ظلال النور - دروس نظرية وتطبيقية من القرآن الكريم


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-04

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
للقرآن الكريم ما لا يخفى من الدور العظيم في تثبيت الإنسان والمجتمع على صراط النجاة المستقيم. وقد وردت العديد من الآيات القرآنية والروايات المباركة التي أكّدت أهمية جعل القرآن رايةً نورانية تمشي الأمة تحت ظلها. فالتحدّيات العالمية التي تواجهها الأمة اليوم، والغزو الثقافي، كما المادي، الذي يحيط بالأمة من كل اتجاه، يجعل من القرآن الكريم خير قائد ودليل، ومنبعاً للفكر الوضّاء الذي يستطيع أن ينقذ روحانية الإنسان، وكيانه ووجوده، ويبقي على ارتباطه المعنوي بالحق عز وعلا، بل إن محور بقاء دولة الحق ووجودها إنما مرتهن بوعي وفهم حلقتين أساسيتين هما "كتاب الله وعترتي أهل بيتي"1
 
فالقرآن الكريم هو دستور الله الشامل للبشرية جمعاء, وقد قدم للإنسانية أصول التشريع إلى جانب المنهج والذي ينبغي للإنسان سلوكه لئلا يخرج عن الهدى الربّاني الذي قدّمه له القرآن الكريم, ويمثل المرجعية الحاكمة على كل الأصول الفكرية والثقافية في مجال التربية والتعليم وغيره. ولهذا فإنّ الاعتراف بمرجعية القرآن الكريم المعرفية في مجال التشريع الإسلامي بما يمثل من فكر عالمي شامل, هو النقطة المضيئة التي تجعلنا قادرين على العودة إلى كتاب الله لنستلهم المنهج, ونستجلي كلمة الفصل في ما يحتاجه الاجتماع البشري, ولهذه الغاية فقد وجّه الله دعوته في القرآن إلى البشر جميعاً ودعاهم للغور إلى أعماق القرآن, ودرر مكنون أسراره.
 
 
 

1- الكافي، ج2، ص 415.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
5

 


1

المقدمة

 ولأنّ كتاب الله تعالى كتاب هداية وإيمان وحياة, فنحن مأمورون من قبل الله (تعالى) في القرآن, ومن قبل الرسول والأئمة فيما ورد عنهم من أخبار نتدبّر في آيات القرآن, بالتفكير في معاني القرآن والاتعاظ والعمل بها بعد تعلمها, فإن تعلم القرآن وتعليمه هو المدخل الطبيعي لفهم القرآن والتفكر بآياته, قال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾1 ووبّخ الذين لا يتدبرون هذا الكتاب العزيز, قال تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾2.

 
وقد حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مباشرة تعليم القرآن لأصحابه, وأمرهم بتعليم بعضهم البعض, ليتحول القرآن وتعليمه إلى فريضة واجبة, قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبة الله ما استطعتم, إنه النور المبين, والشفاء النافع, تعلموه فإن الله يشرفكم بتعلمه"3.
 
وقال الإمام الصادق عليه السلام: "ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن, أو يكون في تعلمه"4.
 
وللتأكيد على هذه السنة أكرم الله تعالى حملة القرآن, ووعدهم بالثواب الجزيل.
قال رسول الله: "إنّ أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميين ما خلا النبيين والمرسلين, فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم, فإن لهم من الله العزيز الجبار لمكاناً علياَ"5.
 
 
 

1- سورة ص, الآية 29.
2- سورة النساء, الآية 82.
3- بحار الأنوار, ج89, ص 267.
4- بحار الأنوار, ج 89, ص 189.
5- بحار الأنوار, ج 89, ص 180.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
6

2

المقدمة

 وقد لاحظنا في اختيار المحاور والدروس الأهداف العامة التالية:

1- التعرُّف على شروط التِّلاوة الصَّحيحة للقرآن الكريم وضوابطها، والتدرُّب عليها وتقويمها.
2- تسليط الضّوء على حقيقةِ القرآن الكريم وفضلِهِ وتاريخِهِ.

3- تحقيقُ أوَّلياتِ العلاقة مع القرآن الكريم، ومعرفة موقعه العقائدي والتَّربوي، وإيجادُ رابطةٍ روحيَّة ووجدانيَّةٍ مع القرآن الكريم، والأُنسِ بآياته.

4- تفعيلُ ثقافةِ الاهتمام بحفظ القرآن وتلاوته، والتدبُّرِ في آياته.
5- معرفةُ أحكام القرآن الكريم، وآدابِه المعنويّةِ والظاهريَّة، والحثُّ على الالتزام بها ومراعاتها.

وأما السياسات التي تم اعتمادها في هذا الكتاب، فهي عبارة عن تفعيل الجانب النّظري بالشق العملي، من خلال دفتر التطبيقات والأنشطة الصيفية، بهدف تفعيل المادة وجعلها مع المتن النّظري وحدة متكاملة تصب بقوة في تحقيق الأهداف التعليمية والتربوية المتوخاة.


مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

3

مدخل في تلاوة القرآن وتعلّمه والعمل به

 آثار ُالقراءة وقيمتُها

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم1: "مَن قرأَ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين. ومَن قرأَ خمسين آية كُتب مِن الذاكرين. ومَن قرأَ مائة آية كُتِب مِن القانتين. ومَن قرأَ مائتي آية كتب مِن الخاشعين. ومَن قرأَ ثلاثمَّائة آية كتب مِن الفائزين. ومن قرأَ خمسمائة آية كتب من المجتهدين. ومن قرأَ أَلف آية كتب له قنطار -مِنْ تِبْرٍ- والقنطار خمسون أَلف مثقال ذهب، والمثقال أَربعة وعشرين قيراطاً، أَصغرها مثل جبل أُحُد، أكبرها ما بين السماءِ والأرض".
 
أفضل العبادة
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم2: "أَفضل العبادة قراءَةُ القرآن".


قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم3: "من قرأَ القرآنَ فظنَّ أَنَّ أَحداً أُعطي أَفضل مما أُعطي فقد حقَّر ما عظَّمَ الله وعظَّمَ ما حقَّرَ الله".


قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم4: "ثلاثةٌ على كُثبان المِسْكِ يومَ القيامة: رجلٌ قرأَ كتابَ الله، وأَمَّ قوماً وهُمْ به راضون".
  
 
 

1- الكافي، ج2، ص448.
2- مجمع البيان، ج1، ص15.
3- مجمع البيان، ج1، ص16.
4- مستدرك الوسائل، ج1، ص288.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

4

مدخل في تلاوة القرآن وتعلّمه والعمل به

 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم1: "قال الله تبارك وتعالى: من شُغِل بقراءَة القرآن عن دعائي ومسأَلتي أَعطيتُه أَفضلَ ثوابِ الشَّاكرين".

 
القراءة كفَّارةٌ للذُّنوب
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم2: "يا سلمان عليك بقراءَة القرآن فإنَّ قراءَته كفارة للذنوب. وسترٌ من النَّار. وأَمانٌ من العذاب. ويُكتب لمن يقرأَ بكلِّ آيةٍ ثوابَ مائة شهيد. ويعطى بكلِّ سورةٍ ثوابَ نبيّ مرسل. وتُنزَّلُ على صاحبه الرَّحمة. وتستغفر له الملائكة. واشتاقت إليه الجنَّة. ورضي عنه المولى. وإِنَّ المؤمن إِذا قرأَ القرآن نَظَرَ اللهُ إِليه بالرحمة، وأَعطاه بكلِّ حرفٍ نوراً على الصراط...".
 
قراءة القرآن أفضل من الذكر
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم3: "قراءَة القرآن في الصَّلاة أَفضل من قراءَة القرآن في غير الصَّلاة. وقراءَة القرآن في غير الصَّلاة أَفضل من ذكر الله".
 
القراءة والنظر في المصحف
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم8: "ليس شيءٌ أَشدَّ على الشَّيطان من القراءَة في المصحف نظراً".
قال الإمام الصادق، جعفر بن محمد عليه السلام5: "من قرأ القرآن في المصحف مُتّع ببصره، وخُفّف عن والديه وإن كانا كافرين".
  
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج92، ص200.
2- مستدرك الوسائل، ج1، ص292.
3- مستدرك الوسائل، ج1، ص292.
4- بحار الأنوار، ج92، ص202.
5- الكافي، ج2، ص449.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12

5

مدخل في تلاوة القرآن وتعلّمه والعمل به

 اقرأ وارقَ
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم1: "من قرأَ ثُلُثَ القرآن فكأنَّما أُوتي ثلثَ النُّبوَّة. ومن قرأَ ثلثي القرآن فكأنَّما أُوتي ثلثي النُّبوَّة. ومن قرأَ القرآن كلَّهُ فكأنَّما أُوتيَ تمام النُّبوَّة. ثمَّ يقال له: اقرأْ وارقَ، بكلِّ آية درجة فيرقى في الجنَّة بكلِّ آية درجة حتَّى يبلغ ما معه، من القرآن، ثمَّ يقال له: اقبض فيَقبِضُ، ثمَّ يقال له: هل علمت ما في يدك؟ فيقول: لا، فإِذا في يده اليمنى الخلد، وفي الأُخرى النَّعيم".
 
قال الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام2: "يُدعى بابن آدم المؤمن للحساب فيتقدمُ القرآن أمامه في أحسن صورة فيقول: يا رب أنا القرآن وهذا عبدك المؤمن قد كان يُتعب نفسه بتلاوتي، ويطيل ليله بترتيلي، وتفيض عيناه إذا تهجد، فارضه عنّي كما أرضاني. فيقول العزيز الجبار، عبدي ابسط يمينك، فيملأها من رضوان الله، ويملأ شماله من رحمة الله، ثم يُقال له: هذه الجنّة مباحة، فاقرأ واصعد، فإذا قرأ آية صعد درجة".
 
التِّلاوة بصوت حسن
قال الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام3: "كان علي بن الحسين - صلوات الله عليه - أحسن النّاس صوتاَ بالقرآن، وكان السقاؤون يمرّون فيقفون ببابه يسمعون قراءته، وكان أبو جعفر الباقر عليه السلام أحسن النّاس صوتاَ - أي في قراءة القرآن -".
 
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم4: "زَيِّنُوا القرآن بأَصواتكم".
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم5: "إِنَّ حُسْنَ الصَّوت زينة القرآن".
  
 
 

1- مستدرك الوسائل، ج1، ص293.
2- الكافي، ج2، ص449.
3- الكافي، ج2، ص451.
4- مستدرك الوسائل، ج1، ص295.
5- مستدرك الوسائل، ج1، ص295.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

6

مدخل في تلاوة القرآن وتعلّمه والعمل به

 سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم1: لا

قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام2، في وصيَّةٍ لولده محمَّد بن الحنفية:
"عليك بتلاوة القرآن في ليلك ونهارك، ولزوم فرائضه وشرائعه، وحلاله وحرامه، وأَمره ونهيه، والتهجد به، والتِّلاوة في ليلك ونهارك فإنَّه عهد من الله تعالى إِلى خلقه فهو واجب على كلّ مسلم أَنْ ينظر كلّ يوم في عهده".
 
مأدبة الله
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم3: "القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبة الله ما استطعتم، إنّه النّور المبين، والشفاء النافع، تعلّموه فإنّ الله يُشرّفكم بتعلّمه".


تعلّم القرآن حقّ وواجب
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم4: "ما من مؤمن ذكراَ أو أنثى، حُرّاَ أو مملوكاً، إلى ولله عليه حق واجب أن يتعلم من القرآن".


قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم5: "من علّم آية من كتاب الله تعالى كان له أجرها ما تُليت".
  
 
 

1- بحار الأنوار، ج92، ص195.
2- مستدرك الوسائل، ج1، ص293.
3- مستدرك الوسائل، ج1، ص287.
4- مستدرك الوسائل، ج1، ص287.
5- مستدرك الوسائل، ج1، ص288.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

7

مدخل في تلاوة القرآن وتعلّمه والعمل به

 ثواب تعلم القرآن

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم1: "من تَعَلَّمَ القرآن وتواضع في العلم وعلَّم عباد الله وهو يريد ما عند الله لم يكن في الجنَّة أَعظم ثواباً منه، ولا أَعظم منزلة منه، ولم يكن في الجنَّة منزلة وَلا درجة رفيعة ولا نفيسة إِلا وكان له فيها أَوفر النصيب، وأَشرف المنازل".


ثواب معلِّم القرآن:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم2: "معلِّم القرآن يستغفر له كلّ شيء حتَّى الحوت في البحر".
قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام3: "تعلَّموا القرآن فإنَّه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنَّه شفاءُ الصُّدور، وأَحسنوا تلاوته فإنَّه أَنفع (أَحسن) القصص فإنَّ العالمَ العاملَ بغير علمه كالجاهلِ الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحُجَّةُ عليه أَعظمُ والحسّرةُ له أَلزم، وهو عند الله أَلوم".


إكرام القرآن
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم4: "مَن وَقَّر القرآن فقد وَقَّر الله. ومَن لم يوقِّر القرآن فقد استخفَّ بحرمة الله. حرمةُ القرآن على الله كحُرمَةِ الوالد على ولَدِه".


قال الإمام الصادق جعفر بن محمَّد عليه السلام5: "إِذا جمع الله عزّ وجلّ الأوّلين والآخرين إِذا هُمْ بشخصٍ قد أَقْبَلَ لَمْ يُرَ قطّ أَحسن صورةً منه، فإِذا نظرَ المؤمنون إِليه -وهو القرآن- قالوا: هذا منا، هذا أَحسن شيء رأَينا. فإِذا انتهى إِليهم جازهم، ثمَّ ينظر إِليه الشهداءُ 
  
 
 

1- عقاب الأعمال، ص 51.
2- مستدرك الوسائل، ج1، ص288.
3- نهج البلاغة، الخطبة رقم 110.
4- مستدرك الوسائل، ج1، ص 288.
5- الكافي، ج2، ص 440.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

8

مدخل في تلاوة القرآن وتعلّمه والعمل به

 حتَّى إِذا انتهى إِلى آخرهم جازهم فيقولون: هذا القرآن، فيجوزهم كلهم حتَّى إِذا انتهى إِلى المرسلين، فيقولون: هذا القرآن، فيجوزهم حتَّى ينتهي إِلى الملائكة فيقولون: هذا القرآن فيجوزهم ثمَّ ينتهي حتَّى يقف عن يمين العرش فيقول الجبّار: وعزتي وجلالي، وارتفاع مكاني لأكرمنَّ -اليومَ- من أَكرمَك، ولأهِيننَّ من أَهانَكَ".



إكرَامُ حَمَلَةِ القرآن
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم1: "إِنَّ أَهلَ القرآن في أَعلى درجةٍ من الآدميين ما خلا النبيّينَ والمرسلينَ، فلا تستضعفوا أَهلَ القرآن حقوقَهُم، فإنَّ لهم من الله العزيز الجبار لمكاناً علياً".
 
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم2: "يا أَبا ذر مِن إِجلال الله: إِكرامُ ذي الشَّيبة المسلم، وإِكرامُ حملة القرآن العاملين به، وإِكرامُ السُّلطان المُقسِط".
 
العَمَل بالقُرآن وتطبيقه
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم3: "مَن تعلَّمَ القرآن ولم يعملْ به وآثرَ عليه حُبَّ الدُّنيا وزينتها استوجب سخطَ الله، وكان في الدَّرجةِ مع اليهودِ والنصارى الذين ينبذون كتاب الله وراءَ ظهورِهم. ومن تعلَّم القرآن ولم يعمل به، حشره الله يومَ القيامة أَعمى، فيقول: يا رب لم حشرتني أَعمى وقد كنتُ بصيراً؟ قال كذلك أَتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى، فيؤمرُ به إِلى النَّار".
 
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم4: "القلوبُ أَربعةٌ: فقلبٌ فيه إِيمان وليس فيه قرآن. وقلبٌ فيه قرآنٌ
  
 
 

1- الكافي، ج2، ص 441.
2- راجع مستدرك الوسائل، ج1، ص 290.
3- عقاب الأعمال، ص52.
4- مستدرك الوسائل، ج1، ص 287.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

9

مدخل في تلاوة القرآن وتعلّمه والعمل به

 وإِيمان. وقلبٌ فيه قرآنٌ وليس فيه إِيمان. وقلب لا قرآنَ فيه ولا إِيمان. فأَما القلب الذي فيه إِيمان وليس فيه قرآن كالثمَّرة طيِّبٌ طعمها ليس لها ريح. وأَما القلب الذي فيه قرآن وليس فيه إِيمان كالأشنة1 طيِّبٌ ريحها خبيثٌ طعمها. وأَما القلب الذي فيه إِيمان وقرآن كجِراب المسلك إِنْ فُتِحَ فُتِحَ طِيْباً وإِن وعى وعى طِيْباً. وأما القلبُ الذي لا قرآن فيه ولا إِيمان كالحنظلة خبيثٌ ريحها، خبيثٌ طعمها".



قال الإمام الصادق جعفر بن محمَّد عليه السلام2: "إِنَّ الرجل إِذا كان يعلم السُّورةَ ثمَّ نسيَهَا أَو تركَها، ودخلَ الجنَّة أَشرفت عليه من فوقٍ في أَحسن صورة فتقول: تعرفني؟ فيَقول: لا. فتقول: أَنا سورة كذا وكذا لم تعمل بي، وتركتني، والله لو عملتَ بي لبلغتُ بك هذه الدرجة، وأَشارت بيدها إِلى ما فوقها".
 
 
 

1- تاج العروس، ج18، ص21، وفيه عن الأشنة "هو شيئ يلتف على شجر البلوط والصنوبر كأنه مقشور من عرق، وهو عطر أبيض."
2- الكافي، ج2، ص 445.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

10

المحور الأول: دروس في تعلم التلاوة

 موضوعات المحور:

صفاتُ الحروف ومخارجها.
أحكامُ لام التعريف وهمزتا الوصل والقطع.
الوقفُ والابتداء والفرق بين الرسم القرآني والإملائي.


أهداف المحور الأوّل
التعرُّف على نبذة من الأحاديث التي وردت في فضل قراءة القرآن الكريم وتلاوته.
التعرُّفُ على أهمّ مبادئ تلاوة القرآن وقواعده.
معرفة تلاوة القرآن الكريم الصَّحيحة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

11

المحور الأول: دروس في تعلم التلاوة

 الدّرس الأوّل: صفات الحروف ومخارجها

 
أهداف الدّرس:
1- التمكُّن من النُّطق بالحرف العربيّ من أجل الوصول إلى القراءة العربيَّة الصَّحيحة.
2- التعرُّف على صفات الحروف العربيَّة وأقسامها.
3- تعلُّم الفرق بين صفات الحروف ومخارج الحروف.


 
صفات الحروف: 
سنذكر في درسنا هذا الصفة العامّة لكلِّ حرف، والمقصود بالصِّفة: علامةٌ تُميّز الحرفَ عن سواه في أُذُن المستمع، ولكلِّ حرفٍ من حروف الهجاء بالحدِّ الأدنى خمسُ صفات، وبالحدّ الأقصى سبعُ صفات.


للحروف بعض الصِّفات الأساسيّة، ومعرفةُ هذه الصِّفات مفيدةٌ في مجال القراءة الصَّحيحة للقرآن الكريم، ولا بدّ لمن يسعى للقراءة الصَّحيحة من أَنْ يُحيط بها ويتدرّب على النُّطق بها لئلا يقع في الخطأ، وهي: 
1- الاستعلاءُ: هو تفخيم مخرج الحروف عن النُّطق به في الفم. وهذه الصفة تشملُ الحروفَ السَّبعةَ التاليةَ المجموعةَ في قول: خصّ ضغط قظ. ولا فرق في هذه الحروف بين كونها ساكنة أو متحركة، لكن يُقلَّلُ من تفخيمها حالةَ الكسر. ﴿خَلَقَ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

12

المحور الأول: دروس في تعلم التلاوة

 الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾1.

 
2- الهمس: جريان النَّفَسِ عن النُّطق بأحد الحروف العشرة التالية المجموعة في قول: فحثّه شخص سكت، والسَّببُ في ذلك ضعفُ الاعتماد على المخرج، ويُشترطُ فيها السّكون، لذا فإنّها تأتي في منتصف وآخر الكلام، ولا تأتي في ابتداء الكلام ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ﴾2.
 
3- القلقلةُ: ارتعادُ مخرج الحرف عند النُّطق به، وهي صغرى في وسط الكلام وكبرى في آخره، وحروفها خمسةٌ مجموعةٌ في كلمتيْ قطب جد ويشترط فيها السّكون. ﴿قُل أعوذُ برَبِّ الفَلَق﴾3، ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إنَّه طَغَى﴾4.
 
4- الصَّفيرُ: صوتٌ زائدٌ يخرج عند النُّطق بأحد الحروف الثَّلاثة التالية: السِّين- الصَّاد- الزَّاي (س- ص- ز) ويشترط فيها السّكون أو التشديد، مثال: ﴿وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً﴾5.
 
5- اللثويّةُ: وهي الحروفُ التي تخرجُ من خارج اللثّة وتتعلّقُ بالمخارج وليس بالصِّفات، لكن نظراً لكثرة الأخطاء التي يقعُ فيها مبتدئو القراءة فقد أوردناها هنا للاستفادة، وعددها ثلاثة حروف هي: الثاء- الذال- الظاء، سواء جاءت ساكنة أو متحرّكة. ﴿انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ﴾6.
 
6- الاستطالةُ: صفةٌ تطلق على حرف الضَّاد، لامتداد الصَّوتِ من أوّل حافّةِ الِّلسان إلى آخرها، وتظهر جليّةً في الضَّاد السَّاكنة، نحو: الضّالين- فمن اضطر- خضْتم- أفضتم.


7- الضَّحوكُ: صفةٌ تُطلقُ على حرف العين السَّاكن، وذلك لاتِّساع الفم عندَ النُّطق به، نحو: يعلمون- تعتدوا..
 
 
 

1- النحل، 4.
2- يس، 75.
3- الفلق، 1.
4- طه، 24.
5- الكهف، 40.
6- المرسلات، 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

13

المحور الأول: دروس في تعلم التلاوة

 8- التعطُّشُ: صفةٌ تطلق على حرف الجيم، سواء كان ساكناً أم متحرّكاً، وذلك لإشباع النُّطق به عند خروجه من الفم، نحو: اجتمعوا - رجساً- الحجّ- الجبال...



9- التفشّي: صفةٌ تطلق على حرف الشِّين السَّاكنة أو المشدّدة، لانتشار النَّفَسِ في الفم عند النُّطق به، نحو اشْتراه- الشمس...
 
10- الغنّةُ: صفة لحرفين هما الميم المشدّدة والنون المشدّدة، ومقدارُ الغُنَّةِ حركتان، نحو: الجنَّة- النَّاس- ثمَّ- همّاز...


 
ما هي مخارج الحروف؟
مخارج الحروف أي موازينُها: جمعُ مخرجٍ، والمخرج لغةً: محلُّ الخروج. واصطلاحاً: محلُّ خروج الحرف وتميُّزه عن غيره.
 
وعددها على رأي المختار سبعةُ عشرَ مخرجاً، وينطوي عنها خمسةُ مخارجَ تفصيليَّةٍ وهي:
1- الجوفُ: وفيه مخرجٌ واحد.
2- الحلقٌ: وفيه ثلاثةُ مخارج.
3- الِّلسانٌ: وفيه عشرةُ مخارج.
4- الشَّفتان: وفيهما مخرجان.
5- الخيشومُ: وفيه مخرجٌ واحد.
 
أ- حروفُ الجوف: ويُقصد به جوفُ الحلق والفمُ معاً ومنه تَخرجُ الحروف الثلاثة:
1- الألفُ السَّاكنةُ المفتوحُ ما قبلها. نحو: قال- زادكم.
2- الواوُ السَّاكنةُ المضمومُ ما قبلها. نحو: يقول- رسولكم.
3- الياءُ السَّاكنةُ المكسورُ ما قبلها. نحو: قيل – دينكم.
وهي مخارجُ مقدَّرةٌ وليست محَقَّقَةً، مثل: قال، يقول، قيل.
 
ب- الحلقُ: وينقسم عنها ثلاثةُ أقسام وهي:
1- أقصى الحلق: وله حرفان: الهمزةُ والهاءُ. أسلم- اهدنا- يؤْمن- هاد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

14

المحور الأول: دروس في تعلم التلاوة

 2- وسط الحلق: وله حرفان: العينُ والحاءُ. أعطى – عاقب - فاصفحْ - الحاكمين.

3- أدنى الحلق: وله حرفان: الغينُ والخاءُ. المغضوب - غالبين - يخْسر- خالدون.

د- الشفتان: وفيهما مخرجان:
- ما بين باطن الشَّفةِ السُّفلى وأطراف الثَّنايا العُليا: مخرجُ الفاء يفْرح - كافةً.
- الشَّفتان معاً: 
1- الواو: تخرج بانفتاحِ الشَّفتين وانضمامهما. أوّاب - خوْف.
2- الباء: تخرج بإطباقِ الشَّفتين. وأبّاً - الحطبْ.
3- الميم: تخرج بإطباقِ الشَّفتين واشتراك الغنة. أمّا – عليمْ.

هـ- الخيشوم: وله مخرج واحد: 
وتخرجُ منه الغنَّة. والغنَّةُ: هي صوتٌ يخرجُ من التَّجويفِ الأنفيِّ لا عمل للِّسان به، ويصاحب في اللغة العربيَّة حرفَي الميم والنُّون بكلِّ أوضاعهما ويختلفُ زمنها باختلافِ الحكم.
نحو: منْ زكاها – إنّ- من مسد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

15

المحور الأول: دروس في تعلم التلاوة

 المفاهيم الرَّئيسة:

1- المقصودُ بالصِّفة: علامةٌ تميّز الحرف عن سواه في أُذُنِ المستمع، ولكلِّ حرفٍ من حروف الهجاء بالحدّ الأدنى خمسُ صفات، وبالحدّ الأقصى سبعُ صفات.

2- الاستعلاء هو تفخيم مخرج الحروف عن النُّطق به في الفم. وهذه الصفة تشملُ الحروفَ السَّبعةَ التالية المجموعة في قول: خصّ ضغط قظ.

3- الهمس هو جريان النفس عند النُّطق بأحد الحروف العشرة التالية المجموعة في قول: فحثّه شخص سكت. 
4- القلقلة هي ارتعاد مخرج الحرف عند النُّطق به، وهي صغرى في وسط الكلام وكبرى في آخره.

5- الصفير هو صوت زائد يخرج عند النُّطق بأحد الحروف الثلاثة التالية: السين - الصاد - الزاي (س- ص- ز). 
6- الحروف اللثويّة هي الحروف التي تخرج من خارج اللثّة وتتعلّق بالمخارج وليس بالصفات.

7- الاستطالة والضحوك والتعطّش والتفشّي والغنّة هي صفات أخرى من صفات الحروف.
8- مخارج الحروف أي موازينُها: جمعُ مخرجٍ، والمخرج لغةً: محلُّ الخروج. واصطلاحاً: محلُّ خروج الحرف وتميُّزه عن غيره.

9- حروفُ الجوف: ويُقصد به جوفُ الحلق والفمُ معاً.
10- الحلقُ: وينقسم عنها ثلاثةُ أقسام: أقصى الحلق، وسط الحلق، أدنى الحلق.

11- الشفتان: وفيهما مخرجان: ما بين باطن الشَّفةِ السُّفلى وأطراف الثَّنايا العُليا، الشفتان معاَ.
12- الخيشوم: وله مخرج واحد.

13- الغنَّةُ هي صوتٌ يخرجُ من التَّجويفِ الأنفيِّ لا عمل للِّسان به، ويصاحب في اللغة العربيَّة حرفَي الميم والنُّون بكلِّ أوضاعهما ويختلفُ زمنها باختلافِ الحكم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

16

الدّرس الثاني: لام التَّعريف وهمزتا الوصل والقطع

 الدّرس الثاني: لام التَّعريف وهمزتا الوصل والقطع


أهداف الدّرس:
1- التعرُّف على حقيقة لام التَّعريف وأنَّها لام زائدة.
2- التعرُّف على حكم لام التَّعريف بما يعين على القراءة الصَّحيحة.
3- التعرُّفُ على أحكام لفظ الجلالة.
4- التعرُّف على أنواع الهمزة: قطع، ووصل.
5- معرفةُ الأحكام التَّفصيليَّة للهمزة في موردي الوصل والقطع.
6- التدرُّب على الَّلفظ الصحيح للهمزة في مواردها.

ما هي لامُ التَّعريف؟ 
لام التَّعريف هي لامٌ زائدةٌ عن بُنية الكلمة، ومختصَّةٌ بالدُّخول على الأسماء النَّكرة فقط للتَّعريفِ بها، نحو: 
- مؤمنون: اسم نكرة.
- المؤمنون: اسم معرفة.
- دار: اسم نكرة.
- الدَّار: اسم معرفة.

وتدوّنُ لامُ التَّعريف بوجود همزةِ وصلٍ لتسهيل النُّطق بها عند الابتداء كونُها ساكنةً، حيث تُقلبُ همزةُ الوصل إلى همزةِ قطعٍ مفتوحةٍ عند الابتداء طبعاً تُلْفَظُ ولا تُكْتَبُ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

17

الدّرس الثاني: لام التَّعريف وهمزتا الوصل والقطع

 حكم لام التَّعريف

وتدخل ال التَّعريف على جميع الحروف الهجائيَّة، فينتجُ عنها حالتان أو حكمان هما:
1- الإظهارُ القمريّ: و إبانة ال التَّعريف عندما يأتي بعدها أحدُ الحروف القمريّة الأربعة عشر، المجموعةِ في كلمات: ابغ حجّك وخف عقيمه. على نحو إظهار ال التَّعريف في كلمات القمر- الأوّل- الباسط- الغفور- الحكيم- الجليل- الكريم- الودود- الخبير- الفصل- العليم- القاهر- اليقين- الملك- الهادي - أمثلة من القرآن:
﴿تُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾
﴿الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾
﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ﴾
 
2- الإدغامُ الشمسيّ: هو حذفُ ال التَّعريف لفظاً عندما يأتي بعدها أحدُ الأحرفِ الشمسيّة الأربعةِ عشر. المجموعة في أوائل كلم هذا البيت:
    طب ثمَّ صل رحماً تفز ضف ذا نعم         دع ســوء ظـنّ زر شـريفاً للـكــرم
 
على نحو إدغام أل التَّعريف في كلمات: الشَّمس، الطَّارق، الصَّابرين، الرَّحمة، الظَّالمين، السَّماء، الزَّكاة، الشَّياطين، أمثلة من القرآن:
﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾
﴿وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ﴾
﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى...﴾
 
ملاحظة:


1- أكثرُ ما يقعُ الخطأُ في حرف الجيم، فيلفِظُهُ كثيرٌ من النَّاس عند إدخال أل التَّعريف عليه بالإدغام (حرف شمسيّ)، بينما يجبُ إظهارُ أل التَّعريف كونهُ حرفاً قمريّاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

18

الدّرس الثاني: لام التَّعريف وهمزتا الوصل والقطع

 ﴿وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ﴾1.

 
2- لام الموصول: كالَّذي والَّتي، لا توصَفُ بكونها شمسيّةً أو قمريّةً، كذلك اللام في لفظ الجلالة الله، لأنّها في كلِّ هذه المواضع من أصل بُنية الكلمة.
 
أحكام لفظ الجلالة
لفظُ الجلالة الله: هو اسمٌ قائمٌ بذاته، لا تعتبر أل التَّعريف مزيدةً عليه، له حالان: التَّفخيمُ والتَّرقيقُ.
أ- التَّفخيمُ: تُفخَّمُ لام لفظ الجلالة في المواضع الخمسة التالية:
1- إذا كان مبدوءاً به، نحو: ﴿اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾2.
2- إذا سبقه ضمٌّ، نحو: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾3.
3- إذا سبقه فتحٌ، نحو: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾4.
4- إذا سبقه ألفٌ ساكنٌ مفتوحٌ ما قبله، نحو: ﴿أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأمُورُ﴾5.
5- إذا سبقه واوٌ ساكنةٌ مضمومٌ ما قبلها، نحو: ﴿ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ...﴾6
 
ب- التَّرقيق: ترقَّقُ لامُ لفظِ الجلالة في المواضع الثَّلاثة التَّالية: 
1- إذا كان مسبوقاً بكسر، نحو: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾، ﴿يفتَح الله﴾7.
2- إذا كان مسبوقاً بياءٍ ساكنةٍ مكسورٍ ما قبلها، نحو: ﴿أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ﴾8. ﴿وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ﴾9.
3- إذا كان مسبوقاً بتنوين، نحو:﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً﴾10. ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ﴾11.
 
 
 


1- الشعراء، الآية 184.
2- آل عمران، 2.
3- البقرة، 229.
4- الطلاق، 1.
5- الشورى، 53.
6- آل عمران، 135.
7- فاطر، 2.
8- إبراهيم، 10.
9- الزمر، الآية 61.
10- الأعراف، 164.
11- الإخلاص، 2،1.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

19

الدّرس الثاني: لام التَّعريف وهمزتا الوصل والقطع

 أقسام الهمزة 

وهي إمّا أنْ تكون همزة وصل أو همزة قطع.
أ‌- همزةُ القطع: هي التي تثبُتُ وصلاً وبدءاً، وتقعُ في أوّل الكلمة ووسَطِهَا وطرفها، على نحو: أنزل- يسأل- سماء.
ب‌- همزةُ الوصل: هي التي تثبتُ في الابتداء وتسقطُ في الوصل، والقاعدةُ أَنَّ العربَ لا تبدأُ بساكنٍ، ولا تقفُ على متحرِّك، ولا تصلُ إلا بحركة. فأوّل الكلمة إنْ كان ساكناً يحتاج إلى همزة وصل، لنتمكَّنَ من لَفْظِها، وتتحوّلُ همزةُ الوصل إلى همزة قطعٍ عند الابتداء، وتُرسَمُ على هيئة ألف  وتُحذَفُ عندما تَدخُلُ عليها الأحرفُ المزيدةُ على نحو: وللدّار الآخرة، ولله الأسماء الحسّنى..، وتحذف لفظاً عند الوصل: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ- ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ﴾1.
 
1- همزة الوصل في الأسماء: 
همزة الوصل في الأسماءِ النَّكرةِ: تُكسَرُ همزةُ الوصل دائماً عند الابتداء، وقد ورَدَتْ في سبعةِ أسماءٍ في القرآن الكريم هي: 
1- ابن: ﴿...عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ...﴾2.
2- ابنة: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ...﴾3.
3- امرئ: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ﴾4.
4- امرأة: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ...﴾5.
5- اثنان: ﴿لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ﴾6.
6- اثنتان: ﴿...فإنَّ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ...﴾7.
 
 
 

1-  آل عمران، 189.
2- النساء، 157.
3- التحريم، 12.
4- النساء، 176.
5- آل عمران، 35.
6- النحل، 51.
7- النساء، 176.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

20

الدّرس الثاني: لام التَّعريف وهمزتا الوصل والقطع

 7- اسم: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، ﴿بكلِّمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ﴾1.



الهمزة في الأسماء والأفعال
1- همزةُ الوصلِ في الأسماءِ المعرَّفة: تُفتَحُ الهمزةُ دائماً عند الابتداء، نحو: ألحمد لله، ألرَّحمن، ألرَّحيم، ألسماوات، الأرض، القرآن، أَلإنسان.
2- همزة الوصل في الأفعال: يتمّ النظر إلى عين الفعل، أيْ ثالثِ حرفٍ منه، فإذا كان مكسوراً أو مفتوحاً، فيبدأ بهمزةِ قطعٍ مكسورةٍ دائماً. نحو: إستغفر، إذهب، إضرب، إنطلق، إستخلف، إستكباراً، إعلم، إرجع.
 
3- إذا كان عينُ الفعل مضموماً ضمّاً لازماً: فيبدأ بالهمزة مضمومة نحو: أنظر، أعبد، أخرج.
4- إذا كان عين الفعل مضموماً ضمّاً عارضاً: فيبدأ بالهمزة مكسورة، نحو: امشوا، ابنوا، اقبضوا...
 
 

1- آل عمران، 45.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

21

الدّرس الثاني: لام التَّعريف وهمزتا الوصل والقطع

 المفاهيم الرَّئيسة:

1- لام التَّعريف هي لام زائدة عن بنية الكلمة، ومختصّة بالدُّخول على الأسماء النكرة فقط للتعريف بها. 
2- الإظهارُ القمري: هو إبانة ال التَّعريف عندما يأتي بعدها أحد الحروف القمريّة الأربعة عشر. 

3- الإدغامُ الشمسيّ: هو حذف ال التَّعريف لفظاً عندما يأتي بعدها أحد الأحرف الشمسيّة الأربعة عشر.
4- لفظ الجلالة الله هو اسم قائم بذاته، ولا تعتبر أل التَّعريف مزيدة عليه، له حالان: التَّفخيم والتَّرقيق.

5- لامُ الموصول، كالذي والتي لا توصف بكونها شمسيّة أو قمريّة، كذلك اللام في لفظ الجلالة الله لأنّهم من أصل بُنية الكلمة.

6- همزة القطع، هي التي تثبت وصلاً وبدءاً، وتقع في أوّل الكلمة وأوسطها وطرفها.
7- الوصل، هي التي تثبت في الابتداء وتسقط في الوصل.

8- همزة الوصل في الأسماء النكرة، كسر همزة الوصل دائماً عند الابتداء.
9- همزة الوصل في الأسماء المعرفة، تفتح الهمزة دائماً عند الابتداء.

10- همزة الوصل في الأفعال، يتمّ النظر إلى حركة عين الفعل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

22

الدرس الثالث: الوقف والابتداء الفرق بين الرسم القرآني والإملائي

 الدرس الثالث: الوقف والابتداء الفرق بين الرسم القرآني والإملائي



أهداف الدّرس:
1- معرفةُ حقيقة الوقف والابتداء في التِّلاوة.
2- التعرُّف على الموارد الصَّحيحة للوقف والابتداء.
3- التدرُّب على التطبيق الصحيح لأحكام وأنواع الوقف والابتداء.
4- لفت انتباه الطالب إلى وجود اختلاف بين الكتابة القرآنيّة والكتابة العادية.
5- التعرُّف على القواعد التي تتبعها هذه الفوارق.
6- التدرُّب على النُّطق الصحيح لهذه الفوارق بين الرسم القرآنيّ والإملائي.


الوقف وأنواعه
الوقف: هو قطع الكلمة عمّا بعدها بالنَّفَس.

وبما أنَّ القارئ لا يستطيع الاستمرارَ في القراءة بدون أَنْ يتوقَّفَ من فترةٍ إلى فترة يجدّد نَفَسَهُ، لذلك ينبغي اختيار وقف مناسب للنَّفَسِ لا يُخِلُّ بالمعنى، ويكون الوقفُ عند رؤوسِ الآيات ويكون في وسطها. وليسَ في القرآن وقفٌ واجبٌ يأثمَّ القارئ بتركه، ولا حرامٌ يأثمَّ به إلاّ أنْ يكونَ له سببٌ يقتضي التَّحريمَ كأنْ يتعمَّدَ الوقفَ على نحو ما من إله، فإنْ قصد المعنى كفر. لهذا قد اصطلح شيوخ القُرَّاء للوقف أنواعاً أربعة: (الوقف التام- الكافي- الحسّن- القبيح):

1- الوقف التَّام: هو الذي يتمُّ به الكلام لفظاً ومعنىً ويكون في وسط الآية وفي آخرها
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

23

الدرس الثالث: الوقف والابتداء الفرق بين الرسم القرآني والإملائي

 كالوقف على آخر ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾1 في أول البقرة، فإنَّ المعنى تام ومنقطع عن ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾2 وكالوقف على ﴿... تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾3 من سورة الأعراف فإنَّ المعنى تام ومنقطع عن ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً...﴾4 ومن علاماته الابتداءُ بالاستفهام، وابتداء قصة، أو الابتداء بيا النداء، أو بفعل الأمر أو بلا القسم الخ.

 
2- الوقفُ الكافي: هو الذي يَحْسُنُ الوقف عليه، ولم ينقطع عمّا بعده من حيث المعنى، كالوقف على ﴿لاَ رَيْبَ﴾ ثمَّ يُبتدأ بـ ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ وكالوقف على ﴿...أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾5 ثمَّ يحسن الابتداء بـ ﴿خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ...﴾6 فإنَّه متعلق به من حيث المعنى، لكن يحسنُ الوقفُ عليه والابتداء بعده.
 
3- الوقفُ الحسّن: هو ما يَحسنُ الوقف عليه، لكن لا يَصُحُّ الابتداءُ بما بعده لشدَّةِ تعلُّقه به، فلا بُدَّ من إعادة ما قبله، كلَّه أو بعضه، لأجل ارتباط الَّلفظ والمعنى معاً، إلا إذا كان رأسَ آيةٍ كالوقف في الفاتحة على ﴿الْحَمْدُ للّهِ﴾ فإنَّ المعنى حسن، لكنْ لا يصح الابتداء بـ ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ لأنَّه صفةٌ تابعةٌ فلا بدَّ من إعادة ما قبله، وأكثرُ ما يكون في رؤوس الآيات فالوقف عليه حينئذٍ سنَّةٌ حسنة.
 
4- الوقف القبيح: هو ما يقبح الوقف عليه، لشدَّة تعلقه، بما بعده كالوقف على المضاف دون المضاف إليه مثلاً. كالوقف في الفاتحة على ﴿مَلِكِ﴾ فإنَّ الوقف عليه قبيح لشدّة تعلقه بـ ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾ وكالوقف على ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ﴾ فإنَّه قبيح لشدة تعلقه بـ ﴿المُستَقِيمَ﴾، وكالوقف في قوله تعالى: ﴿فويلٌ للمُصلّين﴾، في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ﴾7. والوقف على قوله تعالى: ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ﴾، في قوله سبحانه وتعالى: ﴿... لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاة وَأَنْتُمْ 
 
 
 

1- آل عمران، 104.
2- آل عمران، 56.
3- الأعراف، 54.
4- الأعراف، 55.
5- يس، 10.
6- البقرة، 7.
7- الماعون، 4 و 5.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

24

الدرس الثالث: الوقف والابتداء الفرق بين الرسم القرآني والإملائي

 سُكَارَى...﴾1 ولا يجوزُ تعمُّد الوقف عليه إذا غيّر المعنى كالوقف على ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ﴾ إلا لضرورةِ ضيقِ النَّفَس.

 
وما هو الابتداء وأنواعه؟
الابتداءُ: هو الشُّروع بالقراءة ابتداءً، أو بعد التنفُّسِ في أثنائها وهو أربعةُ أقسامٍ أيضاً كالوقف.
1- الابتداءُ التَّام: هو الابتداءُ بما ليس له علاقةٌ بما قبله، لفظاً أو معنى، كالابتداء بقوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ﴾2.


2- الابتداء الكافي: هو ما يحسن الابتداء به وله علاقةٌ بما قبله لفظاً أو معنى، كالابتداء بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا﴾. فالعلاقة الَّلفظية هي العطف، والمعنويّة هي المقابلة.
 
3- الابتداءُ الحسّن: هو الابتداء بما يكون معناه حسناً، لكن له علاقةٌ شديدةٌ بما قبله، كالابتداء في أوائل سورة البقرة: ﴿فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾. فالعلاقة شديدةٌ بالآية التي قبلها: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾.
 
4- الابتداءُ القبيح: هو الابتداء بما يُفسد المعنى لشدّة تعلُّقه بما قبله، كالابتداء بـ ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾. وهو غير جائز فالعلاقة شديدة بما قبلها ولا يمكن فصلها عمّا ابتدأت به الآية: ﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَ حَيَاتُنَا الدُّنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾كما لا يصحُّ الابتداء بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ﴾، من قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ...﴾4. كما لا يصحُّ الابتداء بقوله تعالى: ﴿...إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ...﴾، من قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ...﴾5. وهو من أقبح القبيح.
 
 
 

1- النساء، 43.
2- فصلت، 46.
3- الأنعام، 29.
4- المائدة، 72.
5- المائدة، 73.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

25

الدرس الثالث: الوقف والابتداء الفرق بين الرسم القرآني والإملائي

 الفوارق بين الرسم القرآنيّ والرسم الإملائي

هناك خمسة فوارق ما بين الرَّسم القرآنيّ والرسم الإملائي الحديث، وفق ما حدَّده علماءُ الضَّبطِ لرسم المصحف الشّريف.


1- حروفٌ مكتوبةٌ في الخطِّ وهي غيرُ منطوقة (حروف تكتب ولا تنطق).
- الألف: ألف الفارقة، يمحوا / ذهبوا/ لشايْءٍ/ مائة. ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾1
- الواو: أولئك / أوْلوا/ سأوْريكم. ﴿أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾2
- الياء: وملإيه/ نبأيْ المرسلين. أفإيْنِ متّ. ﴿وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾3
 
2- حروفٌ تُنطَقُ وتُلفظ وهي غيرُ مكتوبة في الخط (حروف تلفظ ولا تكتب).
- الألف: (ألف النصبة الخنجرية) الرحمن/ الكتب/ ملك.
- الواو: داوود، يستوون.
- الياء: يستحي/ يحيى.
 
3- حروف تُكتب بكيفيَّة، وتُقرأ بكيفيَّة ثانية.
- الصلواة / الزكواة/ الحيواة، تكتب على هيئة واو وتنطقُ على هيئة الألف. ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾4
- يبصط - بصْطة، تكتب على هيئة الصاد وتقرأ على هيئة السين. ﴿وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً﴾5
- التَّورية/ مرعبها. تكتب على هيئة الياء وتقرأ على هيئة الألف. ﴿بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾6
 
4- حروفٌ تُكتبُ وتُقرأُ أسماؤها.
- وهو يتعلَّقُ بالحروف المقطَّعة الموجودة في أوائل بعض السُّور القرآنيّة. نحو: ألم: 
 
 
 

1- الرعد، 39.
2- البلد، 18.
3- الأنعام، 34.
4- إبراهيم، 40.
5- الأعراف، 69.
6- هود: 41.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

 


26

الدرس الثالث: الوقف والابتداء الفرق بين الرسم القرآني والإملائي

 هجاؤها (ألف لام ميم) ويس- الم.

 
 
5- فيما يتعلَّقُ بالرَّسم القرآنيّ، من حيث المقطوع والموصول والحذف والإثبات والتَّاءات المربوطة الطويلة.
- نحو: مال هذا/ ويكأنه/ حيثمَّا. رحمت / نعمت/ غيابت. يمحُ/ بهادِ/ والبادِ.
مثال: - ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً﴾1
       - ﴿وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾2
 
 
 
 

1- الكهف: 49.
2- القصص: 82.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

27

الدرس الثالث: الوقف والابتداء الفرق بين الرسم القرآني والإملائي

 المفاهيم الرَّئيسة:

1- الوقف: هو قطع الكلمة عمّا بعدها بالنفس.
2- ينبغي اختيار وقف مناسب للنفس لا يخل بالمعنى.

3- الوقف التام: هو الذي يتم به الكلام لفظاً ومعنى ويكون في وسط الآية وفي آخره.
4- الوقف الكافي: هو الذي يحسن الوقف عليه ولم ينقطع عمّا بعده من حيث المعنى.

5- الوقف الحسّن: هو ما يَحسنُ الوقف عليه لكن لا يصح الابتداء بما بعده لشدة تعلقه به فلا بد من إعادة ما قبله كله أو بعضه لأجل ارتباط اللفظ والمعنى معاً.

6- الوقف القبيح: هو ما يقبح الوقف عليه لشدة تعلقه بما بعده كالوقف على المضاف دون المضاف إليه. 
7- الابتداء: هو الشروع بالقراءة ابتداء أو بعد التنفس في أثنائها وهو أربعة أقسام أيضاً كالوقف.

8- خمسة فوارق فيما بين الرسم القرآنيّ والرسم الإملائي الحديث وفق ما حدده علماء الضبط لرسم المصحف الشّريف، وهي فيما يلي:

أ- حروف مكتوبة في الخط وهي غير منطوقة. 
ب- حروف تُنطق وتُلفظ وهي غير مكتوبة في الخط. 
ج- حروف تُكتب بكيفيَّة، وتُقرأ بكيفيَّة ثانية.
د- حروف تُكتب وتُقرأ أسماؤها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

28

المحور الثاني علوم قرآنية

 موضوعات المحور:

تاريخُ القرآن الكريم.
حقيقةُ القرآن وفضله.
القرآن الكريم المعجزة الخالدة.
سلامةُ القرآن من التَّحريف.



أهداف المحور الثاني:
التعرُّفُ على حقيقة القرآن وتاريخه وفضله.
التعرُّفُ على معنى إعجاز القرآن، ووجوهه.
إثباتُ سلامةِ القرآن من التَّحريف
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

29

الدرس الأول: تاريخ القرآن

 الدرس الأول: تاريخ القرآن

 
أهداف الدّرس:
1- بيانُ أسماء القرآن وكيفيَّة نزوله.
2- التعرُّف على صور الوحي وأنماطه.
3- بيانُ الفرق بين النزول الدفعيِّ والتدريجيِّ للقرآن.
4- معرفةُ الفرق بين السُّور المكيَّة والمدنيَّة.
5- بيانُ كيفيَّةِ حفظِ القرآن وتدوينه وجمعه.
 
القرآن وأسماؤه:
القرآن الكريمُ; هو الكلامُ المعجزُ المنزَلُ وحياً على النبيِّ محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، المكتوبُ في المصاحف، والمنقولُ عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالتواتر. وقد اختار الله لهذا الكلام المعجز الذي أوحاه إلى نبيّه أسماءً مختلفةً، فسمَّاه الكتاب حيث قال تعالى: ﴿ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فيهِ هُدىً لِلْمُتَّقينَ﴾1.
 
وسمَّاهُ القرآن: ﴿طس تِلْكَ آياتُ القرآن وَكِتابٍ مُبينٍ﴾2.
سمَّاهُ الذِّكر: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبينٌ﴾3.
وسمَّاهُ الفُرقان: ﴿تَبارَكَ الَّذي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى‏ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمينَ نَذيراً﴾4.
وسمّاه الصحف: ﴿رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً﴾5.
 
وهناك ألفاظٌ عديدةٌ أُطلقت على القرآن الكريم على سبيل الوصف لا التسمية: 
 
 
 
 

1- البقرة، 2.
2- النمل، 1.
3- يس، 69.
4- الفرقان، 1.
5- البينة، 2.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

30

الدرس الأول: تاريخ القرآن

 كالمجيد، والعزيز، والعليّ كما في قوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجيدٌ﴾، ﴿وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزيزٌ﴾، ﴿وَإِنَّهُ في‏ أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكيمٌ﴾.

 
نزول القرآن عن طريق الوحي:
تلقَّى النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم القرآن الكريم عن طريق الوحي، ونظراً إلى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتلقَّى الوحيَ الإلهيّ من جهةٍ عُليا معنويَّةٍ، وهي الله سبحانه. لذا يقال أنَّ القرآن نزل عليه، للإشارة إلى علوِّ الجهة التي اتَّصلَ بها النبيُّ عن طريق الوحي، وتلقَّى عنها القرآن الكريم. ﴿وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى‏ وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فيهِ فَريقٌ فِي الْجنَّة وَفَريقٌ فِي السَّعيرِ﴾1.
 
والوحيُ لغةً هو: الإعلام في خفاء. أي الطريقة الخفية في الإعلام، وقد أطلق هذا الَّلفظ (الوحي) على الطَّريقة الخَّاصة التي يتصل بها الله تعالى برسوله، نظرا لخفائها ودقتها وعدم تمكُّن الآخرين من الإحساس بها. ولم يكن الوحي هو الطَّريقةُ التي تلقَّى بها خاتم الأنبياء وحده كلمات الله، بل هو الطريقة العامة لاتصال الأنبياء بالله وتلقّيهم الكتب السماوية منه تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَالنبيّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾2.
 
صور الوحي:
في سورة الشورى المباركة يقول الباري عز وجلّ ﴿وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إنَّه عَلِيٌّ حَكيمٌ﴾3. تبين هذه الآية الكريمة أن الوحي - هذا الإتصال الغيبي بين الله وأصفيائه - على ثلاث صور:
1- الإيحاء والوحي: يرى الراغب في مفرداته إن أصل الوحي يعني الإشارة السريعة سواء بالكلام الخافت أو الصوت الخالي، أو من التراكيب الكلامية، أو الإشارة بالأعضاء (بالعين واليد والرأس) أو بالكتابة.
 
ومن خلال ذلك نستفيد أن الوحي يشتمل على السرعة من جانب والإشارة من
 
 
 


1- الشورى، 7.
2- النساء، 163.
3- الشورى، 51.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

31

الدرس الأول: تاريخ القرآن

 جانب آخر، وهذه الكلمة تسخدم للارتباط الخاص والسريع للأنبياء مع عالم الغيب، وذات الخالق المقدّسة.

 
وهناك معان مختلفة (للوحي)، في القرآن المجيد وفي لسان الأخبار، فأحياناَ تطلق للارتباط الخاص بين الناس، وأحياناَ الارتباط الخاص بين الشياطين، وأحياناَ بخصوص الحيوانات.
 
- وحي النبوة: كما في الآية ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا﴾.
- الوحي بمعنى "الإلهام" سواء كان الملهم منتبها لذلك كما في قوله تعالى ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾1، أو مع عدم انتباه الملهم كالإلهام الغريزي كما هو الحال بالنسبة للنحل.
- الوحي بمعنى الإشارة، كما ورد في قصة زكريا ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾2.
 
ومن خلال الإستخدامات المختلفة للوحي ومشتقاته يمكن أن نستنتج أن الوحي الإلهي على نوعين: وحي تشريعي وحي تكويني.
 
الوحي التشريعي هو ما كان ينزل على الأنبياء، ويمثل العلاقة الخاصة بينهم وبين الخالق، حيث كانوا يتلقون الأوامر الإلهية والحقائق عن هذا الطريق.


أما الوحي التكويني فهو في الحقيقة وجود الغرائز والقابليات والشروط والقوانين التكوينية الخاصة التي أوجدها الخالق في أعماق جميع الكائنات في هذا العالم3.
 
2- من وراء حجاب: كما كان الخالق عز وجل يكلّم نبيّه موسى عليه السلام في جبل طور من وراء الشجرة ﴿وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمً﴾4، حيث كان عليه السلام يسمع نداء الحق بلا واسطة رسول بل من وراء حجاب، فيسمع الكلام ولا يرى المتكلم. فكان الحي إليه سماعاَ ومن دون رؤية.
 
3- أن يرسل سبحانه إلى رسوله مبلغاَ يبلغه رسالات ربه: ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ 
 



1- القصص، 7.
2- مريم، 11.
3- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج51، ص474، وج8، ص 832.
4- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج51، ص274، النساء، 164.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

32

الدرس الأول: تاريخ القرآن

 بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾. والرسول هو جبرائيل عليه السلام لأنه رسول الله إلى أنبيائه، وهم رسل الله إلى سائر خلقه بإذنه، والموحي هو الله سبحانه كما قال عز اسمه ﴿بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾1. فتحصل أن الصورة الثالثة وحي بتوسط الرسول الذي هو ملك الوحي الذي يوحي بإذن الله ما يشاء الله سبحانه.  قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ﴾2، وقال: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ﴾3.

 
وتدلُّ الرِّوايات على أنَّ الوحي الذي تلقَّى النّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عن طريقه الرِّسالة الخاتمة وآيات القرآن المجيد، كان بتوسيط الملك في كثير من الأحيان، وبمخاطبة الله لعبده ورسوله من دون واسطة في بعض الأحيان، وكان لهذه الصُّورة من الوحي التي يستمع فيها النبيّ إلى خطاب الله من دون واسطة أثرَها الكبير عليه. ففي الحديث أنَّ الإمام الصادق عليه السلام سئل عن الغشية التي كانت تأخذ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أكانت عند هبوط جبرائيل عليه السلام فقال عليه السلام: "لا، إن جبرائيل عليه السلام إذا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدخل عليه حتى يستأذنه فإذا دخل عليه قعد بين يديه قعدة العبد، وإنّما ذلك عند مخاطبة الله عز وجل إيّاه بغير ترجمان وواسطة"4.
 
نزول القرآن الكريم على النبيّ:
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾5.


نزل القرآن الكريم على النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بصورتين:
الأولى: النزول الدفعي للقرآن: وهو نزل القرآن دفعة واحدة وعلى سبيل الإجمال عل قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة القدر في شهر رمضان المبارك، وعبّر عنه في الآيات الشريفة بعبارة (الإنزال) وهي تشير إلى النزول الدفعي للقرآن الكريم، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا 
 
 
 

1- يوسف، 3.
2- الشعراء، 193-194.
3- البقرة، 97.
4- بحار الأنوار، ج81، ج62.
5- الزمر، 1و2.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

33

الدرس الأول: تاريخ القرآن

 أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، و﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾. وكان إنزاله على سبيل الإجمال مرة لأن الهدف منه تنوير قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة التي أعده لحملها.

 
الثانية: النزول التدريجي للقرآن: وهو نزول القرآن تدريجا وعلى سبيل التفصيل خلال المدة التي قضاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمته منذ بعثته إلى وفاته، واستغرق النزول التدريجي للقرآن: وهو نزول القرآن تدريجا وعلى سبيل التفصيل خلال المدة التي قضاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمته منذ بعثته إلى وفاته، واستغرق النزول التدريجي (32 عاماَ)، أي طوال فترة نبوة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وعبّر عنه بـ (التنزيل) كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾1، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾2.
 
والهدف من نزوله على سبيل التَّفصيل، هو نزوله بألفاظه المحدَّدة، وآياته المتعاقبة، والتي كانت في بعض الأحيان ترتبط بالحوادث والوقائع في زمن الرِّسالة، وكذلك مواكبةُ تطوُّرها.


وكان إنزاله على سبيل التفصيل تدريجيا لأنه يستهدف تربيةَ الأمة وتنويرها وترويضها على الرسالة الجديدة، وكذلك تثبيتَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مواقفه وتسديدَه فيها، وهذا يحتاج إلى التدرج. 
 
وفكرة تعدُّدِ التَّنزيل، بالصورة التي بيّناها، تفسِّر لنا أيضاً المرحلتين اللتين أشار إليهما القرآن الكريم في قوله تعالى ﴿كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكيمٍ خَبيرٍ﴾3، فهذه الآية المباركة تشير إلى مرحلتين في وجود القرآن: أولاهما إحكام الآيات، والثانية تفصيلها. وهذا ينسجم مع فكرة تعدد التَّنزيل فيكون التَّنزيلُ مرةً واحدةً على سبيل الإجمال، وهي مرحلة الإحكام، والتنزيل على سبيل التفصيل تدريجا وهي المرحلة التفصيل، التي استمرت طيلة ثلاثةٍ وعشرينَ سنة، وهي المدَّةُ التي قضاها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أمته منذ بعثه الله تعالى إلى حين وفاته. فقد بعث صلى الله عليه وآله وسلم لأربعين سنةٍ من ولادته ومكث بمكَّة ثلاث عشرة سنةً يوحى إليه، ثمَّ هاجر إلى المدينة وظل فيها عشر سنين، والقرآن يتعاقب ويتواتر عليه حتَّى توفي وهو في الثالثة والستين من عمره الشّريف. وقد امتاز القرآن عن الكتب السماوية السابقة عليه بإنزاله تدريجا، بخلاف ما يشير القرآن الكريم من إنزال التَّوراة على شكل ألواحٍ دفعةً واحدةً أو في مدَّةٍ زمنيَّةٍ محدودة. وقد كان لهذا التدرُّجِ في
 
 

1- الإنسان، 32.
2- الحجر، 9.
3- هود، 1.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

34

الدرس الأول: تاريخ القرآن

 إنزاله أثراً كبيراً في تحقيق أهدافه وإنجاح الدعوة وبناء الأمة1

 
السُّور والآيات المكيَّة والمدنيَّة:
يتألف القرآن من 114 سورة وتحتوي كلُّ سورةٍ على عددٍ من الآيات. وأوَّلُ آياتٍ نزلت كما يُنقل عن الإمام الصادق عليه السلام هي الخمسة الأوائل من سورة العلق قال: "أول ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسم الله الرحمن الرحيم إقرأ باسم ربك.."2، أمّا في آخر الآيات فهناك تباينٌ شاسعٌ في الآراء حول آخر آيةٍ نزلت. وسورةُ فاتحة الكتاب هي أوَّلُ سورة نزلتْ بشكلٍ كامل، وسورةُ النَّصر هي آخر سورة نزلت بشكل كامل. 
 
وتنقسم سور القرآن وآياته إلى مكيَّة ومدنيَّة. والضابط والمعيار في التمييز بين الآيات والسُّور المدنيَّة والمكيَّة هو الضابط الزماني، حيث جعلت هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي المعيار، فكلُّ آيةٍ أو سورةٍ نزلت قبل الهجرة أو أثناءها وقبل الوصول إلى المدينة فهي مكيَّة. وكلُّ ما نزل منها بعد الهجرة حتَّى وإن نزلت في مكّة فهي مدنيَّة. وعليه يكون لدينا في القرآن 86 سورة مكيَّة و28 سورة مدنيَّة.
 
وأمَّا الخصائصُ الغالبة على السُّور المكيَّة، فهي عبارة عن: الدعوةُ إلى أصول العقائد والأخلاق، الحديثُ عن القيامة والجنَّة والنَّار، مجادلةُ المشركين، كثرةُ القسم، قصصُ الأنبياء، صغرُ السُّور وقصرُ الآيات والإيجاز في الخطاب. أمّا الخصائص الغالبة على السُّور المدنيَّة فهي: طولُ السُّور والآيات، مجادلةُ أهل الكتاب، مجابهةُ المنافقين، ذكرُ الجهاد وأحكامه، بيانُ أحكام الحدود والواجبات والحقوق والإرث، بيانُ القوانين السياسية والاقتصادية والمعاهدات.
 
حفظ القرآن:
في بداية الدعوة; عقد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه العزم على حفظ القرآن في صدورهم. وكان العرب يتمتَّعون بهذه الهبة الإلهيّة وهي قوَّة الحفظ في حدِّ الكمال. ومع أنهم كانوا محرومين من نعمٍ كثيرة، إلا أنهم برعوا في الذكاء وقوَّةِ الذَّاكرة. فكانوا يحفظون 
 
 
 
 

1- الميزان في تفسير القرآن، ج2، ص71(بتصرف).
2- الكافي، ج2، ص 628.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

35

الدرس الأول: تاريخ القرآن

 القصائد الطويلة بكلِّ سهولة، ويختزلون في ذاكرتهم دواوين من الشعر، وكان العربيُّ يحفظ ما يسمعه مرةً واحدةً، ويودعه ذاكرته إلى الأبد. 


وقد قدم لهم القرآن ببيانه الساحر في صياغته ومحتواه، أروع كلام ورسالة تنفذ إلى أعماق الروح، حيث كانت الآيات والسُّور الأوّلى التي نزلت في مكّة مسجَّعةً وموزونةً تقريباً. وكان إيقاع الآيات والسُّور أخَّاذاً وجذَّاباً بحيث كان يبهرهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحثُّ أصحابه على حفظ الآيات والسُّور، حيث أنَّه في بداية الدَّعوة في مدينة مكّة لم يكن عدد الكًتَّابِ كثيراً، ولا أدوات الكتابة كانت متوفرةً. وهكذا وظَّفَ المسلمون قوةَ حفظهم في أكثر السُّبلِ قدسيَّةً، وجعلوا من صدورهم وقلوبهم موضعاً لآيات القرآن النيِّرة. 

مرحلة كتابة القرآن:
كانت ضرورة كتابة القرآن واضحةً تماماً في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأنّ الاعتماد على حفظ القرآن في الصُّدور لم يكن يبعث على الاطمئنان فيما يتعلق بصيانته والحفاظ عليه. ومع أنَّ عددَ الذين كانوا يجيدون القراءة والكتابة في عصر نزول الوحي قليلٌ جداً، بحيث ذكر البعض أنَّ عددَ من كان يجيدُ القراءةَ والكتابةَ في مكَّةَ لم يتجاوز سبعةَ عشر شخصا. إلا أنَّ اهتمام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن وكتابة الوحي، دفعه إلى استدعاء من يعرفون القراءة والكتابة من أجل كتابة وضبط آيات القرآن الكريم. فمتى ما كانت تنزل آيات من القرآن الكريم كان يدعو كتّاب الوحي ويأمرهم بكتابتها، وكانت هذه الجماعة تُسمَّى بـ "كتّاب الوحي". وكان علي بن أبي طالب عليه السلام كما يصرح الجميع تقريبا من أوائل كتّاب الوحي والمداومين على كتابته، حيث أنَّه عليه السلام كان يكتب أكثر الوحي ويكتب غير الوحي أيضاً. وتجدر الإشارة أنَّه كان هناك آخرون يكتبون الوحي أيضاً كأُبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود، وليس كلّ من كان يجيد الكتابة كان يؤذنُ له بكتابة الوحي، بل كان دورُ البعض منهم مقتصرٌ على أنْ يكتب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرسائل والعهود وعقود الصلح وغيرها من حوائج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المختلفة.

وكان كتّاب الوحي يكتبون الآيات حسب تسلسل نزولها، ومتى ما نزلت بسملة كانوا يعرفون أنَّ السُّورة السابقة انتهت وبدأت سورة أخرى فعن الإمام الصادق عليه السلام قال:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

36

الدرس الأول: تاريخ القرآن

 "ما أنزل الله من السماء كتابا إلا وفاتحته بسم الله الرحمن الرحيم وإنما كان يعرف انقضاء السُّورة بنزول بسم الله الرحمن الرحيم ابتداء للأخرى"1. وهكذا كانت تنتظم آيات القرآن على شكل سور على أساس الترتيب الطبيعي وهو ترتيب نزولها، فتأخذ الآيات المكيَّة موضعها في السُّور المكيَّة، وتأخذ الآيات المدنيَّة موضعها في السُّور المدنيَّة، حتَّى وإن كان من الممكن أنْ تطولَ مدَّةُ إكمال السُّورة التي تنزل آياتها مجزأة. 

 
ويستفاد من الوثائق التاريخية أنَّه كانت أحيانا تنزل آية أو آيات ولكن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر كتّاب الوحي بكتابتها في ثنايا سورة كانت قد نَزلت وخُتمت من قبل. وهذا النمط من تنظيم الآيات الذي كان يأتي خارج المسار الطبيعي لنزول الآيات، كان يحتاج إلى تصريح وتعيين من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسه. ولا شك في أنَّه كانت تكمن في ذلك حكمةٌ ومصلحة.
 
جمع القرآن:
إنَّ كتابة وتنظيم آيات القرآن الكريم، حصلت بلا شكٍّ قبل وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فكان كلما هبط الوحي بالآيات الكريمة، ثبتت في ذاكرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وسجّلتها فوراً أيدي كتّاب الوحي في الوضع الذي كان يأمر به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فترتيب الآيات في السُّور كان يتمّ بأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. إلا أنَّ جمع القرآن على صورة مصحف منسّقِ الآيات والسُّور ومنتظم الأوراق لم يتم في عهد الرسول الأمين صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لأنه كانت تنزل بعض آيات سورة من السُّور ومن ثمَّ تنقطع بنزول آيات سورةٍ أخرى قبل تلك السُّورة أو بعدها، ثمَّ يَستأنِف الوحي من جديد آيات السُّورة الأوّلى وهكذا حتَّى كمل التَّنزيل. 
 
ومما لا شك أنَّ حالةً كهذه يتعذَّرُ، بل يستحيل معها جمع القرآن مباشرة في مصحف واحدٍ عند نزوله، لأنّ النزول التدريجي للآيات يستلزم تغييراً مستمرَّاً في الرّقاع المدوّن عليها لتوضع الآية الجديدة محلها، والمشقة فيه غير خافية. كما أنَّه بعد ختم الله الوحي وإتمام النعمة وإكمال الدين لم يعش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فترة مناسبة ليقوم هو بترتيب وجمع الرقاع ونحوها في مصحف منسق واحد، فإنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قبض في السنة التي نزلت فيها آخر آية من القرآن. غير أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يتوفَّ إلا بعد أنْ أعلم العددَ الغفيرَ من الصَّحابة،
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج82، ص20.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

37

الدرس الأول: تاريخ القرآن

 بترتيب القرآن الكريم حتَّى صار حُفَّاظ القرآن الكريم يقرؤونه كاملا مرتبا على نحو ما أمر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم من جبرائيل، فكان ذلك ضماناً لترتيب السُّور والآيات في مصحفٍ واحد. وقد أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أميرَ المؤمنين علي عليه السلام بأن يأخذَ القرآن بعد وفاته ويجمَعَهُ كلَّه، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال:

 
"إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعليّ يا عليّ القرآن خلف فراشي في المصحف والحرير والقراطيس فخذوه واجمعوه ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة فانطلق عليّ فجمعه في ثوب أصفر ثمَّ ختم عليه في بيته وقال لا أرتدي حتَّى أجمعه وإن كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداءٍ حتَّى جمعه"1.
 
وعن الإمام علي عليه السلام قال: "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي وأوصاني إذا واريته في حفرته أنْ لا أخرج من بيتي حتَّى أؤلف كتاب الله فإنَّه في جرائد النخل وفي أكتاف الإبل.."2. وحين أتمَّ عليه السلام تجهيزَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتكفينه ودفنه والنَّاس منصرفون إلى شؤون البيعة والخلافة في سقيفة بني ساعدة، انصرفَ أمير المؤمنين عليه السلام إلى تنسيق تلك الرّقاعِ وتنظيمها وترتيب سورها وآياتها، وجعْلِهَا كتاباً واحداً بعد أنْ كانت في رقاعٍ متنوِّعةٍ وغيرِ منتظمة. 
 
ولكنْ ظلَّ المسلمون، وعلى الرَّغمِ من جمع القرآن وتنسيقه في مصحفٍ واحدٍ، يقرؤونه بقراءاتٍ شتَّى لاختلاف ألسنتهم، فكان الاختلافُ في الحركة الإعرابيَّة مثلاً مثارا للخلاف بينهم وتشتيت كلمتهم، وقد زادت حدة هذا الأمر بعد فتح بلاد أرمينية وآذربيجان، إذ قام بعده المسلمون بتوحيد قراءتهم للقرآن، فأصبحت قراءة واحدة بعد أن كانت أكثر من قراءة، وهي القراءة المعروفة الآن بين المسلمين، والتي تلقُّوها بالتواتر عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالتَّواتر، وبذلك منعَت سائرَ القراءات المختلفة.
 
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج89، ص48.
2- بحار الأنوار، ج28، ص227.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

38

الدرس الأول: تاريخ القرآن

 المفاهيم الرَّئيسة:

1- للكتاب الإلهيّ المنزل أسماء عديدة منها القرآن والفرقان والذكر.
2- نزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق الوحي الذي هو الطريقة الخاصة التي يتصل بها الله تعالى برسوله.

3- للوحي ثلاث صور وأنماط مختلفة: أمّا إلقاء المعنى في قلب النبيّ، أو تكليم النبيّ من وراء حجاب، أو من خلال ملك مرسل من الله إلى النبيّ.

4- نزول القرآن كان على مرحلتين؛ النزول الدفعي وهو الذي أنزل دفعة واحدة على قلب الخاتم، وهو النزول الإجمالي للقرآن. والنزول التدريجي هو الذي حصل طيلة فترة بعثت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهو النزول التفصيلي للقرآن.

5- في بداية الدعوة كان حفظ القرآن من خلال ما يختزنه العرب في ذاكرتهم القوية من الآيات والسُّور، وما يحفظونه منها.

6- بما أنَّ الاعتماد على حفظ القرآن في الصدور لم يكن يبعث على الاطمئنان لذا عمد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى تدوين القرآن وكتابته كلما نزلت آية من خلال الاستعانة بأشخاص عرفوا فيما بعد (بكتّاب الوحي)، وكان على رأسهم علي بن أبي طالب عليه السلام.

7- أوصى رسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قبل عروج روحه المقدّسة وهو على فراشه أمير المؤمنين عليه السلام بجمع القرآن الذي كان ما يزال في جرائد النخل وفي أكتاف الإبل، فانصرف الإمام علي عليه السلام إلى تنسيق تلك الرقاع وتنظيمها وترتيب سورها وآياتها حتَّى صارت في كتاب واحد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

39

الدس الثاني: حقيقة القرآن وفضله

 الدس الثاني: حقيقة القرآن وفضله




أهداف الدّرس:
1- بيان حقيقة القرآن وبعده الغيبيّ، وأنه ليس كتاباً كسائر الكتب.
2- التعرُّف على أهمّ الآثار النُّورانية للتمسّك بالقرآن.
3- بيان الهدف الحقيقي من القرآن الكريم.
 
ما هو القرآن الكريم:
القرآن الكريم أساسٌ الدِّين وبابُ الإسلام، وهو كتابُ الله الذي أودع فيه شريعته وحقائق دينه، أنزله للنَّاس هادياً وسراجاً منيراً ليخرجهم من الظلمات إلى النور. وأمرهم بالتمسك به لأنه كلمة الله التامة وإرادته الكاملة للبشرية في كلّ زمان ومكان، ﴿وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ واتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾1، فمن أراد الوصول إلى الله ما عليه إلا أنْ يسلك سبيله ويهتدي بهداه، ومن اهتدى إنما يهتدي به، ومن ضل فهو الذي يزيغ عنه.
 
1- فالقران كلام الله تعالى إلى خلقه، وهذا ليس أمراً عاديا، فأنْ يكلِّمَنا اللهُ تعالى نحن البشر ولو بالحروف والألفاظ فهذا ليس بالأمر البسيط، بل هو الكرامة بعينها والشرف العظيم. فمن نحن حتَّى يكلِّمنَا ربُّ السَّموات السَّبع والأرضين، وإله العالمين الذي لا حدَّ لقدرته ولا منتهى لعظمته!؟ لذا كان عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار إلينا بأن نحفظه ونراعي حدوده فلا نضيِّعها أبداً، لأنه نعمة الله الكبرى التي من تمسك بها فاز، ومن تخلف عنها خسر. فقد سئل إمامنا الرضا عليه السلام: ما تقول في القرآن؟ فقال عليه السلام: "كلام الله لا تتجاوزوه ولا تطلبوا الهدى في غيره
 
 
 
 

1- الأنعام، 155.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

40

الدس الثاني: حقيقة القرآن وفضله

 فتضلوا"1. وعن الرُّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنْ أَردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة يوم الحشر والظل يوم الحرور والهدى يوم الضلالة فادرسوا القرآن فإنَّه كلام الرحمن وحرز من الشَّيطان ورجحان في الميزان"2.

 
2- وهو الكمال الحقيقي والغنى الذي لا غنى بعده. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "القرآن غنى لا غنى دونه ولا فقر بعده"3. فمن أعطي القرآن فقد أعطي الخير المطلق والكمال الذي لا حد له وأفضل ما في الوجود، لأنه لا غنى ولا كمال فوقه على الإطلاق، ففيه علم الأوّلين والآخرين، ومن تحقق به كان من حملة القرآن وأولياء الحقّ المقربين. فعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "لا ينبغي لحامل القرآن أنْ يظنَّ أَنَّ أَحداً أُعطيَ أَفضل مما أعطي، لأنه لو ملَك الدُّنيا بأسرها لكان القرآن أَفضل ممَّا ملكه"4.
 
3- وهو مأدبةُ الله تعالى إلى خلقه، التي زيَّنها بأنواعٍ لا تعدُّ ولا تُحصى من الأطعمة العمليَّة والمعنويّة التي هي غذاء الرُّوح وكمالها الحقيقي، ووضع على هذه المأدبة كلَّ ما يحتاجه الإنسان وما ينفعه. ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنا للنَّاس في‏ هذَا القرآن مِنْ كلّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾5. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنَّ هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا مأدبته ما استطعتم"6
 
4- وفيه خزائن العلم الإلهيّ، التي من استفاض منها كان من عرفاء أهل الجنَّة. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "حملة القرآن عرفاء أهل الجنَّة"7. وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "آيات القرآن خزائن العلم فكلَّما فُتحت خزانةٌ، فينبغي لك أنْ تنظر ما فيها"8
 
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج 89، ص 117.
2- مستدرك‏ الوسائل ج4، ص 232.
3- وسائل الشيعة، ج6، ص168.
4- مستدرك‏الوسائل ج، 4 ص، 237.
5- الزمر، 27.
6- مستدرك‏ الوسائل ج، 4 ص، 232.
7- مستدرك ‏الوسائل ج، 4 ص، 243.
8- مستدرك ‏الوسائل ج، 4 ص، 238.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

41

الدس الثاني: حقيقة القرآن وفضله

 الهدف من تنزيل القرآن:

إنَّ لإنزال القرآن الكريم أهدافاً عديدةً ومتنوِّعةً ذكرها الله تعالى في هذه الصَّحيفة السَّماويَّة، ومن جُملة هذه الأهداف والمقاصد الشَّريفة والتي ذكرها عز اسمه:
1- هدايةُ النَّاس: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذي أُنْزِلَ فيهِ القرآن هُدىً للنَّاس وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى‏ وَالْفُرْقان﴾1.
2- إنذارُ النَّاس: ﴿وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى‏ وَمَنْ حَوْلَها﴾2. ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ في‏ لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرينَ﴾3.
 
3- رحمةُ للنَّاس: ﴿هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾4.
4- موعظةُ للنَّاس: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقينَ﴾5
 
5- دفعُ النَّاس إلى تقوى الله: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فيهِ مِنَ الْوَعيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً﴾6.


6- حثُّ النَّاس على التفكُّر والتعقُّل: ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾7. ﴿وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ للنَّاس ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾8.
 
7- تذكيرُ النَّاس وحثهُّم على التدبّر: ﴿كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ﴾9
8- تبليغ الأحكام الإلهيّة للنَّاس: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاس بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنينَ خَصيماً﴾10.
 
 


1- البقرة، 185.
2- الأنعام، 92.
3- الدخان، 3.
4- الأنعام، 155.
5- النور، 34.
6- طه، 113.
7- يوسف، 2.
8- النحل، 44.
9- ص، 29.
10- النساء، 105.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

42

الدس الثاني: حقيقة القرآن وفضله

 9- الحكم بين النَّاس: ﴿وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾1.



آثار التمسك بالقران:
القرآن الكريم كلام الله وللتمسك بكلِّامه آثار طبية ومتنوعة منها:
1- الهداية من الضلالة: القرآن الكريم مظهر هداية الله، وسرّ النجاة من الضلالة: ﴿إِنَّ هذَا القرآن يَهْدي لِلَّتي‏ هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنينَ الَّذينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبيراً﴾2. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إني تارك فيكم الثقلين ما إنْ تمسكتم بهما لن تضلُّوا كتاب الله وعترتي أَهل بيتي وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض"3
 
2- الارتقاء في مراتب الآخرة: كلُّ آيةٍ من آيات القرآن الكريم تمثِّلُ درجةً من درجات الجنَّة، وكلَّما تحقَّقَ الإنسانُ بآيةٍ من آيات الكتاب الإلهيّ، كلَّما ارتقى في مراتب الجنَّة. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "عدد درج الجنَّة عدد آيات القرآن، فإذا دخل صاحب القرآن الجنَّة قيل له، اقرأ وارق لكلِّ آية درجة فلا تكون فوق حافظ القرآن درجة"4.
 
3- الشِّفاءُ: القرآن هو الشافي الحقيقي لأمراض النفوس المزيل لأمراض القلوب، وهو إكسيرُ السعادة في الدَّارين. فمن أراد أنْ يطهر باطنه من الأمراض والرذائل الأخلاقية والذُّنوب الممحقة ما عليه سوى التَّمسك بهذا النور الإلهيّ. قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنينَ وَلا يَزيدُ الظَّالِمينَ إِلاَّ خَساراً﴾5.
 
 
 
 

1- النحل، 64.
2- الإسراء، 9.
3- وسائل الشيعة، ج27، ص33.
4- مستدرك الوسائل، ج4، ص231.
5- الإسراء، 82.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

43

الدس الثاني: حقيقة القرآن وفضله

 وعن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له قال: "واعلموا أنَّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد قبل القرآن من غنى فاستشفوه من أَدوائكم واستعينوا به على لأوائكم فإنَّ فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال"1. وعنه عليه السلام أيضاً قال: "وتعلموا القرآن فإنَّه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنَّه شفاء الصدور"2.

 
4- حملته يحشرون مع الأنبياء: من كرامة الله على حامل القرآن أنْ يرزقه ثوابَ الأنبياء ويحشرهَ معهم، فعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنَّ أَكرم العباد إلى الله بعد الأنبياء العلماء، ثمَّ حملةُ القرآن يخرجون من الدُّنيا كما يخرج الأنبياء ويُحشرون من قبورهم مع الأنبياء، ويمرون على الصراط مع الأنبياء ويأخذون ثواب الأنبياء، فطوبى لطالب العلم وحامل القرآن مما لهم عند الله من الكرامة والشرف"3
 
5- النجاة من العذاب: لأنّ الله تعالى لا يعذِّبُ من تلبَّسَ برداء القرآن ظاهراً وباطناً، لأنه صار مظهراً للقرآن خَلقا وخُلقا، ولأنّ القرآن هو الجنَّة نفسها. فعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اقرؤوا القرآن واستظهروه فإنَّ الله تعالى لا يعذب قلبا وعى القرآن"4.
 
6- الخروج من الظلمات إلى النور: فهو الكتاب السماوي الوحيد الذي يهدي إلى سبل الخير والسَّلام، وهو نور الله المتصل بين الأرض والسماء، والصراط المستقيم الذي من سلكه نجا ومن تخلَّفَ عنه هلك: ﴿قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبينٌ * يَهْدي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلام وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْديهِمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقي﴾5
 
 
 
 

1- جامع أحاديث الشيعة، ج15، ص63.
2- وسائل الشيعة، ج 6، ص167.
3- مستدرك الوسائل، ج4، ص244.
4- مستدرك الوسائل، ج4، ص245.
5- المائدة، 15 16.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

44

الدس الثاني: حقيقة القرآن وفضله

 7- الشفاعة: من نعم الله السَّابغة على المتمسِّكِ بالقرآن الكريم، أنْ يرزقَه الشَّفاعةَ التي هي من أهمّ خصائص الأنبياء والأولياء والشُّهداء، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من استظهر القرآن وحفظه، وأحل حلاله، وحرّم حرامه، أدخله الله به الجنَّة وشفَّعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجب له النَّار"1.

 
8- الإيمان: تجذُّر الإيمان في النفس وتكامله، هو من أهمّ الآثار المترتبة عن التمسك الحقيقي بالقرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إيماناً وَعَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾2.
 
9- الخشوع: من المواهب السَّنـيَّة التي يهبها الله تعالى للمتحقِّق بآيات القرآن، أنْ يلين قلبه ويجعلَهُ خاشعاً من خشيته: ﴿لَوْ أَنْزَلْنا هذَا القرآن عَلى‏ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّه﴾3.‏ وقال عزَّ اسمه: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَديثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثمَّ تَلينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى‏ ذِكْرِ اللَّه﴾4.
 
 
 
 

1- مستدرك الوسائل، ج4، ص245.
2- الأنفال، 2.
3- الحشر، 21.
4- الزمر، 23.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

45

الدس الثاني: حقيقة القرآن وفضله

 المفاهيم الرَّئيسة:

1- القرآن الكريم كلام الله إلى خلقه، وحقيقتُه الكمال المطلق الذي لا حدَّ له، والذي تجسد بصورة الحروف والألفاظ، أنزله الله تعالى من مقام قربه وقُدْسِهِ إلى عباده، ليخرجهم من ظلمة الشرك والأنا إلى نور التَّوحيد والفناء. وأودع فيه كلَّ ما يحتاجه الإنسان وينفعه، وفيه خزائنُ علم الحقّ. 

2- للتمسُّك بالقرآن الكريم أثارٌ نورانيَّةٌ على قلب الإنسان ومصيره في الآخرة، بدءًا من الهداية وتجذر الإيمان في القلب وليس انتهاءً بدخول الجنَّة ونيل شفاعة القرآن فيها.

3- لنزول القرآن أهدافٌ عديدةٌ، منها: هدايةُ النَّاس إلى سبيل الله، وإنذارُهم وحثُّهم على تقوى الله وطاعته، وحثُّهم على التفكُّر والتعقل. ومن أهداف القرآن الأساسية بيان الأحكام والقوانين الإلهيّة على الصعد المختلفة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

46

الدّرس الثالث: القرآن الكريم المعجزة الخالدة

 الدّرس الثالث:القرآن الكريم المعجزة الخالدة

 
 
أهداف الدّرس:
1- بيانُ ضرورة المعجزة وأهمّيتِها في هداية النَّاس إلى الله.
2- بيانُ أنَّ معجزة الإسلام الأساسية والكبرى هي القرآن الكريم.
3- بيانُ الأوجه المختلفة لإعجاز القرآن.
 
ضرورة المعجزة:
الحكمة الإلهيّة تقتضي تزويد الإنسان بطريق للهداية إلى الله تعالى، غير طريق الحسّ والعقل لقصورهما وعدم قدرتهما بذاتهما على معرفة طريق الهداية إلى الله بكلِّ أبعاده وتفاصيله. فكانت الحاجة إلى طريق أخر غير الحسّ والعقل، وهذا الطريق هو طريق الوحي والنُّبوَّة، أي طريق الغيب ﴿ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحيهِ إِلَيْك‏﴾1
 
وبما أنَّ أفراد النَّاس ليسوا جميعهم مؤهلين لاستقبال الوحي، فلا بدَّ إذن من الوحي لبعضهم ورجوع الآخرين إليهم لمعرفة إرادة الرب ومشيئته. وبما أنَّ الوحي ليس أمراً محسوساً للآخرين حتَّى يروه ويعرفوا أنَّ هذا الشخص الذي قد أوحي إليه أنَّه هو النبيّ، كان لا بد من وجود طريق نعرف من خلاله تميز ذلك الشخص ولياقته لتلقي الوحي الإلهيّ، ولا بدَّ أنْ تكون لديه علامةٌ على ذلك من قبل الله تعالى. أي لا بدَّ أنْ يكون فيه أثرٌ يدلُّ على ارتباطه بالله عز وجل. وهذه العلامة أو الطريق ليست سوى "المعجزة" التي يُختصُّ بها النبيّ وحده، والتي تمكِّنُه من فعل أشياءَ يعجزُ سائر النَّاس عن فعلها والإتيان بمثلها. 
 
والمعجزة، هي أمرٌ خلافٌ المجاري العاديّة والسنن الطبيعية والتي لا تحصل إلا بقدرة
 
 
 
 

1- آل عمران، 44.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

47

الدّرس الثالث: القرآن الكريم المعجزة الخالدة

 الحقّ عزّ وجل وإرادته، فتكون هذه المعجزة دليلاً على شدَّة ارتباط هذا الشخص بالله، وعلى نبوَّته. فالحقّ سبحانه وتعالى، يؤيّد أنبياءه بالمعجزات الباهرات التي تجعل المرءَ مشدوهاً إلى صاحبها والذي ما يلبث أنْ يعترف أنَّه لا يملك شيئا من عند نفسه، وإنَّما هو مبعوث من الله الحقّ. 

 
وبما أنَّ النَّاس ينجذبون إلى ما هو خارق للعادة، وبما أنهم لم يقدروا على الإتيان بمثله، فإنهم يعترفون بعجزهم أمام النبيّ الذي راح يتلو عليهم آيات الله ويلفتهم إلى المعجزة الكبرى التي هي سر العالم. فالمعجزة إذا ظاهرة عامة في كلّ النبوات، وتأييد لمدّعاهم بالسفارة من الله. وهي فعل يعجز الآخرون عن الإتيان بمثله، لذا أصبحت طريقا لمعرفة النبيّ. 
وللمعجزة علامتان أساسيتان: 
الأوّلى: أنَّه لا يمكن أنْ يتغلّب عليها أيّ عاملٍ آخر أقوى منها.
الثاني: أنَّها غير قابلة للتَّعلم والتَّعليم، وإنَّما هي موهبة إلهية يمنحها الله لمن يشاء من عباده.
 
معجزة القرآن:
العقل الإنساني يحكم بضرورة المعجزة للأنبيّاء فيما إذا توقف عليها إتمام الحجة على النَّاس وهدايتهم، والأنبياء بشكل عام لا بدَّ أنْ يكونوا مؤيدين بالإعجاز. ولكن في القرآن الكريم لم يرد لفظ "المعجزة"، وإنَّما بدل المعجزة استخدم القرآن كلمة "الآية" ﴿كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون‏﴾1، ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُريكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها﴾2. والآية في اللغة بمعنى العلامة، سواء كانت علامة حسية (كالظواهر الكونية المحسوسة) أم علامة عقلية. 

والقرآن الكريم يعدّ جميع ظواهر العالم آيات إلهية، بمعنى: إنَّ التأمُّل فيها يلفت الإنسان إلى الله تعالى وصفاته المختلفة. 

والآيات الإلهيّة تنقسم إلى فئتين:
1- الآيات التكوينيَّة: وهي مخلوقات الله. ﴿وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ
 
 
 

1- آل عمران، 103.
2- النمل، 93.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

48

الدّرس الثالث: القرآن الكريم المعجزة الخالدة

 تُرابٍ ثمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾1. ﴿وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ في‏ ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمينَ﴾2

 
2- الآيات التَّشريعيَّة: وهي كلام الله. ﴿هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهات‏﴾3. ﴿وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدي مَنْ يُريد﴾4.
 
فالقرآن الكريم قد ذكر الكثير من معاجز الأنبياء والرسل كمعجزة "المائدة" و"الناقة" و"ولادة عيسى عليه السلام "ومعاجز" موسى عليه السلام "و معاجز "نوح عليه السلام" و "إبراهيم عليه السلام" والكثير من المعاجز التي حصلت للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. والملاحظة المهمَّة في مجال المعجزات أنَّ جميعَ معجزات الأنبياء والرسل عليه السلام باستثناء معجزة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كانت مقصورة على الحاضرين، حيث كانت تثبت عندهم بالمشاهدة ثمَّ يتم إثباتها للغائبين عن طريق النقل. فجميع الرِّسالات السَّماوية السَّابقة على الإسلام كانت محدودةً في الزَّمان والمكان، والآيات القرآنيّة تشيرُ إلى ذلك بوضوح.
 
ولكن لمَّا كانت رسالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هي الرِّسالة الخاتمة حيث أنَّه لا نبيّ بعده ﴿ما كانَ محمَّد أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النبيّينَ وَكانَ اللَّهُ بكلِّ شَيءٍ عَليما﴾5، وبما أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يبعثْ لأمَّةٍ محددَّة في مكانٍ محدّد، وزمان معيَّن، أو زمان خاص، وإنما أُرسل إلى النَّاس كافّةً كما تشيرُ الآيات القرآنيّة ابتداءً إلى شموليَّة دعوته صلى الله عليه وآله وسلم وعمومية نبوّته لجميع البشر ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً للنَّاس بَشيراً وَنَذيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس لا يَعْلَمُونَ﴾6، فلا بد أنْ تتبعه البشرية منذ ذلك الوقت إلى أنْ يرث الله الأرض ومن عليها، لذا كانت الحكمةُ الإلهيّةُ تقتضي تزويد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة خالدة لا تقتصر على زمان خاص، ولا على مكانٍ معينٍ.
 
فرسالةُ الإسلام أبديَّةٌ عالميةٌ، ولا بد أنْ تكونَ معجزته كذلك وقد تحقَّق ذلك في 
 
 
 

1- الروم، 20.
2- الروم، 22.
3- آل عمران، 7.
4- الحج، 16.
5- الأحزاب، 40.
6- سبأ، 28.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

49

الدّرس الثالث: القرآن الكريم المعجزة الخالدة

 القرآن الكريم، وهو بنفسه يصرِّح بذلك حيث ينقل عن البعض قولهم أنَّه لو أردنا أنْ نأتيَ بمثله لفعلنا: ﴿وَإِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطيرُ الأوّلين‏﴾1. ولكن القرآن تحدّاهم بصورٍ متعددة منها قوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا القرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهيراً﴾2

 
والصورة الأخرى هي أنَّه تحدّاهم أنْ يأتوا بعشر سور مثله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ﴾3
 
والصورة الثالثة هي أنَّه تحدّاهم أنْ يأتوا بسورة مثله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين‏﴾4


وآية أخرى تتحدى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ في‏ رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى‏ عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ * فإنَّ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّار الَّتي‏ وَقُودُهَا النَّاس وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرينَ﴾5
 
هكذا كان جوُّ المعارضة في القرآن، بحيث أنَّه لو فكَّر إنسانٌ فيه فسوف يقطع بأنَّ هذا الكتاب منزلٌ من الله تعالى، فهو حديث باللغة العربيَّة مكوّن من حروف وكلمات تستعمل في الحوار اليومي، إلا إنَّ أحدا لا يستطيع أنْ يأتي بسورة مثله مكونة من سطر واحد، لذا كان القرآن الكريم معجزة الرسول الكبرى والخالدة.
 
 
 

1- الأنفال، 31.
2- الإسراء، 88.
3- هود، 13-14.
4- يونس، 38.
5- البقرة: 23-24.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

50

الدّرس الثالث: القرآن الكريم المعجزة الخالدة

 وجوه إعجاز القرآن

القرآن الكريم يؤكد أنَّه معجزة وأنه لا يمكن الإتيان بمثله على الإطلاق. وقد كتبت مؤلفات لهذا الغرض، ولكن نشير إجمالا إلى وجوه إعجاز القرآن:
1- البلاغة والفصاحة: من جملة وجوه إعجازه، بلاغته. والبلاغة هي صياغة الكلام بحيث يتفق مع مقتضى الحال، ويؤدِّي أهدافَ القائل على أفضل وجه. فالبلاغةُ لا تقتصر على اختيار الكلمات الجميلة والجذَّابة، وإنَّما لا بد بالإضافة إلى ذلك من الأخذ بعين الإعتبار هدف القائل ووضع السَّامع. ولما كان الله تعالى يعرف هدفه أفضل من الجميع ويعرف وضع عباده أحسن من كلّ أحد، وهو المحيط بكلِّ التركيبات الُّلغوية، فإنَّه تعالى يستطيع بيان هدفه على أساس ما تقتضيه حال عباده وبأفضل وجه ممكن، أمّا الآخرون فهم محرومون من مثل هذه الخصائص. والشاهد على كونه إعجازا، أنَّه لم يستطع أحد على طول التاريخ أنْ يأتيَ بمثله مع وجود كلِّ هذا التراث الأدبي والبلاغي، الضَّخم ووجود كلِّ الدواعي التي تحمل على المعارضة، فكلما صاغ إنسانٌ ما كلاماً وجده المطّلعون وذوو الخبرة أخفض منزلة من القرآن.
 
2- عدم وجود الاختلاف فيه: ومن وجوه إعجاز القرآن أيضاً عدم وجود الاختلاف فيه: قال تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾1. فلو كان الكلامُ صادراً من إنسانٍ لوُجِدَ فيه الاختلاف، لأنَّ الإنسان كجميع الموجودات المادية في حالة تغيُّرٍ دائمٍ ومستمر، فهو يخضع لتأثير العوامل المحيطة المختلفة فيتكامل وتزداد معلوماته وتتغيَّر حالاته، كلُّ هذه الأمور تؤثر في كلامه فلا يستطيع أنْ يحافظ على لون واحد من الكلام والبلاغة طيلة عمره. فتارة ينخفض مستوى كلامه وأخرى يرتفع. 
 
3- ومن وجوه إعجاز القرآن أيضاً أنْ حامله شخص لم يتلق درسا من العلماء، وكانت
 
 
 
 

1- النساء، 82.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

51

الدّرس الثالث: القرآن الكريم المعجزة الخالدة

 طريقته في الحديث مثل سائر النَّاس ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النبيّ الأُمِّي﴾1 ثمَّ فجأة يظهر هذا الكلام المنقطع النظير الذي لا يمكن مقارنته بأحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة، وإن كانت بحدِّ ذاتها في مستوىً رفيعٍ من حيث البلاغة والفصاحة. قال تعالى: ﴿قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾2.

 

 
فالرسولُ صلى الله عليه وآله وسلم يريد أنْ يقول لأمته أنَّني قد عشت معكم كلَّ هذا العمر ولم تلاحظوا صدور مثل هذا الكلام مني وبعد أربعين عاما من عمري لاحظتم صدور كلام يختلف عن كلامي السابق، فلو لم يكن من الله لوجدتم أنَّه مثل كلامي. ﴿وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُون‏﴾3
 
4- ومن أهمّ وجوه إعجازه أنَّه كتابٌ جامعٌ  وشامل لكلِّ ما يحتاجه الإنسان في كافة أبعاد ومجالات حياته: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾4. فالإنسان يستحيل عليه أنْ يكون ملمّاً بجميع المجالات والاختصاصات الإجتماعية، السياسية، الدينية، الاقتصادية، العسكرية وغيرها في آنٍ واحد. وقد ثبت عملياً أنَّ الإنسان إذا أراد أنْ يتقدم في مجال ما، لا بدَّ أنْ ينفق كلّ عمره في اتجاه واحد، حتَّى يتخصَّص فيه ويلمّ بمعظم جوانبه. وأما أنْ يأتي إنسان بكتاب جامع لجميع المجالات  والاختصاصات لهو دليل على إعجازه وأنَّه من عند الله تعالى.
 
5- إنّ تفاعل الأذواق المتغيرة عبر العصور مع آيات القرآن الكريم وشعور النَّاس بأنه يخاطبهم ويلامس احتياجاتهم ومشاكلهم ويقدّم الحلول الناجعة لهم دليل أيضاَ إعجازه. عن الرضا عليه السلام عن أبيه عليه السلام: "أنّ رجلاَ سأل أبا عبد الله عليه السلام ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة، فقال: إن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولناس دون ناس، فهو في كل زمان 
 
 
 

1- الأعراف، 158.
2- يونس، 16.
3- العنكبوت، 48.
4- النحل، 98.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

52

الدّرس الثالث: القرآن الكريم المعجزة الخالدة

 جديد، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة"1. وأيضاَ إعتراف الناس والعلماء والمفسرين بعجزهم عن الإحاطة التامة به رغم ما تقدّم من تفاسير وأبحاث حول آياته وموضوعاته، لهو دليل آخر على إعجازه.

 
6- ومن وجوه الإعجاز الأخرى إتيانه بمواضيع علمية لم تكن مقبولة في ذلك الزمان، من قِبَلِ المحافل العلمية، ثمَّ تقدمت بعد ذلك وأُثبتت صحتها..


7- ومن وجوه إعجاز القرآن إخباره بالغيب، وتنقسم هذه الأخبار إلى قسمين: قسم منها يتعلَّق بالحوادث الماضية التي لم يكن لأحد من النَّاس سبيل إليها: ﴿ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾2
 
والقسم الآخر يتعلَّقُ بالأحداث التي ستقع في المستقبل منها قوله تعالى: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * في‏ أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾3. ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنينَ مُحَلِّقينَ رؤوسَكُمْ وَمُقَصِّرينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَريباً﴾4
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج2، ص82.
2- آل عمران، 44.
3- الروم، 2- 3.
4- الفتح، 27.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

53

الدّرس الثالث: القرآن الكريم المعجزة الخالدة

 المفاهيم الرَّئيسة:

1- الإنسان ليس بمقدوره الاهتداء إلى طريق الله بواسطة الحواس والعقل لقصورهما وعجزهما، لذا كانت الحاجة إلى طريق آخر غيبيّ، وهذا الطريق هو طريق الوحي والنُّبوَّة.

2- للمعجزة علامتان أساسيتان هما: أنها غير قابلة للتعلم والتعليم، وأنه لا يمكن أنْ يتغلب عليها أيُّ عامل آخر أقوى منها.

3- المعجزة قسمين: معجزة تكوينية ومعجزة تشريعية.
4- القرآن الكريم معجزة الإسلام التشريعيَّة الخالدة، فكونُ الإسلام رسالة أبدية عالمية، وكون دعوةُ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ونبوته لجميع البشر، فهي غيرُ محدَّدةٍ بمكان خاص وزمان خاص، وإنما أرسله الله تعالى إلى النَّاس كافة. 

5- لإعجاز القرآن أوجه عديدة منها؛ البلاغة المنقطعة النظير، عدم وجود أي اختلاف أو تناقض فيه، أنَّ حامله لم يتلقَ درساً في حياته على أحد، وأنه جامع لكلِّ مراتب الهداية وفيه كلّ ما يحتاجه الإنسان بحيث أنَّ كلَّ واحد يجد فيه ريَّا لعطشه، إخباره بالغيب في موارد كثيرة سواء التي حصلت أو التي سوف تحصل، إتيانه بمواضيع علمية لم تكن معروفةً سابقاً. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

54

الدّرس الرابع: سلامة القرآن من التَّحريف

 الدّرس الرابع: سلامة القرآن من التَّحريف



أهداف الدّرس:
1- بيانُ معنى التَّحريف وأقسامه.
2- التعرُّف على نوعي التَّحريف المعنويّ واللَّفظي.
3- معرفة أدلة صيانة القرآن عن التَّحريف..

خاتم الكتب السماوية:
من البحوث المهمَّة المتعلقة بالقرآن الكريم موضوع عدم تحريفه. فالكتب السماوية قبل الإسلام تعرضت للتغيير والتَّحريف، وهذا ما أدّى إلى زعزعة الثقة فيها والاعتقاد بها. والإسلام باعتباره آخر وأكمل وأفضل الأديان الإلهيّة، وفيه التشريعات التي تضمن تكامل الإنسان ورقيه ماديّاً ومعنويّاً كان لا بد من سلامته من التَّحريف كي يبقى طريق الله، باب الهداية إليه مفتوحا، وإلا لانتفت الحكمة من كونها الرسالة والشَّريعة الخاتمة. ففي السابق رغم أنَّ التغيير والتَّحريف الذي حصل في الكتب السماوية قد فتح الباب للتشكيك في أصول وأركان تلك الأديان، إلا أنَّ المسار التدريجي للتشريعات الإلهيّة وتوالي الشرائع السماوية لتحلّ كلّ واحدة مكان سابقتها قد قلص وعوّض إلى حدّ ما عن الخسارة الناتجة عن التَّحريف. 

وهذا ما لا يمكن أنْ ينطبق على القرآن الكريم كونه آخر الكتب المنزلة من الحقّ سبحانه وتعالى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

55

الدّرس الرابع: سلامة القرآن من التَّحريف

 معنى التَّحريف وأقسامه:

تحريف الشيء إمالته والعدول به عن موضعه إلى جانب، وهذا مأخوذ من حروف الشيء بمهنى طرفه وجانبه، يقال طرفت الشيء وحرّفته أي أخرجته عن مواضعه واعتداله ونحيّيته عنه إلى جهة الحرف وهو طرف الشيء1.
 
وإذا أردنا تقسيم التحريف تقسيماَ إجمالياَ، فإنّ تحريف الكلام ومن ضمنه تحريف القرآن، ينقسم إلى قسمين:
- التحريف المعنوي.
- التحريف اللفظي.
 
ولا خلاف في وقوع التحريف المعنوي في القرآن، ووقع الخلاف بين المسلمين في التحريف اللفظي.
ويذكر القرآن الكريم بأن هناك نوعا من هذا التحريف تعرّضت له الكتب السماوية، قال الله تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الكلِّمَ عَنْ مَواضِعِه‏﴾2، وآيات أخرى نظير الآية 57 من سورة البقرة، والآية 14 من سورة المائدة.
 
التَّحريف المعنويّ في القرآن:
هو التحليل والإستنتاج الخاطئ والتفسير لكلام معيّن بما يخالف المقصود الحقيقي للمتكلم، وبالتأكيد فإن القرآن الكريم تعرّض لهذا النوع من التحريف، ولا خلاف بين المسلمين في وقوع مثل هذا التحريف في كتاب الله، فإن كلّ من فسّر القرآن بغير حقيقته فقد حرّفه، ونرى كثيراَ من أهل البدع والمذاهب الفاسدة قد حرّفوا القرآن بتأويلهم آياته على آرائهم وأهوائهم3.
 
ورغم أنَّ القرآن لم يستخدم كلمة التَّحريف في هذا المجال إلا أنَّه قال: ﴿فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِه‏﴾4، فهذه الآية تبيِّنُ صراحةً أنَّ
 
 


1- مفردات ألفاظ القرآن الكريم، ص 228.
2- المائدة، 13.
3- السيد أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص197.
4- آل عمران، 7.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

56

الدّرس الرابع: سلامة القرآن من التَّحريف

 البعض يتخذون الآيات المتشابهة ذريعة لتأويل باطلهم رغبة في إثارة الفتنة. وليس ثمَّة شك في حصول التَّحريف المعنويّ للقرآن، لأنّ التَّفسير بالرأي، يعني تحريف المعنى وهو ما حصل في مواضع كثيرة. فقد ظهرت في تاريخ تفسير القرآن مذاهبُ كلامية وفرق، كان المنشأ الأصليّ لظهورها الفهم المغلوط لآيات القرآن الكريم، أمثال المفوّضة والمجسّمة وغيرهم..

 
وقد أشارتْ الرِّوايات إلى وقوع مثل هذا التَّحريف وذمَّتْ من فعلوا ذلك، فعن الإمام الباقر عليه السلام أنَّه قال: "..وكان من نبذهم الكتاب أنْ أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده فهم يروونه ولا يرعونه والجهال يعجبهم حفظهم للرّواية والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية.."1.
 
التحريف اللفظي:
كثر الكلام في التحريف اللفظي للقرآن الكريم، وذُكرت أوجه عديدة أغلبها لا علاقة له بالتحريف. ويمكن حصر أهم ما اصطلح عليه بالتحريف اللفظي في موارد ثلاثة، القاسم المشترك بينها النقص أو الزيادة في بعض الحروف أو الحركات أو الآيات، وفي ما يلي إشارة موجزة إلى أهم هذه الموارد:
1- النقص أو الزيادة في الحروف، أو في الحركات، مع حفظ القرآن وعدم ضياعه، وهذا واقع في القرآن، ومثاله اختلاف القراءات وعدم تواترها.
2- التحريف بالزيادة والنقيصة في بعض الآيات مع التحفظ على القرآن المنزل، ومثاله الاختلاف الواقع على جزئية البسملة من كل سورة، حيث أجمع الإمامية على ذلك، وخالف غيرهم...
3- التحريف بالنقيصة، بمعنى أن المصحف الذي بأيدينا لا يشمل على جميع القرآن الذي نزل من السماء...، والتحريف بهذا المعنى هو الذي وقع في الخلاف، فأثبته قوم، ونفاه آخرون، ووجّهت التهم إلى بعض محدّثي الشيعة بتبني هذا القول، إضافة إلى جماعة من أهل السنة. والتفصيل في هذه الأقوال يحتاج إلى دراسة متخصّصة مفصّلة...2
 
 
 

1- الكافي، ج8، ص52. 
2- السيد أو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن، من ص 197 وحتى 602.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

57

الدّرس الرابع: سلامة القرآن من التَّحريف

 أدلة عدم تحريف القرآن:

المعروف بين علماء المسلمين عدم وقوع تحريف في القرآن الكريم، أو وجود زيادة في آياته وكلماته. وهناك دليل عقلي أيضاَ على عدم وقوع التحريف وذلك لأنّ اهتمام المسلمين الفائق بحفظ وتعلم القرآن وقراءته، خلق بينهم جوّاَ جعل آيات القرآن معروفة ومأنوسة لديهم جميعاَ. وعلى هذا الأساس لو كانت هناك جملة أو جمل تطرح كآيات من القرآن لانكشفت وبانت للجميع ولرفضوها. وقد صرّح أعاظم علماء الإمامية وأعلامهم من المتقدمين والمتأخرينبعد وقوع التحريف في الكتاب، وأجمعوا على أن ما بين الدفتين هو القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم دون زيادة أو نقيصة. 
 
هناك أدلة كثيرة على سلامة القرآن من التَّحريف نأتي فيما يلي على تسليط الضّوء على قسم منها:
أولاً: الدليل القرآنيّ:
وهي قوله تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾1. ﴿وإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزيزٌ * لا يَأْتيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميدٍ﴾2.


لقد تحدثت هاتان الآيتان عن سلامة القرآن من التَّحريف، وأكَّدت على ذلك بعبارات تبعثُ على الثِّقة والاطمئنان. ففي الآية الأوّلى وضعت "إنّ" والضمير المنفصل "نحن" ولام التأكيد في "لحافظون" وضعت إلى جانب بعضها البعض لبيان هذه الحقيقة المهمَّة الخالدة.  وخلاصة الإستدلال أن المراد من الذكر هو القرآن الكريم، والمراد من حفظه هو إبقاءه على ما هو عليه، وكما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلو فرض إسقاط آية منه فلا يكون حينئذٍ محفوظاَ من قبل الله، ولم يف الله بما وعد والعياذ بالله.
 
وفي الآية الثانية جاءت كلمة العزيز التي تعني المنعة وعدم الخضوع للعوامل الأخرى ولا التأثر بها، لتبين هذه الحقيقة وهي أنَّ آيات القرآن وألفاظه وعباراته على درجة من الثبات والمنعة بحيث يعجز الباطل عن النفوذ إليها. فالتعبير بـ:  لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ فيه دلالة واضحة على أن التحريف باطل، فلا سبيل لتطرّقه إلى القرآن الكريم.
 
 

1- الحجر، 9.
2- فصلت، 41-42.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

58

الدّرس الرابع: سلامة القرآن من التَّحريف

 ثانيا: الدليل الروائي:

1- حديث الثقلين: وهو من الأحاديث المتواترة والمنقولة عن طريق العامَّة والخاصَّة. فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتَّى يردا عليّ الحوض ما إنْ تمسكتم بهما لن تضلوا"1. هذا الحديث شاهد تام ودليل قاطع على سلامة القرآن من التَّحريف، وهو يعلن صراحةً أنَّ القرآن باقٍ في النَّاس إلى يوم القيامة. أمّا لو طال التَّحريف القرآن فلَمَا أمكن التمسك به ولا بالعترة، لأنّ العترة لا تُعتبر حجّةً مستقلةً بمعزلٍ عن القرآن. فإنْ كانت العترة باقية والقرآن غير موجود، فهذا معناه افتراق العترة عن القرآن، إذاً لا بد من وجود القرآن لكي لا يفترقا.
 
2- حديث العرض على كتاب الله: عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه فإنَّ لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه"2. إنَّ عرض الرِّوايات على القرآن الكريم من الأدلة الأخرى على سلامة القرآن من التَّحريف، لأنه لا يعقل أنْ يكون الميزان في صحة الرِّوايات في عرضها على القرآن الكريم، مع إمكان وقوع التَّحريف في هذا الكتاب المنزل، فتنتفي بذلك الحكمة من الرجوع إليه ويسقط اعتبار كونه ميزانا ويصبح لغوا. 
 
ثالثاً: الدليل العقلي:
القرآن الكريم كتابٌ أُنزل لهداية النَّاس ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذي أُنْزِلَ فيهِ القرآن هُدىً للنَّاس وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى‏ وَالْفُرْقانِ﴾3 ويهدي للتي هي أقوم ﴿إِنَّ هذَا القرآن يَهْدي لِلَّتي‏ هِيَ أَقْوَمُ﴾4. وهو كتاب إنذاٍر لجميع النَّاس ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا القرآن لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾5، والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليه السلام يأمرون النَّاس بالرجوع إليه كما ذكرنا في الرواية السابقة، والضرورة 
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج35، ص184.
2- وسائل الشيعة، ج27، ص 118.
3- البقرة، 185.
4- الإسراء، 9.
5- الإنعام، 19.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

59

الدّرس الرابع: سلامة القرآن من التَّحريف

 العقلية تقتضي أنْ تكون المعارف الدينية والأصول العامة ودستور الإسلام مدونة في كتاب بين يدي الإنسان مثلما كان عليه الحال في الأديان السابقة. لذا من غير المعقول أنْ يضع الله كتاباً بين أيدي النَّاس ثمَّ يتركه ليزيد عليه من يشاء منهم وينقص منه من يشاء!! بعبارة أخرى يصبح الأمر بمثابة نقض للغرض الإلهيّ، لأنه لو وقع التَّحريف في كتاب يعتبر هدى للنَّاس ونذيرا للعالمين ولكلِّ العصور والأجيال، فمعنى ذلك أنَّ الهدف من إنزاله لم يتحقق ولا يبقى له أي اعتبار.


رابعاً: التحليل التاريخي:
الدليلُ الآخر على عدم وقوع التَّحريف في القرآن، هو التَّحليلُ التَّاريخيّ لمكانة القرآن بين المسلمين، فالتاريخ يشهدُ أنَّه كان لحفظ وقراءة القرآن مكانة متميزة لدى المسلمين منذ البداية وإلى الآن، بحيث هبَّ مسلمو صدر الإسلام بشغفٍ لا يوصفُ إلى حفظه وتعليمه وتعلُّمه بعد مدَّةٍ قصيرةٍ من نزول آياته التي نزلت بشكلٍ تدريجيّ. وكان هناك كُتّاب خاصُّون لكتابة القرآن، وكان لقرّائه أعلى منزلةً في الوسط الاجتماعي.

وبالتَّزامن مع اتِّساع الفتوحات الإسلامية في زمن الخليفة الأوّل والثاني وإقبال الشعوب الأخرى على الإسلام والقرآن، ابتداءً من قلب أوروبا وصولاً إلى شبه القارة الهندية، غدا القرآن يُتلى في كلِّ البلاد والبيوت. فإذا كان القرآن قد أودع على هذا النَّحو في الصُّدور، واستنسخت منه نسخٌ لا تعدُّ ولا تحصى فهل يمكن أنْ يتعرض للزيادة أو النقصان على يد فرد أو أفراد ويشهد الآخرون هذه الخيانة ويسكتون عنها. وإذا كان هذا لا يرجى من عامة النَّاس فهل من المنطقي أنْ يشهد جهاز الخلافة الإسلامية خصوصا في زمن أمير المؤمنين علي عليه السلام تحريف كتاب الله ولا يتصدَّى له؟! في حين أنَّه عليه السلام كان يتعامل بحساسيَّةٍ فائقةٍ مع مسائل تعدُّ من فروع الدين، فما بالك بالقرآن، والمساس به وهو لا يرى نفسه إلا حارسا له ومدافعا عنه. وقد انتهج سائر الأئمة هذا النهج أيضاً واتبعوا هذه السّيرة مع القرآن وأثبتوا عمليا سلامته من التَّحريف.

خامساً: أسلوب القرآن الخاص ومضمونه الفريد:
يتصف القرآن الكريم بصياغة وبناء خاص، سواء من حيث التفاوت الموجود بين السُّور المكيَّة والسُّور المدنيَّة، أو من حيث تدرّج نزول الآيات، أو من حيث محتوى دعوته
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

60

الدّرس الرابع: سلامة القرآن من التَّحريف

 ورسالته وتعليماته. فالتأمُّل في الصياغة الخاصة للقرآن يكشف من جهة عن الجانب الفني والإعجازي للقرآن، ويزيد من جهة أخرى من اعتقاد الإنسان بعدم تحريف هذا الكتاب المقدس. وكذلك الأمر بالنسبة لمضمونه أيضاً المنسجم والمترابط بشكلٍ عجيب.

 
فالقرآن يتحدى ببلاغته وفصاحته جميع الفصحاء والبلغاء بنحو تقشعر منه الجلود والقلوب. ويتحدى الآخرين أيضاً أنْ يأتي بمضمونٍ مترابطٍ ومنسجمٍ والذي لم يترك شاردةً ولا واردةً إلا أحصاها وأنَّه لو كان من عند غير الله لوجد فيه الإختلاف الكثير ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فيهِ اخْتِلافاً كَثيراً﴾1. لذا فإنَّ أيَّ تحريف يمكن أنْ يطال القرآن سوف يترك بصماته لا محالة، إمّا على شكل القرآن أو مضمونه الإعجازيين. مما يعني أنَّ أي عملية تحريف لن تلبث أنْ تستبين معالمها وتكشف في ظل فصاحة القرآن وبلاغته الخاصة من جهة، ومضمونه الفريد والمنقطع النظير من جهةٍ أُخرى.
 
 
 

1- النساء، 82.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

61

الدّرس الرابع: سلامة القرآن من التَّحريف

 المفاهيم الرَّئيسة:

1- التَّحريف لغة معناهُ تغيير معنى الكلام وهو المسمَّى بالتَّحريف المعنويّ.
2- التَّحريف اصطلاحاً، فمعناه تغيير ألفاظ الكلام، وهو المسمى بالتَّحريف اللفظيّ.

3- القرآن مصون عن التَّحريف اللفظيّ بمعنى تغيير ألفاظ القرآن وكلماته، أمّا التَّحريف المعنويّ بمعنى تغييرِ تأويلِ بعض الآيات أو تفسيرها، فممكن الوقوع بسبب وجود المحكم والمتشابه فيها.

4- هناك أدلّةٌ عقليةٌ ونقليةٌ فضلاً عن تصريح القرآن نفسه بعدم إمكان وقوع التَّحريف فيه كون حافظه هو نفس منزله.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

62

المحور الثالث آداب التمسك بالقرآن الكريم عند الإمام الخميني قدس سره

 موضوعات المحور:

أحكام القرآن وآدابه.
فهم مقاصد القرآن.
نظرة التعليم والتعظيم إلى القرآن.
إزالة الموانع والحجب.
          التفكر والتدبر في القرآن الكريم.

أهداف المحور الثالث
التعرُّفُ على أحكام القرآن وفهم مقاصده.
النَّظرة الحقيقيَّة إلى القرآن الكريم.
التعرف على الموانع والحجب التي تحول دون فهم القرآن.
          بيان المراد من التفكّر والتدبّر وكيفية تحققهما.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

63

الدرس الأول: أحكام القرآن وآدابه

 الدرس الأول: أحكام القرآن وآدابه



أهداف الدّرس:
1- التعرُّف على فضل قراءة القرآن الكريم.
2- بيانُ أهمّ الآداب الظاهريَّة للتمسّك بالقرآن الكريم.
3- بيانُ أهمّ الأحكام الشرعية الخاصة بالقرآن الكريم.
 
مقدمة
في حديث الثقلين المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن تضلوا ما تمسكتم بهم وإنهما لن يفترقا حتَّى يردا عليّ الحوض"1. التمسك بالقرآن الكريم من أعظم التكاليف الإلهيّة. والتمسُّكُ الصحيح بكتاب الله كما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لن يكون متاحاً بالشكل المطلوب إلا من خلال مراعاة مجموعة من الآداب الظاهريَّة والمعنويّة، والتي بمراعاتها تتحقّقُ الاستفادة الحقيقية من كتاب الله العزيز، وفي هذه الدُّروس سوف نتطرّق إلى بعض أحكام القرآن، ومن ثمَّ الحديث عن آدابه المعنويّة الأساسيَّة التي ذكرها الإمام الخميني قدس سره. 
 
فضل قراءة القرآن وآثره:
1- جلاءُ القلوب: قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن2، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنَّ القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد فقيل: يا رسول الله وما جلاؤها؟ فقال قراءة القرآن
 
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج5، 68.
2- سنن الدرامي، ج2.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

64

الدرس الأول: أحكام القرآن وآدابه

 وذكر الموت3، إذا أحبّ أحدكم أنْ يُحدِّث ربّه فليقرأ القرآن1.

 
2- كفَّارةُ للذُّنوب: عليك بقراءة القرآن، فإنَّ قراءته كفّارة للذنوب وستر في النَّار وأمان من العذاب2.
3- إحياء للقلوب: لا تغفل عن قراءة القرآن فإنَّ القرآن يحيي القلب وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي3.
4- دفع البلاء: يُدفع عن قارئ القرآن بلاء الدُّنيا ويدفع عن مستمع القرآن بلاء الآخرة4.
 
آداب القرآن الظاهريَّة:
1- الطّهارة: وهي من الأحكام الأساسيّة كما قال عز وجل: ﴿إنَّه لَقُرْآنٌ كَريمٌ * في‏ كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ﴾5.
 
2- تنظيفُ الفمّ: عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظّفوا طريق القرآن، قيل: يا رسول الله وما طريق القرآن، قال: أفواهكم قيل بماذا قال بالسّواك"6
 
3- الاستعاذة: لا بدَّ قبل البدء بالقراءة من الاستعاذة بالله من الشَّيطان الرَّجيم، واللجوء إلى كهفه الحصين لأنّ الشَّيطان قد اقسم على القعود على الصراط المستقيم ليصد المؤمنين عنه: ﴿فَبِما أَغْوَيْتَني‏ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقيمَ﴾7. لذا أمرنا الله تعالى باللجوء إليه، والاستعاذة من شره: ﴿فَإِذا قَرَأْتَ القرآن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطان الرَّجيمِ﴾8.
 
 
 

1- مستدرك الوسائل، ج2، ص104.
2- كنز العمال، تلاوة القرآن، ح2257.
3- بحار الأنوار، ج89، ص17، ب1.
4- كنزل العمال، خ4032.
5- المصدر نفسه، خ 4031.
6- الواقعة، 77-79.
7- وسائل الشيعة، ج2، ص22.
8- الأعراف، 16.
9- النحل، 98.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

65

الدرس الأول: أحكام القرآن وآدابه

 4- الترتيل: قال الله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ القرآن تَرْتيلاً﴾1. والترتيلُ هو القراءة بتأنٍّ وتمهّلٍ مصحوباً بالصَّوت الحسّن، والقراءة الصَّحيحة والفصيحة الخالية من الأخطاء. والغرض من هذه القراءة أنْ يتدبر القارئ معاني القرآن ومراميه، وينتفع بأحكامه وعظاته وبوعده ووعيده. فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الترتيل أنْ تتمكَّثَ به وتحسن به صوتك، و إذا مررت بآية فيها ذكر النَّار فتعوّذ باللّه من النَّار، وإذا مررت بآية فيها ذكر الجنَّة فاسأل اللّه الجنَّة"2. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: زيّنوا القرآن بأصواتكم3، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنَّ حُسن الصَّوت زينة للقرآن4.

 
5- مكان القراءة: بالإضافة لخصوصية الأماكن المقدّسة والمساجد، ينبغي للمسلم أنْ يقرأَ القرآن في بيته لما في ذلك من أثر هام؛ يقول الإمام علي عليه السلام: البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض وإنّ البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يذكر الله فيه تقلّ بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين5.
 
6- مقدار القراءة: يقولُ الإمام الصادق عليه السلام: القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أنْ ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كلّ يوم خمسين آية6. وقد ورد التأكيد على التروي في القراءة: جاء عن الإمام الصادق لما سئل عن ختم القرآن كلُّ يومٍ فقال عليه السلام: لا يعجبني أنْ تقرأه في أقل من شهر7.
 
7- الحزن والخشوع: من آداب قراءة القرآن وتلاوته أنْ يستشعر المرءُ حالةَ الحُزن
 
 
 

1- المزمل، 4.
2- وسائل الشيعة، ج6، ص207.
3- سنن الدرامي، ج2.
4- بحار الأنوار، ج89، ص190، باب 21.
5- الكافي، ج2، ص610.
6- المصدر نفسه، ص609. 
7- المصدر نفسه، ج2، ص617.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

66

الدرس الأول: أحكام القرآن وآدابه

 والخشوع. قال النبيّ محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم: اقرأوا القرآن بالحزن1 فإنَّه نزل بالحزن.اتلوا القرآن وأبكوا فإنَّ لم تبكوا فتباكوا2.

 
8- التدبّر: قال الله تعالى: ﴿أَفلا يتّدبَّرون القرآن أمْ على قُلوبٍ أَقفالُها﴾3. ويقول الإمام علي عليه السلام: ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدّبّر4.
 
أحكام القرآن الشرعية:
1- يحرم على المحدث بالحدث الأصغر والأكبر مسَّ كتابة القرآن، ولا فرق بين آياته وكلماته، بل والحروف والمد والتشديد وأعاريبها.


2- لا فرق في حرمة المس بين أجزاء البدن ظاهراً وباطناً، نعم لا يبعد جواز المس بالشعر. 
 
3- يحرم على المجنب قراءة آيات السجدة من سور العزائم الأربع - وهي إقرأ والنجم وآلم تنزيل وحم السجدة - ولو بعض منها حتَّى البسملة بقصد إحداها5


4- يكره للمجنب قراءة ما زاد على سبع آيات غير العزائم. وتشتدُّ الكراهة إنْ زاد على سبعين آية، وكذلك مس ما عدا خط المصحف من الجلد والورق والهامش وما بين السطور، وكذا حمل المصحف وتعليقه.
 
5- يجب السجود عند تلاوة آيات أربع في السُّور الأربع: آخر النجم والعلق، و﴿لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ في سورة السجدة و﴿تَعْبُدُونَ﴾ في سورة فصلت، وكذا عند استماعها دون سماعها على الأظهر، ولكن لا ينبغي ترك الاحتياط (عند السماع). والسبب (الموجب للسجود) مجموع الآية، فلا يجب بقراءة بعضها ولو لفظ السجدة منها وان كان أحوط، ووجوبها فوري لا يجوز تأخيره، ولو أخرها ولو عصيانا يجب إتيانها ولا تسقط6
 
 
 

1- كنز العمال، خ 2777.
2- سنن ابن ماجه، خ 4196.
3- محمَّد، 24.
4- بحار الأنوار، ج89، ص210، ب26.
5- الإمام الخامنائي: الحرام هو قراءة نفس الآية دون بقية السُّورة.
6- الإمام الخامنائي: إذا استمع إلى آية السجدة من الراديو أو التلفاز أو المسجّل وأمثال ذلك يجب عليه السجود.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

 


67

الدرس الأول: أحكام القرآن وآدابه

 6- يعتبر في هذا السجود بعد تحقق مسمَّاه النية وإباحة المكان والاحوط وضع المواضع السبعة. ووضع الجبهة على ما يصح السجود عليه، وإن كان الأقوى عدم اللزوم، نعم الاحوط ترك السجود على المأكول والملبوس، بل عدم الجواز لا يخلو من وجه1، ولا يعتبر فيه الاستقبال، ولا الطهارة من الحدث والخبث، ولا طهارة موضع الجبهة، ولا ستر العورة.

 
7- ليس في هذا السجود تشهد ولا تسليم ولا تكبيرة افتتاح نعم يستحب التكبير للرفع عنه، ولا يجب فيه الذكر، بل يستحب ويكفي مطلقه، والأوّلى أنْ يقول: "لا إله إلا الله حقا حقا، لا إله إلا الله إيمانا وتصديقا، لا إله إلا الله عبودية ورقا، سجدت لك يا رب تعبدا ورقا، لا مستنكفا ولا مستكبرا بل أنا عبد ذليل خائف مستجير".
 
8- يحرم تنجيس المصحف الكريم حتَّى جلده وغلافه ويجب إزالة النجاسة عنه. ووجوب تطهيره كفائي لا يختص بمن نجسه، كما أنَّه يجب المبادرة مع القدرة على تطهيره، ولو توقف ذلك على صرف مال وجب.
 
9- كما يحرم تنجيس المصحف، يحرم كتابته بالمداد النَّجس، ولو كتب جهلاً أو عمداً يجب محوه فيما ينمحي، وفي غيره كمداد الطبع يجب تطهيره.
 
10- الكافر لا يصح منه تملك المصحف، فلا يصحُّ بيعه له ولا هبته ولا الوصية له بالقرآن بل وإعارته له، وكذا سائر أنواع التصرفات الناقلة للقرآن إلى ملك الكافر2
 
 
 

1- الإمام الخامنائي: يجب في سجود التلاوة وضع المساجد السبعة على الأرض ووضع الجبهة على ما يصح السجود عليه أيضاً.
2- الإمام الخامنائي: إذا كان تمكين الكافرين من المصحف لغرض الهداية، فلا إشكال مع الأمن من هتكه وتنجيسه. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

68

الدرس الأول: أحكام القرآن وآدابه

 المفاهيم الرَّئيسة:

1- قراء القرآن عبادة تحيي القلوب وتجليها، وتكفر الذُّنوب، وتدفع البلاء.

2- للقراءة آدابٌ ظاهريّةٌ هي: الطهارة، تنظيف الفم، الاستعاذة، الترتيل، المواظبة على القراءة، حسن اختيار مكان القراءة، التحزّن والتدبّر أثناء القراءة.

3- القرآن الكريم مثل بقية العبادات له أحكامه الخاصة التي ينبغي الالتزام بها ومراعاتها بدقة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

 


69

الدرس الثاني: فهم مقاصد القرآن

 الدرس الثاني: فهم مقاصد القرآن 


أهداف الدّرس:
1- بيان أنَّ التمسّك الصحيح بالقرآن الكريم يستلزم مراعاة آدابه الظاهريَّة والباطنيّة.
2- بيان المراد من مقاصد القرآن والحديث عن الأدب الباطني الأوّل وهو فهم مقاصد القرآن.
3- التعرُّف على أهمّ مقاصد القرآن الكريم وأهدافه الأساسية.

مقدمة:
بعد ذكر نبذة عن أهمّ الآداب الظاهريَّة والأحكام الشرعيّة المتعلّقة بالقرآن الكريم نبدأ في هذا الدّرس وما يليه بالحديث عن الآداب المعنويّة والباطنيّة للتمسّك بالقرآن الكريم، والتي تعدّ شرطاً أساسيّاً لتحصيل الفائدة التامة منه.

من الآداب المعنويّة للتمسُّك بالقرآن الكريم، وفهمُ مقاصد هذا الكتاب السماوي. والمقصد هو المراد والهدف من الشيء. وفهم مقاصد القرآن يعني التوجه والبحث عن مقصد ومراد كلّ آية من آيات الله الكريمة، ليكون هذا الفهم مقدمة ضرورية وأساسية لأمر آخر أهمّ هو التدبّر والتفكُّر في الآيات الشّريفة للاستفادة العملية منها. ومن أهمّ مقاصد هذا الكتاب السماويّ: 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

70

الدرس الثاني: فهم مقاصد القرآن

 هداية الإنسان إلى كماله الحقيقي:

إنَّ هذا الكتاب الشّريف كما صرّح بنفسه, هو كتاب هداية ‏وهو هادي سلوك الإنسانية ﴿إِنَّ هذَا القرآن يَهْدي لِلَّتي‏ هِيَ أَقْوَمُ 1وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنين﴾2، ومربيّ النفوس وشافي الأمراض القلبية ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنينَ وَلا يَزيدُ الظَّالِمينَ إِلاَّ خَساراً﴾3، ومنير طريق السّير إلى الله ﴿قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبينٌ﴾4. 
 
وبالجملة، فإنَّ الله تبارك وتعالى لسعة رحمته بعباده أنزل هذا الكتاب الشّريف من مقام قربه وقدسه، وتنزّل به حتَّى وصل إلى عالم الدُّنيا الظلماني وسجن الطَّبيعة، فصار على كسوة الألفاظ وصورة الحروف لخلاص المسجونين في سجن الدُّنيا المظلم ونجاة المغلولين بأغلال الآمال والأماني، ولإيصالهم من حضيض النفس والضعف والحيوانية إلى أوج الكمال والقوة الإنسانية، ومن مجاورة الشَّيطان إلى مرافقة الملكوتيين 5، بل الوصول إلى مقام القرب وحصول مرتبة لقاء الله التي هي أعظم مقاصد أهل الله ومطالبهم. ومن هنا أيضاً أصبح هذا الكتاب كتاب الدعوة إلى الحقّ والسعادة.
 
الدَّعوة إلى معرفة الله:
من مقاصد القرآن المهمَّة أيضاً الدعوة إلى معرفة الله، وبيان المعارف الإلهيّة وأكثرها مطلوبيّة هو التَّوحيد بأقسامه الثلاثة6, الذاتي والصفاتيّ والأفعالي، وقد ذكرت في القرآن بعضها بالصَّراحة وبعضها بالإشارة.
 
وهذه المعرفة بالله سبحانه وتعالى بأقسامها الثَّلاثة، قد ذكرت في هذا الكتاب الجامع الإلهيّ (القرآن الكريم) على نحو تدركه كلّ طبقة على قدر استعدادها. فالآية الكريمـة ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾7 و﴿اللَّهُ نُورُ 
 
 
 

1- الأقوم، الأشد استقامة.
2- الإسراء, 9.
3- الإسراء, 82.
4- المائدة، 15.
5- الملكوت: هو عالم المجردات، والملكوتيين هم أهل الآخرة الذين تخلصوا من قيود الدُّنيا وشهواتها.
6- التَّوحيد هو الإيمان والاعتقاد بالخالق الواحد وبطلان الإثنينية والتعددية. وهذا التَّوحيد قد يكون ذاتي, وهو الإيمان بوحدانية الذات، أي أنْ ذاته واحدة. وقد يكون صفاتي, وهو الإيمان بأن صفاته هي عين ذاته وليس شيء منفصلا عنها. وقد يكون فعلي, وهو الإيمان بأنه لا فاعل ولا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى.
7- الحديد، 3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

71

الدرس الثاني: فهم مقاصد القرآن

 السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾1 و﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾2 و﴿وهو معكم﴾3 و﴿فأينما تولّوا فثمَّ وجه الله﴾4 وغيرها مما ورد في توحيد الذات، والآيات الكريمة الواردة في توحيد الصفات كالآيات الأخيرة من سورة الحشر، وقوله تعالى ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾و﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ و﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾6، وغيرها مما ورد في توحيد الأفعال، يدل بعضها على التَّوحيد بوجهٍ دقيق، وبعضها يدل على ذلك بنحو عرفاني أدقّ. 

 
الدعوة إلى تهذيب النفس:
من مقاصد القرآن الأخرى ومطالبه المهمَّة; الدعوة إلى تهذيب النفوس، وتحصيل السعادة، وتطهير البواطن والنفوس من أرجاس الطَّبيعة والدُّنيا الفانية ومن كلّ ما سوى الحقّ تعالى. قال عز وجل ﴿وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها﴾7. وقال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾8. وبالجملة هو بيان لكيفيَّة السّير والسّلوك إلى الله. وهذا المطلب منقسم إلى شعبتين مهمتين: 
أحداهما: التَّقوى بجميع مراتبها المتضمنة للتقوى عن غير الحقّ والإعراض المطلق عما سوى الله، ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين﴾9.


وثانيهما: الإيمان بتمام المراتب والشؤون المتضمنة للإقبال على الحقّ، والرجوع والإنابة إلى ذاته المقدّسة ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إيماناً وَعَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾10، وهذا من المقاصد المهمَّة لهذا الكتاب الشّريف، والتي أكثر مطالبه ترجع إلى هذا المقصد إمّا بالواسطة أو بدونها.
 
 
 
 

1- النور، 35.
2- الزخرف، 84.
3- الحديد، 4.
4- البقرة، 115.
5- الأنفال، 17.
6- الجمعة، 1.
7- الشمس: 7 إلى 10
8- الأعلى:14
9- البقرة، 2.
10- الأنفال، 2.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

72

الدرس الثاني: فهم مقاصد القرآن

 قصص الأنبياء والأولياء:

ومن مقاصد هذا الصَّحيفة الإلهيّة: قصص الأنبياء والأولياء والحكماء وكيفيَّة تربية الحقّ إياهم وتربيتهم للخلق ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا القرآن وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلينَ﴾1. فإنَّ في هذه القصص فوائد لا تحصى وتعاليم كثيرة، وفي هذه القصص من المعارف الإلهيّة والتعاليم وأنواع التربية الربوبية المذكورة فيها والمرموزة ما يحيّر العقل ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾2، ﴿لَقَدْ كانَ في‏ قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْباب‏﴾3.

ففي قصة خلق آدم عليه السلام والأمر بسجود الملائكة وتعليم الأسماء وقضايا إبليس وآدم التي تكرّر ذكرها في كتاب الله في التعليم والتربية والمعارف والمعالم، لمن كان له قلب أو ألقى السَّمع وهو شهيد، ما يحيّر الإنسان. ولأجل هذه النّكتة كرّرت بعض القصص القرآنيّة كقصة آدم وموسى وإبراهيم وسائر الأنبياء.
 
فليس هذا الكتاب كتابُ قصَّة وتاريخ بل هو كتاب السّير والسّلوك إلى الله، وكتاب التَّوحيد والمعارف والمواعظ والحكم. والمطلوب في هذه الأمور هو التكرار كي يؤثّرَ في القلوب القاسية، وتأخذَ منها موعظته.
 
وبالجملة فإنَّ ذِكر قصص الأنبياء عليهم السَّلام، وكيفيَّة سيرهم وسلوكهم، وكيفيَّة تربيتهم عبادَ الله، وحِكَمهم ومواعظهم، ومجادلاتهم الحسَنَة، تُعدُّ من أعظم أبواب المعارف والحكم، وأعلى أبواب التَّعاليم والسَّعادة التي فتحها الحقّ تعالى مجده على عباده. 
 
وهذه القصص كما أنَّ لأرباب المعرفة وأصحاب السّلوك منها حظّاً وافراً ونصيباً كافياً، كذلك لسواهم أيضاً نصيبٌ وافٍ وسهمٌ غير محدود. فمثلاً أهل المعرفة يدركون من الآية الكريمة الشّريفة ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا﴾إلى آخر الآيات كيفيَّة سلوك إبراهيم عليه السلام، وسيره المعنويّ، ويتعلمون طريق السّلوك إلى الله والسّير إلى جنابه، وحقيقةُ 
 
 
 

1- يوسف، 3.
2- الأعراف، 176.
3- يوسف، 111.
4- الأنعام، 76.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

73

الدرس الثاني: فهم مقاصد القرآن

 السّلوك المعنويّ من منتهى ظُلمة الطَّبيعة التي عبّر عنها في ذلك المسلك بـ ﴿جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾، إلى التَّخلّص من مطلق الإنّيّة1 والأنانية2 وترك عبادة النَّفس، والوصول إلى مقام القُدس والدُّخول في محفل الأنس، حيث أشير إلى هذا المسلك بقوله ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾3. وعلى هذا المنوال سائر القصص والحكايات، مثل قصَّة آدم وإبراهيم وموسى ويوسف وعيسى صلوات الله عليهم أجمعين وغيرها.

 
بيانُ أحوال المؤمنين والكفار في الدُّنيا:
من مطالب هذه الصَّحيفة النُّورانية أيضاً، بيان أحوالِ الكفّار والجاحدين والمخالفين للحقّ والحقيقة، والمعاندين للأنبياء والأولياء عليهم السَّلام. وبيان كيفيَّةُ عواقبِ أمورهم، وكيفيَّةُ بوارهم وهلاكهم، كأحوال فرعون وقارون ونمرود وشدّاد وأصحاب الفيل وغيرهم من الكفرة والفجرة. ففي كلّ واحدة منها مواعظ وحكم ومعارف لا تُعدُّ ولا تُحصى. وفي هذا القسم تدخُل قضايا إبليس الملعون. 
 
وفيه أيضاً قضايا غزوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنَّ فيها أيضاً مطالبُ شريفةٌ مذكورةُ منه، كيفيَّةُ مجاهدات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإيقاظ المسلمين من نوم الغفلة، وتحريضهم على الجهاد في سبيل الله وتنفيذ كلمة الحقّ وإماتة الباطل.

بيان الشَّريعة وأحكامها:
من مطالب القرآن الشّريف أيضاً، بيانُ قوانين ظاهر الشَّريعة والآداب والسُّنن الإلهيّة. وقد ذُكرت كلّيّاتها وأصولها في هذا الكتاب النورانيّ. والعمدة في هذا القسم الدَّعوة إلى أصول المطالب وضوابطها مثل باب الصَّلاة والزكاة والخمس والحج والصوم والجهاد والنكاح والإرث والقصاص والحدود والتجارة وأمثالها... وحيث أنَّ هذا القسم هو علمُ ظاهر الشَّريعة، وهو عامّ المنفعة، ومجعولٌ لجميع الطَّبقات من أجل عمارة الدُّنيا والآخرة، 
 
 
 

1- الإنية، هي رؤية النفس.
2- الأنانية، هي حب النفس.
3- الأنعام، 79.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

74

الدرس الثاني: فهم مقاصد القرآن

 وبإمكان جميع طبقات النَّاس الاستفادة منه، لذا كان بيانُه والدَّعوة إليه كثيرة. 

 
بيان أحوال المعاد وأدلة إثباته:
ومن المطالب الشّريفة والمهمَّة للقرآن الكريم، بيانُ أحوالِ المعاد وبراهينُ إثباته، وكيفيَّة العذاب والعقاب والجزاء والثواب فيه، وتفاصيلُ الجنَّة والنَّار والتَّعذيب والتَّنعيم. وقد ذكر أيضاً في هذا القسم حالات أهل السعادة ودرجاتهم من أهل المعرفة والمقرّبين إلى أهل الرِّياضة والسَّالكين وحتَّى أهل العبادة والنَّاسكين. وكذلك حالات أهل الشَّقاوة ودرجاتهم من الكفَّار والمحجوبين والمنافقين والجاحدين وأهل المعصية والفاسقين.
 
بيان البراهين على إثبات الحقائق الإلهيّة:
ومن مطالب هذه الصَّحيفة الإلهيّة كيفيَّة الاحتجاجات والبراهين التي أقامها الحقّ سبحانه وتعالى بنفسه، لإثبات بعضِ المطالبِ الحقَّّة والمعارفِ الإلهيّة، كالأدلة على إثبات التَّوحيد والتَّنزيه والعلم والقدرة وسائر الأوصاف الكمالية للحقِّ عز وجل. ويمكن أنْ نجدَ في هذا القسم، براهينَ دقيقةً يستفيد أهل المعرفة منها استفادةً كاملةً مثل قوله تعالى ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾1.
 
وقد نجد براهينَ يستفيد منها الحكماء وعلماء الشَّريعة وعامَّةُ النَّاس بنحوٍ آخر، كالكريمة ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾2، ومثل الكريمة ﴿إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ﴾3، ومثلُ آيات أول سورة الحديد وسورة التَّوحيد المباركة وغيرها.. وكالبراهين أيضاً على إثبات المعاد ورجوع الأرواح والنَّشأة الآخرة. والأدلَّةُ على إثبات ملائكة الله والأنبياء العظام الموجودة في موارد مختلفة من هذا الكتاب الشّريف.
 
 
 

1- آل عمران، 18.
2- الأنبياء، 22.
3- المؤمنون، 91.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

75

الدرس الثاني: فهم مقاصد القرآن

 المفاهيم الرَّئيسة:

1- للقرآن آدابٌ ظاهريَّةٌ وباطنيّةٌ لا بدَّ من مراعاتها كي تتحقَّقَ الاستفادةُ المطلوبة منه.
2- للقرآن الكريم أحكامٌ ظاهريَّةٌ عديدة، مراعاتها شرطٌ أساسيٌّ للاستفادة المعنويّة اللاحقة منه.

3- إنَّ معرفة وفهم مراد الآيات القرآنيّة وما تقصد الوصول إليه يُعتبر الشَّرطَ الأساسيّ والأدبَ المعنويّ الأوّل للاستفادة الصَّحيحة من كتاب الله العزيز. 

4- من أهمّ أهداف القرآن الكريم، هدايةُ النَّاس إلى سبيل الحقّ ومقامِ القرب واللقاء الإلهيّ.

5- من مقاصد القرآن وأهدافه المهمَّة أيضاً فتْحُ بابِ معرفة الله وتوحيدِه أمام الطَّالبين.
6- من غايات القرآن الكريم دعوةُ النَّاس إلى تهذيب النَّفس وتطهريها من حبِّ النَّفس والدُّنيا الفانية.

7- من مقاصد القرآن التعرُّف على قصص الأنبياء والأولياء لما تختزنه هذه القصص من الحقائق الإلهيّة والدروس والعبر التربوية التي هي قرة عين السالكين إلى الله.

8- من أهداف القرآن الكريم بيان أحوال الكفار والمؤمنين في الدُّنيا وعاقبة أمرهم في المعاد والآخرة للاتعاظ والحذر.

9- من مقاصد القرآن الكريم بيان الأحكام الشرعية التي يحتاجها النَّاس في عبادتهم للحق جل وعلا.
10- من أهداف القرآن أيضاً بيان الأدلة والبراهين على إثبات التَّوحيد والمعاد وغيرها من الحقائق والمعارف الإلهيّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

76

الدرس الثالث: نظرة التعليم والتعظيم للقرآن

 الدرس الثالث: نظرة التعليم والتعظيم للقرآن


أهداف الدّرس:
1- بيانُ أنَّ القرآن الكريم هو كتاب تعلُّمٍ وتربية وليس كتاباً لنيل الثواب والتبرّك فقط.
2- معرفة حقيقة القرآن وعظمته.
3- بيان بعض أوجه عظمة كتاب الله العزيز.

النَّظر إلى القرآن نظرة تعلّم:
من مقاصد هذه الصَّحيفة الإلهيّة العظيمة ومطالبها المهمَّة التي يكشفُ التَّوجه إليها أهمَّ طريقٍ للاستفادة الحقيقيَّة من الكتاب الشّريف، والذي يفتح على قلب الإنسان أبواب المعارف والحكم، هو أنْ يكونَ نظرُ الإنسان إلى الكتاب الإلهيّ الشّريف نظرَ التَّعلُّم، وأن يراه كتاب التعليم والاستفادة، وأن يرى الإنسان نفسَه مكلّفا بالتعلّم والاستفادة منه. 

وليس المقصود من التعلّم والاستفادة أنْ نتعلَّم منه الجهات الأدبية والنّحو والصَّرف، أو نأخذ منه جهة الفصاحة والبلاغة والنِّكات البيانيَّة والبديعيَّة، أو ننظرَ في قصصه وحكاياته بالنَّظر التاريخيّ والاطّلاعَ على الأمم السالفة... فليس شيءٌ من هذا داخلا في مقاصد القرآن، بل هي أمور بعيدة عن المقصد الأصلي والحقيقي للكتاب الإلهيّ. 

والذي أوجب أنْ تكون استفادتُنا من هذا الكتاب العظيم قليلةً جدّاً هو هذا الفهم الخاطئ. فإما أنَّنا لا ننظرُ إليه نظرةَ تعلُّمٍ وتعليمٍ كما هو الغالب علينا، أو أنَّنا نقرأه للثواب والأجر فقط، فينصبُّ جهدنا على تجويده وقراءته قراءةً صحيحةً حتَّى ننالَ الثَّواب فقط، ونحن واقفون عند هذا الحدِّ وقانعون بهذا. وعليه يمكن لأحدنا أنْ يكون قد 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

77

الدرس الثالث: نظرة التعليم والتعظيم للقرآن

 قرأ القرآن لأكثر من أربعين سنةً، ولكن دون أنْ تحصل الاستفادة منه إلا من جهة الأجر وثواب القراءة.

 
وإما أنْ نحصُرَ اهتمامنا إنْ كان هدفنا التعلّم والاستفادة، بالنّكات البديعيّة والبيانية ووجوه إعجازها، أو أعلى من هذا بقليل بالجهات التاريخية وسبب نزول الآيات وأوقات النزول، وكون الآيات والسُّور مكيَّة أو مدنيَّة، واختلاف القراءات واختلاف المفسرين من العامة والخاصة وسائر الأمور العرضية الخارجة عن المقصد الحقيقي للكتاب المنزل. حتَّى صارت هذه الأمور بنفسها سببا للاحتجاب عن القرآن والغفلة عن الذكر الإلهيّ. 
 
فهذا الكتاب الشّريف الذي هو بشهادةٍ من الله تعالى كتابُ الهداية والتَّعليم ونورُ طريق سلوك الإنسانيَّة، على الإنسان أنْ يجلس على مأدبته ليتعلَّمَ من كلّ قصّةٍ من قصصه، بل من كلّ آية من آياته جهة الاهتداء إلى عالمِ الغيبِ وإلى طريق السَّعادة والكمال الإنساني. فعلى القارئ الحقيقي للقرآن الكريم أنْ يفهمَ المقصد من نزول الآيات لا السبب من النُّزول. 
 
ففي قصة آدم وحواء مثلا أو قضاياهما مع إبليس الَّلعين من ابتداء خلقهما إلى نزولهما إلى الأرض، وما ذَكَره الحقّ تعالى مكررِّاً في كتابه كمّا هائلاً من المعارف والمواعظ، التي أشير فيها إلى معايب النَّفس وكمالاتها ومعارفها وأخلاق إبليس والتي نحن غافلون عن معظمها.
 
فكتاب الله هذا هو كتاب المعرفة والأخلاق والدعوة إلى السَّعادة والكمال، وعلى القارئ أنْ لا يصرف النَّظر عنها ويهتمَّ بما هو أقل أهمّية منها، لأنّ الغافل عنها غافل عن مقصود القرآن والهدف الأساسي لإنزال الكتب وإرسال الرُّسل.
 
وهذا هو الخطأ الذي حرَمَنا الاستفادةَ من القرآن الشّريف وسدَّ طريق الهداية على النَّاس، ولا بدَّ لنا أنْ نأخذ المقصود من تنزيل هذا الكتاب من نفس هذا الكتاب فمصنف الكتاب أعرَف بمقصده. فإذا نظرنا إلى ما قاله هذا المصنف فيما يرجع إلى شؤون القرآن، نرى أنَّه يقول ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾1. فعرّف هذا الكتاب
 
 
 

1- البقرة، 2.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
110

78

الدرس الثالث: نظرة التعليم والتعظيم للقرآن

 على أنَّه كتاب الهداية، وفي سورة قصيرة كرّر مرّات عديدة ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾1. وفي آية أخرى يقول ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾2، ويقول عزَّ اسمه أيضاً ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾3، إلى غير ذلك من الآيات الشّريفة التي يطول ذكرها.

 
فالهدف الأساس هو أنْ يفتح للنَّاس طريق الاستفادة من هذا الكتاب الشّريف الذي هو الكتّاب الوحيد في السّلوك إلى الله، والكتاب الأحدي في تهذيب النفوس والآداب والسنن الإلهيّة، وأعظم وسيلة للربط بين الخالق والمخلوق والعُروةُ الوثقى والحبلُ المتين للتمسّك بعزّ الربوبيَّة من خلال تصحيح نظرتنا إليه، فهذا الكتاب المقدس هو كتاب لتربية البشر وتعليمهم لا للتبرك ونيل الثواب فقط.
 
التعظيم:
من الآداب المهمَّة لقراءة الكتاب الإلهيّ والتي يشترك فيه العالم والعامّي، وتحصل منه النتائج الحسّنة ويوجب نورانيَّة القلب وحياة الباطن: التعظيم. وهو موقوفٌ على فهم عظمةِ القرآن وجلاله وكبريائه. وهذا المعنى وان كان بحسب الحقيقة خارجا عن نطاق البيان وفوق طاقة البشر، لأنّ فهم عظمة كلّ شيء بفهم حقيقته، وحقيقة القرآن لا تحصل لأحد إلا الخلّص من أولياء الله الذين اشتركوا في روحانية رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهلِ بيته الأطهار وفنوا فيهم من خلال التبعية التامة لهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، إلا أنْ الإشارة الإجماليَّة إلى عظمة هذا الكتاب المنزّل، هي في متناول جميع البشر وموجبة لفوائد كثيرة.
 
 

1- القمر، 17.
2- النحل، 44.
3- ص، 29.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

79

الدرس الثالث: نظرة التعليم والتعظيم للقرآن

 أوجه عظمة القرآن المختلفة:

إنَّ عظمة كلِّ كلام وكتاب، تُقاسُ إمَّا بعظمة متكلّمه وكاتبه وإما بعظمة مطالبه ومقاصده، وإمَّا بعظمة نتائجه وثمَّراته، وإمَّا بعظمة الرسول والواسطة فيه، وإمَّا بعظمة المرسَل إليه وحامله، وإمّا بعظمة حافظه وحارسه، وإما بعظمة شارحه ومبيّنه، وإما بعظمة وقت إرساله وكيفيته. وبعض هذه الأمور دخيل في العظمة ذاتا وجوهرا، وبعضها عرضا وبالواسطة، وبعضها كاشف عن العظمة. وجميع هذه الأمور التي ذكرناها موجودة في هذه الصَّحيفة النُّورانية بالوجه الأعلى والأوفى، بل هي من مختَّصَّاتها بحيث أنَّ غيره من الكتب إمّا ألاّ يشترك معه في شيء منها أصلا، أو لا يشترك معه في جميع المراتب.
 
1- أمّا عظمة متكلِّمه ومُنشئه وصاحبه: فهو الله سبحانه وتعالى، العظيم المطلق الذي جميع أنواع العظمة المتصوَّرة، ما هي إلا رشحة من تجليات عظمته التي لا يمكن أنْ يتجلَّى بها على أحد إلا من وراء آلاف الحجب والسرادقات، كما في الحديث: "إنَّ لله تبارك وتعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفت لأحرقت سبحات وجهه ما دونه"1
 
2- وأما عظمة محتوياته ومقاصده ومطالبه: يستدعي الحديث عن ذلك عقد فصل على حدة، بل فصول وأبواب مستقلة وكتاب مستقل حتَّى تخرج نبذة منها إلى حيز البيان والتحرير. 
 
3- وأما عظمة رسول الوحي وواسطة الإيصال: فهو جبرائيل الأمين والروح الأعظم الذي يتصل به الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد خروجه عن الجلباب البشري. 
وهو المَلك الموكل بالعلم والحكمة وصاحب الأرزاق المعنويّة والأطعمةِ الرُّوحانية. ونظرةٌ إلى ما ورد في كتاب الله وفي الأحاديث الشّريفة تكفي لإدراك مدى الإجلال والتعظيم الذي حبي به جبرائيل وكيف أنَّه مقدم على سائر الملائكة.
 
4- وأما عظمة المرسل إليه وحامله: فهو القلب التقي النقي الأحمدي المحمدي الذي تجلى له الحقّ تعالى بجميع شؤونه. وهو صاحب النُّبوَّة الخاتمة والولاية المطلقة. وهو
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج55، ص 45.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

80

الدرس الثالث: نظرة التعليم والتعظيم للقرآن

 أكرم البرية وأعظم الخليقة وخلاصة الكون وجوهرة الوجود وعصارة دار التحقق وصاحب الخلافة العظمى.

 
5- وأما حافظه وحارسه: فهو ذات الحقّ المقدّسة جلّ جلاله، كما قال في الآية الكريمة المباركة: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾1.


6- وأما شارحه ومبيّنه: فالذوات المطهرة للمعصومين من رسول الله إلى حجّة العصر عجّل الله فرجه الذين هم مفاتيح الوجود ومخازن الكبرياء، ومعادن الحكمة والوحي وأصول المعارف.
 
7- وأمّا وقت الوحي: فهي ليلة القدر أعظم الليالي وخير الأشهر ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ في‏ لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ * ليْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾2.
 
 

1- الحجر، 9.
2- القدر، 1 إلى 3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

81

الدرس الثالث: نظرة التعليم والتعظيم للقرآن

 المفاهيم الرَّئيسة:

1- نظرتنا إلى القرآن يجب أنْ تكون نظرة تعليم، بمعنى أنْ يكون جلوسنا على مائدته لهدف واحد هو التعلّم من علومه، والاستفادة من حقائقه، والاعتبار بعبره.

2- لن تكون الاستزادة والتعلّم من القرآن أمرا ممكنا ما لم تدركُ حقيقةُ هذا الكتاب ومدى عظمته. لذا تُعتبرُ معرفةُ عظمة القرآن مقدمةً أساسيَّةً للاستفادة منه.

3- إدراك عظمة القرآن الحقيقية غير متيسَّرٍ إلا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والتابعين لهم بإحسان والفانين فيهم. ولكن المعرفة الإجماليَّة أمر ممكن للجميع وفيه فوائد عظيمة.

4- عظمة القرآن تكمن في أنَّه منزَّلٌ من عند الله تعالى، وأنَّ فيه بيان لكلِّ شيء، وأنَّه الواسطة في إيصاله هو جبرائيل عليه السلام، وأنَّه نزَلَ على القلب المقدس للرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، وأنَّه نزل في ليلة القدر، وأنَّ شارَحه ومبيِّنَ أحكامه وأسراره هم أهل بيت النُّبوَّة ومعدن الرسالة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

82

الدرس الرابع: إزالة الموانع والحجب

 الدرس الرابع: إزالة الموانع والحجب1

 
أهداف الدّرس: 
1- معرفة الحجب الظَّلمانية التي تحول بين الإنسان والاستفادة من كتاب الله.
2- التعرُّف على أهمّ هذه الحجب والموانع التي تصدُّ عن سبيل كتاب الله.
3- الاستفادة من معرفة الحجب والموانع في عملية رفعها وإزالتها.
 
مقدمة:
إذا صارت عظمة كتاب الله معلومةً من جميع الجهات، وانفتحَ على الإنسان طريقُ الاستفادة الحقيقية منه، عندها ينبغي على المتعلم والمستفيد من كتاب الله أنْ يجري أدباً آخر من الآداب المهمَّة حتَّى تحصل الاستفادة التَّامة، وهو رفع الموانع والعوائق الأساسية التي تحول دون الاستفادة الكاملة منه. وهذه الموانع نعبّر عنها بالحجب بين المستفيد والقرآن، وهذه الحجب كثيرة نشير إلى بعضها:
 
حجاب رؤية النَّفس مستغنيةً:
من الحُجب العظيمة التي تحول بين الإنسان وبين الاستفادة من كتاب الله العزيز، حجابُ رؤية النفس مستغنية عن كتاب الله، حيث يرى المتعلم نفسه بسبب هذا الحجاب مستغنٍ عنه أو غير محتاجٍ للاستفادة منه. وهذا يُعتبر من أكبر وأخطر مكائد الشَّيطان الذي يزيّن للإنسان دائما الكمالات الموهومة، ويرضيه ويقنعه بما هو عليه، وبما في يديه من الكمالات المحدودة الفانية والزائلة، ويسقط من عينه كلّ ما ليس بحوزته.
 
مثلا قد يقنع أهل التجويد بذاك العلم الجزئي ويزيّنه في أعينهم ويسقط سائر العلوم
 
 
 

1-  الحجب جمع حجاب وهو الساتر أو العائق الذي بين شيئين، وفي موردنا الحجاب هو المانع الذي يتوسط بين الخالق جلا وعلا والعبد.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

83

الدرس الرابع: إزالة الموانع والحجب

 من أعينهم ويطبّق معنى "حملة القرآن" عليهم، ويحرمهم من فهم الكتاب الإلهيّ النوراني ومن الاستفادة منه. ويمكن أن يُرضيَ أصحاب الأدب واللغة بتلك الصُّورة اللغوية والظاهريَّة الفاقدة للّب، ويصوّرَ لهم أنَّ جميع شؤون القرآن موجودة عندهم. وقد يشغل أهل التفاسير المتعارفة بوجوه القراءات، والآراء المختلفة لأصحاب اللغة، ووقت النزول، وشأن النزول، وكون الآيات مكيَّة أو مدنيَّة وتعدادها، وتعداد الحروف وأمثال تلك الأمور... 

 
فعلى كلِّ باحث عن الاستفادة الحقيقية من كتاب الله، أنْ يخرقَ جميع هذه الحجب، فلا يقف عندها بل عليه أنْ ينظرَ إلى ما هو أبعد من هذه الأمور، ولا يقنع عند حد معين من القرآن الشّريف لكي لا يتأخر عن قافلة السالكين فيُحْرَمَ من الدَّعوات الإلهيّة للاستفادة من هذه المأدبة السماوية. 
 
والإشارة إلى هذا المعنى في القصص القرآنيّة كثيرة. فموسى كليم الله عليه السلام مع ما له من المقام العظيم في النُّبوَّة، لم يقتنع بذلك المقام ولم يتوقف عند مقام علمه الشَّامخ، بل بمجرَّد أن التقى بإنسان كامل كالخضر عليه السلام قال له بمنتهى التواضع والخضوع: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾1 وصار ملازما لخدمته حتَّى أخذ منه العلومَ التي احتاج إليها.
 
وإبراهيم عليه السلام لم يقتنع بمقام الإيمان والعلم الشامخ الخاص بالأنبياء فقال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى﴾2، فأراد أن يرتقي من مقام الإيمان القلبي إلى مقام الاطمئنان الشهودي. وهناك ما هو أعظم من ذلك حيث يأمر الله تبارك وتعالى نبيّه الخاتم محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أعرف خلق الله على الإطلاق في الآيةِ الكريمةِ الشّريفةِ: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾3 بأنْ لا يقف عند حد في طلب العلوم الربانية والاستزادة منها. فهذه الأوامر الإلهيّة ونقل قصص الأنبياء وغيرها، إنما هي لأجلِ أنْ يتنبَّهَ النَّاسُ ويستيقظوا من نوم الغفلة الذي يتخبَّطون فيه.
  
 
 
 

1- الكهف، 66.
2- البقرة، 260.
3- طه، 114.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

84

الدرس الرابع: إزالة الموانع والحجب

 حجاب الآراء الفاسدة والعقائد الباطلة:

ومن الحجب المانعة أيضاً التي تصد عن الاستفادة الصَّحيحة من القرآن الكريم، حجاب الآراء الفاسدة والعقائد الباطلة، التي قد يكون سببها سوء استعداد الشخص، والأغلب أنَّ سبَبَها الأساسيَّ هو التبعيَّةُ والتَّقليدُ الأعمى للغير. 
 
وهذا الحجاب من الحجب الرَّئيسة التي تحجُبُ الإنسان عن معارف القرآن وحقائقه النُّورانيَّة، فمثلاً إذا رسخ في قلوبنا اعتقادٌ ما بمجرّد الاستماع إلى الأب أو الأم أو بعض الجهلة، فإنَّ مثل هذه العقيدة قد تكون حجاباً بيننا وبين الآيات الشّريفة الإلهيّة. وإذا وردت آلاف الآيات والرِّوايات التي تخالف تلك العقيدة، فإمّا أن نصرفها عن ظاهرها أو أن لا ننظر فيها نظر الفهم. والأمثلة فيما يرجع إلى العقائد والمعارف كثيرة، نشير إلى واحدةٍ منها من باب المثال حيث أنَّه أسهل للفهم.
 
إنَّ تلك الآيات الكثيرة الراجعة إلى معرفته ولقائه، والرِّوايات الكثيرة في هذا الموضوع، والإشارات العديدة والكنايات والتصريحات المتنوعة في أدعية ومناجاة الأئمة عليهم السَّلام، مثل هذه الشواهد الكثيرة بمجرّد ما تصطدم بتلك العقيدة التي انتشرت بين عوام النَّاس أن طريق معرفة الله مسدود بشكل كامل أمامنا نحن البشر العاديون، حيث يقيسون باب معرفة الله ومشاهدة جماله على باب الممنوع بل والممتنع في التفكُّر بذاته المقدّسة. فإمّا أن يؤوّلوا ويوجّهوا تلك الآيات والرِّوايات، وكذلك الإشارات والكنايات والتصريحات في أدعية الأئمة ومناجاتهم، وإمّا ألاّ يدخلوا في هذا الميدان أصلا ولا يفتحوا على أنفسهم تلك المعارف التي هي قرّة عين الأنبياء والأولياء. وممّا يوجب الأسف الشَّديد لأهل الله، أنَّ باباً من المعرفة الذي يمكن أن يقال أنَّه غاية بعثة الأنبياء ومنتهى مطلوب الأولياء، قد سدّوه على النَّاس حتَّى صار التفوّه به، عند البعض كفراً محضاً ومحض الزندقة.
 
ونحن ان أردنا أن نذكر الآيات والأخبار في لقاء الله ومعرفته بالتفصيل لفضح هذه العقيدة الفاسدة الناشئة عن الجهل والغرور الشَّيطاني، لاستلزم ذلك كتابا على حدة، فضلا عن ذكر الكثير من المعارف والحقائق التي وقعت وراء ستر النسيان بسبب هذا الحجاب الغليظ، ويُعلم أن أحد مراتب مهجورية القرآن وهجرانه هو هذه، كما يقول تعالى في الكريمة الشّريفة: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾1.
 
إنَّ لمهجورية القرآن مراتب كثيرة ومنازل لا تحصى، ولعلنا متصفون ببعضها. أتُرى 
 
 
 

1- الفرقان، 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

85

الدرس الرابع: إزالة الموانع والحجب

 أننا إذا جلّدنا هذه الصَّحيفة الإلهيّة جلداً نظيفاً وقيِّماً، وعند قراءتها أو الاستخارة بها قبّلناها ووضعناها على أعيننا ما اتخذناه مهجورا؟ 

 
أترى إذا صرفنا معظم عمرنا في تجويده وفي جهاته الُّلغويّة والبيانيَّةِ والبديعيَّةِ قد أخرجنا هذا الكتاب الشّريف عن مهجوريته؟ 
 
هل أنَّنا إذا تعلّمنا القراءات المختلفة وأمثالها قد تخلّصنا من عار هجران القرآن؟ هل أننا إذا تعلَّمنا وجوهَ إعجاز القرآن وفنون محسّناته قد نجونا من شكوى رسول الله؟ هيهات... فإنَّه ليس شيء من هذه الأمور مورد نظر القرآن ومنزّله العظيم الشأن. إن القرآن كتاب إلهي وهو الحبل المتصل بين الخالق والمخلوق، فلا بد أن يكونَ هناك رابطٌ معنويٌّ وارتباط غيبيٌّ بتعاليمه بين عباد الله ومربّيهم، ولا بد أن تحصلَ من القرآن الكريم العلوم الإلهيّة والمعارف اللدنيَّة. فعن رسول صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "إنما العلم ثلاثة، آية محكمة وفريضة عادلة وسنّة قائمة"1.
 
فالقرآن الشّريف حامل لهذه العلوم، وعندما نتعلم من القرآن هذه العلوم فما اتّخذناه مهجورا. وإذا قبلنا دعوات القرآن وأخذنا التعاليم من قصص الأنبياء عليهم السَّلام، المشحونة بالمواعظ والمعارف والحكم، وإذا اتعظنا نحن من مواعظ الله تعالى ومواعظ الأنبياء والحكماء المذكورة في القرآن فما اتّخذناه مهجورا، وإلا فالغور في الصُّورة الظاهريَّة للقرآن أيضاً إخلاد إلى الأرض، وهو من وساوس الشَّيطان ولا بد من الاستعاذة بالله منه.
 
حجاب شبهة التفسير بالرأي:
ومن الحجب الغليظة المانعة من الاستفادة من هذه الصَّحيفة النُّورانية: الاعتقاد بأنه ليس لأحدٍ حقُّ الاستفادة من القرآن الشّريف إلا من خلال ما كتبه المفسّرون وفهموه. فقد اشتبه على النَّاس التفكُّر والتدبّر في الآيات الشّريفة بالتفسير بالرأي الممنوع. ومن خلال هذا الرأي الفاسد والعقيدة الباطلة جعلوا القرآن عارياً من جميع فنون الاستفادة واتَّخذوه مهجوراً كُلي، في حين أنَّ الإستفاداتِ الأخلاقيَّةَ والإيمانيَّةَ والسّلوكيةَ لا ربط لها بالتفسير، فكيف بالتفسير بالرأي.
 
فمثلا إذا استفاد أحدٌ من كيفيَّة تباحث موسى مع الخضر وكيفيَّة تعاملهما، وشَدُّ موسى
 
 
 

1- الكافي، ج1، ص32.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
120

86

الدرس الرابع: إزالة الموانع والحجب

 رحاله إليه مع ما له من عظمةِ مقام النُّبوَّة لأخذ العلم منه، وكيفيَّةُ عرض حاجته على الخضر كما ذُكرت في الكريمة الشّريفة: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾1، وكيفيَّة جواب الخضر والاعتذارات التي وقعت من موسى، إذا استفاد منها عظمةَ مقام العلم وآداب سلوك المتعلم مع المعلّم، والتي تبلُغ في الآيات المذكورة نحوَ عشرين أدبا، فما علاقة هذه الاستنتاجات بالتفسير، فضلاً من أن تكونَ تفسيراً بالرَّأي؟!

 
والاستفادات من هذا القبيل في القرآن كثيرة، ففي المعارف مثل، إذا استفاد أحد من قوله تعالى ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الذي يحصر جميع المحامد بالله ويخصص جميع الثناءات بالحق تعالى، إذا استفاد منها التَّوحيد الأفعالي، وقال بأنه يستفاد من الآية الشّريفة أن كلّ كمال وجمال وكلّ عزّة وجلال موجودة في العالم والتي ينسبها القلب المحجوب إلى الخلائق والموجودات، هي من الحقّ تعالى وحده وأنه ليس لموجود من قبل نفسه شيء، لذا تكون المحمدة والثناء خاصة بالحق لا يشاركه فيها أحد. فأيّ ربط لهذا بالتفسير حتَّى يسمّى بالتفسير بالرأي أو لا يسمى؟! إلى غير ذلك من الأمور التي تستفاد من لوازم الكلام والتي لا ربط لها بأي وجه بالتفسير بالرأي.
 
مضافا إلى أن في التفسير بالرأي كلاماً أيضاً، وهو أنَّه من المحتمل بل من المظنون أن التفسير بالرأي المنهي عنه هو الراجع إلى آيات الأحكام الشرعية التي تقصر عنها أيدي الآراء والعقول، والتي لا بد وأن تؤخذ بصرف التعبّد والانقياد من خزّان الوحي ومهابط ملائكة الله، لا إلى آيات المعارف والعلوم العقلية والأخلاقية. كما أن أكثر الرِّوايات في هذا الباب وردت في مقابل فقهاء العامة الذين كانوا يريدون أن يفهموا دين الله بعقولهم وقياساتهم. وما في بعض الرِّوايات الشّريفة من أنَّه: "ليس شيء أبعد عن عقول الرجال من تفسير القرآن"2، وكذلك الرواية الشّريفة: "ان دين الله لا يصاب بالعقول"3 تشهدُ بأنَّ المقصود من دين الله الأحكام التعبّديّة للدين، وإلا فباب إثبات الصانع والتَّوحيد والتقديس واثبات المعاد والنُّبوَّة بل مطلق المعارف حقٌ مطلق للعقول ومن مختصَّاتها. 
 
 
 

1- الكهف، 66.
2- بحار الأنوار، ج89، ص95.
3- بحار الأنوار، ج2، ص303.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

 


87

الدرس الرابع: إزالة الموانع والحجب

 حجابُ الذُّنوب والمعاصي:

ومن الحجب المانعة من فهم القرآن الشّريف، ومن الاستفادة من معارف هذا الكتاب السَّماويّ ومواعظه، حجاب المعاصي والذُّنوب الحاصلة من الطغيان وعصيان رب العالمين، التي تحجب القلب عن إدراك الحقائق الإلهيّة العزيزة.
 
فلكلِّ عملٍ من الأعمال الصالحة أو السيئة صورةٌ وتأثيرٌ في الآخرة وعالم الملكوت تتناسب معه، وله صورةٌ أيضاً وتأثيرٌ في النَّفس الإنسانيَّة وملكوتها، تحصلُ بواسطتها إمّا النُّورانيةُ في النَّفس، فيكون القلب مطهَّراً ومنوَّراً، وفي هذه الحالة تكون النَّفس كالمرآة المصقولة صافيةً، اللائقة للتجليات الغيبيّة وظهور الحقائق والمعارف فيه. وإما أن يصير باطن النفس بهذه الأعمال ظلمانياً وخبيثاً، وفي هذه الصُّورة يكون القلب كالمرآة المريّنة والمدنّسة، فلا تنعكس فيها المعارف الإلهيّة ولا الحقائق الغيبيّة. فيقع قلب الإنسان في هذه الحالة وبالتّدريج تحت سلطة الشَّيطان، ويكون إبليس الَّلعين هو المتصرِّفُ في مملكة روحه. ويقع السّمع والبصر وسائر القوى أيضاً تحت تصرف ذاك الخبيث، وينسدُّ السَّمعُ بالكلِّية عن المعارف والمواعظ الإلهيّة. ولا ترى العين الآيات الباهرة الإلهيّة، وتعمى عن الحقّ وآثاره وآياته، ولا يتفقّهُ القلب في الدِّين ويحرم من التفكُّر في آيات الحقّ وتذكرها، كما قال الحقّ تعالى ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾1. فيكون نظره إلى العالم كنظر الأنعام المحرومة من نعمة التفكُّر والتدبّر، ويصبح قلبه كقلوب الحيوانات التي لا نصيب لها من التفكُّر والتذكّر، بل يمكن أنْ تزدادَ حالةُ الغفلة والاستكبار فيه يوماً بعد يوم من جراء عدم النظر في الآيات الإلهيّة وسماع المواعظ الربانية، فيغدو أرذل وأضّل من الحيوان.
 
حجاب حب الدُّنيا:
ومن الحجب الغليظة التي هي مانع سميك بيننا وبين معارف القرآن ومواعظه، حجابُ حبِّ الدُّنيا. حيث يصرف القلب تمام همّته في الدُّنيا فتكون وجهة القلب تماما إلى الدُّنيا ويغفل القلب بواسطة هذه المحبة عن ذكر الله ويعرض عنه. وكلما ازداد التعلق بالدُّنيا وشهواتها ازداد حجاب القلب والساتر ضخامة. وربما تغلَّبت هذه العلاقة 
 
 
 

1- الأعراف، 179.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

88

الدرس الرابع: إزالة الموانع والحجب

 على القلب ويتسلّط سلطان حبُّ الجاه والشرف على القلب فينطفئ نور فطرة الله تماماً، وتُغلقُ أبواب السعادة على الإنسان. ولعل المراد من إقفال القلوب المذكورة في الآية الشّريفة: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾هو هذه الأقفال الأغلال والعلائق الدنيوية.

 
فمن أراد أن يستفيدَ من القرآن ويأخذَ نصيبه من المواعظ الإلهيّة لابدّ وأن يطهّرَ قلبه من هذه الأرجاس، ويزيل أدران المعاصي القلبية والاشتغال بغير الله من القلب، لأنّ القلوب غير المطهّرة ليست حرماً لهذه الأسرار كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾2. فكما أن غير المطهّر بالطهارة الظاهريَّة ممنوع عن ظاهر هذا الكتاب ومسّه في العالم الظاهر تشريعا وتكليفا، كذلك من كان ملوثا بأرجاس التعلقات الدنيوية والمحدودة والفانية ممنوع من معارفه ومواعظه وباطنه وسرّه قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾3...إلى آخره. فغير المتقي وغير المؤمن محروم من أنوار القرآن مواعظه وعقائده الحقة. والآية الشريفة التالية تكفي لأهل اليقظة بشرط التدبّر فيها، حيث قال تبارك وتعالى: ﴿قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾4.
 
 
 

1- محمَّد، 24.
2- الواقعة، 77-79.
3- البقرة، 2. 
4- المائدة، 15-16.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

89

الدرس الرابع: إزالة الموانع والحجب

 المفاهيم الرَّئيسة:

1- إزالةُ الحجب والموانع بين المستفيد والقرآن شرط أساسي لتحقيق الاستفادة الكاملة من كتاب الله. 

2- من الحجب التي تصدُّ عن سبيل القرآن، الشُّعور بالاستغناء عن كتاب الله، وعدم الحاجة الفعلية والضرورية إليه في مسيرة الإنسان الإيمانية والتكاملية.

3- من الحجب التي تحولُ دون الاستفادة من القرآن الكريم الشُّبهاتُ العقائديَّة والاعتقادات الخاطئة المتعلِّقةُ بالقرآن فهماً وتأويلاً وتفسيراً.

4- من الحجب التي تمنع من فهم حقائق القرآن والاستفادة منه أيضاً، تلوث باطن الإنسان بالمعاصي والذُّنوب. فمعارف هذا الكتاب المقدس وحقائقه لا يمسه إلا المطهرون من دنس الخطايا والآثام.

5- حب الدُّنيا أيضاً والتعلق بها يصرف القلب عن الله فتكون وجهته إلى غيره فيغفل القلب بواسطة هذه المحبة عن ذكر الله ويعرض عنه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

90

الدرس الخامس: التدبّر بين التفكُّر والتطبيق

 الدرس الخامس: التدبّر بين التفكُّر والتطبيق1



أهداف الدّرس:
1- بيان معنى التفكُّر والتدبّر في الآيات القرآنيّة وأهمّيته.
2- بيان تأثير عملية التدبّر والتفكُّر على عملية التعلّم والتزوّد من الكتاب العزيز.
3- بيان كيفيَّة حصول عملية التفكُّر والتدبّر في القرآن الكريم.
 
معنى التفكُّر:
من آداب قراءة القرآن المهمَّة؛ التفكُّر. والمقصود من التفكُّر أن يبحث في الآيات الشّريفة عن المقصد والمقصود من كلّ آية. وأحسن التعبير فيه ما قاله الخواجة عبد الله الأنصاري قدس سره، حيث عرف التفكُّر بأنه: "تلمّس البصيرة لاستدراك البغية"2، يعني أنَّ التفكُّر هو التجسس والبحث بواسطة نور البصيرة3 للوصول إلى المقصد والمقصود من كلّ آية شريفة. ومن المعلوم أن المقصد الأساسي من وراء القرآن ومن وراء كلّ آية فيه هو الوصول إلى السَّعادة المطلقة التي تحصل بالكمال العلمي والعملي.
 
الهدف من التفكُّر
من مقاصد القرآن الكريم كما تبيِّنُ هذه الصَّحيفة النُّورانية هو الهداية إلى سبل السَّلام والخروج من جميع مراتب الظلمات إلى عالم النور، والهداية إلى الطريق المستقيم ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ *  يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ 
 
 
 

1- تراجع بطاقات التدبُّر في القرآن الكريم، في دفتر التطبيقات، وتطبّق.
2- منازل السائرين، باب التفكُّر.
3- وهي بصر القلب لا بصر العين.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

91

الدرس الخامس: التدبّر بين التفكُّر والتطبيق

 إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾1، وتحصيل هذه الهداية ومراتب السَّلامة تبدأ من المرتبة الدَّانية الرَّاجعة إلى قوى الإنسان الحسّية إلى منتهى النهاية، وهي الوصول إلى مقام القلب السليم، الذي على ما ورد ذكره عن أهل البيت عليه السلام أن حقيقته أن يلاقيَ الإنسان الحقّ وليس في قلبه غيره عز وجل2. وتحصيل هذه الهداية غير ممكن إلا من خلال التفكُّر. فتكون سلامة القوى الحسّية والمعنويّة ضالة قارئ القرآن، فإنها موجودة في هذا الكتاب السماوي ولا بد أن يستخرجها بالتفكُّر. وإذا صارت قوى الإنسان الحسّية والمعنويّة سالمة من التصرّف الشَّيطاني وسلك طرق السلامة وعمل بها، فإنَّه في كلّ مرتبة من السلامة تحصل له ينجو من الظلمة ويتجلى فيه النور الإلهيّ الساطع قهرا، حتَّى إذا خلص من جميع أنواع الظلمات التي أولها ظلمات عالم الطَّبيعة بجميع شؤونها وآخرها ظلمة التوجّه إلى غير الحقّ عز وجل، يتجلى النور المطلق في قلبه ويهديه إلى طريق الإنسانية المستقيم وهو في هذا المقام طريق الربّ ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾3.

 
التفكُّر في الآيات والرِّوايات:
لقد كثرت الدعوة إلى التفكُّر وتمجيده وتحسينه في القرآن الشّريف حيث قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾4


ففي هذه الآية مدح عظيم للتفكّر، لأنها جعلت غاية إنزال الكتاب السماوي العظيم والصَّحيفة النُّورانية المجيدة احتمال التفكُّر، وهذا من شدّة الاعتناء به حيث أن مجرد احتماله صار موجبا لهذه الكرامة العظيمة. وقال تعالى في آية أخرى: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾5.
 
والآيات من هذا القبيل أو ما يقرب منها كثيرة، والرِّوايات في التفكُّر كثيرة أيضاً. فقد نقل عن الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه لما نزلت الآية الشّريفة ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
 
 
 

1- المائدة، 15-16.
2- عن أبي عبد الله عليه السلام قَال، "سألته عن قَول الله عز وجل ?إلا من أتى الله بقَلب سَلِيمٍ? قال، القلب السليم الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه". بحار الأنوار، ج67، ص 239 .
3- هود، 56.
4- النحل، 44.
5- الأعراف، 176.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

92

الدرس الخامس: التدبّر بين التفكُّر والتطبيق

 وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ﴾1 إلى آخرها.. قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها"2.

 
وقد وردت روايات كثيرة في خصوص التفكُّر في معاني القرآن والاتعاظ به والتأثر به، كما في الكافي الشّريف عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إن هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدّجى فليجل جال بصره ويفتح للضياء نظره فإنَّ التفكُّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور"3. ومقصوده عليه السلام أن الإنسان كما أنَّه بحاجة إلى النور الظاهري إذا كان يمشي في الظلمة حتَّى يصون نفسه من خطر السقوط في المهاوي، كذلك السالك طريق الآخرة وطريق الحقّ سبحانه وتعالى عليه أن يتمسك بالقرآن الكريم الذي هو نور الهداية والمصباح المنير ويتفكر فيه، كي لا يقع في المزلاّت المهلكة.
 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: "الفقيه من لا يترك القرآن رغبة عنه ويتوجّه إلى غيره، ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم، ولا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، ولا خير في عبادة ليس فيها تفقّه"4.
 
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "حملة القرآن عرفاء أهل الجنَّة"5. ولا يخفى أن المراد من هذا "الحمل" هو حمل معارف القرآن، الأمر الذي سيجعل الإنسان في الآخرة من أهل المعرفة وأصحاب القلوب، وإلا فإنَّ حمل ظاهر القرآن دون الاتعاظ بمواعظها، وإدراك معارفه وحكمه والعمل بأحكامه وسننه فسوف يكون مصداقا من مصاديق الآية الشّريفة: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾6.
 
 
 
 

1- آل عمران، 190.
2- نور الثقلين، ج1، ص350.
3- الكافي، ج2، ص 600.
4- معاني الأخبار، ص 226.
5- معاني الأخبار، ص 323.
6- الجمعة، 5.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

93

الدرس الخامس: التدبّر بين التفكُّر والتطبيق

 آثار التفكُّر في القرآن:

الهدف والمقصد من وجود الإنسان في هذه الحياة الدُّنيا هو الوصول إلى السعادة المطلقة والكمال الإنساني المطلق، والقرآن الكريم من مصاديق هذه السعادة والكمال الذي لا حدَّ له ولا منتهى. لذا على الإنسان التائق إلى نيل السعادة الإنسانية الحقيقية أن يبحث عنها في الآيات الشّريفة للكتاب الإلهيّ وفي قصصه وعبره. وحيث أنَّ السعادة تكمنُ في الوصول إلى السلامة المطلقة وعالم النور والطريق المستقيم، فعلى الإنسان أنْ يطلب من القرآن المجيد سبل السلامة ومعدن النور المطلق والطريق المستقيم كما أُشير إليه في الآية الشّريفة السابقة. 


فإذا أدرك القارئُ المقصدَ الحقيقيَّ وميَّزَه عن المقاصد الأخرى والوهميَّة والزَّائفة، صار بصيراً في تحصيله وانفتح له طريقُ الاستفادة من القرآن الشّريف وفُتحت له أبواب رحمة الحقّ، ولم يصرفْ عمره القصير ورأسمالَ تحصيل سعادته على أمور ليست مقصودة لرسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
 
وإذا أشخص بصيرته مدّة إلى هذا المقصود، وصرف نظره عن سائر الأمور، فسوف ينفتح عين قلبه ويكون بصره حديدا، ويصبح التفكُّر في القرآن للنفس أمرا عاديا، فتنفتح أمامه طرق الاستفادة وتفتح له أبواب لم تكن مفتوحة لحينها، وينهل من مطالب ومعارف القرآن التي ما كان لينالها من قبل. حينها يفهم معنى كون القرآن شفاء للأمراض القلبية، ويدرك مفاد الآية الشّريفة: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا﴾1، ومعنى قول أمير المؤمنين صلوات الله عليه: "وتعلموا القرآن فإنَّه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنَّه شفاء الصدور"2. ولا يُطلب من القرآن شفاء الأمراض الجسمانية فقط بل يُجعل عمدة المقصد شفاء الأمراض الروحانية التي هي مقصد القرآن. فإنَّ القرآن ما نزل لشفاء الأمراض الجسمانية وان كان يحصل به. كما أنَّ الأنبياء عليهم السَّلام لم يبعثوا للشفاء الجسماني وان كانوا يشفون، فهم أطباء النفوس والشافين للقلوب والأرواح.
 
 
 


1- الإسراء، 82.
2- نهج البلاغة، خطبة 109.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

94

الدرس الخامس: التدبّر بين التفكُّر والتطبيق

 التفكُّر وضرورة التطبيق على النفس:

من الآداب المهمَّة أيضاً لقراءة القرآن والتي تُكسب الإنسان نتائجَ كثيرةً وفوائدَ لا تُحصى هو التَّطبيق. وكيفيَّتُه أنَّه عندما يتفكر الإنسان في كلّ آية من الآيات الشّريفة عليه أثناء التفكُّر وبعده أن يطبق مفاد هذه الآيات الشّريفة على حاله ونفسه، فيرفع نقصانه بواسطة هذا التطبيق ويشفي أمراضه من خلاله.
 
وبإمكاننا القول أن وظيفة وتكليف القارئ الحقيقي والسالك إلى الله هي أن يعرض نفسه على القرآن الشّريف من خلال تطبيق ما قرأهُ وتفكَّرَ فيه على نفسه. فكما أنَّ الميزان في صحَّة الحديث وعدم صحته واعتباره وعدم اعتباره في أن يعرضَه على كتاب الله، فما خالف كتاب الله فهو باطل وزخرف وما وافق فهو حق. كذلك فإنَّ الميزان في الاستقامة والاعوجاج والشقاء والسعادة هو أن يكون مستقيما وصحيحا في ميزان كتاب الله. وكما أن خلق رسول الله هو القرآن فعليه أن يجعل خُلقه موافقا للقرآن حتَّى يكون مطابقا لخُلق الوليّ الكامل أيضاً. وأما الخُلق الذي يكون مخالفا لكتاب الله فهو زخرف وباطل. وكذلك جميع معارف الإنسان وأحوال قلبه، وأعمال الباطن والظاهر لابد أن يطبّقها على كتاب الله ويعرضها عليه حتَّى يتحقق بحقيقة القرآن ويكون القرآن صورته الباطنية.
 
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "أنا أول وافد على العزيز الجبّار يوم القيامة وكتابه وأهل بيتي ثمَّ أمّتي ثمَّ أسألهم ما فعلتم بكتاب الله وبأهل بيتي"1


وإذا لم يحيي الإنسان أحكام القرآن ومعارفه من خلال العمل بها والتحقق بحقيقتها، فإنَّه لن يتمكَّن من أنْ يُجيبَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك اليوم عما فعله بهذه الأمانة، لأنه لا توجدُ إهانةٌ أعظمُ من أن ينبذَ الإنسان مقاصد القرآن ودعواته وراء ظهره. فليس إكرام القرآن وأهله وهم أهل بيت العصمة والطهارة عليه السلام بتقبيل جلده أو أضرحتهم المطهرة فقط، فهذه مرتبة ضعيفة من الاحترام والتكريم، وهي تصبح مقبولة إذا عملنا بأوامره وأوامرهم عليهم السَّلام، وإلا فهو ضرب من الاستهزاء واللعب.
 
وقد حذرت الأحاديث الشّريفة بشدة من قارئ القرآن الذي لا يعمل به ولا يطبقه على نفسه فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال في حديث: "من تعلّم القرآن فلم يعمل به وآثر عليه حبّ 

 
 

1- الكافي، ج2، ص600.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

95

الدرس الخامس: التدبّر بين التفكُّر والتطبيق

 الدُّنيا وزينتها استوجب سخط الله وكان في الدرجة مع اليهود والنصارى الذي ينبذون كتاب الله وراء ظهورهم، ومن قرأ القرآن وأراد به السمعة والوصول إلى الدُّنيا لقي الله ووجهه عظم لا لحم فيه وزجه القرآن على قفاه حتَّى يدخل النَّار ويسقط في النَّار مع الذين سقطوا، ومن قرأ القرآن ولم يعمل به حشره الله يوم القيامة أعمى فيقول ﴿رَبِّ لِمَ حَشَرْتَني‏ أَعْمى‏ وَقَدْ كُنْتُ بَصيراً * قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى‏﴾ فيؤمر به إلى النَّار، ومن قرأ القرآن ابتغاء وجه الله وتفقها في الدين كان له من الثواب مثل جميع ما يعطى الملائكة والأنبياء والمرسلون، ومن تعلّم القرآن يريده رياء وسمعة ليماري به السفهاء ويباهي به العلماء ويطلب به الدُّنيا بدّد الله عزّ وجل عظامه يوم القيامة ولم يكن في النَّار أشدّ عذابا منه وليس نوع من أنواع العذاب إلا ويعذب من شدّة غضب الله عليه وسخطه، ومن تعلّم القرآن وتواضع في العلم وعلّم عباد الله يريد ما عند الله لم يكن في الجنَّة أعظم ثوابا منه ولا أعظم منزلة منه ولم يكن في الجنَّة منزلة ولا درجة رفيعة ولا نفيسة إلا كان له فيها أوفر النصيب وأشرف المنازل"1.

 
 
 

1- وسائل الشيعة، ج6، ص183.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
132

96

الدرس الخامس: التدبّر بين التفكُّر والتطبيق

 أمثلة على كيفيَّة التطبيق:

 
التدبّر في قصة آدم عليه السلام:
مثلا في قصة آدم الشّريفة على الإنسان أنْ يتفكَّر في الأسباب التي أدَّت إلى طرد الشَّيطان من جناب القدس مع تلك السجدات والعبادات الطويلة، فيطهّر نفسه منها، لأنّ مقام القرب الإلهيّ محل المطهّرين، ومع الأوصاف والأخلاق الشَّيطانية لا يمكن التقدم إلى ذلك الجناب الرفيع. ويُستفاد من هذه الآيات الشّريفة أن مبدأ عدم سجود إبليس هو رؤية النفس والعجب بها حيث قال ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾1
 
فإنَّ رؤيةَ إبليس لنفسه صارتْ سبباً للعُجب والكبر، وهذا الكبر صار سببا للاستقلال مقابل الحقّ وعصيان الأمر فصار مطرودا من الحضرة المقدّسة. وما كان سببا في مطرودية إبليس من جناب القدس، إذا كان موجودا في أي شخص فهو مطرود مثله أيضاً، فلا قيد يجعلها تشمل الشَّيطان دون غيره. وما كان سببا في إبعاده عن جناب القدس سيؤدي إلى الحيلولة بينه وبين الوصول إلى تلك الحضرة الإلهيّة. 
 
التدبّر في أوصاف المؤمنين:
قلنا أنَّه من أراد أن ينال من القرآن الشّريف الحظ الوافر والفائدة الكافية، عليه أن يطبّق كلّ آية من الآيات الشّريفة على حالات نفسه حتَّى تحصل له الاستفادة الكاملة. مثلا يقول الله تعالى في سورة الأنفال في الآية الشّريفة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾2، فعلى الإنسان المتدبِّر أن يلاحظ هل هذه الأوصاف الثلاثة تنطبق عليه؟ هل أن قلبه يوجِلُ ويخاف إذا ذكر الله؟ وإذا تليت عليه الآيات الشّريفة الإلهيّة هل يزداد نور الإيمان في قلبه؟ وكذلك اعتماده وتوكله على الحقّ تعالى؟ أم أنَّه عن كلّ هذه المراتب متأخر، ومن كلّ هذه الخصائص 
 
 
 

1- الأعراف، 12.
2- الأنفال، 2.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

97

الدرس الخامس: التدبّر بين التفكُّر والتطبيق

 محروم؟ من أراد أن يفهم أنَّه من الحقّ تعالى خائفٌ وقلبه من خوف الله وَجِلٌ، فلينظر إلى أعماله. فالإنسان الخائف من الله لا يتجاسر عليه في محضره، ولا يهتك الحرمات الإلهيّة في حضوره. 


وإذا قويَ نورُ الإيمان في القلب بتلاوة الآيات الإلهيّة، فإنَّ نور الإيمان سوف يسري إلى ظاهر الإنسان أيضاً. فمن غير الممكن أن يكون القلب نورانيا ولا يكون اللسان والأذن والعين والسمع نورانيا. فالإنسان النوراني هو الذي تشع قواه الظاهرة الحسّية والباطنة الملكوتية بأسرها بالنور. وهو في هذه الحالة مضافا إلى أنَّه اهتدى إلى السعادة والطريق المستقيم إلا أنَّه يكون مضيئا لسائر الخلق أيضاً ويهديهم إلى طريق الإنسانية. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

98

الدرس الخامس: التدبّر بين التفكُّر والتطبيق

 المفاهيم الرَّئيسة:

1- المراد من التفكُّر في القرآن البحث عن المقصد والمقصود من كلّ آية شريفة.

2- إذا كان الهدف الأساسي من نزول القرآن هو حصول الهداية والخروج من الظلمات إلى النور، فإنَّ الاهتداء بالقرآن الكريم غير ممكن من دون التفكُّر في آياته والتدبّر فيها. 

3- الغاية من وجود الإنسان في هذا العالم هو الوصول إلى السعادة المطلقة والكمال الذي لا حد له. والقرآن الكريم من مصاديق هذه السعادة والكمال الذي لا حد له ولا منتهى، لأنّ حقيقته ليست سوى الكمال اللامتناهي.

4- حصول الاستفادة النُّورانية من القرآن الكريم متعذر من دون التطبيق العملي للآيات على أنفسنا.
5- المقصود من التطبيق أن يعرض الإنسان نفسه على القرآن الشّريف من خلال تطبيق ما قرأه وتفكر فيه على نفسه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

99

المحور الرابع قصص وعبر من سير الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

 موضوعات المحور

               النبي آدم عليه السلام
               النبي إبراهيم عليه السلام
               النبي نوح عليه السلام



أهداف المحور الرابع
                   الإطلالة على جوانب من سير وقصص بعض الأنبياء عليهم السلام من خلال القرآن الكريم.
                   استخلاص عبر واستفادات شخصية يعيها الطالب ويحاول تطبيقها في حياته العامة والخاصة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

100

القصة الأولى: النبي آدم عليه السلام

 القصة الأولى: النبي آدم عليه السلام

 
أهداف الدّرس: 
1- التعرُّف على العبر الواردة في قصَّة النبيّ آدم والتدبّر بها.
2- الحثّ على التفكُّر في مفهوم الخلافة الإلهيّة للإنسان. 
3- التعرُّف على حيل إبليس وعداوته عنده للإنسان.
 
النبيّ آدم عليه السلام ومشروع الخلافة
شاءُ الله تعالى أنْ يخلق على ظهر الأرض موجوداً، يكون خليفته فيها يحمل قبساً من صفاته، وتسمو مكانته على مكانة الملائكة. وشاء سبحانه أن تكون الأرض ونعمها وما فيها من كنوز ومعادن وإمكانات تحت تصرف هذا الإنسان، الذي يحتاج إلى قابليات واستعدادات خاصة، كي يستطيع أن يتولى هذه المهمة الثقيلة.
 
وعن هذا يتحدث القرآن الكريم: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾1
 
فما هي حقيقية هذه الخلافة؟ وما الذي نستفيده نحن من معرفتنا بأن للإنسان موقع من الخلافة من الله تعالى؟
 
وقد تعددت الأقوال في معنى خلافة الإنسان لله سبحانه في الأرض، فقيل:
"أ- أنّه يخلف الله في الحكم والفصل بين الخلق.
ب- أنّه يخلف الله سبحانه في عمارة الأرض واستثمارها، من إنبات الزرع وإخراج



1- البقرة، 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

101

القصة الأولى: النبي آدم عليه السلام

 الثمار وشق الأنهار وغير ذلك.



ج- أنّه يخلف الله سبحانه في العلم بالأسماء.
د- أنّه يخلف الله سبحانه في الأرض بما نفخ الله من روحه ووهبه من قابليات غير محدودة"1.
 
وبإمكاننا القول أن دور الإنسان في خلافة الله في الأرض يمكن أن تشمل جميع هذه الأبعاد والصور، فهو يخلف الله في الحكم والفصل بين العباد بما منح الله هذا الإنسان من صلاحية الحكم بين الناس بالحق كما يقول الحق عن نبي الله داوود عليه السلام: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾2. وكذلك يخلفه في عمارة واستثمارها من إنبات الزرع وإخراج الثمار والمعادن وتفجير المياه وشق الأنهار وغير ذلك: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾3. ولعل أكثر موارد الاستعمال (خلائف وخلفاء واستخلاف) أريد منه هذا النوع من الاستخلاف: ﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾4. وكذلك يمكن أن يخلف الإنسان الله في الأرض بما وهبه من العلوم والكمالات والمعارف والقابليات التي لا حد لها التي من يستطيع من خلالها أن يتكامل ويسير بها نحو الله تعالى56.
 
 
 

1- علوم القرآن، محمد باقر الحكيم، ص 453.
2- ص، 26.
3- الملك، 15.
4- الأعراف، 74.
5- علوم القرآن، باقر الحكيم، 457.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
142

102

القصة الأولى: النبي آدم عليه السلام

 الملائكة تسأل!

يذكر القرآن الكريم السؤال الذي وجهته الملائكة لربِّ العالمين مستفسرين لا معترضين: ﴿قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾1؟ 


وكما كما يبدو من تساؤلهم أنهم على معرفة مسبقة بهذا الإنسان سفكه للدماء وإفساده في الأرض، فكيف عرفوا ذلك؟! 
 
البعض قال بأن الله سبحانه أوضح للملائكة من قبل طبيعة وجود الإنسان على وجه الإجمال.
 
وقيل إن الملائكة فهموا ذلك من خلال عبارة  ﴿فِي الأَرْضِ﴾ لأنهم علموا أن هذا الإنسان مخلوق من تراب، والمادة لمحدوديتها هي حتماً مركز للتنافس والنزاع.
a
وبعض آخر ذهب إلى أن تنبؤ الملائكة يعود إلى تجربتهم السابقة مع مخلوقات سبقت آدم، وهذه المخلوقات تنازعت، وسفكت الدِّماء، وخلَّفت في الملائكة انطباعاً سلبياً عن موجودات الأرض.
 
وتعلم الملائكة أنَّ الهدف من الخلقة هو العبودية والطاعة، وكانوا يرون في أنفسهم مصداقاً كاملاً لذلك، فهم في العبادة غارقون، ولذلك فهم لائقون للخلافة أكثر من غيرهم، غير عالمين أن ما بين عبادة الإنسان المليء بألوان الشهوات، والمحاط بأشكال الوساوس الشَّيطانية والمغريات الدِّنيوية، وبين عبادتهم - وهم خالون من كلّ هذه المؤثرات - بوناً شاسعاً. فأين عبادة هذا الموجود الغارق وسط الأمواج العاتية، من عبادة تلك الموجودات التي تعيش على ساحل آمن؟!
 
ماذا تعرف الملائكة عن أبناء آدم، وفيهم أمثال محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم وإبراهيم ونوح وموسى وعيسى والأئمة من أهل البيت عليه السلام وعباد الله الصالحين والشهداء والمضحّين من الرجال والنساء الذين قدّموا وجودهم على مذبح العشق الإلهيّ، والذين تساوي ساعة من تفكّرهم سنوات متمادية من عبادة الملائكة. 
 
وكما بيّنت الآية الكريمة، فإنّ الملائكة ركنوا في بيان فضلهم إلى ثلاثة أمور: التَّسبيح 
 
 
 
 

1- البقرة، 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

103

القصة الأولى: النبي آدم عليه السلام

 والحمد، والتقديس. ولسان حالهم أن الهدف هو الطاعة والعبودية أو العبادة فنحن عاى هذه الحالة دائماَ، وإذا كان المقصود هو تطهير النفس أو تطهير الأرض فسوف ننفذ هذا الأمر، في حين أن الإنسان المادي مضافاً إلى فساده، فإنَّ من خصاله أيضاً أنَّه سوف يفسد الأرض حتماَ. ومن أجل تتّضح الحقيقة للملائكة، جعلهم الله في بوتقة الاختبار ليعلموا الفرق الشّاسع بينهم وبين آدم عليه السلام.

 
الملائكة في بوتقة الاختبار
كان آدم عليه السلام يملك - بفضل الله- قابلية خارقة واستعدادا خاصاً لفهم الحقائق. وشاء الله أن ينقل هذه المعرفة بالحقائق الإلهيّة والأسرار الغيبيّة القابلية من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعلية، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بـ،: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾1.
 
"وهذا القول مشعر بأن هذه الأسماء أو أنّ مسمياتها كانوا موجودات أحياء عقلاء، محجوبين تحت حجاب الغيب، وأن العلم بأسمائهم كان على نحو مغاير للعلم الذي عندنا بأسماء الأشياء، وإلا لما كان الملائكة على دراية ومعرفة بما أنباءهم إيّاه آدم عليه السلام ولصاروا مساويين له وربما أشرف، ولما كان في ذلك أي كرامة وفضل لآدم عليه السلام.
 
وبالجملة فما حصل للملائكة من العلم بواسطة إنباء آدم عليه السلام لهم بالأسماء هو غير ما حصل لآدم من حقيقة العلم بالأسماء بتعليم الله تعالى. وآدم إنما استحق الخلافة الالهية لعلمه بالأسماء لإنباء الملائكة بها، لذا في مقام الجواب قالت الملائكة: ﴿سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا﴾2 فنفوا صفة العلم عن أنفسهم. فظهر إذاَ أنّ العلم بهذه المسمّيات المستورة تحت ستر الغيب كان حكراَ على آدم عليه السلام وسبباَ في الخلافة الإلهية. وقوله تعالى ﴿عَرَضَهُمْ﴾ دال على كون كل إسم من هذه الأسماء ذا حياة وعلم مع كونها في حجاب الغيب"3.
 
 
 
 

1- البقرة، 31.
2- البقرة، 32.
3- العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص117.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
144

104

القصة الأولى: النبي آدم عليه السلام

 وأمام هذا الاختبار تراجعت الملائكة لأنّهم اكتشفوا أنّهم لا يملكون قدرات آدم العلمية التي منحه الله إياها ﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾1، وعندما حان الدور لآدم عليه السلام كي يشرح لهم أسسماء هذه الحقائق وأسرارها ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾2. هنا أدركت الملائكة أنّ هذا الموجود هو وحده اللائق للاستخلاف على الأرض.

 
إبليس يأبى السجود، ويخطط
إبليس - كما صرح القرآن - لم يكن من جنس الملائكة بل كان من طائفة الجن، وهي مخلوقات مادية، قال تعالى ﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾3، ولكنّه لكثرة عبادته كان بعتبر في مصافّ الملائكة المقربين.
 
ولقد كان باعثه على الامتناع عن السجود كبر وغرور وتعصب خاص استولى على نفسه، حيث اعتقد أنَّه أفضل من آدم، ولا ينبغي أن  يصدر له أمر بالسجود لآدم عليه السلام ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾4.
 
ثمَّ إنّ الله تعالى أخذ إبليس على عصيانه وطغيانه، و﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ فأجاب إبليس من غير عذر وجيه ﴿قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾5. وكأنَّ إبليس كان يتصوّر أنّ النَّار أفضل من التُّراب، ﴿قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾6. وهذا من اشتباهات إبليس وأخطائه القاتلة، التي أدت إلى طرد إبليس ولعنه ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾7.
 
إنّ قصّة الشَّيطان لم تنته عند هذا الحد، فهو عندما قدّر بأن عدم عرف بأنه صار مطروداَ من  
 
 
 
 

1- البقرة، 32.
2- البقرة، 33.
3- الكهف، 50.
4- البقرة، 34.
5- الأعراف، 12.
6- الحجر، 33.
7- الحجر، 34.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

105

القصة الأولى: النبي آدم عليه السلام

 حضرة ذي الجلال زاد من طغيانه ولجاجته، وبدل أن يتوب إلى الله ويعترف بخطئه، بادر إلى الطلب من الله تعالى أن يمهله ويؤجل موته إلى يوم القيامة: ﴿قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ1. وقد استجاب الله لهذا الطلب، فـ ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ﴾2.

 
ولكنه لم ينظره إلى يوم البعث، بل أنظره الله تعالى إلى يوم الوقت المعلوم ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾3. وهو لا محالة قبل يوم البعث، وهو الوقت الذي يعلمه الله تعالى.
 
والشَّيطان كان هدفه من ذلك هو إغواء بني البشر ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾4. بل زاد على ذلك بأنّه لن يكتفي بالقعود بالمرصاد لهم، بل سيأتيهم من كل حدب وصوب، ويسد عليهم الطريق من كل جانب ﴿ثمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾5 6.
 
ولهذا صدر الأمر بخروجه وجاء الأمر المشدّد: ﴿قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا﴾. 
وحلف الله تعالى على أن يملأ جهنم منه ومن أتباعه ﴿لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ﴾7 8.


وفي هذا الموقف فائدة كبرى في تهذيب النفس وتطهيرها من كل صفات إبليس والتي يأتي الحسد والتكبر على رأسها. فالشيطان وعد وهدّد بني آدم بالترصّد لهم لإيقاعهم في نفس الشرك الذي وقع فيه، ألا وهو عبادة النفس والهوى والتكبر على الله سبحانه. والله تعالى قد حذّر المؤمنين في القرآن كثيراَ من هذا الفخ ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ
 
 
 
 

1- الأعراف، 14.
2- الأعراف، 15.
3- الحجر، 37.
4- الأعراف، 16.
5- الأعراف، 17.
6- ويمكن أن يكون هذا التعبير كناية عن أن الشيطان يحاصر الإنسان من كلّ الجهات ويتوسل إلى إغوائه بكل وسيلة ممكنة، ويسعى إلى إضلاله، وهذا التعبير دارج في المحاورات اليومية أيضاَ، فنقول، فلان حاصرته الديون أو الأمراض من الجهات الأربع. وعدم ذكر الفوق والتحت إنّما هو لأجل أن الإنسان يتحرك عادة في الجهات الأربع المذكورة، ويكون له نشاط في هذه الأنحاء غالباَ.
7- الأعراف، 18.
8- هل كان السجود لله أم لآدم عليه السلام؟ لا شك أن السجود يعني - العبادة - لله، إذ لا معبود غير الله، وتوحيد العبادة يعني أن لا نعبد إلا الله. من هنا فإنّ الملائكة لم يؤدوا لآدم - سجدة عبادة - قطعاَ. بل كان السجود لله من أجل خلق هذا الموجود العجيب، أو كان سجود الملائكة لآدم سجود - تعظيم - امتثالاَ لأمر الله، والعبادة هي إطاعة أوامر الله عزّ وجل. جاء في - عيون الأخبار - عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، - كان سجودهم لله تعالى عبودية، ولآدم إكراماَ وطاعة، لكوننا في صلبه-.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
146

106

القصة الأولى: النبي آدم عليه السلام

 فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾1. فالأمر حقيقة هو هكذا، حالة حرب، بين عدو شرس شرير وحقود إسمه الشيطان وبين إنسان له مقام عظيم عند الله.

 
الاستقرار في الجنَّة:
بعد هذا المشهد ومشهد اختبار الملائكة، أُمر آدم وزوجه أنْ يسكنا الجنَّة ﴿وقلنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجنَّة وكُلاَ مِنْها رغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾2.
 
"يستفاد من آيات القرآن أنَّ آدم خلق للعيش على هذه الأرض، لكنَّ الله شاء أنْ يسكنه قبل ذلك الجنَّة، وهي روضة خضراء موفورة النعمة في هذا العالم، وخالية من كلّ ما يزعج آدم عليه السلام.
 
لعلّ مرحلة مكوث آدم عليه السلام في الجنَّة كانت مرحلة تحضيرية لكي يظهر للنبي آدم عليه السلام ويتبين له أنّ الأرض التي خلق لكي يكون خليفة فيها، فيها من الصعوبات والدواهي ما لم يشهده في تلك الجنة، وما حادثه الشيطان وحسده له وتكبّره على أمر الله وكيده لآدم، إلا أنموذج مما سوف يواجهه آدم في طريق الخلافة.
 
وكان من الضروري أيضاً أن يعلم آدم بإمكان العودة إلى الله والرجوع إليه، وأن أبواب الحق لا تغلق على الموحّدين.
فهذه المقدمات كانت ضرورية لأبناء آدم في حياتهم الجديدة. ولعل الفترة التي قضاها آدم في الجنة كانت لأجل أن ينهض بمسؤولية الخلافة على الأرض"3.
 
 
 
 

1- فاطر، 6.
2- البقرة، 35.
3- الميزان، ج1، ص127، بتصرّف.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

107

القصة الأولى: النبي آدم عليه السلام

 الوسوسة سلاح الشَّيطان الخفي

رأى آدم نفسه أمام أمر إلهي يقضي بعدم الاقتراب من الشجرة، لكن الشَّيطان أبى إلا أن ينفذ قسمه في إغواء آدم وذريته، فطفق يوسوس لآدم ويعده وزوجه.
 
وللوصول إلى هذا الهدف رأى أن أفضل طريق هو أن يستغل حب الإنسان ورغبته الذاتية في التكامل والرقي والحياة الخالدة، فقال لآدم عليه السلام وزوجته: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾.
 
وبهذه الطريقة صوَّرَ الأمرَ الإلهيّ في نظرهما بشكل آخر، وصور المسألة وكأن الأكل من الشجرة الممنوعة ليس غير مضر فحسب، بل يورث عمراً خالداً أو نيل درجة الملائكة. والشاهد على هذا الكلام هو العبارة التي قالها إبليس ﴿يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى﴾1
 
فقد جاء في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام، وعن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: فجاء إبليس فقال: إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين، وبقيتما في الجنَّة أبداً، وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنَّة2
 
ولما سمع آدم هذا الكلام غرق في التفكير، ولكن الشَّيطان - من أجل أنْ يُحكم قبضته ويعمِّق وسوسته في روح آدم وحواء - توسل بالأيمان المغلّظة للتدليل على أنَّه لا يريد لهما إلا الخير!! ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾3.


وبمجرد ان ذاق آدم وزوجته من تلك الشجرة الممنوعة جاءهما نداء من الله يقول: ألم أحذركما من الاقتراب والأكل من هذه الشجرة؟ ألم أقل لكما: إن الشيطان عدو لكما؟ ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾4.
 
 
 

1- طه، 120.
2- الميزان، ج1، ص128.
3- الأعراف، 21.
4- الأعراف، 22.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
148
 

108

القصة الأولى: النبي آدم عليه السلام

 الإخراج من الجنَّة

يقول القرآن الكريم بعد ذلك: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾.
نعم، أخرجا من الجنَّة حيث الراحة والهدوء وعدم الألم والتعب والعناء، على أثر وسوسة الشَّيطان. وصدر لهما الأمر الإلهيّ بالهبوط ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾1. وهنا، فهِم آدمُ أنَّه ظلم نفسه، وأُخرج من الجو الهادئ المليء بنعم الجنَّة بسبب استسلامه لوسوسة الشَّيطان. وهبط إلى جوٍّ مفعمٍ بالتَّعبِ والمشقَّة والعناء. مع أنَّ آدم كان نبيّاً ومعصوماً، فإنَّ الله يؤاخذ الأنبياء بترك الأوّلى - كما سنرى - كما يؤاخذ باقي الأفراد على ذنوبهم. 
 
ما هي جنَّة آدم عليه السلام؟
يبدو أن الجنَّة التي مكث فيها آدم قبل هبوطه إلى الأرض، لم تكن الجنَّة التي وُعد بها المتقون. بل كانت من جنان الدُّنيا، وصقعاً منعماً خلاباً من أصقاع الأرض. ودليلنا على ذلك:
أولاً: الجنَّة الموعودة في القيامة نعمة خالدة، والقرآن ذكر مراراً خلودها، فلا يمكن إذن الخروج منها.
ثانياً: إبليس الملعون ليس له طريق إلى الجنَّة، وليس لوسوسته مكان هناك.
ثالثاً: وردت عن أهل البيت عليه السلام روايات والتي تصرح بأنّ جنّة آدم كانت من جنان الدنيا لا جنان الآخرة: منها ما روي عن الإمام جعفر بن محمَّد الصادق عليه السلام أنَّه سئل عن جنَّة آدم، فقال: "جنَّة من جنات الدُّنيا، يطلع فيها الشمس والقمر، ولو كان من جنان الآخرة ما خرج منها أبداً"2.
 
على كلّ حال، توجد شواهدُ كثيرةٌ على أنَّ هذه الجنَّة هي غير جنَّة الخلد الموعودة. لأنّ جنَّة آدم بداية مسير الإنسان وجنَّة الخلد نهايتها. وهذه المقدِّمة لأعمال الإنسان
 
 
 

1- البقرة، 36.
2- بحار الأنوار، ج6، ص284، تفسير الميزان، ج1، ص119.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

109

القصة الأولى: النبي آدم عليه السلام

 ومراحل حياته، وتلك نتيجة أعمال الإنسان ومسيرته1

 
رجوع آدم إلى الله وتوبته
بعد حادثة وسوسة إبليس، وصدور الأمر الإلهيّ بالخروج من الجنَّة، فهم آدم أنَّه ظلم نفسه، وإنه أُخرج من ذلك الجو الهادئ المنعّم على أثر إغواء الشَّيطان، ليعيش في جوّ جديد مليء بالتعب والنصب، وهنا أخذ آدم يفكر في تلافي خطئه، فاتجه بكلِّ وجوده إلى بارئه فأدركته رحمة الله في هذه اللحظات كما تقول الآية: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّه هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾2.
 
يقول السيد الطباطبائي بأنّ "التوبة، وهي الرجوع من العبد إذا استتبع القبول من جانب المولى أوجب كون الذنب كلا ذنب، والمعصية كأنها لم تصدر، فيعامل مع العاصي التائب معاملة المطيع المنقاد، وفي مورد فعله معاملة الإمتثال والإنقياد. ولو كان النهي عن أكل الشجرة مولوياَ وكانت التوبة توبة عن ذنب عبودي ورجوعاَ عن مخالفة نهي مولوي كان اللازم رجوعهما إلى الجنة مع أنهما لم يرجعا"3. والتدبر في آيات القصة والدقة في النهي الزائد عن أكل الشجرة يوجب القطع بأنّ النهي المذكور لم يكن نهياَ مولوياَ وإنّما نهي إرشادي يراد به الإرشاد والهداية إلى ما فيه خير الإنسان وصلاحه.
وفي هذا الكلام فائدة للإنسان المؤمن الذي عليه أن يسارع إلى إعلان التوبة بعد الذنب، عسى أن يمن الله تعالى عليه بالعفو والرحمة والقبول.
 
 
 
 

1- ما هو ذنب آدم؟ المكانة التي ذكرها القرآن لآدم سامية ورفيعة، فهو خليفة الله في الأرض ومعلم الملائكة، وعلى درجة كبيرة من التقوى والمعرفة، وهو الذي سجدت له ملائكة الله المقربين، ومن المؤكد أنّ آدم هذا لا يصدر عنه ذنب، إضافة إلى أنه كان نبياَ، والنبي معصوم.
من هنا يطرح سؤال عن نوع العمل الذي صدر عن آدم، وتوجد لذلك ثلاثة تفسيرات يكمل بعضها الآخر.
1- ما ارتكبه آدم كان - تركاَ للأولى - أو بعبارة أخرى كان - ذنباَ نسبياَ -، ولم يكن - ذنباَ مطلقاَ -. الذنب المطلق، وهو الذنب الذي يستحق مرتكبه العقاب أياَ كان، مثل الشرك والكفر والظلم والعدوان. 
والذنب النسبي هو الذي لا يليق بمرتكبه أن يفعله لعلوّ منزلة ذلك الشخص، وإن كان ارتكابه مباحاَ، بل مستحباَ أحياناَ من قبل الأفراد العاديين. على سبيل المثال، نحن نؤدي الصلاة بحضور القلب تارة، 
وبعدم حضور القلب تارة أخرى. وهذه الصلاة تتناسب وشأننا، لكن مثل هذه الصلاة لا تليق بأفراد عظام مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. صلاة الرسول ينبغي أن تكون بأجمعها اتصالاَ عميقاَ 
بالله تعالى، وإن فعل الرسول غير ذلك فلا يعني إنه ارتكب محرما، بل يعني إنه ترك الأولى، وآدم كان يليق به أن لا يأكل من تلك الشجرة، وإن كان الأكل منها غير محرم بل - مكروها-.
2- نهى الله لآدم إرشادي، مثل قول الطبيب، لا تأكل الطعام الفلاني فتمرض، والله سبحانه وتعالى قال لآدم لا تقرب من هذه الشجرة فتخرج من الجنة، وآدم في أكله من الشجرة خالف نهياَ إرشادياَ.
3- الجنة التي مكث فيها آدم لم تكن محلاَ للتكليف، بل كانت دورة اختبارية وتمهيدية لآدم كي يهبط بعدها إلى الأرض، وكان النهي ذا طباع اختياري. (الأمثل، ج1، ص168).
2- البقرة، 37.
3- الميزان، ج1، ص137.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

110

القصة الأولى: النبي آدم عليه السلام

 المفاهيم الرَّئيسة:


1- الدرس الأساسي الذي تعطينا إياه قصة آدم عليه السلام خلقه الله تعالى ليكون خليفته في الأرض.

 2- إنّ الشيطان يمثّل للإنسان عدوّا فتاكاّ يتربص به الأذى في كل لحظة، لذلك فالإنسان عليه أن يتخذ هذا الشيطان عدوا له ويكون له بالمرصاد.

 3- إنّ الله سبحانه وتعالى فتح للإنسان أبواب الكمال والرقي، وأمره بطاعته، وحتى لو أخطأ فإنّ باب التوبة يظل مفتوحا له متى ما أناب وندم.

 4- على الإنسان أن يراقب نفسه فيما يخص مسألتي التكبر والحسد، كي لا يصيبه ما أصاب إبليس، الذي مع علمه بأن هناك معاداَ وبعثاّ، إلا أنه عصى الله وخالف أمره.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

111

القصة الثانية: نبيّا الله إبراهيم وإسماعيل عليه السلام

 القصة الثانية: نبيّا الله إبراهيم وإسماعيل عليه السلام



أهداف الدّرس: 
1- التعرُّف على أهمّية الإلتزام بالتكليف الإلهيّ. 
2- وأن الإلتزام بالتكليف لا ينفكُّ عن الرضا به والتسليم.
3- مراسم الحج لها أهداف تربوية تظهرُ من خلال قصة إبراهيم وابنه عليهما السَّلام.
 
إبراهيم عليه السلام والبلاء المبين
قد مرّت أعوام طوال وإبراهيم عليه السلام ينتقل من بلاء إلى بلاء، فمن نمرود إلى النَّار العظيمة، ثمَّ إلى ابتلائه بعقم زوجته.. وها هو الآن في لهفة وانتظار للولد الصالح، فقد كان دائماً يردد ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. وأخيراً استجاب له ربّه، فوهبه إسماعيل أولاً، ومن بعد إسماعيل إسحاق، وكان كلٌّ منهما نبيّاً عظيم الشخصيَّة.
 
ينقل لنا التاريخ أنَّ النبيّ إبراهيم عليه السلام كانت زوجته سارة امرأة عقيم، فلم تنجب له ولدا بعد طول السنين، وقد رقّت هي لحاله، فوهبته جارية لها كانت تسمّى هاجر. وهاجر هذه حملت من النبيّ إبراهيم عليه السلام وسرعان ما رزق بولد سمَّاه إسماعيل. غير أنَّ سارةَ مع ما لها من الكرامة والفضل، وبسبب الطبع الإنساني فيها، لم تتحمَّل أنْ تحتلَّ هاجر مكانةً كبرى عند إبراهيم بسبب الولد، فصارت تنكِّد على إبراهيم بسببها، عندئذ طلب الله من إبراهيم عليه السلام - ومن باب البلاء والامتحان - أنْ يأخذَ هاجرَ وولدَها إلى واد غير زرع.


على أي حال، امتثل إبراهيم أمر ربه، وذهب بهما إلى صحراء مكّة وأسكنهما في تلك الأرض، وهمّ بالرجوع، فضجّت زوجته بالبكاء، إذ كيف تستطيع أنْ تعيشَ امرأةٌ وحيدةٌ مع طفل رضيع في مثل هذه الأرض؟!
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

112

القصة الثانية: نبيّا الله إبراهيم وإسماعيل عليه السلام

 وهذا الموقف الصعب، موقف الفراق، خصوصا أنَّ إسماعيل لا يزال طفلا في المهد، وقد تركه أبوه ابراهيم في صحراء قاتلة، لم يكن ابراهيم في هذا الموقف إلا مسلّما خاضعا راضياً بأمر الله وتكليفه، فما كان منه إلا أنْ قال بتضرُّع وخشوع: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاس تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثمَّرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾1، ثمَّ ودّع زوجه وطفله بحزن وألم عميقين. 

 
لم يمض وقت طويل حتَّى نفذ طعام الأمّ وماؤها، وجفّ لبنها. بكاء الطفل أضرم في نفس الأم ناراً، ودفعها لأنّ تبحث بقلق واضطراب عن الماء. اتجهت أولاً إلى جبل الصفا فلم تجد للماء أثراً، ثمَّ لَفت نظرها بريق ماء عند جبلالمروة فأسرعت إليه فوجدته سراباً، ثمَّ رأت عند المروة بريقاً لدى الصفا أسرعت إليه فما وجدت شيئاً، وهكذا جالت سبع مرات بين الصفا والمروة بحثاً عن الماء. وفي النهاية وبعد أن أشرف الطفل على الموت، انفجرت عند رجله فجأة عين زمزم، فشرب الطفل وأمه ونجيا من الموت المحقق.
 
الماء، رمز الحياة، وانفجار العين جرّ الطيور من الآفاق نحو هذه الأرض، والقوافل شاهدت حركة الطيور، فاتجهت هي أيضاً نحو الماء وببركة هذه العائلة تحوّلت أرض مكّة إلى مركز حضاري عظيم.
 
إسماعيل في المذبح
كان لإسماعيل من العمر 13 سنة حينما رأى إبراهيم عليه السلام ذلك المنام العجيب المحيِّر، والذي يدلُّ على بدء امتحان عسير آخر لهذا النبيّ ذي الشأن العظيم، إذ رأى في المنام أنّ الله يأمره بذبح ابنه الوحيد وقطع رأسه. فنهض من نومه مرعوباً، لأنه يعلم أن ما يراه الأنبياء في نومهم هو حقيقة وليس من وساوس الشياطين، وقد تكرّرت رؤيته هذه ليلتين أُخريين، فكان هذا بمثابة تأكيد على ضرورة تنفيذ هذا الأمر فوراً.
 
وقيل: إن أوّل رؤيا له كانت في ليلة التروية، أيّ ليلة الثامن من شهر ذي الحجة، كما شاهد نفس الرؤيا في ليلة عرفة، وليلة عيد الأضحى، وبهذا لم يبق عنده أدنى شكّ في أنَّ هذا الأمر هو من الله سبحانه وتعالى.
 
ولكن قبل كلّ شيء، فكر إبراهيم عليه السلام في إعداد ابنه لهذا الأمر، حيث ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ 
 



1- إبراهيم، 37.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
154

113

القصة الثانية: نبيّا الله إبراهيم وإسماعيل عليه السلام

 إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾.

 
الولد الذي كان مثال الولد البار المؤمن برسالة والده، والذي تعلّم خلال فترة عمره القصيرة الصبر والثبات والإيمان في مدرسة أبيه، رحَّب بالأمر الإلهيّ بصدرٍ واسع وطيبة نفس، وبصراحة واضحة قال لوالده: ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ ولا تفكر في أمري، فإنك ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾1.
 
فما أعظم كلمات الأب والابن وكم تخفي في بواطنها من الأمور الدقيقة والمعاني العميقة؟!
فمن جهة، الأب يصارح ولده البالغ من العمر (13) عاماً بقضية الذبح، ويطلب منه إعطاء رأيه فيها، حيث جعله هنا شخصيَّة مستقلّة حرّة الإرادة.


فإبراهيم عليه السلام لم يقصد أبداً خداع ولده، ودعوته إلى ساحة الامتحان العسير بصورة عمياء، بل رغب بإشراكه في هذا الجهاد الكبير ضد النفس، وجعله يستشعر حلاوة لذة التسليم لأمر الله والرضا به، كما استشعر حلاوتها هو.
 
ومن جهة أخرى، عمد الابن إلى ترسيخ عزم وتصميم والده في تنفيذ ما أُمر به، إذ لم يقل له: اذبحني، وإنما قال له: افعل ما أنت مأمور به، فإنني مستسلم لهذا الأمر، وخاصّة أنَّه خاطب أباه بكلِّمة ﴿يَا أَبَتِ﴾ كي يوضح أنَّ هذه القضية لا تقلّل من عاطفة الابن تجاه أبيه ولو بمقدار ذرّة، وأن أمر الله فوق كلّ شيء.
 
ومن جهة ثالثة أظهر أدباً رفيعاً اتجاه الله سبحانه وتعالى،وهو أنْ لا يعتمدَ أحدٌ على إيمانه وإرادته وتصميمه فقط، وإنما ينبغي ان يكون على إرادة ومشيئة الله، وبعبارة أخرى: أنْ يطلبَ توفيق الاستعانة والاستقامة من الله.
 
وبهذا الشكل يجتاز الأب وابنه المرحلة الأوّلى من هذا الامتحان الصعب بانتصار كامل.
 
 
 
 

1- الصافات، 102.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

114

القصة الثانية: نبيّا الله إبراهيم وإسماعيل عليه السلام

 وسوسة الشَّيطان

عمد الشَّيطان إلى تكريس كلّ طاقته لعمل شيء ما يحول دون خروج إبراهيم منتصراً من الامتحان.
فأحياناً كان يذهب إلى زوجته (هاجر) ويقول لها: أتعلمين بماذا يفكّر إبراهيم؟ إنَّه يفكّر بذبح ولده إسماعيل اليوم!

فكانت تجيبه هاجر: اذهب ولا تتحدّث بأمر محال، فإنَّه أرحم من أنْ يقتلَ ولده فهل يمكن العثور في هذه الدُّنيا على إنسان يذبح ولده بيده؟

ويواصل الشَّيطان وساوسه، زاعماً بأنّ الله أمره بذلك.

فتجيبه هاجر: إذا كان الله قد أمره بذلك فعليه أنْ يطيعَ أوامر الله، وليس هناك طريق آخر سوى الرضا والتسليم لأمر الله.

وأحياناً كان يذهب ناحية (الولد) ليوسوس في قلبه لكنّه فشل أيضاً إذ لم يحصل على أيّة نتيجة لأنّ إسماعيل كان مثالاً للرضا والتسليم.

وأخيراً اتجه نحو الأب، وقال له: يا إبراهيم إنَّ المنامَ الذي رأيته هو منام شيطاني! لا تطع الشَّيطان!
فعرفه إبراهيم الذي كان يسطع بنور الإيمان والنُّبوَّة، وصاح به: ابتعد من هنا يا عدو الله.

وورد في حديث آخر أنّ إبراهيم جاء في البداية إلى (المشعر الحرام) ليذبح ابنه هناك، ولكن الشَّيطان تبعه، فترك المحلّ وذهب إلى مكان آخر (الجمرة الأوّلى) فتبعه الشَّيطان أيضاً، فرماه إبراهيم بسبع قطع من الحجارة، وعند وصوله إلى (الجمرة الثانية) شاهد الشَّيطان أمامه أيضاً فرماه بسبع قطع أُخَر من الحجارة، وحالما وصل إلى جمرة العقبة وشاهد الشَّيطان ثالثة رماه بسبع أخَر، وبهذا يئس الشَّيطان منه إلى الأبد.

إسماعيل والطاعة الإلهيّة
ماذا يدور في هذا الوسط؟ القرآن الكريم لم يفصل مجريات الحدث، وركز فقط على النقاط الحسّاسة في هذه القصّة العجيبة، كتب البعض: إنّ إسماعيل ساعد والده في تنفيذ هذا الأمر الإلهيّ، وعمل على تقليل ألم وحزن والدته، فعندما أخذه والده للذبح وسط الجبال الجرداء والحارقة في أرض (منى) قال إسماعيل لوالده:

يا أبت، أحكم من شدّ الحبل كي لا تتحرّك يدي ورجلي أثناء تنفيذك الأمر الإلهيّ، أخاف أنْ يقلّلَ ذلك من مقدار الجزاء الذي سأناله.

والدي العزيز اشحذ السكّين جيّداً، وأمرره بسرعة على رقبتي كي يكون تحمّل ألم الذبح سهلا بالنسبة لي ولك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156

115

القصة الثانية: نبيّا الله إبراهيم وإسماعيل عليه السلام

 والدي قبل ذبحي اخلع ثوبي من على جسدي كي لا يتلوّث بالدم، لأنّي أخاف أنْ تراه والدتي وتفقد عنان صبرها.

 
ثمَّ أضاف: أوصل سلامي إلى والدتي، وإن لم يكن هناك مانع أوصل ثوبي إليها كي يسلّي خواطرها ويهدئ من آلامها، لأنّها ستشمّ رائحة ابنها منه، وكلّما أحسّت بضيق القلب، تضعه على صدرها ليخفّف الحرقة الموجودة في أعماقها.
 
دموع الوداع
اقتربت اللحظات الحسّاسة، لقد رأى إبراهيم عليه السلام درجة استسلام ولده للأمر الإلهيّ، لذلك احتضنه وقبّل وجهه، وفي هذه اللحظة بكى الاثنان، البكاء الذي يبرز العواطف الإنسانية ومقدّمة الشوق للقاء الله.
 
والقرآن الكريم يوضّح هذا الأمر في جملة قصيرة ولكنّها مليئة بالمعاني، فيقول تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾1.
مرة أخرى تطرّق القرآن هنا باختصار، كي يسمح للقارئ متابعة هذه القصّة بشدة أكبر.
 
قال البعض: إنّ المراد من عبارة ﴿تَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ هو أنَّه وضع جبين ولده - طبقاً لاقتراحه - على الأرض، حتَّى لا تقع عيناه على وجه ابنه فتهيج عنده عاطفة الأبوة وتمنعه من تنفيذ الأمر الإلهيّ.
 
على أيّة حال كبّ إبراهيم عليه السلام ابنه على جبينه، ومرّر السكّين بسرعة وقوة على رقبة ابنه، وروحه تعيش حال الهيجان، وحبّ الله كان الشيء الوحيد الذي يدفعه إلى تنفيذ الأمر ومن دون أي تردّد، إلا أنّ السكّين الحادّة لم تترك أدنى أثر على رقبة إسماعيل اللطيفة. 
 
وهنا غرق إبراهيم في حيرته، ومرّر السكّين مرّة أخرى على رقبة ولده، ولكنّها لم تؤثّر بشيء كالمرّة السابقة. 
 
فإبراهيم الخليل يقول للسكّين: إذبحي، ولكن الله الجليل يعطي أوامره للسكّين أنْ لا 
 
 
 

1- الصافات، 103.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157

116

القصة الثانية: نبيّا الله إبراهيم وإسماعيل عليه السلام

 تذبحي، والسكّين لا تستجيب سوى لأوامر الباري عزّ وجلّ.

 
وهنا ينهي القرآن كلّ حالات الانتظار وبعبارة قصيرة مليئة بالمعاني العميقة ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾1، فالله تعالى يقول عنهم أنهم محسنون: إذ نمنحهم توفيق النجاح في الامتحان، ونحفظ لهم ولدهم العزيز، فالذي يستسلم تماماً وبكلِّ وجوده للأمر الإلهيّ ويصل إلى أقصى درجات الإحسان، لا يمكن مكافأته بأقلّ من وضعهم في مرتبة المؤمنين ثمَّ يضيف القرآن الكريم ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ﴾2


إنّ عمليّة ذبح الابن البارّ المطيع على يد أبيه، لا تعدّ عملية سهلة وبسيطة بالنسبة لأب انتظر فترة طويلة كي يرزقه الله بهذا الابن، فكيف يمكن أنْ يتزلزلَ قلبُه أثناءَ ذبحه ولَدَه؟ والأكثر من ذلك استسلامه ورضاه المطلق - من دون أي انزعاج - لتنفيذ هذا الأمر، وتنفيذه كافّة مراحل العملية من بدايتها إلى نهايتها، بحيث لا يغفل فيها عن أي شيء أثناء الذبح نفسياً وعملياً.
 
تكبير جبرائيل
يروى أنَّ جبرائيل هتف: الله أكبر ، الله أكبر أثناء عمليّة الذبح لتعجّبه.
فيما هتف إسماعيل: لا إله إلا الله، والله أكبر.
ثمَّ قال إبراهيم:  الله أكبر ولله الحمد.
 
وهذه العبارات تشبه التكبيرات التي نرددها في يوم عيد الأضحى.
 
وكما هو معروف فإنَّ من الأعمال الواردة في الرِّوايات الإسلامية بشأن عيد الأضحى، هي التكبيرات الخاصّة التي يردّدها المسلمون بعد الصَّلاة، سواء كانوا من المشاركين في مراسم الحجّ بمنى، أو ممّن لم يشارك فيها من المسلمين في سائر بقاع الأرض.
 
وكيفيَّة هذه التكبيرات هي: الله أكبر،الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا. فعندما نقارن بين هذا الأمر والحديث الذي ذكرناه
 
 
 
 

1- الصافات،104- 105.
2- الصافات، 106.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
158

117

القصة الثانية: نبيّا الله إبراهيم وإسماعيل عليه السلام

 سابقاً، تتّضح حقيقة هذه التكبيرات، وهي أنّها مجموع تكبيرات جبرائيل وإسماعيل ووالده إبراهيم.

 
وبعبارة أخرى فإنَّ هذه العبارات تحيي في الأذهان خاطرة انتصار إبراهيم وابنه إسماعيل في الامتحان الكبير، وتعطي العبر لكلِّ المسلمين، سواء كانوا في منى أو في غيرها.
 
ذبح عظيم
ولكي لا يبقى برنامج إبراهيم ناقصاً، وتتحقّق أمنية إبراهيم في تقديم القربان لله، بعث الله كبشاً كبيراً إلى إبراهيم ليذبحه بدلاً عن ابنه إسماعيل، ولتصير سنّة للأجيال القادمة التي تشارك في مراسم الحجّ وتأتي إلى أرض منى ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾1.
 
وإحدى دلائل عظمة هذا الذبح، هو اتساع نطاق هذه العملية سنة بعد سنة بمرور الزمن، وحالياً يذبح كلّ عام أكثر من مليون أضحية تيمناً بذلك الذبح العظيم وإحياءً لذلك العمل.


وبشأن كيفيَّة وصول الكبش العظيم إلى إبراهيم عليه السلام، قيل أنّ جبريل أنزله، فيما قال البعض الآخر: إنَّه هبط عليه من أطراف جبال (منى)، ومهما كان فإنَّ وصوله إلى إبراهيم كان بأمر من الله.
 
والنَّجاح الذي حققه إبراهيم عليه السلام في هذا الامتحان الصعب، لم يمدحه الله فقط ذلك اليوم، وإنّما جعله خالداً على مدى الأجيال ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ﴾.


إذ غدا إبراهيم عليه السلام أسوة حسنة لكلِّ الأجيال، وقدوة لكلِّ الطاهرين، وأضحت أعماله سنّة في الحج، وستبقى خالدة حتَّى تقوم القيامة، أنَّه أبو الأنبياء الكبار، وإنه أبو هذه الأمة الإسلامية ورسولها الأكرم محمَّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
ولما امتاز به إبراهيم عليه السلام من صفاتٍ حميدٍة، خصّه الباري عزّ وجلّ بالسلام ﴿سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾.
 
 
 

1- ما المراد بالذبح العظيم؟ هل أنّه يقصد منه الجانب الجسمي والظاهري؟ أو لأنّه كان فداءَ عن إسماعيل؟ أو لأنه كان لله وفي سبيل الله، أو لأنّ هذه الأضحية بعثها الله تعالى إلى إبراهيم؟ قال المفسّرون الكثير بشأنها، ولكن لا يوجد أي مانع يحول دون جمع كل ما هو مقصود أعلاه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

118

القصة الثانية: نبيّا الله إبراهيم وإسماعيل عليه السلام

 المفاهيم الرَّئيسة:

1- إنَّ تحمل عبء التكليف الإلهيّ يستلزم من الإنسان الصبر، والرضا والتسليم به.

2- لا بدَّ أنْ ينتبه الإنسان إلى أنَّ الامتحان الإلهيّ يكون عادة في الأمور التي تمسّ أعزّ الأشياء على الإنسان، مثل ما حصل مع إبراهيم عليه السلام وابنه.

3- إنَّ الشَّيطان يستغلّ أكثر أوقات الإنسان شدة ليجنِّبه عن طاعة الله، ويدخله حرم الخسران والعذاب الإلهيّ.

4- العائلة الحقيقية هي التي يعيش كل أفرادها وجود الله والإحساس بالمسؤولية العظمى لأداء التكليف.

5- إنَّ النَّجاح في الامتحانات الإلهيّة سبب للفوز العظيم في الدُّنيا والآخرة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
160

119

القصة الثالثة: عبر من حياة النبي نوح عليه السلام

 القصة الثالثة: عبر من حياة النبي نوح عليه السلام

 
أهداف الدّرس:
1- التعرُّف على صعوبة التبليغ إلى دين الله والجهد الواجب بذله في ذلك.
2- التعرُّف على محورية التَّوحيد في العملية الرسالية.
3- التعرُّف على بعض الحجج والإدعاءات التي يستعملها الكفار بوجه الأنبياء.
 
نوح عليه السلام المبلّغ الصابر
إنَّ نوحاً عليه السلام نبيّ من أنبياء الله العظام، بل هو أول نبيّ من أنبياء أولي العزم. وأولو العزم هم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونبيّنا الخاتم صلوات الله عليه وعلى آله وعلى جميع الأنبياء. وهؤلاء الأنبياء عليه السلام لهم موقع مهم ومتميز في حياة البشرية. ولنبيّ الله نوح عليه السلام له خصوصيات، فمن امتيازاته أنَّه أبونا الثاني. والقرآن الكريم ذكره في أكثر من أربعين موضعا، حيث تناول مسألة نوح، وما جرى عليه.
 
ومن خصوصيات النبيّ نوح عليه السَّلام، أنَّ الله عز وجل وصفه بأوصاف مدح وثناء منها: أنَّه اصطفاه على العالمين1، وعده من المحسنين، وكذلك من عباده المؤمنين، وعده عبدا شكوراً صالحا2
 
ومن الآيات التي تكلمت عن جهاد نوح عليه السلام التبليغي هذه الآية الكريمة ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ، أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾3. فإنَّ هذه الآية فيها دروس كثيرة: 
 
الدّرس الأوّل: لقد كان من صفات الرُّسل وخصائصهم أنهم يبعثون في قومهم،
 
 
 
 

1- إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، آل عمران،33.
2- ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ أنَّه كَانَ عَبْدًا شَكُورًا، الإسراء، 3.
3- هود، 26،25.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
163

120

القصة الثالثة: عبر من حياة النبي نوح عليه السلام

 ويبلغون دين الله في المكان الذي عاشوا فيه وتربوا، وخالطوا ناسه وأهله، ومارسوا فيها حياتهم البشرية الإعتيادية. والحكمة في ذلك واضحة، من حيث احتجاج الله تعالى على قوم النبيّ بأنهم يعرفون نبيّهم وأنه بشر مثلهم غير أنَّه مرسل من قبله تعالى لهدايتهم. 

 
الدّرس الثاني: والدرس المهم أيضاً في هذه الآية، هو أنَّ شعارَ الأنبياء هو التَّوحيد. فالنبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله شعاره: (قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا). وكذلك نوح عليه السلام، فإنَّه يخاطب عبّاد الأصنام، ويطلب منهم أنْ يعبدوا الله عز وجل. فالفلاح المقصود هو ذلك الربط بين الاعتقاد والعمل، فلا يمكن أنْ يُقرَّ إنسانٌ بالتَّوحيد بلسانه ولا يتبع ذلك عملا صالحا وجهادا في سبيل الله، ولذلك أضاف علماء التَّوحيد قيدا على تعريف الإيمان بقولهم (وعمل بالأركان). وأما نتيجة العمل، فهو الفلاح، والنجاح، وهما أمران يتوق للحصول عليهما كل إنسان واعٍ مدرك حكيم.
 
الدّرس الثالث: نوح عليه السلام والصبر المرّ: إنَّ النبيَّ نوحاً عليه السلام، عاش الأمرّين من قومه ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا﴾1. فقد لبث فيهم تسعمائة وخمسين سنة، وهذا عمر الدعوة، لا عمر نوح.
 
﴿ثمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾2. ويبدو من بعض الرِّوايات أنَّ من آمن مع نوح عليه السلامفي تسعمائة وخمسين سنة أقل من مئة إنسان، وبعض الرِّوايات تصرّح بالثمَّانين، ولعل أقل من ذلك. وهنا درس عملي أيضاً، ينبغي أنْ نستفيد منه، وهو: أنَّ الذي يريدُ أنْ يعملَ لله عز وجل، عليه أنْ لا يهتمَّ بالنَّتائج. فالنتائج بيده عز وجل. فمع كل هذا الجهد، ومع ذلك الصدود، ومع قلة الأنصار، يقول: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾3. فالخوف على النَّاس من علامات الشفقة، والذي يخاف على قومه، يدلّ على أنَّ هنالك حالة من حالات الارتباط النفسيّ والمحبة الإجماليَّة لهم، وإن كانوا على غير هدى، فمجرد أمله بهدايتهم كفيل بالشفقة عليهم. 
 
 
 
 

1- نوح، 5.
2- نوح، 8-9.
3- الاعراف، 59.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
164

121

القصة الثالثة: عبر من حياة النبي نوح عليه السلام

 النبيّ نوح عليه السلام ومعاناة التبليغ 

1- اتهامه بأنه مجرّد بشري
تقول الآية ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾1. أي أنَّ عيبَكَ الأوّلَ أنَّكَ بشرٌ، والحال بأن اتهامه بالبشرية امتياز له، لأنه يوحى إليه برسالة عظيمة من عند الله العزيز الجبار. ومع ذلك يعيش مع النَّاس بقالبهم وطبيعتهم.
 
2- التجني عليه لقلة أنصاره:
كذلك من سيئات هؤلاء القوم، أنهم يرون قوة الدعوة بقوة الأنصار. فإذا كان الأنصار كثراً، ومن الطبقات الاجتماعية الوجيهة، فإنَّ هذا الدين أو هذا الاتجاه الفكري على حق. وهذا الحالة موجودة إلى الآن، أي أنْ تقاسَ الفكرةُ بأصحاب الفكرة: قلةً، وكثرةً. ﴿فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾2. فهم لم يناقشوا فكرة نوح ولا دعوته إلى التَّوحيد، بل وضعوا أيديهم على الأتباع، وهو أنَّ هؤلاء ضعاف القوم، وقليلون.. الخ.
 
﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾. قيل هنا في تفسير الآية: أي لستم متميزين اجتماعيا، وماديا: فلا سلطان لكم، ولا وجاهة لكم. وبالتالي، فإنهم أدغموا الرسالة الفكرية مع الجانب الاجتماعي، أي لو كان لكم فضل وتميز مادي، فإنَّ هذا لعله من موجبات قوة الدعوة! والمتبصِّر اللبيب يتضح له بالتأمل ضعف هذا الكلام، وأنَّ الأمور الاعتقادية لا علاقة لها نفيا أو ثبوتا بالأمور الإجتماعية والإعتبارية.
 
3- مجادلته ومطالبته بالمعجزات:
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ﴾3. أي إنْ كنتُم تريدون البينة، فأنا على بينة من ربي. ويقول في آيات لاحقة: ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾4. أنا لست صاحب كرامات ودعاوى خارقة، إنما لي فكرة، فادرسوا فكرتي. لذا فإنَّ التركيز على
 
 
 

1- المؤمنون، 24.
2- هود، 27.
3- هود، 28.
4- هود، 30.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
165

122

القصة الثالثة: عبر من حياة النبي نوح عليه السلام

 الجانب الكراماتي والإعجازي للأنبياء والأئمة، من دون التركيز على الفكرة والاعتقاد، أيضاً من القضايا التي يجب الالتفات إلى عدم المغالاة فيها. فدائما نحاول أنْ نبيّنَ المنهج الفكري للنبيّ وآله. نعم، إنَّ هذه الكراماتِ دعمٌ لفكرتهم، لا أنها أدلة.

 
﴿قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾1. لقد طلبوا من نوح، أنْ ينزِّلَ ربُه عليهم العذاب. ولكن في مقام الجواب، نرى شفقة نوح أيضاً حيث قال لهم ﴿قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾2. فقد جعل العذاب معلقا على مشيئة الله سبحانه.
 
﴿وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾3. فتسعمائة وخمسون سنة، وهو يدعو قومه: ليلا، ونهارا. ولكن إذا لم تكن الأرضية مهيأة، وإذا كان الطرف المقابل لا يريد أنْ يهتديَ، فلا خير فيه.
 
دروس مهمة من سيرته عليه السلام
1- النبيّ نوح يمتاز بالشفقة: 
من المحطات الملفتة في حياة النبيّ نوح عليه السلام، أنَّ الله عز وجل بعد أنْ رأى أنَّ القومَ تمت عليهم الحجج، قال لنوح: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾4. البعض يستفيد من هذه الآية كإشارة خفية للشفاعة، فالله يخاطبه وهو يعرف رقة قلب نوح عليه السَّلام، وأنه سيحاول أنْ يستشفعَ لهم الله، فقد قرر الله الإهلاك، ومن الآن فصاعدا يطلب من نوح ألا يتوسط بينه وبين قومه. وهذا أيضاً كمال الشفقة، حيث أنَّ الله عزَّ وجلَّ يرى نوحاً في مظان الشفاعة.
 
2- نوح عليه السَّلام والتَّسديد الإلهيّ:
هذه ثمَّرة تسعمائة وخمسين عاما ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾، أي يا نوح أنت تحت إشرافنا أينما كنت، وهذه السفينة ستبتلى بالطوفان، ولكن أنت بأعيننا! فهنيئا لمن وصل إلى هذا المقام! مقام أنْ يكون بعين الله عز وجل:
 
 
 
 

1- هود، 32.
2- هود، 33.
3- هود، 34.
4- هود،37.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
166

123

القصة الثالثة: عبر من حياة النبي نوح عليه السلام

 في حلّه، وترحاله. وفي شبابه، وكبر سنه. عندئذٍ ماذا ينقصه إذا كان بعين الله عز وجل؟. فحتَّى لو كان يحسب نفسه في أحلك الظروف، فهو عند الله في أحسن الحالات. نذكر هنا مضمون الدعاء الشريف (إلهي ماذا وجد من فقدك؟. وماذا فقد من وجدك)؟

 
3- ابتلاؤه بالزوجة الكافرة:
﴿احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾. والتي استثنيت من أهل نوح، وغرقت مع الغارقين، هي زوجته. فزوجته خانت زوجها بنص القرآن الكريم: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهمّا﴾1. طبعا هنا الاعتقاد بأن الخيانة ليست عائلية وأسرية، فالأنبياء منزهون عن ذلك. ولكن الخيانة هنا بمعنى الانحراف عن خط الأنبياء، والانحراف عن الخط خيانة. فهذه المرأة التي عاشت مع النبيّ، مصيرها مع عبّاد الأوثان.
 
4- التوكل على الله دائما:
﴿وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾2. نحن عادة نسمي في أول العمل ابتداءً، ثمَّ في أثناء العمل ننسى نسبة العمل إلى رب العالمين، ولكن نوحا قال: ﴿بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾، أي في أول العمل، وفي ختام العمل. فهل أحد منا ذكر ربه في ختام العمل، وعندما وصل إلى الهدف؟. إنَّ الإنسان عادةً ينسى ربَّهُ إذا حقَّقَ هدفه في الحياة. إذن، فليكن شعارنا في كل الأوقات: بسم الله مجراها ومرساها، في أول العمل، وآخر العمل، وعند الإقدام، وعند النجاح. علينا أنْ نجعلَ الإقدام محفوفا بذكره، وموصولا به جل جلاله، وعمّ نواله.
 
5- العمل الرساليّ ذو موقف واضح:
﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ﴾3. لاحظوا شفقة الأبوة، لم يقل: دعا. ولم يقل: قال. وإنما نادى، فيبدو أنَّ نوحاً رفع صوته بهذه الدَّعوة، لنجاة ابنه من الطوفان. ولكن انظروا إلى سوء العاقبة: ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي
 
 
 

1- التحريم، 10.
2- هود، 48.
3- هود، 42.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
167

124

القصة الثالثة: عبر من حياة النبي نوح عليه السلام

 مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾1. إنَّ نوحاً سمِعَ مِنَ الله تعالى وعداً، قال: أركب في هذه السفينة من كل زوجين، وأركب أهلك. فظنَّ أنَّ هذا الخطاب ينطبق على ولده ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحقّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾2. إنَّ نوحاً يستحقُّ مقام العزم، لأدبه مع رب العالمين. إنسان يرى ولده في حال الغرق! وأي غرق؟! غرق مع الكافرين! فمن الطبيعي أنَّ الإنسانَ يقول: يا ربي، أنقذ ولدي! يا ربي! أسألك بأسمائك، وبأحب العباد إليك، أنْ تُنقذ ولدي مما هو فيه! ولكن نوحا لشدة أدبه لمّح تلميحاً.

 
﴿إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحقّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾. فهذا أدب ويا له من أدب! من هذا النبيّ الذي يرى ولده يغرق. فرغم أنَّه كان مؤدبا، ولم يذكر أمرا قبيحا يعاتب عليه. ولكن انظروا إلى التعامل الدقيق من رب العالمين مع عباده الصالحين! ﴿قَالَ يَا نُوحُ إنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّه عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾. يقول: هذا الولد ليس إنسانا فاسدا فحسب! بل هو عمل غير صالح، ﴿فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾3
 
6- أدب المناجاة مع الله:
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾. ثمَّ أخذ يناجي ربه مناجاة التائبين الخائفين فقال: ﴿وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾. أي يا رب اعف عني، فأنا سوف لن أطلب منك ما ليس لي به علم.
 
هنا درس بليغ، وهنا مفتاح لاستغفار الأنبياء والأئمة عليهم السَّلام. إذ يبدو لنا من سياق كلامهم في دعائهم أنَّ القضيَّةَ قضيةُ تذلُّلٍ وتودُّدٍ إلى الله عز وجل. قطعاً إذا طرحنا هذه القضية على العرف، فإنَّه لا يرى منقصة في نوح أنْ يطلبَ النَّجاةَ لولده، ولكن مع ذلك بعد الخطاب الإلهيّ، يتذلل نوح لربه قائلا: ﴿وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾. إنها مناجاة، وتذلل، وشكر، وتقرب. ولكن في قالب الاستغفار والإنابة إلى الله عز وجل.
 
هذه إذن، كانت بعض الدروس والعبر من حياة نبيّ الله نوح عليه السَّلام، وقد ركَّزنا فيها على عدَّة جوانب من حياته التبليغية. فنبيّ الله نوح عليه السَّلام نبيّ مجاهدٌ مجدٌّ في
 
 
 
 

1- هود، 43.
2- هود، 45.
3- هود، 46.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
168

125

القصة الثالثة: عبر من حياة النبي نوح عليه السلام

 الدعوة إلى الله، وتحمّل في سبيل ذلك الأذى المر والصبر العجيب، فرحمة الله وسلامه وبركاته عليه وعلى محمَّد وآله الطاهرين.

 
7- مثابرته في التبليغ: لقد كان نوح عليه السلام من الأنبياء الذين يحتذى بهم في شدة اهتمامه بتبليغ رسالة الله، وعدم التهاون في لحظة واحدة ممكنة، فهو يقول بلسانه ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا﴾1 أي في كل وقت ممكن من اليوم.
 
ونحن نعلم أنّ المدة التي مكث فيها نوح عليه السلام في قومه داعياَ ومبلغاَ لله هي 950 عاماَ، ليلاَ ونهاراَ، فما أعجب جلده وصبره على الدعوة.
 
ومن جهة أخرى، لم يترك أسلوباَ إلا واتبعه، بأسلوب العلن والدعوة الجماهيرية التي تستلزم القوة في الخطاب والحجج الدامغة ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا﴾2 وفي السر حيث الكلام اللين والموعظة الدافئة ربّما تنفع ﴿وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾3.
 
إذاَ، ما قدمناه من مثابرة نوح عليه السلام في التليغ، يشكل لنا درساَ هاماَ في هذا المعنى، خاصة لو علمنا أن عدد الذين آمنوا بنوح عليه السلام بعد قرابة ألف عام عدد قليل جداً، ما يدل على عظيم معاناة نوح عليه السلام في سبيل الدعوة لله تعالى.
 
 
 

1- نوح، 5.
2- نوح، 8.
3- نوح، 9.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
169

 


126

القصة الثالثة: عبر من حياة النبي نوح عليه السلام

 المفاهيم الرَّئيسة:

1- الدعوة إلى الله تعالى تحتاج إلى بصيرة متفتحة وارتباط وثيق بالله، لكي يكون الداعي مؤيداً بالله على الدوام.
2- التَّعامل مع الله تعالى يحتاج إلى أدبٍ جمٍّ وأخلاقٍ مهذَّبة حتَّى في أحلك الظروف.
3- الانتساب الحقيقي ليس هو بالدم فقط، بل الإنتساب يكون إلى الله تعالى ودينه فقط.
4- إنَّ نجاح الدعوة والرسالة لا يتم بالجهد القليل بل يحتاج إلى الوقت والتعب والصبر المرّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
171

127

الفهرس

 الفهرس

مقدّمة

5

مدخل: في تلاوة القرآن وتعلّمه والعمل به

9

المحور الأول: دروس في تعلم التلاوة

19

الدّرس الأوّل: صفات الحروف ومخارجها

23

الدّرس الثاني: لام التَّعريف وهمزتا الوصل والقطع

29

الدرس الثالث: الوقف والابتداء الفرق بين الرسم القرآني والإملائي

37

المحور الثاني: علوم قرآنية

45

الدرس الأول: تاريخ القرآن

49

الدس الثاني: حقيقة القرآن وفضله

59

الدّرس الثالث:القرآن الكريم المعجزة الخالدة

67

الدّرس الرابع: سلامة القرآن من التَّحريف

77

 

 

 

 

 

 

 

173


128

الفهرس

 

المحور الثالث: آداب التمسك بالقرآن الكريم عند الإمام الخميني قدس سره

87

الدرس الأول: أحكام القرآن وآدابه

91

الدرس الثاني: فهم مقاصد القرآن

99

الدرس الثالث: نظرة التعليم والتعظيم للقرآن

107

الدرس الرابع: إزالة الموانع والحجب

115

الدرس الخامس: التدبّر بين التفكُّر والتطبيق

125

المحور الرابع: قصص وعبر من سير الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم

135

الدرس الأول: النبي آدم عليه السلام

139

الدرس الثاني: نبيّا الله إبراهيم وإسماعيل عليه السلام

153

الدرس الثالث: عبر من حياة النبي نوح عليه السلام

163

الفهرس

173

 

 

 

 

 

 

 

 

 

174


129
ظلال النور - دروس نظرية وتطبيقية من القرآن الكريم