نهضة الإنسان: الإنسان والثورة والحرية عند أعلام الفكر الإسلامي الأصيل


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-05

النسخة: 2015


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 

المدخل

9

معرفة الإنسان في فكر الإمام الخميني قدس سره

9

تمهيد

9

تحيّر العقول في معرفة الإنسان

10

لم يعرفوا من هو الإنسان

11

ملاك شرافة الإنسان

11

الكمال وطلب الإنسان له

12

الأنبياء والهداية لفطرة طلب الكمال

14

العشق للكمال المطلق

14

وحدانيّة الكمال المطلق

15

سبب طلب الكمال

16

الإنسان غير متناهٍ

16

 المقامات الإنسانيّة العليا

17

سير الإنسان وعبوره عالم الطبيعة

18

سير الإنسان والإقامة في الطبيعة

19

كيفيّة ارتقاء الإنسان الطبيعي إلى الإلهي

20

كيفيّة ارتقاء الإنسان الحيواني إلى الإلهي

21

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

5


1

الفهرس

 

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

23

الأساس الإسلامي لخطّ الخلافة

25

الخلافة العامّة في القرآن الكريم

25

الشهادة في القرآن الكريم

26

خطّ الخلافة وركائزه العامّة

27

مسار الخلافة على الأرض

32

الأساس الإسلامي لخطّ الشهادة

35

خطّ الشهادة وركائزه العامّة

35

مسار الخلافة الربّانية على الأرض

41

التمهيد لدور الخلافة

41

مرحلة الفطرة في الخلافة

43

الثورة على يد الأنبياء لإعادة مجتمع التوحيد

45

الوصاية على الثورة ممثّلة في الإمام

51

المرجعية بوصفها المرحلة الثالثة من خطّ الشهادة

54

المبحث الثاني :الجهاد في المنظور الإسلامي

59

ماهيّة الجهاد في الإسلام

61

أنواع الدفاع

62

الحقوق الإنسانيّة

63

أقدس أنواع الدفاع

65

النزاع صغروي وليس كبروياً

65

الأمر بالمعروف هو مصداق الدفاع عن الحقوق الإنسانيّة

65

الدفاع عن الحرية دفاع مقدّس

66

هل إنّ التوحيد حقّ شخصي، أم حقّ عامّ؟

66

الأُمور التي لا يجبر عليها

67

التربية لا تفرض

68

الإيمان لا يتطلّب العنف

68

الحرب لإزالة العوائق عن طريق الإيمان والتوحيد

70

الحرب من أجل حرية الدعوة وإزالة العوائق عن طريق التبشير

71

.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

6


2

الفهرس

  

مقياس الحقوق الشخصية والحقوق العامّة

71

حرية الفكر أم حرية العقيدة؟

74

الجهاد في القرآن والعقل والتاريخ

75

هل إنّ آيات الجهاد ناسخة ومنسوخة؟

75

ما من عام إلّا وقد خصّ

77

الدفاع عن القيم الإنسانيّة

79

استعمال القوّة في طريق المسائل الصحّية

80

الجزية

82

الجزية تكريم أم عقاب؟

83

المبحث الثالث :الثورة الإسلاميّة في إيران

87

إيجاد الثورة أسهل من الحفاظ عليها

89

ماهية الثورة ودوافعها

92

حقيقة الثورة في إيران

98

سرّ نجاح الثورة في إيران

102

هويّة الثورة في إيران

109

الثورة الإسلاميّة أم الإسلام الثوري

113

انتصار الثورة

121

المبحث الرابع :أركان الثورة الإسلاميّة

123

العدالة الاجتماعية

125

الحريّة والاستقلال الديني

135

 المعنوية في الثورة الإسلاميّة

142

المبحث الخامس :حرّية التفكير والمعتقد

151

أنواع الحرّية

153

الفرق بين حرية التفكير وحرية العقيدة

153

لا حدود لحريّة التفكير

156

حرية التفكر والتآمر

157

لا مثيل للحريّة في الإسلام

162

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

7


3

الفهرس

 

المبحث السادس :مقولة الحرّية

167

أهداف الملتقى الاستراتيجي للفكر

170

إيجاد الأرضيّة العلميّة

171

قضيّة الحريّة

173

مسار الحريّة عند الغربيّين

173

الثورة الفرنسيّة وفجائع الأباطرة

175

الحركة الدستوريّة

177

استيراد المنظومات الفكريّة

178

موضوع الحريّة

179

نطاق الحريّة في الإسلام

181

الحريّة في منطق الغرب

183

الحريّة في منطق الإسلام

184

هذه اللّماظة لأهلها

185

مصادرنا سبقت الأوروبيّن

186

زوايا البحث في الحريّة

186

الحقّ بالاصطلاح القرآني

186

الحقّ بالاصطلاح الحقوقي

188

الحريّة الاقتصاديّة

189

الحريّة السياسيّة

190

الحريّة في القضايا الاخلاقيّة

190

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

8


4

المدخل: معرفة الإنسان في فكر الإمام الخميني قدس سره

 المدخل: معرفة الإنسان في فكر الإمام الخميني قدس سره

"إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"

الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله

تمهيد
يحتاج الإنسان في هذا الوجود إلى من يعرّفه سبيل رشده في الأبعاد الإنسانيّة كافّة، يحتاج إلى معلّم بلغ الكمال في مقام العلم والعمل؛ يخرجه من الضلال والحيرة، يعرّفه سبيل الهداية والكمال، يحتاج إلى معلّم يحول بينه وبين فساده وفساد المجتمع الإنساني.

إنّ هذه المسؤوليّة الكبرى والمهمّة العظيمة تقع بالدرجة الأولى على عاتق أنبياء الله والأئمّة المعصومين عليهم السلام، الذين تتمثّل فلسفة قيامهم ودعوتهم على تربية النفس وتهذيبها بشكل أساس. ثمّ تقع المسؤوليّة هذه – في الدرجة الثانية – على عاتق الإنسان الصالح الذي سلك طرق العلم والعمل، وزيّن نفسه بالإيمان والتقوى، فكان له شرف حمل هذه الأمانة، وتحمّل هذه المسؤولية الإلهية. ومن بين هؤلاء الرجال الإلهيين العظام برز رجل عالِم عامل، قضى عمره في عمليّة التهذيب وتحصيل المعرفة، فاكتسب مكانة سامية ومنزلة إنسانيّة راقية، استطاع من خلالها 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

5

المدخل: معرفة الإنسان في فكر الإمام الخميني قدس سره

 ريّ نفوس توّاقة لسلوك هذا الدرب العظيم، استطاع بمكانته هذه استنهاض أمّة بأسرها، لتقف في وجه جلّادها، فتسقطه عن عرشه، استطاع هدي نفوس كثيرة إلى قمم الإنسانيّة الشامخة، إنّه رجل من رجال الله في القرن العشرين، إنّه الإمام الخميني قدس سره.

 تتنوّع أساليب تهذيب النفس والآثار الأخلاقيّة بين المربّين والمعلّمين لهذا العلم، ويختلف سيرهم وسلوكهم، مع الحفاظ على وحدة المقصد. لكنّ آثار الإمام الخميني قدس سره في هذا المجال لا يمكن وضعها في مشرب خاصّ، بل إنّه استفاد من كافّة الأساليب والطرق لبيان المقصد وبلوغه، ولم يحدَّ نفسه بمنهج ومشرب خاصّ، ولكنّه اعتمد القرآن والسنّة أصلاً ومبنىً في طريق ومنهج "تهذيب النفس"، وجعل المطالب الأخرى كافّة في خدمة هذا المطلب.
 إنّ للإنسان ولمعرفته ولطريقة نظرة المعلّم والمربّي نصيباً وافراً في الأبحاث الأخلاقيّة، وهو يشكّل أساساً للمطالب الأخرى؛ لذا خُصّ مبحث "معرفة الإنسان في فكر الإمام الخميني قدس سره" بجعله المدخل الأوّل في هذا الكتاب؛ كي يكون الأساس والمبنى لما يليه من أبحاث في هذا المجال.
 
 تحيّر العقول في معرفة الإنسان
 إنّ جميع عقول الفلاسفة الكبار في العالم متحيّرة في كلّ جزء من جزئيّات بنية هذا الإنسان ـ الذي هو جزء حقير بالنسبة إلى العالم الكبير ـ مع أنّ علماء الطبّ والتشريح قد أمضوا آلاف السنين في التدقيق في هيكله الظاهري ودراسته، إلّا أنّهم لم يصلوا إلى حقيقته بالتحقيق1



1 الإمام الخميني، جنود العقل والجهل، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 116.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
10

6

المدخل: معرفة الإنسان في فكر الإمام الخميني قدس سره

 لم يعرفوا من هو الإنسان
 هؤلاء الذين يدّعون أنّهم عرفوا الإنسان، هؤلاء عرفوا شبحه، ولم يعرفوه، بل عرفوا شبحاً لحيوانيّة الإنسان.ـ. وظنّوه الإنسان. وأولئك الذين يدّعون أنّهم عارفون بالإسلام، أولئك أيضاً رأوا الدرجة الدنيا من الإسلام، واقتنعوا بها، وظنّوا أنّهم عرفوا الإسلام. والإنسان بالمراتب التي له، تُعتبر مرتبته الطبيعيّة أدنى هذه المراتب، غاية الأمر أنّها محسوسة لنا؛ ولأنّ ذلك الشيء محسوس لنا، إذ إنّنا طبيعيّون ونعيش الآن في عaالم الطبيعة، قد يُشبعنا هذا المحسوس. فالمعنويات غير موجودة الآن، فيما المحسوسات موجودة1. الإنسان موجود عجيب وغريب، يبقى إلى آخر عمره ولا يمكنه أن يعرف نفسه2.
 
 ملاك شرافة الإنسان
 ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين﴾3.
 
 النكتة هنا حيث يقول: ﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾، فقد عبّر في جميع التبدّلات السابقة بـ "الخلق"، ولكنّه في هذا البيان غيّر العبارة وعبّر بـ "الإنشاء"، وقال إنّنا جعلناه شيئاً آخر في آخر مرحلة. وهذا في الحقيقة يظهر أنّ هذا يختلف في الجوهر عمّا سبق. فمثلاً، هذا أصبح مجرّداً وما سبق كان جسماً، ثمّ قال بعد ذلك: 
 ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، فلم يقل هذه العبارة في الشيء الذي كان من الماديّات والجسمانيّات، ولكنّ من شرافة هذا الإنشاء الجديد عبّر بـ ﴿أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾.



1 صحيفة الإمام الخميني، ج8، ص434.
2 (م.ن)ط، ج14، ص147.
3 سورة المؤمنون، الآيات 12-14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

7

المدخل: معرفة الإنسان في فكر الإمام الخميني قدس سره

 إذن، يتضّح أنّ هذا موجود شريف هو فوق الجسم والجسماني؛ كما إنّ منتهى التشريف أن قال: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾1، بالطبع، إنّ من التشريف أنْ نسب التسوية إلى ذاته تعالى. فمثلاً، لو قام أحد الشرفاء بزيارة أحدهم، فإنّ صاحب المنزل سيباشر بخدمته وضيافته بنفسه نظراً لشرافة الضيف وأهمّيته، ولأهمّية الفعل وشرفه يتصدّى له صاحب المنزل مباشرةً. كما إنّ من التشريف نسبة روحه إليه تعالى، حيث يقول: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ ولم يرضَ نسب نفخ الروح إلى الغير، من قبيل الملائكة؛ ذلك أنّ الروح كانت مظهر الألوهيّة، وهي من الصقع الربوبيّ وآيته، فإذا ما رأى الإنسان هذه الجنبة في نفسه، فسوف ينسى طبيعته...

 
 لذا، ما كان موجوداً في آدم، والذي من أجله نُسب إلى الله، هو تشريف الإنسان نفسه؛ حيث قال الله تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾، وقد سجدت ملائكة الله للإنسان لجهة كونه منسوباً إلى الله والمظهر الأتمّ له. ولكنّ الشيطان لم يكن يرى تلك الجهة، بل رأى جهة الطينيّة في آدم؛ ولذا استدلّ قائلاً: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾2. بالطبع، إنّ هذه الكبرى، وهي أنّه لا ينبغي للأشرف أن يسجد للأخسّ ويطيعه صحيحة، ولكنّ خطأ الشيطان كان في الصغرى، حيث لم يرَ تلك الجهة المنسوبة إلى الله3.
 
 الكمال وطلب الإنسان له
 يتحقّق الكمال الإنساني، حيث تكون ذات وجود الإنسان صافية وخالية من الكدورات، من خلال أصلين، هما الحكمة والحرّيّة.
 أمّا الحكمة فهي العلم بنظام الوجود، لا بالماهيّات والمفاهيم والحدود، بل الاستقراء والبحث في نظام وجودات العالم هو الحكمة.



1 سورة الحجر، الآية 29.
2 سورة الأعراف، الآية 12.
3الإمام الخميني، تقريرات الفلسفة، ج3، ص43.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12

8

المدخل: معرفة الإنسان في فكر الإمام الخميني قدس سره

 والحرّيّة الذاتية، هي أن يتمكّن الإنسان من تحرير نفسه من عبوديّة الشهوة والحرص. وبمقدار ما يكون الإنسان أسير الشهوة والحرص والطمع والظلمة والحسد وغيره، فلن يصل إلى الكمال. ويسير الإنسان في طريق التكامل عندما يخرج من العبوديّة والانقياد للحرص والشهوة، ويتحرّر من قيودهما.

 
 على الإنسان أن يراقب هذين الأصلين. وحقيقة الذات تكون مساعدة من خلال العشق للكمال والنفور من النقص، فكلّ ما يطلبه الإنسان فمن انجذابه لكماله، وكلّ ما لا يعجبه فبسبب نقصه؛ لذا لو وجد الإنسان ما هو الأفضل من كلّ فاضل، فإنّه يميل إليه، وإذا ما احتمل وجود جمال أفضل من الذي يطلبه، فإنّه يتعلّق به، ولو احتمل وجود مملكة أخرى فإنّه يطلبها ويسعى إلى امتلاكها حتّى ولو كان يحكم الكرة الأرضيّة كلّها. ولو كان عالماً بعلم الأرض كلّها، واحتمل وجود علم آخر لطلبه؛ وهذا ناتج عن العشق الذاتيّ للكمال، فذاته هي صرف العشق للكمال، والكمال المطلق هو الله. إذاً، فكلّ ما يطلبه الإنسان، فإنّما يطلبه لكماله، ومن المحال للإنسان أن يطلب شيئاً لجهة النقص الموجودة فيه.
 
 إذاً، الإنسان موحِّد بالفطرة وطالب لله، ويطلب كلّ شيء من أجله، غاية الأمر أنّه أحياناً يظنّ أنّ الشيء الفلانيّ كاملٌ؛ ولأنّ الإنسان يطلب الكمال المطلق، يظنّ أنّه الكمال المطلق. لذا، فالإنسان موحّد بالفطرة، وهذا معنى الآية: "وَقَضى‏ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ"1؛ أي أراد ربّك ألّا تعبدوا. وهذا في الحقيقة شيء واحد، مجبول عليه أصل ذات الإنسان، غاية الأمر أنّ الإنسان ينفر من النقص بالعرض؛ ذلك أنّ النفور من النقص هو من لوازم العشق للكمال المطلق. إذاً، ليس للإنسان أكثر من شيء واحد، وهو العشق للكمال.



1 السيوطي، الدرّ المنثور، ج 4، ص 170.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

9

المدخل: معرفة الإنسان في فكر الإمام الخميني قدس سره

الأنبياء والهداية لفطرة طلب الكمال
 جاء الأنبياء لكي لا يدعوا الفطرة تُطبّق تطبيقاً خاطئاً؛ لأنّ طلب التوحيد جبلّيّ وذاتيّ في البشر، بل هو من ذاتيّات موجودات العالم كافّة، ومُحالٌ لهذا العشق أن يُقتلع من كمون ذواتهم. ولو أراد هذا العشق الذاتيّ الكامن في الذات أن يكون على صراط الصدق المستقيم وغير الخاطىء، عليه أن يكون في ظلّ هذين الأصلين، الحكمة الحرّيّة.
 
 فإذا اكتسب الإنسان الصفاء الذاتيّ، سوف يتحقّق هذان المعنيان. ووقوع الصفاء الذاتي في حدّ الاعتدال يبعد الفطرة عن الاعوجاج. وأما اختلاف الروحيّات فيحصل من ضعف الوجود وكدورة الذات التي لا يمكنها تحمّل الكمالات مع بعضها؛ لذا فإنّه يميل إلى بعضها ويعرض عن الأخرى...
 
 بالطبع، لأنّ الروح ضعيفة، فإنّها لا تحتمل أكثر من ذاك الذي تميل إليه؛ فمثلاً، ذلك الشخص الذي يشتغل بالمصارعة، وقد تربّى في ميدان المصارعة، يكون أقلّ رحمةً من غيره، ولا يكون رقيق القلب، وذاك الذي يشتغل في العبادة والتسبيح ويقبع في المحراب، فإنّ روح الشجاعة والقتال لا تكون موجودةً فيه، بل يكون جباناً، فكلّ هذا من ضعف الوجود، بحيث لا يمكنه احتمال الكمالات في عرض بعضها؛ لذا فإنّ الإنسان عندما يتكلّم إلى أحدٍ ما لا يمكنه أن يصغي جيّداً، أو إذا كان يصغي إلى أحد فإنّه لا يمكنه التكلّم.
 
 العشق للكمال المطلق
 في البشر خصائص لا توجد في أيّ موجود آخر، ومن جملتها أنّ في فطرة البشر طلب‏ القدرة المطلقة وليس القدرة المحدودة، طلب الكمال المطلق وليس الكمال المحدود، يطلب العلم المطلق والقدرة المطلقة ولمّا كانت القدرة المطلقة لا تتحقّق
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

10

المدخل: معرفة الإنسان في فكر الإمام الخميني قدس سره

 في غير الحقّ تعالى، فإنّ البشر يطلب الحقّ تعالى بالفطرة دون أن يعرف.
 
 أحد الأدلّة المحكمة على إثبات الكمال المطلق هو هذا العشق الإنساني للكمال المطلق، فلدى الإنسان عشق حقيقي للكمال المطلق، ليس لتوهّم الكمال المطلق، بل لحقيقة الكمال المطلق. من المحال أن يكون هناك عاشق حقيقيّ دون معشوق حقيقيّ. لا أثر هنا للتوهّم والاختلاق؛ لأنّ الفطرة تسعى خلف حقيقة الكمال المطلق، وليس وراء توهّم الكمال المطلق حتّى يأتي شخص ويقول أنّه خُدِع، فالفطرة لا تنخدع أبدا1.
 
 وحدانيّة الكمال المطلق
 اعلم أنّ في الإنسان- إن لم نقل في كلّ موجود- حبّ الكمال المطلق بحسب الفطرة، ومن المستحيل أن ينفصل هذا الحبّ عنه، ومن المحال أن يكون الكمال المطلق اثنين ومكرّراً، والكمال المطلق هو الحقّ- جلّ وعلا-، فالجميع يريده وقلوب الجميع متعلّقة به، حتّى وإن لم يعلموا ذلك وكانوا في حجب الظلمة والنور، وظنّوا بهذه الحجب أنّهم يريدون أشياء أخرى، وهم لا يقنعون بأيّ كمال أو قدرة أو مكانة أو جمال يصلون إليه، ولا يجدون ضالّتهم فيه إنّ الأقوياء وأصحاب القوى الكبرى يبحثون عن قوّة أكبر مهما كانت القوّة التي يصلون إليها، وطلّاب العلم مهما بلغوا من مراتب العلم فإنّهم يطلبون ما فوقه فلا يجدون فيه ضالّتهم، هذه الضالّة التي هم أنفسهم عنها غافلون.
 
 ولو مُنِح طلّاب السلطة القدرة على السيطرة والتصرّف في جميع العالم الماديّ، من الأرض والمنظومات الشمسيّة والمجرّات وكلّ ما فوقها، وقيل لهم: "إنّ فوق هذه قوة أخرى. وإنّ وراء هذا العالم عالم أو عوالم أخرى، فهل تريدون الوصول إليها؟" فإنّ من المحال أن لايتمنّوها، بل إنّهم يقولون بلسان‏ الفطرة: ليتنا نستطيع



1 صحيفة الإمام الخميني، ج16، ص212.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

11

المدخل: معرفة الإنسان في فكر الإمام الخميني قدس سره

 أن نحصل عليها هي أيضا!". وهكذا هو طالب العلوم، إنّه إذا شكّ بأنّ هناك درجة أخرى- فوق ما وصل إليه- فإنّ فطرته الباحثة عن المطلق ستقول: ليتني استطعت أنا أيضاً أن أمتلك قدرة التصرّف فيها، أو شملتها سعة علمي هي أيضاً! 1".
 
 سبب طلب الكمال
 إنّ الإنسان بفطرته ينشد الكمال بنحو مطلق. وكما تعلمون، إنّ الإنسان يتطلّع لأن يكون القوّة المطلقة في العالم، ولا يتعلّق بالقدرة الناقصة. ولو أنّه امتلك العالم وقيل له ثمّة عالم آخر، لرغب فطريّاً في ضمّ ذلك العالم لسلطته أيضاً. ومهما بلغ الإنسان من العلم، وقيل له إنّ هناك علوماً أخرى، فإنّه يرغب فطريّاً في تعلّم العلوم أيضاً. إذاً، لا بدّ أن تكون هناك قوّة مطلقة وعلم مطلق كي يتعلّق الإنسان بهما، وذلك هو الله تبارك وتعالى الذي نتوجّه إليه جميعاً، وإن كنّا نجهل ذلك... الإنسان يريد أن‏ يصل‏ إلى‏ "الحقّ‏ّ المطلق‏" كي يفنى في الله2.
 
 الإنسان غير متناهٍ
 فطموح الإنسان لا حدّ له في‏ كلّ‏ شيء‏، ولا يظنّنّ الإنسان أنّه إذا كان يعيش في مكان ما ووجد مكاناً آخر أفضل منه فإنّه سيرتاح فيما لو ذهب إليه، بل هذا بداية امتداد رغبته في الحصول على مرتبة أعلى ومكان أفضل.3 الإنسان في باطن ذاته وفطرته غير متناهٍ؛ آماله غير متناهية، فآمال الإنسان لا تتوقّف عند حدّ4.



1 صحيفة الإمام الخميني، ج16، ص212.
2 (م.ن)، ج21، ص223.
3 (م.ن)، ج19، ص375.
4 (م.ن)، ج16، ص20.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

12

المدخل: معرفة الإنسان في فكر الإمام الخميني قدس سره

 المقامات الإنسانيّة العليا
 ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾1، إنّ رؤية إبراهيم عليه السلام للملكوت لم يكن بهذا البصر، بل كان رؤيةً شهوديّةً وحضوريّةً وعقليّة؛ لأنّ الرؤية العقليّة ممكنة أيضاً، ولا يلزم أن يرى الإنسان الشيء فقط من خلال هاتين العينين، حتّى تتحقّق الرؤية، بل إنّنا نرى أيضاً في المنام، مع أنّ العينين تكونان مغمضتين2.
 
 يمكن الاستدلال على المطلب بنحو آخر، في قضيّة النبيّ إبراهيم عليه السلام، وذلك من خلال الالتفات إلى صدرها وذيلها، بهذا الشكل: فحقيقة معنى الآيات الشريفة الحاكية عن سير النبيّ إبراهيم عليه السلام، هي أنّه خرق حجب الطبيعة وكلّ ما يمثّل في العالم مظهراً للحجاب، وأدرك أنّ ليس لهذه نور في نفسها، فالقمر والزهرة والشمس التي لها نور، نورها ليس من نفسها، بل إنّ نورها من مبدأ آخر.
 
 والحاصل: المقصود من تجاوز القمر والشمس هو أنّ النبيّ إبراهيم عليه السلام قد تجاوز عالم الطبيعة كلّيّاً، ورأى أنّ هذه كلّها مظهر "كان"، ولا جمال لها، وأنّها كلّها تغيب وتأفل، وأنّ الوجود الممكن هو وجود آفل، يأفل كلّه في مغرب الوجود، ولأنّه رأى أنّ الكلّ يأفل ولم يرَ في عالم الإمكان سوى الأفول، أزاحها جميعاً، وقال: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾3، وقضى على كلّ أنواع الشرك؛ ذلك أنّ رؤية الممكن شرك، وأنّ وجوده وجود آفل4.



1 سورة الأنعام، الآية 75.
2 تقريرات الفلسفة،ج3، ص48.
3 سورة الأنعام، الآية 79.
4 الإمام الخميني، سرّ الصلاة، ص3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

13

المدخل: معرفة الإنسان في فكر الإمام الخميني قدس سره

 سير الإنسان وعبوره عالم الطبيعة

 الجميع يسير بالحركة الجوهريّة للطبيعة، لا شّك في هذا. يأتي أحدهم، في هذا السير، منذ الليلة الأولى المظلمة في عالم الطبيعة إلى مطلع الفجر ذاك ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ 1 بتمام السلامة، وتكون صفحة قلبه في مدّة السير هذه متوجّهة إلى ما وراء عالم الطبيعة، وكلّ ما يقع على هذه المرآة يكون شعاعاً من عالم الغيب، فلم يسطع عليها شيئاً سوى أشعّة تلك الشمس الحقيقيّة، حيث إنّه لم يرِد شيئاً غيرها؛ فهو عاشق ذلك النور ولم يتوجّه إلى غيره، ولا يريد لسوى نوره أن يسطع على صفحة القلب؛ إنّه لا يخبر شيئاً عن أيّ حبّ سوى حبّ ذلك المعشوق، وليس له وِرْد سوى وِرْد "الواحد"؛ لقد هام في الحبّ إلى درجة أصبح فيها من غير قلب، فصار قلبه بين يدي الرحمن مسلّماً له، لا يقع فيه أيّ تصرّف سوى تصرّفه تعالى، ولا يخطر فيه شيء سواه تعالى، ولا يقع شعاع حبّ ولا طلب رضا سوى حبّ لقائه وطلب رضاه، وذلك كما يقول شاعر الكمّلين2:.
 
 ليس في لوح قلبي سوى أَلِفُ قامة الحبيب
                                   ماذا أفعل إن لم يعلّمني أستاذي حرفاً آخر
 
 إنّ وحدة الـ "ألف" من بين الحروف أشدّ؛ لأنّها ليست سوى شيء مستقيم، بخلاف الحروف الأخرى كـ "ب" مثلاً، التي هي ملتوية ومعوجّة ومختلفة الأجزاء. فإن كان الشاعر صادقاً فيما يقوله، فلن يكون في قلبه سوى أمنية واحدة، وحبّ واحد هو حبّ الجمال، ورضا واحد هو رضا المحبوب، ولن ترى عيناه سوى محضر واحد ونور واحد، ولن يكون في مرآة قلبه شيء، ولن يخطو خطوة، ولن يمدّ يده إلّا له. ولو لم يكن صادقاً، فالأنبياء والمرسلون صادقون في هذا المدّعى؛ فالله تعالى في الأزل لم يرسم في الحقيقة في لوح فطرتهم سوى "ألف" قامة الحبيب، وهم على أساس هذه



1 سورة القدر، الآية 5.
2 حافظ الشيرازي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

14

المدخل: معرفة الإنسان في فكر الإمام الخميني قدس سره

 الفطرة لا يعلمون شيئاً آخر؛ إنّهم لا يعرفون شيئاً سوى قامة الحبيب، ولا ينطقون بشيء سوى الـ "ألف"؛ لذا قالوا في ذلك الدعاء: "حتّى تكون أعمالي وأورادي كلّها وِرْداً واحداً"1...
 
 فلو أقام الأشخاص الذين لديهم وِرْد "الواحد" في عالم الدنيا، لن يريدوا سوى عبادته، وإن حصل لهم مال الدنيا، فلن يريدوا سوى بذله في سبيل الحبيب، وإذا ما طلبوا الأولاد وتوجّهوا إلى هذا الأمر فما ذلك إلّا ليُعبد الله، إنّهم لا ينتظرون منهم شيئاً آخر، ولا ينتظرون شيئاً سوى أنّهم يريدون لكلمة "لا إله إلّا الله" أن تُرفع. إذاً، إنّ صفحات قلوب مثل هؤلاء الأشخاص بتمامها، منذ الليلة الأولى لعالم الطبيعة وحتّى مطلع الفجر، متوجّهة إلى ذلك النور الواحد، ولا تعرف سواه، وسوى توحيده الذاتيّ والفعليّ والصفاتي، وقد اصطبغت قلوبهم بصبغة التوحيد كلّيّاً، ولم تظهر - في هذا السير الطبيعي - فيها أيّ نقطة سوداء، وحتّى أنّها لم تكن موجودة أيضاً من البداية. هؤلاء أشخاص قد اتّحدوا في هذا السير الطبيعي، بعالم الوحدة ذاك، فكانت صفحات قلوبهم بتمامها آثاراً له، فهم يأنسون به ويعرفونه تماماً، وذلك كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "فلأنا بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض"2.
 
 سير الإنسان والإقامة في الطبيعة
 في مقابل هؤلاء، هناك طائفة قد وجّهت صفحة القلب - منذ اليوم الأوّل - إلى عالم الطبيعة، وكان كلّ اشتغالهم بهذا العالم، وأداروا ظهر القلب إلى الأعلى، فأظلمت النقط السوداء صفحة القلب كلّها، وكانوا دائماً يفكّرون بالتعدّي، ويأملون بالعدوان، وجمع منال الدنيا، وقضاء شهوة البطن والفرج، فأقفلوا باب القلب إلى ناحية الأعلى بشكلٍ كلّيّ، ولم يكن لهم معرفة وأنس به على الإطلاق، كانوا عبارة عن



1 من دعاء كميل.
2 نهج البلاغة، خطبة 189.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

15

المدخل: معرفة الإنسان في فكر الإمام الخميني قدس سره

 جراب جُمعت فيه الأخلاق الفاسدة، وحبّ الجاه والسلطة ورؤية النفس، والانقياد للشهوة والغضب والبخل، واشتغلوا عمراً في اكتساب وجمع هذه الأمور، فامتلأ القلب بها، وأظهروا اتّحاداً ذاتيّاً مع حبّ عالم الطبيعة، فامتلأ القلب بحبّ الأباطيل والشيطنات والأذى.
 بالطبع، عندما تجتمع هذه الأمور في الإنسان، فلأنّه لا يأنس ولا يعرف سوى عالم الطبيعة. وحيث إنّ الذات تتّحد مع عالم الطبيعة؛ لذا فإنّه إذا ما رأى مناماً فإنّه يرى أمثال هذه الأمور، ولأنّه اتّحد اتّحاداً ذاتيّاً مع هذه الأشياء، فإنّه عندما يخرج من عالم الطبيعة، تكون ذاته متّحدةً مع هذه الملكات، وجراباً مليئاً بهذه الصفات، ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾1.
 إذاً، هاتان المجموعتان، منذ اليوم الأوّل لوجودهما تخرجان خطوةً بخطوة وبنحو مطّرد، ولا إمكان للتوقّف فيه لأنّ الحركة الجوهريّة لهذا السير والسفر القهريّ قد بُرهنت وأُقيم عليها الدليل، من عالم الطبيعة هذا إلى آخر منزل. وسواء كان أشرف الموجودات ذاك الذي وُلد في مكّة، أو ذاك الشقيّ الذي وُلد في تلك المدينة نفسها، كلاهما يتوجّهان إلى الخروج من عالم الطبيعة، ولا اختلاف أبداً في هذا المعنى. 2
 
 كيفيّة ارتقاء الإنسان الطبيعي إلى الإلهي
 إنّ من أسرار العبادات وفوائدها المهمّة التي تكون بقيّة الفوائد مقدّمة لها، أن تكون مملكة البدن بجميعها، ظاهرها وباطنها، مسخّرة تحت إرادة الله ومتحرّكة بتحريك الله تعالى، وتكون القوى الملكوتيّة والمُلْكيّة للنفس من جنود الله، وتكون كلّها كملائكة الله بالنسبة إلى الحقّ تعالى، وهذه من المراتب النازلة لفناء القوى والإرادات في إرادة الحقّ، ويترتّب على هذا بالتدريج النتائج العظيمة، ويصبح الإنسان الطبيعي إلهيّاً، وتصير النفس مرتاضة بعبادة الله، وتنهزم جنود إبليس وتنقرض، ويصبح



1  سورة الشورى، الآية 30.
2  تقريرات الفلسفة، ج3، ص229.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

16

المدخل: معرفة الإنسان في فكر الإمام الخميني قدس سره

 القلب مع قواه مسلّماً للحقّ، ويبرز الإسلام ببعض مراتبه الباطنيّة في القلب، وتكون نتيجة هذا التسليم لإرادة الحقّ في الآخرة أنّ الحقّ تعالى ينفّذ إرادة صاحب هذا القلب في العوالم الغيبيّة، ويجعله مثله، فكما أنّه تعالى وتقدّس يوجِد كلّ ما أراد بمجرّد الإرادة، فإنّه يجعل إرادة هذا العبد أيضاً كذلك1

كيفيّة ارتقاء الإنسان الحيواني إلى الإلهي
)عندما) تـقع جميع مراتب الحقّ التي لا تعدو هذه المقامات الثلاثة - المعارف الإلهية، والأخلاق الفاضلة، والأعمال الصالحة - تحت أقدام الأهواء النفسية، عندئذ يصبح اتّباع الأهواء النفسيّة والرغبات الحيوانيّة حائلاً دون أن يتجلّى الحقّ فيه الإنسان من خلال أيّة واحدة من تلك المراتب، وتطفئ كدورة هوى النفس وظلمته كلّ أنوار العقل والإيمان، فلا تحدث له ولادة ثانية؛ أي الولادة الإنسانية، بل يمكث على تلك الحال، ويكون ممنوعاً ومصدوداً عن الحقّ والحقيقة إلى أن يرحل عن هذا العالم.
إنّ مثل هذا الشخص إذا رحل عن هذا العالم بتلك الحالة، فلن يرى نفسه في ذلك العالم، عالم كشف السرائر، إلاّ حيواناً أو شيطاناً، ولن يذكر شيئاً عن الإنسان والإنسانية أبداً، فيبقى في تلك الحال من الظلام والعذاب والخوف الذي لا ينتهي حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
إذاً، هذه هي حال التّبعيّة الكاملة لأهواء النفس والتي تُبعد الإنسان نهائياً عن الحقّ. ومن هنا يمكن التوصّل إلى أنّ ميزان البعد عن الحقّ هو اتّباع هوى النفس، وحجم البعد يُقدّر أيضاً بمقدار التبعيّة. فمثلاً، لو وقعت مملكة إنسانيّة هذا الإنسان الفلاني، الذي كان منذ أوّل ولادته مصحوباً بهذه القوى، ومن خلال ترقّيه وتكامله 



1  الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، ص32.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

17

المدخل: معرفة الإنسان في فكر الإمام الخميني قدس سره

 كانت هي أيضاً تترقّى وتتكامل، تحت تأثير تعاليم الأنبياء وتربية العلماء والمربّين، واستسلمت شيئاً فشيئاً لسلطة تربية الأنبياء والأولياء عليهم السلام، فقد لا يمضي عليه وقت طويل حتى تصبح القوّة الكاملة الإنسانيّة، التي أُودعت فيه على أساس القابلية فعليةً تظهر للعيان، وترجع جميع شؤون مملكته وقواها إلى شأن الإنسانية، فيؤمن شيطانه على يديه كما حدث مع رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث قال: "إنَّ شَيْطَانِي آمَنَ بِيَدي". ويستسلم مقام حيوانيّته لمقام إنسانيّته، فيصبح مطيّةً مروّضةً على طريق عالم الكمال والرقيّ، وبراقاً عابراً للسماء نحو الآخرة، ويمتـنع عن كلّ معاندة وتمرّد. وبعد أن تستسلم الشهوة والغضب إلى مقام العدل والشرع تعمّ العدالة في المملكة، وتتشكّل الحكومة العادلة الحقّة التي يكون العامل والحاكم فيها الحقّ والقوانين الحقّة، فلا تُتّخذ فيها خطوة واحدة مخالفة للحقّ، وتكون خاليةً بشكل كلّي من الباطل والجور.

 
 إذاً، كما أنّ ميزان منع الحقّ والصدّ عنه اتّباع الهوى، فكذلك ميزان اجتذاب الحقّ وسيادته هو اتّباع الشرع والعقل. وبين هذين المقياسين، وهما التبعيّة التامّة لهوى النفس والتبعـيّة التامّة المطلقة للعقل، منازل غير متناهية، بحيث إنّ كلّ خطوة يخطوها في اتّباع هوى النفس، يكون بالمقدار نفسه قد منع الحقّ، وحجب الحقيقة، وابتعد عن أنوار الكمال الإنساني وأسرار وجوده. وبالمقابل، كلّما خطا خطوةً مخالفةً لهوى النفس ورغبتها، يكون بالمقدار نفسه قد أزاح الحجاب، وتجلّى نور الحقّ في المملكة1.



1  الإمام الخميني، الأربعون حديثا، ص170.




 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

18

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 
 المبحث الأوّل : خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء
توضيح لخطّين ربّانيّين يقوم على أساسهما مجتمع التوحيد وتنسيق الحياة الاجتماعية للإنسان على الأرض
 الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

19

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 الأساس الإسلامي لخطّ الخلافة


الخلافة العامّة في القرآن الكريم
قال الله سبحانه وتعالى:
1- ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْد.ونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾1.
2- ﴿إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾2.
3- ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ﴾3.
4- ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَق ﴾4.



1  سورة البقرة، الآيات 30 - 33.
2  سورة الأعراف، الآية 69.
3 سورة فاطر، الآية 39.
4  سورة ص، الآية 26.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

20

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

5- ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾1.

 الشهادة في القرآن الكريم
قال الله سبحانه وتعالى:
1- ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا ﴾2.
2- ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾3.
3- ﴿ كُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾4.
4- ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾5.
5- ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ﴾6.
6- ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾7.



1  سورة الأحزاب، الآية 72.
2  سورة النساء، الآية 41.
3  سورة البقرة، الآية 143.
4  سورة المائدة، الآية 117.
5  سورة النحل، الآية 89.
6  سورة الحج، الآية 78.
7  سورة آل عمران، الآية 140.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

 


21

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 7- ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء ﴾1.

8- ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾2.

خطّ الخلافة وركائزه العامّة
إنّ الله سبحانه وتعالى شرّف الإنسان بالخلافة على الأرض، فكان الإنسان متميّزاً عن كلّ عناصر الكون بأنّه خليفة الله على الأرض، وبهذه الخلافة استحقّ أن تسجد له الملائكة، وتدين له بالطاعة كلّ قوى الكون، المنظور وغير المنظور.
والخلافة التي تتحدّث عنها الآيات الشريفة المذكورة ليست استخلافاً لشخص آدم عليه السلام، بل للجنس البشري كلّه؛ لأنّ من يفسد في الأرض ويسفك الدماء - وفقاً لمخاوف الملائكة - ليس آدم بالذات، بل الآدمية والإنسانية على امتدادها التاريخي. فالخلافة إذاً، قد أعطيت للإنسانية على الأرض؛ ولهذا خاطب القرآن الكريم، في المقطعين الثاني والثالث من المقاطع القرآنية المتقدّمة، المجتمع البشري في مراحل متعدّدة، وذكّرها بأنّ الله قد جعلهم خلائف في الأرض، وكان آدم هو الممثّل الأوّل لها، بوصفه الإنسان الأوّل الذي تسلّم هذه الخلافة، وحظي بهذا الشرف الربّاني؛ فسجدت له الملائكة ودانت له قوى الأرض.
وكما تحدّث القرآن الكريم عن عملية الاستخلاف من جانب الله تعالى، كذلك تحدّث عن تحمّل الإنسان لأعباء هذه الخلافة بوصفها أمانة عظيمة ينوء الكون كلّه 



1  سورة المائدة، الآية 44.
2  سورة الزمر، الآية 69.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

22

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 بحملها، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾1.


 واستخلاف الله تعالى خليفة في الأرض، لا يعني استخلافه على الأرض فحسب، بل يشمل هذا الاستخلاف كلّ ما للمستخلِف سبحانه وتعالى من أشياء تعود إليه، والله هو ربّ الأرض وخيراتها، وربّ الإنسان والحيوان وكلّ دابة تنتشر في أرجاء الكون الفسيح؛ وهذا يعني أنّ خليفة الله في الأرض مستخلف على كل هذه الأشياء. ومن هنا كانت الخلافة في القرآن أساساً للحكم وكان الحكم بين الناس متفرّعاً على جعل الخلافة، كما يلاحظ في المقطع الرابع من المقاطع القرآنية المتقدّمة2 المرتبطة بالخلافة.

 ولمّا كانت الجماعة البشرية هي التي مُنِحَت - ممثّلة في آدم عليه السلام - هذه الخلافة، فهي إذاً المكلّفة برعاية الكون وتدبير أمر الإنسان والسير بالبشرية في الطريق المرسوم للخلافة الربّانية.

 وهذا يعطي مفهوم الإسلام الأساسي عن الخلافة؛ وهو أنّ الله سبحانه وتعالى أناب الجماعة البشرية في الحكم وقيادة الكون، وإعماره اجتماعياً وطبيعياً، وعلى هذا الأساس تقوم نظرية حكم الناس لأنفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة عن الله.
 وعملية الاستخلاف الربّانيّ للجماعة على الأرض بهذا المفهوم الواسع تعني:



1  سورة الأحزاب، الآية 72.
2  سورة ص، الآية 26.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

23

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

  أوّلاً: انتماء الجماعة البشرية إلى محور واحد، وهو المستخلِف - أي الله سبحانه وتعالى - الذي استخلفها على الأرض بدلاً عن كلّ الانتماءات الأخرى، والإيمان بسيّد واحد ومالك واحد للكون وكلّ ما فيه، وهذا هو التوحيد الخالص الذي قام على أساسه الإسلام، وحملت لواءه كلّ ثورات الأنبياء تحت شعار "لا إله إلّاالله"، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ ﴾1، ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار﴾2.
 
 ثانياً: إقامة العلاقات الاجتماعية على أساس العبودية المخلصة لله، وتحرير الإنسان من عبودية الأسماء التي تمثّل ألوان الاستغلال والجهل والطاغوت، قال الله سبحانه: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا ﴾3.
 
 ثالثاً: تجسيد روح الأخوّة العامّة في العلاقات الاجتماعية كلّها، بعد محو ألوان الاستغلال والتسلّط، فما دام الله سبحانه وتعالى واحداً ولا سيادة إلّا له، والناس جميعاً عباده ومتساوون بالنسبة إليه، فمن الطبيعي أن يكونوا أخوة متكافئين في الكرامة والحقوق الإنسانية، ولا يقوم التفاضل على مقاييس الكرامة عند الله تعالى إلّا على أساس العمل الصالح، تقوىً أو علماً أو جهاداً، قال الله سبحانه: 
 ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾4.
 رابعاً: إنّ الخلافة استئمان؛ ولهذا عبّر القرآن الكريم عنها في المقطع الأخير5 بالأمانة. والأمانة تفترض المسؤولية والإحساس بالواجب؛ إذ بدون إدراك الكائن أنّه مسؤول، لا يمكن أن ينهض بأعباء الأمانة أو يُختار لممارسة دور الخلافة، ﴿إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴾6.



1  سورة البقرة، الآية 138.
2  سورة يوسف، الآية 39.
3  سورة يوسف، الآية 40.
4  سورة النجم، الآية 39.
5   الآية المتقدّمة في سورة الأحزاب، الآية 72.
6  سورة الإسراء، الآية 34.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

24

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

  والمسؤولية علاقة ذات حدّين؛ فهي من ناحية تعني الارتباط والتقيّد، فالجماعة البشرية التي تتحمّل مسؤوليات الخلافة على الأرض إنّما تمارس هذا الدور بوصفها

خليفة عن الله؛ ولهذا فهي غير مخوّلة أن تحكم بهواها أو باجتهادها المنفصل عن توجيه الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ هذا يتنافى مع طبيعة الاستخلاف، وإنّما تحكم بالحقّ، وتؤدّي إلى الله تعالى أمانته بتطبيق أحكامه على عباده وبلاده. وبهذا تتميّز خلافة الجماعة بمفهومها القرآني والإسلامي عن حكم الجماعة في الأنظمة الديمقراطية الغربية؛ فإنّ الجماعة في هذه الأنظمة هي صاحبة السيادة، ولا تنوب عن الله في ممارستها، ويترتّب على ذلك أنّها ليست مسؤولة بين يدي أحد، وغير ملزمة بمقياس موضوعي في الحكم، بل يكفي أن تتّفق على شيء، ولو كان هذا الشيء مخالفاً لمصلحتها ولكرامتها عموماً، أو مخالفاً لمصلحة جزء من الجماعة وكرامته، ما دام هذا الجزء قد تنازل عن مصلحته وكرامته. وعلى العكس من ذلك حكم الجماعة القائم على أساس الاستخلاف؛ فإنّه حكم مسؤول، والجماعة فيه ملزمة بتطبيق الحقّ والعدل، ورفض الظلم والطغيان، وليست مخيّرة بين هذا وذاك، حتى أنّ القرآن الكريم يسمّي الجماعة التي تقبل بالظلم وتستسيغ السكوت على الطغيان بأنّها ظالمة لنفسها، ويعتبرها مسؤولةً عن هذا الظلم، ومطالبة برفضه بأيّ شكل من الأشكال، ولو بالهجرة والانفصال إذا تعذّر التغيير، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾1.
 
 وتعني المسؤولية من ناحية أخرى أنّ الإنسان كائن حرّ؛ إذ بدون الاختيار والحرية لا معنى للمسؤولية، ومن أجل ذلك كان بالإمكان أن يُسْتَنْتَج مِنْ جعلِ الله خليفة على الأرض، أنّه يجعل الكائن الحرّ المختار، الذي بإمكانه أن يصلح في الأرض وبإمكانه أن يفسد أيضاً، وبإرادته واختياره يجدّد ما يحقّقه من هذه الإمكانات، قال الله تعالى: ﴿إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾2.



1  سورة النساء، الآية 97.
2  سورة الإنسان، الآية 3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

25

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 وأكبر الظنّ أنّ هذه الحقيقة هي التي أثارت في نفوس الملائكة المخاوف من مصير هذه الخلافة وإمكانية انحرافها عن الطريق السويّ إلى طريق الفساد وسفك الدماء؛ لأنّ صلاح المسيرة البشرية، لمّا كان مرتبطاً بإرادة هذا الإنسان الخليفة، ولم يكن مضموناً بقانون قاهر - كما هي الحالة في كلّ مجالات الطبيعة -، فمن المتوقّع أن تجد إمكانية الإفساد والشرّ مجالاً لها في الممارسة البشرية على أشكالها المختلفة، وكأنّ الملائكة هالهم أن توجد لأوّل مرّة طاقة محايدة يتعادل فيها الخير والشرّ، ولا تضبط وفقاً للقوانين الطبيعية والكونية الصارمة التي تسيّر الكون بالحكمة والتدبير، وفضّلوا على ذلك الكائن الذي يولد ناجزاً مصمّما،ً لا فراغ في سلوكه، تتحكّم فيه باستمرار قوانين الكون، كما تتحكّم في الظواهر الطبيعية. ومن هنا قدّموا أنفسهم كبديل عن الخليفة الجديد، ولكن فاتهم أنّ الكائن الحرّ الذي جعله الله تعالى خليفة في الأرض لا تعني حرّيته إهمال الله تعالى له، بل تغيير شكل الرعاية؛ فبدلاً عن الرعاية من خلال قانون طبيعي لا يتخلّف - كما ترعى حركات الكواكب ومسيرة كلّ ذرة في الكون - يتولّى لله سبحانه وتعالى تربية هذا الخليفة وتعليمه، لكي يصنع الإنسان قدره ومصيره، وينمّي وجوده على ضوء هدىً وكتاب منير.
 ومن هنا علّم الله تعالى آدم الأسماء كلّها، وأثبت للملائكة من خلال المقارنة بينه وبينهم أنّ هذا الكائن الحرّ الذي اجتباه للخلافة قابل للتعليم والتنمية الربّانية، وأنّ الله تعالى قد وضع له قانون تكامله من خلال خطّ آخر يجب أن يسير إلى جانب خطّ الخلافة، وهو خطّ الشهادة الذي يمثّل القيادة الربّانية والتوجّه الربّاني على الأرض.
 إنّ الملائكة لاحظوا خطّ الخلافة بصورة منفصلة عن الخطّ المكمّل له بالضرورة، فثارت مخاوفهم، وأمّا الخطّة الربّانية فكانت قد وضعت خطّين جنباً إلى جنب: أحدهما خطّ الخلافة، والآخر خطّ الشهادة الذي يجسّده شهيد ربّاني يحمل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

26

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 إلى الناس هدى الله، ويعمل من أجل تحصينهم من الانحراف، وهو الخطّ الذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله: ﴿قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾1.
 
 مسار الخلافة على الأرض
 
 ما هو الهدف المرسوم لخلافة الإنسان على الأرض؟
 وفي أيّ اتّجاه يجب أن تسير هذه الخلافة في ممارستها الدائبة؟
 ومتى تحقّق هدفها وتستنفذ غرضها؟
 إنّ الخلافة الربّانية للجماعة البشرية وفقاً لركائزها المتقدّمة، تقضي بطبيعتها على كلّ العوائق المصطنعة والقيود التي تجمّد الطاقات البشرية وتهدر إمكانات الإنسان؛ وبهذا تصبح فرص النمو متوفّرة توفّراً حقيقياً. 
النمو الحقيقي في مفهوم الإسلام، أن يحقّق الإنسان - الخليفة على الأرض - في ذاته تلك القيم التي يؤمن بتوحيدها جميعاً في الله عزّ وجلّ الذي استخلفه واسترعاه أمر الكون. فصفات الله تعالى وأخلاقه، من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والانتقام من الجبّارين والجود الذي لا حدّ له، هي مؤشّرات للسلوك في مجتمع الخلافة، وأهداف للإنسان الخليفة، فقد جاء في الحديث: "تشبّهوا بأخلاق الله". ولمّا كانت هذه القيم على المستوى الإلهي مطلقة ولا حدّ لها، وكان الإنسان الخليفة كائناً محدوداً، فمن الطبيعي أن تتجسّد عملية تحقيق تلك القيم إنسانياً في حركة مستمرة نحو المطلق، وسير حثيث إلى الله. وكلّما استطاع الإنسان من خلال حركته أن يتصاعد في تحقيق تلك المثل ويجسّد في حياته بصورة أكبر فأكبر عدالة الله وعلمه وقدرته ورحمته وجوده ورفضه للظلم والجبروت، سجّل بذلك انتصاراً في مقاييس الخلافة الربّانية، واقترب نحو الله في مسيرته الطويلة التي لا تنتهي، إلّا بانتهاء شوط الخلافة على



1  سورة البقرة، الآية 38.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

27

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 الأرض، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾1.

 ولم يكن من الصدفة أن يوضع العدل أصلاً ثانياً من أصول الدين، ويميز عن سائر صفات الله تعالى بذلك، وإنّما كان تأكيداً على أهمّ صفات الله تعالى في مدلوله العملي ودوره في توجيه المسيرة الإنسانية؛ وذلك لأنّ العدل في المسيرة وقيامها على أساس القسط هو الشرط الأساس لنمو كلّ القيم الخيّرة الأخرى، وبدون العدل والقسط يفقد المجتمع المناخ الضروري لتحرّك تلك القيم وبروز الإمكانات الخيّرة.
 فالخلافة إذاً، حركة دائبة نحو قيم الخير والعدل والقوّة، وهي حركة لا توقّف فيها؛ لأنّها متّجهة نحو المطلق، وأيّ هدف آخر للحركة سوى المطلق - سوى الله سبحانه وتعالى - سوف يكون هدفاً محدوداً، وبالتالي سوف يجمّد الحركة، ويوقف عملية النمو في خلافة الإنسان. وعلى الجماعة التي تتحمّل مسؤولية الخلافة أن توفّر لهذه الحركة الدائبة نحو هدفها المطلق الكبير كلّ الشروط الموضوعية، وتحقّق لها مناخها اللازم، وتصوغ العلاقات الاجتماعية على أساس الركائز المتقدّمة للخلافة الربّانية.



1  سورة الانشقاق، الآية 6.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

28

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 الأساس الإسلامي لخطّ الشهادة
 
 
خطّ الشهادة وركائزه العامّة
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ﴾1.
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾2.
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر﴾3.
وضع الله سبحانه وتعالى إلى جانب خطّ الخلافة - خلافة الإنسان على الأرض - خطّ الشهادة الذي يمثّل التدخّل الربّاني من أجل صيانة الإنسان الخليفة من الانحراف، وتوجيهه نحو أهداف الخلافة الرشيدة؛ فالله تعالى يعلم ما توسوس به نفس الإنسان، وما تزخر به من إمكانات ومشاعر، وما يتأثّر به من مغريات وشهوات، وما يُصاب به من ألوان الضعف والانحلال، وإذا ترك الإنسان ليمارس دوره في الخلافة بدون توجيه وهدىً، كان خلقه عبثاً ومجرّد تكريس للنزوات والشهوات وألوان الاستغلال.



1  سورة ق، الآية 16.
2  سورة المؤمنون، الآية 115.
3  سورة العصر، الآيات 1 - 3.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

29

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 وما لم يحصل تدخّل ربّاني لهداية الإنسان الخليفة في مسيره، فإنّه سوف يخسرّ الأهداف الكبيرة كلّها التي رسمت له في بداية الطريق.

 وهذا التدخل الربّاني هو خطّ الشهادة، وقد صنّف القرآن الكريم الشهداء ثلاثة أصناف، فقال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء ﴾1.
 والأصناف الثلاثة على ضوء هذه الآية هم النبيون والربّانيون والأحبار، والأحبار هم علماء الشريعة، والربّانيون درجة وسطى بين النبي والعالم، وهي درجة الإمام.
 ومن هنا أمكن القول بأن خطّ الشهادة يتمثّل:
 أولاً: في الأنبياء.
 وثانياً: في الأئمّة الذين يعتبرون امتداداً ربّانياً للنبي في هذا الخطّ.
 وثالثاً: في المرجعية التي تعتبر امتداداً رشيداً للنبي والإمام في خطّ الشهادة.
 والشهادة على العموم يتمثّل دورها المشترك بين الأصناف الثلاثة من الشهداء فيما يأتي:
 أوّلاً: استيعاب الرسالة السماوية والحفاظ عليها، ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء ﴾2.
ثانياً: الإشراف على ممارسة الإنسان لدوره في الخلافة، ومسؤولية إعطاء التوجيه بالقدر الذي يتصلّ بالرسالة 



1 سورة المائدة، الآية 44.
2  (م.ن).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

30

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

  ثالثاً: التدخّل لمقاومة الانحراف، واتّخاذ كلّ التدابير الممكنة من أجل سلامة المسيرة.

فالشهيد مرجع فكري وتشريعي من الناحية الإيديولوجية، ومشرف على سير الجماعة وانسجامه إيديولوجياً مع الرسالة الربّانية التي يحملها، ومسؤول عن التدخّل لتعديل المسيرة أو إعادتها إلى طريقها الصحيح، إذا واجه انحرافاً في مجال التطبيق. هذا هو المحتوى المشترك لدور الشهداء بأصنافهم الثلاثة.

ومع هذا فإنّ هناك فروقاً جوهرية بينهم في طريقه أداء هذا الدور؛ فالنبي هو حامل الرسالة من السماء باختيار الله تعالى له للوحي، والإمام هو المستودع للرسالة ربّانياً، والمرجع هو الإنسان الذي اكتسب من خلال جهد بشري ومعاناة طويلة الأمد استيعاباً حيّاً وشاملاً ومتحرّكاً للإسلام ومصادره، وورعاً معمّقاً، يروّض نفسه عليه، حتى يصبح قوّة تتحكّم في كلّ وجوده وسلوكه، ووعياً إسلامياً رشيداً على الواقع وما يزخر به من ظروف وملابسات، ليكون عليه شهيدا.

ومن هنا، كانت المرجعية مقاماً يمكن اكتسابه بالعمل الجادّ المخلص لله سبحانه وتعالى، خلافاً للنبوّة والإمامة؛ فإنّهما رابطتان ربّانيتان بين الله تعالى والإنسان النبي أو الإنسان الإمام، ولا يمكن اكتساب هذه الرابطة بالسعي والجهد والترويض.

والنبي والإمام معيّنان من الله تعالى تعييناً شخصياً، وأمّا المرجع فهو معيّن تعييناً نوعياً؛ أي إنّ الإسلام حدّد الشروط العامّة للمرجع، وترك أمر التعيين والتأكّد من انطباق الشروط إلى الأمّة نفسها.

ومن هنا كانت المرجعية - كخطّ - قراراً إلهياً، والمرجعية - كتجسيد في فرد معيّن - قراراً من الأمّة.

وارتباط الفرد بالنبي ارتباطاً دينياً والرجوع إليه في أخذ أحكام الله تعالى عن طريقه يجعل منه مسلماً بالنبي، وارتباطه بالإمام على هذا النحو يجعل منه مؤمناً بالإمام، وارتباطه بالمرجع على النحو المذكور يجعل منه مقلّداً للمرجع.

وهناك فارق آخر أساس بين النبيين والربانيين من الشهداء، وبين الأحبار منهم، وهو أنّ النبي والربّاني - الإمام - يجب أن يكون معصوماً؛ أي مجسّداً للرسالة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

31

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 بقيمها وأحكامها في كلّ سلوكه وأفكاره ومشاعره، وغير ممارس، لا بعمد ولا بجهالة أو خطأ، أي ممارسة جاهلية، ولا بدّ أن تكون هذه العصمة المطلقة متوفّرة حتى قبل تسلّمه للنبوّة والإمامة؛ لأنّ النبوّة والإمامة عهد ربّانيّ إلى الشخص، وقد قال الله تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين﴾1.

 فكلّ ممارسة جاهلية أو اشتراك ضمني في ألوان الظلم والاستغلال والانحراف تجعل الفرد غير جدير بالعهد الإلهي. وأمّا المرجعية فهي عهد ربّاني إلى الخطّ لا إلى الشخص؛ أي إنّ المرجع محدّد تحديداً نوعياً لا خصياً، وليس الشخص هو طرف التعاقد مع الله، بل المركز كمواصفات عامّة، ومن هذه المواصفات العدالة بدرجة عالية تقرّب من العصمة، فقد جاء في الحديث عن الإمام العسكري عليه السلام: "فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه"2.

 ولكن هذه العدالة ليس من الضروري أن تبلغ درجة العصمة، ولا أن يكون المرجع مصوناً من الخطأ من الأحوال، ومن هنا كان هو بدوره بحاجة إلى شهيد ومقياس موضوعي، قال تعالى: ﴿لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ﴾3.

 وبالمقارنة بين آيات الشهادة في القرآن الكريم نستخلص شروط الشهيد، فالعدالة هي الوسطية والاعتدال في السلوك الذي عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ﴾4.

 والعلم واستيعاب الرسالة هو استحفاظ الكتاب الذي عبّر عنه قرآنياً بقوله سبحانه: ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء ﴾5.



1  سورة البقرة، الآية 124.
2  الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الطبعة الحديثة، ج 18 باب 10 من أبواب القضاء، ص 94.
3  سورة الحجّ، الآية 78.
4  سورة البقرة، الآية 143.
5  سورة المائدة، الآية 44.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

32

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 والوعي على الواقع القائم مستبطن في الرقابة التي يفترضها مقام الشهادة:

 ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ ﴾1؛ إذ لا معنى للرقابة بدون وعي وإدراك لما يراد من الشهيد مراقبته من ظروف وأحوال.
 والكفاءة والجدارة النفسية التي ترتبط بالحكمة والتعقّل والصبر والشجاعة؛ هي الإمكانات التي توخّى الله سبحانه وتعالى تحقيقها في الصالحين من عباده، من خلال المحن والتجارب والمعاناة الاجتماعية في سبيل الله وربطها مقام الشهادة، فقال سبحانه: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾2.

 فالله تعالى يسلّي المؤمنين ويصبّرهم على المحن، ويبعث في نفوسهم العزيمة، ويعدهم بمقام الشهادة إذا اجتازوا التجارب والمحن صابرين.

 وهكذا نخرج بنتيجة من ذلك بأنّ الشهيد، سواء كان نبياً أو إماماً أو مرجعاً، يجب أن يكون عالماً على مستوى استيعاب الرسالة، وعادلاً على مستوى الالتزام بها والتجرّد عن الهوى في مجال حملها، وبصيراً بالواقع المعاصر له، وكفؤاً في ملكاته وصفاته النفسية.

 وقد شرحنا حتى الآن المعالم العامّة للخطّين الربّانيين، خطّ الخلافة - خلافة الإنسان على الأرض - وخطّ الشهادة - شهادة النبي والإمام والمرجع -. وهذان الخطّان يندمجان في بعض مراحلهما ويتجسّدان في محور واحد يمثّل الخلافة والشهادة معاً.



1  سورة المائدة، الآية 117.
2  سورة آل عمران، الآية 140.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

33

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 مسار الخلافة الربّانية على الأرض


التمهيد لدور الخلافة
 
وقد قُدِّر لآدم عليه السلام أن يكون هو المثل الأوّل للإنسانية التي استخلفها الله تعالى على الأرض.
وبدأ آدم حياته كما يبدأ أيّ إنسان آخر حياته في هذه الدنيا، مع فارق جوهري، وهو أنّ كلّ إنسان يمرّ في مرحلة الطفولة بدور احتضان، إلى أن يبلغ رشده؛ لأنّ هذه المرحلة لا تسمح للإنسان بالاستقلال ومواجهة مشاكل الحياة وتحقيق أهداف الخلافة؛ فلا بدّ من حضانة ينمو الطفل من خلالها ويربى في إطارها إلى أن يستكمل رشده. وكلّ طفل يجد عادة في أبويه وجوّهما العائلي الحضانة اللازمة له، غير أنّ الإنسان الأوّل - آدم عليه السلام - الذي لم ينشأ في جوّ عائلي من هذا القبيل، كان بحاجة إلى دار حضانة استثنائية يجد فيها التنمية والتوعية التي تؤهّله لممارسة دور الخلافة على الأرض، من ناحية فهم الحياة ومشاكلها المادية، ومن ناحية مسؤوليّاتها الخلقية والروحية، وقد عبّر القرآن الكريم عن دار الحضانة الاستثنائية التي وفّرت للإنسان الأوّل بالجنّة؛ إذ حقّق الله تعالى في هذه الجُنَيْنَة الأرضية 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

34

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 لآدم وحواء كلّ وسائل الاستقرار، وكَفِل لهما كلّ الحاجات، ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾1.

وكان لا بُدّ من مرور فترة تنمو فيها تجربة هذين الإنسانين، وتصل إلى الدرجة التي تتيح لهما أن يبدآ مسيرتهما في الأرض وكدحهما نحو الله من خلال ممارسة أعباء الخلافة، وكذلك كان لا بُدّ في هذه الفترة من تربية الإحساس الخلقي، وزرع الشعور بالمسؤولية وتعميقه في نفس الإنسان، وذلك عن طريق امتحانه بما يوجّه إليه من تكاليف وأوامر.
وكان أوّل تكليف وُجِّه إليه، أن يُمْسِك عن شجرة معيّنة في تلك الجُنَيْنَة ترويضاً للإنسان الخليفة على أن يتحكّم في نزواته، ويكتفي من الاستمتاع بطيّبات الدنيا بالحدود المعقولة من الإشباع الكريم، ولا ينساق مع الحرص المحموم على المزيد من زينة الحياة الدنيا ومتعها وطيباتها؛ لأنّ هذا الحرص هو الأساس لكلّ ما شهده المسرح بعد ذلك من ألوان استغلال الإنسان للإنسان.
وقد استطاعت المعصية التي ارتكبها آدم عليه السلام، بتناوله من الشجرة المحرّمة، أن تحدث هزّة روحية كبيرة في نفسه، وتفجّر في أعماقه الإحساس بالمسؤولية من خلال مشاعر الندم، وطفق في اللحظة يخصف على جسده من ورق الجنّة، ليواري سوءته ويستغفر الله تعالى لذنبه.
وبهذا تكامل وعيه في الوقت الذي كانت قد نضجت لديه خبراته الحياة المتنوّعة، وتعلّم الأسماء كلّها، فحان الوقت لخروجه من الجنّة إلى الأرض التي استخلف عليها ليمارس مسيرته نحو الله من خلال دوره في الخلافة.



1  سورة طه، الآيتان 118 - 119.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

35

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 مرحلة الفطرة في الخلافة

 قال الله سبحانه وتعالى:

 ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ ﴾1.

 ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ.. ﴾2.

 وقد جاء في التفسير، عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليهما السلام، أنّ الناس كانوا أمّةً واحدة على فطرة الله، فبعث الله النبيين3.

 يعرف في ضوء هذه النصوص أنّ الجماعة البشرية بدأت خلافتها على الأرض بوصفها أُمّةً واحدة، وأنشأت المجتمع الموحد مجتمع التوحيد بركائزه المتقدّمة، وكان الأساس الأولي لتلك الوحدة ولهذه الركائز الفطرة، لأنّ الركائز التي يقوم عليها مجتمع التوحيد، والتي تمثل أساس الخلافة على الأرض، كلّها ذات جذور في فطرة الإنسان.
 ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾4.



1  سورة يونس، الآية 19.
2  سورة البقرة، الآية 213.
3  نصّ الحديث: روي عن أبي جعفرعليه السلام أنّه قال: "كانوا قبل نوح أمّة واحدة، على فطرة الله، لا مهتدين ولا ضلالا، فبعث الله النبيين". الطبرسي، مجمع البيان، ج2، ص65.
4  سورة الروم، الآيات 30 - 32.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

36

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

  فالإيمان بالله الواحد، ورفض كلّ ألوان الشرك والطاغوت، ووحدة الهدف والمصلحة والمسير، كلّها معالم الفطرة الإنسانية، وأيّ شرك وجبروت، وأيّ تناقض وتفرّق، هو انحراف عن الفطرة.

وهكذا شكّلت الفطرة في البداية أساساً لإقامة مجتمع التوحيد، وكان - الإنسان ممثلاً في الجماعة الإنسانية كلّها - يمارس خلافة الله على الأرض وفقاً لذلك، وكان خطّ الشهادة قائماً إلى جانب خطّ الخلافة ممثَّلاً في الأنبياء، وكان دور الأنبياء في تلك المرحلة ممارسة مهمّة الشهيد الربّاني، مهمّة الهادي والموجّه والرقيب، كما يفهم من النصّ القرآني الثاني، إذ اعتبر بعثه الأنبياء الذين يحكمون بين الناس في فترة تالية للمرحلة التي كان الناس فيها أُمّةً واحدة، ففي هذه المرحلة إذاً، كانت الخلافة والحكم للجماعة البشرية نفسها، وكان خطّ الشهادة للإشراف والتوجّه والتدخّل إذا تطلّب الأمر.

 وبعد أن مرّت على البشرية فترة من الزمن، وهي تمارس خلافتها من خلال مجتمع موحّد، تحقّقت نبوءة الملائكة، وبدأ الاستقلال والتناقض في المصالح والتنافس على السيطرة والتملّك، وظهر الفساد وسفك الدماء؛ وذلك لأنّ التجربة الاجتماعية نفسها وممارسة العمل على الأرض نمّت خبرات الأفراد، ووسّعت إمكاناتهم فبرزت ألوان التفاوت بين مواهبهم وقابليّاتهم، ونجم عن هذا التفاوت اختلاف مواقعهم على الساحة الاجتماعية، وأتاح ذلك فرص الاستغلال لمن حظي بالموقع الأقوى، وانقسم المجتمع بسبب ذلك إلى أقوياء وضعفاء ومتوسّطين، وبالتالي إلى مستغلّين ومستضعفين، وفقدت الجماعة البشرية بذلك وحدتها الفطرية، وصدق قوله الله تعالى في آية تحمّل الإنسان للأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض، إذ قال : ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾1.

 وعلى هذا الأساس لم يعد - في المنطق الربّاني - للأقوياء المستغلّين موقع في الخلافة العامّة للجماعة البشرية؛ لأنّ هذه الخلافة أمانة كما تقدّم، ومن خان الأمانة لم يعد أميناً. وأمّا المستضعفون، فمن يواكب منهم الظلم ويسير في اتّجاهه ويخضع للاستغلال يعتبر في المفهوم القرآني ظالماً لنفسه، وبالتالي خائناً لأمانته،



1 سورة الأحزاب، الآية 72.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

37

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 فلا يكون جديراً بالخلافة، ويظلّ في موقعه من الخلافة، أولئك المستضعفون الذين لم يظلموا أنفسهم، ولم يستسلموا للظلم، فهؤلاء هم الورثة الشرعيّون للجماعة البشرية في خلافتها، كما قال الله سبحانه وتعالى: 

وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾1.
 ولكنّ المجتمع قد غرق في هذه اللحظة في ألوان الاستغلال، وسيطرت عليه علاقات اجتماعية تُجسّد هذه الألوان، ومشاعر نفسية تبرّر الانحراف عن الفطرة، وأساطير فكرية ووثنية تمزّق المجتمع شيعاً وأحزاباً، ولم يبقَ مستضعف غير ظالم لنفسه، إلّا عدد قليل مغلوب على أمره.
 
 الثورة على يد الأنبياء لإعادة مجتمع التوحيد
 وكان لا بدّ في ظلّ هذه الظروف من ثورة تعيد المسيرة إلى طريقها الصالح، وتبني المجتمع الموحّد من جديد على أساس أعمق وأوعى، على أساس الفطرة، وتهيّئ الجماعة لاستئناف دورها الربّاني في خلافة الله على الأرض.
 وكانت الثورة بحاجة إلى أساس ترتكز عليه، وتنطلق منه، وتستمدّ دوافعها وحيويتها منه. وقد شهد التاريخ البشري - منذ أقدم العصور - استغلال أساسين مختلفين للثورة:
 الأساس الأوّل: ما تزخر به قلوب المستضعفين والمضطّهدين من المشاعر الشخصية المتّقدة بسبب ظلم الآخرين واستهتارهم بحقوق الجماعة ومصالحها، وهذا الشعور يمتدّ في المستضعفين تدريجاً كلّما ازدادت حالتهم سوءاً وازداد المستغلّون لهم عتوّاً واستهتاراً بهم. ولكي يتحوّل هذا الشعور إلى ثورة لا بدّ له من بؤرة تستقطبه، وتنبثق عن هذه البؤرة التي تستقطب هذا الشعور؛ القيادة التي تتزعّم المستضعفين في كفاحهم ضدّ المستغلين والثورة عليهم.



1  سورة القصص، الآية 5.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

38

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 وإذا لاحظنا هذا الأساس بعمق، نجد أنّه يتعامل مع المشاعر الشخصية والمادّية نفسها التي خلقتها ظروف الاستغلال، فالاستغلال يكرّس في جميع أفراد المجتمع الشعور الشخصي بالمصلحة وينمّي فيهم الاهتمام الذاتي بالتملّك والسيطرة، غير أنّ هذا الشعور وهذا الاهتمام ينعكس إيجابياً في المستغلّين على صورة الاستيلاء المحموم على كلّ ما تمتدّ إليه أيديهم، وتسخير كلّ الإمكانات من أجل إشباع هذه المطامع، وينعكس الشعور والاهتمام نفسه سلبياً في المستضعفين، على صورة المقاومة الصامتة أوّلاً، والمتحرّكة ثانياً، والثائرة ثالثاً، على المستغلين، وهي مقاومة تحمل الخلفية النفسية نفسها التي يحملها المستغلّون، وتنطلق من المشاعر والأحاسيس عينها التي خلقتها ظروف الاستغلال. وهذا يؤدّي في الحقيقة إلى أنّ الثورة لن تكون ثورة على الاستغلال وعلى جذوره، ولن تعيد الجماعة إلى مسيرتها الرشيدة ودورها الخلافي الصالح، وإنّما هي ثورة على تجسيد معيّن للاستغلال من قبل المتضرّرين من ذلك التجسيد، ومن هنا كانت تغييراً لمواقع الاستغلال أكثر من كونها استئصالاً للاستغلال نفسه.

 الأساس الثاني: استئصال المشاعر التي خلقتها ظروف الاستغلال، واعتماد مشاعر أخرى أساساً للثورة، وبكلمة أخرى: تطوير تلك المشاعر على نحو تمثّل الإحساس بالقيم الموضوعية للعدل والحقّ والقسط والإيمان بعبودية الإنسان لله، التي تحرّره من كلّ عبودية، وبالكرامة الإنسانية، وهذه المشاعر تخلق القاعدة التي تتبنّى تصفية الاستغلال؛ لا لأنّه يمسّ مصالحها الشخصية فحسب، بل لأنّه أيضاً يمسّ المصالح الحقيقية للظالمين والمظلومين على السواء، وتنتزع وسائل السيطرة من المستغلّين، لا طمعاً فيها وحرصاً على احتكارها، بل إيماناً بأنّها من حقّ الجماعة كلّها، وتلغي العلاقات الاجتماعية التي نشأت على أساس الاستغلال، لا لتنشئ علاقات مماثلة لفئة أُخرى من المجتمع، بل لتعيد إلى الجماعة البشرية الشروط
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

39

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 الضرورية لممارسة الخلافة العامّة على الأرض، وتحقيق أهدافها الرشيدة.

 ويتّضح من خلال المقارنة أنّ الأساس الثاني وحده هو الذي يشكّل الخلفية الحقيقية للثورة، والرصيد الروحي القادر على جعلها ثورة بدلاً عن تجميدها في منتصف الطريق، بينما الأساس الأوّل لا يمكن أن ينجز سوى ثورة نسبية تتغيّر فيها مواقع الاستغلال.

 غير أنّ مجرّد ذلك لا يكفي وحده لاختيار الأساس الثاني واعتماد المستضعفين له في كفاحهم ذلك؛ لأنّ الأساس الثاني يتوقّف على تربية للمحتوى الداخلي للثائرين أنفسهم، وإعداد روحي ونفسي - من خلال التعبئة والممارسة الثوريتين - يطهّرهم من مشاعر الاستغلال، ويستأصل من نفوسهم الحرص المسعور على طيّبات هذه الحياة وثرواتها المادّية - سواء كان حرصاً مسعوراً في حالة هيجان كما في نفوس المستغلّين، أو في حالة كبت كما في نفوس المستضعفين. وهذه التربية لا يمكن أن تبدأ من داخل الجماعة التي انحرفت مسيرتها وتمزّقت وحدتها، بل لا بدّ من تربية تتلقّاها، ولا بدّ من هدىً ينفذ إلى قلوبها من خارج الظروف النفسية التي تعيشها.

 وهنا يأتي دور الوحي والنبوّة: ﴿فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾1.
 وتتحقّق بذلك كلمة الله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾2، بعد أن تحقّقت نبوءة الملائكة؛ فالوحي وحده هو القادر على أن يؤمّن التربية الثورية والخلفيّة النفسية الصالحة التي تنشئ ثائرين لا يريدون في الأرض علوّاً ولا فساداً، وتجعل من المستضعفين أئمّة لكي يتحمّلوا أعباء الخلافة بحقّ، ويكونوا هم الوارثين: ﴿تِلْكَ



1  سورة البقرة، الآية 213.
2   سورة البقرة، الآية 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

40

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ﴾1، ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾2.

 والنبي الرسول هو حامل الرسالة من السماء، والإنسان المبني ربّانياً لكي يبني للثورة قواعدها الصالحة ويعيد إلى الجماعة الشروط الحقيقية لاستعادة دورها الخلافي الصالح، وذلك باعتماد الأساس الثاني.

 ومن هنا دعا الأنبياء إلى جهادين: أحدهما الجهاد الأكبر، من أجل أن يكون المستضعفون أئمّة وينتصروا على شهواتهم ويبنوا أنفسهم بناءً ثورياً صالحاً، والآخر الجهاد الأصغر، من أجل إزالة المستغلّين والظالمين عن مواقعهم.

 وتسير العمليّتان في ثورة الأنبياء جنباً إلى جنب، فالنبي ينتقل بأصحابه دائماً من الجهاد الأكبر إلى الأصغر، ومن الجهاد الأصغر إلى الأكبر، بل إنّهم يمارسون الجهادَين في وقت واحد، وحتى عندما يخوضون ساحات القتال وفي أحرج لحظات الحرب، انظروا إلى الثائر النموذجي في الإسلام، الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، كيف أقدم بكلّ شجاعة وبطولة على مبارزة رجل الحرب الأوّل في العرب عمرو بن ودّ العامري، واعتبر الناس ذلك منه انتحاراً شبه محقّق، ثمّ كيف أمسك عن قتله بضع لحظات بعد أن تغلّب عليه؛ لأن عمرو أغضبه، فلم يشأ أن يقتله وفي نفسه مشاعر غضب شخصي، وحَرِص على أن ينجِز هذا الواجب الجهادي في لحظة لا غضب لديه فيها إلّا لله تعالى ولكرامة الإنسان على الأرض، وبهذا حقّق انتصاراً عظيماً في مقاييس كلا الجهادَين في موقف واحد فريد.

 وعلى هذا الأساس نؤمن بأنّ الثورة الحقيقية لا يمكن أن تنفصل بحال عن الوحي والنبوّة، وما لهما من امتدادات في حياة الإنسان، كما أنّ النبوّة والرسالة الربّانية لا تنفصل بحال عن الثورة الاجتماعية على الاستغلال والترف والطغيان، يقول تعالى:



1 سورة القصص، الآية 83.
2  سورة القصص، الآية 5.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

41

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾1، ﴿كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾2.

فالنبوّة ظاهرة ربّانية تمثّل رسالة ثورية وعملاً تغييرياً وإعداداً ربّانياً للجماعة، لكي تستأنف دورها الصالح، وتفرض ضرورة هذه الثورة أن يتسلّم شخص النبي الرسول الخلافة العامّة، لكي يحقّق للثورة أهدافها في القضاء على الجاهلية والاستغلال، ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾3.
ويبني القاعدة الثورية الصالحة، لكي يمنّ الله عليهم ويجعلهم أئمّة ويجعلهم الوارثين، ﴿فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾4.
وبذلك يندمج خطّ الشهادة وخطّ الخلافة في شخص واحد، وهو النبي، فالنبوّة تجمع كلا الخطّين. ومن هنا اشترط الإسلام في النبي العصمة، وفي كلّ حالة يقدّر للخطّين أن يجتمعا في واحد بحكم ضرورات التغيير الرشيد، نجد أنّ العصمة شرط أساس في المحور الذي يقدّر له أن يمارس الخطّين معاً؛ لأنّه سوف يكون هو الشهيد وهو المشهود عليه في وقت واحد.
وخلافة الجماعة البشرية في مرحلة التغيير الثوري الذي يمارسه النبي باسم السماء ثابتة مبدئياً من الناحية النظرية، إلّا أنّها من الناحية الفعلية ليست موجودة بالمعنى الكامل، والنبي هو الخليفة الحقيقي من الناحية الفعلية، وهو المسؤول عن الارتفاع بالجماعة إلى مستوى دورها في الخلافة.



1  سورة سبأ، الآية 34.
2  سورة الزخرف، الآية 23.
3  سورة الأعراف، الآية 157.
4  (م.ن).

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

42

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾1، ﴿كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾2.

فالنبوّة ظاهرة ربّانية تمثّل رسالة ثورية وعملاً تغييرياً وإعداداً ربّانياً للجماعة، لكي تستأنف دورها الصالح، وتفرض ضرورة هذه الثورة أن يتسلّم شخص النبي الرسول الخلافة العامّة، لكي يحقّق للثورة أهدافها في القضاء على الجاهلية والاستغلال، ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾3.
ويبني القاعدة الثورية الصالحة، لكي يمنّ الله عليهم ويجعلهم أئمّة ويجعلهم الوارثين، ﴿فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾4.
وبذلك يندمج خطّ الشهادة وخطّ الخلافة في شخص واحد، وهو النبي، فالنبوّة تجمع كلا الخطّين. ومن هنا اشترط الإسلام في النبي العصمة، وفي كلّ حالة يقدّر للخطّين أن يجتمعا في واحد بحكم ضرورات التغيير الرشيد، نجد أنّ العصمة شرط أساس في المحور الذي يقدّر له أن يمارس الخطّين معاً؛ لأنّه سوف يكون هو الشهيد وهو المشهود عليه في وقت واحد.
وخلافة الجماعة البشرية في مرحلة التغيير الثوري الذي يمارسه النبي باسم السماء ثابتة مبدئياً من الناحية النظرية، إلّا أنّها من الناحية الفعلية ليست موجودة بالمعنى الكامل، والنبي هو الخليفة الحقيقي من الناحية الفعلية، وهو المسؤول عن الارتفاع بالجماعة إلى مستوى دورها في الخلافة.



1  سورة سبأ، الآية 34.
2  سورة الزخرف، الآية 23.
3  سورة الأعراف، الآية 157.
4  (م.ن).

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

43

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 وقد أوجب الله سبحانه وتعالى على النبي - مع أنّه القائد المعصوم - أن يشاور الجماعة، ويشعرهم بمسؤوليتهم في الخلافة من خلال هذا التشاور، ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾1.

 ويُعتبر هذا التشاور من القائد المعصوم عملية إعداد للجماعة من أجل الخلافة، وتأكيد عمليّ عليها.
 كما أنّ التأكيد على البيعة للأنبياء وللرسول الأعظم وأوصيائه تأكيد من الرسول على شخصية الأمّة وإشعار لها بخلافتها العامّة، وبأنّها بالبيعة تحدّد مصيرها، وأنّ الإنسان حينما يبايع يساهم في البناء ويكون مسؤولاً عن الحفاظ عليه، ولا شكّ في أنّ البيعة للقائد المعصوم واجبة، لا يمكن التخلّف عنها شرعاً، ولكنّ الإسلام أصرّ عليها واتّخذها أُسلوباً من التعاقد بين القائد والأُمّة، لكي يركّز نفسياً ونظرياً مفهوم الخلافة العامّة للأمّة. وقد دأب القرآن الكريم على أن يتحدّث إلى الأُمّة في قضايا الحكم توعية منه للأمّة على دورها في خلافة الله على الأرض.
﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ﴾2.
 ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ﴾3.
 ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ﴾4.
 ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾5.
 ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ﴾6.



1 سورة آل عمران، الآية 159.
2  سورة النساء، الآية 58.
3  سورة النور، الآية 2.
4  سورة المائدة، الآية 38.
5  سورة الشورى، الآية 13.
6   سورة التوبة، الآية 71.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

44

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 وإذا لاحظنا الجانب التطبيقي من دور النبوّة الذي مارسه خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله، نجد مدى إصرار الرسول على إشراك الأمّة في أعباء الحكم ومسؤوليات خلافة الله في الأرض، حتى أنّه في جملة من الأحيان كان يأخذ بوجهة نظر الأكثر أنصاراً، مع اقتناعه شخصياً بعدم صلاحيتها؛ وذلك لسبب واحد، وهو أن يُشعر الجماعة بدورها الإيجابي في التجربة والبناء.

 
 الوصاية على الثورة ممثّلة في الإمام
 إنّ صنع مجتمع التوحيد ليس بالأمر الهيّن؛ لأنّه ثورة على الجاهلية بكلّ جذورها، وتطهيرٌ للمحتوى النفسي والفكري للمجتمع من جذور الاستغلال ومشاعره ودوافعه، ومن هنا كان شوط الثورة أطول عادة من العمر الاعتيادي للرسول القائد، وكان لا بدّ للرسول أن يترك الثورة في وسط الطريق، ليلتحق بالرفيق الأعلى، وهي في خضمّ أمواج المعركة بين الحقّ والباطل.
 ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا ﴾1.

 ومن الواضح أنّ الحفاظ على الثورة - وهي لم تحقّق بعد، بصورة نهائية، مجتمع التوحيد - يفرض أن يمتدّ دور النبي في قائد ربّاني يمارس خلافة الله على الأرض وتربية الجماعة وإعدادها ويكون شهيداً في الوقت نفسه، وهذا القائد الربّاني هو الإمام، ويجب أن يكون معصوماً؛ لأنّه يستقطب الخطّين معاً، ويمارس - وفقاً لظروف الثورة - خطّ الخلافة إلى جانب خطّ الشهادة.
 وعصمة الإمام تعني أن يكون قد استوعب الرسالة التي جاء بها الرسول القائد استيعاباً كاملاً، بكلّ وجوده وفكره ومشاعره وسلوكه، ولم يعِشْ للحظة شيئاً من



1  سورة آل عمران، الآية 144.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

45

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 رواسب الجاهلية وقيمها، "لم تدنّسه الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسه من مدلهمّات ثيابها1"؛ لكي يكون قادراً على الجمع بين الخطّين في دور واحد يمارس فيه عملية التغيير دون أن يتغيّر، ومواصلة الإشعاع النبوي دون أن يخفت، واتّخاذ القرارات النابعة بكامل حجمها من الرسالة التي يحملها دون أدنى تأئّر بالوضع الجاهلي الذي يقاومه.

 فالإمام كالنبي، شهيد الله وخليفته في الأرض، من أجل أن يواصل الحفاظ على الثورة وتحقيق أهدافها، غير أنّ جزءاً من دور الرسول يكون قد اكتمل، وهو إعطاء الرسالة والتبشير بها، والبدء بالثورة الاجتماعية على أساسها. فالوصيّ ليس صاحب رسالة، ولا يأتي بدين جديد، بل هو المؤتمن على الرسالة والثورة التي جاء بها الرسول. والإمامة ظاهرة ربّانية ثابتة على مرّ التاريخ، وقد اتّخذت شكلين ربّانيين:
 أحدهما: شكل النبوّة التابعة لرسالة النبي القائد. فقد كان في كثير من الأحيان يخلف النبي الرسول أنبياء غير مرسلين، يكلّفون بحماية الرسالة القائمة ومواصلة حملها. وهؤلاء أنبياء يوحى إليهم، وهم أئمّة، بمعنى أنّهم أوصياء على الرسالة، يقول الله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِين﴾2، ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾3.
 ثانيهما: هو الوصاية بدون نبوّة، وهذا هو الشكل الذي اتّخذه رسول الله صلى الله عليه وآله بأمر من الله تعالى، فعيّن أوصياءه الاثني عشر، من الأئمّة أهل البيت عليهم السلام، ونصّ على وصيّه المباشر بعده، علي بن أبي طالب عليه السلام، في أعظم ملأ من المسلمين.



1  زيارة وارث.
2  سورة الأنبياء، الآية 72 - 73.
3  سورة السجدة، الآيتان 23 - 24.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

46

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 ولعلّ الذي يحدّد هذا الشكل أو ذاك، مدى إنجاز الرسول القائد لتبليغ رسالته. فإذا كان قد أكمل تبليغها أخذت السماء بالشكل الثاني، كما هو الحال بالنسبة إلى سيّد المرسلين، كما نصّ القرآن الكريم: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾1.

 وإذا كانت الرسالة والثورة بحاجة إلى وحي مستمّر واتّصال مباشر بما تتنزّل به الملائكة من قرارات السماء، اتّخذ الشكل الأوّل.
 ويلاحظ في تاريخ العمل الربّاني على الأرض أنّ الوصاية كانت تُعطى غالباً لأشخاص يرتبطون بالرسول القائد ارتباطاً نسبياً، أو لذرّيته وأبنائه، وهذه الظاهرة لم تتّفق فقط في أوصياء النبي محمّد صلى الله عليه وآله، بل اتّفقت في أوصياء عدد كبير من الرسل، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ... ﴾2، ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ﴾3.
 فاختيار الوصي كان يتمّ عادة من بين الأفراد الذين انحدروا من صاحب الرسالة، ولم يروا النور إلّا في كنفه وفي إطار تربيته، وليس هذا من أجل القرابة بوصفها علاقة مادّية تشكّل أساساً للتوارث، بل من أجل القرابة بوصفها تشكّل عادة الإطار السليم لتربية الوصي، وإعداده للقيام بدوره الربّاني. وأمّا إذا لم تُحقِّق القرابة هذا الإطار، فلا أثر لها في حساب السماء، قال الله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾4.



1  سورة المائدة، الآية 3.
2   سورة الحديد، الآية 26.
3  سورة الأنعام، الآية 84.
4  سورة البقرة، الآية 124.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

47

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 المرجعية بوصفها المرحلة الثالثة من خطّ الشهادة

وقد قُدّر للإمامة بعد وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله أن تُحرم من الممارسة الفعلية لخلافة الله في الأرض ومواصلة القيادة السياسية والاجتماعية للتجربة التي خلفّها النبي صلى الله عليه وآله، وتولّى هذه الخلافة عملياً عدد من الصحابة على التعاقب، وفقاً لأشكال مختلفة من الاختيار. وحاولت الأمّة بقيادة هؤلاء الصحابة أن يواصلوا قيادة التجربة مع الاحتفاظ - في بداية الأمر - للإمامة بخطّ الشهادة، فقد اعتُبر الإمام علي شهيداً؛ أي مشرفاً وميزاناً أيديولوجياً وإسلامياً للحقّ والباطل، حتى قال عمر مرّات عديدة: "لولا علي لهلك عمر"1، وقال للإمام: "أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن"2، قال: "كاد يهلك ابن الخطاب لولا علي"3، وقال: "اللهمّ، لا تُبْقني لمعضلة ليس فيها أبو الحسن!"4.

 ولكن تبدّلت الظروف كثيراً فيما بعد، واستيقظت مطامع المستغلّين الذين حاربوا الإسلام بالأمس، وأدّى ذلك بالتدريج إلى استيلاء أعداء الإسلام القدامى على الحكم بعد عصر الخلفاء، إذ أعلن معاوية نفسه خليفة للمسلمين بقوّة الحديد والنار، وكان ذلك أعظم مأساة في تاريخ الإسلام.
 ولم يترك الأئمّة - على الرغم من إبعادهم عن مركزهم الطبيعي في الزعامة الإسلامية - مسؤوليّاتهم القيادية، وظلّوا باستمرار، التجسيد الحيّ الثوري للإسلام



1 السنن الكبرى، 7، ص 442. مختصر جامع العلم، ص 150. الرياض النضرة، 2، ص 194. ذخائر العقبى، ص 82. تفسير الرازي، 7، ص 484. أربعين الرازي، ص 466. تفسير النيسابوري 3 في سورة الأحقاف. كفاية الكنجي، ص 105. مناقب الخوارزمي، ص 57. تذكرة السبط، ص 87. الدر المنثور، ص 228 وج 6، ص 40 نقلاً عن جمع من الحفاظ صحّ كنز العمال، 3، ص 96 نقلاً عن خمس من الحفاظ. وج 3، ص 228 نقلاً عن غير واحد من أئمّة الحديث.
2  الرياض النضرة، ص 197، منتخب كنز العمال هامش مسند أحمد، 2، ص 352.
3  أخرجه الحفاظ الكنجي في الكفاية، ص 96 وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمّة ص 18.
4  تاريخ ابن عساكر - ترجمة الإمام علي بن أبي طالب - طباعة دار التعارف - بيروت الجزء الثالث رقم الحديث 1073 - ص 40.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

48

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 والقوّة الرافضة لكلّ ألوان الانحراف والاستغلال. وقد كلّف الأئمّة ذلك حياتهم، الواحد بعد الآخر، واستشهد الأئمّة الأحد عشر من أهل البيت، بين مجاهد يخرّ صريعاً في ساحة الحرب ومجاهد يعمل من أجل كرامة الأمّة ومقاومة الانحراف، فيغتال بالسيف أو السمّ.

 وقد فرض هذه الواقع المرير - ضمن تفصيلات لا يتّسع لها هذه البحث - أن يقرّر الإمام الثاني عشر بأمر من الله تعالى التواري عن الأنظار؛ انتظاراً للحظة المناسبة التي تتهيّأ فيها الظروف الموضوعية للظهور، وإنشاء مجتمع التوحيد في العالم كلّه.
 وكانت غيبة الإمام صدمة مريرة لقواعده الشعبية، وكان بالإمكان أن تؤدّي إلى تفتّتها وضياعها، غير أنّ الإمام تدرّج في الغيبة، علاجاً لآثار هذه الصدمة؛ فبدأ بالغيبة الصغرى التي كان يتّصل فيها مع الخواصّ من شيعته حتى ألِف المسلمون هذا الوضع، فأعلن عن الغيبة الكبرى، وبذلك بدأت مرحلة جديدة من خطّ الشهادة تمثّلت في المرجعيّة، وتميّز في هذه المرحلة خطّ الشهادة عن خطّ الخلافة بعد أن كانا مندمجين في شخص النبي أو الإمام؛ وذلك لأنّ هذا الاندماج لا يصحّ إسلامياً إلّا في حالة وجود فرد معصوم قادر على أن يمارس الخطّين معاً، وحين تخلو الساحة من فرد معصوم، فلا يمكن حصر الخطّين في فرد واحد.
 فخطّ الشهادة يتحمّل مسؤوليته المرجع، على أساس أنّ المرجعية امتداد للنبوّة والإمامة على هذا الخطّ. وهذه المسؤولية تفرض:
 أوّلاً: أن يحافظ المرجع على الشريعة والرسالة، ويردّ عنها كيد الكائدين وشبهات الكافرين والفاسقين.
 ثانياً: أن يكون هذا المرجع في بيان أحكام الإسلام ومفاهيمه مجتهداً، ويكون اجتهاده هو المقياس الموضوعي للأمّة من الناحية الإسلامية، وتمتدّ مرجعيته في هذا المجال إلى تحديد الطابع الإسلامي، لا للعناصر الثابتة من التشريع
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

49

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 في المجتمع الإسلامي فقط، بل للعناصر المتحرّكة الزمنية أيضاً، باعتباره هو الممثّل الأعلى للأيديولوجية الإسلامية.

 ثالثاً: أن يكون مشرفاً ورقيباً على الأمّة، وتفرض هذه الرقابة عليه أن يتدخّل لإعادة الأُمور إلى نصابها إذا انحرفت عن طريقها الصحيح إسلامياً، وتزعزعت المبادئ العامّة لخلافة الإنسان على الأرض.

 والمرجع الشهيد معيّن من قبل الله تعالى بالصفات والخصائص؛ أي بالشروط العامّة الموجودة في كلّ الشهداء التي تقدّم ذكرها، ومعيّن من قِبل الأُمّة بالشخص، إذ تقع على الأُمّة مسؤولية الاختيار الواعي له.

 وأمّا خطّ الخلافة الذي كان الشهيد المعصوم يمارسه، فما دامت الأُمّة محكومة للطاغوت ومقصية عن حقّها في الخلافة العامّة، فهذا الخط يمارسه المرجع، ويندمج الخطّان حينئذٍ - الخلافة والشهادة - في شخص المرجع. وليس هذا الاندماج متوقّفاً على العصمة؛ لأنّ خطّ الخلافة في هذه الحالة لا يتمثّل عملياً إلّا في نطاق ضيّق، وضمن حدود تصرّفات الأشخاص، وما دام صاحب الحقّ في الخلافة العامّة قاصراً عن ممارسة حقّه نتيجة لنظام جبّار، يتولى المرجع رعاية هذا الحقّ في الحدود الممكنة، ويكون مسؤولاً عن تربية هذا القاصر وقيادة الأُمّة لاجتياز هذا القصور وتسلّم حقّها في الخلافة العامّة.

 وأمّا إذا حرّرت الأُمّة نفسها فخطّ الخلافة ينتقل إليها، فهي التي تمارس القيادة السياسية والاجتماعية في الأُمّة بتطبيق أحكام الله وعلى أساس الركائز المتقدّمة للاستخلاف الربّاني.

 وتمارس الأُمّة دورها في الخلافة في الإطار التشريعي للقاعدتين القرآنيتين الآتيتين: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾1.



1  سورة الشورى، الآية 38.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

50

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ... ﴾1.

 فإنّ النصّ الأوّل يعطي للأُمّة صلاحية ممارسة أمورها عن طريق الشورى، ما لم يرد نصّ خاصّ على خلاف ذلك، والنصّ الثاني يتحدّث عن الولاية، وإنّ كلّ مؤمن ولي الآخرين؛ ويريد بالولاية تولّي أموره، بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه، والنصّ ظاهر في سريان الولاية بين كلّ المؤمنين والمؤمنان بصورة متساوية. وينتج عن ذلك الأخذ بمبدأ الشورى وبرأي الأكثرية عند الاختلاف.
 وهكذا وزّع الإسلام في عصر الغيبة مسؤوليّات الخطّين بين المرجع والأُمّة، بين الاجتهاد الشرعي والشورى الزمنية، فلم يشأ أن تمارس الأُمّة خلافتها بدون شهيد يضمن عدم انحرافها ويشرف على سلامة المسيرة ويحدّد لها معالم الطريق من الناحية الإسلامية، ولم يشأ من الناحية الأخرى أن يحصر الخطّين معاً في فرد ما لم يكن هذا الفرد مطلقاً، أي معصوماً.
 وبالإمكان أن تستخلص من ذلك: أنّ الإسلام يتّجه إلى توفير بيئة العصمة بالقدر الممكن دائماً، وحيث لا يوجد على الساحة فرد معصوم، بل مرجع شهيد، ولا أمّة قد أنجزت ثورياً بصورة كاملة وأصبحت معصومة في رؤيتها النوعية، بل أمّة لا تزال في أوّل الطريق، لا بدّ أن تشترك المرجعية والأمّة في ممارسة الدور الاجتماعي الربّاني بتوزيع خطّي الخلافة والشهادة وفقاً لما تقدّم.
 ومن الضروري أن يلاحظ أنّ المرجع ليس شهيداً على الأمّة فقط، بل هو جزء منها أيضاً، وهو عادة من أوعى أفراد الأمّة وأكثرها عطاءً ونزاهة، وعلى هذا الأساس، وبوصفه جزءاً من الأمّة، يحتلّ موقعاً من الخلافة العامّة للإنسان على



1  سورة التوبة، الآية 71.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

51

المبحث الأوّل: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء

 الأرض، وله رأيه في المشاكل الزمنية لهذه الخلافة وأوضاعها السياسية بقدر ماله من وجود في الأمّة، وامتداد اجتماعي وسياسي في صفوفها.

وهكذا نعرف أنّ دور المرجع كشهيد على الأمّة دور ربّاني لا يمكن التخلّي عنه، ودوره في إطار الخلافة العامّة للإنسان على الأرض دور بشري اجتماعي يستمدّ قيمته وعمقه من مدى وجود الشخص في الأمّة وثقتها بقيادته الاجتماعية والسياسية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

52

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 
 
 
 
المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي
الشهيد الشيخ مرتضى مطهّري
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

 


53

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 ماهيّة الجهاد في الإسلام


من المسائل المطروحة هنا هي: ما هي ماهيّة الجهاد من وجهة نظر الإسلام؟ ما هي حقيقة وماهيّة الجهاد؟

لا يختلف المفسّرون في أنّ ماهيّة الجهاد هي الدفاع؛ أي ليس هناك من يشكّ في أنّ الجهاد وكلّ نوع من القتال أو الحرب بعنوان الاعتداء؛ أي بعنوان سلب مال وثروات الطرف المقابل أو سائر القوى الموجودة في الطرف المقابل، وبعبارة أُخرى ليست الحرب أمراً مقبولاً من وجهة نظر الإسلام إذا كنت تهدف إلى السيطرة على القوى الاقتصاديّة والإنسانيّة لقوم ما، ومثل هذه الحروب هي ظالمة من وجهة نظر الإسلام.
الجهاد يكون مشروعاً في حالة واحدة، عندما يكون بعنوان الدفاع فقط والنضال ضدّ نوع من الاعتداء. وبالطبع، يوجد هناك شقّ ثالث، لا يكون الجهاد فيه من أجل توافر الطاقات والسيطرة عليها، ولا من أجل الدفاع عن النفس أو عن قيمة إنسانيّة، بل لبسط قيمة إنسانيّة، وهذا ما سنبحثه فيما بعد.

وعلى هذا الأساس، لا يوجد أيّ اختلاف في هذه الكبرى العامّة، وهي أنّ الجهاد والقتال يجب أن يكونا بعنوان الدفاع، وإن وجد اختلاف فهو اختلاف صغروي؛ أي الاختلاف في أن يكون الدفاع عن ماذا؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

54

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 أنواع الدفاع

 في نظر البعض؛ إنّ الدفاع هو عن النفس، وإنّ الحرب تكون مشروعة عندما يريد الإنسان، سواء أكان فرداً أم قوماً أم شعباً، أن يدافع عن نفسه وعن حياته. إذاً، فلو تعرّضت حياة قوم أو شعب لخطر من جهة ثانية فإنّ الدفاع عن الحياة هو أمر مشروع، وكذلك إذا حصل الاعتداء على ثروته وممتلكاته فله الحقّ - من ناحية الحقوق الإنسانيّة - أن يدافع عن نفسه. وعلى هذا الأساس، يحقّ للشخص أن يدافع عن ثروته إذا ما تعرّضت لاعتداء شخص آخر، أو أن يدافع شعب عن ثروته ولو بالقتال، عندما يعتزم قوم آخرون مصادرتها أو سلبها بشكل من الأشكال.
 
 الإسلام يقول: "المقتول دون أهله وعياله شهيد"؛ أي إنّ الذي يقتل من أجل الدفاع عن ماله وشرفه فإنّه يصبح شهيداً من وجهة نظر الإسلام. إذاً، فإنّ الدفاع عن الشرف يشبه أيضاً الدفاع عن الحياة والمال، بل هو أفضل لأنّه دفاع عن الشرف. إنّ الدفاع عن الاستقلال هو أمر مشروع لكلّ شعب. وعلى هذا الأساس، إذا أراد قوم أن يسلبوا استقلال قوم آخرين ويتسلّطوا عليهم، وأراد هؤلاء القوم أن يدافعوا عن استقلالهم وحملوا السلاح، فإنّهم يقومون بعمل جيّد يستحقّون المدح من أجله. إذاً، فإنّ الدفاع عن الحياة، الدفاع عن المال والثروة والأرض، الدفاع عن الاستقلال، الدفاع عن الشرف، هو دفاع مشروع، ولا يتردّد أيّ كان في جواز هذه المجالات ومشروعيّتها؛ ولذلك قلنا: إنّ نظرية بعض المسيحيين الذين يقولون: إنّ الدّين يجب أن يكون موالياً للسلام وليس للحرب، وإنّ الحرب مذمومة على الإطلاق والسلام محمود، ليست نظرية صحيحة. إنّ الحرب عندما تأتي بعنوان الدفاع ليست غير مذمومة فحسب، بل هي مستحسنة جداً وتعتبر جزءاً من مستلزمات حياة الإنسان التي يعبّر القرآن الكريم عنها قائلاً: ﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

55

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ﴾1، أو يقول في مكان آخر: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ ﴾2، وهذا ما يقبله الجميع تقريباً.


الحقوق الإنسانيّة
وهنا يوجد موضوع آخر، وهو هل إنّ ما يكون الدفاع عنه مشروعاً، ينحصر في كونه حقّ فرد أو حقوق شعب تسلب، أو أنّه يشمل جميع الأمور التي تتطلّب الدفاع عنها؟ هناك بعض الحقوق التي هي ليست جزءاً من حقوق الفرد أو حقوق الشعب بل جزء من الحقوق الإنسانيّة.

إذاً، إذا تعرض أحد الحقوق الإنسانيّة إلى اعتداء، فهل ستكون الحرب الدفاعيّة حينئذٍ مشروعة أم لا؟

من الممكن أن يقول شخص ما: ماذا يعني الدفاع عن الحقوق الإنسانيّة؟ يجب عليّ أن أدافع فقط عن حقوقي الشخصية، وإلى أقصى حدّ عن حقوقي القومية، فما شأني وشأن الحقوق الإنسانيّة؟ هذا الكلام غير صحيح؛ الدفاع عن الحقوق الإنسانيّة مقدّم على الدفاع عن الحقوق الفرديّة والاجتماعية، هناك أشياء هي أفضل من حقوق شخص أو من حقوق شعب، وهي أكثر قدسية، والدفاع عنها أفضل من الدفاع عن الحقوق الشخصية عند الضمير البشري. وتلك الأشياء، هي المقدّسات الإنسانيّة؛ وبعبارة أُخرى: إنّ مِلاك قدسية الدفاع ليس في دفاع الشخص عن نفسه، بل إنّ المِلاك في وجوب دفاعه عن "الحقّ". عندما يكون المِلاك هو "الحقّ"، فلا فرق بين الحقوق الشخصية والحقوق العامّة والإنسانيّة، بل إنّ الدفاع عن الحقوق الإنسانيّة هو أكثر قدسية. واليوم، وإن لم يذكروا اسمه إلّا أنّهم يعترفون به عملياً.



1  سورة البقرة، الآية 251.
2   سورة الحجّ، الآية 40.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

56

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 مثلاً، إنّهم يعتبرون الحرّية في عداد المقدّسات البشرية. الحرية لا تتعلّق بشخص واحد أو بشعب واحد، فإذا تعرّضت الحرية إلى اعتداء في مكان ما، لكن ليست حريتي وليست حرية شعبي، بل إنّ الحرية التي هي جزء من الحقوق العامّة لجميع الناس قد تعرضت للاعتداء في مكان ما من العالم، فهل إنّ الدفاع عن هذا الحقّ الإنساني بعنوان الدفاع عن "حقّ الإنسانيّة" سيكون مشروعاً أم لا؟ إذا كان مشروعاً، فإنّه لا ينحصر بذلك الفرد الذي تعرّضت حريته للاعتداء، حيث إنّ أشخاصاً آخرين وشعوباً أُخرى تستطيع أيضاً، بل يتوجّب عليها أن تسارع لنجدة الحرية وأن تقاتل الذي يريد سلب الحرية وخنق الحريات. لا أعتقد أنّ شخصاً يشكّ في أن أقدس أقسام الجهاد، وأقدس أقسام الحروب هي الحرب التي تأتي بعنوان الدفاع عن الحقوق الإنسانيّة.

 
 في الوقت الذي كان فيه الجزائريون يقاتلون الاستعمار الفرنسي كانت مجموعة من الأوروبيين تشارك في هذه الحرب، سواء بصفة جنود أو غير جنود. هل تعتقدون أنّ حرب الجزائريين هي وحدها كانت المشروعة، لأنّ حقوقهم قد تعرّضت للاعتداء؟ على هذا الأساس، فإنّ الشخص الذي جاء من أقصى أوروبا ليناضل لمصلحة هذا الشعب هو ظالم ومعتدٍ، وقد يقال له: ما شأنك وهذه الحرب؟ إنّ أحداً لم يعتدِ على حقوقك، فلماذا تشارك في هذه الحرب؟ وقد يقول: إنّي أدافع عن الحقوق الإنسانيّة. بالطبع، فإن الأمر الثاني هو الصحيح؛ لأنّ جهاد مثل هذا الشخص هو أقدس من جهاد ذلك الجزائري؛ لأنّ الجزائري يدافع عن نفسه، كما أنّ عمل ذلك الأوروبي أكثر أخلاقيّة وأقدس من عمل الجزائري.
 
 إنّ المنادين بالحرية إمّا أن يكونوا راغبين في الحرية حقيقة، أو أنّهم يتظاهرون بذلك، وقد كسبوا احتراماً لأنفسهم بين الناس. إنّ احترامهم هذا جاء نتيجة دفاعهم عن الحقوق الإنسانيّة لا عن حقوقهم الشخصية أو حقوق شعبهم أو قارّاتهم. وإذا تخطّوا أحياناً حدود اللّسان والقلم والخطب وتوعية الأفكار ودخلوا ساحة الحرب،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

57

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 مثلاً أن يقفوا إلى جانب الفلسطينيين أو الفيتكونع، فإنّ العالم يقدِّسهم كثيراً، لا يهاجمهم ولا يقول لهم: لماذا هذا الفضول؟ وما هي علاقتكم بهذه الأشياء؟ في حين ليس لأحد شأن بكم!

 
 أقدس أنواع الدفاع
من الواضح أنّ الحرب متى كانت بعنوان الدفاع، فهي مقدّسة؛ فإذا كانت دفاعاً عن النفس فهي مقدّسة. وإذا كانت دفاعاً عن الشعب فهي أقدس؛ لأنّ الطابع الشخصي يتغيّر إلى طابع قومي ويتوسّع، حيث إنّ الإنسان لا يدافع عندها عن نفسه فحسب، وإنّما يدافع عن الآخرين من أبناء شعبه، وإذا تعدّى الدفاع الحدود القومية إلى الحدود الإنسانيّة فإنّه سيكون أكثر قدسية.
 
 النزاع صغروي وليس كبروياً
 هذا هو معنى الجملة التي قلتها لكم، من أنّ النزاع في باب الجهاد ليس باصطلاح طلاب العلم نزاعاً كبروياً، بل إنّه نزاع صغروي. وبعبارة أُخرى: إنّ النزاع لا يكمن في هل إنّ الجهاد بعنوان الدفاع مشروع؟ أو أنّه مشروع أيضاً حتى إذا لم يكن دفاعاً؟ وفي هذه الكبرى الكلية لا يشكّ أحد في أنّ الجهاد المشروع هو فقط في حال الدفاع، إلّا أنّ البحث حول مصداق الدفاع، هو بحث في صغروية هذا الموضوع، وهو هل أنّ مصداق الدفاع هو الدفاع فقط عن شخص الإنسان نفسه، وإلى الحدّ الأقصى عن شعبه؟ أو إنّ الدفاع عن الإنسانيّة هو دفاع أيضاً؟
 
 الأمر بالمعروف هو مصداق الدفاع عن الحقوق الإنسانيّة
يقول بعض الأشخاص - ويحقّ لهم أن يقولوا -: إنّ الدفاع عن الإنسانيّة، هو دفاع بحدِّ ذاته؛ لذلك فإن انتفاضة الأشخاص من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

58

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 المنكر، هي مقدّسة. يمكن أن لا يتعرّض أحد الأشخاص للاعتداء عليه شخصياً ولو كانت مكانته محترمة ومعتبرة وجميع الوسائل متوافرة لديه، وحقوق شعبه الماديّة مصونة، لكنّه معتدىً عليه من ناحية الأهداف الإنسانيّة؛ أي عندما تنقسم الحسنات والسيّئات إلى مجموعتين، بحيث تسود المجتمع مجموعة الحسنات وتزول عنه مجموعة السيّئات. وفي مثل هذه الظروف لو رأى شخص أنّ المعروف صار منكراً والمنكر معروفاً، لانتفض من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن أيّ شيء يدافع؟ هل يدافع عن حقّه الشخصي؟ كلا، هل يدافع عن حقّ المجتمع؛ أي الحقّ الماديّ لشعبه؟ كلا أيضاً، هل يجب علينا أن نستنكر هذا الجهاد، أم نعتبره مقدّساً؟ بالطبع يجب تقديسه؛ لأنّه دفاع عن حقوق الناس.


 الدفاع عن الحرية دفاع مقدّس
بالنسبة إلى الحرية نجد أنّ الذين يقاومونها ويعارضونها يظهرون بمظهر المدافع عنها؛ وذلك لتبرير عملهم؛ لأنّهم يعلمون أنّ الدفاع عن الحرية هو مفهوم مقدّس، فالحرب إن كانت حقاً من أجل الدفاع عن الحرية، فهي مقدّسة؛ ولهذا فإنّهم يأتون ويطلقون على اعتدائهم اسم الدفاع عن الحرية. هذا تأكيد لهذا الموضوع، وهو أنّ الحقوق الإنسانيّة تقبل الدفاع. إنّ الحبّ من أجل الحقوق الإنسانيّة، مشروع ومفيد.
 
 هل إنّ التوحيد حقّ شخصي، أم حقّ عامّ؟
 الأمر الذي يجب الاهتمام به هنا هو: هل إنّ التوحيد )لا إله إلّا الله (ضمن الحقوق الإنسانيّة أم لا؟ يمكن أن يقول أحد الأشخاص: إنّ التوحيد ليس من ضمن الحقوق الإنسانيّة، بل من ضمن المسائل الشخصية للأفراد وإلى الحدّ الأقصى ضمن المسائل القومية للشعوب؛ أي يمكن أن أكون أنا موحّداً، ولي الحقّ في أن أكون مشركاً أو موحّداً، فإن أصبحت موحّداً فليس لأحد الحقّ في معارضتي لأنّه حقّي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

59

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 الشخصي، وإذا أصبح آخر مشركاً فهو من حقّه الشخصي أيضاً.

 إنّ أيّ أُمّة لها في قوانينها الرسمية واحدة من ثلاث حالات: فإمّا أن تختار التوحيد مبدأً لها، ولا تقبل في صفوفها غير الموحّدين، وإمّا أن تختار مذهب الشرك، أو تطلق الحرية للمواطنين ليعشق كلّ منهم ما يشاء من المذاهب. فإنْ كان التوحيد جزءاً من القوانين القومية لشعب ما، فإنّه سيكون جزءاً من حقوق ذلك الشعب، وإذا لم يكن، فلا. هذه إحدى وجهات النظر، أمّا وجهة النظر الأُخرى هنا، فهي أنّ التوحيد يعتبر - مثل الحرية - جزءاً من الحقوق الإنسانيّة.
 عندما تحدّثنا على حرية العقيدة، قلنا: إنّه ليس معنى الحرية أن لا يتعرض شخص لاعتداء من جهة شخص آخر، بل من المحتمل أن تتعرّض حريته إلى التهديد من جانبه هو.
 إذاً، فلو قام بعض الناس بمحاربة الشرك من أجل التوحيد، فإنّ حربهم ستكون ذات طابع دفاعي وليست حرباً استعمارية استغلالية عدوانية. هنا توجد - حتى بين علماء الإسلام - نظريتان:
 فبعضهم يرى أنّ التوحيد، من الحقوق العامّة للناس. وعلى هذا الأساس، فإنّ الحروب من أجل التوحيد هي مشروعة. وبعضهم الآخر يرى أنّ التوحيد ليس جزءاً من الحقوق الفردية أو الحقوق القومية للشعوب ولا يرتبط بالحقوق الإنسانيّة. وعلى هذا الأساس، لا يحقّ لأيّ شخص التعرّض للآخرين بسبب التوحيد. فأيُّ النظريتين صحيح؟
 
 الأُمور التي لا يجبر عليها
 بعض المسائل تتطلّب الإجبار، وهناك مسائل أُخرى في حدِّ ذاتها لا تتطلّب الإجبار، حيث يجب أن تكون طوعيّة بطبيعتها. لنفرض مثلاً أنّ مرضاً خطيراً قد ظهر، وتريد السلطات المعنيّة أن تلقّح الناس، هنا يمكن إجبار الناس على التلقيح. وإذا كان هناك من لا يرضى فيُجبر، حتى وإن قاوم أو غاب عن الوعي. لكن بعض
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

60

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

الأعمال تتطلّب الإجبار ولا يمكن ممارستها إلّا عن طريق الاختيار والرضا والقناعة، على سبيل المثال تزكية النفس، والتربية على الفضائل، فلو أردنا تربية بعض الناس بحيث يقبلون الفضائل باعتبارها فضائل، ويتجنّبون السيّئات باعتبارها سيّئات ونقصاً في الإنسانيّة؛ أي يكرهون الكذب ويولون الاحترام والأهمية للصدق، فإنّ هذا العمل لا يتمّ بالقوّة والإكراه.
 
 التربية لا تفرض
 يمكن منع الشخص من السرقة بواسطة جَلْده، لكن لا يمكن بالجلد جعل شخص ما أميناً. وإذا كان شخص بحاجة إلى تهذيب النفس وإلى أن تصبح شخصيته الأخلاقية رفيعة، فهل يمكن تحقيق ذلك بضربة مئة جلدة لتصبح تربية رفيعة؟ أي هل إنّ الجلد بالسوط يُغني عن كلّ وسائل التربية ليمنع الشخص من الكذب ويكرّهه إلى نفسه طيلة عمره؟ كلا، وألف كلا.
 
 وكذلك الحال بالنسبة إلى المحبّة، هل يمكن إجبار شخص ما عن طريق جلده على أن يحبّ شخصاً آخر؟ كلا، لا يمكن فرض الحنان والمحبّة بالعنف؛ لأنّ هذه الأُمور لا تحتاج إلى العنف، فلو جمعوا كلّ قوى العالم وأرادوا بالعنف أن يدخلوا المحبّة في قلب شخص أو أن يخرجوا بالعنف محبّة من قلب شخص، لتبيّن لهم أنّ هذا العمل غير ممكن.
 
 الإيمان لا يتطلّب العنف
 إنّ مسألة الإيمان - بصرف النظر عن كونها من الحقوق الإنسانيّة أم لا - هي بحدِّ ذاتها لا تتطلّب عنفاً. لنفرض أنّنا نريد فرض الإيمان بالقوّة والعنف، فإنّ ذلك ليس ممكناً؛ لأنّ الإيمان يعني الاعتقاد والميل، ويعني أيضاً الانجذاب نحو عقيدة وقبولها. إنّ الانجذاب إلى أيّ عقيدة له ركنان: الأوّل هو الناحية العلمية للموضوع،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

61

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 بحيث إنّ فكر وعقل الإنسان يقبلانه، والركن الثاني هو الناحية العاطفية، بحيث يكون قلب الإنسان ميّالاً له. وهذان الركنان لا يمكن تحقيقهما بالعنف، خصوصاً في الأُمور الفكرية والعقلية؛ ذلك أنّ الفكر يتبع المنطق، فمثلاً لو أرادوا أن يعلّموا طفلاً مسألة رياضية، فيجب أن يعلموه إيّاها عن طريق المنطق ليؤمن بذلك حيث لا يمكن تعليمه بالسوط؛ أي لو ضربوه فإنّ فكره لن يتقبّل المسألة. وكذلك الحال بالنسبة إلى الناحية العاطفية والودية. 

 يمكن منح الحرية بالإكراه، أمّا الإيمان والأصالة وروح المطالبة بالحرية فلا. وعلى هذا الأساس يوجد هذا التباين بين التوحيد - حتى وإن كنّا نعتبر التوحيد من حقوق الإنسان - وغير التوحيد. فمثلاً الحرية موجودة، ويمكن منحها للناس بالإكراه؛ ذلك أنّه يمكن بالقوّة صدّ المعتدي، وبهذه الطريقة يمكن تحرير شعب بأكمله، لكن لا يمكن أن تعرض عليه الأصالة وروح المطالبة بالحرية. لا نستطيع بالقوّة أن نجبر شخصاً على الإيمان بشيء، ولا يمكننا - حتى بالقوّة - إدخال الإيمان إلى قلبه، وهذا ما عناه القرآن الكريم بقوله: ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾1؛ أي لا تجبروا الناس على الدخول في الدّين، حتى ولو كانت لكم القدرة على ذلك طوعاً، بل اتركوهم ليدخلوه طوعاً؛ لأنّ الدين لا يمكن فرضه بالقوّة وأنّ ما يفرض بالقوّة والإكراه ليس ديناً.
 
 إنّ القرآن يستنكر على تلك المجموعة من الأعراب ادّعاءها الإيمان، وهي التي دخلت توّاً إلى الإسلام ولم تدرك بعد ماهيّة الإسلام أو يتغلغل إلى أعماقها، حيث يقول: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾2؛ ذلك أنّ الإيمان يرتبط بالقلب.



1  سورة البقرة، الآية 256.
2  سورة الحجرات، الآية 14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

62

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 والدليل الآخر الذي يثبت صحّة ادعائنا هو أنّ الإسلام لا يسمح بالتقليد في أُصول الدين، ويعتبر التحقيق أمراً ضرورياً. إنّ أُصول الدين ترتبط بالعقيدة والإيمان. إذاً، يتضح لنا أنّ نظر الإسلام؛ هو أنّ الإيمان الحقيقي، هو الناتج من التفكير الحرّ لا الناتج من التقليد أو المفروض بالقوّة.

 
 الآن، وقد اتّضح هذا الأمر، فإنّنا نجد هنا أنّ وجهتي نظر المحقّقين الإسلاميين تقتربان من بعضهما، حيث إنّ مجموعة كانت تعتقد بأنّ التوحيد هو ضمن الحقوق الإنسانيّة ويمكن الدفاع عن الحقوق الإنسانيّة، وعن هذا التوحيد. أمّا المجموعة الأُخرى فتقول: لا يمكننا أن نتحارب من أجل التوحيد فقط، فلو كان شعب مشركاً فإنّنا لا نستطيع محاربته.
 
 الحرب لإزالة العوائق عن طريق الإيمان والتوحيد
 إنّ وجهتي النظر قد اقتربتا من بعضهما من خلال ما وضّحته توّاً. حتى ولو كنّا نعتبر التوحيد من الحقوق الإنسانيّة، فلا نستطيع أن نشنّ الحرب على شعب آخر لفرض عقيدة التوحيد عليه؛ لأنّ التوحيد هو في حدِّ ذاته لا يقبل الفرض، ولو اعتبرنا التوحيد جزءاً من الحقوق الإنسانيّة فمن الممكن لنا إذا ما تطلّبت المصلحة الإنسانيّة ومصلحة التوحيد أن نشنّ الحرب على قوم مشركين، لكن لا من أجل فرض التوحيد والإيمان عليهم؛ لأنّ التوحيد والإيمان لا يمكن فرضهما. نعم، يمكن أن نشّ حرباً على المشركين من أجل اقتلاع جذور الفساد من أساسها، إلّا أنّ اقتلاع جذور الشرك بالقوّة يعتبر مسألة، وفرض عقيدة التوحيد مسألة أخرى.
 
 إنّ الذين يعتبرون التوحيد جزءاً من الحقوق الشخصية، وإلى الحدّ الأقصى جزءاً من الحقوق القومية، يقولون: إنّ هذا العمل غير جائز، ويتّفقون بقولهم هذا مع طراز تفكير الأوروبيين الذي انتشر بيننا.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

63

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 فالأوروبيون ينظرون إلى هذه المسائل بمثابة جملة من المسائل الشخصية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

71


64

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 والمسائل غير الجدّية في الحياة مثل الرسوم تقريباً، بحيث إنّ كل شعب له الحقّ في انتخاب الرسوم التي يرغب فيها. إذاً، لا يحقّ لنا، حتى ولو بعنوان قطع جذور الفساد، أن نحارب المشركين؛ ذلك أنّ الشرك ليس فساداً، وإنّ التوحيد مسألة شخصية.

 
 الحرب من أجل حرية الدعوة وإزالة العوائق عن طريق التبشير
 والآن، ندخل موضوعاً آخر وهو: هل يجوز القتال من أجل حرية الدعوة أم لا يجوز؟ ماذا يعني القتال من أجل حرية الدعوة؟ أي إنّنا نقول: يجب علينا أن نكون أحراراً لكي نبشّر بعقيدة وفكر خاصين بين كل شعب؛ أي أن نبيّن عقيدتنا. ويجوز لنا أن نقوم بهذا العمل سواء بعنوان إنّنا نعتبر الاثنين حقّاً إنسانياً عامّاً. وإذا ظهرت العراقيل أمام دعوتنا، ونرى أنّ قوّة جاءت لتمنع الدعوة، وتقول: إنّني لا أسمح لكم؛ لأنّكم تريدون تخريب أفكار هؤلاء الناس (تعلمون أنّ أغلب الحكومات تعتبر الفكر السيّئ هو الفكر الذي إذا ظهر فإنّ الناس سوف لا يطيعون هذه الحكومات) فهل يجوز محاربة الحكومات التي تمنع نشر الدعوة بين الشعوب إلى أن تسقط ويزول المانع من أمام نشر الدعوة؟ أم لا يجوز؟
 
 نعم، هذه الحرب تجوز أيضاً؛ ذلك أنّها تملك طابعاً دفاعياً، وتعتبر من ضمن الجهاد الذي ماهيّته هي الدفاع.
 
 مقياس الحقوق الشخصية والحقوق العامّة
 إنّنا شرحنا إلى هنا، ماهية الجهاد. وليس هناك سوى مسألة واحدة، ألا وهي: هل أنّ التوحيد يعتبر من وجهة نظرنا جزءاً من الحقوق العامة للإنسان أو جزءاً من الحقوق الشخصية، وإلى الحدّ الأقصى جزءاً من الحقوق القومية؟ يجب أن نعرف ما هي مقياس الحقوق الإنسانيّة العامّة ومقياس الحقوق الفردية والشخصية. إنّ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

65

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 الناس مشتركون مع بعضهم في جملة من المسائل، وإنّ جميع الناس الذين يعيشون على الكرة الأرضية يتشابهون في أكثر الأشياء، ويختلفون عن بعضهم في أشياء كثيرة. إنّ الاختلافات هي بدرجة كبيرة حيث لا يوجد شخصان يتشابهان في جميع النواحي، مثلما لا يتشابه شخصان مئة بالمئة من حيث الجسم والشكل.

 
 إنّكم لا تستطيعون أن تجدوا شخصين يتشابهان تماماً من حيث الخصائص الروحية. إنّ المصالح المتعلّقة بالنواحي المشتركة للناس هي حقوق عامة. الحرية، هي أن لا يوجد هناك ما يمنع من ظهور الاستعدادات الكلية لأفراد البشر، هذا يتعلّق بجميع الناس. والحرية مهمّة لي بقدر ما هي مهمّة لكم، ومهمة لكم بقدر ما هي مهمة للآخرين. إلّا أنّنا نتباين مع بعضنا في أكثر الأشياء، ونسمّي تلك الأشياء (ذوقاً) لأنّها تباينات شخصية. ومثلما يتباين لوننا وشكلنا، فإنّ ذوقنا يتباين بدوره أيضاً؛ إنّني من ناحية ألوان الملابس أرغب في لون معيّن وأنّكم ترغبون في لون آخر، إنّني أرغب في نوع من خياطة الملابس وأنتم ترغبون في نوع آخر، إنّني أفضّل مدينة للعيش فيها وأنتم تفضّلون أُخرى، إنّني أفضّل مكاناً وأنتم تفضّلون آخر، إنّني أضع نوعاً من الزينة في غرفتي، وأنتم تضعون نوعاً آخر، إنّني أنتخب فرعاً لدراستي، وأنتم تنتخبون فرعاً آخر.
 
 هذه مسائل شخصية، ولا يجوز لأيّ شخص أن يزاحم غيره في المسائل الشخصية؛ ولذلك لا يحقّ لأيّ شخص أن يجبر شخصاً آخر في انتخاب الزوج؛ لأنّه جزء من المسائل الشخصية، حيث إنّ لكل شخص ذوقاً خاصّاً يتعلّق به من ناحية انتخاب الزوج.
 
 إنّ الأوروبيين عندما يقولون: يجب عدم مزاحمة الشخص من ناحية التوحيد والإيمان، فإنّهم يتصوّرون أنّ التوحيد والإيمان هما جزء من الشؤون الشخصية، والسليقة والذوق من الشؤون الفردية. يجب على الإنسان أن يكون منشغلاً في حياته
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

66

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 بشيء اسمه الإيمان، مثل شؤون الفن، حيث يوجد هناك من يحب (حافظاً 1( وآخر يحبّ (سعدياً(2، واحد يحبّ (مولوي 3( وآخر يحبّ (فردوسي 4 (وآخر يحبّ (الخيام. 5 (إذاً، يجب عدم مزاحمة شخص يحبّ سعدي، أو أن نقول له: نحن نحبّ حافظ فيجب عليك أيضاً أن تحبّه. يقولون: إنّ الدّين هو هكذا، فمثلاً، إنّ شخصاً يحبّ الإسلام وآخر يحبّ الدين المسيحي وثالثاً يحبّ الدّين الزردشتي ورابعاً لا يحبّ أيّاً من الأديان الثلاثة، وعلى هذا الأساس يجب عدم مزاحمة أي شخص. إنّ هذه الأشياء لا ترتبط من وجهة نظر الأوروبيين بأصل الحياة ولا بطراز سلوك الإنسان، إنّ طراز تفكير الأوروبيين وتصوّرهم هو بأصل الحياة، لا بطراز سلوك الإنسان.


 إنّ طراز تفكير وطراز تصوّر هؤلاء للدّين يتباينان مع طراز تفكيرنا وطراز تصورنا. إنّ الدين الذي يكون مثل أديان هؤلاء فيجب أن يكون هكذا. إلّا أنّ الدّين من وجهة نظرنا يعني الصراط المستقيم والطريق الصحيح للبشرية. اللامبالاة في مسألة الدّين تعني اللامبالاة في الطريق الصحيح للبشرية، فنحن نقول: إنّ التوحيد يرتبط بالسعادة البشرية ولا يرتبط بالأمور الشخصية أو مع هؤلاء القوم أو أولئك إذاً، فإنّ الحقّ هو مع الأشخاص الذين يعتبرون التوحيد جزءاً من الحقوق الإنسانيّة. وعندما نقول: إنّه لا يجوز القتال من أجل فرض التوحيد، فهذا لا يعني أنّ التوحيد ليس من الأمور التي يجب الدفاع عنها وليس جزءاً من الحقوق الإنسانية، بل لأنّه في حدِّ ذاته لا يقبل الفرض، بالضبط مثلما يقول القرآن: ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾. وإلّا فإنّه في الحقيقة جزء من الحقوق الإنسانيّة.



1  شمس الدّين محمّد الحافظ الشيرازي صاحب الديوان المعروف، توفي سنة 791هـ.
2   الشيخ مصلح الدّين سعدي بن عبد الشيرازي الشاعر الفارسي، توفي سنة 690.
3   جلال الدّين محمّد بن بهاء الدّين البلخي صاحب الديوان المعروف به «مثنوي» توفي سنة 672هـ.
4   أبو القاسم الحسن بن محمّد الطوسي الشاعر الحماسي الفارسي، توفي سنة 411هـ.
5  أبو الفتح عمر بن إبراهيم النيسابوري صاحب الرباعيات المشهورة به «رباعيات الخيّام» توفي سنة 517هـ.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

67

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 حرية الفكر أم حرية العقيدة؟

 والمسألة الأُخرى تدور حول حرية العقيدة، حيث إنّ هناك تبايناً بين "حرية الفكر" و"حرية العقيدة". الفكر منطق، ويملك الإنسان قوّة باسم قوّة التفكير، بحيث يستطيع الحساب والانتخاب في المسائل على أساس التفكير والمنطق والاستدلال. غير أنّ العقيدة هي بمثابة الارتباط والعقد. إنّ العقائد التي تفتقر إلى الأساس الفكري، يكون أساسها التقليد، التبعية، العادة، وحتى هي مزاحمة لحرية البشر. إنّ ما نبحثه من ناحية الحرية ليكون البشر أحراراً هو التفكير، إلّا أنّ الاعتقادات التي ليس لها أيّ جذر فكري، هي فقط عقدة وجمود روحيين، تَمّ توارثهما جيلاً عن جيل، إنّها العبودية بعينها. وإنّ الحرب من أجل القضاء على هذه العقائد هي حرب في طريق تحرير البشر وليس حرباً ضدّ حرية البشر، إنّ الشخص الذي يطلب مراداً من صنم صنعه بيديه هو حسب تعبير القرآن أقل من الحيوان؛ أي إنّ عمل هذا الشخص ليس له أي أساس فكري، ولو أنّ ذرّة من فكره تحرّكت فإنّه لا يقوم بهذا العمل. إنّ جموداً وعقدةً ظهرا في قلبه وروحه وإنّ جذورهما تعود للتقليد الأعمى.
 
 يجب تحرير هذا الشخص بالقوّة من القيود الداخلية ليستطيع أن يفكر. وعلى هذا الأساس فإنّ الذين يسمحون بحرية التقليد وحرية القيود الروحية باسم حرية العقيدة فإنّهم على خطأ. وإنّ ما نواليه نحن بحكم آية ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ 1 هو حرية الفكر وليس حرية العقيدة. وسنبحث في هذا الموضوع بصورة أوسع.



1  سورة البقرة، الآية 256.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

68

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 الجهاد في القرآن والعقل والتاريخ

 كان بحثنا يدور حول الجهاد الإسلامي، وهناك ثلاثة موضوعات يجب شرحها هنا. للموضوع الأوّل ناحية تفسيرية أو بالأحرى قرآنية والموضوع الثاني هو من البحوث العقلية، بينما الموضوع الثالث له ناحية قرآنية وناحية تاريخية.

 أمّا البحث الذي له ناحية قرآنية فهو يتعلّق بآيات الجهاد، وقلنا سابقاً: إنّ بعض آيات الجهاد مطلق بنظر علماء الأُصول، وبعضها الآخر مقيّد. والمقصود من الآيات المطلقة: هي الآيات التي أصدرت - دون شرط أو قيد - أوامر الجهادّ ضدّ المشركين وأهل الكتاب. أمّا الآيات المقيّدة فهي: الآيات التي تدعو إلى الجهاد في ظروف خاصّة، مثلاً إذا قاتلوكم أو إنّهم في حالة حرب معكم أو كانت لديكم أدلّة تثبت تصميم هؤلاء على محاربتكم، فحاربوهم.

 والآن ما العمل؟ هل يجب أن نأخذ بنظر الاعتبار الآيات المطلقة، أم الآيات المقيّدة؟ قلت سابقاً: ليس هناك تناقض بين المطلق والمقيّد من وجهة نظر علماء معرفة وفنّ المحاورات الذي تتمّ دراسة قسم منه في علم الأُصول، لكي نقول: هل يجب أن نأخذ بنظر الاعتبار هذه الآيات أو تلك. بل إذا كان هناك مطلق ومقيّد، فيجب أن نستند إلى ذلك المقيّد لتوضيح ذلك المطلق. إذاً، فعلى هذا الأساس يتوجّب علينا طبقاً لهذه المقولة أن نعتبر مفهوم الجهاد، هو ذلك المفهوم الذي وضّحته الآيات المقيّدة؛ أي إنّ آيات القرآن لا تعتبر الجهاد واجباً من دون قيود والشروط، بل تعتبره واجباً في ظروف خاصّة.
 
 هل إنّ آيات الجهاد ناسخة ومنسوخة؟
 إنّ بعض المفسرين جاؤوا وطرحوا هنا مسألة الناسخ والمنسوخ؛ أي إنّهم قالوا: إنّ القرآن مثلما تقولون يعلن في أكثر الآيات، بأنّ محاربة الكفار تأتي وفق الشروط، غير أنّ آيات أُخرى نسخت مرّة واحدة جميع تلك الآيات. وعلى هذا الأساس فإنّ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

69

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

الحديث هنا، هو حول الناسخ والمنسوخ. إنّ الآيات الأولى لسورة البراءة التي تعطي أوامر الجهاد بصورة عامّة وتريد التبرئة من المشركين وتحدّد مهلة للمشركين، وتقول بعد انقضاء تلك المهلة: إنّ هؤلاء ليس لهم حقّ البقاء فاقتلوهم، وحاصروهم وتربّصوا بهم. هذه الآيات التي جاءت في السنة التاسعة للهجرة قد نسخت جميع الأوامر السابقة، هل هذا الكلام صحيح؟
 
 هذا كلام غير صحيح، بأي دليل؟ بدليلين، الأوّل هو: أنّنا نستطيع في مكان اعتبار آية ما ناسخة لآية أُخرى، بحيث تكون بالضبط ضدّها. فلنفرض على سبيل المثال إنّ آية تقول: لا تقاتلوا المشركين، ثمّ تأتي آية أُخرى لتقول: قاتلوا المشركين. هذا يعني أنّنا ألغينا الأوامر السابقة ووضعنا بدلاً منها أوامر أُخرى. إنّ معنى الناسخ والمنسوخ هو إلغاء الأوامر الأولى واستبدالها بأوامر أُخرى. إذاً، يجب أن تكون الأوامر الثانية بصورة بحيث تكون مئة بالمئة عكس الأوامر الأولى ليتمّ اعتبار الأوامر الثانية حصيلة إلغاء الأوامر الأولى. أمّا إذا كانت الأوامر الأولى والثانية تقبل الجمع مع بعضها؛ أي أن تكون كلّ واحدة منها موضّحة للأُخرى، فليس هناك إذاً أيّ ناسخ ومنسوخ لنقول: إنّ واحدة جاءت لإلغاء الأُخرى.
 
 إنّ آيات سورة البراءة ليست بصورة بحيث نقول: إنّها حصيلة إلغاء الآيات السابقة، وأنّها جعلت الجهاد مشروطاً. لماذا؟ لو قرأنا جميع آيات سورة البراءة لرأينا أنّها تقول في المجموع: حاربوا المشركين الذين لا يلتزمون بأيّ مبدأ إنساني، ولا يوفون العهد الذي هو أمر فطري ووجداني وحتى إذا كان هناك قوم يفتقرون إلى قانون فإنّهم يدركون بحكم فطرتهم ضرورة الوفاء للعهد. لو عقدتم معاهدة فإنّهم سينقضونها إذا ما سنحت لهم الفرصة ويقضون عليكم متى ما سنحت لهم الفرصة للقضاء عليكم. وهنا ماذا يقول العقل؟ يقول إذا حصلتم على أدلّة حول قوم تثبت أنّهم مصمّمون على القضاء عليكم في أوّل فرصة تتاح لهم، فهل يقول: اصبروا لكي يقضوا عليكم ثمّ اقضوا عليهم؟! لو أنّنا نصبر فإنّه سيُقضى علينا. واليوم يجوز
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

70

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 في العالم أن يقوم طرف بمهاجمة طرف آخر إذا ما حصل على أدلّة قطعية تؤكّد تصميم الطرف المقابل على مهاجمته. ويقولون: إنّه قام بعمل صحيح، ولا يقولون: صحيح إنّك كنت تعرف وأنّ أخباراً قطعية وصلتك، وكان مفادها مثلاً إنّ العدوّ سيهاجمك في اليوم الفلاني، لكن لم يكن لك الحقّ أن تهاجمه اليوم، وكان يتوجب عليك أن تصبر وأن تقف مكتوف اليدين ليهجم عليك العدو أوّلاً، ثمّ تهجم أنت!

 
 يقول القرآن في آيات سورة البراءة التي هي من أشدّ آيات القرآن في موضوع الجهاد:
 ﴿ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ ﴾1.
 يقول القرآن في هذه الآية: إنّ الفرصة لو سنحت لهؤلاء فإنّهم لا يفون بأيّ معاهدة أو عهد؛ لأنّ ما يقولونه، يقولونه باللّسان وأنّ قلوبهم تقول العكس. وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الآيات ليست مطلقة بتلك الدرجة التي تتصوّرها، بل إنّها تقول في الحقيقة: إنّ الصبر والتأخير عند إحساسكم بخطر من جانب العدو، هما عملان غير صحيحين. إذاً، فهذه الآيات ليست ضدّ تلك الآيات لكي نعتبرها ناسخة. هذا الدليل وهذا الموضوع يثبتان أنّ هذه الآيات ليست منسوخة.
 
 ما من عام إلّا وقد خصّ
 إنّ الدليل الثاني هو موضوع قاله علماء الأُصول، بحيث إذا كان باستطاعتي توضيحه لكم فإنّني أستطيع أن أقول وجهة نظري حول هذه الآية.
 
 يقولون: ما من عام إلّا وقد خصّ؛ أي إنّ لكل قاعدة استثناء. هذا الكلام صحيح، فمثلاً يقولون لنا: صوموا، ويقولون: لا تصوموا إذا كنتم على سفر أو إذا أصبتم بمرض. وكذلك الحال بالنسبة إلى الصلاة وغير الصلاة. يقولون: ما من عام إلّا



1 سورة التوبة، الآية 8.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

 


71

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 وقد خصّ؛ أي إنّ بعض القواعد تقبل الاستثناء.
 
 المقصود هو أنّ بعض الأُمور تأبى الاستثناء، حيث إنّ لحن هذه القواعد، هو لحن لا يقبل الاستثناء، مثلاً جاء في القرآن: ﴿ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾.1 هذا الأمر الكلي لا يقبل الاستثناء؛ أي لا يمكن أن يكون إنسان شاكراً في الحقيقة ولا يقبله الله. كلا، هذا ليس شيئاً يكون شيئاً آخر في حالة خاصّة، إلّا إذا لم يكن شاكراً.
 
 والآن فإنّ الحالة هي كذلك في باب الناسخ والمنسوخ، حيث إنّ بعض الألحان لا تقبل النسخ أساساً؛ لأنّ النسخ يعني بأنّ المنسوخ هو أمر وقتي؛ أي إنّ الحقّ هو لحن لا يقبل التوقيت. فلو كان هذا موجوداً فيجب أن يكون دائماً. كيف؟ سأضرب لكم مثالاً:
 إذا جاء في القرآن: ﴿ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾.2 هنا يوجد عموم من ناحية الأفراد واستمرار من ناحية الزمان. هل يمكن لنا أن نجعل استثناءً لهذا العام، ونقول: إنّ الله لا يحب الظالم، إلّا بعض الظالمين؟! أي: إنّ القدسية الربّانية وقذارة الظلم غير قابلتين للالتحام، بحيث نقول: إنّ الله لا يحبّ المعتدين إلّا السيد فلان والسيد الفلاني، هذا العموم لا يقبل الـ(إلّا).
 
 كما أنّه ليس مثل الصيام. بحيث يقولون: يا سيد فلان صم، إلّا إذا لم تتمكّن في بعض الظروف. غير أنّ الظلم ليس شيئاً، بحيث نقول: اظلم في بعض الظروف ولا تظلم في ظروف أُخرى؛ لأنّ الظلم ليس مقبولاً في أي زمان ومن أيٍّ كان، وحتى من النبيّ. والظلم، مثل المعصية؛ لأنّ الله لا يحبّ أيّ عاص. فلا يمكن القول، إلّا النبيّ. لا، لا يمكن لأنبيائه أن يظلموا. لو أنّ الأنبياء عصوا فإنّ الله لا يحبّهم أيضاً.
 إنّ الفرق بين النبي وغير النبي، هو أنّ النبيّ لا يعصي بينما غير النبيّ يعصي. وهذا لا يعني أنّ الله سوف يحبّه حتى إذا ما عصى. 



1  سورة الزمر، الآية 7.
2  سورة البقرة، الآية 190.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

72

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 إنّ ما نطلق عليه اسم العموم لا يقبل التخصيص والاستثناء، وكذلك الحال من ناحية الزمان، هل يمكن القول: إنّ هذا قانون يخصّ زماناً معيناً، بحيث إنّ الله لا يحبّ المعتدين في زمان معيّن ولكنّه يلغي هذا الحكم بعد عشرة أعوام، ويقول: إنّنا من الآن سنحبّ المعتدين؟ هذا اللحن ليس لحناً يقبل النسخ.
 
 نشاهد في آيات الجهاد أنّ القرآن يدخل ضمن هذا الحقّ: ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾.1 إنّ محاربة المعتدي ليست اعتداء، إلّا أنّ محاربة الذي لم يعتدِ تعتبر اعتداء ولا تجوز. حاربوا المعتدي لكي لا يحصل اعتداء، لكن إذا حاربتم غير المعتدي فأنتم المعتدون، وهذا ليس بأمر يقبل النسخ. يمكن مثلاً أن لا يسمح بالجهاد والدفاع في وقت معين وأن يقول: اصبروا وتحمّلوا مدّة من أجل المصلحة، ثمّ يصدر الأمر بالجهاد؛ أي أن يُلغى الأمر بالصبر لأنّه كان لفترة مؤقّتة. وعندما يُلغى هذا الأمر فهذا يعني أنّ المولى كان يعتبره مؤقّتاً منذ البدء.
 
 الدفاع عن القيم الإنسانيّة
 وعلى هذا الأساس فإنّ القرآن يعتبر الجهاد ليس إلّا نوعاً من الدفاع الذي لا يسمح به إلّا في حالة وقوع الاعتداء. لكنّنا قلنا سابقاً: إنّه لا يمكن إدانة الجهاد الهادف إلى المحافظة على القيم الإنسانيّة حتى وإن لم تكن معرّضة للخطر. وقلنا أيضاً: إنّ مسألة الاعتداء هي مفهوم عام؛ أي ليس من الواجب الاعتداء على حياة الإنسان وعلى المال والناموس والاستقلال والحرية، فلو اعتدى قوم على قيم وكانت تلك القيم إنسانيّة، فإنّ ذلك يعني الاعتداء. 



1  سورة البقرة، الآية 190.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

73

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 استعمال القوّة في طريق المسائل الصحّية
 أريد أن أضرب لكم مثالاً بسيطاً: تبذل في عصرنا الراهن مساع جمّة للقضاء على جذور بعض الأمراض. ولم يتمّ إلى الآن التوصّل إلى الأسباب الأساسية لبعضها، مثل السرطان، كما لم يتمّ كشف طرق معالجتها. 

إلّا أنّ هناك مجموعة من الأدوية التي يستعملها الناس بصورة مؤقّتة من أجل تأخير هذه الأمراض. لنفرض أنّ مؤسّسة كشفت علاج أحد الأمراض، فإنّ المؤسّسات التي تستفيد من وجود هذا المرض، والمعامل التي تنتج الأدوية التي تفيد في علاج هذا المرض فقط، تصاب في حالة عدم وجود هذا المرض بخسائر تقدّرُ بملايين أو بمليارات الدولارات. ولكي لا يتضرّر سوقها فإنّها تقضي على هذا الكشف العزيز لدى الإنسان وعلى التركيبات المكتشفة لكي لا يعلم أيّ شخص بهذا الاكتشاف، فهل يجب الدفاع عن مثل هذه القيمة الإنسانيّة، أم لا؟ هل نستطيع أن نقول: إنّ أحداً لم يعتدِ على حياتنا، ولم يهدّد ناموسنا واستقلالنا وأرضنا؟ فماذا يعنينا إذا قام أحد الأشخاص في نقطة من العالم باكتشاف شيء وأراد شخص آخر أن يقضي على ذلك؟ لا، ليس هنا مكان لهذا القول؛ لأنّ قيمة إنسانيّة تتعرّض للخطر هنا وتمّ الاعتداء على إحدى القيم الإنسانية. وعلى هذا الأساس فهل نحن نعتبر أنفسنا معتدين إذا عارضنا هذه المسألة وقاتلنا من أجلها؟ كلا، بل إنّنا انتفضنا ضد الاعتداء وحاربنا المعتدي.
 
 إذاً، فعندما نقول: إنّ موضوع الجهاد هو أمرٌ دفاعي، فإنَّ غرضنا ليس الدفاع بمعنى محدود، بحيث نقول: أيها السيّد دافع عن نفسك إذا ما هاجمك شخص بالسيف وبالمدفع والبندقية، كلا، بل دافع متى ما تمّ الاعتداء عليك أو على إحدى قيم حياتك أو على القيم المعنويّة لحياتك، وخلاصة القول: إذا تمّ الاعتداء على شيء عزيز ومحترم للبشرية ويعتبر من شروط سعادة البشرية وجب الدفاع عنه.
 
 إنّ بحثنا السابق يطرح نفسه مرّة أُخرى هنا، وهو هل إنّ مسألة التوحيد جزء من 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

74

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 المسائل الشخصية وجزء من سليقة الأشخاص، أم إنّها جزء من القيم الإنسانيّة؟ فلو كانت من القيم الإنسانيّة فيجب الدفاع عنها. إذاً، فلو جاء في قانون ما هذا القول وهو: يجب الدفاع عن التوحيد بعنوان قيمة إنسانيّة فهذا لا يعني أنّ الاعتداء يجوز، بل معناه هو أنّ التوحيد قيمة معنويّة، وأنّ دائرة الدفاع وسيعة بدرجة بحيث تشمل هذه القيم المعنويّة.
 
 نعم، فإنّنا نكرّر في الوقت نفسه الموضوع الذي سبق وأن قلناه، وهو أنّ الإسلام لا يقول قاتلوا من أجل فرض التوحيد؛ لأنّ التوحيد لا يقبل الفرض بالإكراه لأنّه إيمان، ويجب تمييز الإيمان وانتخابه، حيث لا يمكن التمييز بالقوّة ولا الانتخاب بالقوّة. 
 ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾؛ أي لا تجبروا أيّ شخص؛ أي إنّ الإيمان لا يقبل الفرض، غير أنّ لا إكراه في الدّين لا يعني أن لا تدافعوا أيضاً عن التوحيد، أو عدم دفع الخطر الذي يواجه "لا إله إلّا الله" من قبل بعض الناس.
 
 إلّا أنّ مسألة عدم فرض الدّين على الناس بالقوّة، وأن يكون الناس أحراراً في انتخاب الدّين هي مسألة، كما أنّ مسألة أنّ "العقيدة" حرّة، هي مسألة أُخرى. وبعبارة أُخرى إنّ حرية التفكير والانتخاب هي مسألة، بينما حرية العقيدة، مسألة أُخرى.
 
 إنّ أكثر العقائد والمعتقدات لها أساس فكري؛ أي إنّ أكثر العقائد قد تمّ تشخيصها وانتخابها من قبل الإنسان. إنّ التعلّق القلبي الذي يظهر في الإنسان، ينتج في أكثر الأحيان عن التشخيص والانتخاب، لكن هل أنّ جميع عقائد البشر تستند إلى الفكر والتشخيص والانتخاب؟ أم إنّ أكثر عقائد البشر هي جملة من التعلّقات الروحية التي ليس لها أساس فكري، بل لها أساس عاطفي، مثلما يقول القرآن في مجال توارث التقاليد جيلاً عن جيل: ﴿... إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾.1 والقرآن يؤكّد كثيراً على هذا الموضوع. وكذلك هي العقائد التي تنتج عن تقليد الأكابر. 



1  سورة الزخرف، الآية 23.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

75

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 إنّ حريّة العقيدة ليس لها معنى أساساً في هذه الأمكنة، ذلك أنّ الحرية (في هذا المورد) تعني إزالة ما يمنع من فاعلية قوّة فاعلة وتقدّمية، بينما العقيدة نوع من الركود. إنّ الحرية في الركود تساوي حرية سجين في البقاء في السجن وحرية شخص مقيّد. والتباين هو أنّ السجين جسمياً يشعر بحالته، بينما السجين روحياً لا يحسّ بحالته؛ ولهذا السبب نقول: إنّ حرية العقيدة الناشئة من تقليد وتبعية المحيط من التفكير الحرّ، ليس لها معنى.

 
 الجزية
 المسألة الأُخرى التي يجب طرحها في نهاية حديثنا، هي مسألة "الجزية". لقد جاء في نص الآية الكريمة، قاتلوا أهل الكتاب، خاصّة الذين ليس إيمانهم حقيقياً وواقعياً، حتى يعطوا الجزية. ما هي الجزية؟ هل أنّ الجزية تعني دفع الفدية وأخذ الفدية؟ إنّ الفدية بأيّ شكل كانت، تمثّل العنف والظلم، وإنّ القرآن يرفض بدوره كلّ أشكال وصور الظلم، الجزية مشتقّة من الجزاء. والجزاء يستعمل في اللغة العربية بمعنى الهديّة تارة وبمعنى العقاب أُخرى. ولو كانت الجزية عقوبة، فيمكن لشخص أن يدّعي بأنّ مفهومها هو الفدية، وإذا كان مفهومها الهدية وهو كذلك فإنّ الموضوع يتغير.
 
 قلنا سابقاً: إنّ بعضهم ادّعى بأنّ الجزية هي كلمة معرَّبة أساساً، وليست عربية، وإنّها فارسية وهي معرّب كلمة "كـزية"، والـكـزية كلمة فارسية، وكانت تعني الضرائب السنوية التي وضعها "أنوشيروان" لأوّل مرّة في إيران. وعندما انتقلت هذه الكلمة إلى العرب فإنّ حرف "الـكـاف" تبدّل كالعادة إلى حرف "الجيم"، وقال العرب، الجزية بدلاً من الـكـزية.
 
 إذاً، مفهوم الجزية هو الضريبة. ومن البديهي فإنّ تسديد الضرائب لا يعني أخذ الفدية، فالمسلمون يجب عليهم أن يدفعوا أنواع الضرائب، إلّا أنّ هناك تبايناً بين 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

76

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 الضرائب التي يدفعها أهل الكتاب والضرائب التي يدفعها المسلمون. وهذا القول لا يستند إلى أيّ دليل، ثمّ إنّنا لسنا بصدد أصل الكلمة وجذورها، بل يجب علينا أن نعرف ماهيّة الجزية على أساس الأحكام التي وضعها الإسلام لها.

 
 الجزية تكريم أم عقاب؟
 بعبارة أُخرى يجب أن نرى أنّ الإسلام الذي يأخذ الجزية، هل يأخذها بشكل هدية أم بشكل فدية؟ فلو يتعهّد مقابل الجزية أن يقدّم لهم خدمة فإنّ الجزية تعني عند ذاك: التكريم. أمّا إذا أخذ الجزية دون أن يقدّم لهم خدمة، ففي هذه الصورة تعني الجزية: الفدية.
 
 فلو قال الإسلام: خذوا الجزية من أهل الكتاب ولا تتعهّدوا مطلقاً أمام الجزية، بل خذوا فقط المال منهم مقابل التوقّف عن قتالهم، فهذا يعني الفدية. الفدية تعني أخذ الحقّ بالعنف؛ أي أن يقول أحد الأقوياء لأحد الضعفاء: أعطني مبلغاً من المال لكي لا أزاحمك وأقف في طريقك وأسلب أمنك. وفي وقت آخر يقول: أتعهّد أمامكم وآخذ الجزية مقابل هذا التعهّد. وفي تلك الصورة يكون معنى الجزية التكريم، سواء أكانت كلمة الجزية عربية أم فارسية؛ لأنّ المهم هو أن نأخذ بنظر الاعتبار مادّة القانون.
 
 عندما ندخل ماهيّة القانون فإنّنا سنعلم بأنّ الجزية تترتّب على أهل الكتاب الذين يعيشون في ظلّ الحكومة الإسلامية ويكونون من أتباعها، للحكومة الإسلامية وظائف تقع على عاتق شعبها ولها تعهدات أمامه، والوظائف هي:
 أوّلاً: أن يدفع الشعب الضرائب لإدارة ميزانية الحكومة الإسلاميّة، سواء أكانت تلك الضرائب تؤخذ بعنوان الزكاة أم بعناوين أُخرى مثلاً الخراج أو المقاسمة أو الضرائب التي تضعها الحكومة الإسلامية استناداً إلى المصالح الإسلاميّة ويترتّب على الناس دفعها. وإذا لم يدفعوها فإنّ أُمور الحكومة الإسلاميّة تصاب
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

77

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 بالشلل. ليست هناك حكومة لا تملك ميزانية ولا تأخذ بعض أو جميع ميزانيتها من الناس. إنّ الحكومة بحاجة إلى الميزانية، والميزانية يجب أن تأتي من هذه الضرائب المباشرة وغير المباشرة.

 
 ثانياً: يجب على الناس أن يكون لهم تعهّدات أمام الحكومة من ناحية الخدمة العسكرية والتضحية؛ لأنّ على أفراد الشعب أن يدافعوا عن الدولة إذا ما تعرّضت للخطر. فإذا كان أهل الكتاب يعيشون في ظلّ الحكومة الإسلاميّة، فلا يترتّب عليهم دفع الضرائب الإسلاميّة أو المشاركة في الجهاد بالرّغم من أنّ منفعة الجهاد تعود عليهم. وعلى هذا الأساس فإنّ الحكومة الإسلاميّة عندما تقوم بضمان أمن الناس وتمنحهم حمايتها فإنّها تطلب شيئاً من الناس مقابل ذلك، سواء أكان مالاً أم غير مال، وتطلب الجزية من أهل الكتاب بدلاً من الزكاة وغيره، وحتى أنّها تطلب الجزية منهم بدلاً من الخدمة العسكرية؛ ولهذا فإنّ الوضع كان على هذه الشاكلة في صدر الإسلام.
 
 وعندما كان أهل الكتاب يتطوّعون لخوض الحرب لمصلحة المسلمين، فإنّ المسلمين كانوا يرفعون الجزية عنهم، ويقولون إنّنا نأخذ منكم لأنّكم لا تعطون الجنود، أمّا الآن وقد أعطيتمونا الجنود فليس لنا الحقّ في أن نأخذ الجزية منكم.
 
 لقد ورد في تفسير المنار شواهد تاريخية كثيرة وأكثر من الكتب الأُخرى تقول: إنّ المسلمين في صدر الإسلام كانوا يأخذون الجزية بدلاً من الجنود، وكانوا يقولون لأهل الكتاب: بما أنّكم تعيشون في ظلّ حكومتنا ونقوم نحن بحمايتكم ولا تعطونا الجنود (كان المسلمون لا يقبلون الجنود منهم) فيجب أن تدفعوا الجزية بدلاً من الجنود. ولو كان المسلمون يعتمدون أحياناً على بعضهم ويأخذونهم كجنود فإنّهم كانوا لا يأخذوا الجزية منهم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

78

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

  وعلى هذا الأساس فإنّ كلمة الجزية سواء أكانت عربية من الناحية اللغوية ومشتقّة من الجزاء أم كانت معرّبة من كلمة "الـكـزية"، فإنّها تعتبر في الحقيقة

 

 

 

 

 

 

 

 

86


79

المبحث الثاني: الجهاد في المنظور الإسلامي

 من ناحية المفهوم القانوني تكريماً للحكومة الإسلاميّة من قبل أهل الكتاب مقابل الخدمات التي تقوم بها لهم، ومقابل عدم أخذ الجنود والضرائب منهم.

 
 وهنا اتّضح بأنّ جواب الإيراد الأوّل، وهو قولهم: كيف يمكن أن يتخلّى الإسلام عن الجهاد من أجل الجزية؟ ماذا يريد الإسلام بالجهاد؟ إنّه لا يريد الجهاد لفرض العقيدة، بل من أجل إزالة العوائق. عندما يقول الطرف المقابل إنّني لا أقاتلكم، فهذا يعني أنّه لا يضع العراقيل في طريق العقيدة. وعندها يترتّب على الطرف الثاني أن يعمل على ضوء هذه الآية: وَإِن ﴿ جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ﴾1.
 
 إذا خضعوا وطرحوا مسألة السلام والصلح فلا تتعنّت أنت ولا تقل: كلا، إنّني لا أتصالح بل أريد الحرب. عندما يريدون التعايش السلمي معكم فيجب عليكم أن تبدوا استعدادكم لهذا الأمر. لكن إذا كانوا يريدون أن يعيشوا معكم وفي ظلّكم ولا يدفعون الضرائب الإسلاميّة ولا يرسلون الجنود لكونهم غير مسلمين، وأنتم لا تثقون بخدمتهم العسكرية فيجب أن تأخذوا منهم ضرائب سنوية باسم الجزية.
 
 والجدير بالذكر أنّ المؤرخين الأوروبيين والمسيحيين ومن جملتهم غوستاف لوبون وجرجي زيدان قد بحثوا في هذا الموضوع كثيراً. إنّ (ويل ديورانت) يبحث في المجلد الحادي عشر من كتابه "قصّة الحضارة" في مسألة الجزية الإسلاميّة، ويقول: إنّ الجزية الإسلاميّة كانت قليلة بدرجة أنّها كانت أقلّ من الضرائب التي كانت تؤخذ من المسلمين. وعلى هذا الأساس لم يكن هناك أيّ ظلم في مسألة الجزية. 



1  سورة الأنفال، الآية 61.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

80

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 
 
 
المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران
حقيقتها وعواملها
 الشهيد الشيخ مرتضى مطهّري
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

81

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 إيجاد الثورة أسهل من الحفاظ عليها

 أشير في البداية إلى مضمون آيةٍ من آيات القرآن الكريم، لتكون مقدِّمة لهذا البحث، يقول تعالى في سورة المائدة: ﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ﴾1.
 
 الآية تخاطب المسلمين قائلةً: لقد يئس الكفّار اليوم من دينكم، لقد يئسوا من محاربة دينكم، لقد فشل أعداؤكم فشلاً ذريعاً، ولا يهدِّدكم خطر منهم بعد اليوم، ولكنّكم اليوم يجب أن تخشوا شيئاً آخر، وهو الخشية منّي.
 
 قال المفسِّرون في تفسير هذه الآية: إنّ الخطر الداخليَّ هو الذي يهدِّدكم اليوم، وليس الخطر الخارجيّ؛ أي إنّ الخطر لم يرتفع كليّاً، بل إنّ العدوّ الخارجيّ قد انعدم خطره.
 
 إنّ الخوف من الله الذي ورد في الآية يعني الخوف من قانون الله، الخوف من أن يعاملنا الله بعدله لا بفضله، نقرأ في الدعاء المأثور عن الإمام علي عليه السلام: "يا مَن لا يُخافُ إلّا عدله"؛ يا من خِشيُتهُ؛ هي الخشيةُ من عدالته، لا يخشى الإنسان إلّا من إجراء العدالة إذا كان في ظلّ نظام عادل، يخلو حقيقة من كلِّ ظلم وإجحاف، بالنسبة إلى أي إنّسان، إنّه يخاف أن يستحقّ العقاب إذا ارتكب منكراً.
 
 ومن هنا يقولون: إنّ الخوف من الله يرجع في النهاية إلى الخوف من النفس؛ أي



1  سورة المائدة، الآية 3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

82

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 الخوف من جرائم النفس وأخطائها.

 عندما يقول: أيُّها المسلمون، لا تخشوا العدوّ الخارجي، وأنتم على أعتاب النصر والغلبة على الأعداء، ولكن اخشوا العدوّ الباطني؛ فإنّ هذا يرتبط من أحد الجوانب، بذلك الحديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، عندما خاطب المُقاتلين العائدين من إحدى الغزوات قائلاً: "مرحباً بقوم قضوا الجهادَ الأصغر، وبقي عليهم الجهادُ الأكبر"1.
 يقول الشاعر مولوي2:
أيُّها الزعماء، لقد قتلنا العدوَّ الظاهري    *     وبقي في باطننا العدوّ الأسوأ


 إنّ الآية التي ذكرتُها في المقدّمة، بالإضافة إلى الآية الحادية عشرة من سورة الرعد ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ 3 تكوّنان أساساً مناسباً لتحليل التاريخ الإسلامي.

 يظهر من التحقيق في تاريخ الإسلام أنّ مسير الثورة الإسلاميّة الذي أوجده الرسول صلى الله عليه وآله تغيّر بعد وفاته، وذلك نتيجة دخول الانتهازيين والأعداء، الذين كانوا إلى الأمس القريب يحاربون الإسلام، ولكنهم بعد ذلك أدخلوا أنفسهم في صفوف المسلمين، مع تغيير أشكالهم وصورهم، وبذلك تغيّر مسير الثورة وشكلها ومحتواها إلى حدّ كبير.

 وعلى هذا الأساس بدؤوا يسعون - في أواخر القرن الأوّل الهجري - لتغيير الحقيقة الإسلاميّة للثورة إلى صورةٍ قوميّة وعربيّة .إنّ ورثة تُراث الرسول، بدلاً من اعتقادهم بأنّ الانتصار كان للإسلام وللقيم 



1 وسائل الشيعة، ج15، ص161.
2  من كبار الشعراء الإيرانيين (توفي سنة 673هـ).
3  سورة الرعد، الآية 11.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

83

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 الإسلامية، وبدلاً من أن يؤمنوا بالمحافظة والمداومة على نتائج الثورة الإسلاميّة بنفس المعايير والأصول السابقة، فإنّهم اعتقدوا بأنّ للثورة حقيقة قوميّة عربيّة، إنّ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

93


84

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 الشعب العربي هو الذي قاتل الشعوب غير العربيّة وهزمهم، وطبيعي أنّ هذا الأمر يكفي لأن يخلق الشَّقاق في صميم المجتمع الإسلامي.
 وفي مواجهة هذه الحركة ادّعى جماعة بصدق1: أنّ ما تعرضونه باسم الإسلام ليس إسلاماً حقيقياً؛ لأنّه ليس للعصبيّات القوميّة والمسائل العنصريّة في الإسلام محلٌّ من الإعراب.
 
 ومن طرف آخر عرض جماعة هذا الأمر أيضاً، وهو أنّه إذا كانت القومية هي الهدف، فلماذا القوميّة العربيّة بالخصوص؟ لِمَ لَمْ يكن لنا زعيم وقائد؟
 وبهذا الترتيب زُرعتْ بذرةُ الحروب القوميّة والعنصريّة بين أفراد الأُمّة الإسلاميّة.
 إنّ تاريخ القرون الثلاثة الأولى للإسلام مملوء بالحروب والمنازعات بين القوميّات، العربيّة والإيرانيّة والتركية وأقوام ما وراء النهر و...
 ونحن اليوم لو لم نواجه الأمور الحالية للثورة بكلِّ دقّةٍ وواقعيّة، ولو سمحنا فيها للعصبيّات والأهواء النفسيّة، فإنّ ثورتنا ستبوء بالفشل لا محالة، وذلك، على أساس قاعدة: ﴿ وَاخْشَوْنِ ﴾، وقاعدة ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ... ﴾، ولأنّ النهضة الإسلاميّة في القرون الأولى، إنّما واجهت الفشل، جرياً على نفس القاعدة نفسها.
 من الأصول التي تصدق في موارد كثيرة، هي أنّ المحافظة على موهبةٍ ما، إذا لم نقل بأنّها أصعب من الحصول عليها، فلا شكّ أنّها لم تكن أسهل منها. يقول القدماء: إنّ تسخير العالم، أسهل من الحكومة فيه. نعم، يجب علينا القول: إنّ إيجاد الثورة أسهل من المحافظة عليها.
 نحن نرى بوضوح أنّ النشاط والقوّة اللّتين كانتا للثورة أثناء تحطيم الأعداء الخارجيّين، قد فقدنا الآن اندفاعهما إلى حدّ كبير، ووُجد بدله نوع من التشتّت والتفرقة.



1 بمعنى أنّهم صادقون في إدّعائهم بأنّ لا قومية سياسية في الإسلام، بمفهومها الحقوقي، والكياني الدولي؛ وإن كان الإسلامي يُقرَّ ويعترف ويحترم العواطف القوميّة الإنسانيّة غير العدائية من ناحيةٍ ثانية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

85

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 طبعاً، إنّ هذه التفرقة لم تكن أمراً غير مرتقب، وإنّما قبل ذلك كنّا نظنّ أنّ تلك الوحدة التي كانت بين الناس ربّما تضعف بعد سقوط الشاه. 1 من هنا يُعلم ضرورة التحقيق حول هوية هذه الثورة بأنّها ظاهرة اجتماعية.

 
 ماهية الثورة ودوافعها
 علينا أنْ نعرف ثورتنا، ونحلِّل جميع جوانبها على أحسن وجه، وعن طريق المعرفة والتحليل نتمكّن من منح ثورتنا الاستمراريّة ونستطيع المحافظة عليها، ليس غير.
 يجب علينا في البداية أن نعرض بحثاً كليّاً حول الثورات، ثم نبحث بصورة خاصّة حول الثورة الإيرانية. علينا في الخطوة الأولى أن نعرف ما هي الثورة.
 الثورة عبارة عن عصيان وتمرُّد الناس في ناحية ما ومنطقة ما. وببيانٍ آخر: الثورة هي العصيان ضدّ النّظام الحاكم، بهدف إحلال نظامٍ آخر. 2



1 إنّ وجود كثير من العوامل المضادّة للثورة في الحركة المؤقّتة، هو الذي أدّى إلى تمزيق الوحدة الشعبية، إلّا أنّ القيادة الحكيمة للإمام عملت على تنشيط التحام الشعب باتجاه وحدة الكلمة أكثر ممّا مضى، ونلاحظ اليوم هذه الوحدة الجماعية بكلِّ وضوح بين جميع فئات الشعب، وذلك، بعد تطهير إيران من كلِّ عملاء العرب، وقيام حكومة إسلامية حقيقية نابعة من صميم الشعب، حفظها الله وثبتها على صراطه المستقيم. (المترجم).
2  الفرق بين الثورة والإنقلاب العسكري: أنّ الثورة لها حقيقةً شعبيّة، وليس الانقلاب العسكريّ كذلك، ففي الثاني تقوم أقليّة مسلحّة ومجهزة بالمُعدّات العسكرية في مواجهة أقليّة أُخرى حاكمة على أكثريّة المجتمع؛ وذلك بهدف قلب النظام الموجود وإحلال نظام آخر محلّه. ولا ترتبط هذا الاستقرار بصلاحية أو عدم صلاحية القائمين بالانقلاب العسكري. والذي يهمّ في هذا المجال، أنّ غالبية الشعب ليس لهم أيُّ دورٍ في الانقلاب؛ ولقد لاحظنا - نحن الإيرانيين - إنقلاباتٍ عسكريّةٍ كثيرةٍ بالرّغم من أنّ القائمين عليها أطلقوا عليها اسم الثورة. وفي عام 1952م قام عدد من الضباط في مصر وعلى رأسهم الجنرال محمّد نجيب وجمال عبد الناصر بانقلابٍ عسكري ضدّ الحكومة الثائمة آنذاك، ولكن الشعب المصري لم يُساهم في هذه الحركة التي عُرفت باسم الثورة؛ ولذلك فبعد رحيل أولئك الضباط اضمحلّت ثورتهم، وكأنّ شيئاً لم يكن وفي سنة 1918 قام سيد ضياء (طباطبائي) ورضا خان (بهلوي) بانقلاب عسكري في إيران وكان الشعب أيضاً في معزل عنه. لم تقع ثوراتٌ، تستحقّ أنْ نطلق عليها اسم الثورة، خلال القرون الأخيرة من تاريخنا المعاصر، سوى بعض التحوّلات الاجتماعيّة العميقة، مثل "الثورة الفرنسية" وثورة "اكتوبر" و.. وحتى في الثورة السوفيتيّة والثورة الصينيّة: فإنّ جيشاً قوياً منظماً كان بجانب الشعب وفي مقابل الانقلابيّة يُقال: الإصلاحيّة؛ بمعنى: أنّ التغييرات التي تحدث عادةً في مجتمع ما، وإنْ لم تكن أساسية؛ أي إنّها لا تقلب أوضاع المجتمع من حيث البناء، والركيزة الأساسية، والنظام الحاكم، بل تُجد تغييرات لتحسين الأوضاع. لا تنحصر الثورة والإصلاح في المجتمع فحسب، بل تصدقان أيضاً في الأفراد. فقد يُرى: أحياناً تحسّن في سلوك وأخلاق فردٍ ما، بالنسبة إلى ماضيه، وأحياناً أخرى نرى انقلاباً روحيّاً أساسيّاً، في الأفراد؛ فكأنّ هذا الشخص اليوم تغيّر كُليّاً عنه في الماضي؛ وعليه، فالتوبة تعني إيجاد نوع من الثورة الروحية الأساسية في العمل والأخلاق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

86

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 وبهذا الترتيب نعلم أنّ أساس كلِّ ثورةٍ يكمُن في شيئين:

 أوّلاً: معرفة عوامل عدم الرّضا عن الوضع القائم.
 ثانياً: معرفة مطالب الشعب وهدفه.
 وبالنسبة للثورات المختلفة توجد على العموم نظريتان:
 تقول إحدى النظريتين: إنّ جميع الثورات الاجتماعيّة في العالم، بالرّغم من أنّها تأخذ في الظاهر أشكالاً مختلفةً ومتفاوتةً، ولكن روحها وماهيتها واحدة. 
يقول أنصار هذه النظرية: إنّ جميع الثورات في العالم، ابتداءً من ثورة صدر الإسلام، إلى الثورة الفرنسية الكبرى، وثورة أكتوبر، والثورة الثقافية في الصين...، وبالرغم من اختلاف أشكالها، فإنّها في الحقيقة لم تكن سوى ثورة واحدة.
 تظهر بعض الثورات على أنّها ثورةٌ علميّةٌ، أو سياسيّةٌ، أو دينيّةٌ، وغيرها، ومع ذلك، فإنّ روح وماهية كلِّ هذه الثورات، لم تكن سوى شيء واحدٍ، إنّ روح وحقيقة جميع الثورات، اقتصاديّة ومالية.
 إنّ الثورات من هذه الناحية تشبه تماماً المريض الذي تبدو عليه عوارض وآثار مختلفة ومتفاوتة في موارد مختلفة، ولكن الطبيب يفهم أنّ كلَّ هذه العوارض والآثار، المتنوّعة في الظاهر، ليس لها إلّا أصلٌ واحدٌ وأساسٌ واحد.
 هؤلاء يقولون: إنّ جميع عوامل التمرّد والعصيان تؤول في النهاية إلى خلافٍ واحدٍ وغضبٍ واحد، والأهداف كلّها أيضاً تنتهي إلى هدفٍ واحدٍ؛ إنّ جميع ثورات العالم تكون في الواقع ثورة المحرومين ضدّ المتع والملذّات، يقولون: إنّ جذور كلِّ الثورات ترجع في النهاية إلى المحروميّة. 1



1 لا بدَّ من ذكر هذه النقطة: أنّ المحروميّة نفسها سببت في التقدّم في موارد الإنتاج حيث تكثر الاختلافات، وهذا موضوع لا بدّ من البحث عنه في مكانه بحثاً مستقلاً.
.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

87

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 وفي زماننا فإنّ هذا الموضوع - استناداً إلى الاختلاف الطبقي في الثورات - أصبح موضوعاً رائجاً جداً، حتى أنّ بعض الذين يتحدّثون عن المفاهيم الإسلاميّة،

ويتفوّهون بالثقافة الإسلاميّة، يستندون ويركّزون كثيراً على كلمة المستضعفين والاستضعاف، حيث وصل هذا الإفراط إلى حدّ التحريف والانحراف.
 ويقول أتباع النظريّة الثانية - خلافاً لما يدّعيه المؤمنون بالنظرية الأولى -: إنّ جميع الثورات ليس لها أصل مادّيٌّ محض.
 وبالطبع، فمن الممكن أنْ يكون الأساس في كثيرٍ من الثورات، حصول محورين مختلفين في المجتمع من الناحية الاقتصاديّة والماديّة.
 ويُوجد مثال على هذا الأمر من الإمام علي عليه السلام حينما قال - في خطبة بمناسبة بداية خلافته: "... لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء، ألّا يُقارّوا على كِظَّةِ ظالمٍ ولا سَغَبِ مظلوم..."1.
 يتحدّث الإمام عليه السلام في هذه الخطبة على كِظّةِ الظالم (أي شبع الظالم واستغنائه)، وسغب المظلوم (أي بقاء المظلوم جائعاً.(
 يعني حصول قطبين مختلفين في المجتمع، وتقسيم المجتمع، إلى عددٍ محدودٍ من المُترفين المنعمين، وعدد كثير من المحرومين الجائعين، فهناك نَهِمٌ أُصيب بالتُّخمة وسوء الهضم من كثرة آكله، وجائع يربط بطنه بظهره من شدّة جوعه وفقره.
 وبناء على النظرية الثانية حول الثورات، فإنّ تقسيم المجتمع من الناحيتين الاجتماعيّة والاقتصادية إلى قطبين: المتنعّم والمحروم، ليس شرطاً ضروريّاً لحصول الثورة، فهناك كثير من الثورات لها صبغة إنسانية محضة.
 إنّ التمرد على أساس الجوع لا يختصّ بالإنسان، فالحيوان أيضاً إذا جاع طويلاً، يطغى على الإنسان أو الحيوانات الأخرى أو حتّى على صاحبه.



1  ينظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 202.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

88

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 هذا، وإنّ كثيراً من الثورات لها صفة إنسانية خالصة، فالثورة تكون إنسانية إذا كان لها حقيقة تحرّرية، أو حقيقة سياسية، وليس فقط حقيقة اقتصادية.

 

 

 

 

 

 

 

 

98


89

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 لأنّ المستعمرين من الممكن، أن يُشبعوا مجتمعاً ما، ويقضوا على مظاهر الجوع فيه، تماماً أو إلى حدّ كبير، ولكن هم يهدفون بذلك إلى أنْ يمنعوا الناس من حقّ الحريّة، وحقّ تقريرهم لمصائرهم، وحقّ إبداء الرأي وإظهار العقيدة. وعليه، فإنّ هذه الأمور كلَّها، لا ترتبط أبداً بالعوامل الاقتصاديّة، بل وفي مثل مجتمع كهذا، ينهض الناس للحصول على حقوقهم المهدورة، ويخلقون الثورة، وبهذا المعيار يُوجِد الشعب ثورة ليست لها حقيقة اقتصاديّة، بل لها حقيقة ديمقراطية وليبرالية.
وبالإضافة إلى الحقيقتين اللَّتين ذكرناهما، فإنّ الثورة يمكنها أنْ تأخذ حقيقة اعتقادية وإيديولوجية؛ ويعني ذلك أنّ شعباً ما يؤمن ويعتقد بإحدى العقائد، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقيم المعنويّة لتلك العقيدة، فإنّه عندما يرى عقيدته متعرضةً للخطر، وحينما يرى الهجمات تستهدفها لتقلعها وتقمعها، فإنّه يثور ويُقاوم للأخطار التي تتعرض لها عقيدته، فيقوم بالتالي بثورةٍ يهدف من ورائها استقرار العقيدة بصورة كاملة وبدون نقص.

ولا ترتبط ثورة هؤلاء الناس بالشبع والجوع، ولا ترتبط بوجود الحريّة السياسيّة أو عدمها؛ لأنّه من المحتمل أن لا يكونوا جياعَ البطون، وأن يتمتعوا بالحرية السياسية، ولكن العقيدة والمدرسة، التي يأملون ويرجون استقرارها، لم تكن مستقرة فإنّهم يتحرّكون يقومون بالثورة.

وإذا أردنا إحصاء عوامل إيجاد الثورة، فإنّنا نصل إلى هذه النتيجة، وهي أنّ عامل جميع الثورات إمّا أنْ يكون:
أوّلاً: عاملاً اقتصاديا وماديّاً؛ أي تقسيم المجتمع إلى قطبين ومحورين، وهما الرفاهيّة والحرمان، الغنى والفقر؛ ويكون هذا سبباً للقيام بالثورة، وطبيعي أنّ الهدف في قيامٍ كهذا، هو الوصول إلى مجتمع يخلو من الاختلافات الطبقيّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

90

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 ثانياً: وجود الطبائع التحرّريّة في البشر، وخاصيّة التحرّر تُعتبر من القيم الإنسانيّة؛ أي إنّ الحرية للإنسان تُعتبر أعزّ بكثير من جميع القيم الماديّة1.

 يُقال: إنّ ابن سينا عندما كان وزيراً في همدان، وبينما كان في طريقه ذاتَ يوم، وهو في زيّ الوزارة وحُشمتها وجلالها، مرَّ على نزَّاح كان يُفرِغ بِئراً في جانب حائط، ويُردِّد مع نفسه هذا البيت من الشعر أثناء عمله:
 لقد عزَّزتكِ وكرمتك يا نفسي    *    ليَسهُل مرورُك على القلب
 ضحك ابن سينا لمشاهدته النزَّاح والبيت الذي يقرؤه في نفسه: انظر إلى هذا الإنسان، الذي اختار هذا العمل الحقير، كيف يَمُنُّ على نفسه، ويدَّعي أنّه احترمها ووقّرها فأمر بإحضار النزّاح.
 وعندما أقبل توجّه إليه: حقاً، إنّه لا يوجد في العالم أحدٌ مثلك، أعزَّ نفسه وكرّمها.
 فنظر إليه النزَّاح وعرف أنّه من الوزراء، وردَّ عليه قائلاً: إنّ عملي مع حقارته أشرف كثيراً من عملك؛ لأنّك مضطرٌّ أنْ تذهب يوميّاً لزيارة الملك، وتنحني إلى حدّ الركوع أمامه، في الوقت الذي أعيش أنا بحريّة، ولا أحتاج إلى عبوديّة أحد!
 يُقال: إنّ أبا علي (ابن سينا) عندما سمع ذلك، تنحّى عن النزَّاح خجِلاً مطأطأ الرأس. إنّ ما تفوّه به النزَّاح يحكي عن حقيقةٍ تكمن في فطرة كلِّ إنسان...
 إنّها الحريّة، التي تجعل النزَّاح يفضِّلها على الانحناء أمام الملوك أو أحد الجبابرة، أو أمام إنسان مثله، مهما كان في هذا العمل من مزايا ماديّة.



1  وبالطبع، فإنّ شرط تحقّق هذا الهدف، هو أنْ لا تكون الحركة فاقدة للجوانب الإنسانيّة، وأن لا يكون غرضها الوحيد هو الشعور بالانتقام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

91

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

  ويقع الحيوان في النقطة المقابلة للإنسان من هذه الناحية، إذ لا يهمّه هذا الأمر؛ لأنّ الحيوان لا يُريد سوى إملاء بطنه، ولكنّ الإنسان لا يمكن أنْ يُفضِّل على الحريّة شيئاً.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

101


92

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 وبهذا المنظار، فمن الطبيعيّ جداً، أن يكون عامل الحركة في شعبٍ ما سياسيّاً، وليس اقتصاديّاً أو مادّياً.


الثورة الفرنسية - على سبيل المثال - من قبيل هذه الثورات، فبعد أنْ نشر الحكماء والفلاسفة أمثال "روسو"، كثيراً من الدِّعايات حول الحريّة والتحرّر والكرامة الإنسانيّة، فإنّهم خلقوا الأرضيّة المناسبة للحركة، ولإيقاظ الشعب الذي قام إذ ذاك بالثورة، ليحصل على الحرية.

ثالثاً: عامل العقيدة وحبّ الهدف، والثورة على هذا الأساس تُدعى بالثورة العقائديّة. هذه الثورات هي: حرب العقائد، وليست حروباً اقتصادية، في مظاهر عقائديّة.

إنّ الحروب الدينيّة هي خير نموذجٍ للمعارك، التي تُقام على أساس العقيدة والمبدأ.

ويستند القرآن أيضاً إلى هذه النقطة؛ فهناك نقطة لطيفة في الآية الثالثة عشرة من سورة آل عمران، ترتبط الآية بحرب المسلمين مع الكفار في غزوة بدر، فعندما تذكر الآية المؤمنين، تطلق على حربهم اسم الحرب العقائديّة، ولكنّها لا تطلق حرب العقيدة على حرب الكفار.

تقول الآية: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ﴾1 حيث لا تقول الآية أنّ المجموعة الثانية أيضاً تناضل في سبيل العقيدة؛ لأنّ حربهم لم تكن لها حقيقة إيمانية؛ وأنّ دفاع أمثال أبي سفيان عن الأصنام، لم تكن بدليل الاعتقاد بها؛ فأبو سفيان كان على علمٍ بأنّه إذا استقرّ نظامٌ جديدٌ، فلا يبقى أثرٌ لقُدرته وسُلطته، إنّه كان في الحقيقة يُدافع، عن مصالحه الشخصيّة، وليس عن عقائده.



1    سورة آل عمران، الآية 13.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

93

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 حقيقة الثورة في إيران

 إنّ ثورتنا اليوم تُواجه هذا السؤال: ما هي حقيقة الثورة في إيران؟
 هل لها حقيقة طبيعيّة؟ هل لها حقيقة ليبراليّة؟ هل لها حقيقة أيديولوجيّة وعقائدية وإسلامية؟
 يقول الذين يعتقدون بأنّ الحقيقة في جميع الثورات ماديّة وطبقيّة: إنّ الثورة الإيرانيّة عبارة عن حركة المحرومين ضدّ المُترفين؛ أي إنّ هناك طبقتان في إيران، تواجهان بعضهما بعضا؛ وهما: طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء، وإذا أرادت الثورة أن تدوم فعليها أن تستمر في هذا المسير.
 وأمّا الذين يعتبرون أنفسهم مسلمين ولكنهم يفكّرون مثل أولئك، فإنّهم يسعون إلى أنْ تأخذ الحركة صبغةً إسلاميّة، ويقول هؤلاء: إنّه بناء على الآية الشريفة التي تقول: ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾.1
 
 فإنّ الإسلام أيضاً يفسّر التاريخ على أساس ارتكاز المجتمع على محورين وركيزتين، وهما معركة المستضعَفين والمستضعِفين، ولكن لا يعتبر المستضعفين هم الأصل والمنشأ، في كلِّ نهضةٍ وكلِّ ثورة دون غيرهم؛ أي إنّه خلافاً للمبدأ الماديّ، الذي يجعل الثورة على عاتق المحرومين فقط، ولصالحهم ضدّ الطبقات المرفّهة المتنعِّمة، فإنّ الإسلام يعتبر نهضة الأنبياء لصالح المحرومين؛ ولكن، لا يحصرها على المحرومين فقط.
 إنّ عدم إدراك هذا التفاوت بين وجهة الثورة ومنشأها أصبح سبباً لكثيرٍ من الأخطاء.



1  سورة القصص، الآيتان 5 - 6.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

94

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 إنّ الذين يعتبرون العامل الماديّ مؤثّراً ودخيلاً في الثورة، فإنّهم يعتبرون الثورات اجتماعيّة بالطبع؛ أي يقولون: إنّه ليس للثورة جذوراً في بناء البشر، بل لها أُصول وجذور في التحوّلات الاجتماعيّة، في الوقت الذي يستند الإنسان - بعكس ذلك - على الفطرة الإنسانيّة للإنسان؛ ولهذا السبب، فإنّ الإسلام لا يحصر خطابه في المحرومين، بل يُخاطب كلَّ الفئات والطبقات الاجتماعيّة، حتى تلك الطبقات المتنعّمة المترفة التي تستضعِف الناس؛ لأنّه من وجهة النظر الإسلامية - (الفلسفة الإسلامية عن الكون والحياة) - فإنّ في صميم وباطن كلِّ مستكبرٍ، وكلِّ فرعون من الفراعنة، يوجد إنسان مقيّد في الأغلال. إنّ فرعون - في منطق الإسلام - لم يستعبد بني إسرائيل فحسب، بل وإنّه قيّد بالأغلال إنساناً في باطنه... إنساناً تكمُنُ فيه الفطرة الإلهيّة ويُدرك القيم الإلهيّة، ولكنّه مسجون في داخل هذا الفرعون.

 
 ولذلك، فإنّنا نرى الأنبياء في بداية دعوتهم (إلى الله)، ونضالهم ضدّ الطواغيت، يذهبون أوّلاً إلى ذلك الإنسان المقيّد في باطن كل فرعون، بهدف تحريكه وإثارته ضدّ الفرعون الحاكم، وليتمكّنوا بهذه الطريقة من إيجاد ثورة في الدّاخل.
 
 وبالطبع، فإنّ نسبةَ النجاح في هذا المجال إنّما ترتبط بمقدار تحرير الإنسان الباطن لدى كلِّ فرد. يقول القرآن بالنسبة لهذه الثورات الداخليّة: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ﴾ 1 إنّ إنساناً من نفس ملأ فرعون، من أولئك الذين يعيشون في رفاهية كاملة مع فرعون الحاكم، وفي نفس الطبقة المستثمرة والمستكبرة، يخرج من بين هؤلاء رجل يؤمن بموسى ويقوم بالحماية عنه.
 
 وإنّ امرأة فرعون تُعتبر من نفس الأفراد الذين يُعدُّون من الطبقة الحاكمة، إلّا أنّ وجدانهم وقواهم الباطنية تستيقظ بسماع كلمة الحقّ، فيُجيبون داعي الله: لبّيك... لبّيك. تقوم امرأة فرعون بعد قبولها دعوة موسى، بالثورة ضدّ فرعون.



1   سورة غافر (المؤمن)، الآية 28.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

95

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 إنّها تقوم في البداية بتمزيق القيود، وتحطيم الأغلال عن تلك الإنسانية التي تكمن في باطنها، وبعد أن حرّرتها تقوم وتتحرّك ضدّ فرعون، الذي كان زوجها، وكان أيضاً رمزاً ونموذجاً للظّلم والاستبداد.

كانت هذه الثورة ثورة فرديّة من طبقة الأقباط1 ولصالح الأسباط2 الذين هم أُناس استُعبدوا من قبل أُناس آخرين (الأقباط)، ولكنّهم لم يأسروا الإنسان الذي يكمن في باطن كلٍّ منهم، أو أنّهم قليلاً ما يأسرونه.

وطبيعي أنْ يكثر المتطوِّعون من بين هؤلاء الأسباط، الذين يُعدُّون من محرومي مجتمعهم، لتلبية نداء موسى ودعوته، تماماً كما كانت دعوة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، التي استقبلها المحرومون أكثر من غيرهم، واستقبلتها مجموعة قليلة من الطبقة المتنعّمة.

وفي زماننا أيضاً، فإنّ الاستقبال الأكبر للثورة الإسلاميّة، كان من قبل المحرومين؛ لأنّ قيام هذه الثورة هو في صالح المستضعفين؛ أي إنّها جاءت لاستقرار العدالة.

ويستلزم ذلك أن تأخذ النِّعم المحتكرة، في يدِ مجموعةٍ خاصّة، وتجعلها في متناول المحرومين، وطبيعيّ أنّ الذي يريد أن يأخذ حقّه، يرى (في هذه الثورة) استجابة لفطرته، في الوقت الذي يكسِب شيئاً.
ولكنّ الفرد الذي يريد أنْ يُعيد الحقوق إلى أصحابها، يلزمه أنْ يدوس بقدميه على مطامعه، وطبيعي أنّ عمله هذا، هو استجابة للفطرة. وبناء عليه، فإنّ قبول هذا الفرد للنظام الحديث صعب، وللسبب ذاته، فإنّ مستوى القبول ينخفض لدى هذه الطبقة.



1  القبط أو الأقباط - كانوا من سكّان مصر الأصليين، وأنّ بقاياهم الذين يسكنون مصر اليوم هم المسيحيون..
2  الأسباط: طائفة من أبناء يعقوب من اليهود.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

96

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 عند تحليل وتفسير ثورتنا، ذهب بعض الأشخاص إلى تفسيرها بناء على (نظرية) العامل الواحد؛ فيقولون: إنّ هناك مجرّد عاملٍ واحدٍ، أدّى إلى إيجاد هذه الثورة.

 وتُوجد لدى هؤلاء نظريات ثلاثة: فيعتقد بعضهم أنّ العامل اقتصادي محض، ويعتقد قسم آخر أنّ العامل هو طلبُ الحرية، وتعتقدُ المجموعة الثالثة أنّ العامل اعتقادي ومعنويّ.
 
 وفي الطرف الآخر، نلتقي بمجموعةٍ تعتقدُ أنّ الثورة ليست ذات عاملٍ واحد بل إنّ العوامل الثلاثة تدخّلت في إيجاد الثورة بصورة مشتركة، وإنّ بقاء الثورة ودوامها ونضجها في المستقبل رهين بتعاون وائتلاف هذه العوامل الثلاثة مجتمعةً.
 بجانب هذه الآراء، توجد نظرية أُخرى - نحن أيضاً نتّفق معها - وهي التي أسعى هنا، لكي أشرحها بحدود الإمكان. يعترف الكثيرون إنّ الثورة الإيرانية خاصّة، لا يُمكنهم أن يروا ثورةً مشابهةً لها في العالم. وحول تفرّد الثورة يقول المعتقدون بوجود ثلاثة عوامل مستقلّة: إنّنا لم نرَ في العالم ثورةً تتحرّك فيها هذه العوامل الثلاثة مع بعضها.
 لقد رأينا ثوراتٍ سياسيّة، إلّا أنّها لم تكن طبقية، رأينا ثوراتٍ طبقيّة دون أنْ تكون سياسيّة. وأخيراً، على فرض تحقّق هذين العاملين، فإنّ تلك الثورات كذلك كانت تفتقر إلى العامل الديني والمعنوي.
 على هذه الأساس، فإنّ هؤلاء يقبلون وجهة نظرنا إلى حدّ ما، في عدم وجود نظائر لهذه الثورة. نحن نقول بأنّ هذه الثورة إسلامية، ولكن يجب أن نوضّح غرضنا في إسلامية الثورة.
 يتصوّر بعضهم أنّ الغرض من الإسلام ينحصر في تلك المعنوية التي توجد في جميع الأديان بصورة عامّة، ومنها الإسلام خاصّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

97

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

  وتعتقد فئة أُخرى أنّ الإسلاميّة تعني ترويج المناسك الدينيّة، والسماح لإجراء العبادات والآداب الشرعيّة. مع وجود هذه التعابير، فإنّنا نعرف على الأقل، إنّ

الإسلام عقيدة معنوية محضة، ولكن ليس كما هو عليه تصوّر الغربيين تجاه الدّين، ولا تصدق هذه الحقيقة على الثورة الحاليّة فحسب، بل إنّها صادقة بالنسبة إلى ثورة صدر الإسلام أيضاً.
 
 سرّ نجاح الثورة في إيران
 في الوقت الذي كانت ثورة الإسلام فيه ثورة دينيّة، فإنّها كانت ثورةً سياسية، وفي الوقت الذي كانت فيه ثورةً معنوية وسياسية، فإنّها كانت ثورة اقتصادية وماديّة أيضاً؛ أي إنّ الحريّة والاستقلال والعدالة وعدم التجزئة الاجتماعية ومحاربة الخلافات تعتبر من صميم التعاليم الإسلامية.
 
 وإنّ السرّ في نجاح ثورتنا أيضاً: أنّها لم تستند إلى العامل المعنويّ فحسب، بل احتوت على العاملين الآخرين - الاقتصادي والسياسي - في صياغتها الإسلاميّة، فمثلاً: النضال لإزالة الخلافات الطبقيّة يُعتبر من التعاليم الأساسية للإسلام، ولكن هذا النضال تُرافقه أمور معنويّة عميقة.
 
 ومن جانبٍ آخر، فإنّنا نعثر على روح التحرّر والحريّة، في جميع التعاليم الإسلاميّة، نلتقي في تاريخ الإسلام بمظاهر، يُخيَّل إلينا أنّها تتعلّق بالقرن السابع عشر، عصر الثورة الفرنسية الكبرى، أو القرن العشرين، عصر المبادى التحرريّة، المختلفة.
 
 إنّ القصّة التي ينقلها "جورج جرداق" عن الخليفة الثاني، ويقارنها مع كلام أمير المؤمنين، إنّها لمِثال حسنٌ في هذا المجال.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

98

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

  من المعروف أنّ عمرو بن العاص، عندما كان والياً في مصر، تنازع ابنه مع ابن أحد الرعايا في أحدِ الأيّام، وأثناء النزاع، لطمَ ابن عمرو بن العاص منافسه لطمةً قويّة، فما كان من الولد وأبيه، إلّا أن ذهبا إلى ابن العاص لتقديم الشكوى، وهناك قال الرجل: لقد لطم ابنُك ابني، وجئنا لنستوفي منه طِبقاً للقوانين الإسلامية.

 

 

 

 

 

 

 

108


99

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 لم يسمع منه عمرو بن العاص، بل طرده وابنه من القصر. توجّه الرجل الغيور وابنه إلى المدينة المنوّرة للتظلّم، وذهبا مباشرةً إلى الخليفة الثاني، وفي حضور الخليفة، قدَّم الرجل شكواه ضدّ حاكم مصر، لِضرب ابنِ الحاكم ابنه، وعدم سماعه لتظلُّمه؛ قائلاً: أين العدل الإسلامي؟ يأمر عمر بإحضار عمرو بن العاص وابنه، ثمّ يطلب من ابن الرجل أن يتلافَى لطمة ابن عمرو في حضوره، ثم ينظر على عمرو بن العاص، ويقول: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أُمّهاتهم أحراراً".

 
 وبالقياس إلى الثورة الفرنسيّة، نرى أنّ مثل هذا التفكير يكوّن روح تلك الثورة، فإنّ هذه الجملة من الأصول الأساسية للثورة الفرنسية: "كلّ إنسان ولدته أُمّه حرّاً، ولذلك فإنّه حرٌّ طليق".
 
 ونقرأ في تاريخ الإسلام أيضاً: أنّه التقى المجاهدون في صدر الإسلام، مع جيش "رستم فَرُّخزاد"، قائد القوّات الإيرانية في منطقة القادسية1؛ وفي الليلة الأولى، يعقد رستم جلسةً للتفاوض مع "زهرة بن عبد الله"، قائد الجيش الإسلامي، ويعرض عليه الصلح، وذلك بأن يمنحه مبلغاً من المال ويرجع من حيث أتى، ولقد نقلنا هذه القصّة في كتابنا "داستان راستان" (أي: قصّة الصادقين)؛ وننقل هنا الجزء الذي يرتبط مع بحثنا.
 
 "قال رستم بكلِّ غرورٍ وتبختُر، حيث كان التكبر والغرور جزءاً من أخلاقه: لقد كنتم جيراناً لنا، وكنّا نُحِسن إليكم وتنتفعون من مِنحِنا وهدايانا، وكلّما دهمكم خطر قُمنا بالحماية والدِّفاع عنكم، والتاريخ خير شاهد لما أقول.



1  القادسية منطقةً تبتعد 90 كيلومتراً تقريباً عن الكوفة، وفي هذا المكان وقعت حرب بين المسلمين والكفّار، في السنة الرابعة عشرة للهجرة، واستمرّت أربعة أيّام كان النصر فيها للمسلمين.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

100

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 عندما وصل رستم إلى هنا بكلامه، قال له زهرة: أنت صادق في كلِّ ما تقول، ولكنْ عليك أن تُدرك هذه الحقيقة، وهي أنّ اليوم يختلف عنه بالأمس. نحن اليوم لسنا - كما كنّا - أهلاً للدّنيا والماديّات وطُلّاباً لها، لقد تركنا الأهداف الدنيوية لأنّ لنا أهدافاً أخرويّة...".

وعندئذ يطلبُ رستم من زُهرة أنْ يوضِّح له تلك الأهداف ويشرح له شيئاً عن دينه، فأجاب زُهرة:
"إنّ هذا الدّين يستند على أساسين، وركنين، وأصلين، هما: الشهادة بوحدانية الله، والشهادة بنبوة محمّد، وأنّ ما يقوله من عند الله".
يقول رستم: "لا مانع في ذلك، ثمّ ماذا"؟ فيجيب زُهرة: "... وأخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، فالناس كلّهم أبناء آدم وحواء؛ ولذلك فإنّهم جميعاً أخوة من أبٍ وأمٍّ"1، ثمّ يشرح زُهرة بقية الأهداف.

إنّ الغرض من ذكر هذه القصّة هو توضيح أنّ التعاليم (الليبرالية) تدخل في صميم التعاليم الإسلامية.

ونستطيع أنْ نذكر مثالاً آخر في هذا المجال، وهو المقطع الذي جاء في وصية أمير المؤمنين إلى ولده الإمام الحسن عليهما السلام: " وَلَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللَّهُ حُرّاً"2.
وفي عهد أمير المؤمنين عليه السلام إلى مالك الأشتر، حين ولّاه مصر (كتب إليه كتاباً مفصّلاً) يقول فيه: "... وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، وَيُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ، مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَى 



1  كتاب "داستان راستان" للشهيد مطّهري، الجزء الثاني، ص 108 وص 132.
2  خطب الإمام عليعليه السلام، نهج البلاغة، جمع الشريف المرضي، ص 401، تحقيق صبحي الصالح.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
110

101

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 َنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ، وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلَاكَ بِهِمْ، وَلَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ.."1.

 
 ويقول الإمام في مكانٍ آخر من هذا الكتاب:
 "وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ"2.

 هذا الكنز العظيم من القيم الإنسانية التي كانت متأجِّجة في التعاليم الإسلامية، وصل إلى إيران عن طريق عددٍ من خيرة الخبراء الإسلاميين الواقعيين.

 قيل للناس: إنّ الإسلام دين العدالة والحرية والمساواة، وأنّ الإسلام يستنكر التفرقة الطبقيّة. وبهذا اللّحاظ وبالإضافة إلى النجاحات المعنويّة، أُخذت المفاهيم الأخرى مثل المساواة والحرية والعدالة و...، صبغة إسلاميّة واستقرّت في أذهان الناس.
 وبسبب استقرار هذه المفاهيم في أذهان الشعب، أصبحت ثورتُنا الأخيرة ثورة عارمة، ولا أظنّ أحداً يتردَّد حول القول بشموليّة هذه الثورة.



1  خطب الإمام عليعليه السلام، نهج البلاغة، محمّد عبده، من عهده إلى الأشتر. 52.
2  ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج17، ص87.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

102

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

  فحركة المشروطة1  -مثلاً - كانت حركةً على مستوى المدينة، دون أن تتسرّب إلى القرية. ولكن هذه الحركة (الثورة الإسلاميّة)، تشمل المدن والأرياف، فالحضريّ والقرويّ، المتنعّم والمحروم، العامل والفلّاح، التاجر وغير التاجر، المثقّف والعاميّ؛ الكلُّ جميعهم ساهموا في هذه الثورة؛ وكلّ ذلك بسبب إسلاميةّ

 

 


1    المشروطة: حركة كبيرة ضدّ الظلم في إيران، نضجت في عام 1324هـ، ولكنها انحرفت عن مسيرها الأصلي فيما بعد

 

 

 

 

 

 

 

112


103

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 الثورة التي استطاعت أنْ تجعل الطبقات المختلفة في صفّ، وتسيّرهم في مسيرٍ واحد1.

 
 وأكبر من إيجاد الوحدة، استطاعت ثورتُنا أن تكسب فوزاً عظيماً، في إزالة روح الخضوع والاستسلام أمام الغرب - بمعناه الأعمّ، أي القطَّاعَين الغربي والشرقي - عن شعبنا، استطاعت ثورتُنا أنْ تُقنع الشعب بأنّ له مبدأ ومدرسة وفكراً مستقلاً، ويستطيع أن يقف على قدميه ويتّكئ على نفسه.
 
 أثبت علماء الاجتماع أنّ للمجتمع روحاً كما للفرد؛ فلكلِّ مجتمع ثقافة، وثقافته تكوِّن روحه، فمن استطاع أنْ يضع يده على روح ثورةٍ ما ويُحييها، فإنّه يتمكّن من تحريك جسم المجتمع بأكمله في آنٍ واحد.
 
 يمضي زمن طويل على مقابلة واصطدام الشرق بالغرب، وقد اشتدّ هذا النزاع طوال القرن الأخير، فشعوب الشرق بصورة عامة والمسلمون خاصّة، حينما رأوا أنفسهم أمام الغربييّن، أحسُّوا بالحقارة والازدراء.
 
 لقد ذكرتُ في كتاب "الثورات الإسلاميّة" هذه النقطة بالذّات، وهي أنّ السيد أحمد خان الهندي، أو بقول الإنجليز "سر سيد أحمد خان"، كان في البداية أحد زعماء الحركة الإسلاميّة في الهند، وكان يدعو الناس للحركة ضدّ الإمبرياليّة؛ فدعاه الإنجليز إلى بريطانيا، وعندما رأى السيد أحمد خان تلك الحضارة العظيمة في أُوروبا، في أوائل القرن العشرين، ولاحظ أُبّهة المدينة الحديثة لبريطانيا العظمى، غُلِبَ على أمره، وأحسَّ بالذلّة والاحتقار، بحيث تغيرت كلُّ أفكاره عندما رجع إلى الهند، وكان يقول للناس بعدئذٍ أنّه لا مفرَّ لنا إلّا الركون والخضوع للإنجليز.



1  نحن لا نقول: إنّ الجميع ساهموا في الثورة على حدّ سواء، فإنّ هذا أمرٌ غير واقع، ولكنّنا نقول أنّ جميع الطبقات تحرّكوا معاً وفي مسيرٍ واحد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

104

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 وفي النقطة المقابلة يقف السيد جمال الدّين الأسد آبادي1. فالبرّغم من أنّ السيّد كان يعيش قبل مئة عام، وفي عصر قمّة تدهور المسلمين وانحطاطهم، فإنّه عندما سافر إلى الغرب، هنالك فكّر في لزوم استيقاظ الأمم الشرقيّة، وفكّر في وجوب منحهم الشخصيّة.

 
 واهتمّ السيد جمال الدّين بنفسه بهذا الأمر، فقد ذكر في جريدة العروة الوثقى، التي كان يصدرها في باريس، قصّة المسجد الذي يقتل ضيوفه، وإنّها لحكايةً لطيفة جدّاً2؛ وقد وردت في "المثنوي"3 وأذكرها هنا بإيجاز:
 نعرف أنّ الفنادق لم تكن في الماضي، فكلما ورد شخص إلى منطقةٍ ما، ولم يكن له صديق أو قريب، فإنّه يذهب عادةً إلى المسجد وينام فيه؛ وعُرف هذا المسجد بأنّه قاتل الضيوف؛ لأنّ كلَّ إنسان قضى فيه ليلته، تخرج منه جنازته في الصباح، ولم يعلم أحد سبب هذا الأمر.
 
 جاء أحد الغرباء يوماً إلى هذا البلد، وذهب ليبيت في المسجد، فنصحه الناس أن لا ينام في المسجد؛ لأنّ من بات فيه لم يصبح حيّاً، ولكنّ الرجل الغريب كان شجاعاً جريئاً؛ فقال: لقد سئمتُ الحياة ولا أخاف الموت، فلا مانع أن أذهب وأرى ماذا يحدث؛ وعلى أيّ حالٍ فإنّه نام في المسجد.
 
 وعند منتصف الليل سمع أصواتاً مُرعبة مُخيفة، ترتفع من زوايا المسجد، أصواتاً مُرهبة ترتعد منها فرائص الأسد، عندما سمع الرجل هذه الأصوات، قام من مكانه وصاح بأعلى صوته: تقدَّم، من أنت؟ إنّني مشمئزّ من الحياة، ولا أخشى الموت، تعالَ
 
 

1  من كبار رجال الدّين المناضلين، فيلسوف الإسلام في عصره، وُلد سنة 1838هـ جال في الشرق والغرب، ودعا إلى الوحدة الإسلامية، وإلى الدولة الإسلامية المتّحدة، أصدر مع صديقه الشيخ محمّد عبده جريدة العروة الوثقى في باريس، له كتاب "إبطال مذهب الدهريين وبيان مفاسدٍهم" الذي ترجمه الشيخ محمّد عبده من الفارسية إلى العربيّة. (المترجم).
2  عبِّر السيّد جمال عن المسجد في هذه القصّة بالمعبد، وذلك لأنّ الجريدة كانت تصدر في أوروبا، فلم يحبّذ أن يذكر كلمة المسجد.
3  ديوان شعر ضخم للشاعر والعارف الإيراني الكبير "مولوي" حَلَّل فيه زوايا الروح الإنسانية. (المترجم).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

105

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 واعمل ما تشاء! بعد أن علا صوت الرجل، ارتفع فجأةً صوت مرعب، هدَّ دويّه حيطان المسجد، ولاحت كنوز المسجد.
 يكتب السيد جمال الدين في نهاية مقدّمته:
 "تعتبر بريطانيا العظمى مثل هذا المعبد الكبير، حيث يلجأ إليها الضالُّون، عندما يخشون الظلام السياسي، وعندئذٍ تقضي عليهم بأوهامها المخيفة، أخشى أن يدخل في هذا المعبد يوماً إنسان سئم الحياة، غير أنّ له همَّة راسخة محكمة، فيصيح فيه فجأةً صيحةً يائسة، تتشقّق وتتحطّم بعدها الجدران، وينكسر الظلم الأعظم".
 قام السيّد جمال نفسه بهذا العمل، في وقتٍ لم يخطر على بالِ أحدٍ أن يُقاوم الاستعمار البريطاني، رفع هذا الرجل صيحة النضال ضدّ السياسة الاستعماريّة، وقضى لأوّل مرّة على الحالة الاستسلاميّة للناس، واستند لأوّل مرّة على إسلاميّة الأمّة المسلمة.
 كان يعتقد السيد جمال بوجود شخصيةٍ واحدة وهويّة موحِّدة، لجميع الشعوب الإسلاميّة، وكان يؤمن أنّ هذه الشخصية التي احتُقرت، وسُلبت منها كرامتها، ونسيت هي عزّها وتاريخها، يجب أن تُعاد هذه الشخصية وتُسترجع؛ ولهذا السبب، فإنّ السيد كان يركّز على ثقافة الإسلام ومدنيَّته، ومن هذا الطريق يذكّر الأمّة بشخصيّتها الحقيقيّة، ويمنح الشعوب الإسلامية المعنويّة والاعتماد بالنفس.
 وواضح أنّ هذه الكلمات، لم يكن لها تأثير كبير في ذلك العصر، لعدم توفّر الظروف الملائمة. ولكن، على أيّ حال، فإنّ السيد غرس البذرة الأولى للحركات والثورات الآتية، ونحن نشاهد برأي العين ثمرة تلك المجاهدات ونتيجتها؛ وكما تنبئنا الأوضاع السياسية في العالم، فإنّ الحركات الإسلامية قد انتشرت في جميع البلاد الإسلامية، على أساس التحرّي والبحث عن الهويّة الإسلامية.
 
 بل وحتى في البلاد التي قلّ ما سمعنا ذكراً عنها في وسائل الإعلام، فإنّ مثل هذه الحركات بدأت تنمو فيها، وكما تُشير القرائن، فإنّ جميع هذه الحركات لها
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

106

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 حقيقة إسلاميّة؛ أي إنّها تستند وترتكز على أساس طرد جميع القيم غير الإسلامية والاتّكاء على القيم الإسلامية المستقلة.
 
 
 هويّة الثورة في إيران
 
 لنرَ كيف يُمكننا إثبات أنّ ثورة إيران ثورة إسلامية، وليس لها هوية أُخرى؟ إحدى طرق معرفة الثورة هي التحقيق حول كيفيّة قيادة هذه الثورة.
 
 من الناحية القياديّة، لم يأتِ شخص في البداية ويرشّح نفسه، ثم يصوِّت له الناس وينتخبونه قائداً لهم، وبعد ذلك يرسم القائد الخطوط الأساسيّة للشعب.
 
 وفي الحقيقة، إنّ مجموعات كثيرة - من الذين لهم إحساس بالمسؤولية - كدحوا طويلاً، ليستلموا قيادة الثورة، غير أنّهم أُجبروا على التقهقر تدريجيّاً، وتمّ انتخاب القائد طبيعيّاً )أُوتوماتيكياً.(
 
 لو نأخذ في الاعتبار كميّة ونوعيّة الطبقات المختلفة، التي شاركت في الثورة من رجال الدّين، من مراجع التقليد وغيرهم، أو غير رجال الدّين من الفئات الإسلامية وغير الإسلامية، المثقّفين، الأميّين، طلبة الجامعات، العمال، الفلاحين، التجار...
 نعم، الجميع ساهموا في إنجاز الثورة، ولكن فرداً واحداً بين جميع هؤلاء الأفراد والطبقات، انتخب لمنصب القائد، وقبلته، ورضيتْ به جميع الطبقات ولكن كيف؟ هل كان بسبب صداقة القائد؟ لا شكّ، أنّ القائد كان إنساناً صديقاً، ولكن هل انحصرت الصداقة في شخص الإمام الخميني دون غيره؟ نحن نعلم بالضرورة أنّ هذا غير ممكن، فالصداقة لن تنحصر في سماحته.
 هل كان بسبب شجاعة القائد، وأنّه كان رجلاً شهماً، ولم يكن لنا رجل صادق وشجاع مثله؟ لا شكّ في وجود رجالٍ بواسل غيره. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

107

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

  هل كان بسبب تمتُّع الإمام بنوع من حصافة الرأي وإصابة الفكر دون غيره؟

 هل كان بدليل قاطعيّة الإمام، مع العلم بأنّها لا تنحصر في الإمام دون غيره؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

108

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 لا شكّ أنّ جميع هذه المزايا في أعلى درجاتها، اجتمعت مع الإمام الخميني، ولكن توجد هذه الصفات - بدرجاتٍ منخفضة على الأقلّ - في الآخرين.

إذاً، ما الذي حدث ليختار المجتمع سماحته وبدون تكلّف، وينتخبه دون غيره، قائداً وزعيماً، ولم يقبل قيادة أي إنّسان آخر بجانبه؟

إنّ جواب هذا السؤال يعود إلى أحد الأسئلة الأساسية، التي تُطرح في فلسفة التاريخ، وهو: هل التاريخ يصنع الشخصيّات أم الشخصيّات تصنع التاريخ؟ هل الثورة تصنع القائد أم القائد يصنع الثورة؟ إجمالاً، نحن نعرف أنّ النظرية الصحيحة في هذا المجال، هي أنّ هناك أثراً متبادلاً بين الثورة والقائد. فمن ناحية، يجب أن تتوفّر بعض المزايا الخاصّة في القائد، ومن ناحية أُخرى يلزم وجود بعض المزايا أيضاً في الثورة، وأنّ مجموعة هذه الشروط ترفع الفرد إلى مستوى القيادة.

لقد أصبح الإمام الخميني قائداً للثورة بلا منازع ولا معارض؛ لأنّه بالإضافة إلى اجتماع جميع المزايا وشروط القيادة فيه، فإنّه كان آتياً على المسير الفكري والروحي وحاجات الشعب الإيراني، مع أنّ الآخرين - الذين كانوا يجدُّون للحصول على منصب القيادة - لم يكونوا في هذا المسير بمقدار ما كان الإمام الخميني عليه.

ومعنى ذلك: أنّ الإمام الخميني، مع كلَّ المزايا والخصائص الشخصيّة إذا كانت المحرّكات التي استفاد منها لتحريك المجتمع، من نوع المحرّكات التي يستخدمها الآخرون، وإذا كان منطقه في إثارة الجماهير شبيهاً لمنطق الآخرين، فلا يُمكنه أن يكسب فوزاً في تحريك المجتمع1.



1  مثلاً، إذا كان يُدخل الخلافات الطبقيّة في إدراكات الشعب، أو يعرض مفاهيماً كالتحرّر والعدالة، وفقاً للمعايير الشرقيّة أو الغربيّة، فإنّه لم يرَ لها صدى في مجتمعنا، مع العلم بأنّه استفاد من نفس المفاهيم بمعاييرها الإسلاميّة، وعرضها في المجتمع طبقاً للثقافة الإسلاميّة الغنيّة، فتقبلها المجتمع قبولاً حسناً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

109

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

ولولا أنّ للإمام صفة الزعامة الدينيّة والإسلاميّة، ولولا أنّ الشعب الإيراني يحسّ في صميم روحه بنوع من القرابة والألفة والاستئناس مع الإسلام، ولولا الحبّ العميق لأهل بيت الرسول عليهم السلام، ولولا شعور الناس بأنّ هذا النداء الذي يخرج من فم هذا الرجل، إنّما هو نداء الرسولصلى الله عليه وآله أو نداء علي عليه السلام أو نداء الإمام الحسين عليه السلام، لما وجدت ثورة وحركة بهذا الشمول في إيران.
 وأنّ سرَّ نجاح الإمام القائد أنّه تقدُّم بالثورة في قالب المفاهيم الإسلاميّة، إنّه ناضل ضدَّ الظلم، وكان نضاله هذا وفقاً للمعايير الإسلاميّة.
 إنّه حارب الجور والطغيان والاستعمار والاستثمار، عن طريق إلقاء هذه الفكرة؛ وهي أنّ المسلم يجب أنْ لا يخضع للظلم، وأنْ لا يقبل الاضطهاد، ولا يسمح لنفسه أنْ يكون ذليلاً مُهاناً أمام الكافر1.
 لقد ناضل الإمام تحت لواء الإسلام وبالمعايير والمقاييس الإسلامية. ومن الأعمال الأساسيّة لهذا القائد أنّه قاوم طويلاً وبكلِّ جديّة مسألة الفصل بين الدّين والسياسة.
 ربّما، كان مضمار السبق في هذا المجال للسيد جمال، وربما كان السيّد جمال أوّل إنسان أحسّ بأنّه لو أراد أنْ يخلق حركة بين المسلمين، فلا بدَّ أنْ يُفهمهم بعدم فصل الدّين عن السياسة، وعلى هذا الأساس، فإنّه عرض هذه المسألة بكلّ جِديّة بين المسلمين، حتى اضطَّر المستعمرون بعد ذلك، أن يجدّوا ويكدحوا كثيراً بين أبناء البلاد الإسلاميّة، ليتمكّنوا من قطع العلاقة بين الدّين والسياسة. ومن ضمن هذه المساعي، عرض مسألة "العلمانية "2التي تعني فصل الدّين عن السياسة. لقد جاء كثيرون بعد وفاة السيد جمال، في البلاد العربية وخاصّة في مصر، يدعون إلى فكرة فصل الدّين عن السياسة، وذلك بالاستناد والاتّكاء على القومية، وفي زِيّ الوطنية والقومية العربية.


1  والله جلَّ وعلا يقول: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ (سورة النساء، الآية 141).
2  العِلمانيّة: ترجمة لهذه الكلمة Secuعليهما السلامatisرحمة الله.
ولولا أنّ للإمام صفة الزعامة الدينيّة والإسلاميّة، ولولا أنّ الشعب الإيراني يحسّ في صميم روحه بنوع من القرابة والألفة والاستئناس مع الإسلام، ولولا الحبّ العميق لأهل بيت الرسول عليهم السلام، ولولا شعور الناس بأنّ هذا النداء الذي يخرج من فم هذا الرجل، إنّما هو نداء الرسولصلى الله عليه وآله أو نداء علي عليه السلام أو نداء الإمام الحسين عليه السلام، لما وجدت ثورة وحركة بهذا الشمول في إيران.
 وأنّ سرَّ نجاح الإمام القائد أنّه تقدُّم بالثورة في قالب المفاهيم الإسلاميّة، إنّه ناضل ضدَّ الظلم، وكان نضاله هذا وفقاً للمعايير الإسلاميّة.
 إنّه حارب الجور والطغيان والاستعمار والاستثمار، عن طريق إلقاء هذه الفكرة؛ وهي أنّ المسلم يجب أنْ لا يخضع للظلم، وأنْ لا يقبل الاضطهاد، ولا يسمح لنفسه أنْ يكون ذليلاً مُهاناً أمام الكافر1.
 لقد ناضل الإمام تحت لواء الإسلام وبالمعايير والمقاييس الإسلامية. ومن الأعمال الأساسيّة لهذا القائد أنّه قاوم طويلاً وبكلِّ جديّة مسألة الفصل بين الدّين والسياسة.
 ربّما، كان مضمار السبق في هذا المجال للسيد جمال، وربما كان السيّد جمال أوّل إنسان أحسّ بأنّه لو أراد أنْ يخلق حركة بين المسلمين، فلا بدَّ أنْ يُفهمهم بعدم فصل الدّين عن السياسة، وعلى هذا الأساس، فإنّه عرض هذه المسألة بكلّ جِديّة بين المسلمين، حتى اضطَّر المستعمرون بعد ذلك، أن يجدّوا ويكدحوا كثيراً بين أبناء البلاد الإسلاميّة، ليتمكّنوا من قطع العلاقة بين الدّين والسياسة. ومن ضمن هذه المساعي، عرض مسألة "العلمانية "2 التي تعني فصل الدّين عن السياسة. لقد جاء كثيرون بعد وفاة السيد جمال، في البلاد العربية وخاصّة في مصر، يدعون إلى فكرة فصل الدّين عن السياسة، وذلك بالاستناد والاتّكاء على القومية، وفي زِيّ الوطنية والقومية العربية.



1  والله جلَّ وعلا يقول: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ (سورة النساء، الآية 141).
2  العِلمانيّة: ترجمة لهذه الكلمة Secuعليهما السلامatisرحمة الله.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

 


110

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 ولقد لاحظتم أخيراً أنّ "أنور السادات"، عرض هذا الموضوع مرّة أُخرى، إنّه أكّد في خطاباته الأخيرة بأنّ الدّين مرتبط بالمسجد، ويجب أنْ يؤدّي عمله داخل نطاق المسجد، وأنّ الدّين لا يرتبط أبداً بالأمور السياسية.

 
 وقد عُرضت هذه الأمور بكثرة في مجتمعنا، حتى تقبّلها الناس تقريباً، ولكنّنا رأينا عندما سُمِع أحدُ مراجع التقليد - هذا الإنسان الذي يسعى الجمهور، ليطبّقوا أعمالهم الدينيّة مع فتاويه وأوامره بكلِّ دقّة - يُصرّح بأن الدّين لا ينفصل عن السياسة، وخاطب الناس قائلاً: إذا ابتعدتم عن سياسة البلاد فقد ابتعدتم - في الحقيقة - عن الدّين، رأيناهم كيف تحرّكوا وأقدموا على التعبئة العامّة.
 
 ولو دقّقنا أيضاً في موضوع المطالبة بالحريّة، عندما كانت معروضة، بكلِّ شدّة في المجتمع الإيراني، ولكنّها لم تلقَ استجابةً واضحةً من الجمهور. وبعد أنْ عُرض نفس الموضوع من قِبل الإمام القائد أي الزعيم الدّينيّ، عرف الناس أنّ مسألة الحريّة لم تكن مسألةً سياسيّة بحتة، بل إنّها مسألة إسلامية، واتّضحت هذه النقطة وهي أنّ كلَّ مسلم يجب أنْ يعيش حُرّاً ويُطالب بالحرية.
 
 وقد ظهرت مسائل جديدة في إيران، خلال السنوات الأخيرة، لم تكن لها أهميّة كُبرى من الناحيتين الاقتصاديّة والسياسية، ولكنّها كانت ذات أهميّة من الناحية الدّينيّة، وبالأحرى بالنسبة إلى الشعائر الدّينيّة، وقد كان لهذه المسائل تأثير واضح في تشديد الثورة.
 
 وعلى سبيل المثال، فإنّ إحدى الأخطاء الكبيرة جدّاً للنظام السابق، أنّه بسبب الغطرسة والغرور الذي 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
120

111

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 حصل له، قرّر في أواخر سنة 1355هـ.ش، أي سنة 1976م، أنْ يغيِّر التاريخ الهجري إلى التاريخ الشاهنشاهي1




1 أي جعل بداية الشاهنشاهيّة في إيران (قبل 2500عام)، مبدأ للتاريخ الرسمي للبلاد، وقد كان هذا التاريخ متداولاً لمدة سنتين. (المترجم).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

112

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 وبالطبع، فإنّ التاريخ إنْ كان هجرياً أو شاهنشاهيّاً، لا يؤثّر كثيراً في أوضاع الشعب، من الناحيتين الاقتصادية والسياسية.

 
 ولكنّنا رأينا أنّ هذا الموضوع جرح بشدّةٍ عواطف الناس، وكان وسيلةً جيّدةً تمسّك بها الإمام لضرب النظام، إذْ أعلنَ فوراً بأنّ هذا العمل يعتبر عِداءً صريحاً مع النبي ومع الإسلام، ويعادل قتل الآلاف من أعزّاء هذا الشعب؛ وبهذا نجح الإمام في إيجاد الثورة والعصيان بين الناس، واستفاد من تحريك مشاعرهم الإسلاميّة لصالح الثورة على أحسن وجه.
 
 وبناءً على ذلك، فبعد التحقيق
في موضوع القيادة وكيفيتها، وبعد ملاحظة انتخاب الناس قائدهم، بين عددٍ كبيرٍ من الأفراد الصالحين للقيادة1، وبعد تحليل المسير الذي انتهجه هذا القائد، والمحرِّكات التي استند عليها، والمنطق الذي استخدمه، نصل إلى هذه النتيجة الواضحة، وهي أنّ ثورتنا في الحقيقة ثورةٍ إسلاميّة، وفي الوقت الذي تطالب الثورة بالعدالة من ناحية، وبالحريّة والاستقلال من ناحيةٍ أُخرى، فإنّها كانت تريد العدالة والاستقلال والحريّة في ظلال الإسلام؛ وبعبارةٍ أدقّ: إنّ ثورتنا كانت تطالب بكلِّ شيء، مع صبغتها الإسلاميّة، وهذا ما أراده الشعب وابتغاه.
 
 الثورة الإسلاميّة أم الإسلام الثوري
 لقد أشرتُ في المقدّمة، إلى نقطةٍ لا بُدَّ أنْ أُكملها هنا. ذكرتُ أنّ كلَّ ثورةٍ معلولة لسلسلةٍ من عوامل الشقاء والبؤس؛ أي إنّ الناس عندما يكونون غير راضين ومشمئزّين من النظام الحاكم، فإنّهم يتمنّون النظام المطلوب (أي النظام الذي يطالبون به ويبتغونه)، وإنّ آثار الثورة وعلائمها عند ذلك تظهر إلى الوجود.



1  ويجب ملاحظة أنّ هذا القائد، لم يملك قوّة ليضغط بها على الناس، ولم يعيّنه أحد في هذا المنصب؛ كما وأنّه لم يرشّح نفسه للزعامة، بل إنّ انتخابه كان بصورة وطبيعيّةٍ عفوية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

113

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 إنّ مجرّد عدم الرضا لا يكفي؛ فمن المُحتمل أنْ نجد شعباً ما، لا يرضى عن وضعه القائم، ويتمنّى وضعاً آخر، ولكنّه لم يقمْ بالثورة أيضاً، لماذا؟ ذلك، لأنّه ارتضى نفسيّة الخنوع وقبول الظلم، مثل هؤلاء الناس لا يرتاحون للنظام الحاكم، ولكنهم يستسلمون للظلم. ولا يمكن أنْ تقوم ثورة في مكانٍ ما، إلّا إذا كان الشعب غير راض عن النظام، بل إضافة على ذلك، لا بُدَّ أن تتوفّر فيه النفسيّة النضالية والنفسيّة الرافضة والمستنكرة، وهنا يتّضح دور المبادىء.


من خصائص الإسلام ومميزاته أنّه يمنح لأتباعه شعوراً نضاليّاً، لطرد وتغيير الوضع غير الصحيح ومحاربته.

ماذا يعني الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ يعني أنّ الوضع الحاكم إذا كان وضعاً سيّئاً ونظاماً لا إنسانياً، فعليك أنْ لا تستلم أمامه، وأنْ تجدَّ وتجتهد قدر المستطاع، لطرد وتغيير وضعه القائم، وتثبيت النظام المطلوب المختار.

إنّ المسيحيّة كانت تنتقد الإسلام طوال القرون الماضية، وتقول: كيف يستند هذا الدّين على السيف والجهاد؟ يجب أن يدعو الدّين إلى الصلح والسلام، فإذا صفعك أحد على خدِّك الأيمن، فوجِّه إليه الجانب الأيسر من وجهك، ليصفعه مرّةً أُخرى، وأمّا الإسلام، فإنّه بريء من هذا المنطق.

يقول الإسلام: "أفضلُ الجهاد كلمة حقّ عند إمام جائر"1، وكم من حماسة خلقتها هذه الجملة القصيرة في عالم الإسلام.
إذا ما وُجد عنصر الاستنكار والهجوم، بالنسبة إلى الظلم والجور والاضطهاد في عقيدةٍ ما، عندئذٍ تتمكّن تلك العقيدة من زرع بذور الثورة بين أتباعها، ولقد انتشرت هذه البذور اليوم بمقدارٍ كافٍ بيننا. 



1  سنن النسائي، ج 7، ص 161.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

114

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 أي إنّنا بعد أنْ نسينا الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، خلال الأعوام والقرون السابقة ونسينا أسلوب النّضال؛ فإنّ هذا الأمر عُرض والحمدُ لله 

خلال القرون الأخيرة مرّةً أُخرى وأخذ يستعيدُ مكانه في المجتمع.
وهنا تكمن نقطة تجعلنا في الواقع على مفترق طريقين: لقد ذكرتُ أنّ الإسلام لا ينفصل عن الثورة، وأنّ بذور الثورة موجودة في التعاليم الإسلاميّة؛ ولهذا السبب، فإنّ هذا الاستفهام يطرح نفسه للمسلمين الثوار: ماذا يجب أن نختار في المستقبل: الثورة الإسلامية أم الإسلام الثوري؟
الثورة الإسلاميّة تعني تلك الطريقة التي هدفها، الإسلام والقيم الإسلاميّة؛ لذلك فإنّ الانتفاضة والثورة تستهدف تثبيت واستقرار القيم الإسلاميّة لا غير.وبتعبيرٍ آخر: فإنّ النضال يُعتبر وسيلةً وليس هدفاً في هذا السبيل. غير أنّ هناك مجموعة من الناس يخلطون بين الثورة الإسلاميّة والإسلام الثوري؛ إنّ هدفهم هو النضال والثورة، وأمّا الإسلام فهو وسيلة لهذه الثورة.
يقول هؤلاء: إنّ كلَّ جزء من الإسلام، يجعلنا في مسير النّضال قبلناه، وكلَّ جزء من الإسلام يُبعدنا عن هذا المسير نفيناه وابتعدنا عنه.
وطبيعي أنّ هذا الاختلاف في المعرفة بين أنصار الثورة الإسلاميّة وأتباع الإسلام الثوريّ، يُوجد تناقضاً وتضادّاً بين الفئتين في تفسيرهما وتحليلهما، عن الإسلام والإنسان والتوحيد والتاريخ والمجتمع والآيات القرآنية.

هناك اختلاف وتمايز بين الذي يتّخذ الإسلام هدفاً، والنضال والجهاد وسيلةً لاستقرار القيم الإسلامية، وبين مَنْ يتّخذ النضال هدفاً، ويدّعي أنّه يجب أنْ يكون في حالة نضالٍ دائمٍ ومعركةٍ مستمرّة، وأنّ الإسلام جاء أساساً للنضال.
يجب أنْ يُقال في جواب هؤلاء: أنّه خلافاً لما تتصوّرون، وبالرّغم من أنّ الإسلام يحتوي على عنصر النضال، ولكن ليس معنى ذلك أنّ الإسلام جاء فقط من أجل النضال، وليس له هدف آخر، ففي الإسلام تعاليم وأوامر متعدّدة، أحدها النّضال.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
124

115

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 إنّ هذا الفكر الذي يؤمن بالثورة كأساس، ناشئٌ من طريقة تفكّر المادّيين وتحليلهم للمجتمع والتاريخ؛ يعتقد أولئك: أنّ التاريخ والطبيعة يستمرّان في 

حركتهما، التي يعبّرون عنها بالحركة الديالكتيكيّة، ويمرّان عبر التناقضات، فحركة التناقضات تنشأ باستمرار في العالم، وتجري في صورة ديالكتيكيّة.
 أي إنّ كلَّ وحدةٍ في الطبيعة؛ تربي بالضرورة العامل السلبي في نفسها؛ وبنموِّ هذا العامل: تنشأ حرب بين الوحدة الأولى "الأطروحة"1، التي تُعدّ العنصر القديم؛ وبين العامل السلبي الذي ينفيها (الطِباق)2، والذي يُعدّ عنصراً جديداً، وتنتهي هذه الحرب بانتصار العنصر الجديد؛ أو بمعنى آخر العنصر المركّب من الجديد والقديم (التركيب)3، وتبدأ هذه الحركة - بعدئذ - مرّةً أُخرى، فالتركيب الذي نشأ من جراء الحرب، يبدأ عمله في صورة "أُطروحة" جديدةٍ، وهكذا...
 وعلى أساس هذه الطريقة في التفكير، فإنّ كلَّ شيء تضع يدَك عليه من الطبيعة والحياة والمجتمع و... هو عبارة عن حربٍ في حرب، ومعركة في معركة، والخلقُ الحسن يعني اتخاذَ طبيعةِ التركيب (نفي النفي( دائماً، أي إنّكار كلَّ شيء وإنكار الوضع الموجود.
 فكلُّ مَن يُناضل ضدّ الوضع الموجود (النظام الحاكم) - مهما كان نوعه - فإنّه إنسان تقدميّ كامل، يكفي أن يظهر نظام جديد لتظهر حالة أُخرى في داخله فوراً، وتستنكر هذا النظام. ومن هنا، فإنّ ذلك الإنسان التقدمي، يصبح ضمن العناصر الرجعيّة، ويجب أنْ يُقضى عليه. النزاع لم يتوقّف لحظة واحدةً، ويجب أنْ لا يتوقّف أبداً، فكلَّ شيء يتّخذ مظهراً نضاليّاً في أيّة لحظةٍ يكون الحقّ معه. 



1  الأطروحة: الإثبات Thesis.
2  الطِباق: النفي Antheعليهم السلامis.
3  التركيب: نفي النفي Synthesis.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

 


116

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

  وعلى أساس هذا التفكير، يسعى أولئك الأفراد ليجعلوا الإسلام - كما يعتقدون - ثورياً، لا أن يجعلوا الثورة الإسلاميّة، إنّهم يعتبرون النضال هو المعيار الإسلامي في كلِّ مكان1




1  إنّ طريقة تفكير هؤلاء الذين يعتقدون بالإسلام الثوري، تختلف كثيراً عن الفكرة التي تعتقد بالثورة الإسلاميّة، بحيث لا نتمكّن من ذكر كلِّ هذه الفروق في هذا المقال.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
126

117

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 بعد ذكر هذه التوضيحات، إذا اقتنعنا أنّ ثورتنا، ثورة إسلاميّة، وطبعاً هي إسلاميّة بالمعنى الذي أوضحته؛ أي إنّها جامعة لجميع المفاهيم والقيم والأهداف، في أشكال وقوالب إسلاميّة؛ فإنّ هذه الثورة تتمكّن من البقاء والدوام، إذا ما استمرّت، في مسير العدالة الإسلامية، وخطّت في خطوات عمليّة حقيقيّة، وعلى الجمهور أن يقضي على الخلافات والحواجز الطبقيّة، ويزيل التبعيضات إزالةً واقعيّة، ويسعى لاستقرار مجتمع توحيديّ بمفهومه الإسلامي، لا المفهوم الذي يختاره الآخرون؛ لأنّ التفاوت بينهما كالتفاوت بين السماء والأرض.


يجب أنْ لا يتعرض إنسان إلى الظلم والإجحاف، في ظلّ الحكومة الإسلاميّة أبداً، حتى ولو كان الفرد مجرماً وقد وجب عليه القتل.

وهنا يجب أنْ أعتبَ على بعض أصدقائنا الشباب، ففي الوقت الذي نقدِّر لهم مشاعرهم الصادقة، نراهم يتعرّضون إلى القضايا أحياناً في منطق أشبه إلى الإحساس منه إلى الإسلام.

قبل بضعة أيّام، ذهبتُ إلى مقرّ رئاسة الوزراء، فسمعت من بعض الأخوان هناك، اعتراضات على الإعدامات الثورية، فكانوا يقولون إنّ هؤلاء المجرمين، لا يستحقّون أن نطلق عليهم الرصاص، بل يجب أن نرمي بهم أحياءً في البحر.

يجب القول لهؤلاء الأصدقاء الشباب: إنّ من وجهة نظر الإسلام، حتّى بالنسبة إلى الذي قتل آلاف الناس وكان الحكم عليه بالإعدام مئات المرّات قليلاً في حقِّه، فإنّه كذلك توجد له حقوق لا بُدَّ أن نراعيها.

يجب أنْ نأخذ أحسن العِبر والدّروس في هذا المجال من مدرسة الإمام علي عليه السلام، انظروا إلى معاملة الإمام مع قاتله، فترون في تعامله معه عالماً من الرأفة والرقّة والرحمة والإنسانية والمحبّة، وهو ملقى على فراش 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

118

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 الموت، حيث جمع أقاربه من بني عبد المطلب، وأوصاهم بأن لا يقوموا بالانتقام بعده، ويقولوا قد قتل علي بن أبي طالب، فيقتلوا المسبِّب والمحرِّك وكلَّ من أعان القاتل والجميع، بل أوصاهم

أن يضربوا "ابن ملجم" ضربةً واحدةً؛ لأنّه لم يضرب الإمام سوى ضربةً واحدة1.
 
 ونقرأ أيضاً في التاريخ أنّ طوال المدة التي كان "ابن مُلجم" فيها أسيراً في بيت الإمام علي عليه السلام، لم يتلقَّ أقلَّ خشونةٍ في المعاملة، وحتى أنّ الإمام أرسل إليه من غذائه، ووصّاهم بأن لا يبقى جائعاً.
 
 يجب أن تكون عدالة كهذه أسوة لنا جميعاً، ولا شكّ أنّ وجود هذه القيم في عقيدتنا، هي التي حافظت على الإسلام طوال ألف وأربعمئة عامٍ غضّاً طرياً بهيجاً.
 
 وإنّني أؤكّد أنّ ثورتنا لو لم تسِر بمسير العدالة، فلا شكّ أنّها لن تصل إلى النتيجة المرجوّة، ويبقى هذا الخطر، فتحلّ محلّها ثورة أُخرى مع ماهيّة مختلفة، ولكن النقطة الهامّة التي لا بُدَّ أنْ نهتمَّ بها هي أنّ أساس العمل في هذه الثورة، يجب أن يُبنى على أساس الأخوّة الإسلاميّة؛ أي إنّ ما يؤمنه الآخرون بالضغط والخشونة، يجب أن يؤمن في هذه الثورة باللّيونة والرغبة والرّضا والأخوّة.
 إنّ أحد أركان ثورتنا - إذا كانت إسلاميّة حقّاً - هو المعنويّة؛ أي إنّ الناس بسبب بلوغهم الروحي وعاطفتهم الإنسانيّة وأُخوّتهم الإسلاميّة، عليهم أن يتسابقوا للقضاء على الحواجز الطبقية، والمشاكل الاقتصاديّة.
 
 إنّ هذه هي المدرسة التي يقول قائدُها الإمام علي عليه السلام: "وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي 



1  يقول الإمام عليه السلام: "يا بني عبد المطلب لا ألفيَّنكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون: قُتِل أميرُ المؤمنين، ألا لا تقتلَنَّ بي إلّا قاتلي، انظروا إذا أنا مُتّ من ضربته هذه، فاضربوه ضربةً، ولا تمثّلوا بالرجل، فإنّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: "إيّاكم والمُثلة ولو بالكلبِ العقور"، نهج البلاغة - الوصية رقم 47 - ص 422 تحقيق صبحي الصالح.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

119

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى"1.

يجب أن يكون هذا الأسلوب أسوةً لنا جميعاً في الحياة، يجب أن تظهر فيما بيننا روح التضحية من أجل الآخرين، لقد شهدتم - أخيراً - أنّ الإمام الخميني أمر بالتعبئة العامّة في أمر السكن، والهدف من وراء هذه التعبئة، هو أنّ الإمام يريد البقاء والاستقرار لهذه الثورة، ويتمنّى أن تكتمل جميع أهدافها على الطريقة الإسلاميّة، ولا يريد للعدالة أن تحلّ غضباً والأعمال كُرهاً.

إنّ ذلك اليوم الذي يُصار فيه إلى تعاون الناس معاً، بالمحبّة والرّغبة وبحكم الأخوّة الإسلاميّة، ويضعون كلَّ إمكانياتهم في تصرّف المحرومين والمنكوبين، ولأجل رفاهيتهم، إنّه اليوم الذي تكون فيه ثورتنا قد عثرت على طريقها السويّ.
إنّ ثورتنا تكون ثورة حقيقيّة في ذلك اليوم الذي لن ترضى أسرةٌ بشراء الملابس الجديدة لأولادها، إلّا بعد اطمئنانها بأنّ الأسرَ الفقيرة تملك الحُلَل الجديدة، يجب أن نرى بيننا مصداقاً عينياً لحديث الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله الذي قال (بما معناه): "إنّ مثلَ المؤمنين كمثلِ أعضاء البدنِ الواحد، إذا مرِضَ عضوٌ تداعتْ له سائر الأعضاء بالسهرِ والحُمّى"2.
إنّ مجتمعنا يكون إسلاميّاً في الوقت الذي لم يحسّ كلَّ فردٍ بآلامه ومصائبه بمفرده، بل إنّ المسلمين يشعرون بما يشعر به، والإمام علي عليه السلام خيرُ مثالٍ لمسلمٍ كهذا، يقول عليه السلام: "أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ!"3.



1  الجشع: شدّة الحرص - القرص: الرغيف - بطونٌ غرثى: بطون جائعة، أكبادٌ حرَّى: مؤنث حرَّان أي عطشان، نهج البلاغة، صبحي الصالح.
2  عن الإمام الصادق عليه السلام: "المؤمن أخو المؤمن، كالجسد الواحد، إذا اشتكى شيئاً منه وجد ألَمَ ذلك في سائر جسده"، الكافي، ج 2، ص 166. وعن الإمام الباقر عليه السلام: "المؤمنون في تبارَّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثلِ الجسدِ إذا اشتكى تداعى له سائره بالسهر والحُمّى"، العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 4، ص 243
3  بحار الأنوار، ج33، ص474.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

120

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 وهذا الإمام الحسن عليه السلام يروي أنّه عندما كان طفلاً أُصيب بالأرَق في إحدى الليالي، فبدأ ينظر إلى أُمّه الزهراء عليها السلام وهي تصلّي صلاة الليل، فلاحظ أنّها 

تدعو في دعائها لكلِّ المسلمين، واستمع ليرى كيف تدعو لنفسها، وأخذه العجب والدهشة حينما رآها لا تدعو لنفسها شيئاً، فسألها في الصباح عن السرّ في ذلك، فأجابت فاطمة عليها السلام: "با بنيّ، الجار ثمّ الدار".
 ونلاحظ في مكانٍ آخر أنّ الزهراء صلوات الله عليها تتصدّق بقميص زفافها، الذي تريد أن تأخذه لبيتِ الزوجية، على فقير سائل.
 وهكذا تكون الروح الثوريّة والأخلاق الإسلاميّة، وإنّ ثورتنا ستنضج وستُثمِر لأنّها استعدّت لمثل هذا الإيثار في شوق ولهفة.
 بما أنّ ثورتنا تطالب - في حقيقتها - بالعدالة، فعلينا جميعاً أنْ نحترم الحريّات بكلِّ معنى الكلمة؛ لأنّه لو أرادت حكومة الجمهورية الإسلاميّة أن تخلق جوَّ الكبت والضغط، فإنّها تتحطّم لا محالة1.
 الإسلام دين الحريّة، دين يريد الحُرمة لجميع أبناء المجتمع، نقرأ في سورة الدَّهر: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾2، وفي سورة الكهف: ﴿ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ﴾3.
 يقول الإسلام: إنّ التديّن لو كان إجباريّاً، فلا يصحّ أن يُقال له تديَّن، يُمكن إجبار الناس أن لا يقولوا شيئاً ولا يعملوا شيئاً، ولكن لا يُمكن إجبارهم على أن يفكِّروا تفكيراً خاصّاً؛ فالعقيدة يجب أن تكون على أساس الدليل والبرهان. 



1  ولا شكّ أنّ الحريّة يجب أنْ لا تخرج عن نطاق القانون، ولا تتعدّى الحريّة التي أمرها الإسلام للجميع، دون أنْ يكون فيها مساس بالحياة الاجتماعيّة، وبتعاليم الإسلام وكرامة الشعب المسلم؛ وكما قال قائد الثورة وإمام الأمّة "إنّ للأحزاب الحريّة الكاملة في عرض أفكارهم ونشرها، ولكنّنا لا نسمح لهم بالتآمر" (المترجم).
2  سورة الإنسان، الآية 3.
3   سورة الكهف، الآية 29.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

121

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 وبالطبع، فإنّ مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع ملاحظة شروطهما، لها مكانتها الخاصّة، والأصل في هذه المسائل مبنيٌّ على الإرشاد وليس الإجبار.

 

 

 

 

 

 

 

 

131


122

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

 ولا شكّ أنّ الحريّة تختلف عن الفوضى، وأنّ غرضنا من الحريّة هي الحريّة بمعناها المعقول.

 
 يجب أنْ يكون الإنسان حُرّاً في فكره وقلمه وبيانه، وفي هذه الصورة فقط تتمكّن ثورتنا الإسلاميّة، من الاستمرار في طريق النصر القويم.
 ولقد أثبتت التجارب السابقة، أنّه كلّما تمتع المجتمع بنوع من حريّة الفكر - ولو لم يكن عن حسنِ نيّة- فإنّ هذا الأمر لن يضرّ الإسلام، بل يكون لصالحه في النهاية.
 وإذا كان يتمّ في مجتمعنا لقاء الآراء والعقائد المختلفة في ظروف حرّة، بحيث يتمكّن أصحاب الأفكار المختلفة من عرض أفكارهم، ونحن نعرض آراءنا ونظرياتنا، فإنّ في مثل هذه الظروف السَّليمة ينمو الإسلام نموَّاً أكثر وأسرع.
 
 انتصار الثورة
 والآن، نذكر بإيجاز خلاصة الأقوال، ونستخرج منها نتيجة البحث. لقد ذكرت أنّنا نستطيع تضمين وتأمين مستقبل أفضل لثورتنا إذا حافظنا على العدالة والحريّة، وحافظنا على الاستقلال السياسي والاقتصاديّ والثقافي والفكري والإيديولوجي.
 أنا لن أتعرّض هنا إلى موضوع الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي، ولكن أركِّز في البحث على الاستقلال الفكري والاستقلال الثقافي، اللذين أعبِّر عنهما بالاستقلال الدّيني، وأوضِّحه توضيحاً أكثر.
 إنّ ثورتنا ستنتصر، في الوقت الذي نعرَّف العالم بعقيدتنا وأيديولوجيتنا، التي هي الإسلام الخالص دون أن تعتريه شائبة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
132

123

المبحث الثالث: الثورة الإسلاميّة في إيران

  أي إنّنا إذا كان لنا استقلال ديني، وعرضنا ديننا - دون خَجَلٍ وحياء - على العالم بكلِّ ما فيه، فنستطيع وقتئذٍ أنْ نأمل ونتوقّع النصر، ولكن إذا كانت هناك عقيدة ملفّقة باسم الإسلام؛ أي أن نأخذ شيئاً من الماركسيّة، وشيئاً من الاشتراكيّة

والوجوديّة، ثم نخلطها ببعض التعاليم الإسلاميّة، ونصنع من المجموع معجوناً مختلطاً، ونسمّيه الإسلام؛ فمن الممكن أن يتقبّله الناس في البداية، لأنّه يُمكن إخفاء الحقيقة لمُدّةٍ قصيرة، ولكن هذا الأمر لا يبقى مستتراً إلى الأبد، فقد يظهر أفراد واعون ومحقّقون يعرفون الحقيقة، ثم يبدؤون بنقاش هؤلاء الذين يتحدّثون باسم الإسلام، مع العلم بأنّ حديثهم لا يمُتُّ إلى الإسلام بصلة.
 
 فالمنابع الإسلاميّة معلومة واضحة، إنّها القرآن وسنّة الرسول صلى الله عليه وآله والفقه والأصول الإسلاميّة المُعتبرة.
 
 وإنّ الكلمات التي يتشدَّقون بها باسم الإسلام، تتّضح بعد مقارنتها بالمنابع الإسلاميّة، إنّها مأخوذة من الماركسيّة مثلاً، وقد أُسدل عليها ستار من الإسلام.
 
 وبالتالي، فإنّ هؤلاء الأشخاص الذين توجهوا إلى الإسلام بشوقٍ ولهفة، وتقبّلوا تلك الأفكار المفقّهة باسم الإسلام، فبعد أنْ تتَّضح لهم الحقيقة (الحقيقة التلفيقيّة التي تمزج الإسلام بالمبادئ المنحرفة)، يفرُّون من الإسلام بسرعة تامّة.
 
 ولذلك فإنّي أعتقد أنّ هذه المبادئ الملفّقة، لو لم تكن خطورتها على الإسلام أكثر من المبادئ التي تقف بصراحةٍ ضدّ الإسلام؛ فإنّها لا تكون أقلّ خطورةً وضرراً، وإذا أرادت ثورتُنا أنْ تستمرَّ في طريقها منتصرة مرفوعة الرأس، فعليها أنْ تطهِّر نفسها من كلِّ شائبةٍ، وتتحرّك في طريق إحياء القيم الحقيقية للإسلام، إسلام القرآن وأهل البيت.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

124

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 
 
 
المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة
الشهيد الشيخ مرتضى مطهّري
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

125

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 العدالة الاجتماعية
 
 
نحن نعرف أنّ التاريخ الإسلامي رأى ثورةً عظيمةً في النّصف الأوّل من القرن الأوّل الهجري، وأقصد منها الثورة التي وقعت في نهاية مرحلة خلافة عثمان، لقد وضع عثمان نظاماً مالياً خلافاً لسيرة الخليفتين اللّذين كانا قبله. على الرغم من تعهّده للناس، أنّه سوف لا يرتكب عملاً خلافاً لسيرة الخلفاء.

ويُشير الإمام علي عليه السلام في إحدى خطبه، أنّه قَبِلَ مسؤوليّة الخلافة لانقسام الناس إلى قسمين: قسمٌ ممتلئُ البطنِ شَبعٌ جدّاً، وقِسمٌ جائعٌ يكادُ يموت من شدّةِ جوعه.

فمن إحدى نقاط الضعف في سياسة عثمان، تنصيب وتوظيف الأقوام الذين عاشوا في أحضان الأرستقراطيّة أثناء العهد الجاهلي.

فبدأ عثمان أوّلاً بتوزيع قسم كبيرمن الأموال العموميّة (بيت المال)، على خاصّة أهله وبطانته، ثم بدأ يجود بأموال بيت المال بعناوين أخرى.

وبهذا الترتيب، وُجد في العالم الإسلامي، خلال عشرة أو اثني عشر عاماً، أغنياءٌ لم يسبق للمسلمين أن رأوا نُظراء لهم، ومن الناحية السياسية أيضاً: فإنّ المناصب والوزارات كانت تدور حول الأقليّة المُترفة نفسها.

بدأت الاعتراضات شيئاً فشيئاً، ومن كلِّ جانب، بدأ الناس بالاعتراض والاستنكار والهجرة من المدن المختلفة نحو المدينة، لإبداء استيائهم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
136

126

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 وبما أنّ الاعتراضات الشفويّة والتحريريّة، لم تصل إلى نتيجة، ففي النهاية اضطُرَّ الناس المعترضون الشاكون القادمون من الأقطار المختلفة، وخاصّة من الكوفة ومصر، أنْ يقوموا بمساعدة أهل المدينة أنفسهم، بالقيام المسلّح ضدّ الخليفة الثالث للمسلمين؛ قاوم عثمان حتّى اللّحظة الأخيرة، وأخيراً قضى الثوّار عليه.
 إنّ الإنسان الوحيد، أثناء حياة عثمان، الذي كان الثوار يقبلونه ويقبله عثمان أيضاً أحياناً، وأحياناً أُخرى يردّ عليه، كان الإمام عليّاً عليه السلام الذي قام بدور الوسيط بين الثوّار وعثمان.
 كان الإمام علي عليه السلام ينصح عثمان دائماً، وبقضاء حوائج الناس بطريقةٍ مُرضية، والتخلّي عن بطانته، وعلى رأس هذه البطانة يقفُ مروان بن الحكم.
 
 لقد طرد رسول اللهصلى الله عليه وآله مروان وأباه خارج المدينة؛ لأنّه كان يعرف مدى خطورتهما؛ وأمر أنْ لا يرجعا إلى المدينة أبداً؛ لأنّهما يسبّبان في إشعال نار الفتنة بين المسلمين.
 ولكن في عصر أبي بكر، طلب عثمان منه أن يعيدهما إلى المدينة، فلم يقبل أبو بكر، وقال إنّه لن يسمح لطريدي رسول الله بالعودة.
 وفي عصر عمر أيضاً، طلب منه عثمان أنْ يسمح برجوعهما، ولم يوافق عمر على طلبه.

 وفي النهاية عندما وصل عثمان إلى الخلافة، لم يكتفِ بإعادتهما إلى المدينة فقط، بل وعيّن مروان بن الحكم في منصب الرجل الثاني في الحكومة الإسلاميّة، وكان هذا الشخص سبباً لكثير من الاختلافات.
 وأثناء خلافة عثمان، نصحهُ الإمام علي عليه السلام كثيراً بطرد مروان. لقد زادت نقمة الناس على عثمان إلى درجةٍ لم يتمكّن الثوّار معها من الانتظار، حتّى هجموا على داره وقتلوه فيها، وبعد مقتل عثمان تجمّع الناس من الصغير والكبير، النساء والرجال، الشيوخ والشباب، العرب وغير العرب، خلف دار الإمام علي عليه السلام فوراً،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

127

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 وصاحوا معاً: إنّ الإمام علي، هو الشخص الوحيد الذي تليق به الخلافة الإسلاميّة، ولا بُدّ أنْ يقبل الخلافة.
 
 يشرح الإمام علي عليه السلام هذه الحادثة، ضمن إحدى خطبه؛ والنقطة اللطيفة التي تُستنبط من أقوال الإمام علي عليه السلام، في هذا المجال: أنّ ثورة المسلمين آنذاك، كانت ثورةً جماعيّةً.
 
 أيْ إنّ الثورة لم تقم على عواتق الفقراء فحسب، بل وإنّ الأغنياء أيضاً ساهموا فيها. ليس الرجال فقط، بل النساء أيضاً، والعرب وغير العرب، من الإيرانييّن والمصريّين والحجازيّين، والجميع شاركوا في تلك الثورة ويمتنع الإمام علي عليه السلام من قبول الخلافة، لكي يفهمهم أنّ المسألة ليست رحيل عثمانٍ فقط، ولا يحسبون أنّ كلّ شيء انتهى بانتهاء عثمان، وبالأحرى فإنّ الذين انتفعوا كثيراً في عصر عثمان، كانوا يتصوّرون أنّ مجيء علي لن يغيّر شيئاً من بناء الوضع الاجتماعي.
 
 قال الإمام علي عليه السلام: للجماهير التي جاءت تُبايِعُهُ: "دَعُونِي، وَالْتَمِسُوا غَيْرِي، فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَألْوَانٌ، لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ، وَإِنَّ الْآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، وَالْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ، وَاعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ، وَعَتْبِ الْعَاتِبِ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ، وَلَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُم، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً1".
 
 ثم يشير الإمام إلى الأشخاص الذين احتلوا المناصب (في زمن عثمان) وجمعوا الأموال دون أن يستحقّوها، ويقول أنّه سوف يصادر الأموال والثروات كلّها، التي سُلبت من الناس دون حقّ في زمان عثمان، حتى ولو كانوا قد تزوّجوا من تلك الأموال، وجعلوها صدَاقاً لزوجاتهم. 



1  لا تثبت عليه العقول: لا تطيق احتماله، أغامت: غُطّيت بالغيم، المحجَّة: الطريق المستقيم. تنكَّرت: تغيَّرت. (الخطبة 92من نهج البلاغة، ص 136، تحقيق صبحي الصالح).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

128

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 ويُشير بعد ذلك إلى نقطةٍ عجيبةٍ جدّاً فيقول: "إِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً"؛ أي إنّ الظرف الذي يسع لجميع الأحزاب والطبقات والأفراد، ويحقّق رضا الجميع هو العدالة، فإنْ لم يرضَ أحد بالعدالة، فلا يرضيه الظلم؛ أي لا تظنّوا أنّ الذين يعترضون على العدالة يرضون إذا تركتها واخترت الظلم، فإنّي لو أردت إشباع جشعهم وحرصهم فإنّهم يزدادون جشعاً.
إذاً، فإنّ الحدّ هو العدالة، ومن الخطأ أن أتخطّى حدود العدالة لصالح أحدٍ، كي يرضى عليّ.

لقد تكلّم أمير المؤمنين بكلِّ صراحة، لقد كانت سياسته الصراحة، إنّه لم يرضَ بإخفاء ما يُريد أنْ يعمله، لئلّا يتصوّر الناس أنّه يحافظ على النظام السابق؛ لأنّ عليّاً يرى هذا العمل إغفالاً صريحاً، وعلى هذا الأساس يُعلن بصراحة:
"وَاعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ..."، وبذلك يُعلن: أنّه لا يُريد إغفال الناس، ويعلن عن برنامج عمله.

وبعد الإعلان عن هذا البرنامج، بدأتْ الخلافات مع حكومة الإمام علي عليه السلام، منذ الأيّام الأولى لخلافته، وبدأ أوّلُ خلافٍ رسمّي على صورة حرب الجمل.
طلحة والزبير كانا من أنصار الإسلام في عصر الرسول صلى الله عليه وآله، إلّا أنّهما خرجا في صورة تاجرين كبيرين أثناء خلافة عثمان، وذلك بسبب الأوضاع الخاصّة للنظام الحاكم، والرشوة الضخمة التي كانا يتلقّيانها منه، ويشاهدان علياً اليوم يُريد أن يُصادر أموالهما.

عندما كان عثمان يبدأ بتقسيم الأموال، يأخذ الزبير سَهْماً لا يقلُّ عن عشرة إلى عشرين ألف دينار، ويرى اليوم عليّاً يُعطيه ثلاثة أو أربعة دنانير، ثمّ يعطي المقدار نفسه لغلامه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

129

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 وبالطبع، فإنّ الزبير لن يطيق أمراً كهذا، وكذا الأمر بالنسبة إلى طلحة، وبهذا الترتيب فإنّهما بدءا يُهيّئان مقدّمات حربِ الجمل.
وبعد حربِ الجمل بدأت حربُ صفّين، معاوية الذي كان يحكم المنطقة السوريّة (الشامات) قرابة عشرين عاماً، وهو الحاكم المطلق، يفعل ما يشاء، واستطاع خلال هذه المدّة تثبيت أعمدة حكومته بمقدارٍ كافٍ.
 
 وبعد أنْ تمّت البيعة لعلي عليه السلام، رفض أنْ يوقّع سند ولاية معاوية مهما بلغ الأمر، وأوجب عليه أنْ يستقيل.
 
 وأمّا أصحاب المصالح، فكانوا يطالبون عليّاً بأنْ يسمح لمعاوية بالبقاء مؤقّتاً في مقرّه، فأجاب الإمام عليٌّ عليه السلام بالنفي، وبعد هذا الردّ الصريح أقام معاوية حربّ صفين.
 وبعد حرب صفّين بدأت حربُ الخوارج، أصبحتْ النتيجةُ أنّ عليّاً كان في حالة نضالٍ دائم، ولم يهدأ أبداً طوال خلافته التي استمرّت أربع سنواتٍ وأربعة أشهر، وذلك بسبب إصرار الإمام علي موضوع العدالة. إنّه أراد الحكومة لإجراء العدالة، وسقط شهيداً في محراب العبادة لشدَّة عدله.
 
 تُعتبر مرحلة الخلافة من أشد أيّام الحياة بالنسبة للإمام علي عليه السلام، غير أنّه استطاع من وجهة نظر عقيدته، أنْ ينشر بذور العدالة في المجتمع الإسلامي.وإذا أراد الإمام عليٌّ أنْ يستمرّ على نظام عثمان، ويحكم بدلاً من تلك المرحلة القصيرة، أكثر من عشرين عاماً، فسوف لن يبقى للإسلام أثرٌ إلى اليوم، ولم نكن لنسمع شيئاً عن نهج البلاغة، وعن العدالة الإسلامية، وكان الإمام عليٌّ خليفةً نظير معاوية.
 يعلّمنا أُسلوب الإمام علي أنّ تغييرَ النظام السياسي، وتغييرَ وتبديل المناصب، وتبديل الفاسدين بالصالحين، دون تغيير المؤسَّسات الاجتماعيّة، كالأنظمة الاقتصاديّة والعدالة الاجتماعيّة، فإنّه يتمُّ دون جدوى ولا أثرَ فيه.
 قيل للإمام: إنّ القانون لا يَسري على ما قبله؛ أي إنّك إذا أردت أنْ تُراعي العدالة، وتُراعي المساواة فلك ذلك، ولكن أبدأ من اليوم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
140

130

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 أي إنّ الأعمال التي ارتكبها الأفراد، في زمن الخليفة السابق تتعلّق بالماضي، ولا علاقة لها بحكومتك.
ويردُّ عليٌّ على كلّ هذه النصائح: "إنّ الحقّ القديم لا يبطله شيء"؛ أي إنّني يجب أنْ أرُدَّ الحقَّ إلى صاحبه الأصلي.

وبالنسبة إلى مستقبل الثورة الإسلاميّة في إيران، فإنّ موضوع العدالة الاجتماعيّة، تُعتبر من أهمّ المسائل.

وهنا يطرح هذا السؤال الأساسي نفسه: ماذا نقصد من العدالة الاجتماعيّة للإسلام؟ حيث إنّ وجهاتِ النظر تختلف حول موضوع العدالة الاجتماعيّة اختلافا كبيراً.

يتصوَّر بعضهم أنّ العدالة الاجتماعيّة تعني أنْ يعيش جميع الناس بالتساوي، في أيِّ وضع وأيِّ ظرفٍ كانوا، وكيفما كانت أعمالهم وخدماتُهم في المجتمع، ومهما كانت لياقاتهم.
إنّ العدالة الاجتماعيّة من وجهة نظر هؤلاء تعني تساوي الجميع في الملبس مثلاً، فإذا كنت ترتدي لباساً قُطنيّاً، فيجب أن ألبس أنا أيضاً مثلك، وإذا لبست لباساً صوفياً، فيجب أن ألبس لباساً صوفيّاً وهكذا...

فمن وجهة نظرهم: يجب أنْ يعمل كلُّ بمقدار قابليّته، ويأخذ بمقدار حاجته؛ فربّما كان إنتاجي في العمل يُساوي نصف إنتاجك، غير أنّ أفراد عائلتي ضعف أفراد عائلتك؛ لذلك، يجب أنْ يكون دخلي ضعف دخلك.

إنّ هذا الاستنتاج من العدالة الاجتماعيّة، يُعتبر استنتاجاً اجتماعيا مَحْضاً؛ أي إنّه ينظر إلى المجتمع فقط، ولا يهتمّ بالفرد، وليس للفرد - في هذا المبدأ - وجود بالأصالة، فالمجتمع يعمل وبالتالي المجتمع يصرف.
وهناك استنتاج آخر من العدالة الاجتماعيّة، وهو الاعتماد الكلّي على الفرد وأصالته واستقلاله.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

131

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 يقول أصحاب هذا الرأي: يجب فسح المجال للأفراد، وإعطائهم الحريّة الاقتصاديّة والسياسيّة؛ يجب أن يسعى كلُّ إنسان ليوفّر مالاً أكثر، وليخصِّص لنفسه 
مدخولاً أكبر، ولا يهمّه إن كان دخل الآخر أقلَّ أو أكثر منه، وعلى المجتمع في نهاية الآمر، أن يعيّن بعض الضرائب على أموال الأغنياء، ليؤمِّن حياة الفقراء والمساكين.

وهنا يبدأ التناقض بين مسألتين هامّتين، وهي العدالة الاجتماعية من ناحية، وحريّة الفرد من ناحيةٍ أُخرى.

وبالطبع، فإنّ المقصود من الحريّة هنا، التحرّك الاقتصادي، مع حريّة العمل السياسي، فإذا تقرّر أن يكون استناد العدالة الاجتماعية على الجمع فقط، فإنّ حريّة الفرد تُدفن في قسم منها على الأقل، وإذا كان القرار أنْ يُحافظ على الحريّة الاقتصاديّة، فلا يبقى بعدئذٍ وجود للعدالة الاجتماعيّة، بالمفهوم الذي تترقّبها المجموعة الأولى.

والعالم اليوم يتّجه إلى وضع آخر، يكون حدّاً وسطاً بين العالم الشيوعي والعالم الرأسمالي، وربّما جاز لنا أنْ نعترف بأنّه بجانب هذين النظامين، يُوجد عالمٌ ثالثٌ على أبواب التكوين، ويُمكن أنْ نُطلق عليه عالم النظام الاشتراكي1.

يُريد هذا النظام الجديد، أنْ يُحافظ على حريّة الأفراد، وعلى هذا فإنّه يقبل المُلكية الخاصّة في حدٍّ معقول، ولا يعتبر كلَّ ملكية متساوية مع الاستثمار، ويدّعي أيضاً أنّ العدالة الاجتماعية في صورتها الأولى تُعتبر نوعاً من الظلم؛ وذلك لأنّه ما دام حاصل عمل كلِّ فردٍ يتعلّق بنفسه، فعندما يأخذون منه نصف ما حصل عليه، ولو كان بسبب كثرة المصاريف في مكان آخر، فإنّ هذا الأمر ظُلم بعينه.
الاستثمار السلبي خطأ في جميع أشكاله، فإذا وظَّفتُك في عمل ما، واقتطعت نصف محصولك لنفسي، فإنّني 



1  الفرق بين هذا النوع من الاشتراكية وبين الشوعيّة التي تدّعي أنّها اشتراكية أيضاً، هو أنّ هذه الاشتراكية تُدعى بالاشتراكية الديمقراطيّة والثوريّة والخُلقيّة.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
142

132

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 قد استثمرتك في الواقع، وهذا ظلم، ولكنّني لو منحت من أموالي - حاصل أتعابي - مبلغاً لإنسان آخر، وذلك برغبتي النفسيّة، فهذه إنسانيّة بعينها، وعمل متكامل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

133

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 وإنّ من عيوب الرأسماليّة أنّها تربّي الاستثمار في داخلها، حيث إنّها تخصِّص الأرباح كلَّها لرأس المال، وهذا الأمر يخلّف الطبقيّة.
 
 وبمثل هذا المنطق، فإنّ شعار هذا النظام الجديد هو: لنبدأ معاً بإيجادِ طريقةٍ، نتمكّن بها من القضاء تماماً على هذا النوع من الاستثمار، دون أنْ نسحق شخصيّة وإرادة وحريّة الأفراد، ونسعى لأن ينفق الأفراد - بحكم الارتقاء الإنساني وبحكم المعنويّة والسموّ الروحيّ والإحساس المتقابل بمصائب البشر - أموالهم الزائدة عم مصاريفهم، على إخوانهم المُحتاجين، دون أنْ نأخذ أموالهم عصباً ونقدِّمُها للآخرين.
 إنّ هذا التفكير، الذي يُدّعى في الغرب بالاشتراكية الخلقيّة، كان يسعى الإسلام دائماً لتحقيقه، ولكن خلافاً للمدارس الغربيّة، فإنّ الإسلام عيَّن بكلِّ دقَّةٍ الطرق السليمة للوصول إليه، وعيّن أيضاً أُسلوب تثبيته واستقراره في المجتمع.
 ننقل هنا مضمون حديثٍ عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام؛ سأل الإمام رَجُلاً: بكم هو مقدار الأخوّة الإسلاميّة فيما بينكم؟ فأجاب الرجل: على أفضل ما يكون.
 فقال الإمام: هل وصل إلى درجة، أنّ أحدكم يأتي إلى متْجَرِ أخيه، ويأخذ من صندوقه ما يحتاج إليه، ويحسُّ صاحبُ المال بالراحة؟ قال: لا.
 فقال الإمام: فإذاً كيف قلت: إنّه على أفضل ما يكون، إنّ الأخوّة تكون في أعلى درجتها، إذا كان جيبُ أحدكم لأخيه، كجيبه الثاني لنفسه، وهكذا بالعكس1.
 فإذا طُبِّق هذا الأسلوب، فإنّه بعينه الأخوّة الإسلاميّة التي يلحُّ عليها الإسلام.



1  لم أعثر على نصّ هذا الحديث؛ غير أنّني عثرتُ على حديثٍ آخر مشابه له: عن الإمام الباقر عليه السلام: أيجيء أحدُكم إلى أخيه، فيُدخل يده في كيسه، فيأخذ حاجته فلا يدفعه. فقلتُ: ما أعرف ذلك فينا. فقال أبو جعفر عليه السلام: فلا شيء إذاً. قلتُ: فالهلاك. فقال: إنّ القوم لم يُعطوا أحلامهم بعد. الكافي: ج 2، ص 174.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
144

134

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

  يُريد الإسلام أن تكون الحياة أخويّة، لا أنْ نجبر الفرد (بعدم ارتكاب عمل ما)، ونقولُ له: إنّ القانون يمنعك، أو نقول: إنّ الجميع يجبُ أنْ تتمَّ إعاشتهم بواسطة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

135

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 الحكومة؛ أي مثل الوضع الموجود في الدول الشيوعيّة، حيث إنّ الجميع عمّال لدى الحكومة، ويأخذون منها راتبهم.
 
 يجب أن يكون الاشتراك في الحياة الماديّة، ناشئاً عن الاشتراك الروحي للناس، ويجبُ أن تتّحد الأرواح أوّلاً، ثم الجيوب، لا أن تكون الأرواح مشتّتة، وتوحيد الجيوب غصْباً، أو إفراغها وملأ جيوب الحكومة، حتى توزِّع الحكومة على كلِّ فرد مبلغاً معيّناً من المال1.
 وكما ذكرنا، فإنّ الاستنتاجات من العدالة الاجتماعية مختلفة، ولكنْ علينا أنْ نرى وجهةَ نظر الإسلام من العدالة الاجتماعية. هل إنّ رأي الإسلام في هذا المجال، يتّفق مع الشيوعيّة أو الرأسماليّة؟ أو أنّه يختلف عن كلِّ من هذين المبدأين؟
 إنّ النقطة التي أُريد التأكيد عليها هي أنّ الإسلام يعتبر المعنويّة جُزءاً لا ينفكُّ منه. إنّ التفاوت الأساس بين النظام الإسلامي والأنظمة الأخرى، هو أنّ الإسلام يعتبر المعنويّة الأصل والأساس، وأنّ لنا في التاريخ نماذج كثيرة حول اتّجاه القادة المسلمين إلى هذه الجهة، وإنّنا نتباهى ونفتخر بها.
 إنّ الأهميّة التي يُظهرها الإسلام في مجال العدالة الاجتماعية، ووجوب اشتراكها مع المعنويّة الإسلاميّة، لم يُوجد لها نظير ومثيل في الأنظمة الأخرى.
 في عام الفتح (فتح مكة) ارتكبت امرأة جريمة، لا بُدَّ لها من الجزاء، وبالصدفة، فإنّ هذه المرأة السارقة كانت من الأُسر الكبيرة المشهورة ومن أشراف قُريش.
 عندما تقرَّر إجراءُ الحدِّ عليها وقطع يدها، ارتفع الصُّراخ والعويل من أُسرتها وعشيرتها، ينادون بالويل لهذا العار الذي سيلحق بهم، وكيف يُمكنهم تحمّله؛ فذهبوا جميعاً إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وطلبوا منه 



1 لقد رأيت موضوعاً في إحدى الجرائد قبل بضع سنين، يروي عن السويدييّن؛ ولا بأس بذكره لكم: عنوان الموضوع هو السياسة والبقرة، سُئِل أحدُ السويديين عن معنى الاشتراكية؟ فأجاب: الاشتراكية تعني: أنّك إذا كنت تملك بَقرتين، وجارُك لا يملك بقرةً، فعليك أن تمنح إحداهما له.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
146

136

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 الكفّ عن إجراء الحدّ على المرأة، فقال صلى الله عليه وآله: لا يمكن ذلك أبداً؛ وكلّما قدّموا الوسطاء والشفعاء، لم يهتمّ النبي صلى الله عليه وآله، بل

إنّه جمعَ الناس، وخطبَ فيهم خطبةً شرح فيها سبب هلاك الأمّم السابقة؛ وذلك لأنّهم يُجازون المُجرم، إنْ كان من طبقةٍ فقيرةٍ غير معروفة، وأمّا إذا كان المُجرم من الأشراف والأُسر الكبيرة، وكان له شُفعاء، فإنّ القانون لم يُطبّق عليه؛ ولهذا فإنّ الله يُهلك مثل هذه الأقوام، وأكّد الرسول على أنّ الجميع متساوون أمام القانون، وأنّه لا يُفرِّق بين أحدٍ منهم. 

 أو ما يُنْقل عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه رأى عقداً في عُنُق ابنته، ففهم أنّه ليس لها؛ فقال لها: "منْ أين صار إليك هذا العقد؟" فقالت: استعرته من عليّ بن أبي رافع؟ خازن بيت مال أمير المؤمنين، لأتزيّن به في العيد ثم أرُدُّه. 

 فبعث الإمام إلى ابن أبي رافع، وقال له: "أتخونُ المسلمين يا ابنَ أبي رافع؟ فقال له: معاذَ الله أنْ أخونَ المسلمين".

 فقال: "كيف أعرتَ بنتَ أمير المؤمنين العقد الذي في بيتِ مال المسلمين بغيرِ إذني ورضاهم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّها ابنتُك، وسألتني أنْ أُعيرَها إيّاه تتزيَّن به، فأعرتها إيّاه عاريّةً مضمونةً مردودةً، فضمنتُهُ في مالي وعَلَيَّ أنْ أرُدَّه سليماً إلى موضعه".
 
 قال: "فردَّه من يومك، وإيّاك أنْ تعود لمثل هذا، فتنالك عقوبتي، ثمّ أولى لابنتي لو كانت أخذتْ العقد على غير عاريةٍ مضمونةٍ مردودة، لكانت إذاً أوّل هاشميّةٍ قطعتُ يَدَها في سرقة"1.
 هذه هي الاهتمامات التي أظهرها أئمّتنا وقادتنا - الذين كانوا الإسلام المجسَّم ومعلّمي الإسلام الأصيل - في موضوع العدالة الاجتماعية.



1  وسائل الشيعة، ج28، ص292.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

137

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

  فإذا أرادت الثورة الإسلاميّة في إيران، أن تستمرّ في طريقها، فليس لها إلّا أنْ تُنفِّذ هذه الأعمال والأساليب، التي تدعو إلى بسط الحقّ والعدالة.
 
 
الحريّة والاستقلال الديني
 ما دامَ الطفلُ صغيراً يعيشُ تحت ولاية الأب أو الجد أو الأم، فإنّه ليس له استقلاليّة، ولا يستطيع أن يعزم بنفسه على أمرٍ ما، بل لا بُدَّ من أخذ الإجازة والرُّخصة في إجراء أيَّ عمل، ويُعتبر هذا نوع من التبعيَّة وعدم الاستقلال.
 والصنفُ الثاني: من الذين لا استقلال لهم هم العبيد، فإذا كان شخصٌ عبداً مملوكاً لآخر، فلا يتمكّن - بالطبع - أن يقوم بأيّ إجراءٍ لنفسه مباشرةً، بل إنّ فرداً آخر يقومُ بالإجراءات له وبدلاً عنه، أو أنّه لا بُدَّ من استجازة سيّده في أيّ عملٍ يعمله.
 وباستثناء هذين الموردين، فهناك مواردُ أُخرى، يُسلَب فيها استقلالُ الأفراد دون أن نطلقَ عليهم اسم الصغير أو المجنون .
 وعلى سبيل المثال: فإنّ الخدم في كثيرٍ من العوائل، ليس لهم وضعٌ مستقلٌّ، في الأنظمة الإقطاعيّة، وخاصّةً في صورها الموجودة في الغرب1، فإنّ الخدم أو الفلّاحين كانوا غير مستقلّين، هذه الموارد التي ذكرناها كمثال، وهناك موارد كثيرة أُخرى، هي أشكالٌ مختلفةٌ من عدم استقلال الأفراد وتبعيَّتهم2.



1 تختلف نوعيّة النظام الإقطاعي في الغرب، عن النظام الإقطاعي في الشرق؛ فإنّ الوضع الذي كان موجوداً للرعايا في الغرب، كان شيئاً بين الحريّة والعبوديّة؛ حيث إنّ الفلاح مثلاً لم يكُن عبداً مملوكاً لمالك الأرض، ولكنّه في الوقت نفسه لا يتمكن من الانفصال عن الأرض. ولكن الحالة تختلفُ في الشرق؛ ففي إيران مثلاً، كان المواطنون الذي يعملون بالفلاحة في مزرعةٍ ما، لهم حريّةُ البقاء هناك، أو الانتقال إلى مكانٍ آخر. فإذا كان الفلاح راضياً عن المالك، فإنّه يبقى عنده عاماً آخر. ولكن، إذا كان الفلاح يحسّ بأنّ صاحب الأرض ليس إنساناً طيّباً، ويسمع عن مالكٍ حَسنَ الخلق والمعاملة في مكان آخر، فلن يتمكّن أحدٌ من صدَّه عن العمل لديه، وعلى المالك بعدئذٍ أنْ يكسبَ رضا الفلّاح بعد استخدامه. وأمّا في الغرب، فكان الفلّاح مُلزماً بالبقاء إلى الأبد، مع عائلته في المكان الذي وَلِدَ فيه وعمل فيه، فإذا أراد الذهاب إلى مكان آخر يمنعونه ويصدّونه، وإذا تمكّن من الذهاب سِرّاً إلى مالك آخر للعمل لديه، فإنّ ذلك المالك لم يكن له الحقَّ في استخدامه، طبقاً للقوانين الدارجة، ويجب عليه استرجاعه إلى سيّده السابق؛ وكان عدم استقلال هؤلاء، لدرجةِ أنّهم يُباعون ويشترون مع الأرض أو المزرعة، حين بيعها أو شرائها.
2  يُعتبر الفرد أحياناً جُزءاً من مجموعةٍ أو حزب، ففي تلك الحالة، يستقلّ في أعماله الشخصيّة، ولكنّه في الأعمال التي ترتبط بالمجموعة، بحكم أنّ هناك قانوناً واحداً يسري على الجميع، فإنّه لن يتمكّن من اتّخاذ تصميم خاصّ بمفرده، وبالطبع فإنّ هذه الحالة، تختلف عن موارد عدم استقلال الفرد، التي أشرنا آنفاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
148

138

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

وكما أنّ مسألة الاستقلال وعدم الاستقلال، تصحّ بالنسبة للفرد الواحد، فإنّها تصحّ أيضاً بالنسبة للمجتمع والدولة بصورة أوضح. 
 ففي زماننا، لا توجد مسألة العبيد، أو الموالي بشكلها السابق، ولكن، علاقات السيادة والعبوديّة، تشيع بشدّة على مستوى الدول.
 فنظرةٌ إلى الخريطة السياسيّة للعالم، توضّح لنا أنّ عدداً من الدول، تقع في مرتبة السيادة والأمارة، وفي المقابل تقع دولٌ أُخرى يُطلق عليها الدول المستقلة، ولكنّها تخضع لسيطرة الدول من الفئة الأولى.
 لقد جرّبنا هذا الأمر في منطقتنا، حيث إنّنا نشعر بمعارك سياسةٍ شديدةٍ وبين الدول العظمى، في الخليج الفارسي وفي المحيط الهندي أيضاً.
 تُريد أمريكا المحافظة على الخليج الفارسي لنفسها، وللدُّول الكبيرة الأخرى - في المقابل - نفس الهدف والقصد، وفي هذا المجال كانت أمريكا، قبل قيام الثورة الإيرانية، في مُقدَّمة المتنافسين.
 
 فإنّهم؛ أي (رؤساء أمريكا)، وإنْ لم يُعلِنوا، كان لهم خادمٌ في المنطقة اسمهُ الشاه، بالرّغم مِن أنّ إيران كانت، تتظاهر بمحافظتها على أمنها.
 إنّ الأعمال التي كان الأمريكيون يرتكبونها في هذه المنطقة تتلخّص في أنّهم: من ناحية، يستخرجون النفط الإيراني - على نفقة إيران - في إنتاج هائل أشبه بالنهب، ومن ناحيةٍ أُخرى، فإنّ القسم الأعظم من الأموال، التي يُقدِّمونها لإيران من أجل شراء النفط، يسترجعونها مرةً أُخرى باسم بيع الأسلحة المتطوّرة إلى إيران، وبالتالي فإنّهم جعلوا من إيران شرطّي المنطقة، ومركزاً للمحافظة على مصالحهم ومنافعهم، ومع ذلك 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

139

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 فإنّ شاه إيران كان يدّعي أنّ له سياسةً شعبيةً، وأنّ هذه الأسلحة التي يشتريها، يُريدها للدفاع عن إيران، نعم، هذا من الجانب الاستقلالي السياسي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

140

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 وأمّا في مجال الاستقلال الاقتصادي، فإنّنا شهدنا أنّ إيران قد اضطرت إلى التقليل من الزراعة والرعي؛ وذلك لكي تستورد القمح والسكّر واللّحم و... من الخارج.

 أمّا الصناعة فتقتصر على عملية التجميع، لتبقى التبعيّةُ للغرب، وفي مجال الموادّ الغذائيّة، اعترفت جرائد النظام نفسه (النظام البهلوي)، أنّ 95% من حاجات البلاد تُستورد من الخارج، ولم نتمكّن من الاتّكاء على موردٍ واحد.
 لقد كنّا نتعرّض لأسوأ أنواع التبعيّة والعبوديّة، فإنّهم لم يستعبدونا في المسائل الاقتصاديّة فحسب، بل وكانوا يخطّطون لاستعبادنا في كلِّ المجالات.
 وإنّ الإمام "الخميني"، في أوائل إقامته بباريس، كان يُحرِّض الناس ويشوقّهم إلى الزراعة، وخاصّة زراعة القمح، في بياناته المتكرّرة التي كان يرسلها إلى إيران، ولقد رأينا مدى تأثير هذا الأمر.
 
 إذا أرادتْ بلدةٌ الوقوف على رجليها، واتّخاذ القرارات اللّازمة لنفسها، دون الاعتماد على الغير، فتستطيع بعزيمةٍ ورجوليّة، أنْ تمزِّق جميع أغلال وقيود الأسر والعبوديّة، وليس ببعيد ذلك اليوم الذي يتمكّن بلدنا - بهمّة الشعب - من الوقوف على رجليه، والاكتفاء الذاتي في كلِّ المجالات، والاستغناء عن الآخرين.
 
 نتذكّر أنّ الشعب الإيراني، كان يُردّد في تظاهراته هذا الشعار القيِّم: "الاستقلال، الحريّة، الجمهوريّة الإسلاميّة"، وهذا دليل على أنّ شعبنا، يريد الحصول على الاستقلال، يُريد أن يرسم مصيره السياسي بنفسه، يُريد أن يخطِّط لنفسه في المجال العلمي، يُريد أنْ يُقدِّم آراءه لصالح نفسه في المجال الاقتصادي.
 وأكبرُ من هذا كلَّه، فإنّه يُريد الحصول على الاستقلال الثقافي، والفكري، والديني، ويريد أنْ يُفكِّر لنفسه، ويصنع ثقافته.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

141

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 وأمّا في مجال الاستقلال الاقتصادي، فإنّنا شهدنا أنّ إيران قد اضطرت إلى التقليل من الزراعة والرعي؛ وذلك لكي تستورد القمح والسكّر واللّحم و... من الخارج.

 أمّا الصناعة فتقتصر على عملية التجميع، لتبقى التبعيّةُ للغرب، وفي مجال الموادّ الغذائيّة، اعترفت جرائد النظام نفسه (النظام البهلوي)، أنّ 95% من حاجات البلاد تُستورد من الخارج، ولم نتمكّن من الاتّكاء على موردٍ واحد.

 لقد كنّا نتعرّض لأسوأ أنواع التبعيّة والعبوديّة، فإنّهم لم يستعبدونا في المسائل الاقتصاديّة فحسب، بل وكانوا يخطّطون لاستعبادنا في كلِّ المجالات.

 وإنّ الإمام "الخميني"، في أوائل إقامته بباريس، كان يُحرِّض الناس ويشوقّهم إلى الزراعة، وخاصّة زراعة القمح، في بياناته المتكرّرة التي كان يرسلها إلى إيران، ولقد رأينا مدى تأثير هذا الأمر.
 
 إذا أرادتْ بلدةٌ الوقوف على رجليها، واتّخاذ القرارات اللّازمة لنفسها، دون الاعتماد على الغير، فتستطيع بعزيمةٍ ورجوليّة، أنْ تمزِّق جميع أغلال وقيود الأسر والعبوديّة، وليس ببعيد ذلك اليوم الذي يتمكّن بلدنا - بهمّة الشعب - من الوقوف على رجليه، والاكتفاء الذاتي في كلِّ المجالات، والاستغناء عن الآخرين.
 
 نتذكّر أنّ الشعب الإيراني، كان يُردّد في تظاهراته هذا الشعار القيِّم: "الاستقلال، الحريّة، الجمهوريّة الإسلاميّة"، وهذا دليل على أنّ شعبنا، يريد الحصول على الاستقلال، يُريد أن يرسم مصيره السياسي بنفسه، يُريد أن يخطِّط لنفسه في المجال العلمي، يُريد أنْ يُقدِّم آراءه لصالح نفسه في المجال الاقتصادي.
 وأكبرُ من هذا كلَّه، فإنّه يُريد الحصول على الاستقلال الثقافي، والفكري، والديني، ويريد أنْ يُفكِّر لنفسه، ويصنع ثقافته.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
152

142

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

  لا شكّ أنّ أسوأ أنواع الاستعمار وأخطرها، هو الاستعمار الثقافي، وهل يُمكن أنْ يُستعمر شعبٌ من الناحية الاقتصاديّة والسياسيّة، قبل أنْ يُستعمر فكريّاً؟
وللانتفاع من الفرد، لا بُدَّ أن تُسلب شخصيَّتُهُ الفكريّة، حتى يتشاءم وينزجر من أفكاره الخاصّة، ويعشق ما يعرض عليه من جانب المستعمرين.
 يجب إيجاد نوع من الميل إلى التجدّد بين الناس، حتى يشمئزّوا من طبائعهم وعاداتهم الخاصّة، ويُحبِّذوا العادات والرسوم الأجنبيّة.
 يجب أنْ يجعلوهم يُسيئوا ظنّهم بآدبهم وفلسفتم وكتبهم وعلمائهم ومفاخرهم العلميّة والثقافيّة، حتى تسحرهم فلسفة وأدب الآخرين وكتبهم.
 في عالم اليوم، يُستفاد من العلوم والفنون في البلدان المختلفة بصورةٍ متشابهة، ولا تستطيع أمّةٌ أن تدّعي علماً خاصّاً يتعلّق بها، ولكنّ العلوم تختلف مع المبادئ والإيديولوجيّات وأساليب وطُرُق المعيشة.
 ومن هنا تنفصل الأمم عن بعضها، فكلُّ أمّةٍ لها عقيدةٌ مستقلّةٌ وفكرٌ مستقلٌّ، ولا تخضع للمبادئ الأخرى التي لها حقّ الحياة، وكلُّ أُمّةٍ ليس لها مبدأ خاصّ، وتُريد أن تستعير من مبادئ الأجانب، فلا بُدَّ لها من الخضوع لعبوديّة الأجانب، وهذا - للأسف - هو البلاء الذي نزل علينا في الماضي.
 إنّ الجماعة التي يُطلق عليها بالمفكّرين المُعجبين بأنفسهم في بلادنا - وليسوا بالقليل - ينقسمون إلى قسمين: الليبراليون، وهم الذين يؤمنون بضرورة أخذ النظام الغربيّ من الدول الحُرّة، والقسم الآخر الشيوعيّون: وهم الذين يقولون بضرورة أخذ نظامهم من القطاع الغربي الآخر (الدول الشيوعيّة).
 لقد تكونت أخيراً - من سوء الحظّ - فئة ثالثة اعتقدوا بمبدأ التلفيق. إنّهم يخلطون مجموعةً من أُصول الشيوعيّة، مع بعض مبادئ الوجوديّة، ثم يمزجون المركّب الناتج منهما، مع بعض المفاهيم من القيم والاصطلاحات الخاصّة بالثّقافة الإسلاميّة، ثمّ يدّعون أنّه (الحاصل من تركيب المبادئ المختلفة) هو الإسلام الحقيقي الأصيل دون غيره.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

143

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 مع هذه الأساليب وطرق التفكير، لا يُمكننا الوصول إلى الاستقلال الثقافي، ويُحكم علينا في النهاية بالدّمار والفناء.
 
 إنّني أُعلن خطورة هذا الأمر، فلو لم يكن لدينا مبدأ مستقلّ، لكُنّا نسمح بالالتجاء والالتحاق بأحد المبادئ.
 
 ولكنّ المصيبة كلَّ المصيبة، أنّنا مع هذه العقيدة، المُستقلَّة المُستغنية عن الغير، لا زلنا نفكّر بالإعراض عمّا لدينا، والرُّكون إلى بضائع الآخرين.
 
 ولقد رأينا في مجتمعنا: أنّ شخصاً ما يعشق المنطق الديالكتيكي مثلاً، وحقيقةُ الأمر أنّه لم يعرف ذلك المنطق جيداً، بل التقط من هنا وهناك كلماتٍ متناثرة، واستقرّت في ذهنه، ثم يأتي هذا الرّجل، ويدّعي أنّ منطق الإسلام هو المنطق الديالكتيكي بعينه، دون أنْ يعلم أنّ المنطق الديالكتيكي يقتلع جذور دينه وإسلامه ويقضي عليه.
 أو أنّ شخصاً آخر يرى أنّ القاعدة والأساس في عالم اليوم، يرتكز على الاقتصاد، فيكرِّر كالببغاء وبدون تعمُّق، أنّ الأساس في الإسلام هو الاقتصاد أيضاً، دون أنْ يفهم أنّ معنى هذا الكلام (الأساس هو الاقتصاد). هو محو ونفي المعنويّات التي بنى الإسلام أساسه عليها.
 أو نرى مُعْجباً آخر يُلاحظ، إشاعة النّضال والصّراع مع الملكية في هذه الأيّام، فيأتي ويقول: إنّ الإسلام أيضاً يُنكر الملكيّة الخاصّة، دون أن يعرف شيئاً عن المعايير والموازين الإسلاميّة.
 أنا لا أُريدُ أنْ أدّعي وجود نوايا سيّئة في هذه الموارد؛ غير أنّه إذا كان في عمل ما خطرٌ كبيرٌ، فإنّ بروز هذا الخطر لا يرتبط بنيةٍ سيّئةٍ أو عدمها.
 لاحظوا، أنّه لو وُجِد البنزين في بنايةٍ ما، ويأتي شخص يُريد أن يشعل سيجارته
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
154

144

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 مثلاً، فيُخرج عود الكبريت ويشعله، عندئذٍ يقع المحذور المُفجع، ولو أنّه لم ينوِ سوءاً، فإنّ ذلك لا يؤثّر في وقوع الفاجعة.

 نعم، عند امتلاء الهواء بغازٍ قابل للاشتعال، فعند إشعال الكبريت يشتعل الغاز، ويُفجِّر المكان، ولو لم تكن عندنا نيّة سيّئة.
 وبدليل هذا التخبّط، فإنّني أُركّز بشدّة على موضوع الاستقلال، وخاصّة الاستقلال الديني؛ فنحن لو لم نعرض عقيدتنا المُستقلة، حتى ولو قضينا على النظام السابق، وحتى لو فرضنا أنّنا اكتسبنا استقلالا سياسيّاً واستقلالاً اقتصاديا، وإذا لم نحصل على الاستقلال الثقافي، فإنّنا سنفشل، ولا نتمكّن بعدها من إكمال ثورتنا.
 يجب أن نوضِّح للعالم أنّ الفكر الإسلامي لا ينطبق، لا مع الفكر الغرب، ولا الفكر الشرقي، ولا يتّبع أحدهما ولا يحتاج إليهما.
 ماذا جرى لهؤلاء (المنحرفين)؟ يريدون أن يطبّقوا الفكر الإسلامي مع الأفكار الأجنبيّة. فبعضُ الناس عندما يمرُّون بالآيات القرآنية، يقومون بتأويل وتوجيه هذه الآيات، ليطبِّقوها - كيفما كان - مع المبادئ الغربيّة أو الشرقيّة.
 
 ولقد ذكرت هذه النقطة كثيراً: وهي أنّ بعضهم عندما يسمعون اسم الملائكة، يحاولون بطريقةٍ ما أنْ يُفسِّروه.
 وإنّي أُصرّح: إنّ هذا الأسلوب خاطئ، وإذا لم يستطع هؤلاء إدراك المفاهيم القرآنية، فعليهم أنْ يجدُّوا ويجتهدوا ليفهموها. وهؤلاء سواء رضوا أم أبوا، فإنّ القرآن مُليء بعشرات المُعجزات - وكلّه مُعجز - وهي من مفاخر القرآن، ولولا وجود هذه المسائل، فإنّ الدين كان قد فقد نِصفاً من رسالته. لقد جاء الدّين ليوسّع نطاق فكرنا، حيث إنّ الأمر الحسيّ (المحسوسات)، لا يحتاج إلى مجيء الأنبياء. لقد جاء الدّين ليُوجد فينا الإيمان بالغيب...
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

145

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 يريد الدّين أن يرفع قدر الإنسان، إلى درجةٍ يتمكّن معها من الاستفادة من القوانين المعنوية، بل ويستخدمُها ضدّ القوانين الماديّة. وعندما تتدخّل وتتصرّف القوانين ما فوق الماديّة، في القوانين الماديّة، نطلق عليها المُعجزة.
 
 القرآن مليء بالمعجزات، ولا أدري ما السرّ في أنّ بعضهم عندما يصل إلى المعجزة في القرآن، يبدأ بالتأويل والتبرير.
 
 فمثلاً، عندما ينشقّ البحر لموسى عليه السلام، يقولون في تفسيره: إنّ البحر في ذلك الوقت كان في حالة جزر، وعندما غرق فرعون، كان البحر في حالة مدٍ، وعندما تحوّلت العصا في يدِ موسى إلى ثُعبان، يقولون: إنّ الغرض منه إثبات قوّة بيان موسى، الذي يغلب على سلاح منطقهم، وبلعَ منطقهم كالثعبان!
 
 إنّ هذه الأقوال، تدلّ على إنكار صريح للقرآن، وتدلّ على عدم الاستقلال الفكري، وتدلُّ على أنّ هؤلاء لم يقبلوا قيادة القرآن، بل يقبلون المبادئ الأخرى، ثم يفسِّرون القرآن على أساسها.
 
 إنّني أنصح هؤلاء: إنّ أصحاب هذا التفكير، الذين يُريدون تطبيق العقيدة الإسلامية مع المبادئ الأخرى، أو إدخال بعض العناصر من تلك المبادئ في الإسلام، إنّ هؤلاء هم في خدمة الاستعمار، شعروا أم لم يشعروا، وإنّ خدمة هؤلاء للاستعمار، أكثر بكثيرٍ من عملاء الاستعمار السياسي، أو عملاء الاستعمار الاقتصادي، وبهذه النسبة تزدادُ خيانتهم للشعب.
 وعلى هذا الأساس، ولأجل المحافظة على ثورتنا الإسلاميّة، من هذه الأخطار في المستقبل، فإنّ من أهم المسائل التي يجب الاهتمام بها، هو المحافظة على استقلالنا الدّيني والإيديولوجي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156

146

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 المعنوية في الثورة الإسلاميّة
 
 
 المعنوية تعتبر الركن الثالث من أركان الثورة الإسلاميّة. لاحظوا، لا يوجد منْ يُنكر ويُخالف هذا الأصل، الذي يقول إنّ المجتمع البشري لا يتمكّن من البقاء، دون أن يحتوي على شيء من المعنويّة.

 وحتّى أصحاب المبادئ الماديّة، الذين يُفسِّرون العالم والمجتمع والحركة تفسيراً ماديّاً، يعترفون أنّ المجتمع يحتاج إلى نوع من المعنويّة.

 يجب أن نرى ما هو المقصود من هذه المعنويّة، التي يقبلها الجميع حتى الماديّين، وكيف نستطيع الحصول عليها؟ يُمكن أن يقول قائلٌ: إنّ المعنويّة التي يقبلها الجميع، تُعتبر مفهوماً سلبيّاً؛ أي إنّ الغرض منها هو عدم السماح، بوجود سلسلةٍ من المعوِّقات؛ بمعنى: إذا وصل المجتمع الإنساني وأفراده إلى مرحلة، لم يكونوا فيها مُعجبين بأنفسهم، ومطيعين لأهوائهم، ولم يهتمّوا بمصالحهم الشخصيّة، ولم يكونوا طمّاعين جَشعين، ولا توجد فيهم العصبيّة القبليّة، والعصبيّة الفُطريّة، بل وحتى العصبيّة المذهبيّة، فإنّ التخلُّص من هذه السلبيّات تحقّق المعنوية، وعلى أساس هذا الاستنتاج، فإنّ عدم وجود هذه القيود يهيّئ الحياة الاجتماعيّة لأبناء المجتمع البشري، لكي يعيشوا بصورةٍ أخوية، وتنعدِم الأنانيّةُ انعداماً تامّاً!
 
 وهنا تكمُن نقطةٌ لطيفةٌ، حيث إنّا إذا سألنا أصحاب هذا اللون من التفكير، كيف يُمكن إيجاد هذه المعنوية المنفيّة؟ يقولون: إنّ هذه الصفات لا تُوجد في ذات الإنسان؛ لأنّه موجودٌ اجتماعي.
 
 وإذا سألنا مِن أين يأتي الطّمع والأهواء الشخصيّة وحبَّ الذات و...؟ يقولون: إنّ جذور هذه الصفات تكمن في الملكية، فالبشريّة كانت تعيش في البداية بصورةِ مجتمع واحد، ووحدة واحدة، ولم يشعر الإنسان بوجود حدٍّ بينه وبين الآخرين، ولم يشعر بوجود "أنا" وأنت"، وعندما ظهرتْ الملكية ظهرت معها الإنّيَة والأنانيَّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157

147

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 فإذا استطعنا القضاء على الملكية، فإنّ المعنوية - بالمعنى الذي نريده - تعمُّ الجميع.
الملكيّة تعني تعلُّق الأشياء وأدوات المعيشة بالإنسان، فعندما يقول أحدٌ: منزلي، سيارتي، محلّي، مالي... فانتساب هذه الأشياء إلى الإنسان تجعله فرداً (أنا)، منفصلاً عن الآخرين، فإذا انعدمت هذه الخصوصيّات، وبدلاً من أن يقول الإنسان "أنا" يقول "نحن"، فإنّ المعنويّة هنا تظهر إلى الوجود.

وبهذا المنطق، فإنّ في هذه النوع من الأخلاق، لا يوجد اسم لله ولا للغيب ولا لما وراء الطبيعة، ولا نجد اسماً للنبيّ أو الدّين أو الإيمان، فالمعنوية الخُلقية تعني إلغاء الأنانيّة، واتِّحاد الأفراد، وإيجاد الوحدة التامّة.

وفي مقابل هذا الرأي يُوجد رأيٌّ آخر يقول: إذا اعتبرنا منشأ الأنانيّة هو تعلّق الأشياء بالإنسان، فلا يمكن نفي هذه الملكيّة، ونفي هذه التعلّقات في جميع الموارد.

فإذا فرضنا أنّنا طبّقنا هذه النظريّة في المال، وأوجدنا وضعاً يخلو من انتساب البيت والسيارة والريح إلى الفرد، فماذا نعمل مع بقية الأمور؟
لا شكّ أنّ المجتمع يحتاج إلى مناصب ودرجاتٍ مختلفةٍ ومراتب متفاوتة، فالحزب مثلاً يحتاج إلى رئيس، ولا بُدَّ للرئيس أن يكون أحد الأشخاص، وهكذا تتفاوت درجاتُ الأفراد حسب مناصبهم.
أو بالنسبة إلى الحكومة، فإنّها تحتوي على المناصب والمراكز المختلفة، وحتى في أكثر المجتمعات اشتراكية، نرى بعض الأفراد يتقدَّمون نتيجة الشُّهرة والمحسوبيّة، ويبقى بعضهم الآخر في زاوية النّسيان.

وأهمّ من هذا موضوع الأسرة، هل يجب أن يكون الزوجان اشتراكيين (من ناحية الحياة الزوجية)؟ فلا يبقى شيء اسمُه "زوجتي" أو "بَعْلي"؛ أي إنّ الاشتراكية الماليّة تنتهي إلى الجنس؟ نعرفُ أنّ هذا أمرٌ محال.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
158

148

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 وبالإيجاز: فإنّه إذا كان تعلُّق وانتساب الأشياء إلى الإنسان، يفصل الإنسان عن المجتمع، ويعطيه الأنانية، فهناك تعلّقات لا يمكن فصلها وقطعُها.

 ومن جهةٍ أُخرى يقول المخالفون للنظرية الأولى: إنّ ما يجعل الإنسان منفصلاً، ويأخذ منه المعنوية – سب تعبيركم - ليس تعلُّق الأشياء بالإنسان، بل إنّه تعلّق الإنسان بالأشياء.

 تعلَّق الإنسان بالأشياء: يعني تلك العلاقة والاتّصال الباطني، الذي يُدعى في لغة الدّين: حُبّ الدنيا، فإذا تعلّقت "أنا" بالبيت، عندئذٍ انفصل عن بقية أبناء البشر؛ لأنّني أتعلَّق بالبيت دون أنْ يتعلّق البيت بي، وأصبحت أنا عبداً مملوكاً للبيت.

 وبعبارة أخرى: إذا وقع الإنسان مضافاً إليه، في الجملة التي يوجد فيها المضاف والمضاف إليه، فإنّ الإنسان لن يتجزّأ إلى قطع مختلفة، وإذا وقع الإنسان مضافاً، فإنّه يتحطّم ويفنى بواسطة المضاف إليه.
 
 أي إنّنا يجب أن نصلحَ الإنسان إصلاحاً داخلياً، ولا يكفي إيجاد بعض التغييرات الشكلية له من الخارج.
 
 وهنا يُطرح هذا السؤال: وهو كيف نتمكّن من القضاء على عبوديّة الإنسان للأشياء؟ الجواب: إنّنا نستطيع ذلك عن طريق عبوديّة الإنسان للحقيقة، التي هي جزء من فطرته، للحقيقة التي خلقته وله معها حُبّ ذاتيّ.
 
 إنّ عبادة الله في الوقت الذي هو عبودية، فإنّها لم تكن تعلّقاً؛ لأنّ التعلّق يكون دائماً مع أمرٍ محدودٍ، يحدّد الإنسان ويصغّره، ولكنّ التعلّق بأمرٍ غير محدود والتوكّل عليه، فإنّه تحرّر محض ولا يوجد فيه محدودية.
 
 يقول حافظ  1مخاطباً ربّه بتعبيرٍ رمزيّ:
 ليتني أبقى إلى الأبد    *    أسيرَ عِشقِكَ وهواك



1  الشاعر والعارف الإيراني الكبير حافظ، توفي سنة 791هـ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

149

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

  فإنّ السعادة الأبدية    *    لا تحصل إلّا لِمَن أسرْته
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
160

150

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 أولئك الذين لهم معرفة مع أدبنا العرفاني، يعرفون أنّ الأدب العرفاني، يعتبر المعنوية في خلاصٍ وتحرّر الإنسان من العبوديّة، والملكيّة بالنسبة إلى الأشياء، وليست المعنويّة تحرُّر الأشياء من مِلكية الإنساني1.
 
 يقول حافظ أيضاً (في بيت من الشِّعر العرفاني:(
 أنا عبدٌ للذي تحت السماء الزَّرقاء  *    بعيدٌ مِن كُلٍّ شيء يأخذ صِبغةَ التعلّق
 وإنّ فكري لا يتعلَّق إلا بالوجه المُشرق  *     الذي يأسِرْ أفكارَ العالمين بحبّه
 
 يجب تحرير الإنسان، ولا يمكن ذلك إلّا بتحرّره من الباطن أوّلاً، وفي الوقت نفسه، فإنّ العلاقات الخارجية أيضاً لها تأثير في الداخل2، إذا كان تعلّق الأشياء بالإنسان، لا يتَّبع أيّ نظامٍ وقانون، ولا يراعي فيه العدالة، فإنّ الارتباط الداخلي أيضاً ينفصم بلا تردّد. وهنا يجدر بنا أنْ نذكر الآية القرآنيّة التي كان يكتبُها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، في كثير من كتبه إلى حُكام البلدان المختلفة، يدعوهم فيها إلى الإسلام:
 ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ﴾3.
 
 وطبيعي أنّ الدعوة تعني أنْ يطلب الفرد من سائر الأفراد، بالتوجّه إلى ما يوجد لديه، مثل أنْ يدعو الشعب العربي الإيرانيين ليتحدوا معاً، ويقصد منه أنْ يتعلّم الإيرانيون لغتهم، ويدخلوا في زمرتهم. 



1 يا بن آدم خلقتُ الأشياء لأجلك وخلقتُك لأجلي (الحديث القدسي).
2   وبالطبع فإنّه يُمكن أنْ نجدَ أفراداً نادرين جداً لا تؤثّر فيهم الظواهر الخارجيّة مهما كانت، ولكن هذه القاعدة شاذّة وليست عامّة.
3  سورة آل عمران، الآية 64.
.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
161

151

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

  ولكن القرآن يقول: هناك كلام واحد ليس فيه صِبغة مجموعةٍ خاصّة، أو شعبٍ أو نظام خاصّ، وأنّه كلام الله الذي خلقنا وخلقكم، ورحمته التي وسعتنا ووسعتكم،

ولطفه الذي يشملكم كما يشملنا. وإنّ القوانين التي تجري على أسسها الخلقة، تسودنا جميعاً على السواء.
 
 إنّ هذه الكلمة السوية هي أن نتّحد معاً، لكي لا نعبد إلّا الله. تعالوا نتحرّر نحن وأنتم من كلّ عبودية وندخل في زمرة عباد الله.
 
 هل اكتفى الإسلام بهذا المقدار؟ أي إنّ الإسلام هل اكتفى بإصلاح الداخل دون التوجّه إلى المظهر الخارجي؟ نرى أنّه يدعو إلى الإصلاح الداخلي (النفسي)، ويعرض موضوع الإصلاح الخارجي مباشرةً، وهو إنّنا يجب أنْ لا نتّخذ أفراداً من البشر، آلهة وأرباباً لنا، وعلينا أنْ نُدمّر التملك والتعبد بين أبناء الإنسان، هذه الرابطة التي تنتهي غالباً إلى الروابط اللاإنسانيّة.
 
 أي إنّ من وجهة نظر القرآن، يجب أن نُصلح نظامنا الروحي والفكري والخلقي والمعنوي، في الوقت نفسه الذي يجب علينا إصلاح النظام الاجتماعي والعلاقات الخارجية، فإذا توجّهنا إلى طرفٍ واحدٍ، فإنّه عملٌ أبتر، يقول القرآن في هذا المجال: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ﴾1.
 
 عندما يرى الإنسان نفسه غنيّاً ومالكاً، تؤثِّر هذه النظرة في ذاته الداخلية وتدمّره. لِمَ هذا التأكيد في التعاليم الإسلاميّة، على أنّ أسعد المعيشة، أن يكون للإنسان كفاف من الرّزق، ولا يحتاج إلى أحد، وأنْ يكتفي بما يحصل عليه بشرف؟ ذلك لأنّ المال والثروة إذا اتخذت جانب الأرباح وأصبحتْ وسيلة يستعين بها الإنسان ليظهر في مظهرٍ مُهمٍ وعظيم. فإن العلاقات الداخلية لا تتمكّن من البقاء في معزلٍ عن تأثير هذا العامل الخارجيّ، وسوف تميل إلى الفساد تحت العامل الخارجيّ لا محالة.



1 سورة العلق، الآيتان 6 - 7.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
162

152

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 ولنرجع إلى مُقدّمة الحديث، ولنرَ هل من الممكن إيجاد تلك المعنويّة، التي تتحدّث عنها اليوم أغلب المبادئ، وتطلق عليها اسم "أصالة الإنسان"، دون أن يكون ذلك التعمّق (في المعنويّة) هو الذي تقترحه الأديان؟
 
 هل من الممكن أن يكون الإنسان موجوداً معنوياً؟ أو بتعبير هؤلاء إنسانياً دون أن يتمكّن من تفسير نفسه والعالم تفسيراً معنوياً؟
 
 وهل يمكن أساساً أن نقبل معنوية فارغة عن الإيمان بالله، والإيمان بالمبدأ والمعاد، والإيمان بمعنوية الإنسان، وأنّ هناك شُعاعاً غير ماديّ يتحكّم ويؤثِّر فيه؟
 
 إنّ إحدى خصائص ثورتنا: أنّها باعتمادها على أساس الإيديولوجيّة الإسلاميّة، فإنّها تستند على معنويةٍ حقيقية، لا تشبه تلك المعنوية التي يقترحها هؤلاء السادة، والتي قد ثبُت بطلانها وإفلاسها.
 إنّ البلدان التي لا توجد فيها الملكية - بادِّعاء اتّباع هذا النوع من المعنويّة المصطنعة -، نرى رواج عدم المعنويّة، والأهواء النفسيّة وحبّ الذات فيها، مثل رواجها في البلاد التي تعترف بالملكية.
 إنّ "ستالين" نموذج رائع من الذين تربّوا في هذه المبادئ، التي تؤمن بأنّ الإنسان أثمن رأسمالٍ؛ وأنّني أتساءل: أين؟ وفي أيّ مجتمع نَمَا وترعرع ستالين؟ لقد كان في مجتمع ليس فيه نظام الملكية.
 فإذا كانت هذه النظرية صالحةً، وهي أنّ الملكيّة الفردية تُنمِّي في الإنسان حُبِّ الذات، وحبِّ الجاه والأهواء النفسية؛ فماذا يقولون بالنسبة إلى ستالين، الذي لا يوجد سند ملكيّةٍ واحدٍ باسمه، ولم يمتلك أملاكاً وبيوتاً متعدّدة؟
 
 فكيف كان هذا الشخص الذي هو ممّن تربّى في أحضان هذه المدارس، ويعترف المؤمنون بهذه المدارس أنّه كان أكثر أفراد البشر حُبّاً للذّات وحُبّاً للشرّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
163

 


153

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 وإنّ الشيوعيّين اليوم - باستثناء فرقة خاصّة - لا ينظرون إلى (ستالين) على
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
164

154

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 أنّه إنسان، ويرون الاستالينيّة مُرادفةً للفاشية، ولا يقلَّ من أمثال (ستالين) في مثل هذه المجتمعات.

 فإن لم نعثر على (ستالين) كبيرٍ، فهناك على الأقلّ عشرات بل آلاف الستالينيين الصِّغار.

 وبهذا الترتيب، لا يزال هذا السؤال الأساسي باقياً، وهو أنّه إذا كانت المعنوية تحصل طبيعيّاً بعد سلب الملكية، فكيف يُمكن إذاً تأويل وتفسير وجود الاستالينييّن الصّغار؟

 إنّ إلغاء الملكيّة لا يكفي دواءً لمعنوية البشر، بل لا بُدَّ من العدالة الاجتماعيّة، لا إلغاء الملكيّة، حيث إنّه مع نفس العدالة الاجتماعيّة، فإنّ جذور المعنويّة تتضعضع.

 إنّ منطق الإسلام هو: تطبيق المعنوية والعدالة معاً في المجتمع، ففي المجتمع الذي يخلو من العدالة، نرى آلاف الآلاف من المرضى النفسيين.

 إنّ الحرمان يُوجد العُقد النفسيّة، والعُقد النفسية تولّد الانفجار؛ أي إنّ المجتمع - بتعبير الإمام علي عليه السلام - إذا انقسم إلى مجموعتين: مجموعة متنعِّمة جدّاً، ومجموعة فقيرة جدّاً، فإنّ الوضع لا يبقى على هذا المنوال، بل يتلو ذلك فساد كبير، فتتعرّض مجموعة إلى أمراض مثل التفرعن والطغيان ومجموعة أُخرى تتعرّض للأمراض الناشئة عن الحرمان والفقر.

 علينا أن نعرض في مجتمعنا موضوع العدالة بالشدّة نفسها التي نعرض فيها مسألة المعنويّة.

 يُوجد في المجتمعات البشريّة - مع الأسف - نوع من الاضطرابات والاهتزازات؛ حيث إنّ أبناء البشر غالباً، يتحرّكون بين حالتي الإفراط والتفريط، ولا يتحرّكون في طريق الاعتدال إلّا قليلاً.

 فلو دقّقنا النظر في مجتمعنا (المجتمع الإيراني): نرى أنّ الحديث عن المعنوية، يكثر في الأقوال والكتابات، طوال خمسين سنة مضت، ولكنّهم لم يتحدّثوا عن العدالة، أو تحدّثوا قليلاً جدّاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
165

155

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 ولكنّ اليوم، يكثُرُ الحديث عن العدالة، ويقلُّ الحديث عن المعنويّة، وهذا خطأ أيضاً؛ فنحن إذا نسينا المعنوية، فقد حرمنا ثورتنا من أحد العوامل التقدميّة.

 ونلاحظ - مع الأسف - في بعض ما يكتبون اليوم، وفي بعض التفاسير حول القرآن، أنّ المعنويّة تُفَسِّر بالماديّات، ويحسبون أنّهم يُدوِّنون للإسلام ثقافة ثوريّة.

 لقد جاء في القرآن في مواضع متعدِّدة كلمات: الآخرة والقيامة و...، ولا شكّ أنّ الغرض منها جميعاً، أنّ بعد هذا العالم الذي نعيش فيه، يوجد عالم آخر، ولكن ربّما يتصوّر هؤلاء أنّ من ضعف القرآن إذْ ذكَر اسماً لعالم آخر؛ ولذلك فإنّهم عندما يصلون إلى كلمة الآخرة، يفسِّرونها بالنتيجة أيّ؛ عملٍ ما أو نضالٍ ما!

 يُريد هؤلاء أنّ يقضوا على الأسس المعنويّة للقرآن؛ ولذلك فإنّهم يركّزون مع الأسف - على مجرّد العدالة.
 يتصوّرون أنّ العدالة تحصل بدون المعنويّة، ولكن يجب أن يعلموا أنّ المعنويّة في القرآن، لا تقبل التأويل والتوجيه.
 
 ومن طرفٍ آخر: فإنّ جناح العدالة، لا يتمكّن من عمل شيء، إذا قطع عنه جناح المعنوية، والمعنوية أساس التكامل في القرآن.

 إنّ هذا التأكيد الشديد على العبادات في الإسلام، يستهدف تقويّة الجانب المعنويّ لروح الإنسان.

 انظروا إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، وكثرة أعماله التي ملأتْ جميع جوانب حياته، ومع ذلك فنرى القرآن يقول:
 ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾1



1  سورة المزمل، الآية 20.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
166

156

المبحث الرابع: أركان الثورة الإسلاميّة

 وفي مكان آخر يؤكّد الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وآله:

﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ﴾1.

وأمّا الإمام علي عليه السلام، ففي الوقت الذي نرى عدالته الاجتماعيّة، نشاهده حاملاً مسحاته يحرثُ الأرض ويتصبَّب عرقاً، وعندما ينتصف الليل يسقط مغشيّاً عليه من خشيّة الله.

إنّها حقائق التأريخ الإسلامي وصريح القرآن الكريم، ولا يمكن تأويل هذه المسائل؛ فكلّ تأويلٍ وتفسيرٍ ماديّ لهذه الأمور تُعتبر خيانةً للقرآن.

إنّ ثورتنا - في المستقبل - تحتاج بجانب العدالة الاجتماعيّة بمقياسها الاجتماعي، إلى معنويّة واسعةٍ شاملةٍ كتلك المعنويّة التي رأينا نظائر منها من النبي والأئمّة عليهم السلام



1  سورة الإسراء، الآية 79.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
167

157

المبحث الخامس: حرّية التفكير والمعتقد

 
 
 
 
 المبحث الخامس: حرّية التفكير والمعتقد
الشهيد الشيخ مرتضى مطهّري
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

158

المبحث الخامس: حرّية التفكير والمعتقد

 أنواع الحرّية
هناك نوعان من الحريّة بالنسبة للإنسان: إحداهما الحريّة الإنسانية، والأخرى الحريّة البهيميّة (الحيوانيّة)؛ أي حريّة الشهوات، حريّة الأهواء والرّغبات النفسية.

ولو أردنا أن نبحث على لسان القدماء، لعبَّرنا عن الحريّة من النوع الثاني بحريّة القوّة الغضبيّة والقوة الشهويّة.

إنّ الذين يبحثون عن الحريّة، لا يهدفون منها الحريّة الحيوانيّة، بل يعتبرونها تلك الحقيقة المقدّسة التي تُسمّى بالحريّة الإنسانيّة.

الإنسان يمتلك قابليات أسمى وأعلى من القابليات الحيوانيّة. هذه القابليات، إمّا أنّها من النوع العاطفي والرغبات، والميول الإنسانيّة العالية، وإمّا أنّها من نوع الإدراكات والتفكيرات، وهذه القابليات الممتازة هي منشأ الحريّات المُتساميّة.

الفرق بين حرية التفكير وحرية العقيدة
هناك اختلاف بين حريّة التفكير وحريّة العقيدة؛ إنّ حرية التفكير ناشئة عن القابلية الإنسانية للإنسان، التي يستطيع بها أن يُفكّر في المسائل المختلفة، وهذه القابليّة البشريّة يجب أن تكون حرَّةً طليقة؛ لأنّ تقدُّم وتكامل البشر رهنٌ بهذه الحريّة، غير أنّ حريّة العقيدة لها خصائص أُخرى. إنّ منشأ كثيرٍ من العقائد المتداولة، هو سلسلة من العادات والتقاليد والعصبيات، ولا توجد هداية ولا حلّ في هذا النوع من العقيدة، بل على العكس من ذلك، فإنّها تُعتبر قسماً من الانغلاق الفكري؛ أي إنّ فكر

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

159

المبحث الخامس: حرّية التفكير والمعتقد

 الإنسان في هذه الحالة بدلاً من أنْ يكون فعّالاً متفتِّحاً، فإنّه يكون منغلقاً مسدوداً، وعند ذاك فإنّ قوّة التفكير المقدّسة - بسبب هذا الانغلاق والانعقاد - تصبح أسيرةً سجينةً في دخيلة الإنسان.
إنّ حريّة العقيدة بالمعنى الأخير، لم تكن مفيدةً فحسب، بل إنّها تسبّب آثاراً ضارّةً جداً، للفرد والمجتمع.

هل يجب أن نقول بالنسبة للإنسان الذي يعبد صخرةً: إنّه قد فكّر ووصل إلى هذا المستوى بصورةٍ صحيحة؟ وبدليلٍ أنّ العقيدة محترمة أيضاً؟ فلذلك يجب أن نحترم عقيدته ولا نمنعه من عبادة الصنم؟ أي إنّنا نعمل ما عمله النبي إبراهيم خليل الله.

إنّ الناس في زمان النبي إبراهيم عليه السلام كانوا جميعاً عبدة أصنام، ذلك أنّه في أحد الأعياد الوطنية، حيث كان الناس كلّهم خارج المدينة، لم يخرج إبراهيم معهم، بل اغتنم الفرصة وأخذ فأسه وذهب إلى الأصنام وحطّمها جميعاً، إلّا الصنم الأكبر فإنّه لم يحطّمه، بل علّق الفأس في رقبته، واستهدف من ذلك: أنّ كلَّ من يذهب لزيارة الأصنام سوف يتصوّر أن الآلهة تحاربت مع بعضها؛ وكانت النتيجة أنّ الصنم الأكبر لمّا كان يتمتّع بقوّة أكبر، فإنّه كسّر وحطّم سائر الأصنام، وبقي لوحده، وبالتالي، يتّضح للناس - بحكم الفطرة - أنّ الأصنام لا تستطيع أن تتحرك من أماكنها، وهذا التفكير يدعوهم إلى التذكّر والتعقّل.

عندما رجع الناس ورأوا ذلك الوضع، غضبوا واغتاظوا، وأخذوا يبحثون عن الفاعل، وبينما هم يبحثون، تذكّروا أنّ هناك فتىً في المدينة، يستنكر هذه الأعمال..
وعند ذلك ذهبوا إلى إبراهيم يسألونه، خاطبهم إبراهيم عليه السلام قائلاً: لما تتهمونَّني؟! إنّ المجرم الحقيقي هو الصنم الأكبر الذي لا يزال حياً، فردّ الناس عليه، أنّ الصنم لا يستطيع القيام بهذه الأعمال! فأجابهم: كيف لا يتمكّن من مجرّد المحاربة (والنزاع فرديّ)، ولكنه يستطيع أن يقضي الحوائج التي حيَّرت البشر.
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
154

160

المبحث الخامس: حرّية التفكير والمعتقد

 يستخدم القرآن في هذا المجال أُسلوباً لطيفاً جدّاً، إذ يقول: ﴿ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ 1﴾؛ أي إنّ هذا الاحتجاج أصبح سبباً في أن يُراجعوا أنفسهم.

إنّ النفس الحقيقية للإنسان في نظر القرآن، هي العقل والتفكُّر الخالص والمنطق الصحيح، يقول القرآن أنّ هؤلاء قد انفصلوا عن أنفسهم؛ وصار هذا التذكُّر سبباً لكي يجدوا أنفسهم، ويعودوا إليها مرّة أخرى.

والآن، كيف نفسّر عمل إبراهيم؟ هل أنّ عمل إبراهيم عليه السلام كان خلافاً لحريّة العقيدة - بمعناها الشائع الذي يقول: أنّ كلّ إنسان يجب أن يكون حراً في عقيدته - أم كان في خدمة حريّة العقيدة بمعناها الواقعي؟

إذا كان إبراهيم يقول: إنّ ملاييناً من البشر يُقدّسون هذه الأصنام، فيجب عليَّ أن أحترمها أيضاً؛ أي إنّه كان يبرز نفس العقيدة الرائجة الآن بكثرة2؛ فهل سيكون هذا عملاً صحيحاً صائباً ومتكاملاً؟ يعتقد الإسلام أنّ هذا العمل إغراءٌ بالجهل وليس خدمةً للحريّة.

وفي تاريخ الإسلام؛ نلاحظ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، عَمِل في فتح مكّة عملاً مشابهاً تماماً لما عمله إبراهيم عليه السلام؛ إنّه حطّم الأصنام بعذرِ حريّة العقيدة3؛ لأنّه رأى أنّ هذه الأصنام، عوامل لتقييد أفكار الناس؛ وقد كانت أفكار البشر مئات الأعوام، أسيرة هذه الأصنام الخشبية والمعدنيّة؛ ولذلك، فإنّ أوّل عملٍ أقدم عليه الرسول بعد فتح مكّة كان تحطيم هذه الأصنام، وتحرير الناس تحريراً حقيقيّاً.
 
 
 
 
 

1 سورة الأنبياء، الآية 64.
2 أي إنّه يقنع بكلِّ تبرير يُقال في حقّ العقائد المتداولة؛ لأنّها شائعة فقط، حتّى ولو كانت خاطئة ومدسوسةً؛ وأنّ الخروج عليها، هو مساسٌ واعتداءٌ على حريّة السائرين عليها.
3 المقصود لما يُفهم من سياق النصّ، وواقع القضية التاريخي؛ هو أنّ الخليل عليه السلام، استخدم نفس السلاح الذي يقول به قومه، من وجوب احترام حريّة العقيدة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

161

المبحث الخامس: حرّية التفكير والمعتقد

 والآن، لو قارنّا بين السلوك وأسلوب العمل هذا، وبين سلوك وأسلوب عمل ملكة بريطانيا - عندما ذهبت في زيارة إلى الهند، كان ضمن برنامج سفرها، زيارة أحد معابد الأوثان، وهناك عندما كان الناس أنفسهم، يريدون الدخول إلى ساحة المعبد، كانوا يخلعون أحذيتهم احتراماً للمعبد؛ ولكنّ الملكة أرادت أن تبرز احتراماً وإجلالاً أكثر، فخلعت حذاءها قبل الوصول إلى الساحة، ثمّ دخلت في أدبٍ كامل - أكثر من الجميع - ووقفت بخضوع أمام الأصنام؛ يقول بعض البسطاء لتفسير هذا الموقف: انظروا إلى ممثّلة شعبٍ متقدِّم كيف تحترم عقائد الناس! وهم غافلون أن هذا من حِيَل الاستعمار؛ الاستعمار الذي يعرف أنّ معابد الأصنام هذه، هي التي قيّدت وأسرت الشعب الهندي وأخضعتهم للمستعمرين. هذه الاحترامات (المزيّفة) ليست خدمةً للحرية، وليس احتراماً للعقيدة، إنّها خدمة للاستعمار، فإذا ما تحرّر الشعب الهندي من هذه الخرافات، فإنّه سوف لن يخضع للإنكليز مرّةً أخرى.
 
 
لا حدود لحريّة التفكير
ولنعُد ثانيةً إلى موضوع حرية التفكير، وكما قلتُ يجب أن لا نخلط بينها وبين حريّة انغلاق الأفكار، كلُّ مبدأ يعتقد ويُؤمن ويعتمد على أيديولوجيته (عقيدته)، فإنّه لا بُدّ أن يُدافع عن حريّة التفكّر والتدبّر، وعلى العكس من ذلك، فكلُّ مبدأ لا يؤمن ولا يعتمد على نفسه، فإنّه يمنحه حريّة التفكير.

إنّني أُعلن أنّ في الجمهوريّة الإسلاميّة، لا يوجد تحديد ولا تقييد للأفكار أبداً، ولا يمكن أن نسمع في ظلِّها خبراً عن حصر الأفكار، يجب أن يكون الجميع أحراراً، ليعرضوا نتيجة أفكارهم وتفكّراتهم الأصلية؛ ولا بدّ أن أُذكِّر بأنّ هذا الأمر، يختلف بالطبع عن المؤامرات والنوايا السيئة، فإنّ التآمر محظور ولا مانع من عرض الأفكار الأصلية.
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156

162

المبحث الخامس: حرّية التفكير والمعتقد

 حرية التفكر والتآمر
تحدَّثتُ مع بعض الشباب الشيوعيين، كانوا يقولون: ما هو النقص والعيب في الشعار الذي يقول: "وحدةٌ، نضالٌ، حريّة؟"1؛ وما رأيكم في ذلك؟ فأجبتهم: لا عيب في هذا الشعار.

قالوا: إذاً، فليكن هذا شعاراً مشتركاً لنا ولكم. عند ذلك سألتهم: أنتم الذين تقولون: الوحدةُ، النضالُ... مَنْ تُناضلون؟ وماذا تريدون من هذا النضال؟ أوليس هدفكم من النِّضال محاربة النظام إضافةً إلى محاربة المذهب2؟ أولستم تعرضون شعاركم في أسلوب غامض وبعبارةٍ مبهمة، حتى تصنّفوا الناس المعتقدين بالمذهب تحت هذا اللواء وتقوموا بإغفالهم تدريجياً؟

إنّني مستعد، لأكرّر هذا الشعار، ولكنّي أُعلن مقدَّماً أنّ غرضي من النضال، هو نضال ضدّ الإمبريالية والشيوعية.

أقولّها بكلِّ صراحةٍ، ولا أخشى أحداً: تعالوا نتكلّمُ بصراحة، أنتم لا تؤمنون بالإمام الخميني، وعندما تتحدّثون مع بعضكم تقولون: نحن نسير مع هذا الرجل حتى مرحلة الانتصار، ثمّ نحاربه... لماذا ترفعون صوَرَه في تظاهراتكم؟ لما تكذبون؟ إنّه ينادي: بالجمهورية الإسلاميّة بكلِّ صراحة، فلماذا لا تصرّحون بما تبتغون؟

إنّ حريّة إظهار العقيدة تعني التصريح بما تفكّرون وبما تعتقدون به حقيقةً، ولكنكم تريدون أن تخدعونا تحت عنون حريّة العقيدة.

إنّ الذي تؤمنون به هو "لينين"؛ إذاً أحضروا صورة "لينين" في تظاهراتكم، وإنّي أتساءل: لماذا ترفعون صورة قائدنا؟ عندما تأخذون معكم صورة الإمام، فإنّكم تريدون أن تقولوا للناس: إنّنا نسير على نهج الإمام، في الوقت الذي تضمرون السير في سبيل آخر، فلم هذا الكذب؟ ولم هذا التحايل؟
 

 
 

1 كان هذا شعار الشيوعيين في سنة 1978 في إيران، أي في الأشهر التي سبقت انتصار الثورة الإسلامية..
2  فيما يبدو، مرادُهُ: أنّهم يظهرون محاربة النظام، ويخفون محاربة المذهب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157

 


163

المبحث الخامس: حرّية التفكير والمعتقد

 علينا أن لا نخلِطَ بين: حريّة الفكر، وبين حريّة الإغفال، وحريّة النفاق، وحريّة التآمر.
وكما أنّنا نصارحكم ونقول لكم: بأنّ نظام الحكم الذي نبتغيه، يختلف عن نظام الحكم عندكم، وأنّ نظامنا الاقتصادي والفكريّ والعقائديّ وتصوُّرنا عن الحياة، يختلف عن اقتصادكم وأسلوب تفكيركم وعقيدتكم وتصوّركم عن الحياة، فصارِحونا أنتم أيضاً في أقوالكم، نحن نتحدّث بصراحة، ليسلك من يريد سبيلنا، ومن لا يريد يسلك سبيلاً آخر.

وأنتم لماذا لا تنطقون بصراحة ودون رياء؟ لماذا تقولون: لنجتمع معاً تحت شعار الحريّة؟ مع أنّكم تقصدون من الحريّة في الدرجة الأولى: التحرّر من الدين؛ وأمّا نحنُ فنقصد من الحريّة، التحرر من جميع أنواع الضغط، ومنها الضغط الشيوعي، إذاً، فإنّ الحرية التي تريدونها، تتفاوت عن الحريّة التي نطلبها.

إنّني أُعلن لجميع هؤلاء الأصدقاء غير المسلمين، عن حريّة التفكير في الإسلام؛ نعم، فكّروا كيفما تشاؤون، وأظهروا عقائدكم مثلما تريدون، واكتبوا ما تشاؤون، فلا خطَر في ذلك، بشرط أن تُعلنوا أفكاركم الحقيقية.

نُلاحظ أحياناً؛ بعض الكتابات التي تدعو إلى الماركسية، تدعو لها تحت ستارٍ إسلاميّ، وهذه خيانة عظمى.

حصّلتُ قبل فترة على كُتيباتٍ حول تفسير القرآن، وأنا لا أعرف - إلى الآن - هل أنّ هؤلاء الكتّاب والمؤلّفين مخدوعون حقاً، أم أنّهم يتعمّدون إغفال الناس؟ إنّني أحتملُ - بالطبع - أنّ هؤلاء مجذوبون إلى المواضيع الشيوعية؛ حيث إنّني كلّما قرأت في كتبهم، رأيتهم يفسِّرون آيات القرآن كلّها، وفقاً لمعتقداتهم الماركسية.

وعلى سبيل المثال يقول القرآن: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾1 ويقول هؤلاء في تفسيرهم: الغرضُ من الغيب: هو الغيب

 
 

1  سورة البقرة، الآية 3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
158

164

المبحث الخامس: حرّية التفكير والمعتقد

 الثوريّ، فالثورة لها مرحلتان: مرحلة الغيب (الخَفَاء)، ومرحلة الشّهادة، فما دام النظام الإمبريالي الحاكم باقياً، لا بدّ أن تأخذ الثورة مرحلة الاستتار أو الغيب، وعندما يتغيّر النظام تبدأ مرحلة الشهادة أو ظهور الثورة.


فمثلاً، نحن في العام الماضي، كنّا في مرحلة غيبة الثورة، وهذا العام نحن في مرحلة شهادة الثورة (الشهادة بمعنى التبيين).

وهنا نسألهم: لما تستندون إلى القرآن؟ أنطقوا بحقيقة كلامكم، وفي هذا المقام لا يستطيع أحدٌ أن يقول: يجب عليكم أن تسكتوا ولا تعترضوا استنادا إلى حرية المعتقد؛ لأنّ هذا لا يرتبط بحريّة العقيدة، بل إنّهم اتّخذوا الكتاب المقدّس للمسلمين (القرآن) آلةً ووسيلة.

إنّ هذا الأمر هو إغفال وتحايل ومؤامرة، والتحايل يعني الخيانة بالنسبة إلى الآخرين؛ أي إنّهم اتخذوا حريّة الآخرين وكرامتهم، وسيلةً (لتحقيق أغراضهم)، ولا يمكن السكوت أمام هذا العمل.

القرآن كتاب سماويّ، إنّه الوحي المجسَّم، كلُّ من يدّعي أنّه لا تُوجد مُعجزة في هذا الكتاب السماويّ، فأعتقد أنّه إمّا جاهل ولا يفهم شيئاً، أو أنّه يكذب وليس بمسلم.

وردت معجزات كثيرة في القرآن ولا نستطيع أن نبحث هذا الموضوع (بالتفصيل) في هذا الكتاب.

ومن المسائل المعروضة في القرآن: قصة أصحاب الفيل1. فممّا أشار إليه القرآن، وممّا نستفيد من كتب التاريخ، أنّ الحبشيين (بقيادة أبرهة) هجموا على مكّة لتدمير الكعبة، هذا المعبد الإبراهيمي، ثمّ ينقل القرآن كيف أنّ الله تعالى أرسل عليهم طيوراً، طارت - فيما يُنقل - من ساحل البحر الأحمر، وأنّ كُلّاً منها

 
 

1 في سورة الفيل التي آياتها: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ ﴾.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

165

المبحث الخامس: حرّية التفكير والمعتقد

 كان يحمل في منقاره حجارةً من سجّيل1. والقرآن يُسمّي هذه الطيور بالأبابيل2، لقد ألقت هذه الطيور سجّيلها على رؤوس الجنود الحبشيين وسقط الجنود جميعاً على الأرض، مَثَلهُم مَثَل محصول القمح، الذي يهجم عليه الجراد، ولا نعلم بعد ذلك تفاصيل الأمر: فهل أنّ الجنود أُصيبوا بالجِّدري أم مرضٍ آخر؟ لا نعلمُ ذلك.
لقد كان زمنُ نزول الفيل بعد أربعين عاماً من حدوث هذه الواقعة في مكّة؛ ولذلك فإنّ كثيراً من الناس الذين شهدوا الواقعة، كانوا موجودين أثناء نزول هذه السورة أيضاً، وبالطبع لو كانت وقائع هذه الحادثة، خلافاً لما يُورده القرآن، فإنّ أكثر هؤلاء الشهود، الذين كانوا أعداء الرسول، كانوا يتّهمونه بالكذب، وبالتالي يسقط حديثه عن الاعتبار.

وعند تفسير هذه السورة يكتبون في كُتَيباتهم: أنّ في ولادة الرسول، كانت تعيش في مكّة جماعة من الثّوار، الذين كانوا في حالة نضال دائمٍ مع الاستعمار العالمي، وبعد أن كشفهم الاستعمار العالمي، وأراد القضاء عليهم، هجمَ على مكّة، وعندئذٍ هجم أعضاء هذه المجموعة عليهم مثل الطيور، وقضوا على جنود الاستعمار.

ثمّ يضيف كاتب التفسير: ولا يهمُّنا إن كان هذا الموضوع، لم يُسجَّل في أيّ تاريخ، فنحن لا نستطيع أن نغيِّر رأينا، بسبب عدم تسجيل هذا الموضوع بهذه الطريقة، في أيّ مكان! واضح أنّ هذا الاستنتاج من القرآن غير صحيح أبداً.

إنّي أنصح هؤلاء الإخوان وأعِظهم: أنّكم لو اطّلعتم على بعض الأشخاص الذين يحتاطون كثيراً في تفسير الآيات، حتى يصل الأمر بهم إلى درجة الوسوسة - وإنّني بالطبع لا أُوافق على ذلك - لوجدتم كيف أنّهم لا يريدون أن يُكتبوا ما يشاؤون باسم القرآن. وفي مقابل هذه المجموعة، يجب أنْ لا نأخذ طريق الإفراط.
يقول الإسلامُ: إنّ العالمَ كلَّه، بما فيه من قوانين، وما فيه من أجزاء، ابتداءً

 
 
 

1 قال الطريحي: سجين وسجّيل: الصلب من الحجارة الشديدة؛ وقيل: حجارة مِن طينٍ طُبِخَت بنارِ جَهَنم، مكتوبٌ فيها أسماء القوم (مجمع البحرين،ج 5، ص393).
2 الأبابيل كما في الآية الكريمة: أي جماعاتٍ في تفرقة: أي حلقة حلقة...؛ وينظر: مجمع البحرين: 5/303.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
160

166

المبحث الخامس: حرّية التفكير والمعتقد

 من الصخرة إلى الريح والطير والسمك... وكل شيء، الكلُّ مسخَّرون لإرادة الحقّ، ويعتبرون من جنود الله.
يكفي أنْ تتعلّق إرادة الحقّ، فتخرج الرياح بصورة جيشٍ أو...

إنّ ذرات الأرض والسماء كُلّها جنود الله.

إذا أراد الله أن يُغيِّر أوضاع العالم، فإنّه يغيّرها كيفما شاء.

إلّا أنّ أصحاب هذه الأفكار - مع الأسف -، لا يريدون أن يخضعوا لهذه الحقائق. فهم يقولون: بما أنّ للمادّة والمادّيات استقرار ذاتي، إذاً لا يُمكن أن تخرج من مسيرها؛ ولذلك فإنّهم يأتون ويفسرون القرآن بهذا النوع من التفسير (التفسير الماديّ).

إنّني أُعلن بصراحة: خطورة نشر مثل هذه الأفكار، التي لا تخدم الإسلام، بل إنّها تخدم الاستعمار.

وللاستمرار في البحث، لا بدَّ أنْ أُوضِّح شيئاً عن الحكومة الإسلامية في إيران؛ فكما قال قائدنا وإمامنا أكثر من مرّة: أنّ الأحزاب حُرّة في ظلِّ الحكومة الإسلامية، فكلُّ حزب حتى ولو كانت عقائده غير إسلامية، فإنّه يستطيع أن يستمر عليها بحريّة، ولكنّنا لا نسمح له بالتآمر والتحايل1.

نحن نرحِّب بالأحزاب والأفراد، متى ما أبرزوا عقائدهم الشخصية بصراحة، ولهم أن يأتوا بمنطقهم لمقابلة منطقنا.

ولكنهم، إذا أرادوا إظهار عقائدهم وأفكارهم تحت لواء الإسلام، فيحقّ لنا أن ندافع عن إسلامنا، ونقول إنّ الإسلام لا يعترف بما يدّعون. يحقّ لنا أن نمنعهم من الاستفادة باسم الإسلام. ولا أظنُّ أنّ مثل هذه الحريّة في البحث، يوجد لها نظير في العالم.
 

 

1 الفرقُ بين قائدنا وسائر القادة والزعماء: أنّه يعمل بما يقول: ولكن الزعماء الآخرين يعِدون الناس بالحدائق الخضراء والغناء في البداية، وفيما بعد ينكرون جميع ادّعاءاتهم السابقة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
161

167

المبحث الخامس: حرّية التفكير والمعتقد

 لا مثيل للحريّة في الإسلام
متى رأيتم في تاريخ العالم، أنّ بلداً يمتلك جميع أهاليه مشاعر وإحساسات دينيّة، يسمحون لأعداء الدّين إلى حدّ، أن يأتوا إلى مسجد النبيّ، أو إلى مكّة، ويتحدّثوا ويبرزوا عقائدهم كيفما يشاؤون، ينكرون الله وينكرون نبوّة النبيّ ويردّون على الصلاة والحجّ و...، ويقولون إنّهم لا يقبلونها، وفي الوقت نفسه يقابلهم المؤمنون المتديّنون بكلِّ ترحاب واحترام.

نرى نماذج مشرقة كثيرةً من هذا في تاريخ الإسلام، وبمثل هذه الحريّات تمكّن الإسلام من البقاء، فإذا كانوا في بداية الإسلام يردُّون على من يأتي ويُنكر وجود الله، بالضّرب والقتل، فإنّ الإسلام لم يكن ليَبقى حتى اليوم، لقد بقي الإسلام إلى اليوم، وذلك لأنّه قابلَ الأفكار بكلِّ شجاعةٍ وصراحة.

لقد سمعتم جميعاً قصّة رجلٍ يُدعى "مفضَّل". كان مفضَّل هذا، من أصحاب الإمام جعفر الصادق عليه السلام، كان يُصلّي يوماً في مسجد النبي، وفي أثناء الصلاة دخل رجلان ماديَّان (أي منكران لوجود الخالق)، وجلسا قريباً منه، وبدآ يتكلّمان بصوتٍ عالٍ بحيث كان يسمعهما.

وفي ضمن حديثهما جرى البحث حول النبي صلى الله عليه وآله، فادّعيا أنّه كان رجلاً عبقرياً، وأراد أن يخلق تحوّلاً وثورةً في المجتمع، فرأى أنّ أحسن السّبل معتقداً بالله واليوم الآخر.

فبدأ "مفضَّل" يهاجمهما، في لهجة قاسية، فقالا له: قُلْ لنا: من أيّ الفرق أنت؟ ومَنْ هو إمامك؟ فإنْ كنت من أصحاب الإمام جعفر الصادق، فعليك أن تعلم بأنّنا نتحدّث بهذه الأحاديث في مجلسه، بل ونعرض أحاديثاً بأقسى ممّا سمعت، ولكنه لم يغضب أبداً، بل يسمع أقوالنا لكلِّ وقارٍ وطُمأنينة، ويردّ في النهاية على جميع أقوالنا، بالدلائل والبراهين، ويصحّح أخطاءنا.

بهذا استطاع الإسلام أن يبقى ويدوم، تُرى مَنْ الذي نقل وعرض أقوال واعتراضات

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
162

168

المبحث الخامس: حرّية التفكير والمعتقد

 الماديّين وحافظ عليها؟وعلى مدى التاريخ الإسلامي؟ هل الماديّون أنفسهم؟ لا، اذهبوا وطالعوا لتروا، أنّ علماء الدّين هم الذين حافظوا على اعتراضات الماديّين؛ أي إنّهم عندما كانوا يعرضون أسئلتهم على علماء الدّين، ويقوم العلماء بالبحث معهم، فإنّ العلماء سجّلوا هذه المباحثات في كتبهم، وبقيت هذه الاعتراضات إلى زماننا هذا، بسبب ورودها في كتب علماء الدّين؛ وإلّا، فإنّ أكثر آثارهم قد اضمحلّت، أو أنّها ليست في متناول اليد.
انظروا على سبيل المثال إلى كتاب "الاحتجاج" للطبرسي1 أو كتاب "بحار الأنوار"2، لكي تروا مقدار ما عرضاه من اعتراضات وادِّعاءات هذه الفئة.

وفي المستقبل أيضاً، يستطيع الإسلام فقط، عن طريق المواجهة الصريحة، والوقوف بشجاعة أمام العقائد والأفكار المختلفة، من الاستمرار في حياته.

إنّني أُحذّر الشباب المعتقدين بالإسلام، أن لا يتصوّروا بأنّ طريق المحافظة على المعتقدات الإسلامية، هو بمنع الآخرين من إبراز عقائدهم.

لا نستطيع حراسة الإسلام، إلّا عن طريق قوة واحدة فقط، ألا وهي قوّة العلم وإعطاء الحريّة للأفكار المخالفة، ومِن ثمّ مواجهتها مواجهةً صريحةً واضحة، لقد كان لثورتنا دوياً عظيماً في العالم.

يُقال في العالم اليوم: إنّ التظاهرات التي تقع هذه الأيّام في إيران3 لم يسبق لها مثيل في التاريخ.

يا إخواني؛ إنّني أتساءل: ما هي القوّة التي تتمكّن من تحريك وإثارة 30 مليوناً

 
 
 

1 من كبار الفقهاء والمفسّرين توفي سنة 548هـ.
وللتوسُّع يراجع معالم العلماء، ص 25، كشكول البحراني، ج1، ص301، إيضاح المكنون ذيل كشف الظنون،ج1، ص31، معجم المؤلفين،ج 2، ص10، أعيان الشيعة،ج 9، ص99، الذريعة إلى تصانيف الشيعة،ج 1، ص281، وغيرها.
2 كتاب "بحار الأنوار" عبارة عن دائرة معارف إسلامية في 110 مجلدات، للعلّامة محمّد باقر المجلسي، المتوفّى سنة 1111هـ.
وللتوسُّع يُراجع: مقدّمة "بحار الأنوار" ج 1، ص 4 - 34؛ بقلم الحجّة: عبد الرحيم الرباني الشيرازي.
3 أيّام الثورة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
163

169

المبحث الخامس: حرّية التفكير والمعتقد

 على الأقلّ من شعب عدده 35 مليون نسمة؟ إنّ الذين قرؤوا تاريخ الثورات في العالم، يعرفون أنّه لم تصِلْ أية ثورة إلى ما وصلت إليه ثورة إيران، من حيث السعة والشمول.
لاحظوا إخواننا الطيّارين على سبيل المثال، ربّما كان قليل هم الذين يتصوّرون مدى قُدرة، وقوّة الأحاسيس والعقائد الدينية، المتفشيّة في صميم وأرواح هذه الطبقة.

إنّهم - وسط دهشة الجميع - يُضربون عن العمل، بإيمانٍ وإخلاص، ولم يخضعوا لأيّة قدرة ولا يُرعبهم أيَّ تهديد. ولكن عندما يأتي الإعلان عن قدوم الإمام، يتطوعون لقيادة طائرته.

تخالفهم السلطة وتهدّدهم - كما نقلوا لي بأنفسهم - وتحذِّرهم من مغبةِ إقدامهم على مثل هذا العمل، مع أنّهم لا يملكون وظيفة ولا منصباً (بعد أنْ أضربوا عن العمل)، بل وتهديدهم بأنّهم إذا قادوا الطائرة، فإنّ الحكومة سوف تقصفهم بالصواريخ وتقضي عليهم.

غير أنّهم يُجيبون: بالرّغم من كلِّ ذلك، فإنّنا عازمون على الحركة، واعلموا ما شئتم، عند ذاك تضطرّ السلطة إلى التراجع، وتسمح بفتح خطٍ واحدٍ من بين جميع الخطوط الجويّة، فيُسمّيه الطيارون: خطّ الثورة، ويا له من اسمٍ بديع!

أين هم أولئك الذين يقولون: إنّ الدّين يخصّ كبار السن، والعجائز وأهالي الجنوب1؟ ألم يُشارك بهذه الثورة، القرويُّ والحضريُّ، العامل والفلاح، الطالب والأستاذ، المحامي والموظّف؟ فما هي القوّة التي تستطيع أن تخلُقَ ثورةً كهذه، غير قوّة العقيدة، وبالأحرى عقيدة مثل الإسلام؟

إنّ هذا الأمل يحيا في قلبي تدريجياً: وهو أنّ الثورة لن تنحصر في إيران، وأنّها سوف تحتضن سبعمائة مليون مسلماً، وسوف يكون الفخر لإيران، حيث أنّ الثورة الإسلامية بدأت منها لِتعمّ كافّة البلاد الإسلامية، ولا شك في ذلك.

أخبروني قبل بضعة أيّام أنّ (كارتر) حذَّر الإمام الخميني: من أنّ القوّتين

 
 
 

1 أهالي الجنوب، كناية عن الفقراء والمستضعفين حيث إنّ معظم سكانه هم من الفقراء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
164

170

المبحث الخامس: حرّية التفكير والمعتقد

 العظميين توافقان على حكومة "بختيار"1؛ وعليه أن يعرف ذلك، ولكن هذا الرجل العظيم لم يهتم بهذا التهديد أبداً.


أنا الذي درست وتتلمذت في محضر هذا الرجل العظيم، قرابة اثني عشر عاماً، فإنّني خلال سفري الأخير إلى "باريس" وزيارتي له، أدركت من روحيّته أشياء، لم تُزد من إعجابي فحسب، بل زادت من إيماني به أيضاً.

عندما رجعت سألني أصدقائي ماذا شاهدت؟ أجبتهم لمست فيه الإيمان بأربعة:
1. إيمانه بهدفه: إنّه يؤمن بهدفه، بحيث لو اجتمع العالم، ما استطاع أنْ يصرفه عنه.

2. إيمانه بسبيله: إنّه يؤمن بالطريق الذي اختاره، ولا يمكن لإنسان أن يحيده عن سبيله، ومثلما كان النبيّ يؤمن بهدفه وبطريقه فإنّه كذلك.

3. إيمانه بشعبه: لم أرَ أحداً قطُّ مثله، من بين جميع أصحابي وأصدقائي، مَنْ يؤمن بمعنوية الشعب الإيراني، ينصحونه أنْ يخفّف قليلاً من مواقفه، قائلين إنّ الشعب بدأ يتراجع تدريجياً، وإنّ معنوياته محطّمة، ولكنه يقول: لا، ليس الشعب "الإيراني" كما تقولون، إنّني أعرفه أحسن منكم، وها نحن نرى جميعاً صدق كلامه يتّضح يوماً بعد يوم.

4. وأهم من ذلك كلّه إيمانه بربّه: كان يقول لي في جلسةٍ: لا تتصوّر أنّنا نحن الذين نعمل هكذا (نقوم بالثورة)، إنّني أرى وألمس يدّ الله بوضوح، إنّ الذي يشعر بقوّة الله وعنايته ويسير في سبيل الله، فإنّ الله يُضيف إلى قوّته النصر، تصديقاً لقوله تعالى: ﴿ إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ 2، وتصديقاً لما يتحدّث به القرآن عن أصحاب الكهف، إذ يقول تعالى: ﴿ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى 3، إنّهم قاموا لله، والله يربط على قلوبهم، ﴿ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا

 
 
 

1 آخر رئيس وزراء للشاه هرب في الأيّام الأولى للثورة إلى باريس.
2 سورة محمّد، الآية 7.
3 سورة الكهف، الآية 13.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
165

171

المبحث الخامس: حرّية التفكير والمعتقد

 رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾1.
إنّني أرى هذه الهداية والتأييد (الإلهيين) بوضوح في هذا الرجل، إنّه قام لله، فمنحه الله تعالى قلباً قوّياً، حيث لا يأتيه الخوف، ولا يتزعزع أبداً.

إنّ الأطبّاء الفرنسيّين، الذين فحصوا - أخيراً - هذا الشيخ، وقد تعرّض خمسة عشر عاماً - على الأقل - للحرب النفسيّة، والتأثُّرات الروحية، وفقد أخيراً ذلك الشابّ الصالح2؛ إنّهم، يعتقدون: بأنّ الإمام يمتلك قلباً، كقلب شابّ عمره عشرون سنة، إنّه الذي يسير في سبيل الله، وقد رأى بالتجربة ما وَعَدَنا القرآن3.

لقد وعد القرآن أنّكم إذا قمتم لله وعملتم من أجل الله، فإنّكم ترون وقتئذٍ عناية الله. تحرَّكْ من أجل الله، لترى الله وترى عنايته.

إنّ الإنسان الذي تحرّك لله، وتوكّل عليه، فإنّه لا يخشى من تهديدات أمريكا، حتى ولو أضيفت إليها تهديدات الاتّحاد السوفييتي.

ولأذكر لكم مورداً آخر من مختصّات هذا الرجل العظيم، هذا الرجل الذي، ينشر ويُرسل في النهار تلك البيانات الثائرة اللاهبة، هو الذي يُناجي ربّه في الأسحار ساعةً واحدةً على الأقلّ، وتُسكب دموعه بطريقةٍ يصعُب تصديقها. إنّ هذا الرجل هو نموذج حقيقي ممّن سار على خُطى الإمام علي عليه السلام.

قيل في الإمام علي عليه السلام إنّه هو الضحَّاك إذا اشتدَّ الضِّراب في ميدان القتال، وهو البكّاء في محراب العبادة بحيث يُغشى عليه من شدّة البكاء.

أتمنّى أنْ يمنح الله هذا القائد عمراً طويلاً ويوفّقه للخدمة، ويوفّقنا جميعاً أنْ نكون حماةً حقيقييّن للإسلام.

 
 

1 سورة الكهف، الآية 14.
2 نجلّ الإمام الأكبر، آية الله السيد مصطفى الخميني، الذي تُوفي في النجف الأشرف في عصر الشاه، وبقي سرّ وفاته غامضاً إلى الآن، (المترجم).
3 إنّ الشهيد مطهّري يُريد أن يقول: إنّ القائد الخميني قد وجد بالتجربة أنّ ما كان لله ينمو، وأنّ مَن كان مع الله كان الله معه.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
166

172

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 

 

 

المبحث السادس: مقولة الحرّية

كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في الملتقى الرابع للأفكار الاستراتيجيّة. الإمام السيد علي الإمام الخامنئي دام ظله

 

 

 

 

 

 

 

 

 

167


173

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 المناسبة: الملتقى الرابع للأفكار الاستراتيجية.

الحضور: جمعٌ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد.
المكان: طهران.
الزمان: 13/11/2012م.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


أوّلاً، إنّني مسرورٌ جدّاً، وفي الحقيقة شاكرٌ كثيراً لكلّ واحدٍ من الحضور، خصوصاً الإخوة والأخوات الذين كانوا قد أتعبوا أنفسهم وحقّقوا وأعدّوا المقالات وبعدها سعوا لتلخيصها، فمن الواضح أنّ المقالات قد تمّ اختصارها بشكل وافٍ، حيث ينبغي لنا أن ننال توفيق الله لنتمكّن من أن نجد وقتاً للاطّلاع على أصول هذه المقالات التي طُبعت ووُضعت بين الأيادي. وبينما أستبعد - أنا العبد - أن أحصل على الفرصة المناسبة لمثل هذا الوقت، لكن على الأعزّاء، أن يرجعوا إلى أصل المقالات ويتأمّلوا فيها لأنّ لدينا عملاً مع هذه المقولة. كذلك أشكّر المدير المحترم والعزيز الدكتور واعظ زاده الذي ـ وبحسب العادة ـ استطاع أن يبيّن الكثير من المطالب بمختصر الكلام، وأن يزيل بقليل من التظاهر العقبات الكثيرة من أمام الأعمال التي ينجزها في شتّى المجالات. حقّاً، لقد بذل جهداً كبيراً هو ومعاونوه.
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
169

174

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 من الضروريّ أيضاً أن أوجّه شكراً خاصّاً لجميع العاملين. حسنٌ، أنتم تشاهدون هذه الأيّام نتيجةً لهذه المطبّات التي أوجدها الاستكبار العالمي، الذي هو في الواقع العدوّ رقم واحد للحريّة، ولبلدنا وللجمهوريّة الإسلاميّة، فيما يتعلّق بالقضايا الاقتصاديّة وتأثيرها على عمل مجموع الحكومة وفي حياة الناس ـ هواجس عامّة في الأجواء السياسية للبلد، فما من أحد منّا فارغ البال من مثل هذه القضايا، ومع ذلك، فإن ّهذا العمل الأساسيّ والطويل الأمد لم يتوقّف أو يتعطّل، أي إنّ هذا الاجتماع والمؤتمر قد أقيم في وقته، بشكل دقيق وكما كان مخطّطاً له. إنّ هذا يسرّني - أنا العبد - لذلك أشكر جميع العاملين عليه.


أهداف الملتقى الاستراتيجي للفكر1
إنّ للجمهوريّة الإسلاميّة عدّة أهداف أساسيّة من وراء إقامة ملتقيات الأفكار الاستراتيجيّة، والتي لا ينبغي لنا أن ننساها أو ندعها تغيب عن أعيننا. أحدها أنّ البلد بحاجة ماسّة، في مجال المقولات المتعلّقة بالبنية التحتيّة إلى الفكر والتفكير. يوجد الكثير من المقولات الأساسيّة، وها نحن نلتقي لبحث المقولة الرابعة1، ونرى أنّنا بحاجة للتفكير بشأنها ونعمل الفكر حولها. أنا العبد، وفي لقاء شهر رمضان، في هذه الحسينيّة، مع مجموعة من الجامعيين ـ لا أذكر ما إذا كانوا أساتذة أو طلبة ـ أشرت إلى كلام أحد الحاضرين وإلى الكلمات التي أُلقيت في العام السابق لذلك اللقاء، حيث كان قد وُجّه إليّ أنّه منذ عدّة سنوات وأنتم تتحدّثون عن قضيّة العلم، والتفتّح العلمي، قوموا بالتركيز على الفكر. لقد فكّرت في ذلك، ووجدتُ أنّ هذا

 
 
 

1يقوم ملتقى الأفكار الاستراتيجيّة ببحث مجموعةٍ من المقولات الفكريّة، وقد عُقِدت سابقاً ثلاث جلسات ٍ بُحث فيها العناوين الآتية:
أ- النموذج الإيراني الإسلامي للتقدّم.
ب- العدالة.
ج- المرأة والأسرة.
وقد انعقد الملتقى الرابع لبحث مقولة "الحريّة".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
170

175

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 الكلام مهمٌّ جدّاً. حسنٌ، وهنا قلنا فلنتحرّك نحو التفكير بالفكر، وتفعيل الأفكار. بالطبع، إنّ لهذه القضيّة ظروفها ومجالاتها وإمكاناتها، ونحن نمتلك بعضاً منها، ونفتقد لبعضها، ويمكننا أن نحصّل بعضها الآخر. إنّ هذا من التحدّيات الأساسيّة لأي شعب، إنّ شعباً مثل شعبنا لا يبقى في مكانه كالمستنقع، بل يتحرّك بشكل دائم كنهرٍ جارٍ. فنحن هكذا، في حالٍ دائمٍ من الجريان والتقدّم. يوجد تصادم ومواجهة مع الموانع لكنّ التقدّم لا يتوقّف. نحن شعبٌ هو هكذا, لذا نحتاج أن نفكّر بهذه القضيّة. وعليه، فإنّ الحاجة الماسّة إلى الفكر في بلدنا، وخصوصاً في المقولات المتعلّقة بالبنية التحتيّة، يُعدّ من أهداف هذه اللقاءات.
هناك هدفٌ آخر، وهو أهميّة التواصل المباشر مع النخب. يمكنني أن آخذ كتابكم وأقرأه، ولكن هذا يختلف عن استماعي لحديثكم منكم مباشرةً، وإن كان بصورةٍ مختصرة. وإنّ هذا الحكم يصدق على جميع الحاضرين الذين شرّفونا هنا. فليستمعوا إلى كلمات وأحاديث بعضهم بعضاً من دون واسطة. هذه قضيّة مهمّة أيضاً.

إيجاد الأرضيّة العلميّة
النقطة الثالثة ـ وهي في غاية الأهميّة ـ ترتبط بإيجاد الأرضيّة العلميّة لتحصيل الأجوبة على الأسئلة المهمّة في المقولات البنيوية والتأسيسيّة. ومثلما أشار بعض أعزّائنا، فإنّنا نواجه أسئلةً وعلينا أن نجد لها الأجوبة. هذه الأسئلة ليست مثيرة للشكوك، أو مبيّنة للشبهات والعقد الذهنيّة فحسب، وإنّما تطرح قضايا أساسيّة لحياتنا الاجتماعيّة. وبادّعائنا، إنّنا جمهوريّة إسلاميّة ونظام إسلامي، تُعدّ هذه طروحات لقضايا أساسيّة. فيجب أن تُطرح ويجب أن يجاب عليها. فهل حُلّت هذه القضيّة؟ وهل لها جوابٌ واضحٌ أم لا؟ إنّنا بحاجة في هذا المجال إلى العمل، فهذا من أهداف هذا اللقاء.
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
171

176

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 بالطبع، لم تكن أيّ من هذه اللقاءات، وهذا اللقاء الذي نقيمه هذه الليلة واللقاءات الثلاثة السابقة، بهدف الحسم والكلام الأخير, فلا أنتم تطرحون آخر الكلام، ولا - أنا العبد - أطرح آخر الكلام، بل إنّنا هنا نقوم بتهيئة الأرضيّة. إنّنا نريد لهذه الحركة أن تنطلق، ومثل هذا الجريان يُعدّ بمثابة عين فوّارة انبجست هنا من أجل أن تجري
سيّالةً فيما بعد. إنّ العمل الأساس يجب أن يبدأ بعد هذا اللقاء, وهو بالطبع ما يحصل على أيدي المحقّقين والأساتذة ذوي الاندفاع والفكر الثاقب، سواء أكان في الحوزة أم في الجامعة. حسنٌ، لقد تمّ إنجاز أعمال بعد اللقاء الأوّل، والذي كان حول النموذج الإيراني الإسلامي للتقدّم ـ لقد بيّن جناب الدكتور واعظ زاده ذلك ـ فهناك أعمالٌ جيّدة قد أُنجزت وهي أعمال أساسيّة. واللقاء اللاحق كان حول العدالة وقد أودع بيد ذاك المركز أيضاً. اللقاء الثالث كان حول الأسرة. وقد جرى القيام بأعمال مهمّة في هذا المجال، سواء أكان في المركز نفسه أم في بعض المؤسّسات التحقيقيّة والمراكز البحثيّة. لقد كان من مطالبي - أنا العبد - أن لا يكون هناك جدولٌ لهذا العمل. فنحن منذ البداية، لم نرغب بأن يكون هناك جدول لهذا العمل. نحن نريد أن يُنجز العمل، فيتّضح الجدول. وقد قلت مؤخّراً للأعزّاء إنّه من أجل أن يتحقّق مبدأ الجريان والاستمرار في الخارج، وخصوصاً بالنسبة لمقولة تتّصف بالتّحدّي كالحريّة، طلبنا من السادة أن يتّبعوا سياسة إعلاميّة منظّمة من أجل أن يتمكّن أصحاب الرأي، والمهتمّون، وبعض الأشخاص الذين قد يصابون بنوع من الخمود أحياناً في هذه المجالات، أو يكونون باحثين عن أيّ ذريعة للاندفاع في هذا العمل، أن يتمكّنوا من الاستفادة من لقائنا في هذه الليلة ويدخلوا في هذا الخضم. لكن من غير المقرّر عندنا أن تكون "الإعلاميات" بالمعنى المتعارف.
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
172

177

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 قضيّة الحريّة
أمّا فيما يتعلّق بموضوع لقائنا الليلة ـ أي قضيّة الحريّة ـ فهناك عدّة نقاط. إنّ الكلمات التي ألقاها أعزّاؤنا هي كلماتٌ ممتازة. في الواقع، إنّ المرء عندما يستمع - وأنا العبد أُعتبر مستمعاً جيّداً وأنصت بالدّقة إلى الكلمات - يستفيد. ولقد استفدنا واقعاً من جميع الكلمات التي ألقاها الأعزّاء ـ من بعضها أكثر ومن بعضها الآخر أقل ـ وهناك نقاطٌ ملفتة. وبالتأكيد، أقول هذا دون مجاملة. ولقد فهمنا أيضاً من مجموع كلمات السادة كم إنّنا نعاني من فراغٍ في هذا المجال. فكلماتكم وأبحاثكم أكّدت على ما كنت - أنا العبد - أحمله من تصوّر، حيث أدركنا كم أنّنا نعاني من نقصٍ في هذه القضيّة. وسوف أشير هنا إلى ما نعانيه من نقص.

مسار الحريّة عند الغربيّين
حسنٌ، الحقيقة هي أنّ بحث الحريّة، بين الغربيين وفي هذه القرون الثلاثة أو الأربعة المصاحبة لعصر النهضة وما بعده، قد شهد تفتّحاً وتبرعماً لا نظير له. والقليل من الموضوعات، كقضيّة الحريّة في الغرب، سواء أكان في مجال العلوم الفلسفية أم في مجال العلوم الاجتماعية أم في مجال الفنّ والأدب، قد طرح في هذه القرون الأربعة، ولهذا علّةٌ وسببٌ أساسيّ عام، وتوجد له أسبابٌ محيطة أيضاً. العلّة العامّة هي أنّ الأبحاث البنيويّة الأصوليّة من أجل أن تنطلق تحتاج إلى حادثة باعثة, أي إنّه في الأغلب يكون هناك إعصارٌ يحرّك هذه الأبحاث الأساسيّة. فالأبحاث العميقة والمهمّة والتي لديها طابع التحدّي، حول هذه المقولات الأساسيّة، لا تنطلق في الأوضاع العاديّة. ينبغي أن تقع حادثة ما لتشكّل أرضية لها. كنّا قد ذكرنا إنّ هذا إشارة إلى العامل الأساسيّ ـ ونحن هنا نذكر هذا العامل الأساسيّ ـ ويوجد أيضاً عوامل جانبيّة. تلك الواقعة كانت واقعة عصر النهضة بالدرجة الأولى ـ

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
173

178

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 النهضة على صعيد مجموع الدول الأوروبية، بدءاً من إيطاليا التي كانت هي المنشأ، وبعدها إنكلترا وفرنسا ومناطق أخرى ـ ثمّ بعد ذلك كانت قضيّة الثورة الصناعيّة التي حدثت في أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر في إنكلترا. لقد كانت الثورة الصّناعيّة بحدّ ذاتها أشبه بالانفجار الذي يفرض على البشر أن يفكّروا وعلى العلماء أن يبحثوا. وبعدها، وفي منتصف القرن الثامن عشر، تحقّقت مقدّمات الثورة الفرنسيّة الكبرى ـ التي كانت أرضيّة اجتماعيّة لتحقّق ثورة عظيمة ـ في منطقةٍ لم يكن فيها مثل تلك الثورات. بالطّبع، كان لها نظيرٌ في إنكلترا قبل مئة أو مئتي عام بنحوٍ مقتضب، إلّا أنّه غير قابل للمقارنة مع ما حدث في الثّورة الفرنسيّة.
كانت مقدّمات الثورة الفرنسيّة عبارة عن الإرهاصات التي تتحرّك تحت الرماد, ذاك الشيء الذي يكون موجوداً تحت سطح المجتمع ويرصده المفكّرون. لم تستفد وقائع وأحداث المجتمع الفرنسيّ من أفكار أمثال مونتسكيو أو روسّو، كما استفاد هؤلاء من وقائع هذا المجتمع في عملية استنباط الأفكار. وكلّ من ينظر سيلحظ هذا الأمر. أنتم تعلمون أنّ مونتسكيو كان خارج فرنسا من الأساس، كان هناك وقائع، وقبل أن يحصل الانفجار الكبير عام 1789م. حسناً، لقد كان انفجاراً عظيماً، ولَكَم تسبّب بالخراب والخسائر. تحت سطح المجتمع والمدينة والبلد، كان هناك الكثير من الحوادث التي تشير إلى وجود مثل هذا التيّار.

بخصوص الحريّة، طرحوا قضيّة العقل. كلا، أقول لكم إنّه ربّما كان هناك أربعة مثقّفين في الثورة الفرنسيّة يتحدّثون بهذه الطريقة، أمّا في ميدان العمل وعلى الأرض فما لم يكن يُطرح هو قضية العقل والعقلانية والتوجّه إلى العقل. كلا، لم يكن هناك سوى قضية الحريّة, وتحديداً التحرّر من قيد الملكيّة والحكومة المستبدّة المهيمنة لعدّة قرون، أي حكومة الأسرة البوربونية1 التي كانت مهيمنة على جميع

 
 

1 إحدى أهم السلالات التي حكمت في أوروبا، وينتمي إليها حاليّاً ملكا إسبانيا والسويد، وأول حاكم من هذه العائلة كان فيليب الخامس (1746م)، حاكم إسبانيا (1700م - 1746م).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
174

179

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 أركان حياة الناس. لم يكن الأمر منحصراً بجهاز البلاط فحسب، بل كان كل واحد من أشراف ونبلاء فرنسا ملكاً. وما سمعتموه عن سجن الباستيل وسجنائه لم يقتصر على عدّة أيّام، بل لعلّه بقي على حاله لعدّة قرون، أي إنّ الوضع كان مزرياً. حسنٌ، لقد كان هناك أشخاصٌ أصحاب فكر مثل فولتير ومونتسكيو وروسّو يشاهدون هذه الأحوال، وكان لديهم الاستعداد للتفكّر والتأمّل، ووصلوا إلى هذه الحالات وتحدّثوا، إلا أنّه لم يكن لكلماتهم أيّ وقع على صعيد وقائع المجتمع وفي مجال العمل داخل فرنسا من الأساس. حسنٌ، انظروا، وستجدون أنّ أياً من الخطب التي كانت تُلقى من قبل الخطباء الكبار ـ كميرابو وغيره ـ لم تكن ناظرة إلى كلمات مونتسكيو وفولتير وأمثالهما، بل كانت كلّها ناظرة إلى فساد الجهاز الحاكم واستبداده وأمثال ذلك. هذه هي واقعيّة الثورة الفرنسيّة.
 

الثورة الفرنسيّة وفجائع الأباطرة
إنّ الثورة الفرنسيّة الكبرى كانت، بأحد المعاني، ثورة فاشلة, فلم يمضِ على الثورة إحدى عشر أو اثنتا عشرة سنة، حتى جاء إمبراطورٌ مقتدر كنابليون، ليصبح ملكاً مطلق الصلاحيّات لم يتمتّع بسلطته حتّى الملوك الذين كانوا قبل لويس السادس عشر المقتول في الثورة! عندما أراد نابليون أن يتوّج نفسه ملكاً جاؤوا بالبابا لكي يضع التاج على رأسه، لكنّ نابليون لم يسمح للبابا بذلك بل أخذ منه التاج ووضعه على رأسه بنفسه! وهنا نضع هذه الأمور كلّها بين قوسين. بالمقارنة مع ثورتنا، لا بأس أن يُتوجّه إلى هذه النقطة: إنّ ما لم يسمح بوقوع مثل هذه الأحداث والفجائع ولو بنحو قليل ولو بنسبة ضئيلة في ثورتنا هو وجود الإمام الخميني، ذاك القائد المتّبَع والنافذ والمُطاع عند الكلّ، هو الذي لم يسمح بذلك، وإلّا فثقوا تماماً أنّه لو لم تقع تلك الأحداث، لحدث ما يشبهها هنا. ففي المدّة الفاصلة ما بين الثورة وظهور نابليون وإمساكه بالسلطة ـ تلك السنوات الاثنتا عشرة ـ جاءت ثلاث جماعات على

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
175

180

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 رأس الحكم، وكانت كل جماعة تأتي إلى الحكم تبيد الجماعة السابقة وتصفّيها، ثمّ تأتي الجماعة اللاحقة وتفعل نفس فعلتها مع من سبقها. وكانت النتيجة أن رزح الناس تحت حياة التّعاسة والشّقاء والفوضى، هكذا كانت الثورة الفرنسية الكبرى. وبالنسبة لثورة أكتوبر الرّوسيّة كان الوضع مشابهاً من عدّة جهات ـ أي إنّها كانت تشبه الثّورة الفرنسيّة الكبرى ـ غاية الأمر إنّه في (ثورة أكتوبر) وُجد وضعٌ خاص وعوامل مختلفة أخرى كانت توجّه الناس بشكل ما وتسيطر عليهم، لا بأس أن يتمّ الالتفات إليها.
 
 
وفي المحافل التي كنت - أنا العبد - أحضر فيها سواء أكان في المحافل التاريخيّة أم في المحافل الجامعيّة ـ لم أكن أرى، وللأسف، توجّهاً إلى هذه القضايا الموجودة في هذه الثورات.

بالطبع، أنتم تعلمون أنّه قد وقعت عدّة ثورات في فرنسا. الثورة الفرنسية الكبرى وقعت في نهاية القرن الثامن عشر، وبعدها بنحو أربعين سنة حدثت ثورة أخرى، وكذلك بعدها بعشرين سنة، وقعت ثورة أخرى وكانت ثورة شيوعيّة. فأوّل ثورة شيوعيّة في العالم حدثت في فرنسا، حيث تمّ تشكيل الكيانات الاشتراكيّة.

بناءً عليه، إنّ عوامل نموّ هذه الحركة الفكريّة كانت على الشكل الآتي: بالدرجة الأولى كان عصر النّهضة. بالتأكيد، إنّ واقعة عصر النّهضة لم تكن واقعة دفعيّة، لقد وقعت أحداثٌ كثيرة على مدى مئتي سنة من بدايات عصر النّهضة، وإحداها كانت قضيّة الثّورة الصّناعيّة، ومنها أيضاً قضيّة الثورة الفرنسيّة الكبرى. كلّ هذه أدّت إلى طرح قضيّة الحريّة، ولهذا تمّ العمل عليها. كتب الكثير من الفلاسفة آلاف الأبحاث والمقالات والكتب. وكُتبت مئات التّصانيف في باب الحريّة في جميع هذه البلدان الغربيّة. بعدها، انتقل هذا الفكر إلى أمريكا وهناك أيضاً عملوا على المنوال نفسه.
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
176

181

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 الحركة الدستوريّة
(أمّا بالنسبة لنا)، فإلى ما قبل المشروطة (الحركة الدستوريّة)، لم يكن لدينا تلك الوضعية من قبيل إيجاد تيّار فكريّ حتى ننشغل بالتفكّر بمقولة كالحريّة. وكانت المشروطة فرصةً ممتازة، حيث مثّلت حادثة كبرى ترتبط مباشرةً بقضيّة الحريّة. لهذا، شكّلت فرصة مناسبة لتحريك واستثارة هذا الحوض الرّاكد لفكرنا العلميّ، سواء أكان في الحوزات الدينيّة أم في غيرها, إعصارٌ ينبعث وتُنجز الأعمال، وهذا ما فعلته.

ثمّ طُرحت الأفكار المتعلّقة بالحريّة، غاية الأمر أنّها كانت تعتريها نقيصة كُبرى لم تسمح لنا بأن نتحرّك على الطريق الصحيح لهذا الفكر أو نتقدّم عليه. وتلك النقيصة هي عبارة عن نفوذ الأفكار الغربيّة تدريجياً إلى داخل أذهان مجموعة من المثقّفين، قبل عدّة سنوات من المشروطة ـ لعلّه لعقدين أو ثلاثة قبلها ـ بواسطة العناصر الأرستقراطيّة، والأمراء وعمّال البلاط. نحن عندما نقول مثقّفين، كان ذلك في العصر الأوّلي مساويّاً للأرستقراطيّة, أي إنّه لم يكن لدينا مثقّف غير أرستقراطي، فالمثقّفون عندنا كانوا بالدّرجة الأولى من رجال البلاط والتّابعين والمريدين لهم، فهؤلاء كانوا قد ارتبطوا منذ البداية بالفكر الغربيّ في مجال الحريّة.

لهذا، عندما تتناولون مقولة الحريّة في المشروطة ـ وهي مقولةٌ حافلةٌ بالصّخب والضّجيج ـ ترون تلك النّزعة المعاديّة للكنيسة في الغرب كشاخص مهم للحريّة، بيد أنّها طُرحت هنا تحت عنوان المسجد وعالم الدّين والدّين. حسنٌ، هذا كان قياساً مع الفارق، فنزعة عصر النّهضة، في الأساس، كانت نزعة معادية للدين وللكنيسة لهذا تأسّست وأقيمت على قاعدة النّزعة الإنسانيّة (الهيومانيزم).

وبعدها قامت جميع الحركات الغربيّة على أساس هذه النّزعة الإنسانيّة واستمرّت

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
177

182

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 إلى يومنا هذا على هذا المنوال. ومع كل الاختلافات التي طرأت، كان الأساس هو النّزعة الإنسانيّة، أي كان الأساس هو الكفر والشرك ـ ولو وُجد مجال لاحقاً فسوف أشير إلى هذا ـ وهذا الأساس بعينه هو الذي وفد إلى بلادنا. أنتم تلاحظون أنّه عندما كان كتّاب المقالات من المثقّفين، والسياسيين، ومن أضرابهم، حتى ذاك المعمّم الذي لبس لبوس المثقّفين، عندما كانوا يكتبون مقالة أو كتاباً بشأن المشروطة كانوا يكرّرون عين الكلمات الغربيّة ولا أكثر. لهذا لم يكن هناك أيّ نوع من التجدّد والتوليد (الخلّاقيّة).
 

استيراد المنظومات الفكريّة
لاحظوا، هذا من خصائص الفكر المقلّد. فأنتم عندما تأخذون هذه الوصفة من طرفٍ ما من أجل أن تقرؤوها وتعملوا بها، عندها لن يكون هناك أيّ معنىً للتجدّد والتوليد. فلو أنّكم أخذتم منه العلم أو الدّافع أو الفكر أو المُثل، وأنزلتموها إلى ميدان العمل والتطبيق سيكون هناك توليد (خلّاقيّة). لكنّ هذا لم يحصل، لهذا لم يتحقّق التوليد فيما بعد. لهذا، لم يطرأ أيّ كلامٍ جديد أو مُثل جديدة أو أي منظومة فكريّة جديدة في مجال العمل المرتبط بالحرّيّة، كما في تلك المنظومات الفكريّة التي للغرب.

الكثير من أصحاب الفكر في الغرب لديهم منظومة فكريّة بخصوص الحريّة. فقد كان لكلّ من الأعمال النقديّة التي دارت حول الليبراليّة القديمة، وتلك التي أُوردت على النّسخ الجديدة لليبرالية والليبرالية الديمقراطيّة وعلى تلك الأشياء ما بعد الليبراليّة، التي تعود مثلاً إلى القرن السابع عشر أو السادس عشر، كان لكلٍّ منها منظومتها الفكريّة, لها بداية، ونهاية، وتجيب عن أسئلة كثيرة. ونحن لم نوجد حبّة واحدة منها في بلدنا، مع أنّ مصادرنا كثيرة، فنحن لسنا فقراء بالمصادر ـ كما أشار الأعزّاء ـ أي إنّنا في الواقع نستطيع أن نؤمّن مجموعة فكريّة مدوّنة ومنظومة

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
178

183

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 فكريّة كاملة في مجال الحريّة، تجيب على جميع الأسئلة الدّقيقة والعريضة للحريّة. بالطّبع هذا ليس عملاً سهلاً، فهو يحتاج إلى همّة. نحن لم نقم بهذا العمل. ففي الوقت الذي لدينا مصادر، قمنا باستيراد منظوماتهم الفكريّة، وهنا كان لكلّ واحد روابطه، فبعضهم كانت لديه روابط مع النّمسا فيأتي بكلام العالم النمساوي، وآخر لديه معرفة باللغة الفرنسيّة فإنّه يأخذ من فرنسا، وآخر مع إنكلترا أو ألمانيا فيقلّد بحسب اللغة الإنكليزية أو ما جاء باللغة الألمانية، فصار الأمر تقليداً. والمعارضون، الذين اعتُبروا معارضين للحريّة لمّا وجدوا هذه الكلمات معادية للدين والمسائل الدينيّة قاموا بمواجهتها، وفي الواقع، دخلوا في هذه المعمعة نفسها، فكلٌّ من هاتين الفئتين علق في هذه القناة الضيّقة.
لدينا اليوم نقصٌ وثغرات وتصدّعات كثيرة. ومع أنّنا نمتلك المصادر فليس لدينا منظومة فكريّة. وفي اجتماعنا اليوم، برأيي إنّ الدكتور بزرغر ـ ما لم أكن مخطئاً ـ هو العزيز الوحيد الذي عرض منظومةً. من الممكن أن تعتبروا أنّ تلك المنظومة ناقصة، فلا اعتراض، لكن علينا أن نتّجه نحو بناء المنظومة, أي أن نضع القطع المختلفة لهذه الأحجية في مكانها، ونصنع لوحةً كاملة، فنحن بحاجة إلى هذا الأمر. ومثل هذا العمل ليس عمل ذرّة أو ذرّتين، أو جلسة أو جلستين، إنّه عملٌ جمعيّ ويحتاج إلى تسلّط ضروريّ، سواء أكان على المصادر الإسلاميّة أم على المصادر الغربيّة، وسوف أذكر هذا أيضاً.

موضوع الحريّة
أذكر هنا نقطتين أو ثلاثاً. المسألة الأولى تتعلّق بتبيين الموضوع. انظروا، لقد أشار الأعزّاء هنا إلى الحريّة المعنويّة بذاك المعنى الذي جاء في بعض رواياتنا، والتي كان قد أشار إليها بعض مفكّرينا كالمرحوم الشهيد مطهّري، وهي أعلى أنواع الفضائل الإنسانية ـ فلا شكّ في هذا ـ غاية الأمر أنّها ليست محل بحثنا. ففي

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
179

184

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 الأساس، إنّ بحثنا ليس بشأن الحريّة المعنويّة التي تعني السلوك إلى الله والقرب من الله والسير في وادي التوحيد، الذي كان من نتاجاته أمثال الملّا حسين قلّي الهمداني1 أو المرحوم السيّد ميرزا القاضي أو المرحوم العلّامة الطبطبائي2، وإنّما بحثنا يتعلّق بالحريّات الاجتماعيّة والسياسيّة، والحريّات الفرديّة والاجتماعيّة، فالقضيّة اليوم في العالم هي هذه.


حسنٌ جداً، من الممكن أن يكون لدينا مئة مسألةٍ أخرى لا يعرف الغرب عنها شيئاً ـ مثال ذاك السلوك المعنويّ وأمثاله فلنبحث ذلك في محلّه. ما نحن بصدده الآن هو الحريّة بهذا المعنى المتداول والرّائج في المحافل الجامعية والسياسية والثقافية لعالم اليوم التي تبحث بشأن الحريّة. نحن نريد أن نبحث فيما يرتبط بهذا (الجانب). إنّ الحريّة المعنويّة بذاك المعنى المتعلّق بالسلوك إلى الله، والقرب من الله، والنّظر إلى الله، وحبّ الله وأمثاله سيكون موضوعاً آخراً في محلّه. هناك حرّيّة أخرى يمكن عدّها بأحد المعاني حريّة معنويّة وهي التحرّر من مخالب العوامل الدّاخليّة المانعة من عملنا الحرّ في المجتمع، أو مانعة من فكرنا الحرّ في المجتمع، كالخوف من الموت والخوف من الجوع، والخوف من الفقر. وقد أشير في القرآن

 
 
 

1هو العارف الجليل الشيخ حسين بن قلّي الهمداني، ينتهي نسبه الى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري. ولد عام 1239هـ. في قرية "شوند" من قرى مدينة همدان.
قال السيد محسن الأمين في كتابه "أعيان الشيعة": "كان فقيهاً أصولياً متكلماً أخلاقياً إلهياً من الحكماء العارفين السالكين..."
توفي في الثامن والعشرين من شعبان سنة 1311هـ.، ودفن في الصحن الحسيني في كربلاء المقدسة.
2 هو العلامة محمد حسين الطبطبائي، يرجع نسبه إلى الإمام الحسن بن علي عليه السلام. ولد في التاسع والعشرين من ذي الحجة 1321هـ (1904م.) في مدينة تبريز في إيران. نشأ وترعرع في أسرةٍ عريقة بالعلم والثقافة، درس على أيدي أكابر العلماء، كان فيلسوفاً وحكيماً، وكان أستاذاً موهوباً، كرّس معظم حياته لتعليم المعارف الإسلامية الحقّة، تخرج من تحت يده العلماء والأساتذة والمفكرون، منهم الشهيد الشيخ وطهري، والشهيد السيد مصطفى الخميني، والسيد موسى الصدر. كتب في مجال الفلسفة والتفسير وتاريخ الشيعة، ومن أبرز كتبه وأهم أعماله "الميزان في تفسير القرآن" في عشرين مجلداً. توفي العلامة قدس سره في الثامن والعشرين من محرم الحرام سنة1402هـ.(1981م.) ودفن بجوار مرقد السيدة المعصومة عليها السلام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
180
 

185

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 إلى هذه المخاوف: ﴿ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ﴾1، ﴿ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 2﴾، وفي خطابه النبيّ: ﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾3. أو الخوف من سلب الامتيازات، فافرضوا أنّ لنا في هذا الجهاز امتيازاً معيّناً، فإنّنا لو قلنا كلاماً وأعملنا مثل هذه الحريّة وأمرنا بالمعروف فإنّنا نسقط. أو الطّمع الذي يؤدّي إلى أن لا أذكر عيبكم، وأن لا أتعامل معكم بحريّة ـ أنتم أصحاب القدرة والسّلطة ـ لأجل أنّني طامعٌ بكم. أو الحسد أو العصبيّات الخاطئة والتي لا محلّ لها، أو التحجّر، فإنّ هذه كلّها أنواعٌ من الموانع الدّاخليّة، والتي يُعدّ التحرّر منها حريّة معنويّة. لهذا لدينا اصطلاحان بشأن الحريّة المعنويّة: أحدهما، ذاك الاصطلاح الأوّل الذي هو عبارة عن العروج إلى الله والقرب من الله وحبّ الله وأمثاله. وهذا لا يدخل في بحثنا أساساً، فله مقولة أخرى. والآخر هو الحريّة المعنويّة بمعنى التحرّر من القيود والأغلال الدّاخليّة التي تمنعني من الذهاب إلى الجهاد، ومن الذهاب إلى المواجهة، ومن أن أتكلّم بصراحة، ومن أن أعلن مواقفي علانيّةً، وتجعلني أبتلى بالنّفاق وأكون ذا وجهين. (فقضية) مواجهة موانع الحريّة قابلة لأن تُطرح للبحث.


نطاق الحريّة في الإسلام
النقطة اللاحقة هي أنّنا نريد أن نتعرّف إلى رأي الإسلام، نحن الذين لا نجامل أحداً. لو أردنا تتبّع الآراء غير الإسلاميّة ـ كل ما تنضجه أذهاننا وتنشئه ـ فإنّنا سنُبتلى بتلك الاضطرابات التي ابتُلي بها المفكرّون الغربيّون في المجالات المختلفة، سواء أكانت في الفلسفة أم في الأدب والفنّ أم في المسائل الاجتماعيّة، أي بالآراء المتضاربة والمتنوّعة والمتضادّة والتي لا يكون لها في الأغلب استمرار وامتدادٌ

 
 

1 سورة المائدة، الآية44.
2 سورة آل عمران، الآية 157.
3 سورة الأحزاب، الآية 37.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
181

186

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 عمليّ. كلاّ، إننا نسعى للتعرّف على رأي الإسلام وموقفه.


فانظروا، إنّنا نصنع لأنفسنا في بحث الحريّة أوّل نطاق1، فما هو هذا النّطاق؟ إنّه عبارة عن أننا نريد رأي الإسلام فنحدّ أنفسنا بنظر الإسلام والإطار الإسلامي، هذا هو أوّل نطاق. ففي بحث الحريّة لا نخشى النّطاق, لأنّه عندما يُقال الحريّة فإنّها في معناها الأوّليّ ـ الذي هو بالحمل الأوّلي الذاتي ـ التحرّر، وأيّ شيء يكون له أدنى منافاة مع هذا التحرّر يصبح ثقيلاً على ذاك الذي يريد أن يبحث بشأن الحريّة، فيسعى نحو الاستثناء، والقاعدة هي عبارة عن التحرّر المطلق. إنّه يسعى نحو هذا الذي يُعبّر عنه "إلّا ما خرج بالدليل"، فيقول: حسنٌ، في هذه المجالات لا يوجد حريّة، وفي تلك المجالات لا يوجد حريّة، وإذا تجاوزنا هذه المجالات يوجد حريّة. هذا هو الخطأ الذي يمكن أن يقع فيه الإنسان في تعامله مع بحث الحريّة. وأنا أقول إنّ الأمر ليس كذلك، فمنذ البداية لا يوجد فرضيّة مسبقة تريد أن تمنحنا الحريّة المطلقة ـ حيث سأذكر هنا ما هو منشأ الحريّة في الإسلام من الأساس، فليس لدينا منذ البداية مثل هذا الفرض المسبق بأنّ الحريّة المطلقة هي حقّ الإنسان ومرتبطة به وأنّها قيمة له، وهنا ننظر لنرى ما هي هذه الاستثناءات، فأيّ منها تحت عنوان "ما خرج بالدّليل", كلّا، القضيّة ليست كذلك، إنّنا لا نخشى التحديد والنّطاق، فمثلما قلت إنّ أوّل نطاقٍ وضعناه بشأن أبحاث الحريّة في الإسلام هو أن نقول في "الإسلام"، أي إنّنا نضع لها منذ البداية إطاراً ونحدّد لها نطاقاً من الخطوة الأولى. فما هي الحريّة في الإسلام وما هو معناها؟ فمثل هذا صار نطاقاً. كلّا، إنّ بحثنا في الأساس هو هذا.

في الآية المعروفة من سورة الأعراف المباركة يقول: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ

 
 

1 النطاق بمعنى الإطار والحد، وقد استخدم القائد كلمة " محدوديت" أي القيد والحد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
182

187

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ 1، إنّ هذه أوضح آية في القرآن حول الحريّة، حيث تضع الإصر. والإصر هو تلك الحبال التي تُربط بها الخيمة من أجل أن لا تطيح بها الرّياح، وهي التي تُربط بإحكام بالأرض، ولكنّه أخلد إلى الأرض، هذا هو الإخلاد إلى الأرض. فأواصرنا هي تلك الأمور التي تربطنا بالأرض وتمنعنا من التحليق. والغلّ هو تلك السلسلة المعدنية التي جاء النبيّ من أجل رفعها. في هذه الآية، وقبل أن يقول: ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾، يقول: ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ ﴾2 فماذا يعني الحلال والحرام؟ الحلال والحرام يعني وضع الحدود والمنع، وهما متلازمان مع الممنوعيّة. فمن الأساس، لا ينبغي أن نأبى وجود الحدود والمنع في أذهاننا أثناء البحث حول الحريّة.


الحريّة في منطق الغرب
بعض السّادة قالوا بوجود اختلافات جوهريّة بين الإسلام والغرب في النّظر إلى الحرّية ونظرية الحريّة. ففي الغرب، طُرحت الليبراليّة بالخصوص، وبالطبع، يوجد مذاهب أخرى، لكنّها جميعاً مشتركة بهذه الجّهة. أجل، صحيحٌ أنّ هذه الاختلافات التي ذكرها السّادة موجودة، لكنّ الاختلاف الأهم هو أنّ منشأ الحريّة في الليبرالية تحت عنوان الحقّ أو القيمة هو عبارة عن النّزعة الإنسانية, لأنّ محور عالم الوجود والاختيار في عالم الكون هو هذا الإنسان، وذلك لا يكون ذا معنى من دون الاختيار، لهذا يجب أن يكون حاصلاً على الاختيار والحريّة. وبالطبع إنّ هذا الاختيار غير الاختيار في "الجبر والاختيار". لقد طرح بعض السّادة "الجبر والاختيار". إنّ بحث الاختيار في "الجبر والاختيار" هو أنّ الإنسان لديه قدرة الاختيار ـ القدرة الذاتية والطبيعية ـ لكن هنا إنّ الحديث عن الاختيار يقول حقّ الاختيار، فلا يوجد تلازم

 
 

1 سورة الأعراف، الآية 157.
2 سورة الأعراف،الآية 157.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
183

188

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 قطعيّ بين القدرة على الاختيار وحقّ الاختيار. بالطبع، يمكن أن نفرض مجموعة من اللوازم لكن ليس معلوماً أنّها ستكون مقنعة هكذا. لهذا فإنّ ما يقولونه هو هذا، إنهم يقولون إنّ الإنسان هو المحور، أي أنّ ربّ عالم الوجود في الواقع هو الإنسان، ولا يمكن أن يكون موجوداً من دون قدرة الاختيار والإرادة. أي إنّه من دون إعمال الإرادة ـ والتي هي المعنى الآخر للحريّة ـ لا يوجد إمكان أن نفرض أنّ الإنسان هو صاحب الاختيار في عالم الوجود. هذا هو أساس بحث الحريّة. وهذا هو مبنى الفكر الإنسانيّ بشأن الحريّة (الهيومانيزم).


الحريّة في منطق الإسلام
أمّا في الإسلام فالقضيّة منفصلة تماماً عن هذا الأمر. ففي الإسلام المبنى الأساسيّ للإنسان هو التوحيد. بالطبع، لقد ذكر الأعزّاء بعض الموارد الأخرى أيضاً ـ وهي أيضاً صحيحة، لكنّ النقطة المركزية هي التوحيد.والتوحيد ليس منحصراً بالاعتقاد بالله، بل هو عبارة عن الاعتقاد بالله والكفر بالطاغوت والعبودية لله وعدم العبودية لغير الله: ﴿ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ﴾1، لا يقول ولا نشرك به أحداً، بالطبع، هناك موردٌ جاء فيه كلمة أحدا، لكنّه هنا بمعنىً أعم، حيث يقول لا نشرك به شيئاً. فلا نجعل أي شيء شريكاً لله, أي إنّكم إذا اتّبعتم العادات دون دليل فهذا خلاف التوحيد، وإذا اتّبعتم البشر يكون كذلك، وهكذا في مورد الأنظمة الاجتماعية ـ فكل ما لا ينتهي إلى الإرادة الإلهية ـ يكون في الواقع شركاً بالله، والتوحيد هو عبارة عن الإعراض عن هذا الشرك: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ 2﴾، يوجد الكفر بالطاغوت وبعده الإيمان بالله، حسنٌ، هذا معناه تلك الحرية، فأنتم أحرارٌ من

 
 

1 سورة آل عمران، الآية 64.
2 سورة البقرة، الآية 256.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
184

189

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 جميع القيود غير العبودية لله.


أنا العبد، وقبل سنوات في صلاة الجمعة في طهران، تحدّثت عن بحث الحريّة في عشرة أو خمس عشرة جلسة، وقد أشرت هناك إلى مسألة وقلت: نحن في الإسلام نعتبر أنفسنا عبيداً لله، لكن في بعض الأديان الناس هم أبناء الله. قلت ذاك مجاملة، إنّهم أبناء الله وعبيدٌ لآلاف البشر، عبيدٌ لآلاف الأشياء والأشخاص! الإسلام لا يقول هذا، بل يقول كن ابناً لمن تشاء ولكن كن عبداً لله فقط. لا ينبغي أن تكون عبداً لغير الله. فأساس المعارف الإسلامية في مورد الحرية ناظرٌ إلى هذه النقطة.

هذه اللّماظة لأهلها
ذاك الحديث المنقول عن أمير المؤمنين، وبالظاهر عن الإمام السجّاد خ، يقول: "أوَلا حرٌّ يدع هذه اللُّماظة لأهلها"1، هذه هي الحريّة ـ ألا يوجد حرٌّ يترك هذا المتاع الحقير ـ اللُماظة هي سوائل الأنف أو تلك التي تخرج من فم الحيوان الوضيع، ليتركها لأهلها؟ إلى هنا لا يُفهم شيء. من الواضح أنّ الحرّ هو الذي يترك هذا الأمر لأهله ولا يسعى نحوه. فيقول بعد ذلك، "فليس لأنفسكم ثمنٌ إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها". من المعلوم أنّهم يريدون أن يجعلوا لتلك اللماظة قيمة وثمناً, أي إنّهم كانوا يقدّمون تلك اللُماظة ليبادلوا بها أنفسهم ووجودهم وهويّتهم وشخصيّتهم، فالقضيّة أنّ هناك معاملة تجري وهو ينهى عنها. فإذا أردتم أن تقوموا بهذه المعاملة فلماذا تبيعون أنفسكم لقاء هذه اللُماظة؟ بل اجعلوا ذلك فقط مقابل الجنّة والعبودية لله. لهذا، فإنّ النقطة المركزية هي هذه. بالطبع يوجد نقطة مركزية أخرى هي عبارة عن الكرامة الإنسانيّة، والتي تشير إليها "وليس لأنفسكم ثمن إلا الجنّة"، حيث ندخل الآن في هذا البحث.
 

 
 

1 تحف العقول، ص390. وقد وردت في نهج البلاغة، ج4، ص105، بصيغة: ألا حرٌّ يدع هذه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
185

190

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 مصادرنا سبقت الأوروبيّن

ويوجد نقطةٌ أخرى وهي أنّنا في تمسّكنا بالمصادر الإسلامية ـ مثلما أشار بعض السّادة يوجد مصادر قرآنية وغير قرآنية وحديثية كثيرة وكثيرة, حيث كنت، أنا العبد، قد وجدت فرصة ومجالاً للبحث في تلك السلسلة من الخطب في ذلك الوقت، ووجدت عدّة من تلك المصادر وقرأتها في صلاة الجمعة تلك. لا ينبغي أن نكون بصدد هذا الأمر فقط وهو أن نثبت أنّه لم يكن الغرب ولا أوروبّا من أهدانا بحث الحريّة, لأنّه في بعض الأحيان نستخدم هذا مقابل من يقول: لماذا إنّ بعض المتغرّبين يقولون إنّ هذه المفاهيم قد علّمنا إيّاها الأوروبيون، كلا، إنّ عظماء الإسلام قد ذكروا ذلك قبل ظهور هذه الأبحاث في أوروبا بقرون. حسنٌ جداً، هذه فائدة، لكن الأمر لا ينبغي أن يكون هكذا فقط. يجب علينا أن نرجع إلى المصادر كي نتمكّن من استنباط تلك المنظومة الفكرية المتعلّقة بالحريّة من مجموع تلك المصادر.

زوايا البحث في الحريّة
النقطة الأخرى هي أنّه يمكننا أن نبحث بشأن الحريّة من أربع زوايا نظر: إحداها من منظار الحقّ بالاصطلاح القرآني، لا بالاصطلاح الفقهي والحقوقي، وسوف أشير إلى هذا بشكل مختصر موضّحاً. وإحداها من منظار الحقّ بالاصطلاح الفقهي والحقوقي، الحقّ والملك، والحقّ في قبال الملك، وإحداها من منظار التكليف. وإحداها أيضاً من منظار النظام القيمي.

الحقّ بالاصطلاح القرآني
وبرأيي، البحث الأوّل هو الأهم, أي أن نعمل على الحرّية من منظار الحقّ بالاصطلاح القرآني، فالحقّ في الاصطلاح القرآني ـ والذي لعلّه تكرّر في القرآن

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
186

191

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 كمصطلح الحقّ أو عبارة الحقّ أكثر من مئتي مرّة، وهو أمرٌ عجيبٌ جدّاً. والحقّ في القرآن له معنىً عميق ووسيع، حيث إنّه يمكن بشكل مختصر ومجمل التعبير عنه بكلمتين بمعنى سطحيّ وبمعنى جهاز منظّم وهادف. فالله تعالى في آيات عديدة من القرآن يقول إنّ كل عالم الوجود قد خُلق على أساس الحقّ: ﴿ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾1، ﴿ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ 2﴾، أي إنّ نظام أو جهاز عالم الوجود وجهاز الخلقة ـ من جملتها وجود الإنسان الطبيعي بمعزلٍ عن قضية الاختيار والإرادة في الإنسان ـ هو جهازٌ مصنوعٌ ومُعدّ، ومترابط ومتّصل ببعضه بعضاً، وله نظامٌ وهدف. فيما بعد يبيّن هذه المسألة نفسها بشأن التشريع - لقد أشرت في مورد التكوين إلى بعض الآيات - وفي مورد التشريع يقول: ﴿ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾3، ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾4، ﴿ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾5، فهذا الحقّ وذاك الحقّ، هذا في عالم التكوين وذاك في عالم التشريع. ويعني ذلك أنّ عالم التشريع متطابق مئة بالمئة مع عالم التكوين بحسب الحكمة الإلهيّة. ويمكن لإرادة الإنسان أن تخرّب بعض زواياه., لأنّه متطابق مع عالم التكوين، والجهة هي جهة الحقّ ـ أي إنّ كلّ ما ينبغي أن يكون، تقتضيه الحكمة الإلهية ـ لهذا، فإنّ تلك الحركة العامّة والكلّية ستتغلّب في النهاية على جميع هذه الأعمال الجزئية التي تتعدّى هذا الطريق وتتخلّى عنه وتنحرف. لكن، من الممكن أن تحصل أنواعٌ من المخالفات، هذا هو عالم التكوين وهذا هو عالم التشريع. ومن موادّ هذا العالم إرادة الإنسان، ومن موادّ هذا التشريع حريّة الإنسان، فهذا هو الحقّ إذاً. وبهذه النّظرة نتطلّع إلى قضية الحريّة وهي حريّة الحقّ مقابل الباطل.

 


1 سورة الدخان، الآية 39.
2 سورة الجاثية، الآية 22.
3 سورة البقرة، الآية 176.
4 سورة البقرة، الآية 119.
5 سورة الأعراف، الآية 43.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
187

192

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 الحقّ بالاصطلاح الحقوقي

وبمنظارٍ آخر يكون بلحاظ الحقّ بالاصطلاح الحقوقيّ حيث قلنا إنّه يُعطى قدرة المطالبة ـ أي لديه خصوصيّة تمكنّه أن يطالب بشيءٍ ـ وهو أمرٌ يختلف مع بحث الاختيار في حقّ الاختيار في "الجبر والاختيار".

ومنها قضية التكليف حيث ينبغي أن ننظر إلى الحرّية من منظار تكليفٍ ما. فليس من الصحيح أن نقول: حسنٌ جداً إنّ الحريّة أمرٌ جيّد لكنّني لا أريد هذا الشيء الجيّد، كلّا، لا يصحّ ذلك، يجب على الإنسان أن يسعى إلى الحرّيّة، سواء أكانت حريّته أو حرّيّة الآخرين. فلا ينبغي أن يسمح لأحدٍ أن يبقى في الاستضعاف والمذلّة والمحكوميّة.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً"1. ويقول القرآن أيضاً: ﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ ﴾2؛ أي إنّكم مكلّفون بتحقيق حريّة الآخرين ولو بالقتال، حيث إنّ هذا أيضاً يرتبط بأبحاثٍ متنوّعة.

النقطة الرابعة هي القيم. حيث إنّ هذا الأمر بحسب نظام القيم الإسلامية يُعدّ من عناصر الدّرجة الأولى. بالطبع، هو تلك الحرية الموجودة.

حسنٌ، سوف أختم كلامي حول مقارنة ما عندنا مع الآراء الغربية، نحن الذين نريد أن نبحث بشأن قضية الحرية ونحقّق ونتقدّم، فهذه نقطة أساسية. حسنٌ، إنّ الأبحاث التي قام بها السادة والسيدات كلّها تشير إلى وجود هوّة عميقة بين نظرة الإسلام ونظرة الغرب، وهذا أمرٌ صحيح. هذا هو الأمر. إنّ المنشأ الأساس ـ كما ذكرنا ـ هو أنّ مِلاك الحرية ومعيارها هناك هو بحث سيادة الإنسان، وهنا بحث سيادة الربّ، العبودية لله والتوحيد الإلهي, وهذا محفوظٌ في مكانه. تارة ننظر إلى الآراء الغربيّة ونرى أنّها لا تمتلك نتاجات جيّدة وواقع القضية هو هذا ليس غير. وهنا كلّ هؤلاء المفكّرين البارزين والعظماء كانوا قد تحدّثوا حول الحرّية وبحثوا، فأين هم الآن؟ أين هو عالم الغرب بلحاظ

 
 
 

1 نهج البلاغة، رسالة31.
2 سورة النساء، الآية 75.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
188

193

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 العمل والسّلوك، بلحاظ تلك الأمور التي ذكروها وأرادوها؟ وتلك الأطر التي تمّت رعايتها وملاحظتها ليس لها وجود. فلو فرضنا أنّ ما نراه اليوم في واقع الغرب هو ترجمة عمليّة لها تماماً (أي لتلك الأطر) فإنّ وضعهم عندئذٍ سيكون سيّئاً جدّاً, وذلك لأنّ حال الغرب اليوم بلحاظ الحريّة هو حالٌ مؤسفٌ وسيّئ, أي إنّه لا يمكن أن يستحقّ أي دفاع.


الحريّة الاقتصاديّة
نجد الحرّية الاقتصادية اليوم في الغرب على تلك الشاكلة التي أشار إليها السّادة. في الدائرة الاقتصادية: توارث المناصب الاقتصادية بواسطة أشخاص معدودين. فلو استطاع أيّ إنسانٍ أن يوصل نفسه بالاحتيال أو التزوير أو أي شكل آخر، إلى ملعب المتسلّطين الاقتصاديين، فإنّ كل شيء يصبح له. بالطبع، لا ينظرون في أمريكا إلى السوابق الأرستقراطية، خلافاً لأوروبا والتقاليد الأوروبية حيث تولى هذه القضايا مقداراً من الأهميّة، وكان ذلك في الماضي أكثر واليوم قد تضاءل. وفي أمريكا لا يوجد مثل هذه السوابق الأرستقراطية والأسرية وأمثالها. فهناك يمكن لأيّ شخصٍ ـ ولو كان حمّالاً ـ أن يستفيد من منصبٍ ما وأن يوصل نفسه إلى تلك النقطة العالية للرأسمالية، ويصبح في مصاف الرأسماليين ويتمتّع بالامتيازات التي هي من مختصّاتهم. في ذاك الميثاق الذي أعدّه الأمريكيون، فإنّ أحد الكبار والروّاد وبناة أمريكا اليوم ـ الذي عاش قبل قرنين، ولا أذكره الآن، وعلى وجه التقريب بعد الثورة الفرنسية الكبرى بمدّة قليلة، حيث وقعت تلك الأحداث في أمريكا وتشكّلت تلك الدّولة ـ يقول إنّ إدارة أمريكا يجب أن تكون بأيدي أولئك الذين يتمتّعون بثروتها. إنّ هذا أصلٌ عام ولا يستنكفون عنه أبداً. فثروة البلاد بيد هذه الجّماعة ويجب عليهم أن يديروا البلاد بأنفسهم, وهي النقطة المقابلة تماماً لما أراده أخونا العزيز أن يحصل من خلال (الجمعيات) التعاونيّة التي يحقّ فيها للجميع أن يكون لهم الإدارة ولو بحصّة ما. حسنٌ، هذه هي حريّتهم الاقتصادية.
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
189

194

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 الحريّة السياسيّة

وفي المجال السياسي أنتم ترون لعبة التنافس هذه بين الحزبين، التي يحتكرون الساحة السياسية من خلالها، ولا شك بأنّ عدد الأشخاص الذين يتّبعون هذين الحزبين هو أقلَ بكثير من 1%. أساساً، إنّ هذه الأحزاب ليس لها امتداد حقيقيّ وواقعيّ في عمق المجتمع, فهي في الواقع ملاعب لتجمّع جماعة. أولئك الذين يأتون ويصوّتون، فإمّا إنّهم يقعون تحت خدع الشّعارات، أو تحت تأثير سلطة الإعلام الذي هو في الغرب غنيٌّ جدّاً ومتطوّر، وخصوصاً في أمريكا التي هي بلحاظ القدرات الإعلاميّة وقلب الوقائع متقدّمة علينا، بمسافة هي ما بين الأرض والسماء ـ فهم يقلبون الأسود إلى أبيض والأبيض إلى أسود ـ وأصبحوا متطوّرين وفعّالين في هذه المجالات بشكل خارق. فهم يقودون الناس بمثل هذه الوسائل.

الحريّة في القضايا الاخلاقيّة
وفي مجال القضايا الأخلاقية، ها هي قضية الشذوذ الجنسيّ التي ذكرتها أختنا العزيزة، فتلك المفاسد الموجودة. لا شكّ أنّه يوجد بعض القيود الى الآن، وهذه القيود كما يستشرف الإنسان ستزول بسرعة أيضاً، أي في منطقهم لا ينبغي أن يكون هناك أي مانع من الزّواج من المحارم، والزنا بالمحارم. فلو كان على سبيل الفرض، الملاك وجواز الشذوذ الجنسي والحياة المشتركة من دون زواج هو ميل الإنسان، حسناً، فلو أنّ شخصاً رغب على سبيل الفرض بأن يفجر بأحد محارمه، فلماذا ينبغي أن يكون هناك مانع؟ فبذاك المنطق لا يوجد مثل هذا المانع. وبحسب القاعدة هذه سوف تزول هذه الموانع وسوف تُسحب منهم.

بناءً عليه، إنّ وقائع المجتمع الغربي سيّئة جداً ومرّة وبشعة، وبعضها يبعث على النّفور، فلا وجود للعدالة ولا لأيّ شيء من هذا القبيل، بل هناك التمييز العنصري

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
190

195

المبحث السادس: مقولة الحرّية

 والاستبداد، وفي مجال القضايا العالمية إشعال الحروب. فإنّهم، ومن أجل أن تحصل مصانع الأسلحة على المال، وأن لا يفلس ذلك المصنع، يشعلون الحروب بين شعبين! يأتون إلى بلدان الخليج الفارسي ويخوّفونها من إيران ومن الجمهوريّة الإسلاميّة من أجل أن يبيعوها الفانتوم والميراج! ومثل هذه الأعمال يقومون بها على نحو دائم.


أمّا تعاملهم مع المقولات الشريفة ـ كحقوق الإنسان والسيادة الشعبية ـ فإنّه تعاملٌ انتقائيّ. إنّ تعاملهم سيّئٌ جداً وغير أخلاقيّ مع هذه المقولات. لهذا، فإنّ حال الوقائع الحالية للحياة في الغرب، ذاك الغرب الذي تحدّث فلاسفته بهذا المقدار عن الحرية فيه، هو حالٌ سيّئٌ في الواقع.

إنّ المرء عندما ينظر إلى هذه النّظريّات يرفضها فيما بعد، هذا هو نحوٌ من النّظر. أنا العبد أعتقد أنّه لا ينبغي اعتماد هذا النظر بشكل مطلق. أجل، إنّ هذه الوقائع وإلى حدٍّ كبير تشير إلى أنّ أولئك المفكّرين الذين ابتعدوا عن الله واستغنوا عن هدايته واعتمدوا فقط على أنفسهم، ابتلوا بالضلالة، وأضلّوا أنفسهم وقومهم وجعلوا أنفسهم جهنّميين وكذلك أقوامهم، فلا شكّ في ذلك. غاية الأمر، إنّني أفكّر بهذه الطريقة: إنّ مراجعتنا لآراء المفكّرين الغربيين وتضارب الآراء الموجودة عندهم، ومع هذه الريادة في المجال المتعلّق بتنظيم الأفكار وسبك المنظومات وترتيب الموضوعات، سيكون مفيداً لمفكّرينا، بشرطٍ واحد وهو عدم التقليد, لأنّ التقليد هو ضدّ الحريّة. لا ينبغي أن يحصل التقليد، لكنّ نوع عملهم يمكن أن يكون مساعداً لكم.

لقد كتبنا هنا كلمات أخرى لكنّ الوقت تأخّر كثيراً، خصوصاً بالنسبة لي أنا العبد، لا أبقى بحسب العادة مستيقظاً إلى هذا الوقت. إنّ حضور السّادة المحترمين والأخوات والأعزاء يبعث نشاطاً في الإنسان يبعد عنه النوم، قيل: "عندما تصل إلى الحبيب فإنّك تفقد النّوم والأكل". نومه الآن في هذه الليلة قد تأخّر لكنّ أكله سيكون في خدمة السّادة إن شاء الله.


والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
191

196
نهضة الإنسان: الإنسان والثورة والحرية عند أعلام الفكر الإسلامي الأصيل