دروس تمهيدية في العقيدة الإسلامية


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-04

النسخة: 2016


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 الفهرس

9

المقدّمة

11

الدرس الأوّل: العقيدة ودورها في حياة الإنسان

13

تمهيد

14

منابع المعرفة

15

تقييم الطرق الثلاث

16

ميزات وفوارق

18

طريق تحصيل المعرفة القلبية

21

الدرس الثاني: الفطرة

23

تمهيد

23

معنى الفطرة

24

خصائص الأمور الفطرية

26

الخصوصية الأولى

27

الخصوصية الثانية

28

فرضيات دوافع ظهور الدين

28

فطرة الدين بنظر الإسلام

31

الدرس الثالث: إثبات وجود الله

33

هل يحتاج وجود اللّه إلى دليل؟

33

برهان الحدوث

35

دليل النظام

36

الدليل على أنَّ العالم منظَّم

36

الدماغ والعشرون مليون عصب

37

المقدّمة الثانية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

5


1

الفهرس

 

39

الدرس الرابع: التوحيد

41

أهميّة التوحيد

42

دلالة النبوّة على التوحيد

43

وحدة النظام دليل على التوحيد

47

الدرس الخامس: مراتب التوحيد

49

مراتب التوحيد

51

نصاب التوحيد

53

الدرس السادس: المعيار الفاصل بين التوحيد والشرك

55

تمهيد

56

الولاية التكوينية

57

الولاية التشريعيّة

61

الدرس السابع: الصفات الإلهيـّة

63

الصفات السلبية

64

الصفات الثبوتية

64

توضيح بعض الصفات الذاتية

67

الدرس الثامن: العدل الإلهي

69

أهمّية العدل

69

معنى العدل

69

الدليل على العدل

70

بعض الإشكالات حول العدل الإلهي

71

حقيقة السعادة والشقاء

75

الدرس التاسع: البلاء

77

سبب البلاء

79

الحكمة والفائدة من البلاء

80

تكامل الروح

83

الدرس العاشر: الجبر والتفويض

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

6


2

الفهرس

 

85

تمهيد

85

عقيدة الجبر والعدل الإلهي

86

العوامل التي عزَّزت فكرة الجبر

87

عقيدة التفويض

88

المدرسة الوسط: لا جبر ولا تفويض

89

القرآن ومسألة الجبر والتفويض

93

الدرس الحادي عشر: ضرورة النبوة

95

تمهيد

96

نزاهة الفكر

97

التقنين منحصر بالله عزّ وجلّ

98

الوحي والنبوّة على مدى التاريخ

98

لزوم الاعتقاد بجميع الأنبياء

101

الدرس الثاني عشر: طرق معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

103

تمهيد

105

عناصر الإعجاز في القرآن الكريم

109

الدرس الثالث عشر: عصمة الأنبياء عليهم السلام

111

تمهيد

117

الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة وضرورة الإمامة

119

ختم النبوّة

119

ضرورة الإمامة

120

النصّ على الإمام عليّ عليه السلام

121

حديث الغدير

125

الدرس الخامس عشر: إمامة الأئمـّة الاثني عشر عليهم السلام

127

روايات إمامة الأئمّة الإثني عشر عليهم السلام

128

محتوى هذه الأحاديث

128

تعيين الأئمّة عليهم السلام بالاسم

129

الأفضليّة دليل على الإمامة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

7


3

الفهرس

 

131

الدرس السادس عشر: الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

133

القرآن وحتميّة الحكومة الإلهيّة العالميّة

133

من هو مؤسّس الحكومة الإلهيّة؟

134

من هو المهديّ؟

135

هل وُلد المهديّ؟

136

زمان ظهور الإمام

137

دولة الإمام

137

ولاية الفقيه

139

الدرس السابع عشر: المعاد

141

1ـ الحكمة الإلهيّة

142

2ـ العدالة الإلهيّة

145

الدرس الثامن عشر: الانتقال إلى العالم الآخر

147

تمهيد

147

عالم البرزخ

148

عالم القيامة

148

المعاد جسمانيّ وليس روحانياً فقط

149

نطق الجوارح في القيامة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

8


4

المقدمة

 المقدمة



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسَلين سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

لا يخفى أنّ للعقيدة تأثيراً كبيراً في تكوين وشخصية الإنسان على المستويين الفكري والسلوكي، حتّى أنّ البعض اعتبر علم العقيدة أشرف العلوم، لموقعه المتقدّم في تشكيل فكر الإنسان وبنائه العملي. وثقافة الإنسان كما كان يعبِّر إمام الأمّة الراحل الإمام الخميني (رضوان الله عليه) هي: "منشأ كلّ سعادة أو تعاسة في الأمّة".

من هنا كان حرص علمائنا الأبرار على نشر العقيدة السديدة بين أبناء الأمّة، لا سيّما في هذا العصر الذي تشهد فيه الأمّة هجمة ثقافية مركَّزة بهدف إبعاد الشباب المسلم عن الالتزام بالدين الحنيف.

ولأجل تركيز الهويّة الإسلاميّة الأصيلة في أبناء الأمّة، ودفع الشبهات التي قد ترد على أذهانهم فيما يتعلّق بأصول عقيدتهم، فقد قمنا بإعداد هذا الكتاب "دروس في أصول العقيدة الإسلاميّة" في إطار سلسلة العلوم والمعارف الإسلاميّة التي تصدرها جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، ليكون كتاباً دراسياً في متناول روَّاد العلم والمعرفة. وقد تمَّ اختيار موضوعاته كمّاً وكيفاً بما يتناسب مع مستويات المراحل الأولى لطلاب العقيدة، وامتاز بالأسلوب الواضح، والمنهج القويم الذي يعتمد النصوص القرآنيّة والسنَّة النبويّة، إضافة إلى الإستدلال العقليّ والفطري أساساً في بيان أصول العقيدة.

وقد اقتُبست معظم الدروس الواردة فيه (وهي ثمانية عشر درساً) من كتاب "دروس في أصول العقيدة الإسلاميّة" للعلامة آية الله الشيخ محمّدي ري شهري الذي كانت الجمعية قد نقلته إلى اللغة العربية وقامت بطبعه ونشره في سنة 1996م، وبالتالي فإنّ كتابنا هذا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

5

المقدمة

  يمثّل خلاصة بحوث ذلك الكتاب ولم نضف عليه سوى بعض المباحث في التوحيد والعدل والمعاد مما لم يشتمل عليه كتاب الشيخ ري شهري في ترجمته العربية، علماً أنّ تلك المباحث التي أُضيفت تم اختيارها من كتب قيّمة لعلماء بارزين كان لهم الدور الكبير في تربية الجيل الجهادي الصاعد، وإعداده لحمل الأمانة الإلهيّة الكبرى، والكتب هي:

1ـ "معارف القرآن" لآية الله الشيخ مصباح يزدي.
2ـ "المعارف" لآية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.
3ـ "العقيدة الإسلاميّة" لآية الله الشيخ جعفر السبحاني.
4ـ "المعاد في القرآن" لآية الله الشيخ حسين مظاهري.

ولذلك فإنّ بإمكان الأستاذ والطالب الرجوع إلى هذه الكتب إذا أراد التوسّع.

وقد أدرجنا في الطبعة الجديدة، بعض الإضافات التوضيحيّة، والأمثلة المفيدة، وأجرينا بعض التصحيحات التي وجدناها ضروريّة، ليخرج الكتاب بإخراج جديد وحلّة جديدة.

نسأل الله سبحانه أنْ ينفع المؤمنين المجاهدين بهذا الكتاب، وأنْ يكون محلّاً لرضا صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وذخيرة لنا ولكلّ طلاب المعرفة يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلَّا من أتى الله بقلب سليم.

والحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
10

6

الدرس الأوّل: العقيدة ودورها في حياة الإنسان

 الدرس الأوّل: العقيدة ودورها في حياة الإنسان




أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يميِّز بين قسمي المعارف العامة والمصيرية.
2- يبيِّن منابع المعرفة ويقيّمها.
3- يميّز بين المعرفة العقلية والقلبية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

7

الدرس الأوّل: العقيدة ودورها في حياة الإنسان

 تمهيد

الإنسان موجود يبحث عن الكمال والسعادة ويسعى بكلّ جهده للوصول إليهما، لكنّه يدرك بالبديهة أنّ الوصول إلى السعادة يحتاج إلى المعرفة والعمل، كما قال الإمام عليّ عليه السلام لكميل: "يا كميل ما من حركة إلّا وأنت محتاج فيها إلى معرفة"1.
 
ولكن ما هي الأمور التي لا بدّ من أنْ نتعرّف إليها؟ وهل يجب معرفة كلّ شيء؟
 
يمكن أنْ نقسم المعارف إلى قسمين أساسين:
1ـ المعارف العامّة: وهي المعارف والعلوم المرتبطة بالحياة الدنيا ولا تتعدّاها، بل تنتهي بانتهائها.
2ـ المعارف المصيرية: والتي تتميز عن العامّة بعلاقتها بمصير الإنسان وسعادته وشقائه، وهي الأمور التي يمكن للإنسان أنْ يطمئنّ على مصيره النهائي من خلال التعرّف إليها. 
 
وعلم العقيدة هو العلم الذي يتكفّل بالإجابة عن الأسئلة المصيرية، وقد عبّر أمير المؤمنين عن تلك الأسئلة بقوله: "رحم الله أمرءاً عرف من أين وفي أين وإلى أين"2.
 
وبعبارة أخرى أنْ يتعرّف الإنسان إلى المبدأ والطريق والهدف، وهي الأمور التي تعبّر عنها أصول الدين: التوحيد والنبوّة والمعاد.
 
وبما أنّ لكلّ علم أسلوباً خاصّاَ به للتوصّل إلى النتائج المرجوة كالتشريح بالنسبة



1 العلامة المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج74، ص267، تحقيق علي أكبر الغفاري، نشر دار إحياء التراث العربي ـ لبنان، ط3، 1983م، الباب 11، وصيته عليه السلام لكميل.
2  معرفة الله تعالى عن طريق معرفة النفس، شرح رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام ص 88، شرح السيد علي القبانجي، طبع ونشر مؤسسة إسماعيليان ـ قم، ط2، 1406هـ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

8

الدرس الأوّل: العقيدة ودورها في حياة الإنسان

 لعلم الطبّ، كان أسلوب علم العقيدة هو الاستدلال العقليّ، وهذا لا ينافي أنّ بعض الأمور العقائدية يُستدلّ عليها بالأدلّة النقلية. ومن المؤكّد أنّه ليس هناك عقيدة كالإسلام تعطي أهمّية للعقل والفكر.

 
لقد استُعمل لفظ (علم) في القرآن 105 مرات، واستعملت صيغها المختلفة أكثر من 770 مرّة، كما استُعملت مادة (عقل) 49 مرّة، ومادة (فقه) 20 مرّة، ومادة (فكر) 18 مرّة، بحيث يدعو الناس إلى الفكر والتفكّر والتفقّه والتعقّل بإصرار شديد.
 
قال تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾1.
 
قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له"2.
 
يصفُ الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام العقل لهشام بن الحكم، قائلاً عليه السلام: "يا هشام إنّ الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾3.
 
منابع المعرفة
ولتوضيح المطلب كان لا بدّ من التعرّف إلى منابع المعرفة التي يملكها الإنسان، وبتعبير آخر النوافذ التي يرى من خلالها العالم الخارجي، فالإنسان يمتلك ثلاثة منابع، أو نوافذ، لمعرفة الكون، وهو يتعرّف إلى حقائق الوجود من خلالها.
 
وإنّ جميع العلوم والمعارف الإنسانية إنّما يحصل عليها الإنسان من إحدى هذه النوافذ والأدوات، وكلّما انسدّت إحدى هذه النوافذ فإنّ الإنسان سيفقد علماً ومعرفة ترتبط بها، وهذه المنابع هي: 1ـ الحسّ. 2ـ العقل. 3ـ القلب.



1 سورة الأنفال، الآية 22.
2 السيد البروجردي، السيد حسين، جامع أحاديث الشيعة،ج 13، ص284، المطبعة العلمية ـ قم، منشورات مدينة العلم ـ قم، 1407هـ، باب ما ورد في فضل العقل، ح704.
3 الشيخ الكليني، محمّد بن يعقوب، أصول الكافي، ج1، ص 13، تحقيق علي أكبر الغفاري، نشر دار الكتب الإسلامية ـ طهران، مطبعة الحيدري، 1363ش، كتاب العقل والجهل، ح12. ( سورة الزمر، الآيتان 17ـ 18).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

9

الدرس الأوّل: العقيدة ودورها في حياة الإنسان

 المنبع الأوّل: الحسّ

أول منبع للمعرفة عند الإنسان هو الحسّ، ومقصودنا بالحسّ هنا هو الحواسّ الخمس (البصر، السمع، الشمّ، الذوق، اللمس).
 
وكلّ واحدة من هذه الحواسّ تعطي الإنسان نوعاً خاصّاً من المعرفة، وبفقدان إحدى هذه الحواسّ لا يعود هذا النوع ممكناً له، وفي هذا المجال يقال "من فقد حساً فقد فقد علماً"، والحقيقة هي كذلك، لأنّ الذي يولد أعمى لن يستطيع أنْ يتعرّف إلى الألوان والأشكال، ولن يفيده أيّ توضيح وبيان في معرفتها، وهكذا الأصمّ بالنسبة إلى الأصوات والأنغام وغيره.
 
وينحصر دور الحواسّ في التعرّف إلى الأمور الماديّة.
 
المنبع الثاني: العقل
كل عاقل يدرك معنى العقل، وإنْ لم يتمكّن من بيانه باللغة العلمية.
 
وببيان علمي: العقل هو مركز الإدراك الذي يقوم بإدراك مفاهيم الأشياء وصورها.
 
مثلاً تتصور الحرارة وغليان الماء، فتستدلّ على أنّ الحرارة علّة لغليان الماء.
 
أو عندما ترى ناراً وترى أنّها تحرق وتجرّب ذلك مرّة ثانية فتجدها تحرق فتقول إنّ كلّ نار محرقة.
 
فالعقل هو الطريق الأساس للإستدلال و تركيب البراهين.
 
المنبع الثالث: القلب
من البديهي أنّه ليس المقصود من القلب مضخّة الدم، بل المقصود من القلب في مبحث المعرفة هو مركز الإحساسات الخاصّة التي لا تحصل عن طريق الحواسّ الخمس ولا العقل، مثل: الإحساس بالرحمة، والحبّ، والبغض وغير ذلك.
 
تقييم الطرق الثلاث
مما لا شكّ فيه أنّ لكلّ منبع من منابع المعرفة حدّاً لا يتعدّاه إلى غيره، وله خصائص وميّزات، وبالتالي لا يمكن الاستغناء عن أيّ منبع للمعرفة بالاعتماد على منبع آخر، فالحواسّ لا يمكنها أنْ تتعرّف إلى الله تعالى لأنّ حدود الحواسّ أن تنال الأمور الماديّة فقط ولا يمكن أنْ تتعرّف إلى الأمور المجرّدة، لأنّها خارجة عن حدود الحواسّ، ولذلك لا يمكن إنكار
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

10

الدرس الأوّل: العقيدة ودورها في حياة الإنسان

 المجرّدات لمجرد أنّ حواسنا لا تدركها، ولعلّ كلّ من أنكر وجود الله تعالى كانت حجّته الظاهرية أنّه لم يرَ الله تعالى، فكيف يؤمن بشيء لا يراه؟ والجواب:


أوّلاً: إنّ وجود الله تعالى مجرّد، فهو خارج عن قدرة الحواسّ أصلاً، ولذلك لا ننكره لمجرّد كونه غير قابل للإدراك بالحواسّ.

ثانياً: إنّ كلّ إنسان يعتقد بمجموعة مسائل, مع أنّها خارجة عن الإدراك الحسّي، كاعتقاده بوجود العقل، والأحاسيس الباطنية مثلاً.

أما الطريق العقليّ فهو أنْ يُثبت الإنسان وجود الله تعالى كما يثبت وجود شخص بصفات معينة من خلال آثاره، فأنت تستدلّ على وجود مهندس بارع وصاحب ذوق رفيع وخبرة من خلال البناء المنسوب إليه، وهذا بالضبط ما تتكفّل به بعض الأدلّة العقليّة بالنسبة لوجود الله تعالى من خلال المخلوقات كما سيأتي لاحقاً.

أما بالنسبة للقلب فهو أنْ يشعر الإنسان بوجود الله تعالى كما يشعر بوجود نفسه، ويحسّ بوجود الخالق في باطنه، مثل بقيّة الإحساسات الداخلية.

يعني أنّه كما أنّ الإنسان يحسّ بالجوع والعطش، وكما يحسّ بالتعلّق بالولد فهو بالدّقة يحسّ كذلك بالله سبحانه في وجوده. ومن الواضح أنّ إدراك وجود شيء بالشعور القلبي أقوى من الاستدلال عليه بالعقل، بل لا تعود هناك حاجة للاستدلال عليه أصلاً, فهل رأيت عاقلاً يستدل على وجود نفسه؟

ميزات وفوارق
قد يُطرح سؤال هنا وهو: ما هو الاختلاف بين المعارف العقليّة وبالخصوص معرفة الله عن طريق العقل وبين المعارف القلبية وبالخصوص معرفة الله عن طريق القلب؟

والجواب: إنّ الاختلاف بينهما هو كحدّ أدنى على أنحاء ثلاثة:
1- المعرفة القلبية إحساس والمعرفة العقليّة علم
هذا الاختلاف هو عبارة عن الاختلاف بين الإحساس والعلم، فمعرفة الله ـ وغيره ـ عن طريق القلب هي إحساس وعن طريق العقل هي علم, فكما أنك لا تشكّ بوجود شيء تراه بعينيك وإنْ لم يره غيرك كذلك لا تشكّ بوجود الله لأنّك تراه بعين قلبك، وإنْ لم يره غيرك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

11

الدرس الأوّل: العقيدة ودورها في حياة الإنسان

 يقول الإمام الحسين عليه السلام في دعاء عرفة: "إلهي تردّدي في الآثار يوجبُ بعدَ المزار فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك"1.

 
كم هي جميلة ودقيقة وعميقة هذه الكلمات، وهي تعني أنّه يا إلهي أنا إذا أردت أنْ أتحرّك نحوك عن طريق العقل والآيات والآثار فهذا الطريق طويل جداً، ويوصلني متأخراً إلى وصلك، فأرشدني إلى طريق أقرب، واهدني إلى عمل يوصلني إلى وصلك، ويجعل قلبي مكاناً لتجلّي أنوارك، لأحسّ بك بقلبي بأسرع ما يكون.
 
"كيف يُستدَلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك؟
 
متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك، ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك ولا تزال عليها رقيباً"2.
 
"إلهي أمرت بالرجوع إلى الآثار فأرجعني إليك بكسوةِ الأنوار وهداية الاستبصار..."3.
 
2- المعرفة القلبية فردية، والمعرفة العقليّة عامة
من الاختلافات - والتي تتفرّع عن الفارق الأوّل - أنّ معرفة الله عن طريق القلب وغيرها من المعارف القلبية فريدة، أيْ هي خاصّة بصاحبها وهذا نتيجة طبيعية لكون هذه المعرفة إحساساً، فلا تقبل النقل للآخرين والتعليم والتعلم، على خلاف معرفة الله عن طريق العقل فهي ليست فردية وهي قابلة للتعليم والتعلم ويمكن نقلها للآخرين.
 
إنّ معرفة الله عن طريق القلب لا يمكن إبرازها في قالب الاستدلال، وهي ليست أمراً قولياً بل هي أمر ذوقيّ، وهي كما قيل نوع من التجربة الباطنية لا يمكن نقلها للآخرين، كما أنّ المبصر لا يستطيع أن يبيّن للأعمى اللون وإدراكه له ومعرفته به، وكما أنّ الإحساس بالجوع والعطش لا يقبل النقل للآخرين فكذلك الشخص الذي يستطيع أن يحسّ بالله عن طريق القلب، لا يستطيع أن ينقل إحساسه إلى من كان بصر قلبه أعمى.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 95، ص 225.
2 م. ن، ج 64، ص 142.
3 م. ن، ج95، ص 226.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

12

الدرس الأوّل: العقيدة ودورها في حياة الإنسان

 3- المعرفة القلبية والتقوى توأمان

ومن الاختلافات بين معرفة الله عن طريق القلب، ومعرفة الله عن طريق العقل، هي أنّ المعرفة القلبية توأم للعمل والالتزام والتقوى، ولكن المعرفة العقليّة يمكن أنْ تكون مع التقوى ويمكن أنْ تكون بدونها، بل يمكن أنْ تكون مترافقة مع الكفر.
 
يقول سبحانه في القرآن الكريم في عدم إيمان قوم فرعون: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ...﴾1.
 
وعليه يمكن أنْ يصدّق العقل بالله عزّ وجلّ ولكن اللسان ينكره، ويعمل الإنسان خلاف ما يعلم، ولكن لا يمكن أنْ يحسّ القلب بالله وينكر اللسان، ولا يمكن أنْ توجد المعرفة القلبية ولا يوجد الالتزام والتقوى، يقول الإمام الصادق عليه السلام: "ولا معرفة إلَّا بعمل، فمن عرف دلّته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له"2.
 
هذه المعرفة هي المعرفة القلبية التي هي توأم الالتزام والعمل. وبناءً على هذا فإنّ الأساس فيما يرتبط بمعرفة الله من الناحية الفردية والشيء الذي له قيمة من الناحية العملية، وله الدور الأساس فيما يرتبط بتكامل الإنسان، هو المعرفة القلبية.
 
طريق تحصيل المعرفة القلبية
من الواضح أنّ سعادة الإنسان هي في ظلّ المعرفة القلبية، ولكن كيف يصل الإنسان إليها؟ الجواب المختصر والواضح أنّ الباب الذي يوصلنا إلى القلب هو العقل، ومن النادر جدّاً أنْ يصل الإنسان إلى المعرفة القلبية من دون الدرس والتحصيل والإستدلال العقليّ، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "العلوم بذور المشاهدات" وهذا يعني أنّ الإنسان لا بدّ له من الوصول إلى القناعة العقليّة ليصل من بعدها إلى الإيمان القلبي. ونحن في الدروس المقبلة سنبيّن الأدلّة العقليّة على مختلف القضايا العقائدية عسى أنْ تكون طريقاً للإيمان الذي هو رأس مال سعادة الإنسان.



1 سورة النمل، الآية 14.
2 الشيخ، الكليني، الكافي، ج1، ص44.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

13

الدرس الأوّل: العقيدة ودورها في حياة الإنسان

 للمطالعة

﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾1: المقابلة بين الإسلام والإيمان تفيد مغايرتهما نوعاً من المغايرة والذي يستفاد منه نحو مغايرتهما قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾2.
 
أوّلاً: إنّ الإسلام هو تسليم الدين بحسب العمل، وظاهر الجوارح والإيمان أمر قلبي.
 
وثانياً: إنّ الإيمان الذي هو أمر قلبي، إعتقاد وإذعان باطني، بحيث يترتب عليه العمل بالجوارح. فالإسلام هو التسليم العملي للدين بإتيان عامّة التكاليف والمسلمون والمسلمات هم المسلمون لذلك، والإيمان هو عقد القلب على الدين، بحيث يترتب عليه العمل بالجوارح، والمؤمنون والمؤمنات هم الذين عقدوا قلوبهم على الدين، بحيث يترتب عليه العمل بالجوارح، فكلّ مؤمن مسلم ولا عكس.
 
 
السيد الطباطبائي، تفسير الميزان ج16، ص313ـ 314.



1 سورة الأحزاب، الآية 35.
2 سورة الحجرات، الآيتان 14 ـ 15.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

14

الدرس الثاني: الفطرة

 الدرس الثاني: الفطرة



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يفسِّر معنى الفطرة.
2- يشرح خصائص الأمور الفطرية.
3- يستدل على فطرية التديّن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

15

الدرس الثاني: الفطرة

 تمهيد

إدّعى بعض أنّ الدين قد صنعه الإنسان إرضاءً لبعض الحاجات الروحية أو استغلالاً للسذّج من بني البشر، وبالتالي كلّ الأمور الدينيّة ليست من الحقيقة في شيء. وفي المقابل يقول أتباع الأديان إنّ الدين ينبع من فطرة الإنسان الداخلية، وهو أمر طبيعي وليس أمراً مصطنعاً. ولتوضيح ذلك لا بدّ من معرفة عدة أمور:
1ـ معنى الفطرة.
2ـ خصائص المعارف الفطرية.
3ـ فطرية التديّن.
 
معنى الفطرة
لقد استخدم القرآن الكريم كلمة الفطرة في قوله تعالى: ﴿...فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ...﴾1.
 
والفطرة لغة بمعنى: الخلقة والإيجاد.
 
واصطلاحاً: هي مجموعة من الصفات والقابليات التي تُخلق مع المولود، ويتّصف بها الإنسان في أصل خلقته سواء القابليات البدنية، أم النفسية، أم العقليّة. والفطرة تهدي الإنسان إلى تتميم نواقصه ورفع حوائجه، إذا تحققت شروطها وارتفعت الموانع من تأثيرها، وسيأتي بيان ذلك.



1 سورة الروم، الآية 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

16

الدرس الثاني: الفطرة

 خصائص الأمور الفطرية

أوّلاً: توجد بشكل لا اكتسابيّ ودون توسّط الفكر والتعليم.
فالمعارف الفطرية الإنسانية، عبارة عن الخصائص والصفات غير المكتسبة، بل تكون لازمة لخلقة الإنسان، وتكون مرافقة له منذ بداية تكوّنه ووجوده بشكل طبيعيّ. ولهذا قد تسمّى طينة الإنسان.

ثانياً: وجودها عامّ، أيّ موجودة عند كلّ البشر.
لأنّها - كما ذكرنا سابقاً - من الأمور الطبيعية التي توجد مع الإنسان منذ بداية خلقه. وعليه ليس هناك استثناء فيها بل هي عامّة وشاملة.

فكلّ شعور وإحساس موجود عند الإنسان وسارٍ في جميع الأفراد يُعتبر أمراً فطرياً. أمّا إذا كان غير شامل لجميع الأفراد أو كان لا يحصل إلَّا بالتفكير والتعليم فلا يكون فطرياً، وإنّما حصل بالاكتساب والتعليم والتلقين.

ولكنّ هذه المعارف الفطرية مشترطة بحصول شروطها الخاصّة، فكما أنّه في الميول الجنسية لا بدّ من حصول البلوغ، لذلك لا نجدها قبل وصول زمانه، وقد لا تصير فعلية لوجود مانع ما كالمرض مثلاً. وكذلك الأمر في جميع الأمور الفطرية فهي ليست مطلقة بل مقيّدة بشروطها الخاصّة. وعدم وجود الموانع التي تمنع وصولها إلى درجة الفعلية، وعدم فعليتها لا يعني أنّها ليست فطرية بعد تحقق الخصوصيّتين المذكورتين سابقاً، فتحقّق الخصوصيّتين يكفي لمعرفة أنّ هذا الأمر فطري أو لا.

فطرية التديّن تعني أنّ الإنسان خُلق بحسب البناء الروحي والفطرة الذاتية محتاجاً ومريداً لله، وقد جعل البحث عن الله وعبادته حاجة وحسّاً أصيلاً في طبيعة البشر.

ولإثبات فطرية التديّن في الإنسان يجب إثبات مسألتين:
1- أنّ الإنسان فضلاً عن كونه يدرك الله سبحانه بعقله فهو يحسّ بحاجة له في باطنه.
2- هذا الإحساس له جذور في فطرة الإنسان، ولم يوجد نتيجة التلقين والتعليم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

17

الدرس الثاني: الفطرة

 إثبات المسألة الأولى وهي الإحساس بالحاجة لله عزّ وجلّ

إذا أردنا أنْ نجمع نظريات العلماء المعروفين في العالم الذين يعتقدون بفطرية التديّن فنحن نحتاج إلى كتاب منفصل، ولكن سنذكر هنا آراء بعض منهم في هذا المجال.
 
يقول ألكسيس كارل: "الإنسان كما يحتاج للماء والأوكسيجين هو محتاج لله أيضاً".
 
يقول الأستاذ الشهيد العلامة المطهري: "إنَّ (يونغ) تلميذ فرويد المعروف وهو أحد علماء علم النفس المعاصرين كان يعتقد بأصالة الحسّ الدينيّ في عمق وجدان البشر، ويرفض نظرية أستاذه المبنية على أنّ الإحساس الدينيّ هو إحساس ماديّ".
 
يقول يونغ: "إذا اطّلعنا على الأمم السابقة فإنّنا سنجد أنّ الإنسان لديه غريزة التديّن وأنّ هذه الغريزة تؤثّر فيه بقوّة كتأثير غرائزه الجنسية".
 
يقول صاحب كتاب "الحسّ الدينيّ أو البعد الإنسانيّ الرابع": "إنّ الحسّ الدينيّ هو أحد عناصر الروح الإنسانية الثابتة والطبيعيّة وأكثر أقسامها أصالة وأشدّها ماهويّة وهو غير قابل للتبديل بأيّ واحد من الظواهر"1.
 
إذاً، ليس هناك أيّ شكّ في وجود حسّ التديّن في الإنسان، وحتّى الماديّين لا ينكرون هذا الإحساس، ولكنّهم يقولون إنّه ليس من الإحساسات الأصيلة بل هو معلول للتلقين والعادة، وعليه فإنّ الأساس في إثبات فطرة البحث عن الله في الإنسان هو ثبوت أنّ هذا الحس له جذور في الفطرة، وليس مسبباً عن العادة.
 
ولإثبات المسألة الثانية وهي فطرية الإحساس الدينيّ، يجب أنْ نرى هل أنّ خصائص المعارف الفطرية التي مرَّ بحثها سابقاً صادقة في مورد حسّ الحاجة لله أم لا؟
 
قلنا: إنَّ الأمور الفطرية تحتوي على خصوصيّتين:
إحداهما: أنّها لا اكتسابية.
والأخرى: أنّها عمومية وشاملة.
 
فهل يتّصف حسّ عبادة الله بهاتين الخصوصيّتين أم لا؟



1 هذه الآراء مأخوذة من كتاب "الإنسان ذلك المجهول"، ألكسيس كارل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

18

الدرس الثاني: الفطرة

 الخصوصية الأولى

إنّ التجربة الباطنيّة لكلّ وجدان نقيّ تشهد أنّ البحث عن الله والميل إلى عبادته والإحساس بالحاجة إلى الكمال المطلق له جذور في فطرة وجبلّة الإنسان، وينبع من فطرته ويستمدّ وجوده من ذاته.
 
هذه التجربة الباطنية التي تشهد أنّ الإحساس بالعطش والجوع والميول الجنسية توجد في الإنسان بشكل لا شعوري، هي نفسها تشهد أنّ الميل للكمال المطلَق هو في الإنسان لا شعوريّ أيضاً.
 
وإنّ عين هذه التجربة الباطنية تشهد أنّ الإحساس بالجوع والعطش والميول الجنسية لم يوجد في الإنسان نتيجة مشاهدة الماء والطعام والزوج.
 
بل إنّ هذه الإحساسات والميول التي لها جذور في ذات الإنسان، هي نفسها تثبت أنّ الإحساس بالميل نحو الكمال المطلق، القدرة المطلقة، العلم المطلق والجمال المطلق في الإنسان هو ليس نتيجة التعليم والتلقين وتكرار مراسم العبادة، بل هو إحساس ممزوج بذات الإنسان.
 
وفي هذا المجال يرى الإنسان نفسه عندما يصل إلى أية مرحلة من القدرة والتكامل الماديّ أكثر حاجةً وعطشاً. فلو حكم الدنيا كلّها يجد نفسه محتاجاً لحكم جميع الكواكب الأخرى، ولو كانت ثروات العالم كلّها له فهو يفكر في الحصول على منابع أخرى للثروة، مثل العطشان الذي يشرب من ماء البحر بدل أنْ يشرب من الماء العذب فهو ليس فقط لا يرتوي عطشه بل يزداد.
 
ولكن بقدر ما يقرب من الكمال المطلق تقلّ حاجاته فيرتوي عطشه تدريجياً كالعطشان الذي وصل للماء، حتّى يصل إلى درجة الخلافة الإلهيّة ويصير مَثل الله، "عبدي أطعني تكن مثلي......" والمخاطب بهذه الآية: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾1.



1 سورة الفجر , الآيتان 27 و 28 .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

19

الدرس الثاني: الفطرة

 وهنا يصل إلى السكينة والإطمئنان المطلق.

 
وكما أنّ الإنسان قد يفقد الإحساس بالجوع أو العطش أو الميول الجنسية لمانع وهو المرض مثلاً، أو يقوم نتيجة اعتقاده بأيديولوجية وطراز تفكير خاصّ بمخالفة إحساساته وميوله ويتّجه نحو الرياضة والرهبنة، كذلك قد يفقد الإنسان بسبب أمراض روحية خاصّة حسّ عبادة الله، أو يناهض هذا الإحساس نتيجة نوع خاصّ من التفكير ويميل نحو الماديّة. فإذا ارتفعت هذه الموانع عادت الفطرة لتؤثر أثرها، وتربط الإنسان بالله تعالى، وهذا ما يجده الإنسان عندما يبتلى ببلاء شديد تنقطع معه كلّ السبل الماديّة التي تمنعه من الارتباط بالله تعالى، فإنّك ستجد هكذا إنسان قد توجّه لله تعالى مباشرة، فالمريض بمرض مستعصٍ على العلاج، والذي انقطعت معه الأسباب الماديّة للعلاج، فإنّ هكذا مريض يعود ليرتبط بالله تعالى بروحه وقلبه وبشدّة، وهذا ما حاول القرآن الكريم أنْ يبيّنه لنا من خلال جملة من الآيات منها قوله تعالى ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾1 ومنها قوله تعالى ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾2.
 
وكذلك النبيّ وأهل بيته عليهم السلام ركّزوا على هذا الأسلوب في بيان الفطرة وكيفية ظهورها.
 
الخصوصية الثانية
إنّ دليل عمومية هذا الإحساس نكتشفه من خلال ما دُوّن في التاريخ، وعصور ما قبل التاريخ والآثار والقرائن. وعلماء التاريخ والآثار يؤكّدون أنّ البشر كانوا يملكون الحسّ الدينيّ على مدى العصور وإنْ كانوا في كثير من الموارد يشتبهون في تشخيص الإله الحقيقي.



1 سورة يونس، الآية 12.
2 سورة يونس، الآيتان 22 و 23.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

20

الدرس الثاني: الفطرة

 يقول (بلوتارك) المؤرخ اليوناني المشهور: "إذا ألقيتم نظرة إلى ساحة الكون فإنّكم ستجدون كثيراً من الأماكن التي ليس فيها لا عمران ولا سياسة ولا علم ولا صناعة ولا حرف ولا دولة ولكن لا يمكن وجود مكان لم يكن الله فيه".

 
فرضيات دوافع ظهور الدين
إذا اتّضح مبحث خصائص المعرفة الفطرية، وانطباق الخصائص على الإحساسات الدينيّة بشكل جيّد، فإنّنا سنستنتج أنّ الفرضيات التي تُطرح في ما يرتبط بدوافع وجود الدين هي بدون أساس ومحتوى، لدرجة أنّها لا تستحق الذكر. لأنّه عندما يثبت أنّ الحسّ الدينيّ له جذور في فطرة وطبيعة الإنسان فإنّ الفرضيات التي تقول: "إنَّ هذا الإحساس هو معلول للتلقين والعادة، أو إنّه معلول للجهل بالعلل الطبيعيّة، أو إنّ دافعه هو الخوف، والخوف هو أمّ الإلهيّين كما يقول (راسل الفيلسوف والرياضي الانجليزي) أو كما يقول (دوركهايم عالم الاجتماع الفرنسي): إنّ الإحساسات الدينيّة مشتقّة من الإحساس بالحاجة للاجتماع وأمثال ذلك من النظريات..." هي بنفسها باطلة ولا حاجة لطرحها والجواب عليها.
 
فطرة الدين بنظر الإسلام
إنّ حسّ معرفة الله بنظر القرآن الكريم والأحاديث الإسلاميّة هو من الأحاسيس الأصيلة التي لها جذور في ذات الإنسان، بل إنّ الإحساسات الدينيّة والمذهبية هي فطرية أيضاً، وقد أُشير في بداية الدرس إلى قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ...﴾1. وقد أشار تعالى في الآية إلى الخصوصية الأولى باستخدامه لفظ (فطر) وإلى الخصوصية الثانية باستخدامه لفظ (الناس) الشامل لعموم الناس.



1 سورة الروم، الآية 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

21

الدرس الثاني: الفطرة

 وفي قوله تعالى: ﴿حُنَفَاء لِلَّهِ...﴾ يقول زرارة: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾1.

 
قلت: ما الحنفية، قال: "هي الفطرة"2.
 
ويقول الإمام الصادق عليه السلام في بيان حديث رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم الذي يقول فيه: "كلّ مولود يولد على الفطرة"3: يعني على المعرفة بأنّ الله عزّ وجلّ خالقه، فذلك قوله: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾4.
 
إنّ الآيات والروايات التي تؤيّد وجود فطرة عبادة الله في الإنسان كثيرة نكتفي بنقل هذا المقدار للاختصار.



1 سورة الحج، الآية 31.
2 الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ، معاني الأخبار، ص 350، تحقيق علي أكبر الغفاري، نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ـ قم، 1338ش، باب معنى حمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً، ح1.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 3، ص 279.
4 سورة لقمان، الآية 25.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

22

الدرس الثاني: الفطرة

 للمطالعة


فطرة حبّ الكمال
إنّ من الأمور الفطرية التي جُبلت عليها سلسلة بني البشر بأكملها، بحيث إنّك لن تجد فرداً واحداً في كلّ المجموعة البشرية على خلافها، ولا شيء من العادات والأخلاق والمذاهب والمسالك وغيرها قد بدّلها أو أحدث فيها خللاً، فطرة "عشق الكمال".

فأنت إنْ جلت في جميع المراحل التي مرَّ بها الإنسان، واستنطقت كلّ فرد من أفراد كلّ طائفة من الطوائف والملل تجد هذا العشق والحبّ قد جُبل في طينته، وتجد قلبه متوجّهاً نحو الكمال، بل إنّ ما يحرّك الإنسان ويدفعه في سكناته وتحرّكاته، والعناء والجهود المضنية التي يبذلها كلّ فرد في مجال عمله وتخصّصه، إنّما هو عشق الكمال، على الرغم من وجود الاختلاف بين الناس في تشخيص الكمال، وفي أيّ شيء يتحقّق، وأين يوجد الحبيب والمعشوق.

فالكلُّ يجد معشوقه في شيء ظاناً أنّ ذلك هو الكمال، ويتوهم أنّ كعبة آماله فيه، فيتوجّه إليه ويطلبه بقلبه وروحه.

إنّ أهل الدنيا وزخارفها يحسبون الكمال في الثروة، ويجدون معشوقهم فيها، فيبذلون كلّ وجودهم، والجهد والخدمة الخالصة في سبيل تحصيلها، فكلّ شخص مهما يكن نوع عمله، ومهما يكن موضع حبه وعشقه فإنّه يتوجّه نحو ذلك الشيء، لأنّه يعتقد بأنّه هو الكمال...

إذاً، فنور الفطرة هذا قد هدانا إلى أنْ نعرف أنّ قلوب جميع أبناء البشر، من أهالي أقصى المعمورة وسكان البوادي والغابات إلى شعوب الدول المتحضرة في العالم، وابتداءً بالطبيعيّين والماديّين وانتهاءً بأهل الملل والنحل تتّجه بالفطرة نحو الكمال الذي لا نقص فيه، فهم عاشقون للكمال والجمال الذي لا عيب فيه، والعلم الذي لا جهل فيه، والقدرة التي لا تعجز عن شيء، والحياة التي لا موت فيها، أيّ أنّ "الكمال المطلق" هو معشوق الجميع.


الإمام الخميني قدس سره، الأربعون حديثاً، الحديث12.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

23

الدرس الثالث: إثبات وجود الله

 الدرس الثالث: إثبات وجود الله



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يذكر أنّ العقل السليم لا يحتاج إلى دليل على وجود الله.
2- يستدل على وجود الله من خلال برهان الحدوث.
3- يستدل على وجود الله من خلال برهان النظام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

24

الدرس الثالث: إثبات وجود الله

 هل يحتاج وجود اللّه إلى دليل؟

إذا لم يكن الهوى والتعصّب قد أعمى عين القلب وأصمّ أذنه، فلنْ يشكّ أحد بعدم إمكان حدوث الإنسان والأرض والسماء والكون كلّه دون علّة، ولن يشكّ في أنّ الإنسان والكون لا يقدر أن يخلق نفسه. وهل يستطيع أحد أنْ ينكر الإله العالم القدير؟ أو هل يستطيع العقل السليم المنصف أنْ يشكّ بوجود الله ليحتاج إلى دليل عليه؟
 
قال تعالى: ﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾1.
 
يعني أنّ العقل السليم من الغرض والمرض بعد النظر في عالم الكون، فإنّه وبدون تردّد لن يجد جواباً لسؤاله عن سرّ الكون إلَّا الاعتراف بخالقه العالم القدير.
 
يقول "فون براون" أحد أكبر علماء الصواريخ في أميركا (الماني الأصل) في مقابلة معه: "اسمعوا، أنا قد تعرّفت إلى كثير من علماء العالم، وأعرف عدداً كبيراً منهم، ولكنّني لم أصادف أحداً يستحقّ أنْ يسمّى عالماً وهو يعطي تفسيراً للطبيعة دون أنْ يذكر الله في ذلك، ودون أن يجعل لله دخلاً في الكون وفيما يسمّونه العلماء باسم الطبيعة".
 
ونحن هنا إذ نستعرض الأدلّة على وجود الله تعالى فهو من باب إتقان الحجّة لإقناع الآخرين وتنبيه من كانت نفسه غافلة عن هذه الحقائق.
 
برهان الحدوث
معنى الحدوث هو وجود الشيء بعد أن كان عدماً، وهذا هو حال كلّ شيء من حولنا، فالأشياء كلّها لم تكن ثمّ كانت، وهذا يعني أنّها حادثة، وإذا كانت كذلك فلا بدّ لها من محدِث أيّ خالق، وهذا من الأمور البديهية، وهذا المحدِث لو كان حادثاً لاحتاج بدوره إلى 



1 سورة إبراهيم، الآية 10.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

25

الدرس الثالث: إثبات وجود الله

 محدِث، فلا بدّ من وجود محدث قديم غير مسبوق بالعدم تُسند إليه كلّ الموجودات الحادثة في العالم.

 
وهذا البرهان يتألّف من مقدّمتين:
الأولى: العالم حادث
الثانية: لا بدّ لكلّ حادث من محدث.
 
إســتـنـتــاج
لا بدّ للعالم من محدث. لو نظرنا إلى الأمور من حولنا في هذا العالم لوجدنا أنّها موجودات حادثة مسبوقة بالعدم، فكل شيء من حولنا له عمر، أيّ مرحلة بدأ بها، وقد قدّر العلماء عمراً لغالبية الأمور مثل الأرض والشمس و....وهذا يعني أنّها حادثة فالعلم يتكفّل بإثبات المقدّمة الأولى.
 
أمّا المقدّمة الثانية: فهي من الأمور البديهية التي لا يختلف فيها اثنان، فلا بدّ لكلّ حادث أو معلول من محدث أو علّة، ومع ضمّ المقدّمتين إلى بعضهما البعض تكون النتيجة أنّ العالم كلّه محدَث.
 
وقد ورد في الحديث أنّ أبا شاكر الديصاني قال للإمام الصادق عليه السلام في إحدى المناظرات:
ما الدليل على أنّ لك صانعاً؟ فقال عليه السلام: "وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين: إمّا أنْ أكون صنعتها أنا، فلا أخلو من أحد معنيين: إمّا أنْ أكون صنعتها وكانت موجودة أو صنعتها وكانت معدومة، فإن كنت صنعتها وكانت موجودة فقد استغنيت بوجودها عن صنعتها، وإن كانت معدومة فإنّك تعلم أنّ المعدوم لا يُحدث شيئاً، فقد ثبت المعنى الثالث أنّ لي صانعاً وهو الله ربّ العالمين"، فقام ولم يحرْ جواباً1.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج3، ص 50.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

26

الدرس الثالث: إثبات وجود الله

 نلاحظ في هذا الحديث الشريف مناقشة ثلاث فرضيات لحلّ لغز الوجود، فإمّا أنْ نقول:

• إنّ عالم الوجود غير محتاج إلى خالق.
• أو أن نقول إنّه خالق نفسه.
• أو إنّ له خالقاً متّصفاً بكمال القدرة والعلم.
• والفرضان الأوّلان باطلان بحكم الفطرة وبديهة العقل.
 
لذلك يطرح القرآن الكريم هاتين الفرضيّتين باستفهام انكاريّ تعجّبيّ، ويترك الحكم بصحّتهما أو سقمهما، صوابهما أو بطلانهما على عهدة وجدان الإنسان الحيّ وفطرته النقية وعقله السليم.
 
فالعقل السليم من الهوى يدرك أنّ حلّ لغز هذا الوجود غير ممكن دون الاعتقاد بوجود خالق عالم قادر، أزلي وأبدي، فلنر ما أجمل وألطف بيان القرآن لهذا الأمر، قال تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ﴾1.
 
وقد يقول بعض إنّ هذا المحدِث هو الطبيعة وبالتالي ليس من الضروري الاعتقاد بوجود الله تعالى، وقد أجاب الإمام الصادق عليه السلام على هذا القول؛ فقد جاء في توحيد المفضّل بن عمر أنّه قال للإمام: يا مولاي إنّ قوماً يزعمون أن هذا من فعل الطبيعة، فقال: "سلهم عن هذه الطبيعة أهي شيء له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال أم ليست كذلك؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق، فإنّ هذه صنعته؟ وإنْ زعموا أنّها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة، علم أنّ هذا الفعل للخالق الحكيم، وإنّ الذي سموه طبيعة هو سنَّة في خلقه جارية على ما أجراها عليه"2.
 
دليل النظام
يُعتبر هذا الدليل من الأدلّة السهلة المتيسرة لكلّ البشر، ويعتمد هذا الدليل أيضاً على مقدّمتين:
الأولى: إنّ العالم منظم



1 سورة الطور، الآيتان 35 و 36.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج3، ص67.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

27

الدرس الثالث: إثبات وجود الله

 الثانية: إنّه لا بدّ لكلّ منظَّم من منظِّم


إســتـنـتــاج
إنّ العالم لا بدّ له من منظِّم

الدليل على أنَّ العالم منظَّم
ويُعتبر من الأمور المتّفق عليها بين العلماء، فلا أحد يقول إنّنا نعيش في عالم تعمّه الفوضى. وكلّ العلماء يدرسون أيّ ظاهرة في العالم لاستكشاف الحكمة والنظام المتقن الذي بنيت على أساسه. وإذا تأمّل الإنسان ذاته فسيجد نفسه محكوماً بنظام عجيب ودقيق، وكذلك إذا تأمّل في أيّ ظاهرة تحيط به, ونحن نستعرض مثالاً واحداً يبيّن هذه المسألة، مع أنّ الأمثلة على النظام لا تحصى من جسم الإنسان والنبات والحيوان والماء والسماء والأرض وغيرها الكثير.

الدماغ والعشرون مليون عصب
يحتوي الدماغ على "ستّة ملايين خلية" و"عشرين مليون عصب". يوجد في المادّة المخاطية الموجودة في لفائف المخيخ "ستة ملايين طبقة، وكلّ طبقة تتألف من آلاف الرقائق الظاهرة، وكلّ رقيقة مركّبة من ملايين الموجودات الحيّة".

يقول أحد أساتذة علم الأحياء بالنسبة للدماغ: "إنّ لهذا العضو خواصّ وإمكانات مدهشة ولا تُصدَّق. والعلماء أدركوا عدّة خواصّ من خواصّه الفيزيائية والكيميائية، ولكنّ أغلب وظائفه ما زالت مجهولة حتّى الآن".

الدماغ مسؤول عن جميع الحركات العضلية، وجميع الأعمال البدنية الأساس التي ترتبط بها الحياة، مثل التنفّس ودقّات القلب التي تحصل تحت سيطرته.

الدماغ هو مكان الذاكرة، الذي انتقشت فيه آلاف الآلاف من الصور الفكرية، التي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

28

الدرس الثالث: إثبات وجود الله

 يستحضرها الإنسان في ذهنه في الأوقات اللازمة وعندما يريد، ولا يمكن إعطاء أيّ تفسير ماديّ لأعمال الدماغ، مثل حلّ المسائل، وربط الموضوعات ببعضها البعض. كما أنّه لا يمكن بيان أيّ حالة من حالات الدماغ مثل الذوق السليم، والتأثّر، الأمل، صفاء الباطن وغيرها بواسطة القواعد العلمية.


إنّ إدراك الجمال والإحساس بالحقائق المعنوية مثل الحبّ، إدراك الذات وعلوّ الهمّة، جميعها هو من وظائف وشؤون قسم صغير من البروتوبلاسم الذي يسمّى الدماغ.

وهكذا لو تأمّل الإنسان في بقية أعضاء بدنه وترابطها بعضها مع بعض، وكذلك الحال لو تأمّل الإنسان في الشمس والقمر والأرض والتراب والهواء والماء وغيرها، والتأثير المتبادل بينها بحيث إنّ وقوع أيّ خلل يؤدّي إلى خراب الكون وعدم إمكانية الحياة واستمرارها، أدرك أنّه لا بدّ لهذا كلّه من خالق ومدبّر عالم وقادر.

المقدّمة الثانية
الدليل على أنّ لكلّ منظَّم منظِّماً هو البداهة العقليّة والتي لا ينكرها عاقل، ولهذا أقرّ بها كثير من العلماء. يقول أحد العلماء الغربيّين:
... أنا كعالم أرى أنّ إنكار الصانع أمر غير منطقي، وأرى أنّ العقائد العلمية المبنية على فرضية عدم وجود الخالق هي مضرّة بالبشر.

هل يصدّق أحد وجود سبحة عن طريق الصدفة؟ وهل يمكن أنْ يكتب مثلاً رجل أمّي قصيدة تضاهي المعلّقات السبع؟ هل يمكن للعلل العشوائية التي لا تُعقل ولا تبصر أنْ تنتج نظاماً بهذه الدقّة. ولو سلّمنا جدلاً بوقوع شيء عن طريق الصدفة فهل يمكن أنْ يتمّ كلّ شيء عن طريق الصدفة؟

والجواب: إنّ البديهة تقول إنّ فاقد الشيء لا يعطيه.

فكيف يمكن للعلل غير العاقلة وغير العالمة وغير الحيّة أنْ تملأ الكون علماً وحياة وقدرة ودقّة و... ؟

فالنتيجة التي نصل إليها أنّ الذي أوجد العالم هو موجود عالم قادر حيّ....
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

29

الدرس الثالث: إثبات وجود الله

 للمطالعة

 
دليل النظام
إذا تفكّر المرء في خلقته هو، على قدر طاقته وسعة علمه، وفي الحواسّ الظاهرة التي صُنعت وفق المدركات والمحسوسات، فلكلّ مجموعة من المدركات التي توجد في هذا العالم قوّة مدركة بأدقّ ما تكون من الدقّة والترتيب المحيّرَين للعقول.
 
والأمور المعنوية التي لا تُدرك بالحواسّ الظاهرة، جعلت لها الحواسّ الباطنية لإدراكها. دع عنك علم الروح والقوى الروحية للنفس، واتّجه بنظرك إلى علم الأبدان وتشريحها وبنائها الطبيعي، وخصائص كلّ عضو من الأعضاء الظاهرة والباطنة. أنظر ما أغرب هذا النظام، وما أعجب هذا الترتيب! على الرغم من أن علم البشر لم يبلغ حتّى بعد مائة قرن إلى معرفة واحد بالألف منه، والإعتراف الصريح بأفصح لسان من جميع العلماء بعجزهم، مع أنّ جسم هذا الإنسان بالنسبة إلى كائنات الأرض الأخرى، لا يزيد على مجرّد ذرّة تافهة، وإنّ الأرض وجميع كائناتها لا تعدل شيئاً إزاء المنظومة الشمسية، وإنّ كلّ منظومتنا الشمسية لا وزن لها إزاء المنظومات الشمسية الأخرى، وإنّ كلّ هذه المنظومات الكلية منها والجزئية مبنية وفق ترتيب منظَّم ونظام مرتب بحيث إنّ أيَّ نقد لا يمكن أنْ يوجَّه إلى أتفه ذرّة فيها، وإنّ عقول البشر كافّة عاجزة عن فهم دقيقة من دقائقها.
 
فهل بعد هذا التفكر يحتاج عقلك إلى دليل آخر ليذعن بأنّ هناك موجوداً عالماً قادراً حكيماً، لا يشبه الكائنات الأخرى بشيء، هو الذي أوجد هذه الكائنات بكلّ حكمة ونظام وترتيب واتقان؟ ﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾1.
 
 
 
الإمام الخميني قدس سره، الأربعون حديثاً، الحديث 12.



1 سورة إبراهيم، الآية 10.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

30

الدرس الرابع: التوحيد

 الدرس الرابع: التوحيد



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يحدِّد معنى التوحيد وأهميته.
2- يبرهن على التوحيد من خلال دليل النبوة.
3- يستدل على التوحيد من خلال دليل وحدة النظام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

31

الدرس الرابع: التوحيد

 أهميّة التوحيد

التوحيد هو الأصل الأوّل من أصول الدين الإسلامي، وهو يعبّر عن حقيقة هذا الدين العظيم، وبدونه تفقد أركان الإسلام ومفاهيمه قيمتها. ذلك أنّ التوحيد يعطي كلّ المبادئ والقيم والأفكار والنظريات وحدة شاملة ويجعلها تدور حول محور الوجود المقدّس للباري عزّ وجلّ.
 
ففي العقيدة الإسلاميّة يشكّل مفهوم توحيد الخالق سبحانه الأساس المتين لكلّ الاعتقادات الأخرى. ولذلك فإنّ إنكاره يعود بالدرجة الأولى إلى عدم معرفة الله حقّ معرفته.
 
وعلى سبيل المثال: إنّ الذين تصوّروا أنّ لله شريكاً، قد وضعوا للخالق عزّ وجلّ حدوداً، والسبب في ذلك يرجع إلى عدم معرفتهم بالله حقّ المعرفة، ممّا أدّى إلى إنكارهم لله عزّ وجلّ من جهة، واعتبارهم من جهة أخرى من الكافرين.
 
وهكذا نجد أنّ معرفة الله سبحانه وتوحيده هي أصل الاعتقادات جميعها. فلو عرف الإنسان ربه لوحّده، ولو وحَّده لآمن بأنبيائه ورسله الذين نهوه عن عبادة غيره سبحانه.
 
وكذا نجد أنّ جميع التعاليم السلوكية في الإسلام تقوم على أساس التوحيد الخالص لله عزّ وجلّ. فالإخلاص شرط في قبول الأعمال الإلهيّة، وما لم يصبغ الإنسان حياته ومسلكه بصبغة الإخلاص فلن يكون سالكاً سبيل الله، وسيبقى متمرّغاً في أوحال الطبيعة والمادّة، ولن يخرج من سجن الأنانية.
 
والإخلاص لا يتحقّق إلَّا بالسلوك التوحيدي، وإلى هذا يشير سيّد الموحدين عليه السلام في قوله: "أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له"1.



1 الشريف الرضي، نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج 1، ص 14، شرح الشيخ محمد عبده، نشر دار الذخائر، مطبعة النهضة ـ قم، ط1، 1412م، باب المختار من خطب أمير المؤمنين عليه السلام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

32

الدرس الرابع: التوحيد

 فالإخلاص هو أعلى مراتب التوحيد، وعلى المؤمن أنْ يصرف كلّ همّه لعبور هذه المراتب، ونفي الشرك وشوائبه عن نفسه وقلبه وعمله، لأنّ الشرك محبط للعمل، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾1.

 
وليعلم أنّ أسباب الشقاء والبلاء، ومنشأ كلّ المشاكل والتعاسات إنّما يعود إلى تعلّق القلب بغير الله سبحانه، وإلى طلب غير الحقّ جلّ وعلا.
 
وعليه، فالتوحيد هو عبور لوديان الظلام نحو رحاب النور المطلق حيث الحصن المنيع من عذاب الله عزّ وجلّ، فقد جاء في الحديث القدسي: "كلمة لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ حصني، فمن قالها دخل حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي"2.
 
ولا بدّ للدخول في مراتب التوحيد من أنْ يخطو المرء الخطوة الأولى، وهي تتمثّل بمعرفة التوحيد والاستدلال عليه.
 
دلالة النبوّة على التوحيد
في معرض كلامنا عن دلالة النبوّة على التوحيد نستعرض كلاماً لأمير المؤمنين عليه السلام يقول فيه: "واعلم يا بُنيّ أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله"3.
 
وهذا البرهان مبنيّ على أصالة الوحي، فلا يمكن للإنسان أنْ يقيم مثل هذا البرهان إلّا بعد الإيمان بصدق وحقانية الوحي الموجود. ومن جانب آخر فهو مبنيّ على معرفة الله بكرمه المطلق الذي لا نقص فيه، بحيث إنّه لا يمكن أنْ يكون هناك موجود فيه قابلية خاصّة ولا يفاض عليه من جانبه تعالى. وبالتالي فلا يمكن أنْ يوجد إنسان يمتلك قابلية الوحي ولا يوحى إليه من جانب الباري عزّ وجلّ.



1 سورة الزمر، الآية 65.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 49، ص 127.
3 الريشهري، محمّد، كتاب توحيد الله تعالى، ميزان الحكمة، ج3، ص 1894.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

33

الدرس الرابع: التوحيد

 بناءً على ما تقدّم فإنّه من السذاجة بمكان أنْ يقال: إنّ الغرض من بعث الأنبياء وإرسال الرسل هو هداية الناس، فإذا تحقّقت الهداية ببعث أحدهم من قبل أحد الآلهة، حصل الاكتفاء بذلك، وسقط الأمر عن الآخرين، لأنّ ذلك يعني نفي الصفات الكمالية عن الآخر وبالتالي لا يمكن أنْ يكون إلهاً ولا يرسل رسلاً.


وبديهي أنّنا لم نعتمد في هذا البرهان على ما قاله الأنبياء، ولم نتعبّد بأحاديثهم وقولهم إنّ الله واحد.. بل قلنا بذلك لاعتقادنا بأنّ النبوّات ظواهر خاصّة ودلائل لما وراء الطبيعة، فلو كان هناك عامل آخر ما وراء الطبيعة غير الله الواحد لظهرت منه دلائل مشابهة ولأرسل رسله.

وحدة النظام دليل على التوحيد
إنّ أجزاء العالم يسيطر عليها نظام واحد، ولا يمكن أنْ تكون فيه موجودات مستقلّة ومنعزلة بعضها عن بعض. فانظروا إلى شجيرة الورد مثلاً، هل يمكن أن تبقى خضراء إذا لم تُمدّ بالماء؟ وهل يمكن أنْ توجد إذا لم توضع بذرتها في الأرض؟ إذاً، وجودها منوط بوجود الماء، وهي مرتبطة بالظاهرة المتقدّمة عليها وليست منعزلة عنها. وتستفيد هذه الوردة من الهواء المحيط بها، وهي بدورها تؤثّر في تعديل نسبة الغازات فيه بما تطرحه من الأوكسجين أو ثاني أوكسيدالكربون، إذاً، هي مرتبطة بالهواء المحيط بها وهو ليس مستقلّاً عنها.

وكذلك الفرخ الذي خرج من البيضة، هل جاء إلى الوجود من دون أمّ؟ وهو أيضاً يتنفّس الهواء ويأكل الطعام ويؤثر في بيئته.

والأمر كذلك في الموجودات غير الحيّة، التي نلاحظ حصول الفعل والانفعالات الفيزيائية والكيميائية فيها.

فنحن إذا تأمّلنا في أيّة ظاهرة سوف نجد أنّها قد وُجدت نتيجة لما جرى في الظاهرة المتقدّمة عليها من فعل وانفعال، وهي بدورها تؤثّر في الظواهر المعاصرة لها، وتكون مادّة لوجود الظواهر اللاحقة لها. إنّ هذا النظام يسيطر على العالم كلّه، وهو نظام الارتباط والتفاعل، التأثير والتأثّر. وحتى فرض وجود الأنظمة الجزئية لا ينافي أنْ تكون جميعها 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

34

الدرس الرابع: التوحيد

 أعضاء في نظام كلّي يجعل كلّ ظواهر هذا العالم مشمولة بقانون التأثير والتأثّر.

 
فالعالم عالم متّصل ببعضه البعض ولا يوجد أيّ استقلال بين أجزائه بعضها عن بعض.
 
والآن لو فرضنا لكلّ واحد من هذه الأنظمة الجزئية في عالمنا إلهاً خاصّاً، فهذا معناه أنّ جميع حاجات المخلوق فيه سوف تؤمّن بواسطة إلهه الخاصّ هذا، وأنّ هذا النظام الجزئي لا بدّ أنْ يكون مكتفياً ذاتياً، ولا يحتاج إلى آلهة غير إلهه الذي أوجده، لأنّ الإله هو الذي يكون وجود المخلوق بيده، وهو الذي يوفّر لمخلوقه حاجاته، وهذا هو مقتضى الغنى الذاتي، فالإله غنيّ في ذاته وفي فعله، فكما أنّه لا يحتاج لأحد في وجوده نفسه كذلك لا يحتاج إلى أحد في إيجاده لغيره، ولذلك يكون المخلوق محتاجاً له فقط، إذ لو احتاج المخلوق إلى غير إلهه فهذا يكشف عن حاجة الخالق وهو منافٍ للألوهية. وبهذا الفرض يكون عندنا عدة أنظمة كلّ واحد منها مكتفٍ بذاته ولا يحتاج إلى ما سواه. فإذا كان لعالم الإنسان إله، ولعالم الحيوان إله آخر، ولعالم النبات إله ثالث... وهكذا.. فإنّه يلزم أنْ يكون مثلاً العالم الإنسانيّ محتاجاً فقط إلى إلهه وما تنتجه يداه، ويجب أنْ يكون مستغنياً عن الأنظمة الأخرى، فلا يستفيد من الهواء مثلاً الذي خلقه إله آخر... الخ.
 
وكلّ إنسان يرى أنّ العالم لا يسير بهذا النحو، بل إنّ أيّ موجود وأيّ نظام لا يمكن أنْ يوجد من دون ارتباط بالموجودات الأخرى، وحتّى إذا وُجد فإنّه لا يستطيع أنْ يستمرّ. لذلك لا بدّ من أنْ يستفيد الإنسان من الهواء والماء والنبات والحيوان، وإنْ لم يفعل فالموت ينتظره. وهذا ما أشار إليه تعالى بقوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا...﴾1.
 
فاليد التي تسيّر العالم هي يد واحدة تربط جميع أجزائه بعضها ببعض وتديرها، ولو كانت هناك أيدٍ مستقلة بحيث تريد كلّ واحدة منها أن تدير العالم كما هو مقتضى الربوبية لتبعثر هذا العالم وانفرط نظامه.
 
ولكنّنا نلاحظ أنّ هذا النظام الواحد هو نظام مستقرّ، والفساد فيه غير موجود. فيُعرف من هذا أنّ من بيده شؤون هذا العالم هو من يدبّره ويربط أجزاءه بعضها ببعض إنّما هو إله واحد، هو الذي أوجد هذا النظام الواحد.



1 سورة الأنبياء، الآية 22.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

35

الدرس الرابع: التوحيد

 للمطالعة


التربية التوحيدية
إنّ ما يريده الإسلام هو أنْ ترتبط جميع هذه العلوم سواء العلوم الطبيعية أم غير الطبيعية بالعلوم الإلهيّة، وتمسك بزمامها، وترجع إلى التوحيد، أيّ أنْ يكون لكلّ علم جانب إلهيّ، فيرى الإنسان الله عندما ينظر إلى الطبيعة ويرى الله عندما ينظر إلى المادّة، ويرى الله عندما ينظر إلى سائر الكائنات، فالإسلام جاء من أجل إعادة جميع الكائنات في الطبيعة إلى الألوهية، وجميع العلوم الطبيعية إلى العلم الإلهيّ.

وهذا المعنى مطلوب من الجامعات أيضاً، نعم لا بدّ من وجود الطبّ، ووجود العلوم الطبيعية، والعلاج البدنيّ، إلَّا أنّ المهمّ هو مركز الثقل والذي هو التوحيد.

يجب أنْ تعود جميع هذه إلى جهة الألوهية، فالإسلام يستهدف في كلّ شيء ذلك الهدف الأسمى، فهو لا ينظر إلى الموجودات الطبيعية إلَّا من خلال النظر إلى المعنويات، وبتلك المرتبة العالية.

فلو نظرنا إلى الطبيعة فإنّه ينظر إليها على أنّها صورة عن الألوهية وأنّها موجة من عالم الغيب، ولو نظرنا إلى الإنسان، فإنّه يُنظر إليه بعنوان أنّه كائن يمكنه أن يكون كائناً إلهياً.

الإمام الخميني قدس سره، صحيفة النور، ج8، ص6. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

 


36

الدرس الخامس: مراتب التوحيد

 الدرس الخامس: مراتب التوحيد



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعدّد مراتب التوحيد بدءً من التوحيد في وجوب الوجود وصولاً إلى التوحيد في الألوهية.
2- يستنتج آثار مراتب التوحيد على تكامل روح الإنسان وسموّه.
3- يحدّد نصاب التوحيد من خلال الآيات القرآنية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

37

الدرس الخامس: مراتب التوحيد

 مراتب التوحيد

قد يتوهّم بعض أنّ التوحيد عبارة عن الإيمان بالله الواحد وعدم وجود شريك لله تعالى فقط، دون أنْ يلتفت إلى أنّ التوحيد يشمل أموراً أخرى، يُطلق عليها مراتب التوحيد وهي:
1- التوحيد في وجوب الوجود:
وتتحقّق هذه المرتبة من التوحيد في الاعتقاد بأنّ وجود الله تبارك وتعالى فقط ضروري بصورة ذاتية، وأمّا سائر الموجودات فوجودها مكتسَب منه، وهذا ما استُدِلّ عليه في الدرس السابق من خلال الأدلّة على توحيد الله تعالى.
 
2- التوحيد في الخالقية:
وتتحقّق هذه المرتبة في الاعتقاد بعدم وجود خالق سوى الله، وهي نتيجة طبيعية للمرتبة السابقة (وقد استُفيدت من دليل وحدة النظام).
 
3- التوحيد في الربوبية التكوينية:
الموحّد بهذا المعنى يُطلَق على من يعتقد بأنّ الله غير محتاج إلى أحد في تدبير العالم وإدارته، كما لم يكن محتاجاً إلى أحد في خلقه، وربوبيته التكوينيّة منحصرة به تعالى ولا يمكن لأيّ موجود أنْ يتصرّف في العالم إلّا بحول الله وقوّته، وهذا نتيجة طبيعية للإيمان بأنّ كلّ الموجودات خلقها الله تعالى ووجودها بيده.
 
4- التوحيد في الربوبية التشريعيّة:
ويعني أنّ ولاية الأمر والنهي هي لله تعالى، لأنّه هو الذي أوجد الإنسان ولا يحقّ لأحد غيره
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

38

الدرس الخامس: مراتب التوحيد

 تعالى وضع القوانين وإصدار الأوامر، فشرعية أيّ قانون تتوقّف على الإمضاء الإلهي، وليس لأيّ إنسان أنْ يضع قانوناً للناس، وليس له أنْ يأمر أو ينهى إلّا بإذن الله.

 
5- التوحيد في الألوهية:
وهناك مرحلة أخرى من مراتب التوحيد وهي "التوحيد في الألوهية والمعبودية"،أي ليس لدينا معبود سوى الله، وهذا أيضاًً نتيجة طبيعية للمعتقدات السابقة، وهو مفاد ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾، فعندما نعتقد بأنّ وجودنا من الله واختيار وجودنا بيده، ولا يؤثّر في العالم شيء بصورة مستقلّة إلّا هو، وحقّ وضع القوانين منحصر به، فإنّه لا يبقى حينئذٍ مجال لعبادة غيره. لأنّه - وبسبب ما ذكر- يكون هو المستحقّ للعبادة وحده.
 
وبالتالي أنْ نعبده هو فقط لأنّ العبادة ـ في الواقع ـ إظهار للعبودية، وجعل النفس تحت تصرّف المعبود المستحقّ للعبادة من دون شرط.
 
فهناك أمران: أحدهما يرجع إلى القلب، وهو الاعتقاد بأنّ الله تعالى هو اللائق والمستحقّ للعبادة وحده، وثانيهما يعود إلى العمل، وهو أنْ لا يعبد عملياً غير الله سبحانه، والثاني من مظاهر الأوّل ويسمّى بـ "التوحيد في العبادة".
 
والآيات تعتبر الشرك في العبادة من الذنوب الكبيرة، ومعنى الشرك أنْ يقوم الإنسان بعبادة غير الله في مقام العمل، حتّى ولو لم يكن معتقداً بأهليته للعبادة، ولكنه يقوم بهذا الأمر من أجل مصالحه، هذا هو الشرك في العبادة ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾1. ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾2.
 
ومن آثار ونتائج مراتب التوحيد التي ذُكرت هي أنْ لا يستعين الإنسان المؤمن بشكل مستقلّ إلّا بالله تعالى كما قال تعالى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾3، ولا يخاف المؤمن إلّا من الله كما قال تعالى ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا 



1 سورة الفرقان، الآية 43.
2 سورة الجاثية، الآية 23.
3 سورة الفاتحة، الآية 5.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

39

الدرس الخامس: مراتب التوحيد

 اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾1 ويبقى أمله منحصراً بالله، ولا يحبّ أصالة واستقلالاً إلّا الله تعالى لأنّ الكمال والجمال أصالة لله، وأمّا غيره تعالى فكماله وجماله مستمدّ منه تعالى.

 
نصاب التوحيد
إذا رجعنا إلى القرآن الكريم، وتأمّلنا فيه واستفتيناه عن النصاب اللازم ليصبح الإنسان موحّداً فسيكون الجواب: إنّ الموحّد من وجهة نظر القرآن هو كلّ من يعترف بأنّ واجب الوجود منحصر بالله، وهو تعالى وحده الخالق والربّ التكويني والربّ التشريعي والإله المعبود، ولمّا كان الاعتقاد بالإلوهية واقعاً في الأخير لذا أصبح شعار الإسلام ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾، أيّ لا معبود بحقّ إلّا الله، وهي المرتبة الخامسة، أي إذا تمّ لنا الاعتقاد بالألوهية فمن المؤكّد أنّ ما قبله تامّ وهو من باب "إذا حصلنا على المائة فالتسعون قطعاً في أيدينا".
 
إذاً، نصاب التوحيد في القرآن هو الاعتقاد بهذه الأمور مجتمعةً ومنتهية بالتوحيد في الألوهية.
 
وباقي المراتب تعبّر عن كمال التوحيد والترقّي في درجاته.



1 سورة الأحزاب، الآية 39.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

40

الدرس الخامس: مراتب التوحيد

 للمطالعة


مراتب التوحيد
إنّ أساس جميع تلك الاعتقادات وأهمّ وأغلى عقائدها هو أصل التوحيد، وطبقاً لهذا المبدأ فإنّنا نعتقد بأنّ الذات الإلهيّة المقدّسة وحدها هي التي خلقت هذا العالم وكلّ عوالم الوجود والإنسان، وأنّها مطلعة على جميع الحقائق، وقادرة على كلّ شيء، ومالكة لكلّ شيء، ويعلّمنا هذا المبدأ أنّه يجب على الإنسان أنْ يخضع للذات الإلهيّة الحقّة فقط، وأنْ لا يطيع أيّ إنسان إلَّا أنْ تكون طاعته طاعة للخالق.

وطبقاً لهذا الأساس فلا يحقّ لأيّ إنسان أيضاً أنْ يفرض على الآخرين أنْ يخضعوا له، وإنّنا نتعلّم من هذا الأصل العقائدي مبدأ حريّة الناس، وأنّه لا يحقّ لأيّ إنسان أنْ يسلب حريّة إنسان آخر أو مجتمع معيّن، فيضع له القانون، وينظّم علاقاته وسلوكه بموجب علمه وإدراكه الناقص جداً، أو ميوله ورغباته.وإنّنا نعتقد انطلاقاً من هذا المبدأ، أنّ وضع القوانين من أجل التكامل هو من صلاحية الخالق جلَّ وعلا، كما كانت قوانين الوجود والخلق من وضعه عزّ وجلّ، ولا يصل الإنسان ولا المجتمعات إلى السعادة والكمال إلَّا في ظلّ إطاعة القوانين الإلهيّة التي بلّغنا إيّاها الأنبياء عليهم السلام.

وإنّ انحطاط الإنسان وسقوطه إنّما هو بسبب سلب الحريّة منه لسائر الناس، لذا يجب على الإنسان أنْ يثور ضدّ سلاسل وقيود الأسر هذه، ويقف بوجه الآخرين الذين يدعونه إلى الأسر، ويحرّر نفسه ومجتمعه حتّى يكون الجميع عباداً لله وخاضعين له، ولهذا السبب تنطلق قراراتنا الاجتماعية ضدّ قوى الاستبداد والاستعمار. وأيضاً فإنّنا نستلهم من مبدأ التوحيد الاعتقادي هذا أنّ جميع الناس متساوون أمام الخالق، فهو خالقهم جميعاً والجميع عبيد له.


الإمام الخميني قدس سره، صحيفة النور، ج4، ص166.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

41

الدرس السادس: المعيار الفاصل بين التوحيد والشرك

 الدرس السادس: المعيار الفاصل بين التوحيد والشرك



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يحدّد المعيار الفاصل بين التوحيد والشرك بالله (عز وجل).
2- يفرِّق بين الولاية التكوينية والولاية التشريعيّة.
3- يستنتج أن الاعتقاد بالولاية التشريعية للنبي والأئمة (صلوات الله عليهم) من شؤون التوحيد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

42

الدرس السادس: المعيار الفاصل بين التوحيد والشرك

 تمهيد

من الأمور التي ينبغي التوقّف عندها هو المقصود الحقيقي من التوحيد، فهل التوحيد يعني إنكار أيّ تأثير لكلّ موجود سوى الله؟ وإذا قلنا بتأثير لموجود ما فهل نصبح مشركين؟ أم أنّ المقصود من التوحيد شيء آخر؟.
 
عندما نرجع إلى القرآن نستفتيه نجد أنّه ينسب حتّى الخلق والتدبير وإحياء الموتى لغير الله، ولكنّها جميعاًً متوقّفة على إذنه تعالى، وهذا ما صرّحت به الآيات الواردة بحقّ النبي عيسى عليه السلام، وقد نُسب إليه بعض هذه الأمور منها: الخلق، يقول الله تعالى: ﴿...وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي...﴾1.
 
وقال تعالى: ﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ﴾2.
 
فالقرآن يصرّح بأنّ نبي الله عيسى عليه السلام يخلق: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾3، وهو يحيي الموتى ويشفي المرضى مع أنّه كان عبداً من عباد الله، وهذا الأمر هو الذي دفع بعض أتباعه للغلوّ فيه واعتباره ابن الله، بل قالوا عنه: إنّه هو الله بنفسه. والقرآن الكريم يقاوم هذه العقيدة مقاومة شديدة حيث يؤكّد على التوحيد بقوله تعالى: ﴿فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾4.



1 سورة المائدة، الآية 110.
2 سورة آل عمران، الآية 49.
3 سورة المائدة، الآية 110.
4 سورة الحج، الآية 34.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

43

الدرس السادس: المعيار الفاصل بين التوحيد والشرك

 وينهى عن التثليث بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾1.

 

 
ويعتبره كفراً بقوله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾2.
 
وفي نفس الوقت فهو يثبت ويؤكّد أنّ عيسى عليه السلام كان يؤدّي مثل هذه الأعمال، ولكنّه تعالى يضيف في كلّ جملة كلمة "بإذني"، ولا يكتفي بإضافتها في آخر الآية، وهذا يعني أنّ الاعتقاد بصدور مثل هذه الأمور من الإنسان أو من أيّ مخلوق آخر لا يؤدّي إلى الشرك، ما لم يعتقد بأنّ المخلوق يقوم بهذه الأعمال "مستقلاً" غير محتاج فيها إلى إذن من الله، وأمّا إذا اعتقد بأنّ الله سبحانه هو الذي يمنح المخلوق مثل هذه القدرة، بحيث يستطيع التصرّف في العالم الطبيعي ويوجد بعض الظواهر عن غير طريق القوانين الطبيعية فإنّ هذا الاعتقاد ليس شركاً بل هو عين التوحيد، وحتّى أنّ إنكاره يصبح إنكاراً للقرآن ولرسالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وللتوحيد بمعناه الكامل.
 
الولاية التكوينية
بعدما أثبتنا إمكانية صدور إحياء الموتى وشفاء المرضى - بل أثبتنا وقوعها- من غير الله، ولكن بإذن الله، وهو ما نسمّيه في عرفنا بـ "الولاية التكوينية"، نواجه هذا السؤال:
هل للنبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الطاهرين عليهم السلام ولاية تكوينيّة أم لا؟
 
ظنّ بعض أهل السنة أنّ مثل هذا الاعتقاد شرك بالله، فإذا اعتقد شخص بأنّ للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولاية تكوينيّة بمعنى أنّه يستطيع إحياء الموتى أو شفاء المرضى فقد أشرك بالله، لأنّ هذه الأمور من شأن الله فقط. وتعدّ هذه الفئة سائر الطوائف الإسلاميّة التي تشكّل أكثر من 95% من المسلمين تعدّها مشركة، ومن جملتها الشيعة الذين يعتقدون بالولاية التكوينيّة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.



1 سورة النساء، الآية 171.
2 سورة المائدة، الآيتان 17 و72.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

44

الدرس السادس: المعيار الفاصل بين التوحيد والشرك

 وتعود هذه الاتّهامات في الواقع إلى الجهل (هذا إذا لم تكن مغرضة وذات دوافع سياسية)، فمن يقرأ القرآن ويفهم هذه الآيات... كيف يسمح لنفسه بأنْ يعدّ هذه العقائد من الشرك؟

 
إنّ القرآن نفسه يقول: كان عيسى عليه السلام يخلق ويحيي الموتى ويشفي المرضى، فكيف يصبح هذا القول شركاً؟!
 
وقد يخرج بعض ليقول: إنّ ما ذُكر في القرآن لا يكون شركاً وأمّا الذي لم ينصّ عليه القرآن فيكون شركاً.
 
وهذا القول واضح البطلان؛ لأنّ أيّ مفهوم إذا كان شركاً فهو شرك وإن لم يذكره القرآن. فلو فرضنا ـ وفرض المحال ليس محالاًـ أنّ القرآن قال: يوجد إلهان أو أنّ هناك خالقين للعالم، أيصبح هذا توحيداً؟!
 
وهل حقيقة التوحيد يمكن تغييرها بالقول والكلام؟
 
فالأمر إنْ كان شركاً يبقى كما هو سواءً أذكر ذلك القرآن أم لم يذكره - بل نقول إنّه يستحيل أنْ يذكره القرآن - وما يكون توحيداً يظلّ توحيداً تعرّض له القرآن أم لم يتعرّض له.
 
فكيف يصحّ لنا أنْ ندّعي أنّه ما دام القرآن يقول لعيسى عليه السلام: أنت تخلق وتحيي الموتى وتشفي المرضى فهذا "توحيد"، لكنّه في الوقت الذي لم يقل فيه ذلك لغيره يكون شركاً؟ وهل يعقل أنْ يكون الشيء نفسه شركاً وغير شرك من دون أن يحدث فيه أيّ تغير؟
 
الولاية التشريعيّة
ونظير هذا يقال بالنسبة للربوبية التشريعيّة، يعني عندما نقول: لا يحقّ لأحد سوى الله تعالى وضع القوانين وإصدار الأوامر والطاعة من دون سؤال، فليس معنى هذا أنّنا لا يجوز لنا أنْ نطيع أيّ أحد آخر بأيّ شكل من الأشكال، أو لا يحقّ لأيّ أحد إصدار الأوامر، كلّا، ليس هذا معناه، بل المقصود هنا أيضاً أنّ أيّ شخص لا يحقّ له أنْ يصدر الأوامر "مستقلاً" من ذات نفسه، إلّا إذا كان الله تعالى قد منحه هذا الحقّ، وتعود الطاعة لهذا الشخص في الواقع إلى طاعة الله، وجاء في القرآن الكريم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ﴾1.



1 سورة النساء، الآية 64.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

45

الدرس السادس: المعيار الفاصل بين التوحيد والشرك

 إذاً، فالطاعة التي تكون بإذن الله لا تتنافى مع التوحيد، بل هي من شؤون التوحيد. أمّا ما يتنافى مع الربوبية التشريعيّة فهو الاعتقاد بأنّ لأحد غير الله وفي عرضه حقّ التقنين، حيث يضع القوانين من دون اعتماد عليه تعالى، وتكون طاعته واجبة مثل طاعة الله. هذا شرك لا شكّ فيه. أمّا إذا قال أحد بأنّ الله سبحانه قد عيّن أشخاصاً لهم الحقّ في التدخّل في شؤون الناس، يسوسون أمورهم، يأمرون وينهون، وتجب على الناس الطاعة لهم، فهو ليس بشرك.

 
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ﴾1.
 
فهو يأمر بطاعة الرسول، ولا يكتفي بهذا الحدّ بل يوجب طاعة خلفاء الرسول من المعصومين: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾2.
 
وحسب ما نقل من تفسير عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّ "أولي الأمر" هم المعصومون الاثنا عشر عليهم السلام، ومن الطبيعيّ أنْ تكون طاعة الرسول وأولي الأمر شاملة للمنصوبين من قبل النبيّ أو الإمام بصورة خاصّة أو بشكل عامّ. عندما كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يبعث والياً إلى منطقة معينة فإنّه كان يجب على الناس طاعة هذا الوالي، لأنّها في الحقيقة طاعة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وكذا الطاعة للولي الفقيه المنصوب من قبل الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف لتسيير شؤون الناس في عصر الغيبة، وهذه في الواقع طاعة لإمام العصر التي هي طاعة لله: "فإنّهم حجتي عليكم وأنا حجّة الله"3.
 
إذاً، الاعتقاد بالولاية التشريعيّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليه السلام ومن ينصبه هذان، ومن جملتهم الفقهاء الكبار في عصر غيبة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، ليس فقط لا يتنافى مع التوحيد، بل هو من شؤون التوحيد، وهذا يعني أنّ الطاعة لله عزّ وجلّ تشمل الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنّه تعالى هو الذي أمر بطاعة الرسول، وهكذا... حتّى نصل إلى الفقهاء.



1 سورة النساء، الآية 59 ـ سورة محمّد، الآية 33.
2 سورة النساء، الآية 59.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص90.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

46

الدرس السادس: المعيار الفاصل بين التوحيد والشرك

 للمطالعة

 
﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾1.
 
المراد بالكتاب الذي هو مبدأ هذا العلم العجيب إمّا جنس الكتب السماوية أو اللوح المحفوظ، والعلم الذي أخذه هذا العالم منه كان علماً يسهل له الوصول إلى هذه البغية. وقد ذكر المفسّرون أنّه كان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أجاب،... وقد تقدّم أنّ من المحال أنْ يكون الاسم الأعظم الذي له التصرّف في كلّ شيء من قبيل الألفاظ ولا المفاهيم التي تدلّ عليها وتكشف عنها الألفاظ.... هذا العلم لم يكن من نسخ العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب والتعلّم.
 
السيد الطباطبائي، تفسير الميزان، ج15، ص363.



1 سورة النمل، الآية 40. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

47

الدرس السابع: الصفات الإلهيـّة

 الدرس السابع: الصفات الإلهيـّة




أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشرح الصفات الإلهية الثبوتية والسلبية.
2- يميّز بين قسمي الصفات الثبوتية الذاتية والفعلية.
3- يستدل على صفتي القدرة الإلهية والعلم الإلهي، والمعنى الحقيقي للبداء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

48

الدرس السابع: الصفات الإلهيـّة

 صفات الله تعالى على نوعين: صفات سلبية وصفات ثبوتية.

 
الصفات السلبية
وهي التي يتنزّه عنها الله تعالى لأنّها نقص، فيجب سلبها عنه تعالى لما فيها من نقص يجلّ عنه تعالى كالجسمية وغيرها، فالعقل يدرك أنّه يستحيل اتّصاف الله بالجسمية، لأنّه لو كان لله جسم يلزم منه لازمان باطلان:
1ـ أنّه مركّب والمركّب يحتاج إلى أجزائه والحاجة فقر - وهو نقص - والله هو الغنيّ المطلق.
2 ـ لاحتاج إلى مكان والحاجة فقر وهو الغني المطلق.
 
ومما يدلّ على نفي الجسمية عنه تعالى في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾1.
 
فلو كان لله جسم للزم وجود المثل والشبيه له تعالى وقد نفته الآية.
 
إلا أنّ بعضٌ قد توهّم أنّ لله تعالى جسماً واستدلّوا على وهمهم هذا بآيات قرآنية كقوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾2، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾3.
 
مع أنّ هذا النحو من الآيات يجب أنْ يفسّر على أساس لا يتعارض مع الدليل العقليّ القطعيّ، الذي تقدَّم ومع الآية المحكَمة التي سبقت وهي قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ 



1 سورة الشورى، الآية 11.
2 سورة المائدة، الآية 64.
3 سورة الإنسان، الآية 9.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

49

الدرس السابع: الصفات الإلهيـّة

 شَيْءٌ﴾1. من هنا فُسّرت اليدان بالنعمة والمراد نِعم الدنيا والآخرة أو بالقوّة والقدرة.

 
أما الوجه في الآية السابقة ففسّر بثواب الله، أيّ إنّما نطعمكم لأجل الثواب الإلهي، أو بمعنى ذات الله. وقد تعارف واشتهر استعمال هذه الكلمات بهذه المعاني غير المعارضة للعقل والقرآن عند العرف وأهل البلاغة فيقولون "فلان لسانه طويل" ويقصدون أنّه كثير الكلام لا أنّ لسانه طويل حقيقة.
 
الصفات الثبوتية
وهي صفات لا تستلزم نقصاً بل فيها إثبات كمال وجمال لله تعالى. وهي نوعان: صفات ذاتية وصفات فعلية.
 
الصفات الذاتية: وهي الصفات المنتزَعة من الذات الإلهيّة فلا يصحّ سلبها عن الله تعالى مثل الحياة والقدرة والعلم.
 
توضيح بعض الصفات الذاتية
القدرة: نحن نعتقد أنّ الله تعالى قادر على كلّ شيء، لكنّ الشيء الذي تتعلّق به القدرة لا بدّ من أنْ يكون فيه القابلية للتحقّق، أيّ يكون ممكن التحقّق، وعليه فالشيء المحال لا تتعلّق به القدرة الإلهيّة، فيكون العجز في القابل وليس في الفاعل.
 
سُئل أمير المؤمنين عليه السلام: هل يقدر ربّك أنْ يُدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا أو تكبر البيضة؟ فقال عليه السلام: "إن الله تبارك وتعالى لا يُنسب إلى العجز والذي سألتني لا يكون"2.
 
العلم: ونحن نعتقد أنّ الله تعالى عالم بكلّ شيء قبل أنْ يوجد وأثناء وجوده وبعده، ويكفي كدليل على علم الله، وكذا قدرته وجود العلم والقدرة بين المخلوقات، فلا بدّ من وجودهما في الخالق وبمرتبة أكمل لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه.



1 سورة الشورى، الآية 11.
2 الريشهري، محمّد، مبزان الحكمة، ج3، ص1916.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

50

الدرس السابع: الصفات الإلهيـّة

 البداء: ممّا تقدّم نعلم أنّ البداء المطروح في أحاديث أهل البيت عليهم السلام لا يعني أنّ الله تعالى يظهر له شيء لم يكن يعلمه سابقاً فيغير إرادته على ضوء علمه الجديد, والعياذ بالله تعالى، فقد حارب أهل البيت عليهم السلام هذا المعنى بشّدة فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من زعم أنّ الله تعالى بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم"1.

 

 
بل المراد من البداء هو أنّ الله تعالى منح الإنسان فرصة تغيير مصيره بالعمل الصالح أو الطالح كما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "الصدقة تدفع ميتة السوء"2، وعن الصادق عليه السلام: "إنّ الدعاء يردّ القضاء"3.
 
لذا فالقول بالبداء يبعث الرجاء في قلوب المؤمنين, بخلاف الاعتقاد بأنّ قلم التقدير جفّ ولم يعد بمقدور الإنسان تغيير المصير المحتوم، من هنا يبيّن أهل البيت عليهم السلام قيمة البداء وأهمّيته كقولهم: "ما عبد الله عزّ وجلّ بشيء مثل البداء" أو "ما عظم الله بمثل البداء"4.
 
الصفات الفعلية: وهي الصفات التي تنتزع من نوع ارتباط بين الله تعالى ومخلوقاته, لذا فيصحّ سلبها عن الله تعالى مثل الخالقية والرازقية والإحياء والإماتة، فيصحّ القول: "الله لم يخلق أباً لعيسى بن مريم ولم يرزق فلاناً ولم يحيِ الميت الفلانيّ" وهكذا.



1 الشيخ الصدوق، الاعتقادات في دين الإمامية، ص41.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج4، ص2.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج70، ص349.
4 الحسيني اليزدي الفيروز آبادي، السيد مرتضى، عناية ألأصول في شرح كفاية الأصول، ج2، ص340.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

51

الدرس السابع: الصفات الإلهيـّة

 للمطالعة

"ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها". والمراد من "أسماء الله الحسنى" هي صفات الله المختلفة التي هي حسنى جميعاً، فنحن نعرف أنّ الله عالم قادر رازق عادل جواد كريم رحيم، كما أنّ له صفات أخرى حسنى من هذا القبيل أيضاً. فالمراد من دعاء الله بأسمائه الحسنى، ليس هو ذكر هذه الألفاظ وجريانها على اللسان فحسب، كأن نقول مثلاً: يا عالم يا قادر يا أرحم الراحمين. بل ينبغي أن نتمثّل هذه الصفات في وجودنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وأنْ يشعّ إشراق من علمه وشعاع من قدرته وجانب من رحمته الواسعة فينا وفي مجتمعنا. وبتعبير آخر: ينبغي أنْ نتّصف بصفاته ونتخلّق بأخلاقه، لنستطيع بهذا الشعاع، شعاع العلم والقدرة والرحمة والعدل، أنْ نخرج أنفسنا ومجتمعنا الذي نعيش فيه من سلك أهل النار...


الشيخ ناصر مكارم، الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج5، ص303. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

52

الدرس الثامن: العدل الإلهي

 الدرس الثامن: العدل الإلهي



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يحدِّد معنى العدل وأهميته.
2- يستدل على العدل الإلهي ويدفع بعض الإشكالات الواردة حوله.
3- يبيِّن حقيقة السعادة والشقاء على ضوء الآيات القرآنية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

53

الدرس الثامن: العدل الإلهي

 أهمّية العدل

إنّ للاعتقاد بعدالة الله تعالى مكانة خاصّة في ذهن الشيعة من زمن الأئمّة الأطهار عليهم السلام، وأهمّية أكبر من سائر الأصول الاعتقادية ما عدا "التوحيد"، وكانوا يعتبرون أنّ أهمّية العدل مساوية للتوحيد، وأنّ هذين الأصلين هما من أكثر أركان الإسلام حساسية، والسرّ في ذلك هو أنّ أيّ خلل في الإيمان بالعدل يؤدي إلى خلل في التوحيد.
 
معنى العدل
ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "العدل يضع الأمور مواضعها"1. فكلّ شيء في هذا الكون وكلّ ما أنزل الله تعالى من تشريع لهداية البشر وُضع في موضعه المناسب، ويشهد بذلك هذا النظام المتقن العجيب المسيطر على كلّ أرجاء الكون الذي أدهش العقول وحيّر الألباب، كما تشهد بذلك الشرائع الإلهيّة الكاملة التي لو طبّقها البشر لبلغت بهم قمّة الكمال والسعادة.
 
الدليل على العدل
بما أنّ الظلم - بمعنى وضع الأمور في غير مواضعها - من أبرز الأمور القبيحة، وبما أنّ فعل القبيح وصدوره عنه تعالى مستحيل، لأنّ القبائح وعلى رأسها الظلم لا يصدر إلّا عن جاهل أو محتاج أو ضعيف، فإذا تنزّه موجود ما عن هذه الأسباب للظلم فلا يصدر عنه ظلم، فكيف بالله تعالى وهو العالم المطلق، فلا يُحتمل بحقّه جهل والغنيّ المطلق فلا يُتصوّر بحقّه حاجة وفقر والقويّ المطلق فلا يُتوهّم بحقّه ضعف وعجز؛ وعليه يستحيل



1 الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج4، ص102.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

54

الدرس الثامن: العدل الإلهي

 صدور الظلم عنه تعالى لانتفاء أسبابه. وقد أكّد القرآن الكريم على أنّ الله تعالى منزّه عن الظلم، ونزّه ساحته عن الجور في الكثير من الآيات، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.


بعض الإشكالات حول العدل الإلهي
من المسائل التي كانت محطّ الانتباه والتساؤل منذ القدم هي: أنّه إذا كان الله سبحانه وتعالى عادلاً ولا يظلم أحداً، فمن هو خالق المنغّصات والشرور والمشكلات في العالم؟

ولماذا خُلق الموت والجهل والضعف، والفقر والحرمان، والطوفان والسيل والزلزال، والظلم والتمييز، وعوامل الانحراف والضلالة؟ ولماذا يجب أن يوجد في العالم أشخاص ظلمة؟ ثمّ لماذا لا يمنع الله عزّ وجلّ هذه الأمور؟

أليس كلّ هذا من باب وضع الأمور في غير مواضعها؟ وما هي الأسباب الكامنة وراء هذا الخلل؟

الجواب: للوصول إلى جواب شافٍ، لا بدّ لنا بداية وقبل أيّ شيء آخر، من معرفة ملاك تشخيص الخير والشرّ، والذي تُحلّ بمعرفته كثير من مسائل الشرور.

والمشكلة تكمن في الواقع حيث يرى معظم الناس أنّ الملاك في كثير من الموارد هو تشخيص العقل السطحيّ الابتدائيّ، فإنّنا نرى الكثير من الأمور تظهر بالنظرة الابتدائية شرّاً، وبعد الانتباه والتحقيق بآثارها وخصوصيّاتها ندرك أنّها خير. فعندما يتعمّق الإنسان في نظرته للأمور يكتشف أنّ الكثير من الأمور التي كان يعتبرها شرّاً هي في الحقيقة خير ولمصلحة الكون، وحال النظرة السطحية حال من يرتدي نظّارة سوداء فسوف يرى العالم كلّه مظلماً، وهذا ناتج عن الجهل بالحكمة من وجودها، ولمزيد من البيان لا بدّ من الإشارة إلى جملة مسائل:

أوّلاً: قياس الشيء على المصلحة الشخصية: إنّ الكثير من الناس يحكمون على أمر أنّه خير أو شرّ بالنسبة إليهم، فبعض عندما نسأله عن الأمور التي يعتبرها شرّاً يقول: الأفاعي والعقارب والزلازل والبراكين. إنّ مثل هذا الجواب يمثل نوعاً من البساطة في التفكير، فالأمور التي تُعتبر مكملة لنظام الكون تصبح بالنظرة السطحية والقياس على المصلحة الشخصية معاكسة للنظام، فالأفاعي والعقارب تمتصّ السموم من
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

55

الدرس الثامن: العدل الإلهي

 الهواء، والبراكين وسيلة لتنفّس الأرض، فلو كان العالم دون براكين لكان نظامه ناقصاً.

 
ثانياً: النظرة الاستقلالية لبعض الأمور: أحياناً ينظر بعض إلى الأمور نظرة استقلالية وليس كجزء من مجموعة متكاملة، فبالنظرة الأولى تُعتبر شراً، ولكن في النظرة الثانية تُعتبر خيراً، فمثلاً لو نظرنا إلى جرّافة تهدم أبنية وتخرّب طرقات نظرة مستقلّة منفصلة عن الحكمة والهدف، سنجد فيها ضرراً وشرّاً لما تسبّبه من غبار وأصوات مزعجة لمن يحيط بها، أمّا لو نظرنا إليها بما أنّها مقدّمة لبناء مستشفى وبناء بنى تحتية للمدينة وما تحتاجه، فالنظرة حينئذ مختلفة والحكم عليها كذلك، وذلك للخير الكثير المترتّب عليها.
 
حقيقة السعادة والشقاء
لقد تحدّث القرآن الكريم في عدد من الآيات عن جملة من الموارد التي فيها الخلط في الحكم على المسائل بكونها خيراً أو شرّاً، وتكون الحكمة في خيريّتها أو شرّيتها ارتباطها بالسعادة والشقاء.
قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾1.
 
وقال تعالى: ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾2.
 
وقال تعالى: ﴿وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾3.
 
وفي جميع هذه الآيات وصف المولى عزّ وجلّ مصاعب الحرب والشهادة والقتل -الموصوف بكونه شرّاً عند العقل الابتدائي السطحي - وصفه بكونه خيراً، وبيّن قانوناً كليّاً وهو أنّ ملاك شرّية الأشياء أو خيريّتها ليست موافقتها للرغبات والميول والسعادة المؤقّتة, وكذلك جاء عكس ما ذكرناه في القرآن أيضاً، حيث يحكم العقل الابتدائي على شيء بأنّه 



1 سورة البقرة، الآية 216.
2 سورة النساء، الآية 19.
3 سورة آل عمران، الآية 157.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

56

الدرس الثامن: العدل الإلهي

 خير وسعادة ويكون في الواقع شرّاً وشقاء، فالمال مثلاً يراه الإنسان خيراً لكن المولى عزّ وجلّ يعتبر المال - عند سوء الاستفادة منه - شرّاً وسبباً لسوء العاقبة.

 
قال تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾1.
 
وقال تعالى: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾2.
 
وعليه فأحد الأمور التي يجب على العقل أنْ يأخذها بعين الاعتبار عند حكمه بخيريّة شيء أو شرّيته، هو كون السعادة والشقاء (المترتبة عليه) دائمين أو غير دائمين، فالسعادة المؤقّتة مع الشقاء الدائم ليست خيراً والشقاء المؤقّت المصحوب بالسعادة الدائمة ليس شرّاً.
 
ولهذا يقول الإمام علي عليه السلام: "ما خير بخير بعده النار، وما شرٌّ بشرٍّ بعده الجنّة وكلّ نعيم دون الجنّة محقور، وكلّ بلاء دون النار عافية"3.
 
إذاً، فالخطوة الأولى هي أنْ لا يُنظر إلى الأمور نظرة سطحية، وعندها سيُحلّ الكثير من الإشكالات وسيجد المتأمّل أنّ كثيراً ممّا يعتقد أنّه شرٌّ ليس في الحقيقة والواقع كذلك. وتبقى جملة من الشرور والمصائب والابتلاءات هي كذلك واقعاً، إلّا أنّه ينبغي الكلام حول سبب البلاء، وحول الفائدة والحكمة منه وهذا ما سيُبحث في الدرس التالي إنْ شاء الله تعالى.



1 سورة آل عمران، الآية 180.
2 سورة التوبة، الآية 55.
3 الشريف الرضي، نهج البلاغة, خطب الإمام علي عليه السلام، ج4, ص92.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

57

الدرس الثامن: العدل الإلهي

 للمطالعة
نحن قد عرفنا الله عليماً حكيماً غنيّاً كاملاً عادلاً جواداً، ولمّا كان كذلك فكلّ ما يقع منه فهو مبنيّ على أساس الحكمة والمصلحة مهما كنّا جاهلين بتلك الحكمة وهذه المصلحة... فالإنسان بعد أنْ رأى كلّ هذه الحكمة وهذا التدبير في نظام الوجود، ممّا جعل عقله حائراً لا بدّ أن يعترف أنّ هناك حكمة في الأشياء المجهولة لديه، وأنّ القصور والنقصان من إدراكه هو وليس في الخلقة...1.
 
...يسأل الكثير صارخين بأعلى الأصوات:
لماذا لا يمنح الله العزّة للمسلمين؟!
لماذا لا يجعل القوانين الطبيعية جارية لصالح المسلمين؟!
 
ونحن نغضب ونثور ونطلق الحسرات ويهرب النوم من أعيننا ونعاني وتضيق بنا الحياة وندعو ونستغيث ولكن لا يستجاب لنا.
 
والقرآن يجيبنا: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾2.
 
فالله لا يغيّر قوانينه بل لا بدّ أن نغيِّر نحن ما بأنفسنا.. إنّنا غارقون في الجهالة، متورّطون في فساد الأخلاق نابذون للوحدة والاتفاق، ومع هذا كلّه فنحن نريد من الله أن ينصرنا ويعيننا...
 
إنّ هذا لمستحيل!.
 
الشهيد مطهري رحمه الله، العدل الإلهي، ص116ـ 117. 



1 الشهيد مطهري، العدل الإلهي، ص142.
2 سورة الرعد، الآية 11.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

58

الدرس التاسع: البلاء

 الدرس التاسع: البلاء



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يفسر أسباب البلاءات الفردية والاجتماعية.
2- يعطي شواهد قرآنية وروائية حول أسباب البلاء.
3- يبيّن الحكمة من البلاء وأثره على بعدي الإنسان: الروحي والجسماني.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

59

الدرس التاسع: البلاء

 إنّ البلاء - وبغضّ النظر عن أسبابه - ينظر إليه الناس بشكل عامّ على أنّه شرّ، فهل هو كذلك أم أنّ الحقيقة غير ذلك؟ إلّا أنّ للبلاء فوائد وآثاراً وحكماً ينبغي الإشارة إليها.

 
سبب البلاء
إنّ جميع المصائب الفردية والاجتماعية التي تصيب البشر:
 
إمّا أن تكون وليدة سوء الاستفادة من الحريّة وسوء الاختيار، فيبتلي نفسه:
قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾1.
 
وقال تعالى: ﴿...وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ...﴾2.
 
وقال عزَّ وجلّ: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾3.
 
ولكن عندما يستفيد الإنسان من حريّته استفادة سيّئة، فإنّ هذه الاستفادة السيّئة ستؤدّي على أساس القوانين الموجودة على متن عالم الخلق، وعلى أساس السنّة التي لا تقبل التغيير، إلى ظهور مصائب مختلفة للشخص العامل بل للمجتمع، وهي بنظر القرآن الكريم عقاب على عملهم. يجب الانتباه طبعاً إلى أنّ هذا العقاب ليس جعلياً واعتبارياً، بل هو عقاب تكوينيّ وواقعيّ له ارتباط علّيّ معلولّي بعمل المجرم السيّئ.
 
فقد كان هناك وعلى مدى التاريخ أقوام وأمم مختلفة، أصابها الزلزال والطوفان وأنواع البلاء المختلفة الأخرى، ولكنّ القرآن يرى أنّ جميع هذه المصائب ترتبط بالعمل السيّئ والظلم والجرائم والاستفادة السيّئة من الحريّة.



1 سورة الشورى، الآية 30.
2 سورة النساء، الآية 79.
3 سورة الأعراف، الآية 96.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

60

الدرس التاسع: البلاء

 جاء في سورة العنكبوت بعد نقل قصّة قوم نوح وإبراهيم ولوط ووقوف قوم عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان في مقابل أنبياء الله سبحانه واستكبارهم عن قبول الحق: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾1.

 
وجاء في سورة هود، بعد بيان كيفية هلاك عدد من الأمم المستكبرة في التاريخ: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ﴾2.
 
وقال تعالى في سورة التوبة: ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾3.
 
يقول الإمام عليّ عليه السلام: "وأيم الله ما كان قوم قطّ في غضِّ نعمةٍ من عيشٍ فزالَ عنهم إلّا بذنوبٍ اجترحوها، لأنَّ الله ليس بظلّامٍ للعبيد"4.
 
وإمّا أنْ تكون نتيجة لعوامل طبيعية خاضعة لنظام العلّية والمعلولية العامّ، كما لو حصل انهيار أو خسف أو زلزال أو غير ذلك، فأعقب مصائب وابتلاءات لبعض من يحيط به، ويعيش بجواره... ومع أنّ أسبابه طبيعية لكنّ نتائجه لا تخلو من فوائد.
 
وهكذا قال الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة وللأولياء كرامة"5
 
فالبلاء الذي ينزل حتّى على الظالم ليس شرّاً محضاً بل فيه تأديب، ومحاولة لإعادته إلى الصواب، وهذا ليس شرّاً وقد ورد عن الإمام العسكري عليه السلام: "ما من بليّة إلّا ولله فيها نعمة تحيط بها"6.



1 سورة العنكبوت، الآية 40.
2 سورة هود، الآيتان 100 و 101.
3 سورة التوبة، الآية 70.
4 الشريف الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام،، ج2، ص98.
5 العلامة المجلسي, بحار الأنوار، ج 64, ص235.
6 ابن شعبة الحرّاني, تحف العقول, ص489، تحقيق علي أكبر الغفاري، نشر مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ط2، 1404هـ.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

61

الدرس التاسع: البلاء

 الحكمة والفائدة من البلاء

نعم، نحن نعلم أنّ الإنسان موجود ذو بُعدين، أحدهما الجسم والآخر الروح، فلنرَ ما هو الموجب لتكامل الإنسان في هذين البعدين.
 
نبدأ بالجسم، فما هي الشرائط التي يقوى فيها جسم الإنسان ويتكامل؟ وهل أنّه بقدر ما تكون وسائل الحياة والأكل والشرب مؤمّنة يكون الإنسان قويّاً، أم أنّ هناك شيئاً آخر؟
 
لا شكّ أنّ الأمر ليس كذلك، فليس تأمين وسائل الأكل والشرب واللذة هو عامل تقوية وتكامل الجسم، بل الأمر عكس ذلك تماماً، فالأشخاص الذين يعيشون في السرور والنعمة ولم يتحمّلوا أدنى المصاعب في حياتهم، هم من الناحية الجسمية أضعف من غيرهم، وقليلاً ما يستطيعون المقاومة أمام الأمراض، وعلى العكس، فالذين لديهم حياة بسيطة جداً في ظروف طبيعية صعبة في حضن الصحراء يمتلكون عادة أبداناً متناسقة قوية.
 
هذا القانون ليس جارياً في مورد الإنسان فقط بل يجري في مجال جميع الحيوانات أيضاً، فالحيوانات الأهلية التي تؤمّن لها ظروف أفضل للحياة، هي من ناحية القوّة والسلامة والمقاومة مقابل الأمراض لا يمكن قياسها بالحيوانات الوحشية، التي تعيش في ظروف غير مؤاتية وغير طبيعية.
 
ليس الأمر كذلك بالنسبة للإنسان والحيوان فقط بل يجري هذا القانون في الأعشاب والنباتات، فالأشجار التي تعيش في سفوح الجبال وبين الصخور وفي ظروف صعبة ليست قابلة للقياس، من ناحية متانة خشبها وقدرة مقاومتها أمام العواصف الشديدة، مع الأشجار التي تنمو قرب السواقي وفي الأراضي الزراعية المجهّزة.
 
وليس هذا إلّا لأنّ المصاعب (الشدائد) في نظام الخلقة تعطي القوّة وتخلق التكامل وتبدع الكمال، يقول الإمام عليّ عليه السلام في جواب من يخال أنّ الحياة في الظروف الصعبة وأنّ الغذاء البسيط موجب لضعف وخوار الجسم: "ألا وإنّ الشجرة البريّة أصلب عوداً والرواتع الخضرة أرقّ جلوداً، والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً"1.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 33، ص 475.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

62

الدرس التاسع: البلاء

 بناء عليه إنّ تكامل وقوّة جسم الإنسان لا تكون إلّا في ظلّ المشكلات والشدائد فهي رياضة لجسم الإنسان بل الحيوانات والنباتات أيضاً.

 
تكامل الروح
كما أنّ جسم الإنسان لا يقوى إلّا في ظلّ المشكلات والشدائد، ولا بدّ لأجل تكامله من المصاعب، فروح الإنسان ونفسه أيضاً لن تتكامل إلّا بالتغذية بالمشكلات.
 
ولا أظنّ أنّ هذا الأمر يحتاج إلى الاستدلال كثيراً، فتجربتنا تغنينا عن كلّ أنواع الاستدلال، ونستطيع بقليل من التأمّل أنْ ندرك هذا الواقع، بقياس طفل تحمّل الظروف القاسية من الناحية الروحية وانصهر فولاذ روحه في بوتقة الشدائد، مع طفل آخر لم يرَ أيّ نوع من الآلام.
 
المشكلات ليست غذاءً لتكامل الجسم فقط، بل روح الإنسان أيضاً لا بدّ من أنْ تتغذّى بهذا الغذاء من أجل التكامل، فكم هو جميل بيان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الأمر الواقعي في قوله: "إنّ الله ليغذّي عبده المؤمن بالبلاء كما تغذّي الوالدة ولدها باللبن"1.
 
بناء على هذا نصل إلى هذه النتيجة وهي أنّ: مشكلات ومصائب المؤمن تكون بمقدار قيمته الواقعية.
 
قال رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم: "ما كرم عبد على الله إلّا ازداد عليه البلاء"2.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّما المؤمن بمنزلة كفّة الميزان، كلّما زيد في إيمانه زيد في بلائه"3.
 
وبناء عليه فإنّ الابتلاء هو طريق التكامل، والارتقاء في مدارج الكمال لا يتحقّق بدون الابتلاء، وعليه فهو خير لما يؤدّي إليه من هدف سامٍ ومقام رفيع...



1 الريشهري، ميزان الحكمة،ج1، ص 305.
2 م. ن.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج2 ص254.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

63

الدرس التاسع: البلاء

 للمطالعة


كَرَمٌ وصمودٌ في المحنة
يقول آية الله الفرقاني قال لي أحد الخطباء: أعرف شيخاً شوشتريّاً مسنّاً متديّناً قارئاً للقرآن، عنده ستة أولاد، ومنذ ثلاث سنوات أصيب بشلل فأصبح طريح الفراش، وقد طلب منّي أن أخبِر الإمام الخميني قدس سره بحاله لعلّه يستطيع مساعدته. قلت له: حسناً قل للإمام، فاقترب منه وكلّمه بالأمر.

فأجابه الإمام: قل للشيخ فرقاني بأن يذكّرني غداً. فجاء وأخبرني بذلك فقلت له إنّ شاء الله.

وعندما وصلنا إلى الصحن الشريف وأراد الإمام أن يضع رجله داخل الصحن التفت إليّ وقال: لا تنسَ غداً الساعة التاسعة تذهب إلى الشوشتري المشلول.

فسجّلتُ هذا الأمر في دفتر ملاحظاتي لكي لا أنسى. وكانت عادتي أن آتي إلى بيت الإمام الساعة الثامنة صباحاً، ولكن في ذلك اليوم أتيت الساعة السابعة والنصف.

وعندما وقع نظري على شارع بيت الإمام رأيته يتموّج بالعلماء وكذلك داخل البيت فقد كان مملوءاً بالطلبة فأوجست خيفة في نفسي، ماذا حدث؟

فتقدّم نحوي أحد العلماء وقال: فرقاني هل يأخذون جنازة السيّد مصطفى إلى كربلاء؟

فانهارت أوصالي، وعلمت بأنّ حادثاً وقع لابن الإمام فأجبته: لعلّهم يأخذونها إلى كربلاء.

كنت لا أدري ولكن رأيت الطلبة يبكون، فتقدّمت حتّى وصلت إلى الباب فرأيت السيّد أحمد الخميني واقفاً عند الباب حاسر الرأس، يجلس تارة ويقوم، فتوضأ الجميع وامسكوا القرآن يتلون آياته الكريمة، ونحن جئنا وفرشنا ساحة البيت وجاء أكثر علماء النجف ليقدّموا التعازي للإمام، وامتلأ البيت أسفله وأعلاه والكلّ يبكي.

وفي هذه اللحظات انتقل ذهني إلى الساعة حيث كانت تشير إلى التاسعة، فقلتُ في نفسي عجباً هل أستطيع أن أقول للإمام موضوع الشوشتري الآن، ثمّ قرّرت أنّه ليس من الصواب أن أتعرّض لهذا الموضوع بعد الذي حدث. وكان الإمام جالساً في الساحة يستقبل 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

64

الدرس التاسع: البلاء

 القادم والذاهب. وفجأة نظر إليّ الإمام!


فتساءلت عند نفسي: ماذا حدث؟

تهيّأت وسألته: تفضّلوا مولانا ماذا تأمرون؟

أشار إليّ: تعال، فتقدّمت قليلاً وانحنيتُ برأسي قريباً منه.

فقال لي: أليس الآن الساعة التاسعة والمقرّر أن تذكّرني حول المساعدة لذلك الشخص الذي تكلّم معي الشيخ الخطيب بصدده؟

فضربت بيدي على وجهي بالرغم من أنّي صمّمت أن أتجلّد أمام الإمام ولا أبكي حتّى لا يتأذّى، ولكن هنا لم أستطع السيطرة على نفسي فقلت له: بهذه الظروف؟

فقال لي: تعال اتبعني إلى الغرفة، فذهب من بين الحاضرين إلى الغرفة وأخرج مبلغاً من المال ووضعه في ظرف ولم يُعلم أحداً بالموضوع، ثمّ ألصق الظرف وقال: الآن تذهب بهذه المساعدة إلى الشيخ الشوشتري وتتفقّد أحواله نيابةً عنّي.

ولكنّي مع ذلك قرّرت في نفسي - بما أنّ هذا اليوم ضيوفنا كثيرون والإمام لا يذهب ليصلّي في المسجد- أن أذهب إلى الشيخ في وقت آخر. ولكن بعد خمس دقائق قال لي الإمام: لماذا لم تذهب؟ اذهب الآن!

ذهبت إلى بيت الشيخ الشوشتري، وفتحتْ لي زوجته الباب فقلتُ لها أتيت من بيت الإمام الخميني قدس سره لكي أتفقّد أحوال الشيخ بالنيابة عن الإمام.

فقالت زوجة الشيخ: في هذا اليوم الإمام يتفقّد أحوالنا!؟ إنّني عندما سمعت بوفاة ولده السيّد مصطفى قلت سوف لن يأتينا أحد من جانبه إلّا بعد سنة واحدة.

وهكذا لمّا رجعت سألني الإمام قدس سره عن الشيخ الشوشتري واطمأنّ على حاله، عندها نهض وتوضّأ وقال: أريد أن أذهب إلى المسجد، فأوعزت إلى أحدهم بأن يذهب ويهيّء المسجد، وعندما ذهبنا إلى المسجد وعلم الناس بأنّ الإمام جاء للصلاة اجتمعوا عند باب المسجد يبكون وينظرون إلى الإمام ويقول بعضهم: عجباً الخميني لا يبكي.

كتاب قصص وخواطر، عبد العظيم مهتدي البحرانيّ، بتصرّف.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

65

الدرس العاشر: الجبر والتفويض

 الدرس العاشر: الجبر والتفويض



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يذكر عقيدة الجبر ويبيِّن العوامل السياسية والنفسية والاجتماعية التي أدّت إلى تعزيزها.
2- يذكر عقيدة التفويض ويستدل على تنافيها مع العدل الإلهي.
3- يشرح النظرية القرآنية حول عقيدتي الجبر والتفويض.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

66

الدرس العاشر: الجبر والتفويض

 تمهيد

من المسائل التي دار الجدل حولها، واختلفت الآراء والمذاهب فيها بين إفراط وتفريط، وتفرّعت عن مبحث العدل الإلهي هي المسألة التي ترتبط بأفعال الإنسان، من حيث كونه مختاراً في أفعاله أو مجبراً عليها ولا خيار للإنسان فيها، وهي المسألة المعروفة بـ "الجبر والتفويض" أو "الجبر والاختيار".

وبسبب ارتباط هذه المسألة بالعدل الإلهي، بُحثت بعد مبحث العدل في الكتب العقائدية.

عقيدة الجبر والعدل الإلهي
يرى الجبريّون أنّ الإنسان في أعماله وأقواله وسلوكه ليس مختاراً، وأنّ حركات أعضائه أشبه بالحركات الجبرية في أقسام جهاز من الأجهزة الآلية.

هذه الفكرة تثير في الذهن هذا السؤال: ترى كيف تنسجم هذه الفكرة مع الاعتقاد بالعدل الإلهي؟

فلا يمكن القول بأنّ الله تعالى يجبر إنساناً على القيام بعمل، ثمّ يعاقبه على ما فعل. ليس هذا من المنطق في شيء!

وبناءً على ذلك، إذا قبلنا بالمدرسة الجبرية، لا يبقى أيّ معنى للقول بوجود "ثواب" و"عقاب" و"جنّة" و"نار"، كما لا يكون هناك مكان لمفاهيم مثل: صحيفة الأعمال، والسؤال، والحساب الإلهي، وما جاء في القرآن من ذمّ المسيئين والثناء على المحسنين، وذلك لأنّ رأي الجبريّين يقول:

"لا المحسن كان مختاراً عندما أحسن، ولا المسيء كان مختاراً عندما أساء".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

67

الدرس العاشر: الجبر والتفويض

 إضافة إلى أنّنا عند أوّل اتصال لنا بالدين نواجه التكليف والمسؤولية. وهل يمكن أنْ نكلّف شخصاً بأيّ تكليف، ونحمّله مسؤولية ذلك إذا لم يكن له الخيار فيما يفعل؟

 

 
أيجوز أنْ نأمر شخصاً في أصابعه ارتعاش لا إراديّ بأنْ لا يفعل ذلك؟ أم هل يجوز أنْ نطلب من شخص يسقط من مكان شاهق أنْ يتوقّف عن السقوط ومع ذلك يعاقَب لأنّه لم يتوقّف عن الارتعاش أو السقوط؟
 
ولهذا وصف أمير المؤمنين علي عليه السلام قول الجبريين بقوله: "... تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان, وخصماء الرحمن, وحزب الشيطان"1.
 
العوامل التي عزَّزت فكرة الجبر
إذا كانت فكرة الجبر واضحة البطلان، ومخالفة للعدل الإلهي، فكيف نشأت هذه الفكرة وما هي العوامل التي عزَّزتها؟
 
في الحقيقة إنّ مسألة الجبر قد أُسيء استعمالها إساءة بالغة على امتداد التاريخ، واستطاعت عوامل ثانوية كثيرة أنْ تقوي جانب الجبر وإنكار حريّة إرادة الإنسان، ومن تلك العوامل:
أ- العامل السياسي:
كثير من الحكَّام المتسلّطين، ولأجل استمرار حكمهم غير المشروع، كانوا يتعهّدون فكرة الجبرية ويشيعونها، قائلين: إنّنا لا نملك حريّة الاختيار، وإنّ يد القدر وجبرية التاريخ تمسك بمصائرنا، فإذا كان بعضٌ أميراً، وبعض آخر أسيراً، فذاك حكم القضاء والقدر والتاريخ.
 
ولا يخفى ما لهذا الاتجّاه في التفكير من تأثير في تخدير طبقات الشعب، وفي تأييد استمرار السياسات الاستعمارية، بينما الحقيقة هي أنّ مصائرنا، عقلاً وشرعاً، في أيدينا، وأنّ القضاء والقدر بمعنى الجبر وسلب الإرادة لا وجود له، فالقضاء والقدر الإلهي قد تعيّن بحسب حركتنا وإرادتنا وإيماننا وسعينا.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص 155.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

68

الدرس العاشر: الجبر والتفويض

 ب- العامل النفسي:

هناك أشخاص ضعفاء وكسالى غالباً ما يكون الإخفاق نصيبهم في الحياة، ولكنّهم لا يريدون الاعتراف بهذه الحقيقة المرَّة، وهي أنّ كسلهم أو أخطاءهم هي السبب في إخفاقهم، لذلك، ولكي يُبرِّئوا أنفسهم، يتمسّكون بأذيال الجبرية، ويضعون أوزارهم على عاتق مصيرهم الإجباري، لعلّهم بهذا يعثرون على وسيلة تمنحهم شيئاً من الهدوء الكاذب، فيعتذرون قائلين: ماذا نفعل؟ لقد حيك بساط حظّنا منذ اليوم الأوّل باللون الأسود، وليس بمقدورنا أن نحيل سواده بياضاً.

ج- العامل الاجتماعي:
يحبّ بعض الناس أنْ يكونوا أحراراً في التمتّع، وإشباع أهوائهم، وارتكاب ما تشاء لهم رغباتهم الحيوانية أنْ يرتكبوا من الجرائم والآثام، وفي الوقت نفسه يقنعون أنفسهم بأنّهم ليسوا مذنبين، ويخدعون المجتمع بأنّهم أبرياء. وهنا يلجأون إلى عقيدة الجبرية، فيبرّرون جرائمهم بأنّهم في أعمالهم ليسوا مخيَّرين!

ولكنّنا، بالطبع، نعلم أنّ كلّ هذا كذب محض، بل إنّ الذين يتذرّعون بهذا العذر يؤمنون بأنّه واهٍ ولا أساس له، إلَّا أنّ انغماسهم في اللذائذ الزائلة لا يسمح لهم بإعلان هذه الحقيقة.

عقيدة التفويض
بإزاء الاعتقاد بالجبر، الذي يقع في جانب الإفراط، هنالك اعتقاد آخر باسم التفويض، ويقع في جانب التفريط.

يرى الذين يعتقدون بالتفويض أنّ الله قد خلقنا وترك كلّ شيء بأيدينا، ولا دخل له في أعمالنا وأفعالنا، وبناءً على ذلك تكون لنا الحريّة كاملة والاستقلال التامّ فيما نفعل بلا منازع!

ولا شكّ في أنّ هذا لا يتّفق ومبدأ التوحيد، إذ إنّ التوحيد قد علَّمنا أن كلّ شيء ملك لله، وما من شيء يخرج عن نطاق حكمه، بما في ذلك أعمالنا التي نقوم بها مخيَّرين وبملء حريّة إرادتنا، وإلَّا فذلك شرك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

69

الدرس العاشر: الجبر والتفويض

 وبعبارة أوضح: ليس بالإمكان القول بوجود إلهين، أحدهما هو الإله الكبير، خالق الكون، والآخر الإله الصغير، أيّ الإنسان الذي يعمل مستقلاً وبكلّ حريّة بحيث إنّ الله الكبير لا يستطيع أنْ يتدخل في أعماله!

 
هذا، بالطبع، شرك وثنائية في العبادة، أو أنّه تعدّد في المعبود، فعلينا إذاً، أنْ نعتبر الإنسان صاحب اختيار فيما يفعل لكي لا يتنافى مع العدل، وفي الوقت نفسه نؤمن بأنّ الله حاكم عليه وعلى أعماله لكي لا يتنافى مع التوحيد.
 
إذاً، فعقيدة الجبر تتنافى مع العدل الإلهي، لأنّها تؤدّي إلى نسبة الظلم لله تعالى، وعقيدة التفويض تتنافى مع التوحيد.
 
المدرسة الوسط: لا جبر ولا تفويض
إنّ العقيدة الصحيحة لا بدّ من أنْ تنسجم مع الإيمان بعدالة الله تعالى، والإيمان بتوحيده وشمول حكمه عالم الوجود كلّه، وهذه العقيدة هي التي بيَّنها أهل بيت النبوّة عليهم السلام بعنوان "الأمر بين الأمرين"، فعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "لا جبر ولا تفويض إنّما أمر بين أمرين"1.
 
ولكي نفهم هذه العقيدة نضرب المثال التالي:
افرضْ أنك تقود قطاراً كهربائياً متّصلاً من خلال سلك كهربائي بمحطة تمدّه بالكهرباء وباستمرار، بحيث لو انقطع التيار لحظة واحدة لتوقّف القطار فوراً.
 
بديهي أنّك قادر على أنْ تتوقّف أثناء الطريق حيثما تشاء، ولك أنْ تزيد من سرعة القطار أو أنْ تُنقص منها. ولكن وعلى الرغم من حريّتك هذه، فإنّ الشخص القائم على إدارة محطّة توليد الكهرباء قادر في أيّة لحظة أن يوقف حركتك، وذلك لأنّ قدرتك كلّها تعتمد على تلك الطاقة الكهربائية التي يتحكّم فيها شخص غيرك.
 
إذا دقّقنا النظر في هذا المثال، نجد أنّه على الرغم من حريّة سائق القطار في الحركة والسكون، إلَّا أنّه في نفس الوقت يقع في قبضة شخص آخر، وأنّ هذين الأمرين لا يتعارضان.
 
نعم لقد وهبنا الله القدرة والقوّة، ومنحنا العقل والذكاء، وهي طاقات لا ينقطع وصولها إلينا من الله تعالى، ولو توقّف فيض لطف الله عنّا لحظة واحدة وانفصمت رابطتنا به، لقُضيَ علينا قضاءً تامّاً.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص160.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

70

الدرس العاشر: الجبر والتفويض

 إنّنا إذا كنّا قادرين على إنجاز عمل، فقدرتنا هي التي يهبها الله تعالى لنا، وما زالت تصل إلينا باستمرار غير منقطع، بل إنّ حريّة إرادتنا أيضاً من عنده، أيّ أنّه هو الذي أرادنا أنْ نكون أحراراً في إرادتنا، لكي نواصل مسيرتنا نحو التكامل بهذه الهبات الإلهيّة.


بناءً على ذلك، فإنّنا في الوقت الذي نملك فيه حريّة إرادتنا واختيارنا، نظلّ تحت سيطرة القدرة الإلهيّة، ولا يمكن أنْ نخرج من نطاق حكمه، وإنّنا في لحظة القدرة والقوّة نكون مرتبطين به تعالى، ولا يمكن أنْ نكون شيئاً بدونه، هذا هو معنى "الأمر بين الأمرين". إذ إنّنا بهذا لا نكون قد وضعنا أحداً على قدم المساواة مع الله تعالى ليكون شريكاً له، ولا نكون قد اعتبرنا عباد الله مجبرين في أعمالهم لنقول إنّهم مظلومون، فتأمّل!

لقد تعلّمنا هذا الدرس من مدرسة أهل البيت عليهم السلام، فعندما كان الناس يسألونهم عمّا إذا كان هناك سبيل بين "الجبر والتفويض" كانوا يقولون: نعم، أرحب ممّا بين السماء والأرض.

القرآن ومسألة الجبر والتفويض
يؤكّد القرآن المجيد في هذه المسألة على حريّة إرادة الإنسان بجلاء ووضوح في المئات من الآيات التي تصرّح بحريّة إرادة الإنسان.

أـ جميع الآيات التي تتناول الأوامر والنواهي والفرائض، تدلّ على حريّة إرادة الإنسان في اختيار سبيله، إذ لو كان الإنسان مجبراً في أعماله لما كان ثمّة معنى في الأمر والنهي.

ب ـ جميع الآيات التي تذمّ المسيئين وتمدح الصالحين دليل على حريّة الإرادة، وإلَّا فلا معنى في الذمّ والمدح إذا كان الإنسان مجبراً.

ج ـ جميع الآيات التي تتحدّث عن الحساب يوم القيامة، ومحاكمة الناس في تلك المحكمة، ثمّ الحكم بالعقاب أو بالثواب، أيّ النار والجنّة، إنّ هي إلَّا دليل على حريّة الإنسان في ما يعمل، لأنّه بالفرض والإجبار لا يكون هناك معنى للمحاسبة والمحاكمة، ويكون إنزال العقاب بالمسيئين ظلماً محضاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

71

الدرس العاشر: الجبر والتفويض

 د- جميع الآيات التي تدور حول: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾1.

 
﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾2.
 
تدلّ دلالة واضحة على حريّة إرادة الإنسان.
 
هـ ـ ثمة آيات مثل: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾3.
 
واضحة الدلالة على هذا الأمر.
 
إلَّا أنّ هناك آيات في القرآن المجيد تُعتبر دليلاً على "الأمر بين الأمرين"، غير أنّ بعض الجهلاء يخطئون فهمها فيرونها دليلاً على "الجبر"، منها: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ﴾4.
 
من الواضح أنّ هذه الآية وأمثالها لا تعني تجريد الإنسان من حريّة الاختيار، بل تريد أنْ تؤكّد للإنسان أنّه في الوقت الذي يكون فيه تامّ الحريّة والاختيار، لا يخرج عن أمر الله.



1 سورة المدثر، الآية 38.
2 سورة الطور، الآية 21.
3 سورة الإنسان، الآية 3.
4 سورة الإنسان، الآية30.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

72

الدرس العاشر: الجبر والتفويض

 للمطالعة

قصّة بين جبريّ ومفوِّض
يُروى أنَّ "غيلان الدمشقي"، الذي كان تابعاً لعقيدة الاختيار، جاء يوماً إلى "ربيعة الرأي" الذي كان منكراً للاختيار ووقف على رأسه، وقال: "أنت الذي يزعم أنَّ الله يُحبّ أنْ يُعصى" أيّ أنّه يلزم من عقيدتك الجبريّة أنْ تكون معاصي الخلق بإرادة الله، والله نفسه يريد ويحبّ من الخلق أنْ يعصوه. وبدون أنْ يتّجه ربيعة الرأي إلى الدفاع عن عقيدته اتّجه إلى مهاجمة نقطة الضعف التي في عقيدة غيلان الدمشقي وقال: "أنت الذي يزعم أنّ الله يعصى قهراً"، أيّ أنَّ الله يريد شيئاً والإنسان يريد شيئاً آخر ثمّ تصبح إرادة الله مقهورة وتابعة لإرادة الإنسان.
 
 
الشهيد مطهري رحمه الله، العدل الإلهي، ص31. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

73

الدرس الحادي عشر: ضرورة النبوة

 الدرس الحادي عشر: ضرورة النبوة



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشرح ضرورة وجود الأنبياء لتكامل البشر وتنظيم حياتهم الاجتماعية والفردية.
2- يبيّن الشروط الثلاثة التي ينبغي توفرها في واضع النظام.
3- يستنتج أن الله عزَّ وجلَّ وحده جامعٌ لشرائط وضع النظام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

74

الدرس الحادي عشر: ضرورة النبوة

 تمهيد

اقتضت حكمة الله وعدله أنْ يُخلق الإنسان لهدف محدّد، وهذا الهدف لا يمكن الوصول إليه إلّا من خلال معرفة طريقه ـ كما هو الحال مع كلّ هدف ـ ، فلو كان الإنسان قادراً على معرفة الطريق بنفسه من خلال الإمكانات الذاتية التي منحه الله إيّاها فلا تُعتبر النبوّة عندئذ ضرورية، بخلاف ما لو كان الإنسان غير قادر على ذلك فلا بدّ (بمقتضى الحكمة الإلهيّة) من وجود وسيلة تدلّه وترشده إلى الطريق الموصل إلى الهدف، وليست هذه الوسيلة إلّا النبوّة.

فهل يمكن للإنسان أنْ يكتشف طريق الكمال بنفسه؟
والجواب: إنّ للحياة الإنسانية بُعدين أساسين:
1ـ البعد الدنيويّ الاجتماعيّ.
2ـ البعد الأخرويّ الفرديّ.

والإنسان يحتاج إلى تنظيم هذين البعدين لكي يصل إلى سعادة الدنيا والآخرة، ولا بدّ لمن يضع القانون والنظام من أنْ تتوفّر فيه الشروط التالية:
أـ معرفة الإنسان أيّ معرفة المقنّن له.
ب ـ معرفة أصول السعادة.
ج ـ النزاهة عن الهوى والخوف.

وإذا انتفى واحد من الشروط الثلاثة المذكورة، انتفت إمكانية التقنين والتنظيم للإنسان من قبل المقنّن. فهل تجتمع هذه الشروط في موجود ما؟ ومن هو؟.

بيان الشرطين: الأوّل والثاني
لقد ثبت حتّى الآن أنّ العلم لم يستطع إلى اليوم أنْ يعرف الإنسان حقيقة المعرفة وبكلّ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

75

الدرس الحادي عشر: ضرورة النبوة

 أبعاده البدنيّة والروحيّة الدنيويّة والأخرويّة، الفرديّة والاجتماعيّة, وهكذا يكتشف أنّ الشرط الأوّل غير متحقّق عند البشر، وبما أنّ "معرفة الإنسان" هي أساس معرفة أصول سعادته ومعرفة الإنسان غير حاصلة فعلاً، بناءً على هذا نصل إلى النتيجة التالية وهي: أنّ العلم ليس واجداً للشرط الأوّل والثاني لتدوين القانون، وأنّ كلّ ما طرحه حتّى الآن من قوانين الحياة لا أساس له وليس منطقيّاً، ومقنّنو البشر هم كالأطباء الذين يضعون الأدوية إلى جانبهم، ويعطون المريض منها دون تشخيص مرضه، حتّى دون أنْ يسألوه عن مكان ألمه.

 
وبهذا يظهر فقدان البشر للشرطين الأوّلين وأمّا الثالث:
 
نزاهة الفكر
فلو فُرض أنّ العلم استطاع يوماً ما كشف كلّ أسرار وجود الإنسان، وحلّ هذا اللغز الصعب، وأدرك إضافة إلى ذلك ما يحتاجه هذا الموجود المعقّد في سيره التكامليّ، مع ذلك أيضاً لا يستطيع أن يضع قانوناً دون أن يدخل فيه آراءه ونظريّاته الخاصّة، وعواطفه الشخصيّة.
 
يقول "منتسكيو" عالم الحقوق الفرنسي الكبير في هذا المجال:
"ليس هناك مقنّن ليس له رأي خاصّ في القانون، والسبب هو أنّ كلّ مقنّن لديه عواطف وأفكار خاصّة ويريد حال وضع القانون أنْ يجعل مكاناً لنظريّاته".
 
"المقصود هو أنّ القانون يصطدم دائماً بعواطف ومشاعر المقنّنين، وقد يقع مطلقاً وبشكل كامل تحت تأثير عواطف ونظريّات المقنّن الخاصّة".
 
ويقع تحت تأثير حاجات المقنن الخاصّة أيضاًً ويدلّ على كلّ ما ذكرناه حصول التغيّر الدائم في القوانين الوضعية بين إلغاء لقانون وتعديل لآخر وهكذا...
 
إذاً، ففكر الإنسان وأقصى ما يصل إليه من علم ومعرفة، لا يمكن أنْ ينفع في هداية الإنسان إلى الكمال.
 
وهنا يأتي السؤال: من هو الواجد لشرائط التقنين؟
 
والجواب واضح، وهو أنّ الواجد لهذه الشرائط هو خالق الكون وخالق الإنسان فقط، لأنّه وحده العالم بتمام أسرار وحاجات وجود الإنسان، ولا يمكن تصوّر أيّ حاجة فيه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

76

الدرس الحادي عشر: ضرورة النبوة

 أمّا في مجال الشرط الأوّل "معرفة الإنسان": فبدليل أنّ الله هو خالق وصانع الإنسان، والصانع يعرف مصنوعه أكثر من أيّ شخص آخر، فهو أفضل عارف بالإنسان.

 
يقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾1.
 
﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾2.
 
وبالنسبة للشرط الثاني "معرفة أصول السعادة": فالله تعالى يعلم أصول سعادة الإنسان بدليل أنّه هو العالم المطلق: ﴿أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾3.
 
وفيما يرتبط بالشرط الثالث "النزاهة":
فإنّه لا يمكن وجود أيّ نوع من الحاجة عند الله، فالهوى والخوف لا معنى لهما بالنسبة إليه، ولا يمكن أن يلاحظ منفعة في وضع القانون كما قال سبحانه: ﴿إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾4.
 
التقنين منحصر بالله عزّ وجلّ
بما أنّ الله سبحانه هو الواجد وحده لشرائط التقنين فإذاً، يجب انحصار حقّ التقنين بالله تعالى، وهذا ما يؤكّده القرآن الكريم، ويسمّي من لم يحكم طبقاً لقانون الله باسم "الكافر" و"الظالم" و"الفاسق"، فيقول في مجال انحصار التقنين بالله عزّ وجلّ: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ﴾5.
 
وبالنسبة لمن لا يحكم طبق قانون الله: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾6.



1 سورة ق، الآية 16.
2 سورة الملك، الآية 14.
3 سورة البقرة، الآية 231. وذكرت هذه الآية في سورأخرى.
4 سورة إبراهيم، الآية 8.
5 سورة الأنعام، الآية 57.
6 سورة المائدة، الآية 44.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

77

الدرس الحادي عشر: ضرورة النبوة

 ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾1. ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾2.

 
وإذا كان التقنين منحصراً بالله تعالى، فلا بدّ لله تعالى من أنْ يبيّن للناس القوانين والأحكام التي يوصل تطبيقها إلى الكمال الإنسانيّ، وهذا التبيين الإلهي لا بدّ من أن يحصل من خلال بعض الناس المميَّزين الذين يُطلق عليهم مصطلح الأنبياء. من هنا نعرف ضرورة النبوّة. ولا بدّيّة وجود أنبياء يوصلون القوانين الإلهيّة للناس.
 
الوحي والنبوّة على مدى التاريخ
لذلك كان تاريخ الإنسان بنظر القرآن متّحداً مع تاريخ الوحي والنبوّة، فلقد كان الوحي موجوداً كبرنامج تكامل للإنسان منذ ظهور الإنسان، يقول الله تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾3.
 
ويذكر الإمام علي عليه السلام هذه الحقيقة أيضاً في موارد متعدّدة فيقول: "ولم يُخلِ الله سبحانه خلقه من نبيّ مرسَل، أو كتاب منزَل، أو حجّة لازمة أو محجّة قائمة"4.
 
"ولم يخلهم بعد أن قبضه ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيته، ويصل بينهم وبين معرفته، بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخِيَرَةِ من أنبيائه..."5.
 
وفي كلام آخر له عليه السلام: "كلّما مضى منهم سلف، قام منهم بدين الله خلف حتّى أفضت كرامة الله سبحانه وتعالى إلى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم..."6.
 
لزوم الاعتقاد بجميع الأنبياء
إنّ الاعتقاد بنبوّة ورسالة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم أمرٌ لا بدّ منه ولكنّه غير كافٍ وحده في الاعتقاد بأصل النبوّة، بل لا بدّ من الاعتقاد بجميع الأنبياء وهو أمر ضروريّ، يقول تعالى: 



1 سورة المائدة، الآية 45.
2 سورة المائدة، الآية 47.
3 سورة فاطر، الآية 24.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج11، ص61.
5 الشريف الرضي، نهج البلاغة،خطب الإمام علي عليه السلام، ج1، ص 177.
6 م. ن. ج1، ص 185.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

78

الدرس الحادي عشر: ضرورة النبوة

 ﴿قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ﴾1.

 
ويرى الله سبحانه أنّ إنكار أحد الأنبياء هو إنكار لجميع الأنبياء، وأن المنكر كافر، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾2.
 
ويقول الإمام الصادق عليه السلام: "اعلموا أنّه لو أنكر رجل عيسى بن مريم عليه السلام وأقرّ بمن سواه من الرسل لم يؤمن"3.



1 سورة البقرة، الآية 136.
2 سورة النساء، الآيتان 150و151.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 23، ص96.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

79

الدرس الحادي عشر: ضرورة النبوة

 للمطالعة

لقد بُعثَ الأنبياء من أجل تنمية معنويات الناس واستعداداتهم، حتّى نفهم من خلال تلك الاستعدادات بأنّنا فقراء محتاجون، وإضافة إلى ذلك إنقاذ الناس، وإنقاذ الضعفاء من نير الاستكبار، وكان على الأنبياء منذ البداية هاتان الوظيفتان، الوظيفة المعنوية لإنقاذ الناس من أسر النفس، ومن أسر الأنا (لأنّ الذات شيطان كبير) وإنقاذ الناس والضعفاء من سلطة الظالمين.

هاتان الوظيفتان هما وظيفة الأنبياء، وعندما يلاحظ الإنسان النبيّ موسى، والنبيّ إبراهيم وما نُقل عنهما في القرآن، فإنّه يرى بأنّهما قاما بهاتين الوظيفتين: الأولى دعوة الناس إلى التوحيد، والأخرى: إنقاذ المستضعفين من الظلم.

الإمام الخميني ق، صحيفة النور، ج18، ص32. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

80

الدرس الثاني عشر: طرق معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

 الدرس الثاني عشر: طرق معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم




أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يستدلّ على ثبوت النبوة من خلال طريقي: تصديق النبي السابق والاعجاز.
2- يبيِّن عناصر الاعجاز في القرآن الكريم بدءً من بلاغته ووصولاً إلى إضاءته عن الغيب وأسرار الكون.
3- يستنتج نبوة النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخلود رسالته.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

81

الدرس الثاني عشر: طرق معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

 تمهيد

بعد إثبات ضرورة النبوّة تبقى الإجابة على هذين السؤلين:
أوّلاً: كيف تثبت نبوّة النبيّ؟
وثانياً: كيف لنا أن نفرّق بين مدّعي النبوّة كذباً والنبيّ الحقيقيّ الصادق؟
 
أمّا الجواب عن السؤال الأوّل فهناك طرق عديدة يمكن من خلالها إثبات نبوّة الأنبياء.
 
الطريق الأوّل: تصديق النبيّ السابق
إنّ تصديق النبيّ السابق للنبيّ اللاحقِ هو أحد الطرق لإثبات دعوى النبوّة وذلك لأنّ الفرض هو أنّ نبوّة النبيّ السابق قد ثبتت بالأدلّة القاطعة، ولهذا من الطبيعي أنْ يكون كلامُه سنداً قاطعاً للنبوّة اللاحقة، وهذا ما حدث بالنسبة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حيث يستفادُ من بعض الآيات القرآنيّة أنّ السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام بشّر به: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾1.
 
ولم يكذّبه النصارى في تلك الأيّام
كما وأنَّ من الطريف أنْ نعلم أنّ الإنجيل رغم تعرُّضه للتحريف منذ قرون قد جاء في إحدى نُسخِهِ وهو إنجيل يوحنا (الإصحاح 14 , 15 , 16) تنبّؤٌ بمجيء شخصٍ بعد السيد المسيح يُدعى "فارقليطا" (أي محمّد بالسريانيّة)، ويمكن للمحققين الرجوع إلى ذلك، للوقوف على الحقيقة.



1 سورة الصف، الآية 6.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

82

الدرس الثاني عشر: طرق معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

 الطريق الثاني: الإعجاز

يتحقّق الإعجاز الذي يثبت النبوّة بأنْ يأتي مدَّعي النبوَّة بأمرٍ يتحدّى به المنكرين لنبوّته، ويشترط في الأمر الذي يُعَدُّ معجزة:
أـ أنْ يكون خارقاً للعادة.
ب ـ أنْ يتطابق مع دعواه.
ج ـ أنْ يعجز الآخرون عن الإتيان بمثله.
 
وقد قام الأنبياء السابقون بمجموعة من المعجزات كعصا موسى، وناقة صالح و... وكذلك فقد قام نبيّ الإسلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بعدّة معاجز، تحقّقت فيها العناصر السابقة للدلالة على نبوّته، من قبيل تسبيح الحصى في يده، ومخاطبة الشجرة التي انقلعت من جذورها وأتت إليه، وشقّ القمر إلى نصفين، لكنَّ المعجزة الأهمّ التي أتى بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والتي يتلاءم إعجازها مع كلّ عصر هي القرآن الكريم.
 
فإنّ نبيّ الإسلام أعلن عن نبوّته ورسالته بالإتيان بهذا الكتاب السَّماويّ، وتحدّى الناس به، ودعاهم إلى الإتيان بمثله إنّ استطاعوا، ولكن لم يستطع أحدٌ رغم هذا التحدِّي القرآنيّ القاطع أنْ يأتي بمثله في عصر النبوّة.
 
واليوم، وبعد مرور القرون العديدة، لا يزال القرآنُ يتحدّى الجميع ويقول: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾1.
 
وفي موضع آخر يقول وهو يتحدّى بأن يأتوا بأقلّ من ذلك: ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾2، وفي موضع آخر ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾3.
 
إنّنا نعلمُ أنّ أعداء الإسلام لم يألوا جُهداً طيلة خمسة عشر قرناً من بدء ظهور الإسلام في توجيه الضربات إليه، ولم يفتروا عن محاولة إلحاق الضرر بهذا الدين، والكيد له بمختلف ألوانِ الكيد، وحتّى أنّهم استخدموا سلاح اتّهامِ رسولِ الإسلام بالسّحر، والجنون، 



1 سورة الإسراء، الآية 88.
2 سورة هود، الآية 13.
3 سورة البقرة، الآية 23.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

83

الدرس الثاني عشر: طرق معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

 وما شابه ذلك، ولكنّهم لم يستطيعوا قطَّ مقابلة القرآن الكريم ومعارضته، فقد عجزوا عن الإتيانِ حتّى بآية قصيرة مثل آياته.

 
والعالَمُ اليوم مجهَّزٌ كذلك بكلّ أنواع الأفكار والآلات، ولكنّه عاجز عن مجابهة هذا التحدّي القرآنيّ القاطع، وهذا دليلٌ على أنّ القرآن الكريمَ فوق كلام البشر.
 
عناصر الإعجاز في القرآن الكريم
1- بلاغة القرآن:
ففي عصر نزول القرآن الكريم كان أوّلُ ما سَحَر عيونَ العرب، وحيّر أرباب البلاغة والفصاحة منهم، جمالُ كلمات القرآن، وعجيبُ تركيبه، وتفوّقُ بيانه، ويُعبَّر عن ذلك كلّه بالفصاحةِ والبلاغة.
 
إنّ هذه الخُصوصيّة كانت بارزةً ومشهودةً للعرب يومذاك بصورةٍ كاملةٍ، ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بتلاوة آيات الكتاب، مرّةً بعد أُخرى، وبدعوته المكرّرة إلى مقابلته والإتيان بمثله إنّ استطاعوا، يدفع عمالقة اللغة والأدب، وأبطال الشعر وروّاده، إلى الخضوع أمام القرآن، والرضوخ لعظمة الإسلام، والاعتراف بكون الكلام القرآنيّ فوق كلام البشر.
 
فها هو "الوليد بن المغيرة" أحد كبار الشعراء والبلغاء في قريش يقول بعد أن سمع آيات القرآن الكريم، وقد تلاها عليه رسولُ الإسلام، وطُلب منه أن يبدي رأيه فيها: "ووالله لِقَوله الّذي يقولُ لحلاوةً، وإنّ عليه لطَلاوةً، وإنّه لَمُثْمرٌ أعلاهُ، مُغدِقٌ أسْفَلُهُ، وإنّه لَيَعْلُو وما يُعلى"1.
 
وليس "الوليدُ بن المغيرة" هو الشخص الوحيدُ الذي يحني رأسه إجلالاً لجمال القرآن الظاهري، ولجلاله المعنوي، بل ثمّة بلغاء غيره من العرب مثل: "عتبة بن ربيعة" و"الطفيل بن عمرو" أبدوا كذلك عجزهم تجاه القرآن، واعترفُوا بإعجازه الأدبيّ.



1 الشيخ السبحاني، جعفر، العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام ص 146.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

 


84

الدرس الثاني عشر: طرق معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

 2- أمّيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:

فإنّ الآتي بالقرآن الكريم، كان شخصاً أميّاً لم يدرُس، ولم يتلقَّ تعليماً قبل النبوّة، فلا هو دخل مدرسة أو كتّاباً، ولا هو تتلمذ على أحد، أو قرأ كتاباً كما قال تعالى : ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾1.
 
3- عدم الاختلاف فيه:
فقد تُلي القرآنُ الكريم على الناس طيلةَ ثلاثٍ وعشرينَ سنة، وفي ظروف مختلفة (في الصلح والحرب، في السفر والحضر، و...) بواسطة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقتضي طبيعة هذا النمط من التحدُّث والتكلّم، أنْ يقع في كلام المتكلّم نوعٌ من الاختلاف والتعدُّديّة في الأُسلوب والخصوصيّات البيانيّة، فطالما كان يقع المؤلّفون الذين كانوا يُؤلّفُونَ كُتُبَهُمْ في ظُروفٍ عاديةٍ متماثلةٍ - رغم مراعاة قواعد التأليف والكتابة وأُصُولها - في الاختلاف والاضطراب في الكلام، فكيف بالذي يُلقي كلاماً بالتدريج، وفي أوضاع متباينة وأحوال مختلفة تتراوح بين الشدّة والرخاء، والحزن والفرح، والقتال والسلام، والأمن والخطر؟!
 
يقول القرآن نفسُهُ عن هذا الجانب من الإعجاز: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾2.
 
4- الإخبار بالغيب:
فقد أخبر القرآن الكريم عن طائفة من الحوادث والوقائع المستقبلية إخباراً قطعياً، وقد وقعت تلك الوقائع والحوادث فيما بعد بصورةٍ دقيقةٍ، ولهذا النمط من الإخبارات نماذج عديدة، إلّا أنّنا نشير إلى واحدة منها هنا على سبيل المثال:
 
يوم تغلّبَ الساسانيون عُبّادُ النار على الرُّوم الموحّدين تفاءَلَ المشركون العرب بهذا الحدث وقالوا: سننتصر نحن على موحِّدي الجزيرة العربية (المسلمين) أيضاً، وعند ذاك أخبر القرآنُ الكريمُ بانتصار الرُّوم على الفُرس: 



1 سورة العنكبوت، الآية 48.
2 سورة النساء، الآية 82.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

85

الدرس الثاني عشر: طرق معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

 ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾1.

 
ولم تمض بضع سنوات إلّا وتحقّقت النبوءةُ المذكورة، وانتصر كلا الفريقين (الرّوم المسيحيّون ومسلمو الجزيرة العربية)على عدوّيهما (الساسانيين ومشركي قريش).
 
وقد تحدّث القرآن الكريم في ذيل الآية عن سرور المؤمنين إذ قال: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
 
لأنّ كلا الانتصارين حدث في وقتٍ واحدٍ.
 
5- إخباره عن أسرار الكون:
فقد بيّن القرآن الكريم في آيات مختلفة ومتعدّدة وفي مناسبات متنوّعة أسرار عالم الخلق التي لم يكُنْ لدى البشر أيُّ علمٍ ولا إلمام بها.
 
ولا شكّّ أنّ الكشف عن هذه الأسرار لشخصٍ لم يتلقَّ تعليماً، ولم يدرس، وذلك في مجتمع جاهليّ لا يعرف شيئاً أصلاً، لا يمكن إلّا عن طريق الوحي.
 
إنّ الكشف عن قانون الجاذبية الذي يفسَّر على أساسه قيامُ صرح الكون يُعدّ من مفاخر العِلم الحديث.
 
ولقد كَشَفَ القرآنُ الكريمُ القناعَ عن هذا القانون في عبارةٍ قصيرةٍ إذ قال: ﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾2.
 
وإنّ الكشف عن قانون الزوجية العامّة هو الآخر يُعدّ من مكتسبات العِلم الحديث، وقد تحدّث عنه القرآن الكريم في عصرٍ لم يكنِ فيه البشر يعرفون عنه أيّ شيء مطلقاً إذ قال: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾3.
 
هذا وثمّة نماذج أخرى في هذا المجال جاء ذكرُها في كتب التفسير والعقيدة، أو دوائر المعارف.



1 سورة الروم، الآيات 2 ـ 4.
2 سورة الرعد، الآية 2.
3 سورة الذاريات، الآية 49.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

86

الدرس الثاني عشر: طرق معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

 للمطالعة

النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن
"لم يشهد العالم منذ بدء الخلق ولن يشهد حتّى نهايته بركة مخلوق كبركة وجود الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم".

"النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو ظلُّ الله، وهو لم يأتِ بشيء من عند نفسه، إنْ هو إلَّا وحيٌ يوحى".

"إنّ القرآن مائدة افترشها الشرق والغرب منذ نزول الوحي، وحتّى يوم القيامة، فهو الكتاب الذي ينهل منه العامّي والعالم والفيلسوف والعارف والفقيه على اختلاف مشاربهم".

"إنّ للقرآن الكريم حقّاً علينا وعلى جميع البشر، لذا فهو يستحقّ التضحية".


الإمام الخميني قدس سره، الكلمات القصار، ص20ـ 21ـ 50.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
108

87

الدرس الثالث عشر: عصمة الأنبياء عليهم السلام

 الدرس الثالث عشر: عصمة الأنبياء عليهم السلام



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يحدّد معنى العصمة.
2- يستدل على عصمة الأنبياء عليهم السلام عن الخطأ في تلقي الوصي وتبليغه، والعصمة عن الوقوع في المعصية.
3- يشرح فلسفة الإعتصام بالله ويبرهن على عصمة الأنبياء والأئمة عليهم السلام منذ الولادة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

88

الدرس الثالث عشر: عصمة الأنبياء عليهم السلام

 تمهيد

"العصمة" هي إحدى أهمّ خصائص أنبياء الله تعالى، بل هي إحدى اللوازم التي لا تنفكّ عن النبوّة، وسوف نتعرّض في هذا البحث إلى المطالب التالية:
الأوّل: معنى العصمة.
الثاني: ضرورة عصمة الأنبياء.
الثالث: فلسفة العصمة.
 
1- معنى العصمة:
لفظ "العصمة" من مادة "عَصَمَ"، وفي اللغة بمعنى "المنع" و"الوقاية". قال تعالى: ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ﴾1.
 
وفي الاصطلاح: قوّة باطنية تمنع الإنسان من الخطأ مع قدرته على فعله.
 
وعندما يُطرح لفظ "العصمة" بالنسبة للأنبياء أو أوصيائهم في المباحث العقائدية، فالمقصود عدة أنواع من الوقاية يتمتّع بها الهداة المصطفَوْن من الله تعالى أهمّها نوعان هما:
أـ الوقاية من الخطأ في تلقّي الوحي وتبليغه.
ب ـ الوقاية من المعصية.
 
ونتحدّث هنا عن ضرورة هذين النوعين من العصمة.



1 سورة هود، الآية 43.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

89

الدرس الثالث عشر: عصمة الأنبياء عليهم السلام

 2- ضرورة عصمة الأنبياء عليهم السلام:

أ- العصمة عن الخطأ في تلقّي الوحي وتبليغه
لا بدّ وبالضرورة أنْ يكون الأنبياء الإلهيون مصانين من الخطأ في تلقّي "الوحي" وإبلاغه للناس، كي لا يشكّ الناس أنّه من الممكن أنْ يكون ما نقله هذا النبيّ باسم "الوحي" وكلام الله تعالى خطأ واشتباهاً.
 
دليل هذه الضرورة واضح، لأنّه لا تتحقّق فلسفة الوحي والتكامل في صورة عدم وجود الوقاية لأنّ الخطأ في تلقّي "الوحي" وتبليغه يستتبع قطعاً الانحراف عن سير التكامل، وعلى فرض عدم صدور خطأ عملياً، فعدم صيانة النبيّ عن الخطأ كافٍ في سلب ثقة الناس بالنبيّ والأخذ بكلامه، ولذلك يجب وبحكم العقل القطعيّ أن يصون الله تعالى رسله عن الخطأ في إبلاغ الوحي ويعصمهم.
 
ب- العصمة عن المعصية
يجب أنْ يكون أنبياء الله مصونين عن المعصية إضافة إلى الوقاية من الخطأ في تلقّي الوحي وتبليغه، لأنّهم يعملون لأجل إنقاذ المجتمع من المفاسد والضياع والقبائح، وهدايته نحو فلسفة الخلق والتكامل. فإذا لم يكن لديهم وقاية من الغرق في الفساد فلن يستطيعوا أنْ يحقّقوا الهدف الإلهيّ من بعثتهم وهو هداية الناس، ويكون حالهم كمن لا يعرف السباحة وهو غير مصون من الغرق، ومع ذلك يريد إنقاذ الغرقى من البحر. قال تعالى: ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى﴾1.
 
3- فلسفة العصمة:
ذكرنا أنّ العصمة هي قوّة باطنية، وقد فُسرّت على أنّها من سنخ العلم اليقينيّ بمفاسد المعصية، وهذا العلم هو من العلم الحضوريّ الذي لا يقبل الخطأ وهو ملازم للعمل بمقتضاه وهذا لا يعني أنّ كلّ علم بلوازم المعصية هو سبب حدوث الوقاية والعصمة، بل يجب أنْ يكون تجلّي الواقع من العلم قويّاً وشديداً، لدرجة أن لوازم وآثار المعصية تتجسّد وتظهر للإنسان، بحيث يرى بعين قلبه لوازم أعماله موجودة ومحقّقة، وفي هذه الحال يصير صدور المعصية عنه محالاً عادة.



1 سورة يونس، الآية 35.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

90

الدرس الثالث عشر: عصمة الأنبياء عليهم السلام

 وهذه القوّة والعلم يعطيها الله تعالى ويفيضها على من يستحقّها من الناس، على أساس الأهلية والقابلية عندهم. وقد بيّن هذا القانون في الآية الكريمة، قال تعالى: ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾1.

 
الصراط المستقيم هو الطريق الذي لا يتضمّن أيّ انحراف فكريّ أو عمليّ وتأويله أهل بيت العصمة، ففي الزيارة الجامعة:
"أنتم الصراط الأقوم" فالصراط المستقيم هو رسول الله وعليّ وسائر المعصومين عليهم السلام أيّ أنّه العصمة التي تجسّدت فيهم صلوات الله عليهم, فيصبح معنى الآية أنّه من يعتصم بالله يُعصَم, فالهداية إلى الصراط المستقيم متوقّفة على الاعتصام بالله تعالى وهذا الاعتصام ناتج عن شعور الإنسان بضعفه وفقره؛ لأنّ الإنسان المستغني لن يعتصم بالله تعالى بل سوف يدبر عن الله تعالى كما قال سبحانه : ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾2.
 
فمن يرَ عجزه وفقره يتوجّهْ إلى مصدر القوّة والغني المطلَق ويعتصم به، فيهديه الله تعالى عندها إلى الصراط المستقيم، الذي ليس فيه أيّ اعوجاج أو انحراف فكري أو عملي، وهذا هو معنى العصمة.
 
وهنا يأتي إشكال، وهو: إنّ لازم تفسير العصمة بالمعنى السابق هو أنْ تحصل العصمة بعد اعتصام الإنسان بالله تعالى، وقبل ذلك لا وجود لها، فكيف نقول بعصمة الأنبياء منذ ولادتهم؟
 
والجواب هو: إنّ الله تعالى إذا علم المسير الذي سيسلكه شخص ما في مستقبل حياته، جعله مورد لطفه وعنايته منذ اليوم الأوّل لحياته، بمقدار حسن اختياره وسعيه الدائم في المستقبل، وصانه من الانزلاق. يقول الإمام الباقر عليه السلام مصرّحاً بهذه الحقيقة في رواية عنه: "إذا علم الله تعالى حسن نيّة من أحد اكتنفه بالعصمة"3.



1 سورة آل عمران، الآية 101.
2 سورة العلق، الآيتان 6 و 7.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص188.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

91

الدرس الثالث عشر: عصمة الأنبياء عليهم السلام

 "الاكتناف" الذي جاء في الحديث في مجال العصمة هو بمعنى "الإحاطة"، ويعني أنّه عندما يعلم الله تعالى حُسن نيّة شخص ما، يحيطه من كلّ جانب بحصن العِصمة ومَلكة التقوى حتّى لا يُبتلى بالخطأ والمعصية.

 
ويؤيّد ما مرّ الجُمل الواردة في مطلع دعاء الندبة، إذ يبدأ الكلام في أوّل هذا الدعاء، عن عهد بين الله سبحانه وأحبائه، ثمّ يذكر بشكل صريح أنّ الله سبحانه عندما علم أنهم سيوفون بعهدهم، شمَلَهُم بعنايته وكرامته بنزول الملائكة والوحي عليهم. جاء في الدعاء: "... بعد أنْ شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنيّة وزخرفها وزبرجها، فشرطوا لك ذلك وعلمت منهم الوفاء به، فقبلتهم وقرّبتهم وقدّمت لهم الذكر العليّ والثناء الجليّ، وأهبطت عليهم ملائكتك وكرّمتهم بوحيك ورفدتهم بعلمك وجعلتهم الذرائع إليك والوسيلة إلى رضوانك.."1.
 
ونختم الدرس ببيان رائع ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في جواب له لزنديق من بني أميّة يوضِّح ما ذكرناه:
قال الزنديق: "فما بال ولد آدم فيهم شريف ووضيع؟" قال عليه السلام: "الشريف المطيع والوضيع العاصي"، قال: "أليس فيهم فاضل ومفضول؟" قال عليه السلام: "إنّما يتفاضلون بالتقوى"، قال: "فتقول إنّ كلّ ولد آدم سواء في الأصل لا يتفاضلون إلّا بالتقوى؟" قال عليه السلام: "نعم إنّي وجدت أصل الخلق التراب، والأب آدم والأم حوّاء خلقهم إله واحد وهم عبيده، إنّ الله عزّ وجلّ اختار من ولد آدم أناساً طهّر ميلادهم، وطيّب أبدانهم، وحفظهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، أخرج منهم الأنبياء والرسل، فهم أزكى فروع آدم".
 
"فعل ذلك لا لأمر استحقّوه من الله عزّ وجلّ ولكن علم الله منهم حين ذرأهم أنّهم يطيعونه ويعبدونه ولا يشركون به شيئاً، فهؤلاء بالطاعة نالوا من الله الكرامة والمنزلة الرفيعة عنده، وهؤلاء الذين لهم الشرف والفضل والحسب، وسائر الناس سواء. ألا من اتّقى الله أكرمه ومن أطاعه أحبّه، ومن أحبّه لم يعذّبه بالنار..."2.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج99، ص104.
2 م.ن. ج10، ص 170.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

92

الدرس الثالث عشر: عصمة الأنبياء عليهم السلام

 للمطالعة

 
حقيقة العصمة
العصمة حالة نفسية وأنوار باطنية تتفجّر من نور اليقين الكامل والاطمئنان التامّ.
 
إنّ مصدر جميع الخطايا والمعاصي التي تصدر عن الإنسان هو النقص في اليقين والإيمان، وإنّ مراتب اليقين والإيمان مختلفة بدرجة لا يمكن عدُّها وبيانها، وإنّ اليقين الكامل والاطمئنان التامّ الذي يحظى به الأنبياء، والحاصل من المشاهدة الحضورية هو الذي يعصمهم من الآثام. إنّ يقين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام قد أبلغه إلى مستوى يقول فيه: "والله لو أُعطيت الأقاليم السَّبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جلب شعيرة ما فعلته"1.
 
الإمام الخميني قدس سره، الأربعون حديثاً، الحديث 31.



1 الشريف الرضي، نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج2، ص 218.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

93

الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة وضرورة الإمامة

 الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة وضرورة الإمامة



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يستدل على ختم نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خلال النص القرآني والروائي.
2- يبرهن على ضرورة الإمامة من خلال الحاجة إلى حفظ الشريعة وإكمال تبليغها والحاجة إلى قيادة المجتمع.
3- يستدلّ على تعيين النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام خليفة من بعده من خلال آية التبليغ وحديث الغدير.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

94

الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة وضرورة الإمامة

 ختم النبوّة

من خصائص نبوّة الرسول الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أنّها النبوّة الخاتمة، فلا نبيّ بعد محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ما نصَّ عليه القرآن الكريم بقوله: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾1.
 
ونصّ على ذلك نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما تهيّأ لغزوة تبوك وترك الإمام عليّاً عليه السلام في المدينة قائلاً له: "أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي"2.
 
ضرورة الإمامة
ومن خلال ثبوت ختم النبوّة نطلّ على ضرورة الإمامة بعدها بالاعتماد على أمرين أساسين:
الأوّل: حفظ الشريعة وإكمال تبليغها
فإنّ فترة الثلاث والعشرين سنة التي قضاها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد نبوّته لم تكن كافية لتحقيق الهدف الإلهي الأسمى في إيصال الشريعة لكلّ الناس، فقد أمضى صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث عشرة سنة من عمره الشريف في مكّة؛ يحارب الشرك وعبادة الأصنام دون أنْ يستجيب لدعوته سوى قلّة من الناس، الذين غلب عليهم الاستضعاف حتّى هاجر نصفهم الهجرتين، ثمّ أمضى السنوات العشر التالية في المدينة في الغزوات والحروب التي تجاوزت الثمانين حسب ما نقل لنا التاريخ.



1 سورة الأحزاب، الآية 40.
2 الشيخ جعفر، كاشف الغطاء، كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء، ج1، ص10، تحقيق مكتب الاعلام الإسلامي ـ خرسان، نشر مركز انتشارات دفتر تبليغات إسلامي، مطبعة مكتب الاعلام الإسلامي، ط1، 1422هـ، حديث المنزلة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

95

الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة وضرورة الإمامة

 وعلى الرغم من أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك لحظة من عمره دون أن يستغلّها لنشر الدعوة والتعاليم الإسلاميّة، إلّا أنّ تلك الفرصة لم تسنح له بتحقيق كلّ آماله وتطلّعاته بنشر كلّ الرسالة بتفاصيلها إلى الأمّة، لذا كان لا بدّ من اختيار شخص يخصّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالتعليم ليخزّن فيه تفاصيل الشريعة، فيحفظ شريعة الإسلام ويبيِّن أحكامها للناس بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 
الثاني: قيادة المجتمع
والحاجة الأخرى للإمام تكمن في الحاجة إلى تعيين القائد الذي يرئس المجتمع الإسلامي، لا سيّما مع ما كان يتهدّد البلاد الإسلاميّة من الأخطار الثلاثة المتمثّلة في: الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية وفريق المنافقين الداخليين.
 
أيصدّق أحد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك المدينة لبضعة أيّام (عند خروجه إلى غزوة تبوك) إلّا بعد أن عيّن من يقوم مقامه فيها، ومع ذلك لم يعيِّن أحداً ليخلفه بعد مغادرة الدنيا نهائياً، ويترك الأمّة نهب الاختلافات والاضطرابات والحيرة، دون أنْ يضمن للإسلام استمراريّة حكم شخص هادٍ ومرشد يعتمده!.
 
لا يشكّ عاقل أنّ عدم تعيين خليفة ينطوي على أخطار كبيرة على الإسلام اليافع.
 
إنّ العقل والمنطق يحكمان بأنّ أمراً كهذا يستحيل صدوره عن عاقل فضلاً عن نبيّ الإسلام.
 
وبهذا يثبت أنّه لا بدّ من تعيين إمام من قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يحقّق من خلاله استمرارية الإسلام والحفاظ عليه, وقد عيّن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ونصّ على الإمام من بعده.
 
النصّ على الإمام عليّ عليه السلام
وقد كان الشخص المؤهّل للمنصبين السابقين هو علي بنّ أبي طالب عليه السلام، لذا كان هو عليه السلام محلّ الاختيار الإلهيّ.
 
من هنا وردت الآيات والروايات العديدة التي تواتر بعضها على النصّ عليه كخليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
ولعلّ من أبرز ما ورد في ذلك هو آية التبليغ التي أعقبها حديث الغدير المتواتر. فقد أنزل الله تعالى على رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قبل وفاته بمدّة قليلة ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
120

96

الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة وضرورة الإمامة

 إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾1.

 
ولا شكّ في دلالة الآية على مهمّة خطيرة وُضعت على عاتق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تواجه معارضة بعض الناس.
 
ولا شكّ أنّ هذه المهمّة لم تكن تتعلّق بقضايا التوحيد والشرك ومحاربة الأعداء، لأنّ هذه المسائل كانت كلّها قد حُلَّت قبل نزول هذه الآية.
 
ثمّ إنّ إبلاغ أحكام الإسلام للناس لم يكن يوماً مصحوباً بمثل هذا القلق والتوجّس، بينما يتبيّن من الآية أنّ المهمّة كانت على قدر من الأهمّية بحيث إنّها لا تقلّ وزناً عن أداء الرسالة برمّتها، بحيث لو أنّه لم يؤدّ تلك المهمّة لكان كأنّه لم يؤدّ الرسالة نفسها. فهل هناك ما يمكن أن تكون له مثل هذه الأهمّية سوى مسألة تعيين خليفة رسول الله؟ خاصّة وأنّ الآية قد نزلت في أواخر عمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أيّ في الوقت المناسب لتعيين من يخلف النبيّ من بعده، للاطمئنان على استمرار النبوّة والرسالة.
 
وهناك روايات كثيرة عن فريق كبير من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تذكر أنّها نزلت في عليّ عليه السلام وكان من نتائجها حديث الغدير المشهور.
 
حديث الغدير
يقول الكثير من المؤرخين إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدّى فريضة الحجّ في آخر سنة من سنوات عمره الشريف، وبعد الانتهاء من الحجّ، رجع ومعه جماعات غفيرة من أصحابه القدامى والجدد والمسلمين المولعين به، الذين كانوا قد اجتمعوا من مختلف نقاط الحجاز ليلحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أداء فريضة الحجّ، وعند وصولهم إلى مكان بين مكّة والمدينة اسمه "الجحفة"، تقدّمهم نحو "غدير خمّ" حيث كانت الطريق تتفرّق، فيتفرّق عندها الناس كلّ إلى وجهته.
 
ولكن قبل أنْ يتفرّق الناس من هناك إلى الأنحاء المختلفة، أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلمالناس بالتوقّف ودعا الذين سبقوه إلى الرجوع، وانتظر حتّى لحق به من تأخّر، وكان الطقس شديد الحرارة ومحرقاً، ولم يكن في تلك الصحراء المترامية ما يُستظلّ به.أدّى المسلمون صلاة



1 سورة المائدة، الآية 67.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

97

الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة وضرورة الإمامة

 الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعندما أراد الناس الانصراف إلى خيامهم فراراً من حرارة الطقس، أخبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّ عليهم أنْ يستمعوا إلى بلاغ مهمّ جديد من جانب الله في إحدى خطبه المسهبة.

 
أقيم لرسول الله منبر من أحداج الإبل، فارتقاه، وبعد أنْ حمد الله وأثنى عليه، كان من جملة ما قال: "... أمّا بعد أيّها الناس، اسمعوا منّي أبيّن لكم فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا. أنا مسؤول وأنتم مسؤولون. تُرى كيف تشهدون لي"؟ رفع الناس أصواتهم قائلين: نشهد أنّك قد بلغّت ونصحت وجاهدت فجزاك الله خيراً.
 
فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أتشهدون بأنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وأنّ محمّداً رسول الله، وأنّ الله سيبعث من في القبور يوم القيامة"؟.
 
فقالوا جميعاً: نعم نشهد بذلك. فقال: "الّلهم أشهد"! ثمّ سألهم: "أيها الناس، أتسمعون صوتي"؟
 
قالوا: نعم. وساد الجمع صمت لم يُسمع خلاله شيء سوى صوت هبوب الريح. وأخيراً قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أنبئوني ما تفعلون بهذين الثقلين اللذين سأتركهما بين ظهرانيكم"؟
 
فقام رجل من بين الجمع وقال: أيّ ثقلين تعني يا رسول الله؟
 
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الثقل الأوّل هو الثقل الأكبر، كتاب الله، القرآن، ما إنْ أخذتم به لن تضلّوا.. والثقل الثاني هو عترتي، آل بيتي. ولقد أخبرني اللطيف الخبير بأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض، إنْ سبقتموهما هلكتم، وإنْ تخلّفتم عنهما هلكتم".
 
ثمّ نظر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى أطرافه كأنّه يبحث عن شخص، فلما وقع بصره على عليّ عليه السلام انحنى وأمسك بيده ورفعها حتّى بان بياض إبطيهما، فرآه الناس وعرفوه.
 
وارتفع صوت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: "أيّها الناس، مَن أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم"؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

98

الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة وضرورة الإمامة

 فقالوا: الله ورسوله أعلم.


فقال: "إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه". وكرّر هذا القول ثلاث مرات. وقال بعض الرواة إنّه كرّره أربع مرّات، ثمّ رفع رأسه الشريف إلى السماء وقال: "الّلهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحبَّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار".

ثم قال: "ألا هل بلّغت"؟

قالوا: نعم.

قال: "فليبلّغ الشاهد الغائب". وقبل أن يتفرّق الجمع نزل جبرائيل الأمين بالآية التالية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ .

فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "الله أكبر، الله أكبر، على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الربّ برسالتي والولاية لعليّ من بعدي".

فحصل هرج ومرج بين الناس وراحوا يتزاحمون لتهنئة عليّ عليه السلام بالولاية، وكان منهم أبو بكر وعمر، اللذان تقدّما إلى عليّ عليه السلام يقولان: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة! .

هذا الحديث أورده عدد كبير من علماء الإسلام في كتبهم، بعض بصورة مسهبة وبعض باختصار شديد، وبشيء من الاختلاف في بعض الألفاظ. ويُعتبر من الأحاديث المتواترة التي لا يمكن لأحد أنْ يشكّ في صدورها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

99

الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة وضرورة الإمامة

 للمطالعة


الإمامة
إنّ ربّ هذا العالم الذي وضع القوانين لحياة الناس، وجاء بالأحكام لسعادتهم في هذه الدنيا وفي ذلك العالم، لا بدّ بحكم العقل من تطبيقها كما يريد، وهذا لا يحتاج إلى دليل لأنّه من أحكام العقل الواضحة حيث إنّ كلّ مشرّع في العالم يضع القانون للتنفيذ والتطبيق، وليس للكلام والكتابة، وطبيعيّ أنّ القوانين والأحكام الإلهيّة لا تنحصر بزمان الرسول فقط، ويجب أن تطبّق من بعده أيضاً كما هو واضح، فلا بدّ والحال هذه أنْ يعيّن الخالق شخصاً يعلم قوله وقول رسوله بالتفصيل، ودون أيّة نقيصة أو زيادة، ولا يخطئ في تطبيق القوانين الإلهيّة، ولا يكون خائناً ولا كذَّاباً ولا ظالماً ولا منتفعاً ولا طمّاعاً ولا طالباً للرئاسة والجاه ولا يتخلّف بنفسه عن القانون، أو يأمر الناس بالتخلّف، ولا يستأثر لنفسه ولمصالحه، وهذا هو معنى الإمامة.

والذي يملك مثل هذه الأوصاف هو الإمام، وبشهادة التواريخ المعتبرة والأخبار المتواترة عن السنَّة والشيعة، فإنّه لا يوجد بين جميع الناس من يحمل مثل هذه الأوصاف بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوى عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

الإمام الخميني قدس سره، كشف الأسرار. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
124

100

الدرس الخامس عشر: إمامة الأئمـّة الاثني عشر عليهم السلام

 الدرس الخامس عشر: إمامة الأئمـّة الاثني عشر عليهم السلام



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يستدلّ على إمامة الأئمة الاثني عشر عليهم السلام من خلال روايات أهل السنة.
2- يحلّل روايات أهل السنة حول الإمامة.
3- يستدلّ على إمامة الأئمّة عليهم السلام عقلاً من خلال برهان الأفضلية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

101

الدرس الخامس عشر: إمامة الأئمـّة الاثني عشر عليهم السلام

 بعد إثبات الإمامة والخلافة المباشرة للإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، يأتي دور الكلام على إمامة سائر الأئمّة.

 
روايات إمامة الأئمّة الإثني عشر عليهم السلام
تحدّثت كتب عديدة لأهل السنّة والشيعة عن خلافة "الاثني عشر إماماً وخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم".
 
هذه الأحاديث مرويّة في أهمّ كتب أهل السنّة، مثل "صحيح البخاري" و"صحيح الترمذي" و"صحيح مسلم" و"صحيح أبي داود" و"مسند أحمد" وأمثالها.
 
وفي كتاب "منتخب الأثر" مئتان وواحد وسبعون حديثاً بهذا الشأن، معظمها منقول من كتب أهل السنّة وسائر المصادر الشيعية.
 
وكمثال على ذلك نقرأ في "صحيح البخاري"، وهو من أشهر كتب أهل السنّة، ما يلي:
يقول جابر بن سمرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "يكون اثنا عشر أميراً" ثمّ قال كلمة لم أسمعها. فقال أبي إنّه قال: "كلّهم من قريش"1.
 
وقد ورد هذا الحديث في "صحيح مسلم" هكذا: قال جابر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا يَزَالُ الإسلامُ عَزيزاً إلى اثنيْ عشرَ خليفة، ثمّ قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلّهم من قريش"2.
 
وفي "مسند أحمد" عن عبد الله بن مسعود، الصحابي المعروف، أنّه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشأن الخلفاء، فقال: "الخلفاء بعدي إثنا عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل"3.



1 العلامة المجلسي ، بحار الأنوار، ج36، ص 266.
2 م.ن، ص 362.
3 م.ن، ص230.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

102

الدرس الخامس عشر: إمامة الأئمـّة الاثني عشر عليهم السلام

 محتوى هذه الأحاديث

هذه الأحاديث التي يرى بعضها أنّ "عزّة الإسلام" منوطة "بالاثني عشر خليفة"، ويرى بعضها الآخر أنّ حياة الدين وبقاءه إلى يوم القيامة موقوفان عليهم، وأنّهم كلّهم من قريش، وفي بعضها كلّهم من بني هاشم لا تنطبق على أيّ مذهب سوى المذهب الشيعيّ، وذلك لأنّ توجيهها بسيط وواضح بحسب معتقدات أهل الشيعة، في الوقت الذي يصل فيه علماء أهل السنّة في توجيهها إلى طريق مسدود.

هل المقصود هم الخلفاء الأربعة الأُوَل إضافة إلى خلفاء بني أميّة وبني العباس؟

نحن نعلم، بالطبع، أنّه لا الخلفاء الأوَل كانوا اثني عشر، ولا بانضمام خلفاء بني أميّة وبني العباس إليهم بلغوا هذا العدد. إنّ العدد اثني عشر لا ينطبق على أيّ منهم.

ثم إنّ من بني أميّة خلفاء مثل "يزيد" ومن بني العباس مثل "المنصور الدوانيقي" و"هارون الرشيد"، ممن لا يشكّ أحد فيما ارتكبوه من جرائم وظلم وطغيان، فلا يمكن بأيّ حال من الأحوال اعتبارهم خلفاء للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومدعاة لعزّة الإسلام ورفعته، مهما تساهلنا في تبسيط الموازين.

وإذا تجاوزنا عن كلّ ذلك، فإنّنا لن نجد العدد اثني عشر يتمثّل في أيّة مجموعة منهم سوى في أئمّة الشيعة الاثني عشر. 

تعيين الأئمّة عليهم السلام بالاسم
يقول الشيخ سليمان القندوزي، العالم السنّي المعروف، في كتابه "ينابيع المودّة":
جاء رجل يهودي يُدعى نعثلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان من بين الأسئلة التي ألقاها عليه أنّه سأله عن أوصيائه وخلفائه من بعده، فقال رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ وصيّي عليّ بن أبي طالب، وبعده سبطاي الحسن والحسين تتلوه تسعة أئمّة من صلب الحسين.

إذا مضى الحسين فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمّد، فإذا مضى محمّد فابنه جعفر، فإذا مضى جعفر فابنه موسى، فإذا مضى موسى فابنه عليّ، فإذا مضى عليّ فابنه محمّد، فإذا مضى محمّد فابنه عليّ، فإذا مضى عليّ فابنه الحسن، فإذا مضى الحسن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

103

الدرس الخامس عشر: إمامة الأئمـّة الاثني عشر عليهم السلام

 فابنه الحجّة محمّد المهديّ، فهؤلاء إثنا عشر".

 
وفي الكتاب نفسه، نقلاً عن كتاب "المناقب"، حديث آخر جاء فيه ذكر الأئمّة الاثني عشر بالاسم واللقب، ويشير إلى غيبة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وإلى نهضته "وأنّه يملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما ملئت جوراً وظلماً"1.
 
أمّا الأحاديث الواردة بهذا الخصوص عن طرق الشيعة فكثيرة تفوق حدّ التواتر، فتأمّل!.
 
بالإضافة إلى الطريق المذكور فإنّ إثبات إمامة كلّ إمام يتمّ بطريق النصوص والروايات الواردة عن كلّ إمام سابق بالنسبة للإمام اللاحق، وكذلك عن طريق معجزاتهم.
 
الأفضليّة دليل على الإمامة
يحكم العقل الإنساني بتقديم الأفضل على الفاضل, ويُعتبر الرجوع إلى الأفضل في كلّ المجالات سيرة للعقلاء. وقد عبّر الإسلام من خلال القرآن الكريم والروايات عن معايير الأفضلية، نذكر هنا بعضاً منها:
العلم: قال تعالى: ﴿...قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ...﴾2.
 
التقوى: قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾3.
 
الجهاد: ﴿وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾4.
 
وقد مُلئت كتب السيَر والتاريخ شهادات من الصديق والعدوّ، عن علم الأئمّة عليهم السلام وتقواهم وورعهم وزهدهم وحلمهم وكرمهم و...



1 الشيخ جعفر، السبحاني، رسائل ومقالات، ص 406.
2 سورة الزمر، الآية 9.
3 سورة الحجرات، الآية 13.
4 سورة النساء، الآية 95.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

104

الدرس الخامس عشر: إمامة الأئمـّة الاثني عشر عليهم السلام

 للمطالعة

يقول سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي في كتابه "ينابيع المودّة":
 
"قال بعض المحقّقين إنّ الأحاديث الدالّة على كون الخلفاء بعده صلى الله عليه وآله وسلم اثني عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة، فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان عُلم أنّ مراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حديثه هذا الأئمّة الاثنا عشر من أهل بيته وعترته، إذ لا يمكن أنْ يُحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلّتهم عن اثني عشر، ولا يمكن أنْ يحمله على الملوك الأمويّة لزيادتهم على اثني عشر، ولظلمهم الفاحش إلّا عمر بن عبد العزيز، ولكونهم من غير بني هاشم لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: كلّهم من بني هاشم في رواية عبد الملك عن جابر، وإخفاء صوته صلى الله عليه وآله وسلم في هذا القول يرجّح هذه الرواية لأنّهم لا يحسِّنون خلافة بني هاشم، ولا يمكن أنْ يحمله على الملوك العباسية لزيادتهم على العدد المذكور، ولقلّة رعايتهم الآية: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾1.
 
"وحديث الكساء فلا بدّ من أنْ يُحمل هذا الحديث على الأئمّة الاثني عشر من أهل بيته وعترته صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّهم كانوا أعلم أهل زمانهم، وأجلّهم وأورعهم وأتقاهم وأعلاهم نسباً وأفضلهم حسباً وأكرمهم عند الله، وكان علومهم عن آبائهم متّصلاً بجدهم صلى الله عليه وآله وسلم وبالوراثة واللدنية، كذا عرفهم أهل العلم والتحقيق وأهل الكشف والتوفيق.
 
"ويؤيّد هذا المعنى، أيّ أنّ مراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الأئمّة الاثنا عشر من أهل بيته، ويشهده ويرجّحه حديث الثقلين والأحاديث المتكرّرة المذكورة في هذا الكتاب وغيرها". 



1 سورة الشورى، الآية 23.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

105

الدرس السادس عشر: الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

 الدرس السادس عشر: الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف




أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن حتمية الحكومة الإلهية العالمية من خلال الآيات القرآنية.
2- يستدلّ على أنَّ مؤسس الحكومة الإلهية هو الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
3- يحدِّد روائياً: سيرة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، ولادته، عمره الشريف، بعض علامات ظهوره، صفات دولته الكريمة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

106

الدرس السادس عشر: الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

 القرآن وحتميّة الحكومة الإلهيّة العالميّة

يعتبر القرآن الكريم -كما باقي الكتب السماوية - أنّ استخلاف المؤمنين في الأرض ووراثتهم لها وعد إلهيّ حتمي. وقد أشارت مجموعة من الآيات الكريمة إلى هذه الحقيقة نذكر منها قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾1.
 
تبيِّن هذه الآية بجلاء أنّ الحكم على الأرض سيخرج في النهاية من أيدي الجبّارين والظالمين، وسيكون الحكم بيد المؤمنين الصالحين.
 
وفي أثر الآية المذكورة والوعد الذي فيها، يعد الله ثلاثة وعود أخرى: ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾2.
 
من هو مؤسّس الحكومة الإلهيّة؟
إنّ الأحاديث التي تشير إلى الحكومة العالمية القائمة على السلام والعدل، تشير أيضاً إلى أنّ الذي يؤسّسها هو واحدٌ من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اسمه المهديّ وقد وردت في كتب الشيعة والسنّة، وهي من الكثرة بحيث تعدّت حدود التواتر.
 
نقرأ في الرسالة التي أصدرتها "رابطة العالم الإسلاميّ" وهي أكبر مركز دينيّ في الحجاز ما يلي:



1 سورة النور، الآية 55.
2 سورة النور، الآية 55.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

107

الدرس السادس عشر: الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

 "أعلن فريق من الحفّاظ والمحدّثين أنّ أخبار المهديّ فيها الصحيح وفيها الحسن، وهي في المجموع من المتواتر قطعاً، وأنّ الاعتقاد بقيام المهديّ صحيح وواجب، وهذا من عقائد أهل السنّة والجماعة المسلّم بها، ولا ينكره إلّا كلّ جاهل وصاحب بدعة".

 
وهو عند الشيعة من الضروريات، بحيث إنّه لا يمكن لأحد أنْ يعتنق المذهب الشيعيّ دون الاعتقاد بظهور المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.
 
نكتفي بذكر حديث من باب المثال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أبشّركم ـ أيّها الناس ـ بالمهديّ"؟ قالوا: بلى. قال: "فاعلموا أنّ الله تعالى يبعث في أمّتي سلطاناً عادلاً وإماماً قاسطاً يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً"1.
 
من هو المهديّ؟
إنّ تحديد شخصية المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف تفرض الرجوع إلى الروايات، والتي من خلالها نكتشف هذه الشخصية، والروايات في المقام على طوائف سيتمّ عرض نموذج من كلّ طائفة.
 
الطائفة الأولى: المهديّ من أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
قال رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم: "لو لم يبقَ من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث رجلاً من أهل بيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً"2.
 
في تفسير الآية ﴿وَعَدَ اللَّهُ﴾ قال الإمام علي ّبن الحسين عليه السلام: "هم والله شيعتنا يفعل الله ذلك بهم على يدي رجل منّا وهو مهديّ هذه الأمّة"3.
 
الطائفة الثانية: المهديّ هو الخليفة الثاني عشر
أشار علماء أهل السنّة في الرسالة المذكورة أعلاه إلى: "أنّه آخر الخلفاء الراشدين الإثني عشر الذين أخبر عنهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث صحاح".



1 كتاب سليم بن قيس، تحقيق محمّد باقر الأنصاري، ص478، نشر دليل ما، مطبعة نكارش، ط1، 1422هـ.
2 الفيض الكاشاني، التفسير الصافي، ج3، ص 358، تحقيق الشيخ حسين الأعلمي، نشر مكتبة الصدر ـ طهران، مطبعة الهادي ـ قم، ط2، 1416هـ.
3 الحسيني، شرف الدين، تأويل الآيات، ج1، ص 369.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

108

الدرس السادس عشر: الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

 الطائفة الثالثة: المهديّ هو التاسع من ولد الحسين

وقد ذكرت المصادر الشيعية أنّه التاسع من أولاد الإمام الحسين عليه السلام.
 
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "... وهو التاسع من ولد ولدي الحسين، اسمه اسمي وكنيته كنيتي"1.
 
الطائفة الرابعة: المهديّ هو محمّد بن الحسن العسكري
وهذا واضح من خلال الرواية التي مرّت في الدرس السابق عن الشيخ سليمان القندوزي، العالم السنّي المعروف، في كتابه "ينابيع المودّة":
 
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ وصيّي عليّ بن أبي طالب،... فإذا مضى الحسن فابنه الحجّة محمّد المهديّ، فهؤلاء إثنا عشر"2.
 
هل وُلد المهديّ؟
اختلف السنّة مع الشيعة في قضية ولادة الإمام المهديّ، ففي حين تقول الشيعة بولادته تنكر السنّة ذلك. وقد ذكرت الشيعة مجموعة من الأدلّة على ولادة الإمام نوردها باختصار:
أ- معرفة إمام الزمان
نقرأ في كتب أهل السنّة حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية"3. هذا الحديث نفسه ورد في كتب الشيعة بهذه الصورة: "من مات ولا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية"4.
 
يدلّ هذا الحديث دلالة بيّنة على أنّ الإمام المعصوم موجود في كلّ عصر وزمان وأنّ من الواجب معرفته، وأنّ عدم معرفته على درجة من الضرر بحيث إنّه يضع الإنسان عند تخوم الكفر والجاهلية.



1 كتاب سليم بن قيس، تحقيق محمّد باقر الأنصاري، ص 479.
2 المفيد، محمّد بن محمّد النعمان، أوائل المقالات، ص 284، تحقيق الشيخ إبراهيم الأنصاري، نشر دار المفيد ـ لبنان، ط2، 1993م.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص316.
4 الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 20.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

109

الدرس السادس عشر: الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

 ب- الروايات التي دلّت على كونه ابن الحسن العسكريّ عليه السلام:

فكونه ابن الإمام العسكريّ عليه السلام كما مرّ يدلّ بشكل واضح على أنّه قد وُلد وأنّه حيٌّ يُرزق لينفذ الوعد الإلهيّ بإقامة حكومة العدل.
 
ج- طول عمر الإمام
لا يمكن لمن يؤمن بالقرآن الكريم أنْ يرفض إمكانية إطالة عمر الإمام لأنّ القرآن أشار بشكل واضح إلى طول عمر نوح عليه السلام من خلال قوله تعالى: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾1.
 
وكذلك فإنّ إطالة عمر الإنسان ممكنة من الناحية العلمية، ولا تتعارض مع النظريات العلمية الحديثة، التي تسعى كي يصبح هذا الأمر أمراً ممكناً من الناحية العملية.
 
د- غيبة الإمام
وقد ذكرت الروايات المتواترة أنّ للإمام غيبة عن الناس قبل إقامته لحكومة العدل، وهذه الغيبة تطول إلى أنْ يأذن الله تعالى له بالظهور لينفّذ الوعد الإلهيّ، وقد ذكرت الروايات الأسباب والفوائد والحكم من هذه الغيبة، من قبيل الحذر من القتل وقلّة الأنصار وامتحان المؤمنين وعدم البيعة للظالمين... إلخ. ولولا كونه مولوداً لما كان هناك داعٍ لطول العمر ولا للغيبة، وهذا واضح لا لبس فيه.
 
زمان ظهور الإمام
إنّ وقت ظهور الإمام لا يعلمه إلّا الله تعالى. وقد أشارت الروايات إلى حرمة التوقيت لظهور الإمام وتكذيب الموقّتين، ولكنّها وضعت مجموعة من العلامات التي تدلّ على ظهور الإمام وقُسّمت إلى قسمين حتمية وغيرها.
 
ورد عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "من المحتوم الذي لا بدّ من أنْ يكون من قبل قيام القائم خروج السفيانيّ، وخسف بالبيداء، وقتل النفس الزكية، والمنادي من السماء"2.



1 سورة العنكبوت، الآية 14.
2 النعماني، محمّد بن إبراهيم، كتاب الغيبة، ص264، تحقيق فارس حسون كريم، نشر أنوار الهدى، مطبعة مهر ـ قم، ط1، 1422هـ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
136

110

الدرس السادس عشر: الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

 دولة الإمام

في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إذا قام القائم حكم بالعدل، وارتفع في أيّامه الجور، وأمنت به السبل، وأخرجت الأرض بركاتها، وردّ كلّ حقّ إلى أهله.... وحكم بين الناس بحكم داود وحكم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فحينئذٍ تُظهر الأرض كنوزها، وتُبدي بركاتها، ولا يجد الرجل منكم يومئذٍ موضعاً لصدقته ولبرّه لشمول الغنى جميع المؤمنين"1.
 
ولاية الفقيه
لم يترك الناس في فترة غياب الإمام دون راعٍ ومرشد حاضر بينهم، ولذلك تمّ إرجاعهم إلى الفقيه الجامع للشرائط، الذي يُعتبر نائباً للإمام وولياً لأمر المسلمين، واعتُبرت طاعته طاعة لله ومعصيته معصية لله تعالى.



1 اليزدي الحائري، الشيخ علي، إلزام الناصب في إثبات الحجّة الغائب، ج2، ص 246، تحقيق السيد علي عاشور.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

111

الدرس السادس عشر: الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

 للمطالعة


الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف
إنّ قضية غيبة صاحب الأمر هي قضية مهمّة تُفهمنا مسائل عديدة، منها أنّ مثل هذا العمل العظيم والذي بواسطته سوف تُملأ الأرض عدلاً بمعناه الواقعي، فإنّه لا يوجد بين البشر سوى المهديّ الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف والذي ادَّخره الله تبارك وتعالى للبشرية من يقدر على تحقيقه، فالعدالة كانت هدف جميع الأنبياء وأرادوا أنْ يطبّقوها في جميع العالم، لكنّهم لم يُوفّقوا لذلك، وحتّى أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاء لإصلاح الناس، ولتحقيق العدالة وتربية الناس، فإنّه لم يُوفّق في زمانه لتحقيقها بهذا المعنى، وإنّ الذي سيتمكّن من ذلك، وينشر لواء العدل في كلّ الأرض هو الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وإنّ العدالة التي سوف ينشرها ليست هذه العدالة التي يفهمها الناس العاديّون، والتي هي فقط العدالة في الأرض من أجل تحقيق رفاه الناس، بل العدالة في جميع مراتب الإنسانية، إذ إنّ إعادة الإنسان عن انحرافه سواء الانحراف العملي أم الروحي أم العقليّ إنّما تعني تحقيق العدالة في الإنسان: إذا كانت هناك انحرافات في العقائد فإنَّ تصحيح تلك الانحرافات الموجودة في العقائد وجعلها عقيدة صحيحة وصراطاً مستقيماً، يعني إيجاد العدالة في عقل الإنسان، فإنّ هذا سيحدث في زمان ظهور الإمام المهديّ الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف الذي ادّخره الباري، لأنْ لا أحد من الأوّلين والآخرين كانت عنده هذه القدرة، وهي موجودة فقط عند المهديّ الموعود، فإنّه سوف يملأ جميع العالم عدلاً، وهذا ما لم يتمكّن منه الأنبياء، رغم أنّهم جاؤوا لأداء تلك المهمّة، فالله تبارك وتعالى ادَّخره لتحقيق هذا الأمر المهمّ الذي كان حُلُم الأنبياء، بيدَ أنّ الموانع جعلتهم غير قادرين على تحقيق ذلك، وكان أمل جميع الأوّلياء، ولكنّهم لم يوفّقوا إليه، وإنّه سوف يتحقّق على يد هذا العظيم، وهذا هو سبب العمر الطويل الذي وهبه الله تبارك وتعالى، فبعد الأنبياء والأولياء الكبار آباء المهديّ الموعود لم يكن هناك أحد يستطيع تحقيق ذلك، لذا فلو أنّ المهديّ الموعود كان يذهب إلى جوار رحمة الحقّ كسائر الأوّلياء، لما كان بين البشر أحد يقدر على تطبيق العدالة، وقد ادّخره الله لهذا العمل العظيم.

ولهذا فإنّ عيد ولادة صاحب العصر أرواحنا له الفداء يعدّ أكبر عيد للمسلمين، وأكبر عيد للبشرية جمعاء.


الإمام الخميني قدس سره، صحيفة النور، ج12، ص207.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

112

الدرس السابع عشر: المعاد

 الدرس السابع عشر: المعاد



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يذكر ضرورة الإعتقاد بأصل المعاد.
2- يستدلّ على أصل المعاد من خلال دليل الحكمة الإلهية.
3- يستدلّ على أصل المعاد من خلال دليل العدالة الإلهية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

113

الدرس السابع عشر: المعاد

 يعتقد كلّ من يقرّ بوجود الله سبحانه بالمعاد، إذ لا يمكن فيما يبدو أنْ نجد إنساناً يؤمن بالمبدأ وينكر المعاد.

 
وبشأن إثبات أصل المعاد جاؤوا بأدلّة كثيرة نعرض منها ما يلي:
1ـ الحكمة الإلهيّة
يتمثَّل الدليل الأوّل لإثبات المعاد، بوجود الغاية من خلق الوجود (ومنه الإنسان).
 
إنَّ عالم الوجود برمّته يحكي حقيقة أنَّ وراء هذا العالم مدبّراً حكيماً، وهذه الحقيقة شاخصة للجميع، واضحة للعيان.
 
ولازم ذلك أنْ يكون وجود العالم عبثاً من دون المعاد، وإلّا فكيف نصدّق أنّ الإنسان المخلوق من نطفة، المخلوقة بدورها من تراب، يعيش حياته بكلّ ما يُرافقها من مشقّة وأذىً وألم، من دون أنْ تكون لوجوده غاية، ولحياته هدف وعاقبة ينقلب إليها؟ وكيف نتعقّل أنّ كلّ شيء ينتهي بالموت ومع الموت، بحيث تبدو كلّ أشواط الحياة بدون ثمرةٍ وغاية؟ وكيف نستطيع أصلاً أنْ نوجّه فلسفة الخلق والوجود والغاية منهما؟
 
لذلك تقضي الغاية المفترضة لوجود هذا العالم بضرورة المعاد واليوم الآخر، لكي تنتفي العبثية ولا يكون الهدف من الخلق عبثاً وباطلاً.
 
وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة بقوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾1.



1 سورة المؤمنون، الآية 115.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

114

الدرس السابع عشر: المعاد

 وكذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾1.

 
والآية واضحة في أنّ من لا يتصوّر أنّ للخلق هدفاً وغاية ومآلاً، هو الكافر الذي لا يعتقد بـ "المبدأ"، وإلّا فلو كان مؤمناً بـ "المبدأ" لاعتقد بالمعاد حتماً وضرورة.ذلك لأنّ العبث والباطل مستحيلا الصدور عن الله سبحانه لأنّه خالق العقل، ولا يصدر منه سبحانه غير المعقول، لذلك وجب أن يكون "المعاد" لكي لا يكون الوجود عبثاً وباطلاً.
 
2ـ العدالة الإلهيّة
العدالة، هي الدليل الثاني من أدلّة إثبات المعاد.
 
إنّ مقتضى عدل الله سبحانه أنْ يكون للناس يومٌ يجتمعون فيه، فيجزى كلّ ذي عملٍ بعمله، ويلزم من إنكار ذلك تصوّر صدور الظلم منه سبحانه، أيّ أنّ من ينكر المعاد والحساب والجزاء يكون كمن يقول بصدور الظلم عنه سبحانه.
 
فإنكار المعاد يتنافى مع العدل الإلهي، ثمّ إنّه مع إنكار المعاد يبقى الإنسان في حيرة من هذه الأسئلة، إذ من يا ترى يقتصّ من الحكّام الظلمة الذين يهرقون دماء الأبرياء بالألوف، وينتهكون أعراض النساء، ويهدرون وينهبون ثروات المسلمين وما حباهم الله به من خيرات؟ ومن يُذيقهم وبال ما كسبت أيديهم؟ وهل يمكن الاقتصاص من هؤلاء في الحياة الدنيا وحسب؟ وإذا حُكِمَ على هؤلاء في الدنيا بالإعدام والموت ولو مئات المرّات قصاصاً، لما جنت أيديهم، فهل يكافئ ذلك دماء الأبرياء وظُلاماتهم وآلامهم؟.
 
إذاً، لا سبيل في اقتصاص الحقّ من الظالمين، والانتصاف للمظلومين، سوى وجود "المعاد".
 
ثمّ لمّا كان مقتضى العدل الإلهي مجازاة الإنسان بدقّة، خيراً فعل أم شرّاً، فسيكون تحقّق العدل الإلهي غيرَ متيسِّر إلّا بوجود المعاد ويوم الجزاء.



1 سورة ص، الآية 27.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
142

115

الدرس السابع عشر: المعاد

 يقول تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾1.

 
وبمقتضى الآيات الكريمة، فإنّ عدم مجازاة الإنسان يوم القيامة على ذرّة من أعمال الخير أو الشرّ التي يقوم بها، سيعدّ مغايراً للعدالة الإلهيّة.
 
وإذا أردنا أنْ ننتقل في معالجة هذا البُعد إلى زاوية أخرى، فسنجد أنّ المجاهد في سبيل الله، الذي ترك لذّات الدنيا وشهواتها ليقاتل العدوّ، لا يمكن أنْ يستوي في حساب العدل الإلهي مع القاعد، بل هو أعلى منه درجة في الدنيا وفي الآخرة، فالمجاهد يعيش في الدنيا وقرينه النور وصفاء القلب، مكلّلاً بالعطايا والمواهب المعنوية، أمّا في الآخرة، فسينال السعادة الأبدية وينزل في الجنّة برفقة الأنبياء والصدّيقين والأولياء.
 
والسؤال المثار هنا هو: ما هو وجه العدالة في مكافأة من لا يحمل همّ الإيمان، ولا يهتمّ بصراع الإسلام والكفر، ومجازاته مجازاة المجاهد؟.
 
لذلك جاء الخطاب الإلهي يميِّز بين الاثنين، وهو يزفّ البشرى لمن يُدافع عن حريم الإسلام ومقدّساته، ويدافع عن قيم الإنسانية، ويعيش الحياة جهاداً وحماساً ليصنع مآثر الخُلد، إذ يقول سبحانه فيه: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾2، وقال تعالى: ﴿وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾3.



1 سورة الزلزلة، الآيات 6 ـ 8.
2 سورة الفجر، الآيات 27 ـ 30.
3 سورة النساء، الآية 95.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

116

الدرس السابع عشر: المعاد

 للمطالعة

فطرية عالم الآخرة
إنّ من الفطرات الإلهيّة التي فُطرت عليها العائلة البشرية كافّة هي فطرة عشق الراحة، فلو أنّك راجعت كلّ عصور التمدّن والتوحّش، والتديّن والتحلّل، ورجعت إلى جميع أفراد الإنسان الجاهل والعالم، والوضيع والشريف، والمدنيّ والبدويّ، وسألته "لم كلّ هذا التعلّق المتنوّع والأهواء الشتّى، وما الغاية من تحمّل كلّ هذه المشقّات والصعوبات والمعاناة في الحياة؟" فإنّهم جميعاً وبكلمة واحدة وبلسان الفطرة الصريح يجيبون قائلين : بأنّ كلّ ما يتوخّونه إنّما هو لراحتهم، والغاية النهائية والمرام الأخير وأقصى ما يتمنونه هو الراحة المطلقة الخالية من كلّ تعب ونَصَب. ولأنّ هذه الراحة التي لا تمازجها مشقّة، والتي لا يشوبها ألم ونقمة، هي معشوقة الجميع، ولأنّ هذه المعشوقة المفقودة يظنها كلّ إنسان في شيء، لذلك فهو يتعلّق بكلّ شيء يظنّ أنّ محبوبه موجود فيه، مع أنّ مثل هذه الراحة المطلقة لا وجود لها في كلّ أرجاء عالم الملك وزواياه. إنّ جميع نعم هذا العالم يصاحبها العناء والعذاب المضني، وما من لذّة في الدنيا إلَّا وفيها ألم كبير. إنّ العذاب والتعب والألم والحزن والهمّ والغمّ تملأ أرجاء هذا العالم.
 
وعلى امتداد حياة البشر، لن تجد فرداً واحداً يتساوى عذابه وراحته، ونعمته توازي تعبه ونقمته، فكيف بتلك الراحة الخالصة المطلقة أنْ تكون له؟ وبناءً على ذلك، فإنّ معشوق الإنسان لا يوجد في هذا العالم الدنيويّ. إنّ العشق الفطريّ الجبليّ الفعليّ، وفي جميع أبناء البشر، لا يمكن أن يكون بدون معشوق فعليّ موجود.
 
إذاً، لا بدّ من أن يكون هناك في دار التحقّق وعالم الوجود عالم، لا تشوب راحته شائبة من ألم وعذاب وتعب، راحة مطلقة لا يخالطها شيء من العناء والشقاء، سرور دائم خالص لا يعتريه حزن ولا همّ. ذلك العالم هو دار نعيم الله، عالم كرامة ذات الله المقدّس.
 
 
الإمام الخميني قدس سره، الأربعون حديثاً، الحديث 11.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
144

117

الدرس الثامن عشر: الانتقال إلى العالم الآخر

 الدرس الثامن عشر: الانتقال إلى العالم الآخر



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى حقيقة الموت وعالم البرزخ.
2- يميّز بين حالات سكان عالم البرزخ.
3- يستدلّ على المعاد الجسماني من خلال دليل الإجماع والدليل القرآني.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

118

الدرس الثامن عشر: الانتقال إلى العالم الآخر

 تمهيد

من الأمور الحتمية والمشاهدة في هذا العالم موت كلّ إنسان، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾1. وهذه الحقيقة لا يمكن لنا أنْ نفرّ منها بأيّ شكل من الأشكال، وأنفاسنا هي خطواتنا المتسارعة إلى تلك الساعة المحتومة. وحقيقة الموت أنّه انتقال من عالم إلى آخر، وانقطاع الصلة ما بين الجسد والروح. وهذا الأمر يوكل به ملك الموت الذي يتوفّى الإنسان، ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾2.
 
وتتفاوت حالة الأشخاص في نزع الروح من جهة الشدّة والراحة.
 
عالم البرزخ
وبعد نزع الروح وإغماض العين عن هذا العالم نكون قد دخلنا إلى عالم جديد، يسمّى عالم البرزخ الذي يمتدّ إلى يوم البعث، قال تعالى: ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾3.
 
وقد قسمت الروايات سكان عالم البرزخ إلى ثلاثة أقسام: متنعّم ومعذّب ومخوّف.
 
ولتتّضح الصورة ننقل هذه الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام:
قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: صف لنا الموت، فقال: "على الخبير سقطتم، هو أحد أمور ثلاثة يرد عليه: إمّا بشارة بنعيم الأبد، وإمّا بشارة بعذاب الأبد، وإما تحزين وتهويل وأمر مبهم، لا يدري من أيّ الفرق هو، فأمّا وليّنا والمطيع لأمرنا فهو المبشّر بنعيم الأبد، وأمّا عدوّنا المخالف علينا فهو المبشّر بعذاب الأبد، وأمّا المبهم أمره الذي لا يدري ما حاله وهو المؤمن المسرف على نفسه، لا يدري ما يؤول إليه حاله، يأتيه الخبر مبهماً 



1 سورة العنكبوت، الآية 57.
2 سورة السجدة، الآية 11.
3 سورة المؤمنون، الآية 100.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

119

الدرس الثامن عشر: الانتقال إلى العالم الآخر

 مخوفاً، ثمّ لن يسوّيه الله عزّ وجلّ بأعدائنا لكن يخرجه من النار بشفاعتنا، فاعملوا وأطيعوا ولا تتّكلوا، ولا تستصغروا عقوبة الله عزّ وجلّ، فإنّ من المسرفين من لا تلحقه شفاعتنا إلّا بعد عذاب ثلاثمائة ألف سنة"1.

 
عالم القيامة
ذكرنا أنّ عالم البرزخ يمتّد إلى وقت البعث. ومعنى البعث هو بعث الجسد حيّاً بعد أنْ كان ميتاً، ومن بعد البعث يكون الحشر، ثمّ الحساب، ثمّ دخول الجنّة أو النار. وقد يدخل بعض المسرفين النار ثمّ يخرج منها، إمّا من خلال الشفاعة أو بعد تطهيره من آثار الذنوب والمعاصي وانقضاء عقوبته.
 
المعاد جسمانيّ وليس روحانياً فقط
المقصود بالمعاد الجسمانيّ، هو أن يُحشر الإنسان في القيامة بروحه وجسده ونفس خصائص شخصيته التي كان عليها في الدنيا، وعندما يُنتهى من حسابه يُدفع به روحاً وجسداً، إمّا إلى الجنّة مُنعماً أو إلى النار معذّباً، والذي عليه عقيدتنا أنّ الإيمان بالمعاد الجسمانيّ هو من ضرورات الإسلام، تماماً كالصلاة والصيام.
 
وفلسفة الحديث عن مصطلح "المعاد الجسمانيّ" هو الاختلاف الذي نشأ بين الفلاسفة غير المسلمين في معنى المعاد، وفيما إذا كان روحياً فقط أم جسمياً وروحياً. وفي هذا السياق ذهب بعض الفلاسفة من غير المسلمين للقول بمعاد الروح دون الجسد، أمّا الفلاسفة المسلمون فكلمتهم مجتمعة على الاعتقاد بالمعاد الجسمانيّ الذي يعتبرونه من الثوابت ومن المسلّمات والضروريات.
 
وبهذا يتّضح أنّ إجماع أهل الإسلام، من الشيعة والسنّة، والفقهاء والفلاسفة والمتكلّمين، على أنّ المعاد الجسماني هو من ضرورات الدين، وأنّ الإنسان يحشر في القيامة على هيئته التي كان عليها في الدنيا، فيحاسب ثمّ يذهب بنفس الهيئة إلى الجنّة أو النار.
 
وللقرآن الكريم منهجه الخاصّ في الاستدلال على "المعاد الجسماني" وإثباته، وسنشير في الفقرات الآتية إلى مناهج الأدلّة ومضامينها.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص154.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
148

120

الدرس الثامن عشر: الانتقال إلى العالم الآخر

 اللذائذ الجسمية: ومثالها الأكل والشرب، والسكن في قصور الجنّة والنزول في غرفها، ومشاهدة المناظر الجميلة، وغير ذلك.

 
العذاب الجسديّ: كاحتراق لحم الإنسان وجلده وعظامه، والشراب من "حميم" وأكل "الزقّوم".
 
يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ﴾1.
 
ومن المؤكّد أنَّ مقتضى "اللذة و العذاب الجسميين" هو "المعاد الجسماني" وإلّا كان توجيه الخطاب القرآني للذّة والعذاب الجسديّين لغو وعبث، وكلاهما مستحيل على الله تعالى.
 
نطق الجوارح في القيامة 
عندما يتسلّم المفسدون وذوو الصفات الشيطانية صحيفة أعمالهم السوداء، وما جنت أيديهم، يحاولون أنْ ينكروا نسبة أعمالهم إليهم، يقول سبحانه عن هذا المشهد الأخروي: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾2.
 
والذي نستفيده من هذه الآية هو حضور أجسادهم في القيامة، كي يكون بمقدور الجوارح أنْ تشهد، لأنّه ليس للروح، لو كان المعاد روحيّاً وحسب، يد أو رجل، ومن البديهيّ أنّ لازم هذا المعنى تحقّق "المعاد الجسماني".



1 سورة النساء، الآية 56.
2 سورة يس، الآية 65.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

121

الدرس الثامن عشر: الانتقال إلى العالم الآخر

 للمطالعة


عذاب الآخرة
إنّنا لا نستطيع أنْ ندرك صعوبة وشدّة حرارة نار الآخرة في هذا العالم، إذ إنّ اختلاف شدّة العذاب وضعفه من جهة، تتبع قوّة الإدراك وضعفه، إذ كلّما كان المدرك أقوى والإدراك أتمّ وأنقى، كان إدراك الألم والعذاب أكثر.

ومن جهة أخرى، تعتمد على اختلاف الموادّ التي يقوم بها الحسّ في تقبّل الحرارة، لأنّ الموادّ تختلف من حيث تقبّل الحرارة. فالذهب والحديد مثلاً، يتقبّلان الحرارة أكثر من الرصاص والقصدير، وهذان يتقبّلانها أكثر من الخشب والفحم، وهذان أكثر من الجلد واللحم.

فأمّا جسم الإنسان في هذا العالم فلا يتحمّل الحرارة، إذ لو بقي ساعة واحدة في نار الدنيا الباردة لاستحال إلى رماد، ولكنّ الله القادر يجعل هذا الجسم يوم القيامة بحيث يبقى في نار جهنّم - التي شهد جبرائيل بأنّه لو جيء بحلقة واحدة من سلاسل جهنّم التي طول الواحدة منها سبعون ذراعاً إلى هذه الدنيا لأذابت جميع الجبال من شدة حرارتها - دائماً ولا يذوب ولا ينتهي...

فقابلية جسم الإنسان للحرارة يوم القيامة لا تقاس بهذا العالم...

وأما نار هذه الدنيا فهي نار باردة ذاوية وعرضية ومشوبة بموادّ خارجية غير خالصة، أمّا نار جهنم، فهي نار خالصة لا تشوبها شائبة...

ولو تجمّعت جميع نيران العالم وأحاطت بإنسان، لما أحاطت بغير سطح جسمه، أمّا نار جهنّم، فتحيط بالظاهر والباطن وبنفس الحواسّ المدركة ومتعلّقاتها. إنّها نار تحرق القلب والروح والقوى، وتتّحد بها بنحو لا نظير له في هذا العالم.


الإمام الخميني قدس سره, الأربعون حديثاً، الحديث 4.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

122
دروس تمهيدية في العقيدة الإسلامية