غريب خراسان شهادة الإمام علي الرضا عليه السلام


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-06

النسخة: 0


الكاتب

معهد سيد الشهداء

هو مؤسسة ثقافية متخصصة تعنى بشؤون النهضة الحسينية ونشرها، وإعداد قدرات خطباء المنبر الحسيني وتنميتها، معتمدة على كفاءات علمائية وخبرات فنية وإدارية... المرتكزة على الأسس الصحيحة المستقاة من ينبوع الإسلام المحمدي الأصيل.


المقدمة

 بسم الله الرحمن الرحيم

 
والصّلاة والسَّلام على سيّد الأنبياء والمرسلين محمّد وعلى عِترته وأهل بيته المظلومين المعصومين، الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.
 
الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام ، أحد أئمّة أهل البيت عليهم السلام ..
أخبر عنه جدّه أمير المؤمنين عليه السلام قبل ولادته، مبشّراً به ومنذراً لما يجري عليه من بعده. فعن النعمان بن سعد قال: قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام : "سيقتل رجل من ولدي بأرض خراسان بالسمّ ظلماً، اسمه اسمي، واسم أبيه اسم ابن عِمران موسى عليه السلام ، ألا فمن زاره في غربته غفر الله تعالى ذنوبه ما تقدّم منها وما تأخّر، ولو كانت مثل عدد النجوم، وقطر الأمطار، وورق الأشجار"1
 
وعن صادق العترة الطاهرة عليهم السلام مشيراً إلى ولده الكاظم عليه السلام : ".. يخرج الله عزّ وجلّ منه غوث هذه الأمّة وغياثها، وعلمها، ونورها، وفضلها، وحكمتها، خير مولود وخير ناشىء، يحقن الله عزّ وجلّ به الدماء، ويصلح به ذات البين، ويلمّ به الشعث، ويشعب به الصدع،2 
 
 
 
 

1- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج2، ص289.
2- الشعب كالمنع: الجمع والتفريق، والإصلاح والإفساد، وهو من الأضداد، والصدع: الفرقة.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

1

المقدمة

 ويكسو به العاري، ويشبع به الجائع، ويؤمن به الخائف، وينزل الله به القطر، ويرحم به العباد، خير كهل وخير ناشىء، قوله حكم، وصمته علم، يبيّن للناس ما يختلفون فيه، ويسود عشيرته من قبل أوان حلمه..."1

 
وعن الحسين بن زيد قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام يقول: " يخرج رجل من ولد ابني موسى، اسمه اسم أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام إلى أرض طوس، وهي بخراسان، يقتل فيها بالسمّ، فيدفن فيها غريباً، من زاره عارفاً بحقّه أعطاه الله تعالى أجر من أنفق من قبل الفتح وقاتل"2
 
لقد كان هذا الإمام العظيم نوراً من أنوار الإمامة الإلهيّة التي أشرقت على هذا العالم، وقد ظهرت من بركات وجوده الكثير من المعارف والعلوم والفضائل، يقول وليّ أمر المسلمين الإمام السيّد عليّ الخامنئيّ : " الإمام الثامن هو وليّ نعمة، معنويّاً وفكريّاً وماديّاً "3
 
إلّا أنّ هذه الأمّة لم تعرف قدر هذا الإمام عليه السلام ، كما لم تعرف قدر غيره من أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، فعمدوا إلى ظلمهم وقتلهم وتشريدهم..
 
تَباً لهمْ مِنْ أُمَّةٍ لم يَحفظُوا       عَهدَ النبيّ بآلهِ الأمجادِ
 
 
 

1- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 314
2- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج2، ص286.
3- الكلمات المضيئة ص 87.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
8

2

المقدمة

 قد شَتَّتوهمْ بين مقهورٍ ومَأْ      سُورٍ ومنحورٍ بسيفِ عِنادِ

 
هذا وهم عترةُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، وذرّيتُه وأولاده الذين أوصى بهم. فقد رووا عنه صلى الله عليه وآله وسلّم قوله: ".. وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي"1
 
وقد عانى الإمام الرضاعليه السلام من حاكِم زمانه ما عاناه، حتّى مضى شهيداً مسموماً غريباً، كما أخبر بذلك عنه آباؤه وأجداده، وأخبر هو عن نفسه، حينما قال له رجل من أهل خراسان: يا ابن رسول الله رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في المنام كأنّه يقول لي: كيف أنتم إذا دفن في أرضكم بضعتي2، واستحفظتم وديعتي، وغيّب في ثراكم نجمي؟ فقال له الرضا عليه السلام: " أنا المدفون في أرضكم، وأنا بضعة من نبيّكم، وأنا الوديعة والنجم، ألا فمن زارني وهو يعرف ما أوجب الله تبارك وتعالى من حقّي وطاعتي، فأنا وآبائي شفعاؤه يوم القيامة، ومن كنّا شفعاؤه يوم القيامة نجا، ولو كان عليه مثل وزر الثقلين الجنّ والإنس.."3
 
 
 

1- صحيح مسلم، ج 7 ص 123، كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب من فضائل عليّ رضي الله عنه.
2- البضعة بالفتح القطعة من اللحم، وقد تكسر، أي أنّها جزء منّي كما أنّ القطعة من اللحم جزء من اللحم.
3- الصدوق: الأمالي ص 121

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

3

المقدمة

 هذا الكتاب:


وإنّ من حقّ هذا الإمام علينا ونحن من محبّيه وأتباعه أن نستذكر أحواله وتاريخه وما جرى عليه، ونذكّر الناس بذلك، إحياءً لأمره، وإظهاراً لفضله، علّنا نكون بذلك ممن يحيي أمرهم فلا يموت قلبه يوم تموت القلوب.
ولهذا قام معهد سيّد الشهداء للمنبر الحسينيّ بإعداد هذا الكتاب " غريب خراسان" ، ليكون واحداً من الإصدارات التي يصدرها ضمن سلسلة مجالس العترة، ليكون معيناً للأخوة القرّاء، ومساعداً لهم في المجالس التي يقيمونها في ذكرى شهادة هذا الإمام العظيم.

وقد راعا هذا الإصدار الأمور التالية:

أدرجنا ثلاث قصائد من الشعر القريض، ليتسنّى للقارئ الكريم اختيار ما يشاء منها.
أضفنا للكتاب العديد من الأبيات الشعبيّّة الدارجة والمفهومة إلى حدٍّ ما.
ذكرنا موجزاً عن حياة الإمام عليه السلام، ولم نستقص كلّ شيء عن حياته المباركة، لئلا يخرج الكتاب عن حدّ الإيجاز، واتكالاً منّا على جدارة الأخوة القرّاء من جهة أخرى.
قمنا بتخريج المصادر والمراجع لكلّ ما ورد في المتن، لتسهيل الرجوع إليها لمن أحبّ.
وفي الختام، كلّنا رجاء أن يلقى هذا الكتاب القَبول والرضا من إمام 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
10

4

المقدمة

 زماننا عجّل الله تعالى فرجه، وأن يزوّدنا الأخوة القرّاء بإرشاداتهم وملاحظاتهم الهامّة والبنّاءة، لنصل بعملنا إلى المستوى اللائق والمقبول..


هذا ونسأله تعالى أن يتقبّل منّا ومن الجميع، وأن يرزقنا شفاعة مولانا عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، إنّه سميع مجيب.
 
 
معهد سيّد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسينيّ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

5

المقدمة

 القصيدة الأولى: لبعض الأدباء: 

 
اللهُ أكبرُ إنَّ الدِّينَ قد كُسِفَتْ                   ذُكاهُ1 لَمَّا ابنُ موسى حَلَّ تِرْبانا
 اللهُ أكبرُ إنَّ العِلمَ قد نضبَتْ                  بحارُهُ لابْنِ موسى بعدَ ما بانا
يا غِيرةَ اللهِ قلبُ الكونِ قَلَّبَهُ                  سُمٌّ يُقَطِّعُ للأحشاءِ ألوانا
وبَضْعةٌ مِنْ رسولِ اللهِ بضَّعَها                بالسُمِّ مَنْ بَضَّعَ القرآنَ طُغيانا 
قضى الرِّضا نَحبَه سُمّاً فحينَ قضى           قضى الهُدى عادِماً للحقِّ تِبْياناً
قضى غريبُ خُراسانٍ بِغُصَّتِهِ                 نفسِي الفِدا لِغريبٍ في خُراسانا
لَيْتَ النبيّ يراه قاذِفاً كبِداً                     كانتْ لدِينِ الهدى قلباً وعُنوانا
ليتَ النبيّ يراه للرَّدى غَرَضاً                 مُعالِجاً سَكَراتِ السُّمِّ لَهفانا
 لقد ذوَى عُودُ رَيْحانِ النُّبوَّةِ إِذْ              قضى الذي كانَ للأملاكِ رَيْحان
 
أبوذيّه:
 
ابوجهي هالدهر ما يوم بسّم               من هظمه غديت انظلم بالسم
مثل الرضا الضامن مات بالسم            غريب الدار ما عنده تجيّه
 
 
 

1- أي نوره وشعلته وتوقّده.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

6

المقدمة

 شعبيّ:


يا عين على الرضا صُبّي الدمع دم      عزيز الروح بفراش المرض تم
خلص قلبه بونينه ومرِّده السم          سقط من ساعته ومدّد الرجلين
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

7

المقدمة

 القصيدة الثانية: للسيّد عبد الحسين شكر: 

 
ماذا أَطلَّ بعالَمِ التكوينِ                     فتَجلْببَتْ آفاقُها بشجونِ
أقيامةٌ للحَشرِ قامتْ أم تَرى الـ             ـسَّبْعَ الطِّباقَ هَوتْ على الأَرَضِينِ
 أمْ غابَ عنْ آفاقِها بدرُ الرِّضا             شمسُ الهدايةِ منْ بني ياسينِ
لا غَرْوَ أَنْ حَزِنَ الوجودُ على فَتىً          هُوَ عِلَّةُ الإيجادِ والتكوينِ
للهِ رُزْءٌ هَدَّ أركانَ الهدى                   مِنِ بعدِه قُلْ للرزايا هُوني
حُطِمَتْ قناةُ الشرعِ حُزناً بعدَهُ             وَبكتْ بِقَاني الدمعِ عينُ الدِّينِ
للهِ يومٌ لابنِ مُوسى زَلزلَ الـ               سَّبْعَ الطِّباقَ فأَعولتْ بِرَنينِ
يومٌ به أشجَى البَتُولَةَ خائِنٌ               يُدْعى بعكْسِ الأمرِ بالمأمونِ
يومٌ به أضحى الرضا مُتَجرِّعاً            سُمّاً بكأسِ عداوةٍ وضُغُونِ
جَعلوهُ في عِنبٍَ ورمَّانٍ لكيْ              يَخْفَى على عَلاَّمِ كلِّ مَصُونِ
أَوَما دَرَوْا أنَّ الخلايقَ طوعُهُ             في عالَمِ التكوينِ والتدوينِ
لكنَّه لَبَّى نداهُ مَنِ ارْتضَى                 مَثْوىً له في دارِ عليّينِ1
 
 
 

1- انظر: الكوكب الدرّي من شعراء الغريّ ص 360
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

8

المقدمة

 أبوذيّه:


ثمين ابدرر ما تقدر تسمَّه              عجيبه اشلون يالطاغي تسمَّه
والأعجب بعد من هذي تسمَّه          غريب وهوّه سلطان الرعيّه

شعبيّ:

أصبحت طوس ابزلزال والخلق كلّها ابعويل             لجل ابو محمّد تزلزل يا خلق عرش الجليل
أعلام السود منشورة اومدامعهم تسيل                  اهتزّت السّبع العليه اوبالأرض صار انقلاب
اوقام شبله ايغسّله والدمع من عينه هِمه                مدِّده اعلى المغتسل والماي جاه من السَّمه
اوبالطفوف احسين جدّه اتغسّل بفيض الدمه            اوشافت عياله ابيِسُرْهَا من عقب عينه العذاب
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

9

المقدمة

 القصيدة الثالثة: للسيّد صالح النجفيّ المعروف بالقزوينيّ 

 
يا أرضَ طوسٍ تجاوزْتِ السَّماءَ عُلاً            إِذْ لابْنِ مُوسَى الرِّضا ضُمِّنْتِ جُثمانا
 فكَمْ أَجَرْتِ طَرِيداً أَمَّ مُلْتجِئاً                     وكمْ أَغَثْتِ صريخاً ظَلَّ حَيْرانا 
لِتَهْنَ طوسُ بأنْ أضحتْ معالِمُها                للشمسِ بُرْجاً وللأملاكِ أَوْطانا 
فيا غريباً قضى بالسُّمِّ منفرداً                    أبكَى الأعادِي وأَصْمَى1 الإِنْسَ والجانا 
يا مُفجِعَ العُرْبِ في توقيعِ رِحْلتِهِ                ومُودِعَ القلبِ بالتوديعِ نيرانا 
ودَّعْتَ جَدَّك والأهلينَ تُخْبِرُهمْ                   لذاكَ آخِرُ عهدِي فيكمُ كانا
فهل درَى البيتُ بيتُ اللهِ أنْ هَدَمَتْ              منه عُتاةُ بني العبّاسِ أركانا 
 وهل دَرتْ هاشِمٌ أنَّ ابْنَ سَيِّدِها                 قضى غريباً مَرُوعَ القلبِ حَرَّانا
وهل درى مَنْ بهِ كوفانُ قدْ فخَرتْ              بما انْطَوى مِنْ فَخارٍ في خُراسانا 
وهل درَى الكَرْخُ ما في طوسَ منْ نُوَبٍ        جَلَّتْ وقُوعاً وما منها الرِّضا عانى
 وهل درَى مَنْ بسامُرَّاءَ أَنْ غَدرَتْ              أعداؤُهُمْ بالرِّضا ظلْماً وعُدوانا 
فَلْتَبْكِهِ الأرضُ حُزناً والسَّماءُ دَماً                والإنسُ والجنُّ والأملاكُ أشجانا2
 
 
 

1- أي أصابها.
2- انظر: الأمين السيّد محسن: المجالس السنيّة ج 5 ص 612
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

10

المقدمة

 أبوذيّه:


الرضا مات ابغرب مسموم وحده               ولا واحد نعاه ابحزن وحده
ما سمعت امن النسوان وحده                   او عليه تنصب عزه لابن الزكيّه

شعبيّ:

مات الرضا وارتجت الفقده أرض طوس      او طلعت الشيعه امفرّعه او تلطم على الروس
وارجالها اتنادي علي تفداك النفوس          او نسوانها بالدور نصبت له عزيّه
الله ايعين امحمّد ابهاذي المصيبه               مرة يجي الطوس او يرد مرّه الطيبه
ايسلّي العيله اللي بقت لجله امريبه           متخوفه الغايب جرع كاس المنيّه

فوگه انحنى ايودّعه او يحب خدّه او نحره     لمّن قضى نحبه نهض مكسور ظهره
اتولّى جهازه او شيّعه ابنفسه الگبره        او رد للمدينه اينشّف ادموعه الجريّه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

11

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 الإمام الرضا عليه السلام ثامن الأئمّة الاثني عشر، الذين نصّ عليهم النبي ّصلى الله عليه وآله وسلم: عليّ بن موسى بن جعفر، بن محمّد، بن عليّ، بن الحسين، بن عليّ، بن أبي طالب، صلوات الله عليهم أجمعين.. 

 
سِتَّةُ آباءٍ هُمُ ما هُمُ        أَفْضَلُ مَنْ يَشْرَبُ صَوْبَ الغَمام 1 
 
ولادته:
 
ولد عليه السلام في المدينة المنوّرة سنة ثمان وأربعين ومائة 2، وذلك في الحادي عشر من ذي القعدة على الأشهر3، وقيل: لإحدى عشر ليلة خلت من ربيع الأوّل سنة ثلاث وخمسين ومائة من الهجرة بعد وفاة أبي عبد الله عليه السلام بخمس سنين4 .
 
شهادته:
 
وقبض في صفر في آخره5 من سنة ثلاث ومائتين، وله يومئذٍ خمس وخمسون سنة6. وقيل: في السابع عشر من صفر7، وقيل: في 
 
 
 

1- مرتضى العامليّ جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام ص 139.
2- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 486، المفيد: الإرشاد ج 2 ص 247.
3- القمّي: منتهى الآمال ج2 ص 403. 
4- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلامج 1 ص 28. 
5- الطبرسيّ: إعلام الورى بأعلام الهدى ص 303.
6- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 247، الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 486.
7- الكفعميّ: المصباح ص 692.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

12

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 شهر رمضان لتسعٍ بقين منه1، وقيل غير ذلك.

 
ومشهده بطوس من خراسان في القبّة التي فيها هارون إلى جانبه ممّا يلي القبلة، وهي دار حميد بن قحطبة الطائيّ، في قرية يقال لها: "سناباد" قرب "نوقان"2
 
كنيته وألقابه:
 
كنيته: أبو الحسن. 
 
وأمّا ألقابه فعديدة: كان يقال له: الرضا، والصادق، والصابر، والفاضل، وقرّة أعين المؤمنين، وغيظ الملحدين، والرضيّ، والوفيّ، والصدّيق، وسراج الله، ونور الهدى، وغيرها...، وأشهرها الرض3
 
فقد كان الأئمّة عليه السلام من بعده يسمّون بـ "ابن الرضا"4
 
وزعم قوم أنّ المأمون سمّاه الرضا لمّا رضيه لخلافة العهد. فعن البزنطيّ أنّه قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن موسى عليه السلام: إنّ قوماً من مخالفيكم يزعمون أنّ أباك إنّما سمّاه المأمون الرضا لمّا رضيه لولاية عهده؟ فقال عليه السلام: "كذبوا والله وفجروا، بل الله تبارك وتعالى سمّاه بالرضا عليه السلام لأنّه كان رَضِيَ لله عزّ
 
 
 

1- الصدوق: عيون أخبار الرض عليه السلامج 1 ص 274. 
2- المفيد: الإرشاد ج2 ص 271. وخراسان بلاد واسعة تضمّ مدناً كثيرة، منها طوس، وهي عبارة عن مدينتين، إحداهما طابران والأخرى نوقان، وسناباذ قرية من قرى نوقان على مسافة ميل منهامقدار دعوة أي مسافة بلوغ صوت، وهي التي فيها دار حميد بن قحطبة المدفون فيها هارون، وإلى جنبه دفن الإمام الرضا. لاحظ: ياقوت الحمويّ: معجم البلدان ج 2 ص 350، وج 4 ص 49، وج 5 ص 311، وج3 ص 259. 
3-انظر: الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلامج2 ص 279، وابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 396.
4- مرتضى العامليّ جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرض عليه السلام ص 404.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

13

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 وجلّ في سمائه، ورَضِيَ لرسوله والأئمّة بعده صلوات الله عليهم في أرضه". قال: فقلت له: ألم يكن كلّ واحد من آبائك الماضين عليهم السلام رَضِيَ لله عزّ وجلّ ولرسوله والأئمّة بعده عليهم السلام؟ فقال: "بلى"، فقلت: فلم سمي أبوك عليه السلام من بينهم الرضا؟ قال: "لأنّه رضي به المخالفون من أعدائه كما رضي به الموافقون من أوليائه، ولم يكن ذلك لأحد من آبائه عليهم السلام، فلذلك سمّي من بينهم الرضا" عليه السلام"1

 
وكان موسى بن جعفر عليه السلام يسمّي ولده عليّاً عليه السلام الرضا، وكان يقول: "ادعوا لي ولدي الرضا، وقلت لولدي الرضا، وقال لي ولدي الرضا، وإذا خاطبه قال: يا أبا الحسن"2
 
والدته الطاهرة:
 
وأمّه أمّ ولد تكنّى: أمّ البنين3، وقد ذكر لها العديد من الأسماء: كالخيزران المرسيّة، وشقراء النوبيّة، (وقيل أنّ شقراء لقب لها)ونجمة، وأروى، وسكن، وسمان، وتكتم، وهو آخر أساميه5، وعليه استقرّ اسمها حين ملكها أبو الحسن موسى6 عليه السلام. قال بعضهم: والدليل على أنّ اسمها تكتم قول الشاعر
 
 
 

1- الصدوق: عيون أخبار الرضاعليه السلامج 1 ص 22.
2- المصدر السابق ص 23.
3-الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 486، الصدوق: عيون أخبار الرضاعليه السلامج 2 ص 26، الطوسيّ: تهذيب الأحكام ج 6 ص 83.
4-لأربليّ: كشف الغمّة في معرفة الأئمّة ج 3 ص 49.
5-لصدوق: عيون أخبار الرضاعليه السلامج 1 ص26.
6-لمصدر السابق ص 24.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

14

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 يمدح الرضا عليه السلام: 

 
أَلا إنَّ خيرَ النَّاسِ نَفْساً ووالِدا     ورَهْطاً وأجداداً عليّ المُعَظَّمُ
أَتَتْنا بهِ لِلْعِلْمِ والحِلْمِ ثامِناً         إماماً يُؤَدِّي حُجَّةَ اللهِ تَكْتُمُ1
 
ولمّا ولدت الرضا عليه السلام سمّاها الإمام الكاظم عليه السلام الطاهرة 2
وذكرت حميدة المصفّاة- أمّ أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام - أنّها رأت في المنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لها: "يا حميدة هبي نجمة لابنك موسى، فإنّه سيولد له منها خير أهل الأرض، فوهبتها له"3..
 
وكانت من أفضل النساء في عقلها ودينها وإعظامها لمولاتها حميدة المصفّاة، حتّى أنّها ما جلست بين يديها منذ ملكتها إجلالاً لها، فقالت لابنها موسى عليه السلام: يا بنيّ إنَّ تكتم جارية ما رأيت جارية قطّ أفضل منها، ولست أشكّ أنّ الله تعالى سيطهّر نسلها إن كان لها نسل، وقد وهبتها لك فاستوصِ بها خيراً4 .. 
 
وتحدّث السيّدة نجمة أمّ الرضا عليه السلام عن فترة حملها ووضعها له فتقول: لمّا حملتُ بابني عليّ، لم أشعر بثقل الحمل، وكنت أسمع في منامي تسبيحاً وتهليلاً وتمجيداً من بطني فيفزعني ذلك ويهولني، فإذا انتبهت لم أسمع شيئاً، فلمّا وضعته وقع على الأرض واضعاً يده على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء يحرِّك شفتيه، كأنّه يتكلّم، فدخل إليَّ أبوه موسى بن جعفر عليه السلام، فقال لي: "هنيئاً لك يا نجمة كرامة
 
 
 

1-المصدر السابق ص 25، والطبرسيّ: إعلام الورى بأعلام الهدى ص 302.
2- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 24.
3- الطبرسيّ: إعلام الورى ص 302.
4- المصدر السابق ص 302، والصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج1 ص 24.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

15

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 ربّك"، فناولته إياه في خرقة بيضاء، فأذَّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، ودعا بماء الفرات فحنّكه به، ثمّ ردَّه إليّ وقال: "خذيه فإنّه بقيّة الله تعالى في أرضه"1.

وكان الرضا عليه السلام يرتضع كثيراً وكان تامّ الخلق، فقالت أمّه: أعينوني بمرضعة، فقيل لها: أَنَقصَ الدَّر2؟ فقالت: لا أكذب، والله ما نقص، ولكن عليّ وِردٌ من صلاتي وتسبيحي وقد نقص منذ ولدت3.
 
مع أبيه الإمام الكاظم عليه السلام:
 
وكان والده الإمام عليه السلام يحيطه بالرعاية والمحبّة الخاصّة، فعن المفضّل بن عمر قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام، وعليّ عليه السلام ابنُه في حِجره وهو يقبِّله، ويمصّ لسانه، ويضعه على عاتقه، ويضمّه إليه ويقول: "بأبي أنت وأمّي، ما أطيب ريحك، وأطهر خلقك، وأبين فضلك؟!" قلت: جعلت فداك لقد وقع في قلبي لهذا الغلام من المودّة ما لم يقع لأحد إلا لك، فقال لي: "يا مفضّل هو منّي بمنزلتي من أبي عليه السلام ذرّيةٌ بعضها من بعض والله سميع عليّم" قال: قلت هو صاحب هذا الأمر من بعدك؟ قال: "نعم من أطاعه رشد.."3.
 
عالم آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم:
 
ويروى أنّ الإمام موسى بن جعفر عليه السلام كان يقول لبنيه: "هذا أخوكم عليّ بن موسى عالم آل محمّد، فاسألوه عن أديانكم، واحفظوا ما
 
 
 

1- المصدر السابق ص 29.
2- أي اللبن. 
3- المصدر السابق ص 24.
4- المصدر السابق ج2 ص 40.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

16

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 ما يقول لكم، فإنّي سمعت أبي جعفر بن محمّد صلى الله عليه وآله وسلم غير مرّة يقول لي: إنّ عالم آل محمّد لفي صلبك، وليتني أدركته، فإنّه سميّ أمير المؤمنين عليّ "1.

 
عبادته ، ومكارم أخلاقه:
 
كان جلوس الرضا عليه السلام في الصيف على حصير، وفي الشتاء على مسح2، ولبسه الغليظ من الثياب، حتّى إذا برز للناس تزيّن لهم3.
وتُحدّث بعض الجواري التي كانت في منزل الإمام عليه السلام فتقول:
 
كان عليه السلام إذا صلّى الغداة، وكان يصلّيها في أوّل وقت ثمّ يسجد، فلا يرفع رأسه إلى أن ترتفع الشمس، ثمّ يقوم فيجلس للناس أو يركب. ولم يكن أحد يقدر أن يرفع صوته في داره كائناً من كان، إنّما كان يتكلّم الناس قليلاً 4..
 
وكان يختم كتاب الله مرّة كلّ ثلاثة أيام، ويقول: " لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاثة لختمت، ولكنّي ما مررت بآية قطّ إلّا فكّرت فيها، وفي أيّ شيء أنزلت، وفي أيّ وقت، فلذلك صرت أختم في كلّ ثلاثة أيّام" 5
 
وعن إبراهيم بن العبّاس قال: ما رأيت أبا الحسن الرضا عليه السلام جفَا أحداً بكلامه قطّ، ولا رأيته قطَع على أحد كلامه حتّى يفرغ منه،
 
 


1-المجلسيّ: بحار الأنوار ج 49 ص 100. 
2-المِسح: البساط من شعر يقعد عليه.
3-الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلامج 2 ص 192. 
4-المصدر السابق. 
5- المصدر السابق ص 193.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

17

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 وما رَدَّ أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مدَّ رجليه بين يدي جليس له قطّ، ولا اتّكى بين يدي جليس له قطّ، ولا رأيته شتَم أحداً من مواليه ومماليكه قطّ، ولا رأيته تفل قطّ، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قطّ، بل كان ضحكه التبسّم، وكان إذا خلا ونصبت مائدته أجلس على مائدته مماليكه حتّى البوّاب والسائس. وكان عليه السلام قليل النوم بالليل كثير السهر، يحيي أكثر لياليه من أوّلها إلى الصبح، وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيّام في الشهر، ويقول: "ذلك صوم الدهر". 

 
وكان عليه السلام كثير المعروف والصدقة في السرّ، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنّه رأى مثله في فضله فلا تصدّقوه1
 
وعن رجل من أهل بلخ قال: كنت مع الرضا عليه السلام في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة له فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقلت: جعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة فقال: "مَهْ إنَّ الربّ تبارك وتعالى واحد، والأمّ واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال"2.
 
وعن اليسع بن حمزة قال: كنت في مجلس أبي الحسن الرضا عليه السلام أحدّثه، وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام، إذ دخل عليه رجل طوال آدم3 فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله، 
 



1-المصدر السابق ص 197. 
2-الكلينيّ: الكافي ج8 ص 230.
3-أي أسمر اللون.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

18

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 رجلٌ من محبّيك ومحبّي آبائك وأجدادك  عليهم السلام ، مصدري من الحجّ، وقد افتقدت نفقتي، وما معي ما أبلغ مرحلة1، فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي، ولله عليّ نعمة، فإذا بلغت بلدي تصدّقت بالذي توليني عنك، فلست موضع صدقة، فقال له: "اجلس رحمك الله"، وأقبل على الناس يحدّثهم حتّى تفرّقوا، وبقيَ هو وسليمان الجعفريّ وخيثمة وأنا، فقال: "أتأذنون لي في الدخول"؟ فقال له سليمان: قدَّم الله أمرك، فقام فدخل الحجرة وبقي ساعة ثمّ خرج وردّ الباب، وأخرج يده من أعلى الباب، وقال: "أين الخراساني؟" فقال: ها أنا ذا، فقال: "خذ هذه المائتي دينار واستعن بها في مؤنتك ونفقتك، وتبرّك بها، ولا تصدَّق بها عنّي، واخرج فلا أراك ولا تراني"، ثمّ خرج، فقال له سليمان: جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت، فلماذا سترت وجهك عنه؟ فقال: "مخافة أن أرى ذُلّ السؤال في وجهه لقضائي حاجته، أما سمعت حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المستتر بالحسنة يعدل سبعين حجّة، والمذيع بالسيئة مخذول، والمستتر بها مغفور له"، أما سمعت قول الأوّل: 

 
 مَتى آتِهِ يَوماً لأطلُبَ حاجَةً        رَجَعْتُ إِلى أَهْلِي ووَجْهِي بمائِهِ2
 
ونظر أبو نؤاس إلى الرضا عليه السلام ذات يوم، وقد خرج من عند المأمون على بغلة له، فدنا منه وسلّم عليه وقال: يا ابن رسول الله، قد قلت فيك أبياتاً، وأنا أحبّ أن تسمعها منّي، قال: "هاتِ"، فأنشأ يقول: 
 
 


1-المرحلة: المسافة التي يقطعها المسافر في نحو يوم.
2-الكليني: الكافي ج 4 ص 23 - 24.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

19

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

  مُطهَّرونَ نَقِيَّاتٌ ثِيَابُهمُ             تَجْرِي الصَّلاةُ عليهمْ أينَ ما ذُكِرُوا

مَنْ لمْ يكنْ عَلَوِيّاً حينَ تَنْسِبُه       فَمَا لهُ في قَديمِ الدَّهرِ مُفْتَخَرُ
فاللهُ لَمَّا بَرَا خَلْقاً فَأَتْقَنَهُ            صَفاكُمُ واصْطَفاكُمْ أيُّها البَشَرُ
فأنتمُ المَلأُ الأَعْلَى وعِنْدكُمُ         عِلْمُ الكِتَابِ وَمَا جَاءَتْ به السُّوَرُ
 
 
فقال الرضا عليه السلام: "قد جئتنا بأبيات ما سبقك إليها أحد، يا غلام هل معك من نفقتنا شيء؟" فقال: ثلاثمائة دينار، فقال: "أعطها إيّاه" ثمّ قال: "لعلّه استقلّها، يا غلام سق إليه البغلة" 1
 
وعن الريّان بن الصلت قال: لمّا أردت الخروج إلى العراق عزمت على توديع الرضا عليه السلام، فقلت في نفسي: إذا ودّعته سألته قميصاً من ثياب جسده لأكفَّن به، ودراهم من ماله أصوغ بها لبناتي خواتيم، فلمّا ودّعته شغلني البكاء والأسى على فراقه عن مسألته ذلك، فلمّا خرجت من بين يديه صاح بي: "يا ريّان ارجع" فرجعت، فقال لي: "أما تحبّ أن أدفع إليك قميصاً من ثياب جسدي تكفَّن فيه إذا فني أجلك؟ أو ما تحبّ أن أدفع إليك دراهم تصوغ بها لبناتك خواتيم؟" فقلت: يا سيّدي قد كان في نفسي أن أسألك ذلك، فمنعني الغمّ بفراقك، فرفع عليه السلام 
الوسادة وأخرج قميصاً، فدفعه إليَّ ورفع جانب المصلّى، فأخرج دراهم فدفعها إليّ فعددتها فكانت ثلاثين درهماً 2
 
 
 

1-الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 155، عنه، المجلسيّ: بحار الأنوار ج 49 ص 236. 
2-الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج2 ص 229، عنه، المجلسيّ: بحار الأنوار ج 49 ص 35.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

20

إشخاصه من المدينة إلى مرو

 كان المأمون قد أنفذ إلى جماعة من آل أبي طالب، فحملهم من المدينة إلى خراسان، وفيهم الإمام الرضا عليه السلام ، فحملهم إليه على طريق البصرة و الأهواز وفارس، ولم يشخصهم عن طريق بغداد والكوفة... وقم، ولمّا كانت البصرة والأهواز وفارس في أيدي إخوته إسماعيل بن موسى، وزيد بن موسى، وكانت لهما شوكة في تلك البلاد، وخضعت لهما العباد، أراد المأمون أن يأتي بالرضا من ذلك الطريق إلى خراسان، لتميل قلوبهم إليه2

 
عن مخوّل السجستاني قال: لمّا ورد البريد بإشخاص الرضا عليه السلام إلى خراسان كنت أنا بالمدينة، فدخل المسجد ليودّع رسول الله صلى الله عليه وآله، فودّعه مراراً. كلّ ذلك يرجع إلى القبر، ويعلو صوته بالبكاء والنحيب، فتقدّمت إليه وسلّمت عليه، فردّ السلام، وهنّأته، فقال: " زرني فإنّي أخرج من جوار جدّي صلى الله عليه وآله فأموت في غربة، وأُدفن في جنب هارون" ، قال: فخرجت متّبعاً لطريقه حتّى مات بطوس ودفن إلى جنب هارون3
 
وعن الوشّاء قال: قال لي الرضا عليه السلام: " إنّي حيث أرادوا الخروج 
 
 


1- المفيد: الإرشاد ج2 ص 259.-
2- عطارديّ عزيز الله: مسند الإمام الرضاعليه السلام ج1 ص 52. 
3-الصدوق: عيون أخبار الرضا
عليه السلام ج 2 ص 234.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

 


21

إشخاصه من المدينة إلى مرو

   بي من المدينة جمعت عيالي، فأمرتهم أن يبكوا عليّ حتّى أسمع، ثمّ فرَّقت فيهم اثني عشر ألف دينار، ثمّ قلت: أَمَا إنّي لا أرجع إلى عيالي أبد"1

 
 
 

1-الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 235، القطب الراونديّ: الخرائج والجرائح ج 1 ص 363.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

22

إشخاصه من المدينة إلى مرو

 في البصرة:

 
وعن ابن علوان قال: رأيت في منامي كأنّ قائلاً يقول: قد جاء رسول الله صلى الله عليه وآله إلى البصرة، قلت: وأين نزل؟ فقيل في حائط بني فلان، قال: فجئت الحائط فوجدت رسول الله صلى الله عليه وآله جالساً ومعه أصحابه وبين يديه أطباق فيها رطب برنيّ، فقبض بيده كفّاً من رطب وأعطاني، فعددتها فإذا هي ثماني عشرة رطبة، ثمّ انتبهت فتوضّأت وصلّيت، وجئت إلى الحائط فعرفت المكان الذي فيه رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله. فبعد ذلك سمعت الناس يقولون: قد جاء عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، فقلت: أين نزل فقيل: في حائط بني فلان، فمضيت فوجدته في الموضع الذي رأيت النبيّ صلى الله عليه وآله فيه وبين يديه أطباق فيها رطب، وناولني ثماني عشرة رطبة، فقلت: يا ابن رسول الله زدني، فقال: "لو زادك جدّي لزدتك".
 
ثمّ بعث إليّ بعد أيّام يطلب منّي رداء، وذكر طوله وعرضه، فقلت: ليس هذا عندي فقال: "بلى هو في السفط1الفلاني، بعثت به امرأتك معك"، قال: فذكرت، فأتيت السفط فوجدت الرداء فيه كما قال2 .
 
 
 

1- السفط وعاء شبه القفّة يخبّأ فيه الطيب وكأنّه معرّب سبد بالفارسيّة.
2-ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 371، والمجلسيّ: بحار الأنوار ج 49 ص 119، والبرنيّ تمر معروف أصله "برنيك" أي الحمل الجيد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

23

إشخاصه من المدينة إلى مرو

 في نيسابور:

 
قالوا: إنّ الرضا عليه السلام لمّا دخل نيسابور نزل في محلّة يُقال له: الفروينيّ، فيها حمّام وهو الحمّام المعروف اليوم بحمّام الرضا عليه السلام، وكانت هناك عين قد قلّ ماؤها، فأقام عليها من أخرج ماءها حتّى توفّر وكثر، واتّخذ من خارج الدرب حوضاً ينزل إليه بالمراقي1 إلى هذه العين، فدخله الرضا عليه السلام واغتسل فيه، ثمّ خرج منه وصلّى على ظهره، والناس ينتابون2 ذلك الحوض، ويغتسلون فيه ويشربون منه التماساً للبركة، ويصلّون على ظهره، ويدعون الله عزّ وجلّ في حوائجهم، فتقضى لهم، وهي العين المعروفة بعين كهلان يقصدها الناس إلى يومنا هذ3.
 
حديث سلسلة الذهب10 :
 
ولمّا أراد أبو الحسن الرضا عليه السلام أن يرحل من نيسابور إلى المأمون، اجتمع إليه أصحاب الحديث4، وعرض له في السوق 
 
 
 

1- المراقي: جمع المرقاة أي الدرجة. 
2- أي يأتونه مرّة بعد مرّة.
3- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 145. 
4- قال السيّد اليزديّ في العروة الوثقى ج 1 ص 296، في مستحبّات الكفن: ويناسب أيضاً كتابة السند المعروف بسلسلة الذهب وهو..إلخ. 
5- الصدوق: الأمالي ص 306. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

24

إشخاصه من المدينة إلى مرو

 الإمامان الحافظان للأحاديث النبويّة: أبو زرعة، ومحمّد بن أسلم الطوسيّ، فقالا: أيّها السيّد ابن السادة، أيّها الامام وابن الأئمّة، أيّها السلالة الطاهرة الرضيّة، أيّها الخلاصة الزاكيّة النبويّة، بحقّ آبائك الأطهرين، وأسلافك الأكرمين، إلّا أريتنا وجهك المبارك الميمون، ورويت لنا حديثاً عن آبائك عن جدّك، نذكرك به. فاستوقف البغلة، ورفع المظلّة، وأقرّ عيون المسلمين بطلعته المباركة الميمونة، فكانت ذؤابتاه1 كذؤابتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والناس على طبقاتهم قيام كلّهم، وكانوا بين صارخ وباك وممزّق ثوبه، ومتمرّغ في التراب، ومقبّل حزام بغلته، ومطوّل عنقه إلى مظلّة المهد، إلى أن انتصف النهار، وجرت الدموع كالأنهار، وسكنت الأصوات، وصاحت الأئمّة والقضاة: معاشر الناس اسمعوا وعُوا، ولا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عترته، وأنصتوا، فأملى صلوات الله عليه هذا الحديث، وعُدّ من المحابر أربعة وعشرون ألفاً سوى الدويّ2، والمستملي أبو زرعة الرازيّ ومحمّد بن أسلم الطوسيّ.. 

 
فقال عليه السلام: "حدّثني أبي موسى بن جعفر الكاظم، قال: حدّثني أبي جعفر بن محمّد الصّادق، قال: حدّثني أبي محمّد بن عليّ الباقر، قال: حدّثني أبي عليّ بن الحسين زين العابدين، قال: حدّثني أبي الحسين بن عليّ شهيد أرض كربلا، قال: حدّثني أبي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب شهيد أرض الكوفة، قال: حدّثني أخي وابن عمّي 
 
 
 

1-الذؤابة في اللغة: الناصية وهي شعر في مقدّم الرأس، وذؤابة كلّ شيء أعلاه، ومنه "هو ذؤابة قومه": أي المقدّم فيهم.
2-جمع دوى مفرده دواة أي ما يكتب منه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

25

إشخاصه من المدينة إلى مرو

 محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: حدّثني جبرئيل عليه السلام، قال: سمعت ربّ العزّة سبحانه وتعالى يقول: كلمة لا إله إلّا الله حصني، فمن قالها دخل حصني، ومن دخل حصني أَمِنَ من عذابي. صدق الله سبحانه، وصدق جبرئيل عليه السلام، وصدق رسول الله والأئمّة"1 عليهم السلام. فلمّا مرّت الراحلة نادانا: " بشروطها، وأنا من شروطها"2.

 
وعن إسناد هذه الرواية الذي أورده الإمام عليه السلام، يقول الإمام أحمد بن حنبل: لو قرأت هذا الإسناد على مجنونٍ لبُرىء من جنّته3.
ونقل أنّ هذا الحديث بهذا السند بلَغ بعض أمراء السامانيّة، فكتبه بالذهب وأوصى أن يدفن معه4.
 
 
 

1-الأربليّ: كشف الغمّة ج 3 ص 98. 
2- الصدوق: الأمالي ص 306.
3-مرتضى العامليّ جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام ص 145. 
4- الأربليّ: كشف الغمّة ج 3 ص 98

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

26

إشخاصه من المدينة إلى مرو

 قرب قرية الحمراء1: 

 

 
عن أبي الصلت الهرويّ قال: لمَّا خرج عليّ بن موسى الرضا عليه السلام من نيسابور إلى المأمون، فبلغ قرب قرية الحمراء، قيل له: يا ابن رسول الله قد زالت الشمس أفلا تصلّي؟ فنزل عليه السلام فقال: " ائتوني بماء" ، فقيل: ما معَنا ماء، فبحث عليه السلام بيده الأرض فنبع من الماء ما توضأ به هو ومَن معه، وأثرُه باق إلى اليوم.
 
 
 

1-وهي التي يقال لها اليوم "ده سرخ" بين نيسابور ومشهد الرضا عليه السلام.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

27

إشخاصه من المدينة إلى مرو

  و سناباد حيث تربته الطاهرة:

 
ولمّا وصل إلى " سناباد" دخل دار حميد بن قحطبة الطائيّ والقبّة التي فيها قبر هارون الرشيد، ثمّ خطّ بيده إلى جانبه، ثمّ قال: " هذه تربتي، وفيها أدفن، وسيجعل الله هذا المكان مختلف شيعتي وأهل محبّتي، والله ما يزورني منهم زائر، ولا يسلّم عليّ منهم مسلّم، إلّا وجب له غفران الله ورحمته بشفاعتنا أهل البيت عليهم السلام" . 
 
 
ثمّ استقبل القبلة وصلّى ركعات ودعا بدعوات، فلمّا فرغ سجد سجدة طال مكثه، فأحصيت له فيها خمسمائة تسبيحة، ثمّ انصرف1
 
 
 

1- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 147.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

28

إشخاصه من المدينة إلى مرو

 قرب طوس:

 
عن موسى بن سيّار قال: كنت مع الرضاعليه السلام وقد أشرف على حيطان طوس، وسمعت واعية فاتبعتها، فإذا نحن بجنازة، فلمّا بصرت بها رأيت سيّدي وقد ثنى رجله عن فرسه، ثمّ أقبل نحو الجنازة فرفعها، ثمّ أقبل يلوذ بها كما تلوذ السخلة1 بأمِّها، ثمّ أقبل عليّ وقال: يا موسى بن سيّار، من شيّع جنازةَ وليٍّ من أوليائنا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه لا ذنب عليه، حتّى إذا وضع الرجل على شفير قبره، رأيت سيّدي قد أقبل، فأفرج الناس عن الجنازة حتّى بدا له الميت، فوضع يده على صدره، ثمّ قال: " يا فلان بن فلان، أبشر بالجنّة، فلا خوف عليّك بعد هذه الساعة" ، فقلت: جعلت فداك هل تعرف الرجل؟ فوالله إنّها بقعة لم تطأها قبل يومك هذا، فقال لي: " يا موسى بن سيّار، أما علمت أنّا معاشر الأئمّة تعرض عليّنا أعمال شيعتنا صباحاً ومساءً، فما كان من التقصير في أعمالهم سألنا الله تعالى الصفح لصاحبه، وما كان من العلو سألنا الله الشكر لصاحبه"2.
 
 
 

1- السخلة: مولود الضأن والماعز، ذكراً كان أو أنثى، وربّما عمّم ليشمل كلّ مولود حديث من غير المعز.
2- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 370.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

29

إشخاصه من المدينة إلى مرو

 إلى مرو1:

 
حيث كان المأمون ينتظره ويستعدّ لاستقباله والحفاوةِ به ،ولمّا دخلها أنزله منزلاً كريماً محاطاً بكلّ مظاهر التقدير والاحترام2. ..
وفيها دخل دعبل بن عليّ الخزاعيّ رحمه الله على أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، فقال له: يا ابن رسول الله إنّي قد قلت فيك قصيدة، وآلَيْت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك، فقال عليه السلام: "هاتها"، فأنشده: 
 
مدارسُ آياتٍ خَلَتْ مِنْ تِلاوَةٍ         ومَنْزِلُ وَحْيٍ مُقْفِرُ العَرَصَاتِ
 
فلمّا بلغ إلى قوله:
 
أرَى فَيْئَهُمْ في غَيْرِهِمْ مُتَقَسَّماً          وأَيْدِيَهُمْ مِنْ فَيِئْهِمْ صَفِراتِ
 
بكى أبو الحسن الرضا عليه السلام، وقال له: "صدقت يا خزاعيّ"، فلمّا بلغ إلى قوله: 
 
إِذا وُتِرُوا مَدُّوا إِلى واتِرِيهمُ            أَكُفاً عنِ الأوتارِ مُنْقَبِضَاتِ
 
 
 

1- وهي مرو الشاهجان وهي مرو العظمى أشهر مدن خراسان، وهناك مرو الرود، والرود النهر بالفارسيّة فكأنّه مرو النهر، وهي مدينة صغيرة بالنسبة إلى مرو الأخرى، وهي قريبة منها على نهر عظيم، فلهذا سمّيت بذلك، أنظر: ياقوت الحمويّ: معجم البلدان ج 5 ص 112.
2-الحسنيّ هاشم معروف: سيرة الأئمّة الاثني عشر ج 2 ص387

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

30

إشخاصه من المدينة إلى مرو

 جعل أبو الحسن عليه السلام يقلّب كفّيه ويقول: "أجل والله منقبضات"، فلمّا بلغ إلى قوله: 


لَقدْ خِفْتُ في الدُّنيا وأيّامِ سَعْيِها     وإنِّي لَأَرْجُو الأَمْنَ بَعْدَ وَفاتي


قال الرضا عليه السلام: "آمنك الله يوم الفزع الأكبر"، فلمّا انتهى إلى قوله: 

وقَبْرٌ ببغدادٍ لنفْسٍ زكيَّةٍ             تَضَمَّنَها الرَّحمنُ في الغُرُفاتِ

قال له الرضا عليه السلام: "أفلا ألحق لك بهذا الموضع بيتين، بهما تمام قصيدتك؟" فقال: بلى يا ابن رسول الله، فقال عليه السلام: 

وقبرٌ بطُوسٍ يا لها مِنْ مُصيبَة           تَوَقَّدُ بالأَحْشاءِ بالحُرُقاتِ
إِلى الحشْرِ حتّى يبعثَ اللهُ قائماً         يُفَرِّجُ عنّا الهَمَّ والكُرُباتِ


فقال دِعبل: يا ابن رسول الله، هذا القبر الذي بطوس، قبر مَنْ هو؟ فقال الرضا عليه السلام: "قبري! ولا تنقضي الأيّام والليالي حتّى تصير طوس مختلف شيعتي وزوّاري، ألا فمن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له". 

ثمّ نهض الرضا عليه السلام، بعد فراغ دِعبل من إنشاد القصيدة، وأمره أن لا يبرح من موضعه، فدخل الدار، فلمّا كان بعد ساعة، خرج الخادم إليه بمائة دينار رضويّة، فقال له: يقول لك مولاي: "اجعلها في نفقتك"، فقال دِعبل: والله ما لهذا جئت، ولا قلت هذه القصيدة طمعاً في شيء يصل إليّ، وردّ الصرّة، وسأل ثوباً من ثياب الرضا عليه السلام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

31

إشخاصه من المدينة إلى مرو

 الرضا عليه السلام ليتبرّك ويتشرّف به، فأنفذ إليه الرضا عليه السلام جبّة خزّ مع الصرّة، وقال للخادم: قل له: "خذ هذه الصرّة فإنّك ستحتاج إليها ولا تراجعني فيها"، فأخذ دعبل الصرّة والجبّة 1.. .

 
 
 
 

1- الصدوق: كمال الدين وتمام النعمة ص 373، وعيون أخبار الرضاعليه السلام ج 2 ص 294، عنه، المجلسيّ: بحار الأنوار ج 49 ص 239. وتتمّة الرواية:..وانصرف وسار من مرو في قافلة، فلمّا بلغ "ميان قوهان"، وقع عليهم اللصوص، فأخذوا القافلة بأسرها، وكتّفوا أهلها، وكان دعبل فيمن كتّف، وملك اللصوص القافلة، وجعلوا يقسّمونها بينهم، فقال رجل من القوم متمثّلاً بقول دعبل في قصيدته: 
 
أرى فيئهم في غيرهم متقسّم            وأيديهم من فيئهم صفرات
 
فسمعه دعبل، فقال له دعبل: لمن هذا البيت؟ فقال لرجل من خزاعة، يقال له دعبل بن عليّ، قال: فأنا دعبل قائل هذه القصيدة التي منها هذا البيت، فوثب الرجل إلى رئيسهم وكان يصلّي على رأس تلّ...، فأخبره فجاء بنفسه حتّى وقف على دعبل، وقال له: أنت دعبل؟ فقال: نعم، فقال له: أنشدني القصيدة فأنشدها فحلّ كتافه وكتاف جميع أهل القافلة، وردّ إليهم جميع ما أخذوا منهم لكرامة دعبل. وسار دعبل حتّى وصل إلى قم، فسأله أهل قم أن ينشدهم القصيدة، فأمرهم أن يجتمعوا في المسجد الجامع. فلمّا اجتمعوا صعد المِنبر فأنشدهم القصيدة، فوصله الناس من المال والخلع بشيء كثير، واتصل بهم خبر الجبّة، فسألوه أن يبيعها منهم بألف دينار، فامتنع من ذلك، فقالوا له: فبعنا شيئاً منها بألف دينار، فأبى عليهم، وسار عن قم. فلمّا خرج من رستاق البلد لحق به قوم من أحداث العرب، وأخذوا الجبّة منه، فرجع دعبل إلى قم وسألهم ردّ الجبّة عليه، فامتنع الأحداث من ذلك، وعصوا المشايخ في أمرها، فقالوا لدعبل: لا سبيل لك إلى الجبّة فخذ ثمنها ألف دينار، فأبى عليهم، فلمّا يئس من ردهم الجبّة عليه، سألهم أن يدفعوا إليه شيئاً منها، فأجابوه إلى ذلك، وأعطوه بعضها، ودفعوا إليه ثمن باقيها ألف دينار. وانصرف دعبل إلى وطنه، فوجد اللصوص قد أخذوا جميع ما كان في منزله، فباع المائة دينار التي كان الرضاعليه السلاموصله بها، فباع من الشيعة كلّ دينار بمائة درهم، فحصل في يده عشرة آلاف درهم، فذكر قول الرضا عليه السلام: "إنّك ستحتاج إلى الدنانير". وكانت له جارية لها من قلبه محل، فرمدت عينها رمداً عظيماً، فأدخل أهل الطب عليها، فنظروا إليها فقالوا: أمّا العين اليمنى فليس لنا فيها حيلة وقد ذهبت، وأمّا اليسرى فنحن نعالجها ونجتهد ونرجو أن تسلم، فاغتمّ لذلك دعبل غمّاً شديداً، وجزع عليها جزعاً عظيماً، ثمّ أنّه ذكر ما كان معه من فضلة الجبّة، فمسحها على عيني الجارية وعصّبها بعصابة منها من أوّل الليل، فأصبحت وعيناها أصحّ ممّا كانتا قبل، ببركة أبي الحسن الرضا عليه السلام 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

32

ولاية العهد

 "من عجائب التاريخ أن يكون مثل هذا المأمون حاضراً لأن يأتي بالإمام الرضا عليه السلام من المدينة، وعندما يحضر الإمام يعرض عليه قَبول الخلافة منه، ثمّ يرضى أخيراً بأن يلزم الإمام الرضا عليه السلام بولاية العهد، حتّى أنّه يوصل الأمر إلى حدّ التهديد، التهديد الصعب، فما هو الباعث له على هذا العمل؟ وماذا كان يخطط؟"1.

 
في سنة 198 هجريّة بعد قتل محمّد الأمين، وانتقال السلطة إلى أخيه عبد الله المأمون، أحسّ المأمون أنّ الأخطار تهدّد دولته من جميع الجهات.
 
ففي الكوفة: خرج أبو السرايا يدعو لمحمّد بن إبراهيم بن إسماعيل بن الحسن بن الحسن بن عليّ عليه السلام وبايعه الناس.
 
وفي المدينة: خرج محمّد بن سليمان بن داود بن الحسن، والحسن بن الحسين بن عليّ بن الحسين المعروف بالأفطس، ودعا إلى ابن طباطبا، فلمّا مات ابن طباطبا2 ، دعا إلى نفسه.
 
واشتعلت الثورات في أنحاء دولة المأمون، ومع كلّ ثائرٍ عشرات الألوف 
 
 
 

1- المطهريّ مرتضى: سيرة الأئمّة الأطهار، ص 159. 
2- وهو محمّد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم، قيل: إنّ الذي يعرف بطباطبا هو جدّه إسماعيل بن إبراهيم ، وقيل: والده إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم، فلهذا يقال: لمحمّد ابن طباطبا، وقد ثار على طواغيت زمانه، وذلك في يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى سنة 199 هـ.‍وكان يدعو إلى الرضا من آل محمّد والعمل بالكتاب والسنّة. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

33

ولاية العهد

  يناصرونه على أولئك الجبابرة، الذين أقاموا عروشهم على جماجم الأبرياء والصلحاء، وقتل الأئمّة المعصومين: محمّد بن عليّ الباقر، وجعفر بن محمّد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم1 عليه السلام . 

 
وكان المأمون يدرك : أنّ إنقاذ الموقف يتوقّف على: 
 
1- إخماد ثورات العلويّين، الذين كانوا يتمتّعون بالاحترام والتقدير، ولهم نفوذ واسع في جميع الفئات والطبقات.. 
2- أن يحصل من العلويّين على اعتراف بشرعيّة خلافة العبّاسيّين، وليكون بذلك قد أفقدهم سلاحاً قويّاً، لن يقرّ له قرار، إلّا إذا أفقدهم إيّاه.. 
3- استئصال هذا العطف، وذلك التقدير والاحترام- الذي كانوا يتمتّعون به، وكان يزداد يوماً عن يوم- استئصاله من نفوس الناس نهائيّاً، والعمل على تشويههم أمام الرأي العامّ، بالطرق، والأساليب التي لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات، حتّى لا يقدروا بعد ذلك على أيّ تحرّك، ولا يجدوا المؤيّدين لأيّة دعوة لهم، وليكون القضاء عليهم بعد ذلك نهائيّاً سهلاً وميسوراً.. 
4- اكتساب ثقة العرب ومحبّتهم.. 
5- استمرار تأييد الخراسانيّين، وعامّة الإيرانيّين له. 
6- إرضاء العبّاسيّين، والمتشيّعين لهم، من أعداء العلويّين. 
7- تعزيز ثقة الناس بشخص المأمون، الذي كان لقتله أخاه أثر سيّء
 
 
 

1- الميلانيّ: قادتنا كيف نعرفهم؟ ج4 ص 258.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

34

ولاية العهد

   على سمعته، وثقة الناس به. 

 
8- وأخيراً.. أن يأمن الخطر الذي كان يتهدّده من تلك الشخصيّة الفذّة، التي كانت تملأ جوانبه فَرقاً، ورعباً.. وأن يتحاشى الصدام المسلّح معها، ألا وهي شخصيّة الإمام الرضا عليه السلام، وأن يمهّد الطريق للتخلّص منها، والقضاء عليها، قضاء مبرماً، ونهائيّاً1
 
هذا مضافاً إلى إظهار الإمام بصورة الراغب للخلافة والطالب لها، كما سيأتي قول الإمام عليه السلام للمأمون: "تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ عليّ بن موسى لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة..؟! ". 
 
 
 

1-مرتضى العامليّ جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام ص 192 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

35

ولاية العهد

  الإمام عليه السلام مع المأمون:

 
وفي مرو عرض عليه المأمون أن يتقلّد الإمرة والخلافة، فأبى الرضا عليه السلام ذلك، وجرت في هذا مخاطبات كثيرة، وبقوا في ذلك نحواً من شهرين، كلّ ذلك يأبى أبو الحسن الرضا عليه السلام أن يقبل ما يعرض عليه1. .إلى أن قبل بولاية العهد2 تحت وطأة التهديد والوعيد..
 
عن أبي الصلت الهرويّ قال: إنّ المأمون قال للرضا عليه السلام: يا ابن رسول الله، قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك وعبادتك، وأراك أحقّ بالخلافة منّي، فقال الرضا عليه السلام: "بالعبوديّة لله عزّ وجلّ أفتخر، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شرّ الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله عزّ وجلّ". فقال له المأمون: فإنّي قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك وأبايعك، فقال له الرضا عليه السلام: "إن كانت هذه الخلافة لك، وجعلها الله لك فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك، فلا يجوز لك 
 
 
 

1-الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 160.
2-انظر حول ولاية العهد: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام للعلّامة المحقق السيّد جعفر مرتضى، وسيرة الأئمّة الاثني عشر للشهيد الشيخ مرتضى مطهري، والإمام الرضا عليه السلام تاريخ ودراسة للسيّد محمّد جواد فضل الله، وحياة الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام للشيخ باقر شريف القرشيّ، وغيرها...
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

36

ولاية العهد

   أن تجعل لي ما ليس لك"، فقال له المأمون: يا ابن رسول الله، لا بدّ لك من قبول هذا الأمر، فقال: " لست أفعل ذلك طائعاً أبداً" ، فما زال يجهد به أيّاماً حتّى يئس من قبوله، فقال   له: فإن لم تقبل الخلافة ولم تحبّ مبايعتي لك فكن ولي عهدي لتكون لك الخلافة بعدي. 


فقال الرضا عليه السلام: "والله لقد حدّثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّي أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسمّ مظلوماً، تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض، وأدفن في أرض غربة إلى جنب هارون الرشيد"، فبكى المأمون ثمّ قال له: يا ابن رسول الله، ومن الذي يقتلك أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حيّ؟ فقال الرضا عليه السلام: " أما إنّي لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت"، فقال المأمون: يا ابن رسول الله، إنّما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك، ودفع هذا الأمر عنك، ليقول الناس: إنّك زاهد في الدنيا، فقال الرضا عليه السلام: " والله ما كذبت منذ خلقني ربّي عزّ وجلّ، وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإنّي لأعلم ما تريد" ، فقال المأمون: وما أريد؟ قال: " لي الأمان على الصدق؟" قال: لك الأمان، قال: " تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ عليّ بن موسى لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة؟" فغضب المأمون، ثمّ قال: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم، لئن قبلت ولاية العهد وإلّا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلا ضربت عنقك. 

فقال الرضا عليه السلام: " قد نهاني الله عزّ وجلّ أن ألقي بيدي إلى 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

37

ولاية العهد

   التهلكة، فإن كان الأمر على هذا، فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك على أنّي لا أُوَلِّي أحداً، ولا أعزل أحداً، ولا أنقض رسماً ولا سنّة، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً "، فرضي منه بذلك، وجعله وليّ عهده،  كراهة منه عليه السلام لذلك1.

 
وعن موسى بن سلمة قال: كنت بخراسان مع محمّد بن جعفر، فسمعت أن ذا الرئاستين (الفضل بن سهل)2 خرج ذات يوم وهو يقول: وا عجباه وقد رأيت عجباً، سلوني ما رأيت؟ فقالوا: وما رأيت أصلحك الله؟ قال: رأيت المأمون أمير المؤمنين يقول لعليّ بن موسى الرضا: قد رأيت أن أقلّدك أمور المسلمين، وأفسخ ما في رقبتي وأجعله في رقبتك، ورأيت عليّ بن موسى يقول: " يا أمير المؤمنين لا طاقة لي بذلك ولا قوّة "، فما رأيت خلافة قطّ كانت أضيع منها، إن أمير المؤمنين يتفصّى منها ويعرضها على عليّ بن موسى، وعليّ بن موسى يرفضها ويأبى3.
 
 
 

1- الصدوق: الأمالي ص 125، وعيون أخبار الرضة عليه السلام ج 2 ص 151 
2- وكان يلقّب " ذا الرئاستين " لأنّه تقلّد الوزارة والحرب. أنظر: الذهبيّ، سير أعلام النبلاء ج 10 ص 100.
3- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 260.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

38

ولاية العهد

 البيعة:

 
وخرج الفضل بن سهل فأعلم الناس برأي المأمون في عليّ بن موسى، وأنّه قد ولّاه عهده وسمّاه الرضا1، وأمرهم بلبس الخضرة (وهو شعار بني هاشم، ونزع السواد الذي كان شعاراً لبني العبّاس)، والعود لبيعته في الخميس الآخر، على أن يأخذوا رزق سنة. 
 
فلمّا كان ذلك اليوم (في شهر رمضان سنة 201 للهجرة)2، ركب الناس على طبقاتهم من القوّاد والحجّاب والقضاة وغيرهم في الخضرة، وجلس المأمون، ووضع للرضا وسادتين عظيمتين، حتّى لحق بمجلسه وفرشه، وأجلس الرضا عليه السلام عليهما في الخضرة، وعليه عمامة وسيف، ثمّ أمر ابنه العبّاس بن المأمون يبايع له أوّل الناس، فرفع الرضا عليه السلام يده، فتلقّى بها وجه نفسه، وببطنها وجوههم، فقال له المأمون: ابسط يدك للبيعة، فقال الرضا عليه السلام: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هكذا كان يبايع". فبايعه الناس ويده فوق أيديهم، ووضعت البدر3، وقام الخطباء والشعراء فجعلوا يذكرون فضل الرضا عليه السلام، وما كان من المأمون في أمره...
 
 
 

1-تقدّم أنّ هذا الأمر قد أشاعه القوم، وقد أجاب عنه الإمام الجواد ، فلاحظ. 
2- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 397.ا
3-البدر: جمع بدرة وهي عشرة آلاف درهم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

39

ولاية العهد

     ثمّ قال المأمون للرضا عليه السلام: اخطب الناس وتكلّم فيهم، فحمد الله وأثنى عليه وقال: "إنّ لنا عليكم حقّاً برسول الله، ولكم علينا حقّاً به، فإذا أدّيتم إلينا ذلك وجب علينا الحقّ لكم"، ولم يذكر عنه غير هذا في ذلك المجلس1 

 
ودعا المأمون الولاة والقضاة والقوّاد والشاكريّةوولد العبّاس إلى ذلك، فاضطربوا عليه، فأخرج أموالاً كثيرة، وأعطى القوّاد وأرضاهم إلّا ثلاثة نفر من قوّاده أبوا ذلك، وهم: عيسى الجلوديّ، وعليّ بن أبي عمران، وأبو يونس، فإنّهم أَبَوْا أن يدخلوا في بيعة الرضا عليه السلام، فحبسهم، وبويع الرضا عليه السلام، وكتب ذلك إلى البلدان، وضربت الدنانير والدراهم باسمه. 
وزوّجه المأمون ابنته أمّ حبيب3، وخطب له على المنابر، وأنفق المأمون في ذلك أموالاً كثيرة4.
 
وسُمِع عبد الجبار بن سعيد5 يخطب في تلك السنة على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بالمدينة، فقال في الدعاء له: وليّ عهد المسلمين عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام. 
 



1- المفيد: الإرشاد ج2 ص 261، وانظر: الأصفهانيّ أبو الفرج: مقاتل الطالبيّين ص 455.
2- الشاكريّة: جمع شاكرد، بالفارسيّة، الأجير والمستخدم، طائفة من الجنود.
3-الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 159.
4- المصدر السابق ص 162.
5-بن سليمان المساحقيّ، وليَ قضاء المدينة للمأمون.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

 


40

ولاية العهد

     سِتَّةُ آباءٍ هـُـمُ ما هـُـمُ            أَفْضَلُ مَنْ يَشْرَبُ صَوْبَ الغَمامْ1

 
 وروي: أنّ المأمون لمّا جعل عليّ بن موسى الرضا عليه السلام وليّ عهده، وأنّ الشعراء قصدوا المأمون، ووصلهم بأموال جمّة حين مدحوا الرضا عليه السلام وصوّبوا رأي المأمون في الأشعار، دون أبي نواس، فإنّه لم يقصده ولم يمدحه، ودخل إلى المأمون فقال له: يا أبا نواس، قد علمت مكان عليّ بن موسى الرضا منّي، وما أكرمته به، فلماذا أخّرت مدحه وأنت شاعر زمانك وقريع2 دهرك؟ فأنشأ يقول: 
 
 قِيلَ لِي أَنْتَ أَوْحَدَ النَّاس طُرّاً        في فُنُونٍ مِنَ الكَلامِ النبيّهِ
 لَكَ مِنْ جَوْهَرِ الكَلامِ بَدِيعٌ            ُثْمِرُ الدُّرُّ في يَدَيْ مُجْتَنِيهِ
 َفعَلامَ تَرَكْتَ مَدْحَ ابْنِ مُوسَى        والخِصالِ الَّتي تَجمَّعْنَ فيهِ؟
 قُلْتُ: لا أَهْتَدِي لمدْحِ إِمامٍ           كان جِبْريلُ خادِماً لأَبِيهِ
 
فقال له المأمون: أحسنت، ووصله من المال بمثل الذي وصل به كافّة الشعراء، وفضّله عليهم3.
 
 
 

1-المفيد: الإرشاد ج 261، وانظر: الأصفهانيّ أبو الفرج: مقاتل الطالبيّين ص 456. 
2- بمعنى السيّد.
3-الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 154. 


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

41

ولاية العهد

 موقف الإمام عليه السلام من ولاية العهد:

 
وذكر عن بعض من حضر، ممّن كان يختصّ بالرضا عليه السلام، أنّه قال: كنت بين يديه في ذلك اليوم، فنظر إليّ وأنا مستبشر بما جرى، فأومأ إليّ أن ادن منّي فدنوت منه، فقال لي من حيث لا يسمعه غيري: "لا تشغل قلبك بهذا الأمر ولا تستبشر به، فإنّه شيء لا يتمّ"1
 
ولمّا ولي الرضا عليه السلام العهد.. رفع يديه إلى السماء وقال: " أللَّهم إنّك تعلم أنّي مكره مضطرّ، فلا تؤاخذني، كما لم تؤاخذ عبدك ونبيّك يوسف، حين دفع إلى ولاية مصر"2
 
وعن الريّان بن الصلت، قال: دخلت على عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، فقلت له: يا ابن رسول الله، إنّ الناس يقولون: إنّك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا! فقال عليه السلام: "قد علم الله كراهتي لذلك، فلمّا خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل، اخترت القبول على القتل، ويحهم أما علموا أنّ يوسف عليه السلام كان نبيّاً رسولاً، فلمّا دفعته الضرورة إلى تولّي خزائن العزيز، قال له: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ . ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك، على أنّي ما دخلت في هذا
 
 
 

1- المفيد: الإرشاد ج2 ص 263
2- الصدوق: الأمالي ص 757



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

42

ولاية العهد

   الأمر إلا دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى، وهو المستعان"1

 
وعن محمّد بن عرفة، قال: قلت للرضا عليه السلام: يا ابن رسول الله، ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟ فقال: " ما حمل جدّي أمير المؤمنين عليه السلام على الدخول في الشورى"2.
 
 
 

1-الصدوق: الأماليّ ص 130، علل الشرائع ج 1 ص 279.
2-الصدوق: عيون أخبار الرض عليه السلام ج 2 ص 152.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

43

ولاية العهد

   صلاة العيد:


ولمّا حضر العيد- وكان قد عُقد للرضاعليه السلامالأمر بولاية العهد- بعث إليه المأمون في الركوب إلى العيد، والصلاة بالناس، والخُطبة بهم، فبعث إليه الرضا عليه السلام: "قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول الأمر، فاعفني من الصلاة بالناس". فقال له المأمون: إنّما أريد بذلك أن تطمئنّ قلوب الناس، ويعرفوا فضلك. ولم تزل الرسل تَرَدّد بينهما في ذلك، فلمّا ألحَّ عليه المأمون أرسل إليه: "إن أعفيتني فهو أحبّ إليّ، وإن لم تُعفني خرجت كما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام"، فقال له المأمون: أخرج كيف شئت. وأمر القوّاد والناس أن يبكّروا إلى باب الرضا عليه السلام. 

قال: فقعد الناس لأبي الحسنعليه السلامفي الطرقات والسطوح، واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه، وصار جميع القوّاد والجند إلى بابه، فوقفوا على دوابهم حتّى طلعت الشمس. 

فاغتسل أبو الحسن عليه السلام، ولبس ثيابه، وتعمَّم بعمامة بيضاء من قُطن، ألقى طَرَفاً منها على صدره وطَرَفا بين كتفيه، ومسَّ شيئاً من الطيب، وأخذ بيده عُكّازة، وقال لمواليه: "افعلوا مثل ما فعلت". فخرجوا بين يديه وهو حافٍ قد شمَّر سراويله إلى نصف الساق، وعليه 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

44

ولاية العهد

  ثياب مشمّرة، فمشى قليلاً ورفع رأسه إلى السماء، وكبّر وكبَّر مواليه معه، ثمّ مشى حتّى وقف على الباب، فلمّا رآه القوّاد والجُند على تلك الحال، سقطوا كُلُّهم عن الدوابّ إلى الأرض وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكّين قطع بها شرابة جاجيلته1 ، ونزعها وتحفّى. 

 
وكبّر الرضاعليه السلامعلى الباب وكبَّر الناس معه، فخُيِّل إلينا أنّ السماء والحيطان تجاوبه، وتزعزعت مَرْوُ بالبكاء والضجيج، لمّا رأوا أبا الحسن عليه السلاموسمعوا تكبيره. 
وبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين، إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلُّنا على دمائنا، فأنفذ إليه أن يرجع؛ فبعث إليه المأمون: قد كلَّفناك شططاً وأتعبناك، ولسنا نحبّ أن تلحقك مشقَّةٌ فارجع وليصلّ بالناس من كان يصلّي بهم على رسمه. فدعا أبو الحسنعليه السلامبخُفِّه، فلبسه وركب ورجع، واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم2
 
 
 

1- نوع من الأحذية.
2- المفيد: الإرشاد ج2 ص264

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

45

ولاية العهد

  الاستسقاء:

 
ومن الحوادث الهامّة التي جرت خلال تلك المدّة والتي لها دلالاتها الكبيرة، ما يروى أنّه: احتبس المطر، فجعل بعض حاشية المأمون والمتعصبّين على الرض عليه السلام يقولون: انظروا لمّا جاءنا عليّ بن موسى، وصار وليّ عهدنا، فحبس الله تعالى عنّا المطر؛ واتصل ذلك بالمأمون فاشتدّ عليه، فقال للرضا عليه السلام: قد احتبس المطر، فلو دعوت الله عزّ وجلّ أن يمطر الناس، قال الرضا عليه السلام: "نعم"، قال: فمتى تفعل ذلك؟ وكان ذلك يوم الجمعة، قال:"يوم الاثنين، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاني البارحة في منامي، ومعه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، وقال: يا بنيّ انتظر يوم الاثنين، فابرز إلى الصحراء واستسق، فإنّ الله عزّ وجلّ سيسقيهم، وأخبرهم بما يريك الله ممّا لا يعلمون حالهم، ليزداد علمهم بفضلك ومكانك من ربّك عزّ وجلّ". 
 
فلمّا كان يوم الاثنين غدا إلى الصحراء، وخرج الخلائق ينظرون، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:" اللَّهم يا ربّ، أنت عظّمت حقّنا أهل البيت، فتوسّلوا بنا كما أمرت، وأمّلوا فضلك ورحمتك، وتوقّعوا إحسانك ونعمتك، فاسقهم سقياً نافعاً عامّاً غير رايث1 ولا 
 
 
 

1- أي غير بطيء.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

46

ولاية العهد

   ضائر، وليكن ابتداء مطرهم بعد انصرافهم من مشهدهم هذا إلى منازلهم ومقارِّهم". 

 
 قال الراوي: فوالله الذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً، لقد نسجت الرياح في الهواء الغيوم، وأرعدت وأبرقت، وتحرّك الناس كأنّهم يرون التنحّي عن المطر، فقال الرضا عليه السلام: "على   رِسْلِكم أيّها الناس، فليس هذا الغيم لكم، إنّما هو لأهل بلد كذا"، فمضت السحابة وعبرت، ثمّ جاءت سحابة أخرى تشتمل على رعد وبرق فتحرّكوا، فقال: "على رِسْلِكم، فما هذه لكم إنّما هي لأهل بلد كذا"، فما زال حتّى جاءت عشر سحابات وعبرت، ويقول عليّ بن موسى الرضا عليه السلام في كلّ واحدة: "على رِسْلِكم، ليست هذه لكم إنّما هي لأهل بلد كذا". 
 
 ثمّ أقبلت سحابة حادية عشر، فقال: "أيّها الناس هذه بعثها الله عزّ وجلّ لكم، فاشكروا الله تعالى على تفضّله عليكم، وقوموا إلى مقارِّكم، ومنازلكم فإنّها مسامتة1 لكم ولرؤوسكم، ممسكة عنكم إلى أن تدخلوا مقارِّكم ثمّ يأتيكم من الخير ما يليق بكرم الله تعالى وجلاله"، ونزل من المنبر وانصرف الناس، فما زالت السحابة ممسكة إلى أن قربوا من منازلهم، ثمّ جاءت بوابل المطر، فملأت الأودية والحياض والغدران والفلوات، فجعل الناس يقولون: هنيئاً لولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كرامات الله عزّ وجلّ.
 
ثمّ برز إليهم الرضا عليه السلام، وحضرت الجماعة الكثيرة منهم، فقال: يا أيّها الناس اتقوا الله في نعم الله عليكم، فلا تنفروها عنكم 
 
 
 

1- أي محاذية.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

47

ولاية العهد

  بمعاصيه، بل استديموها بطاعته وشكره على نعمه وأياديه، واعلموا أنّكم لا تشكرون الله تعالى بشيء بعد الإيمان بالله، وبعد الاعتراف بحقوق أولياء الله من آل محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أحبّ إليه من معاونتكم لإخوانكم المؤمنين على دنياهم، التي هي معبر لهم إلى جنان ربّهم، فإنّ من فعل ذلك كان من خاصّة الله تبارك وتعالى...

 
قال الإمام محمّد بن عليّ بن موسى عليه السلام: "وأعظم الله تبارك وتعالى البركة في البلاد بدعاء الرضا عليه السلام"، وقد كان للمأمون من يريد أن يكون هو وليّ عهده من دون الرضا عليه السلام، وحسّاد كانوا بحضرة المأمون للرضا عليه السلام، فقال للمأمون بعض أولئك: يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن تكون تاريخ الخلفاء في إخراجك هذا الشرف العميم، والفخر العظيم، من بيت ولد العبّاس إلى بيت ولد عليّ، ولقد أعنت على نفسك وأهلك، جئت بهذا الساحر ولد السحرة، وقد كان خاملاً فأظهرته، ومتّضعاً فرفعته، ومنسيّاً فذكّرت به، ومستخفّاً فنوّهت به، قد ملأ الدنيا مخرقة1، وتشوّقاً بهذا المطر الوارد عند دعائه، ما أخوفني أن يخرج هذا الرجل هذا الأمر عن ولد العبّاس إلى ولد عليّ، بل ما أخوفني أن يتوصّل بسحره إلى إزالة نعمتك، والتوثّب على مملكتك، هل جنى أحد على نفسه وملكه مثل جنايتك؟! 
 
فقال المأمون: قد كان هذا الرجل مستتراً عنّا يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله وليّ عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به، أنّه ليس ممّا ادعى في قليل
 
 
 

1-المخرقة: مهبّ الريح.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

48

ولاية العهد

   ولا كثير، وأنّ هذا الأمر لنا من دونه، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال أن ينفتق علينا منه ما لا نسدّه، ويأتي علينا منه ما لا نطيقه، والآن فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا وأشرفنا من الهلاك بالتنويه به على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره، ولكنّا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً، حتّى نصوّره عند الرعيّة بصورة من لا يستحقّ لهذا الأمر، ثمّ ندبّر فيه بما يحسم عنّا مواد بلائه1... 

 
 
 

1- الصدوق: عيون الأخبار الرضا عليه السلام ج2 ص179

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

49

ولاية العهد

   الإقامة الجبريّة:

 
كان هشام بن إبراهيم الراشديّ الهمدانيّ من أخصّ الناس عند الرضا عليه السلام من قبل أن يحمل، وكان عالما أديباً لبيباً، وكانت أمور الرضا عليه السلام تجري من عنده وعلى يده، ويصير الأموال من النواحي كلّها إليه قبل حمل أبي الحسن عليه السلام، فلمّا حمل أبو الحسن اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، فقرّبه ذو الرئاستين وأدناه، فكان ينقل أخبار الرضا عليه السلام إلى ذي الرئاستين والمأمون، فحظي بذلك عندهما، وكان لا يُخفي عليهما من أخباره شيئاً. 
 
فولّاه المأمون حجابة الرضا عليه السلام. وكان لا يصل إلى الرضا عليه السلام إلّا من أحبّ، وضيّق على الرضا عليه السلام ؛ فكان من يقصده من مواليه لا يصل إليه، وكان لا يتكلّم الرضا عليه السلام في داره بشيء إلّا أورده هشام على المأمون وذي الرئاستين1.. 
 
وعاش الإمام بعد ذلك أيّاماً صعبة، يقول ياسر الخادم: كان الرضا عليه السلام إذا رجع يوم الجمعة من الجامع، وقد أصابه العرق والغبار، رفع يديه، وقال: "أللَّهم إن كان فرجي ممّا أنا فيه بالموت، فعجِّل لي الساعة، ولم يزل مغموماً مكروباً إلى أن قبض صلوات الله عليه"2
 
 
 

1- المجلسي: بحار الأنوار ج49 ص 139.
2- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج2 ص18.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

50

ولاية العهد

  عزم المأمون على قتل الإمام عليه السلام:

 
ولم يحصل المأمون على ما أراد من توليته للعهد، وحدثت له فتنة جديدة وهي تمرّد العبّاسيّين عليه، ومحاولتهم القضاء عليه1. .
وكان الرضا عليّ بن موسى عليه السلام يكثر وعظ المأمون إذا خلا به، ويخوِّفه بالله، ويقبّح له ما يرتكبه من خلافه، فكان المأمون يظهر قبول ذلك منه، ويتبطّن كراهته واستثقاله. 
 
ومن ذلك أنّه دخل عليه السلام يوماً عليه فرآه يتوضّأ للصلاة، والغلام يصبّ على يده الماء، فقال: "لا تشرك يا أمير المؤمنين بعبادة ربّك أحداً" فصرف المأمون الغلام وتولّى تمام وضوئه بنفسه، وزاد ذلك في غيظه ووجده. 
 
 ويروى أنّه كان عليه السلام يزري2 على الحسن والفضل- ابني سهل- عند المأمون إذا ذكرهما ويصف له مساوئهما، وينهاه عن الإصغاء إلى قولهما، وعرفا ذلك منه، فجعلا  يحطبان3 عليه عند المأمون، ويذكران له عنه ما يبعّده منه، ويخوفانه من حمل الناس عليه، فلم
 
 
 

1-المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام، أعلام الهداية، الإمام عليّ بن موسى الرض عليه السلام ص 169.
2-الإزراء: التهاون بالشيء.
3-حطب فلان واحتطب: جذب عليه شرّاً.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

51

ولاية العهد

  يزالا كذلك حتّى قلبا رأيه، وعمل على قتله عليه السلام1 ... 

وعن أحمد بن عليّ الأنصاريّ قال: سألت أبا الصلت الهرويّ، فقلت له: كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا عليه السلام مع إكرامه ومحبّته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟! فقال: إنّ المأمون إنّما كان يكرمه ويحبّه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده ليرى الناس أنّه راغب في الدنيا، فيسقط محلّه من نفوسهم، فلمّا لم يظهر منه في ذلك للناس إلّا ما ازداد به فضلاً عندهم ومحلّاً في نفوسهم، جلب عليه المتكلّمين من البلدان، طمعاً في أن يقطعه واحد منهم، فيسقط محلّه عند العلماء، وبسببهم يشتهر نقصه عند العامّة. فكان لا يكلّمه خصمٌ من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة والملحدين والدهريّة، ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين إلا قطعه وألزمه الحجّة. وكان الناس يقولون: والله إنّه أولى بالخلافة من المأمون. وكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه فيغتاظ من ذلك، ويشتدّ حسده له. وكان الرضا عليه السلام لا يحابي المأمون من حقّ، وكان يجيبه بما يكره في أكثر أحواله، فيغيظه ذلك، ويحقده عليه، ولا يظهره له، فلمّا أعيته الحيلة في أمره، اغتاله فقتله بالسمّ2.
 
 
 

1-المفيد: الإرشاد ج 2 ص 269.
2- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج2 ص 265 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

52

الشهادة

 عن هرثمة بن أعين1 قال : كنت ليلة بين يدي المأمون، حتّى مضى من الليل أربع ساعات، ثمّ أذن لي في الانصراف، فانصرفت، فلمّا مضى من الليل نصفه، قرع قارع الباب، فأجابه بعض غلماني، فقال له: قل لهرثمة: أجب سيّدك، قال: فقمت مسرعاً، وأخذت عليّ أثوابي، وأسرعت إلى سيّدي الرضا عليه السلام، فدخل الغلام بين يدي، ودخلت وراءه، فإذا أنا بسيّدي عليه السلام في صحن داره جالس. فقال: "يا هرثمة"، فقلت: لبّيك يا مولاي، فقال لي: "اجلس"، فجلست، فقال لي: "اسمع وعِ يا هرثمة، هذا أوان رحيلي إلى الله تعالى ولحوقي بجدّي وآبائي عليهم السلام، وقد بلغ الكتاب أجله، وقد عزم هذا الطاغي على سمّي في عنب ورمّان مفروك، فأمّا العنب فإنّه يغمس السلك في السمّ ويجذبه بالخيط في العنب2، وأمّا الرمّان فإنّه يطرح السمّ في كفّ بعض غلمانه ويفرك الرمّان بيده ليلطّخ حبّه في ذلك السمّ. وإنّه سيّدعوني في ذلك اليوم المقبل، ويقرّب إليّ الرمّان والعنب، ويسألني أكلهما فآكلهما، ثمّ ينفّذ الحكم، ويحضر القضاء"3. .

 
 
 

1- جاء في الحياة السياسيّة للإمام الرضعليه السلام ص 431: لم يكن هرثمة حيّاً حين وفاة الإمام، لأنّه بعد قتل أبي السرايا ذهب إلى مرو، فلم يمهله المأمون، وتخلّص منه بعد أيّام قلائل من وصوله، فروايته لكيفيّة وفاة الإمامعليه السلام لا تصحّ، إلّا أن يكون هرثمة اثنين..هذا ويلاحظ التشابه بين رواية هرثمة ورواية أبي الصلت..فلعلّ الأمر قد اشتبه على الراوي، أو أنّه قد ذكر اسم هرثمة لحاجة في نفسه قضاها..
2- وفي رواية المفيد في الإرشاد ج 2 ص 271: ذُكر أنّ ذلك من لطيف السموم.
3- عيون أخبار الرضاعليه السلام ج 2 ص 275.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

53

الشهادة

 وعن أبي الصلت الهرويّ قال: بينا أنا واقف بين يدي أبي الحسن عليه السلام، إذ قال لي: يا أبا الصلت ادخل هذه القبّة التي فيها قبر هارون، وائتني بتراب من أربعة جوانبها"، قال: فمضيت فأتيت به، فلمّا مثلت بين يديه، قال لي: "ناولني هذا التراب، وهو من عند الباب"، فناولته فأخذه وشمّه، ثمّ رمى به، ثمّ قال: "سيحفر لي ههنا، فتظهر صخرة لو جمع عليها كلّ معول بخراسان لم يتهيّأ قلعها"، ثمّ قال في الذي عند الرِجل: والذي عند الرأس مثل ذلك، ثمّ قال: "ناولني هذا التراب فهو من تربتي". ثمّ قال: "سيحفر لي في هذا الموضع، فتأمرهم أن يحفروا إلى سبع مراقي إلى أسفل، وأن تشقّ لي ضريحه، فإن أبوا إلّا أن يلحدوا، فتأمرهم أن يجعلوا اللحد ذراعين وشبراً، فإنّ الله تعالى سيوسعه ما يشاء"1...

 
ثمّ قال عليه السلام: "يا أبا الصلت، غداً أدخُلُ على هذا الفاجر، فإنْ أنا خرجت مكشوف الرأس، فتكلَّمْ أكلِّمْك، وإنْ خرجتُ وأنا مغطَّى الرأس، فلا تكلّمني".
 
قال أبو الصلت: فلمّا أصبحنا من الغد، لبس ثيابه، وجلس فجعل في محرابه ينتظر، فبينا هو كذلك إذ دخل عليه غلام المأمون، فقال له: أجب أمير المؤمنين، فلبس نعله ورداءه، وقام ومشى، وأنا أتبعه حتّى دخل على المأمون، وبين يديه طبق عليه عنب وأطباق فاكهة، وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه، وبقي بعضه.
 
 
 

1-المصدر السابق ص 271.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

54

الشهادة

  فلمّا أبصر الرضا عليه السلام، وثب إليه فعانقه، وقبّل ما بين عينيه، وأجلسه معه، ثمّ ناوله العنقود، وقال: يا ابن رسول الله، ما رأيت عنباً أحسن من هذا، فقال له الرضا عليه السلام:"ربّما كان عنباً حسناً يكون من الجنّة "، فقال له: كل منه، فقال له الرضا عليه السلام: "تعفيني عنه"، فقال: لا بد من ذلك، وما يمنعك منه، لعلّك تتّهمنا بشيء! فتناول العنقود، فأكل منه، ثمّ ناوله، فأكل منه الرضا عليه السلام ثلاث حبّات، ثمّ رمى به وقام، فقال المأمون: إلى أين؟ فقال: "إلى حيث وجّهتني!..." 

وخرج مغطَّى الرأس، فلم أكلّمه حتّى دخل الدار، فأمر أن يغلق الباب، فغلق، ثمّ نام على فراشه، ومكثت واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً1.
 
قال هرثمة: فلمّا قرب زوال الشمس، أحسست بسيّدي قد خرج من عنده، ورجع إلى داره، ثمّ رأيت الآمر قد خرج من عند المأمون بإحضار الأطباء والمترفّقين، قلت: ما هذا ؟ فقيل لي: علّة عرضت لأبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، فكان الناس في شكّ وكنت على يقين، لما أعرف منه2.
 
يقول ياسر الخادم: ..كان المأمون يأتيه في كلّ يوم مرّتين، فلمّا كان في آخر يومه الذي قبض فيه، كان ضعيفاً في ذاك اليوم، فقال لي، بعدما صلّى الظهر: "يا ياسر، أكل الناس شيئاً؟" قلت: يا سيّدي، من يأكل ههنا مع ما أنت فيه؟
 
 
 

1-المصدر السابق: ص 272.
2-المصدر السابق: ص 277


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

55

الشهادة

 فانتصب عليه السلام، ثمّ قال: "هاتوا المائدة"، ولم يدع من حشمه أحداً إلّا أقعده معه على المائدة، يتفقّد واحداً واحد، فلمّا أكلوا قال: "ابعثوا إلى النساء بالطعام"، فحمل الطعام إلى النساء، فلمّا فرغوا من الأكل، أُغمي عليه وضعف، فوقعت الصيحة، وجاءت جواري المأمون ونساؤه حافيات حاسرات، ووقعت الوجبة بطوس، وجاء المأمون حافياً حاسراً يضرب على رأسه، ويقبض على لحيته، ويتأسّف ويبكي، وتسيل دموعه على خدّيه، (متظاهراً بالحزن عليه)، فوقف على الرضا عليه السلام وقد أفاق، فقال: يا سيّدي، والله ما أدري أيّ المصيبتين أعظم عليّ؟ فقدي لك، وفراقي إيّاك؟ أو تهمة الناس لي، أنّي اغتلتك وقتلتك؟! قال: فرفع طرفه إليه، ثمّ قال: "أحسن يا أمير المؤمنين معاشرة أبي جعفر عليه السلام، فإنّ عمرك وعمره هكذا، وجمع بين سبّابتيه"1...

 
إلى أن جاء الليل...
 
يقول أبو الصلت: ...دخل عليّ شاب حسن الوجه، قطط الشعر2، أشبه الناس بالرضا عليه السلام، فبادرت إليه، وقلت له: من أين دخلت والباب مغلق؟ فقال: "الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق"، فقلت له: ومن أنت؟ فقال لي: "أنا حجّة الله عليّك، يا أبا الصلت، أنا محمّد بن عليّ". ثمّ مضى نحو أبيه عليه السلام، فدخل وأمرني بالدخول معه، فلمّا نظر إليه الرضا عليه السلام، وثب إليه فعانقه، وضمّه إلى صدره، وقبّل ما بين عينيه، ثمّ سحبه 



1- المصدر السابق: ص269.
2- قصير الشعر جعده.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

56

الشهادة

 سحباً في فراشه، وأكبّ عليه محمّد بن عليّ عليه السلام يقبّله، ويسارّه بشيء لم أفهمه1.

 
وقع فوقه الجواد بقلب ملهوف              وسالت دمعته واللون مخطوف
يبويه موتكم بسموم وسيوف               ولا بد تواسيكم العَدلين 
 
ثمّ امتدّ الرضا عليه السلام على المقعد، وغطّاه محمّد بالرداء، وصار إلى وسط الدار. فقال: "يا أبا الصلت". قلت: لبّيك يا ابن رسول الله. قال: "أعظم الله أجرك في الرضا، فقد مضى"2.
 
وا إماماه وا مسموماه وا مظلوماه
                            اويلي اعلى الرضا من عدل رجليه        
تشاهد ويل قلبي واسبل ايديه
                          روحه خلصت او ما ظل نفس بيه        
أتاري مات اويلي اوفرك البين
 
 
 

1-المصدر السابق ص 272.
2-الراونديّ قطب الدين: الخرائج والجرائح ج 1 ص354.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

57

الشهادة

 نهض عنه الجواد او جذب ونّه           حزين اوعقب أبوه النوح فنّه

بعد ما جفنه او من فرغ منّه             اجوه أهل البلد كلهم محزنين
يويلي اشلون ضجه صارت ابطوس      اجت الناس بس تلطم على الروس
الله اوياك آيا شمس الشموس             رحت واحنه بعد نورك مظلمين
نگول من العزه انگلبت خريسان         لفت له بالگبر بثياب الأحزان
بس احسين ظل مطروح عريان          ظل ابكربله واهله مظعنين
 
ثمّ قام الإمام الجواد عليه السلام بتغسيله وتكفينه وتجهيزه، من حيث لا يدري أحد من الناس، لأنّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله1 
 
وكتم المأمون موته يوماً وليلة، ثمّ أنفذ إلى جماعة من آل أبي طالب
 
 
 

1- انظر الصدوق: الأماليّ ص 759، عيون أخبار الرض عليه السلام ج 2 ص 272، الطوسيّ ابن حمزة: الثاقب في المناقب ص 490، الراونديّ قطب الدين: الخرائج والجرائح ج 1 ص 352، المجلسيّ: بحار الأنوار ج 49 ص 301.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

58

الشهادة

 الذين كانوا عنده، فلمّا حضروه، نعاه إليهم، وبكى، وأظهر حزناً شديداً وتوجُّع، وأراهم إيّاه صحيح الجسد، وقال: يعزّ عليّ أن أراك على هذه الحال، قد كنت آمل أن أُقَدَّمَ قبلك، فأبى الله إلا ما أراد.. 1

 
فلمّا أصبح، اجتمع الخلق وقالوا: هذا قتله واغتاله، يعني المأمون، وقالوا: قُتل ابن رسول الله، وأكثروا القول والجَلَبَة2 
 
وما بقي على وجه الأرض ثلاثة أيام بلا غسل ولا كفن، كما بقي جدّه الحسين عليه السلام!!
 
حتّى إذا أَزِفَ المَقْدُورُ جاءَ لَهُ           الجوادُ والدمْعُ يَجْرِي مِنْ مآقِيهِ
سُرعانَ ما جاءَهُ مِنْ طَيْبَةٍ فغَدا            أبوهُ يُدْنِيه للنَّجْوَى ويُوصِيهِ
وكَيْفَ يَبْعُدُ في المَسْرَى عليه مَدىً        لَدَيْهِ سِيَّانِ قاصِيهِ ودَانِيهِ
لَكِنَّ جِسْمَ حُسَيْنٍ بالطُّفوفِ ثَوى         عارٍ ثلاثاً ووَحْشُ القَفْرِ تَبْكِيهِ3
 
 
 

1- المفيد: الإرشاد ج2 ص 271. 
2-عيون أخبار الرض  عليه السلام ج 2 ص 270، والجَلَبَة: اختلاط الصوت.
3-الهاشميّ السيّد عليّ بن الحسين: المطالب المهمّة في تاريخ النبيّ والزرهاء والأئمّة عليهم السلام ص 256.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

59

بين مصائب الرضا عليه السلام ومصائب كربلاء

 لمّا خرج محمّد بن الإمام جعفر الصادق عليه السلام بالمدينة، بعث الرشيد إليه الجلوديّ، وأمره أن ينهب دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم وأن لا يدع عليهن إلا ثوباً واحداً !!

 
وكان هذا بعد شهادة الإمام الكاظم عليه السلام، فصار الجلوديّ إلى المدينة، وفعل مع العلويّين كما أمره الرشيد، وهجم برجاله على دار الرضا عليه السلام..
 
فاضطربن العلويّات، وتجمّعن في بيت واحد، فقال له الرضا عليه السلام: دعني أسلب ما عليهن، وآتيك به، وحلف له أن لا يترك عليهن شيئاً. فوقف الجلوديّ على الباب، ودخل الإمام عليه السلام، فأخذ جميع ما عليهن من ثياب وأسورة وخلاخيل وأقراط، ودفعه إلى الجلوديّ1...
 
سيّدي يا أبا الحسن، ما أشبه هذا الموقف بيوم عاشوراء ، بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام، لمّا هجم القوم على خيام بنات رسول الله صلى الله عليه وآله، ولكن لقد حاميت عن نسائك وعيالك، ولم تدع القوم يسلبونهن، ولكن أسفي على بنات رسول الله!! من الذي حامى عنهنّ، وليس لهنَّ من رجالهنّ إلّا مريض عليل لا يستطيع النهوض؟
 
 
 

1- المقرّم السيّد عبد الرزاق: وفاة الإمام الرضا عليه السلام ص 24.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

60

بين مصائب الرضا عليه السلام ومصائب كربلاء

 فأخذ القوم يسلبون بنات رسول الله...

 
سيّدي أنت القائل: إنّ المحرّم شهر، كان أهل الجاهليّة يحرّمون فيه القتال، فاستحلّت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم تُرعَ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرمة في أمرنا.."1
 
يروى عن دعبل الخزاعيّ أنّه قال: دخلت على سيّدي ومولاي عليّ بن موسى الرضا عليه السلام في مثل هذه الأيّام (أي أيّام محرّم)، فرأيته جالساً جلسة الحزين الكئيب، وأصحابه من حوله، فلمّا رآني مقبلاً قال لي: "مرحباً بك يا دعبل، مرحباً بناصرنا بيده ولسانه"، ثمّ إنّه وسَّع لي في مجلسه وأجلسني إلى جانبه، ثمّ قال لي: "يا دعبل أحبّ أن تنشدني شعراً، فإنّ هذه الأيّام أيّام حزن كانت علينا أهل البيت، وأيّام سرور كانت على أعدائنا، خصوصاً بني أميّة، يا دعبل، من بكى وأبكى على مصابنا ولو واحداً كان أجره على الله. يا دعبل، من ذرفت عيناه على مصابنا، وبكى لما أصابنا من أعدائنا، حشره الله معنا في زمرتنا. يا دعبل، من بكى على مصاب جدّي الحسين غفر الله له ذنوبه البتّة". ثمّ إنّه عليه السلام نهض، وضرب ستراً بيننا وبين حرمه، وأجلس أهل بيته من وراء الستر ليبكوا على مصاب جدّهم الحسين عليه السلام، ثمّ التفت إليّ، وقال لي: "يا دعبل، إرث الحسين، فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمت حيّاً، فلا تقصّر عن نصرنا ما استطعت". قال دعبل: فاستعبرت، وسالت عبرتي وأنشأت أقول: 
 
 
 

1- الصدوق: الأماليّ ص 190.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

61

بين مصائب الرضا عليه السلام ومصائب كربلاء

 أَفاطِمُ لَوْ خِلْتِ الحُسَينَ مُجَدَّلاً          وقدْ ماتَ عطشاناً بشَطِّ فُراتِ 

إذاً لَلَطَمْتِ الخَدَّ فاطِمُ عِنْدَهُ             وأَجْرَيْتِ دَمْعَ العَيْنِ في الوَجَناتِ 
أفاطمُ قُومي يا ابْنَةَ الخيرِ وانْدُبي         نُجومَ سماواتٍ بِأَرْضِ فَلاةِ 
قُبورٌ بِكُوفانٍ وأُخْرَى بطَيْبَةٍ             وأُخْرَى بفَخٍّ نالَها صَلَواتي 
قُبورٌ بِبَطْنِ النَّهْرِ مِنْ جَنْبِ كَرْبلا       مُعَرَّسُهُمْ فيها بِشَطِّ فُراتِ 
تُوُفُّوا عُطَاشَى بالعَراءِ فليتني             تُوُفِّيتُ فيهمْ قَبْلَ حِينِ وَفاتي1
 
 
 

1- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 45 ص 257.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

62

بين مصائب الرضا عليه السلام ومصائب كربلاء

 في زيارته عليه السلام :

 
ورد الكثير من الروايات في فضل زيارة الرضا عليه السلام بطوس:
 
منها: ما عن قبيصة بن جابر بن يزيد الجعفيّ، قال: سمعت وصيّ الأوصياء، ووارث علم الأنبياء، أبا جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، يقول: "حدّثني سيّد العابدين، عليّ بن الحسين، عن سيّد الشهداء، الحسين بن عليّ، عن سيّد الأوصياء، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ستدفن بضعة منّي بأرض خراسان، ما زارها مكروب إلّا نفَّس الله كربته، ولا مذنب إلّا غفر الله ذنوبه"1 .
 
وعن الرضا عليه السلام : " من زارني على بُعد داري، أتيته يوم القيامة في ثلاث مواطن، حتّى أخلّصه من أهوالها: إذا تطايرت الكتب يميناً وشمالاً، وعند الصراط، وعند الميزان"2.
 
وأمّا زيارته، فقد قال الشيخ المفيد رحمه الله:
 
باب مختصر زيارته عليه السلام : تقف على قبره- بعد أن تغتسل لزيارته، وتلبس أطهر ثيابك...- وتقول: السلام عليك يا وليّ الله وابن 
 
 
 

1- الصدوق: عيون أخبار الرض عليه السلامج 2 ص 288.
2- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج2 ص 285

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

63

بين مصائب الرضا عليه السلام ومصائب كربلاء

 وليّه، السلام عليك يا حجّة الله وابن حجّته، السلام عليك يا إمام الهدى والعروة الوثقى، ورحمة الله وبركاته. أشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه آباؤك الطاهرون صلوات الله عليهم، لم تؤثر عمىً على هدى، ولم تمل من حقّ إلى باطل، وأنّك نصحت لله ولرسوله، وأدّيت الأمانة، فجزاك الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء. أتيتك بأبي أنت وأمّي زائراً، عارفاً بحقّك، موالياً لأوليائك، معادياً لأعدائك، فاشفع لي عند ربّك.

 
ثمّ انكب على القبر فقبّله، وضع خديّك عليه.
 
ثمّ تحول إلى عند الرأس، فقل: السلام عليك يا مولاي يا بن رسول الله ورحمه الله وبركاته، أشهد أنّك الإمام الهادي، والوليّ المرشد، أبرأ إلى الله من أعدائك، وأتقرّب إلى الله بولايتك، صلّى الله عليّك ورحمة الله وبركاته.
 
ثمّ صلّ ركعتي الزيارة، وصلّ بعدهما ما بدا لك، وتحوّل إلى عند الرجلين، فادع بما شئت، إن شاء الله1.
 
 
 

1-المفيد: المقنعة ص 480. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

64

خاتمة في المراثي

 رثاء دعبل بن عليّ الخزاعيّ:


من تائيّة دعبل الخزاعيّ التي أنشدها بمحضر الإمام الرضا عليه السلام:

ذَكَرْتُ مَحَلَّ الرَّبْعِ منْ عرَفاتِ               فأَسْبَلْتُ دَمْعَ العينِ بالعَبراتِ 
وفَكَّ عُرَى صَبْري وَهاجَت صَبابَتي         رسُومُ دِيارٍ أَقْفَرَتْ وَعِراتِ 
مَدارِسُ آياتٍ خَلتْ منْ تِلاوةٍ               ومنزِلُ وَحْيٍ مُقْفِرُ العَرَصاتِ 
لآلِ رسُولِ اللهِ بالخِيفِ منْ مِنى            وبِالبيتِ والتَّعريفِ والجمَراتِ 
دِيارُ عليٍّ والحسينِ وجعفرٍ                وحمزةَ والسَّجَّادِ ذي الثَّفِناتِ 
دِيارٌ عفَاها جَوْرُ كُلِّ معانِدٍ                 ولم تَعْفُ بالأيّامِ والسَّنواتِ 
دِيارٌ لِعبدِ اللهِ والفضلِ صنوِهِ               سَليلِ رسولِ اللهِ ذي الدَّعَواتِ 
مَنازِلُ كانتْ لِلصَّلاةِ وللتُّقى                وللصَّومِ والتَّطهيرِ والحسَناتِ 
مَنازِلُ جِبريلِ الأمينِ يَحُلُّها                منَ اللهِ بالتَّسليمِ والزَّكَواتِ 
مَنازلُ وَحْيِ اللهِ مَعْدنِ علْمِهِ               سبيلِ رشادٍ واضحِ الطُّرُقاتِ 
مَنازلُ وَحْيُ اللهِ يَنْزِلُ حَوْلَها               علَى أحمدَ الرَّوْحاتِ والغَدَواتِ 
فَأينَ الأُلَى شَطَّتْ بِهم غُرْبَةُ النَّوى         أفانِينَ في الأقطارِ مُخْتَلِفاتِ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

65

خاتمة في المراثي

 هُمُ آلُ ميراثِ النبيّ إذا انْتَمَوْا             وهُمْ خَيْرُ ساداتٍ وخيرُ حمُاةِ 

مطاعيمُ في الإعْسارِ في كُلِّ مشهدٍ         لقدْ شَرُفُوا بالفضلِ والبركاتِ 
إذا لم نُناجِ اللهَ في صَلَواتِنا                بذِكْرِهِمْ لم يَقْبَلِ الصَّلواتِ 
أئمّةُ عدْلٍ يُهْتدَى بِهُداهمُ                  وتُؤْمَنُ مِنْهمْ زَلَّةُ العثَراتِ 
فيا ربِّ زِدْ قلبي هُدىً وبصيرةً            وزِدْ حُبَّهُمْ يا ربِّ في حَسَناتي 
دِيارُ رسولِ اللهِ أصبحْنَ بَلْقعاً             ودارُ زيادٍ أصبحَتْ عَمِراتِ
وآلُ زيادٍ في القُصورِ مَصُونةٌ             وآلُ رسولِ اللهِ في الفَلَواتِ 
فَيا وارِثي عِلْمِ النبيّ وآلِهِ                 عليكم سَلامٌ دائمُ النَّفَحاتِ 
لَقدْ أَمِنَتْ نَفْسِي بِكُمْ في حيَاتِه             وإنِّي لَأَرْجُو الأَمْنَ عِنْدَ مماتي1
 
 
وعنه أنّه قال: جاءني خبر موت الرضا عليه السلام ، وأنا بقُم، فقلت قصيدتي الرائيّة: 
 
أَرى أُميَّةَ معذُورِينَ إِنْ قَتَلُوا                ولا أَرى لِبنَي العبَّاسِ مِنْ عُذُرِ 
أَوْلادَ حَرْبٍ ومَرْوانٍ وأُسْرَتَهمْ              بَنِي مَعِيطَ وُلاةَ الحِقْدِ والوَغَرِ 
قَوْمٌ قَتلْتُمْ علَى الإسلامِ أَوَّلَهُمْ              حتّى إذا اسْتَمْكَنُوا جازُوا علَى الكُفُرِ
 
 
 

1- الأربليّ: كشف الغمّة ج 3 ص 57
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

66

خاتمة في المراثي

 إرْبَعْ بِطُوسٍ علَى قَبْرِ الزَّكيِّ بهِ              إِنْ كُنْتَ تَرْبَعُ مِنْ دِينٍ عَلَى وَطَرِ 

قَبْرانِ في طُوسَ خَيْرُ الناسِ كُلِّهِمُ            وقَبْرُ شَرِّهِمُ هذا مِنَ العِبَرِ 
ما يَنْفَعُ الرِّجْسَ مِنْ قُرْبِ الزَّكِيِّ ولا       عَلَى الزَّكِيِّ بِقُرْبِ الرِّجْسِ مِنْ ضَرَرِ 
هَيْهاتِ كُلُّ امْرِئٍ رَهْنٌ بما كَسَبَتْ          له يَدَاهُ فخُذْ ما شِئْتَ أَو فَذَرِ1
 
قال أبو الفرج: أنشدني عليّ بن سليمان الأخفش، لدعبل بن عليّ الخزاعيّ، يذكر الرضا والسمّ الذي سقيه، ويرثي ابناً له، وينعى على الخلفاء من بني العبّاس: 
 
عَلَى الكُرْهِ ما فارَقْتُ أَحَمْدَ وانْطَوَى        عليه بِناءٌ جَنْدَلٌ وَرزِينُ 
وَأَسْكَنْتُهُ بَيْتاً خَسِيساً مَتَاعُهُ                وإنِّي عَلَى رُغْمِي بِه لَضَنِينُ 
ولَوْلا التَّأَسِّي بالنبيّ وأَهْلِهِ                  لَأَسْبَلَ مِنْ عَيْنِي عليه شُؤُونُ 
هُوَ النَّفْسُ إِلَّا أَنَّ آلَ مُحَمّدٍ                لَهُمْ دُونَ نَفْسِي في الفُؤادِ كَمِينُ 
أضَرَّ بِهمْ إِرْثُ النَبيّ فأَصْبَحُوا               يُساهِمُ فيهِ مَيْتَةٌ ومَنُونُ 
دَعَتْهُمْ ذئابٌ مِنْ أُمَيَّةَ وانْتَحَتْ             عليهمْ دِراكاً أَزْمَةٌ وسُنُونُ 
وعاثَتْ بنُو العبَّاسِ في الدِّين عَيْثَةً           تَحكَّمَ فيهِ ظالمٌ وظَنِينُ 
وَسمَّوْا رَشِيداً ليسَ فِيهمْ لِرُشْدِهِ              وها ذاكَ مأْمُونٌ وذاكَ أَمِينُ 
 
 
 

1- الصدوق: الأمالي ص 758، وعيون أخبار الرض عليه السلام ج 2 ص 281، وانظر: ياقوت الحمويّ: معجم البلدان ج 5 ص 50.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

67

خاتمة في المراثي

 فمَا قَبِلَتْ بالرُّشْدِ منهُمْ رِعايةً              ولا لِوَليٍّ بالأمَانةِ دِينُ 

رَشِيدُهُمُ غاوٍ وطِفْلاهُ بَعْدَهُ                 لِهَذا رَزايا دُونَ ذاك مَجُونُ 
أَلا أَيُّها القبرُ الغريبُ محلُّهُ                  بطُوسٍ عليكَ السَّارِياتُ هَتُونُ 
شَكَكْتُ فَما أَدْرِي أَمُسْقىً بشَرْبَةٍ           فأَبْكِيكَ أَمْ رَيْبُ الرَّدَى فَيَهُونُ؟ 
وأَيُّهُما ما قلتُ إِنْ قُلْتُ شَرْبَةٌ              وإنْ قُلْتُ: مَوْتٌ أنّه لَقَمِينُ 
أيَا عَجباً مِنْهُمْ يُسَمُّونَكَ الرِّضا            ويَلْقاكَ مِنْهُمْ كَلْحَةٌ وغُضُونُ 
أَتَعْجَبُ لِلْأَجْلافِ أَنْ يَتَخَيَّفُوا               مَعَالِمَ دِينِ اللهِ وَهْوَ مُبِينُ 
لقَدْ سَبقَتْ فِيهِمْ بِفَضْلِكَ آيَةٌ                لَدَيَّ ولكِنْ ما هُناك يَقِينُ1
 
 
 

1- الأصفهانيّ أبو الفرج: مقاتل الطالبيّين ص 456.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

68

خاتمة في المراثي

 رثاء أشجع بن عمرو السلميّ1:

 
يا صاحِبَ العِيسِ يَحْدِي في أَزِمَّتِها        اسْمَعْ وأَسْمِعْ غَداً يا صاحِبَ العِيسِ
إِقْرا السَّلامَ علَى قبرٍ بطُوسَ ولا            تَقْرا السَّلامَ ولا النُّعْمَى علَى طُوسِ
فَقدْ أصابَ قلُوبَ المسْلِمينَ بها             رَوْعٌ وأَفْرخَ فيها رَوْعُ إِبْليسِ
وَأَخْلَسَتْ واحِدَ الدُّنيا وسَيِّدَها             فَأيُّ مختَلِسٍ مِنَّا ومَخْلُوسِ
ولَوْ بدَا الموتُ حتّى يَسْتَدِيرَ به            لاقَى وجُوهَ رجالٍ دُونَهُ شُوسِ
بُؤْساً لِطُوسٍ فما كانتْ مَنازِلُهُ             مِمَّا تُخَوِّفُهُ الأيّامُ بالبوُسِ
مُعَرَّسٌ حَيْثُ لا تَعْرِيسَ مُلْتَبِسٌ            يا طُولَ ذلِكَ مِنْ نَأْيٍ وتَعْرِيسِ
إنَّ المنايا أنالتْهُ مخَالِبَها                     ودُونَهُ عَسْكَرٌ جَمُّ الكَرَادِيسِ
أَوْفَى عليه الرَّدَى في خِيسِ أَشْبُلِهِ        والموتُ يَلْقَى أَبا الأَشْبالِ في الخيسِ
ما زالَ مُقْتَبِساً مِنْ نُورِ والِدهِ             إِلَى النبيّ ضِياءً غَيْرَ مَقْبُوسِ
في مَنْبِتٍ نهَضَتْ فيهِ فُرُوعُهُمُ              بِباسِقٍ في بِطاحِ المُلْكِ مَغْرُوسِ
والفَرْعُ لا يَرْتَقِي إِلَّا عَلَى ثِقَةٍ             مِنَ القواعِدِ والدُّنيا بِتَأْسِيسِ
لا يَوْمَ أَوْلَى بِتَخْرِيقِ الجيُوبِ ولا         لَطْمِ الخدُودِ ولا جَدْعِ المعَاطِيسِ
 
 
 

1- قال أبو الفرج الأصفهانيّ: هكذا أنشدنيها عليّ بن الحسين بن عليّ بن حمزة، عن عمّه، وذكر أنّها لما شاعت غيّر أشجع ألفاظها فجعلها في الرشيد. 


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

69

خاتمة في المراثي

 مِنْ يَوْمِ طُوسَ الذي نادتْ برَوْعَتِهِ       لنا النُّعاةُ وأَفْواهُ القَراطِيسِ

حَقّاً بأَنَّ الرِّضا أَوْدَى الزَّمانُ بهِ          ما يَطْلُبُ الموتُ إِلَّا كُلَّ مَنْفُوسِ
ذا اللَّحْظَتَيْنِ وذا اليَوْمَيْنِ مُفْتَرِشٌ        رَمْساً كآخَرَ في يَوْمَيْنِ مَرْمُوسِ
بِمَطْلَعِ الشَّمْسِ وافَتْهُ مَنِيَّتُهُ              ما كانَ يَوْمُ الرَّدى عَنْهُ بِمَحْبُوسِ
يا نازِلاً جَدَثاً في غَيْرِ مَنْزِلِهِ              ويا فريسَةَ يَوْمٍ غَيْرِ مَفْرُوسِ
لَبِسْتَ ثَوْبَ البِلَى أُعْزُزْ عليَّ به          لُبْساً جديداً وثَوْباً غَيْرَ مَلْبُوسِ
صَلَّى عليكَ الَّذِي قَدْ كُنْتَ تَعبُدُهُ        تحتَ الهواجِرِ في تلكَ الأَمالِيسِ
لَوْلا مُناقَضةُ الدُّنيا مَحاسِنَها             لما تَقَايَسَها أَهْلُ المقايِيسِ
أَحلَّكَ اللهُ داراً غَيْرَ زائِلَةٍ                في مَنْزِلٍ برسُولِ اللهِ مَأْنُوسِ1
 
 
 

1- الأصفهانيّ أبو الفرج: مقاتل الطالبيّين ص 458، وقال في آخرها: "قال أبو الفرج: هذه القصيدة ذكر محمّد بن عليّ بن حمزة أنّها في عليّ بن موسى الرضا".
  
 
 
 
 
 
 
 
 
90


70

خاتمة في المراثي

 رثاء محمّد بن حبيب الضبّي: 

 
قَبْرانِ في طُوسِ الهُدَى في واحِد         والغَيُّ في لَحْدٍ ثراهُ ضِرامُ
قُرْبُ الغَوِيِّ مِنَ الزَّكِيِّ مُضَاعِفٌ         لِعَذابِهِ ولأَنْفِهِ الإِرْغامُ1
 
 
 

1- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 388.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

71

خاتمة في المراثي

 رثاء عليّ بن أبي عبد الله الخوّافيّ: 

 
يا أرضَ طُوسٍ سَقاكِ اللهُ رَحْمتَهُ         ماذا حَوَيْتِ مِنَ الخَيْراتِ يا طُوسُ؟ 
طابَتْ بِقَاعُكِ في الدُّنيا وطَيَّبَه           شَخْصٌ ثوَى بسَناآبادٍ مَرْمُوسُ 
شَخْصٌ عَزِيزٌ عَلَى الإِسْلاَمِ مَصْرَعُه      في رَحْمَةِ اللهِ مَغْمُورٌ ومَغْمُوسُ 
يا قبرَهُ أَنْتَ قبرٌ قَدْ تَضَمَّنَهُ               حِلْمٌ وعِلْمٌ وتَطْهِيرٌ وتَقْدِيسُ 
فَخْراً فإنَّكَ مَغْبُوطٌ بِجُثَّتِهِ                 وبِالملائِكَةِ الأبرارِ مَحْرُوسُ1
 
 
 

1-الصدوق: عيون أخبار الرض عليه السلام ج2 ص 280
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

72

خاتمة في المراثي

 رثاء ابن المشيّع المدنيّ: 

 
يا بُقْعةً ماتَ بها سَيِّدِي                  ما مِثْلُهُ في النَّاسِ مِنْ سِيّدِ 
ماتَ الهُدَى مِنْ بَعْدِهِ والنَّدَى            وشَمَّرَ الموتُ بهِ يَقْتَدِي  
لا زالَ غَيْثُ اللهِ يا قَبْرَهُ                 عليكَ مِنْهُ رائِحاً مُغْتَدِي 
كانَ لنَا غَيْثاً بِهِ نَرْتَوِي                  وكانَ كالنَّجْمِ بِه نَهْتَدِي 
ِنَّ عليّاً بْنَ مُوسَى الرِّضا                قَدْ حلَّ والسُّؤْدُدُ في مُلْحَدِ 
يا عَيْنُ فابْكِي بِدَمٍ بَعْدَهُ                 علَى انْقِراضِ المَجْدِ والسُّؤْدُدِ1
 
 
 

1-المصدر السابق.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

73

خاتمة في المراثي

 رثاء أبي فراس الحمدانيّ: 

 
باؤُوا بقَتْلِ الرِّضا مِنْ بَعْدِ بَيْعَتِهِ        وأَبْصَرُوا بَعْضَهُمْ مِنْ رُشْدِهِمْ وعُمُوا
عِصابَةٌ شَقِيَتْ مِنْ بَعْدِما سَعِدُو        وَمْعَشرٌ هَلَكُوا مِنْ بَعْدِما سَلِمُوا
لا بَيْعَةً رَدَعَتْهُمْ عَنْ دِمائِهِمُ           ولا يَمِينَ ولا قُرْبَى ولا رَحِمُ1
 
 
 

1-ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 405.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

74

خاتمة في المراثي

 الشيخ سلمان البحرانيّ الملقّب بالتاجر:


إنْ تَكُنْ طُوسُ ذِي مَقَامَ ابْنِ مُوسَى          فمِنَ الشَّوْقِ فُكَّ فيها الحَبِيسا
والْثِمِ الأَرْضَ بالشِّفاهِ ولا تَخْـ               ـشَ بِلَثمِ الأَعْتابِ ضُرّاً وبُؤْسا
واخْلَعِ النَّعْلَ إنْ دخَلْتَ عليه                 ففِناهُ يُجاورُ التقْدِيسا
ثمّ عَفِّرْ خَدَّيْكَ مِنْ حَوْلِ رَمْسٍ               ضُمَّ فيه شَبِيهُ مُوسَى وعِيسَى
واتْلُ ما قِيلَ فيهَ حَيّاً من المَدْ                 حِ فأَوْلَى يُتْلَى له مَرْمُوسا
وأَنارَتْ طُوسٌ بوجْهِكَ إِذْ جِئْـ              ـتَ إليها فلمْ ترَ التَّغْلِيسا
كَمْ بآفاقِها مَعاجِزُ غُرٍّ                       كُنْتَ أَظْهَرْتَها فكانَتْ شُموسا
فَعلامَ الخُطوبُ أَلْبَسْنَها ثَوْ                  بَ حِدادٍ وأَمْسُ كانَتْ عَرُوسا
هَكَذا هَكَذا أَرَتْها اللَّيالِي                    فَسُعُوداً طَوْراً وطَوْراً نُحُوسا
كُسِفَتْ شَمْسُها بها فتَردَّتْ                  في عَزاها مِنْ كَسْفِها مَلْبُوسا
وخَبا نَيِّرُ النُّبُوَّةِ فِيها                       فَأَرَتْنا بَعْدَ ابْتِسامٍ عُبُوسا
غِيلَ فِيها الرِّضا عليّ ولكِنْ                غِيلَ فيهِ الكَلِيمُ وعيسى
خانَ فِيهِ المأمونُ عَهْداً وَثِيق              مَعْهَدُ الدَّرْسِ فيهِ عادَ دَرِيسا
هَلْ دَرى أنّه بِسُمِّ ابْنِ مُوسَى               غَالَ نَفْساً أماتَ فِيها نُفُوس 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

75

خاتمة في المراثي

 أَوَ يَدْرِي من العُلُوم دَهَى في              ـهِ بِطَمْسٍ مَعْقُولُها المَحْسُوسا

جَعَلَتْ تَنْدُبُ المعَالي مَعالي                ـهِ وتَنْعَى الدُّرُوسُ فيهِ الدُّرُوسا
ما لِذَاكَ الرُّمَّانِ والعِنَبِ المَسْـ             ـمُومِ فَتَّ الفُؤادَ مِنْهُ بِمُوسَى
ما لِمَأْمُونِهَا فلا آمَنَ اللّـ                   ـهُ له رَوْعَةً وافَى نُكُوسا
غادرَ الدِّينَ يَشْتَكِي في حَشاهُ             أَلماً مِنْ جِراحَةٍ ليسَ تُوسَى
أَغْضَبَ اللهَ والملائِكَ والرُّسْـ              ـلَ وأَرْضَى بقَتْلِه إِبْلِيسا
عَبسَ الكَوْنُ حِينَ زَلْزَلَ فِيهِ               وَغَشَى يَثْرِبَ المُصَابُ وطُوسا
فَأتَاهُ ابنُهُ كَرَدِّكَ للِطَّرْ                      فِ عَلَى البُعْدِ ليسَ يَدْرِي العِيسا
ثمّ حيَّاهُ وهْو يُبْدِي بُكاءً                  لاثِماً فاهُ وَهْوَ يُخْفِي رَسِيسا
وقَضى نَحْبَهُ ومِلْءُ رِداهُ                  مَكْرُماتٍ تَفُوحُ عِطْراً نَفِيساً
فَتواصَتْ علَى البُكا أَرْمَلاتٌ               فيه في الدَّمْعِ كَمْ أَسَلْنَ نفُوسا
ونَعتْهُ رياسَةُ العَهْدِ لمَّ                    فارقَتْ فيهِ رَأْسَها والرّئِيسا
وبِتَزْفارِها علَى مَوْتِهِ طُو                سُ بِقَلْبِ الوُجودِ شَبَّتْ وَطِيسا
وعليه الأقلامُ عَضَّتْ ضُرُوس            حَيْثُ في فَقْدِهِ فَقَدْنَ طُروس1
 
 
 

1- رياض المدح والرثاء ص 429

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

76

خاتمة في المراثي

 رثاء الحجّة الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ:


تَرى المُلوكَ سُجَّداً ببابِهِ                فالعِزُّ كُلُّ العِزِّ في أَعْتابِهِ 
تَطُوفُ حَوْلَ قَبْرِهِ الأَمْلاكُ              كَأنّه المِحْوَرُ والأَفْلاكُ
تَبْكِي عَلَى مِحْنَتِهِ وَكُرْبَتِهْ              وبُعْدِهِ عَنْ دارِهِ وغُرْبَتِهْ
وَيْلٌ بَلِ الوَيْلاتُ لِلْمَأْمونِ              وَيْلٌ لِذاكَ الغادِرِ الخَؤُونِ
لَمْ يَحْفَظِ النبيَّ في سبيلِهِ              وتاهَ في الغَيِّ وفي سَبِيلِهِ
خانَ أمينَ اللهِ في أمانَتِهْ              فَهلْ تَرى أَعْظَمَ مِنْ خِيانَتِهْ؟
أَخْرَجَهُ مِنْ مَهْبِطِ التَّنْزِيلِ             إِليهِ بالخِداعِ والتَّسْوِيلِ
ولا يَحِيقُ المَكْرُ أيَّ مَكْرِ              إلَّا بأَهْلهِ كَما في الذِّكْرِ
ولَّاهُ عَهْدَهُ وجُلُّ جُهْدِهِ               في نَقْضِ عَهْدِهِ ونَكْثِ عَهْدِهِ
فَيا لَها وِلايةً مَشْؤُومهْ               كانَتْ لها نَتِيجةٌ مَسْمُومَهْ 
وبانَ مِنْ مآثِرِ الإمامِ                 بأنّه أَحقُّ بالمَقامِ 
فَقدْ بدَتْ في مُدَّةِ الوِلايهْ             خَوارِقٌ ليسَ لها نهايهْ
وكانَ ما يَبْدُو مِنَ الخَوارِقِ         أَمْضَى عَلَى الخَصْمِ مِنَ البَوارِقِ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

77

خاتمة في المراثي

 فازْدادَ ذلِكَ الحقُودُ حَسَدَ             فإنّه نارٌ تُذِيبُ الجَسَدا

فاغْتالَهُ بالعِنَبِ المَسْمُومِ             وَيْلٌ لِذاكَ الظّالمِ الغَشُومِ
لَوْلا رِضاهُ بالقَضاءِ الجارِي         لَاسْوَدَّ وَجْهُ الدَّهْرِ بالبَوارِ
ومادَتِ الأرضُ بِلَابِثِيه               وساخَتِ الأرضُ بِمَنْ عليها
قضَى شَهِيداً صابراً محتَسِب        وهْوَ غريبٌ بَلْ غرِيبُ الغُرَبا
تَقَطَّعَتْ أمعاؤُهُ بالسُّمِ                فِداهُ نَفْسِي وأَبي وأُمِّي
بَكَتْ عليه هاطِلاتُ القُدْسِ          ناحَتْ عليه نفَحاتُ الأُنْسِ
ناحَ الأمينُ وهْوَ ذُو شُجُونِ        مِمَّا جَنَتْ بهِ يَدُ المَأْمُونِ
عليه سَيِّدُ الوَرى يَنُوحُ              حُزْناً فكيفَ لا يَنُوحُ الرُّوحُ؟
ناحَتْ عليه الأنبياءُ والرُّسُلْ         بَلِ العُقولُ والنُّفُوسُ والمُثُلْ
ناحَتْ عليه الحوُرُ في الجِنانِ        تَأَسِّياً بخِيرَةِ النِّسْوانِ
بكَى عليه ما يُرَى ولا يُرَى        والبَرُّ والبَحْرُ وأَطْباقُ الثَّرى
لقَدْ بكَى البَيْتُ ومُسْتَجارُهُ         وكيفَ لا ومِنْهُ عَزَّ جارُهُ 
وقَدْ بكاهُ المَشْعَرُ الحَرامُ           والحَجَرُ الأَسْوَدُ والمَقَامَ
لِفَقْدِ عِزِّها ومَنْ حمَاه             بِعِزَّةٍ عَنْ كُلِّ ما دَهَاها
بَلْ هُوَ عِزُّ الأرضِ والسَّماءِ       والمَلأُ الأَعْلَى عَلَى سَواءِ1
 
 
 

1-الأصفهاني الشيخ محمد حسين الأنوار القدسية ص 99 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

78
غريب خراسان شهادة الإمام علي الرضا عليه السلام