واحدٍ لحصل مِنها مُسْنَدٌ كبيرٌ يُمثل كَنزاً عظيماً للمحدّثين، والفُقَهاء المسلمين، لأنّ مثل هذه الأحاديث والروايات بهذه الأسانيد المُحكَمة القَوِيّة لا نَظير لها في عالم الحَديث، ونشير إلى نموذج واحدٍ من هذه الأحاديث، ويسمّى بحديث "سلسلة الذهب" ويُقال إنّ السامانيّين كانوا يحتفظون بنسخةٍ منه في خزانتهم حبّاً منهم للأدب والعلم.

 

روى الشيخُ الصَّدوقُ، عن أبي سعيد محمّد بن الفَضل النيسابوري، عن أبي علي الحسن بن علي الخزرجي الأنصاري السعديّ، عن أبي الصَّلت الهَرَويّ، قال: كنتُ مع علي بن موسى الرّضا عليه السلام حين رَحَلَ من "نيسابور" وهو راكبٌ بغلةً شهباء، فاذا محمّد بن رافع، وأحمد بن حرب، ويحيى بن يحيى، وإسحاق بن راهويه، وعدّةٌ من أهل العلم، قد تَعَلَّقوا بلجام بغلته في المربعة فقالوا: بحقّ آبائِك المطهَّرين، حدّثنا بحديثٍ قد سَمِعته من أبيك، فأَخرَجَ رأسَه من العَمارية،

426


357

الدرس الأربعون: مصادر الحديث وحجيّتها

 وعَليه مِطرف خزٍّ ذو وجهين، وقال: "حَدَّثَني أبي العبدُ الصالح موسى بنُ جعفرٍ قال: حَدَّثني أبي الصادقُ جعفرُ بنُ محمّد قالَ: حَدَّثني أبي أبو جَعفر محمّد بنُ عليٍ باقر عِلمِ الأنبياء قالَ: حَدَّثَني أبي عليُّ بن الحسين زينُ العابِدين قالَ: حَدَّثني أبي سيدُ شبابِ أهلِ الجَنَّةِ الحسينُ قالَ: حَدَّثني أبي عليُّ بنُ أبي طالب قالَ: سَمعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: قالَ الله جَلَّ جَلالُه: لا إلَهَ إِلاّ اللهُ حِصْنِي فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أمنَ مِن عَذابي".

 

فلَما مَرَّتِ الراحِلةُ، نادانا: "بِشُروطِها، وأنا مِن شُروطِها"[1].

 

2- الرِواية من كتابِ عليٍّ عليه السلام:

لقد صاحَبَ عليٌّ عليه السلام رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم في فترةِ بعثته كلّها، ولهذا استطاع أن يحفظ ويدوّن قدراً عظيماً من أحاديث رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتاب، وفي الحقيقة كان ذلك الكتابُ من إملاءِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم وكتابة علي عليه السلام.

 

ولقد ذُكِرَت خُصوصيّات هذا الكتاب الذي صار بعد استشهاد الإمام علي عليه السلام إلى أهل بيته في أحاديث أهل البيت. يقول الإمام الصّادق عن هذا الكتاب: "طولُه سَبْعون ذراعاً، إملاء رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم قاله من فِلقِ فِيه، وخطّ علي بن أبي طالب عليه السلام بيده، فيه والله جميع ما تحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة"[2].

 

ومِنَ الجدير بالذّكِر أنّ هذا الكتاب بقيَ عند أهل البيت يتوارثه إمامٌ من إمامٍ، وقد نقل الإمام الباقر والإمام الصّادق عليه السلام رواياتٍ عديدةٍ منه وربّما أطلَعُوا بعضَ شيعتهم عليه.

 

ويوجَدُ قسمٌ كبير من أحاديثه الآن في المجاميع الحديثية الشيعية وبالأخص كتاب "وسائل الشيِعة".




[1] الصدوق، التوحيد، ص25، باب 1، الاَحاديث 21، 22، 23.

[2] المجلسي، بحار الأنوار، ج26، ص18، باب1، ح1.

427


358

الدرس الأربعون: مصادر الحديث وحجيّتها

 3- الإلْهاماتُ الإلهيّة:

 

إنّ لِعلومِ أهلِ البيت، مَنبعاً آخر يمكن أن نسَمّيه بالإلهام. والإلهامُ ليس مخصوصاً بالأنبياء، فقد كان في طول التاريخ من الشخصيات المقدَّسة مَن كان يحظى بهذا الإلهام، مع أنّهم لم يَكونوا أنبياء، وقد كانت تلقى إليهم بعضُ الأسرار من عالم الغيب، وقد أشار القرآنُ الكريمُ إلى ذلك عندما تَحدَّثَ عن مرافق النبيّ موسى (خضر) الّذي علّم موسى بعضَ الأشياء فقال: ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا[1].

 

كما وأنّه قال في شأن شخصٍ من حاشية النبيّ سليمان عليه السلام (وهو آصف بن برخيا) قال: ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ﴾[2].

 

إنّ هؤلاء الأشخاص لم يَتَعلَّموا علومَهم، ولم يَكتسبُوا مَعلوماتهم من طريق التعلّم، بل هو كما يُعَبّرُ عنه القرآنُ عِلْمٌ لَدُنيٌّ: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾.

 

وعلى هذا الأساس لا يكونُ عدم كون الشخص نبيّاً، مانِعاً من أن يحظى بالإلهام الإلَهيّ، كما يحظى بعضُ الأشخاص من ذوي الدَرَجات المعنويّة الرفِيْعَة بالإلْهامِ الإلَهيّ.

 

وقد أُطلق على هذا النَمَط من الأشخاص في أحاديث الفريقين وصف "المُحدَّث" يعني الّذين تَتَحَدّثُ معهم الملائكةُ من دون أن يكونوا أنبياء.

 

فقد رَوى البخاريُّ في صحيحِهِ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لَقَدْ كانَ فِيمَنْ كانَ قَبْلَكُمْ مِن بَني إِسْرائِيل يُكلَّمون مِن غَيرِ أنْ يَكُونُوا أنْبِياء"[3].



[1] سورة الكهف، الآية 65.

[2] سورة النمل، الآية 40.

[3] البخاري، الصحيح، ج4، ص200، باب مناقب المهاجرين وفضلهم.

428


359

الدرس الأربعون: مصادر الحديث وحجيّتها

 من هنا كان أئمة أهل البيت عليهم السلام لكونهم مراجعَ للأمة في بيان المعارف الإلهيّة، والأحكام الدينيّة، يجيبون على الأسئلة التي لا توجَد أجوبتها في أحادِيث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو في كتاب علي عليه السلام، من طريق "الاِلهام" والتعليم الغيبي، والعِلمِ اللَدُنِيّ.

 

المصادر الحديثيّة عند الشيعة

لقد قام علماءُ مدرسة أهل البيت وعلى طول التاريخ، بتأليف مجاميع حديثيّة كبيرة، ومدوَّنات تضمُّ الرّوايات والأخبار، جاءَ ذكرها في كتب الرجال، خاصّة في القرنِ الرابعِ والخامسِ الهجريّين، مستفيدين- في هذا الصعيد - من الكتب التي تمَّ تأليفُها وتدوينُها في عصر الأئمة، وعلى أيدي أصحابهم وتلامذتهم العَدِيدين.

 

الكتب الأربعة الجامعة

الكتب الحديثية الجامعة المدَوَّنة التي تعتَبَرُ اليومَ محوراً للعقائد والأحكام الشيعية هي عبارة عن:

 

1- "الكافي": تأليف محمّد بن يعقوب الكلينيّ (المتوفّى عام 329 هـ) في ثمانيّة أجزاء.

 

2- "مَنْ لا يَحْضرُه الفقيهُ": تأليف محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه المعروف بالصدوق (306 ـ 381 هـ) في أربعة أجزاء.

 

3- "التَهذيب": تأليف محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسيّ (385-460 هـ) في عشرة أجزاء.

 

4- "الاستبصار": تأليف المؤلف السابق، في أربعة أجزاء.

 

وهذه هي ثاني مجموعة من المجاميع الحديثيّة التي دوَّنها ونَظَّمها الشيعةُ، طوال التاريخ، بجهودِهِمُ الحثيثة حتى القرن الرابع والخامس الهجريّين، وقد أُلّفَتْ ـ كما ذكرنا ـ في عصر الأئمة أي القرن الثاني والثالث جوامع حديثيّة تُسمّى بِالجَوامع الأوَّليّة، بالإضافة إلى "الأصول الأربعمائة" وقد انتقلت محتوياتها إلى الجوامع الثانويّة.

429


360

الدرس الأربعون: مصادر الحديث وحجيّتها

 وحيثُ إنّ عِلمَ الحديث كانَ دائماً موضعَ اهتمام الشيعة، لذلك أُلّفَت في القرنِ الحادي عشر، والثاني عشر مجاميعُ حديثية أُخرى نترك ذكر أسمائها لعلّة الاختصار.

 

إلاّ أنّ أكثر هذه المجاميع شهرة هو "بحار الأنوار" للعلامة محمّد باقر المجلسي، ووسائل الشيعة لمحمّد بن الحسن الحرّ العاملي.

 

هذا ومن البديهيّ أنّ الشيعة لا تعمل بكل حديث، ولا تعمل بأخبار الآحاد، في العقائد، أو التي تخالف في مضمونها القرآنَ أو السّنة القطعيّة، وليست بحجّة عندهم، على أنّ مجرّد وجود الرواية في كتب الحديث عندهم لا يَدلُّ على اعتقاد المؤلّف بمفاده، بل الأحاديث تتنوَّع عند هذه الطائفة إلى صحيح وحَسَن، وموثَّق، وضعيف، ولكلِّ واحدٍ من هذه الأنواع أحكامٌ خاصّة، ودرجةٌ خاصّة من الاعتبار، وقد جاء بيان ذلك على وجه التفصيل في علم الدراية.

430


361

الدرس الأربعون: مصادر الحديث وحجيّتها

 المفاهيم الرئيسة

- روايات الشيعة الإمامية في العَقائد والأصول مرويّةٍ عن رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق ثقات يُعتَمَد عليهم.

 

- إنّ الفقه الشيعيَّ الإماميَّ يقوم على الكتاب والسُّنّة، والعقل، والإجماع.

 

- إنّ الأحاديث والرّوايات التي تُنْقَل عن أئمة أهل البيت المعصومين بأسنادٍ صحيحة، حجّةٌ شرعيّة، ويجب العمل بمضمونها، والإفتاء على أساسها.

 

- كلُّ ما يُنقَلُ عن المعصومين حقائق حَصَلوا عليها من الطُّرُقِ التالية:

1- النَقْل عن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم.

2- الرِواية من كتابِ عليٍّ عليه السلام.

3- الإلْهاماتُ الإلهيّة.

 

- إنّ الأحاديث النَبَويّة تحظى باعتبارٍ خاصٍّ، مثل القرآن الكريم، فالكتاب والسُّنّة كانا ولا يزالان من مصادر المسلمين الاعتقاديّة والفقهيّة.

 

- الكتب الأربعة الجامعة: "الكافي"، "مَنْ لا يَحْضرُه الفقيهُ"، "التَهذيب" "الاستبصار".

 

 

 

أسـئلـة الـدرس

1- ما هي الطرق التي تعتبر مصدر علم الأئمة عليهم السلام؟ اذكرها وتحدّث عن اثنتين منها بالتفصيل.

2- ما الكتب الأربعة عند الشيعة؟ اذكرها مع أسماء مؤلفيها؟

3- تحدّث عن الإلهامات الإلهية ودورها في التشريع؟.

431


362

الدرس الأربعون: مصادر الحديث وحجيّتها

 للمطالعة

 

التقليد

يجب على كلّ مسلم أن يحصِّلَ على اليقين في المسائل التي يجب أن يعتقدها، ولا يجوز له اتّباعُ الآخرين في هذه المسائل من دون أن يحصل له اليقين.

 

وحيث إنّ أُمّهات الأصول وكلّيات المسائل الاعتقادية محدودة ومعدودة ولكلّ منها أدلةٌ عقليةٌ واضحةٌ، لهذا فإنّ تحصيلَ اليقين للأشخاص في أُصول الدين وأساسيات العقيدة، قضيةٌ سهلة، في حين أنّ نطاق الفروع والأحكام الفقهية لما كان واسعاً جداً، والعلم بها يحتاج إلى مقدمات كثيرة، لا يقدر أغلبُ الأفراد على تحصيلها، لهذا فإنّ على أُولئك الأشخاص ـ بحكم الفطرة، وتبعاً لسيرة العقلاء ـ أن يرجعوا في أحكام الشريعة إلى العلماء والمجتهدين، ليقوموا في ضوء ذلك بواجباتهم الدينيّة، ووظائفهم الشرعية.

 

إنّ الإنسان - في الأساس - فاعلٌ عِلْمِيٌّ أي إنّه يقومُ بأعماله على أساس العلم والمعرفة، فإذا تيسَّر له أن حَصَل بنفسه على تلك المعلومات أخَذَ بها وعمل على ضوئِها، وإلاّ استعان بغيره.

 

وهنا لا بدّ من أن نعلم بأنّ التقليد للمجتهد الجامع للشرائط والرجوع إليه لمعرفة الوظيفة الشرعية، هو نوعٌ من الرجوع إلى المتخصّصِين، ولا علاقة له بالتقليد الأعمى الناشئ من العصبيّة القوميّة، أو العرقية أو ما شاكل ذلك.

432


363

الفهرس

 الفهرس

13

المقدمة

15

الدرس الأول: طرقُ المعرفة في الإسلام

17

مقدّمة

17

طرق المعرفة

19

دعوة الأنبياء والرسل عليهم السلام

20

حجّية العقل والوحي

21

العقل والوحي لا يتعارضان

25

الدرس الثاني: الكون في نظر الإسلام

27

الكون مخلوق لله

27

نظام الكون الحالي ليس أبديّاً

28

العلّة والمعلول

29

الوجود ليس مساوقاً للطبيعة المادية

29

خضوع الكون لهداية خاصة

30

الكون نظام كامل

30

الحكمة في خلق الكون

33

الدرس الثالث: الإنسان في نَظَر الإسلام

35

ماهيّة الإنسان

35

خلق الإنسان بفطرة سليمة

36

الإنسان كائن حر الإرادة

36

الإنسان مخلوق قابل للتربية والتأديب

5


364

الفهرس

  

37

 الإنسان كائن مسؤول

37

كرامة الإنسان

38

رؤية الإسلام للعقل الإنسانيّ

38

ملاك التفاضل بين الناس

39

ثبات الأسس الأخلاقية

40

الانسجام بين الحريّة الفرديّة ومبدأ التكامل المعنويّ

41

لا إكراه في الدين

45

الدرس الرابع: مراتب التوحيد (1) التوحيد في الذات والتوحيد في الصفات

47

وجود الله تعالى

48

مراتب التوحيد

48

التوحيد في الذات

49

التوحيد في الصفات

53

الدرس الخامس: مراتب التوحيد (2) التوحيد في الخالقية والتوحيد في العبادة

55

التوحيد في الخالقية

57

التوحيد في العبادة

63

الدرس السادس: مراتب التوحيد (3) التوحيد في الربوبية والتوحيد في الحاكمية

65

التوحيد في الربوبيّة

69

التوحيد في الحاكميّة والتقنين

73

الدرس السابع: الصفات الإلهية (1) صفات الذات

75

طرق معرفة الصفات الإلهيّة

77

أقسام الصفات الإلهيّة

77

الصفات الثبوتيّة

78

الصفات الذاتية

85

الدرس الثامن: الصفات الإلهية (2) الصفات الفعلية

87

كون الله متكلّماً

89

هل القرآن مخلوق أم قديم؟

90

كون الله صادقاً

90

كون الله حكيماً


 6


365

الفهرس

  

95

الدرس التاسع: الصفات الإلهية (3) الصفات السلبيّةُ والصفات الخبريّة

97

الصفات السلبيّة

100

الصِّفات الخَبَريّة

101

بيان لحقيقة الصفات الخبرية

107

الدرس العاشر: العَدلُ الإلهي

109

مقدّمة

110

العدل من الصفات الجمالية 

110

الذات الإلهيّة منزّهة عن الظلم

111

معنى العدل

112

إدراك العقل للحسن والقبح

113

تجلّيات العدل الإلهيّ في مجالي التكوين والتقنين

115

الهدفيّة في خلق الإنسان

119

الدرس الحادي عشر: القضاء والقَدَر

121

القدر والقضاء لغةً واصطلاحًا

124

القضاء والقدر في الكتاب والسنّة

129

الدرس الثاني عشر: القضاء والقدر

131

لا تنافي بين القضاء والقدر والاختيار

132

الاختيار حقيقة مسلّمة

133

لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين

134

لا تنافي بين علم الله الأزلي وحرّية الإنسان

139

الدرس الثالث عشر: البَداء

141

مقدمة

141

حقيقة البداء

144

أصل لفظة البداء

145

أثر الاعتقاد بالبَداء

149

الدرس الرابع عشر: النبوّة (1) ضرورة النبوّة

151

الأدلّة على ضرورةِ النُبوّةِ

155

طُرُق معرفةِ الأنبياء


 7


366

الفهرس

  

159

الدرس الخامس عشر: النبوّة (2) الوحي والمعجزة

161

الوحي

164

المعجزة

169

الدرس السادس عشر: النبوّة (3) - عصمة الأنبياء عليهم السلام

171

تفسير العصمة

172

مراتب العصمة

176

منشأ العصمة

177

لا تنافي بين العصمة والاختيار

177

العصمة لا تلازم النبوّة

181

الدرس السابع عشر: النبوّة (4) طرق إثبات نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

183

الطريق الأول: المعجزة

185

الطريق الثاني: القرائن والشواهد على نبُوّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

188

الطريق الثالث: تصديقُ النبيّ السابق

193

الدرس الثامن عشر: النبوّة (5) معجزة القرآن

195

القرآن الكريم المعجزة الخالدة

196

وجوه إعجاز القرآن الكريم

205

الدرس التاسع عشر: النبوّة (6) صيانة القرآن من التحريف

207

الكتب السماوية الماضية والتحريف

208

أدلّة عدم تحريف القرآن الكريم

210

مناقشة الرّوايات الدالّة على تحريف القرآن وردّها

215

الدرس العشرون: النبوّة (7) خصائصُ نُبُوّةِ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

217

مقدّمة

217

عالمية دعوة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته

218

إنّ نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء

219

كمال الدين الإسلامي

220

السهولة والاعتدال

225

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة (1) دور الإمامة وضرورته

227

مقدّمة 

227

الشيعة لغة واصطلاحاً

8


367

الفهرس

  

229

ما هي وظائف الإمام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟

231

الإمامة مسألة عقليّة

232

الإمامة والخطر الثلاثي

237

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة (2) الإمامة في الأحاديث الشريفة

239

الإمام والخليفة في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

244

حديث الغدير من الأحاديث المتواترة

249

الدرس الثالث والعشرون: الإمامة (3) عصمة الإمام

251

عِصمَة الإمام وطرق معرفته

253

طرق معرفة الإمام

259

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة (4) مودّة أهل البيت عليهم السلام ومحبّتهم

261

مودّة أهل البيت في الكتاب والسنّة

263

ثمرة المودّة لأهل البيت عليهم السلام

264

مظاهر المودّة لأهل البيت عليهم السلام

265

إقامة مجالس العزاء

269

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة (5) الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

271

ظهور مصلح عالمي في آخر الزمان

271

المصلح العالمي هو الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

273

الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وليّ إلهيّ غائب عن الأنظار

274

وكلاء الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

277

الدرس السادس والعشرون: الإمامة (6) حكمة الغيبة وعلامات الظهور

279

حكمة الغيبة

279

غيبة بعض الأنبياء والأولياء في الأمم السابقة

281

وجود الإمام المعصوم لطف إلهي في حضوره وغيابه

282

طول عمر الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف

282

علامات ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

287

الدرس السابع والعشرون: الموت

289

مقدّمة

289

حقيقة الموت


 9


368

الفهرس

  

291

الموت سنّة إلهيّة عامّة

291

جهلنا بساعة الموت

292

هل الموت أمرٌ عدميّ نسبيّ أم عدميّ مطلق؟

293

الموت بيد الله عزّ وجلّ

397

الدرس الثامن والعشرون: الاحتضار

299

ما هو المقصود من الاحتضار؟

300

صفة المحتضر

301

شدّة النزع

301

حال الكافر عند الاحتضار

302

تمثّل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة للمحتضر المؤمن

302

ما يهوّن سكرات الموت

305

العديلة عند الموت

305

ما هي الأعمال التي تبعد العديلة؟

309

الدرس التاسع والعشرون: عالَمُ ما بَعدَ الموتِ (1) عالم البرزخ

311

معنى البرزخ لغةً واصطلاحًا

311

البرزخ في الكتاب والسنّة

314

سؤال القبر

315

أقوال العلماء في المساءلة في القبر

319

الدرس الثلاثون: عالم ما بعد الموت (2) المعاد

321

مقدّمة

321

ضرورة المعاد

323

جواب الشبهات المثارة حول المعاد

325

معاد الإنسان هو جسمانيّ وروحانيّ

325

تفسير المعاد بالتناسخ وردّه

327

الفرق بين المسخ والتناسخ

331

الدرس الحادي والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الساعة والنفخ في الصور والحساب

333

أشراط الساعة أو علامات يوم القيامة


 10


369

الفهرس

  

335

النَفخُ في الصُّور

335

مراحل الحساب والقيامة

341

الدرس الثاني والثلاثون: عالم ما بعد الموت (3) الشفاعة

343

مقدّمة

343

حقيقة الشفاعة

345

هل يجوز طلب الشفاعة في الدنيا؟

347

الفرق بين شفاعة الموحدين والوثنيين

351

الدرس الثالث والثلاثون: جزاء الأعمال

353

الإنسان ينال جزاء أعماله

355

الخلود في الجحيم خاصّ بالكفّار

356

الجنة والنار مخلوقتان

357

التوبة من الذنوب في الدنيا

361

الدرس الرابع والثلاثون: معالم الإيمان والكفر

363

حدّ الإيمان والكُفر

364

الإيمان مشروط بالالتزام بالعمل الصالح

366

لا يجوز تكفير المسلم المعتقد بالأصول الثلاثة

371

الدرس الخامس والثلاثون: البدعة

373

معنى البدعة

373

البدعة في الشرع

375

الضابطة الصحيحة في البدعة

381

الدرس السادس والثلاثون: التقيّة

383

أدلّة جواز التقية

384

التقيّة غير مختصة بالكفر

385

التقية واجبة في بعض الحالات فقط

391

الدرس السابع والثلاثون: التوسّل

393

حقيقة التوسل

394

التوسُّل بأسماء الله الحسنى ودعاء الصالحين

396

حقيقة تفسير التوسّل بالأموات؟

11


370

الفهرس

  

401

الدرس الثامن والثلاثون: الرجعة

403

مقدّمة

403

حقيقة الرجعة

403

كلمات بعض العلماء في الرجعة

405

إمكان الرجعة

406

أدلة وقوع الرجعة

411

الدرس التاسع والثلاثون: صيانة الآثار الإسلامية

413

منافع حفظ آثار السابقين

414

حفظ آثار الأنبياء وتراثهم في القرآن الكريم

416

زيارة قبور المؤمنين

418

المنع عن الغلو

423

الدرس الأربعون: مصادر الحديث وحجيّتها

425

مقدمة

426

حجيّة الأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام

429

المصادر الحديثيّة عند الشيعة

429

الكتب الأربعة الجامعة

 

 

 12


371
دروس في أصول الدين