السبط المسموم شهادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام سلسلة مجالس العترة


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-06

النسخة: 0


الكاتب

معهد سيد الشهداء

هو مؤسسة ثقافية متخصصة تعنى بشؤون النهضة الحسينية ونشرها، وإعداد قدرات خطباء المنبر الحسيني وتنميتها، معتمدة على كفاءات علمائية وخبرات فنية وإدارية... المرتكزة على الأسس الصحيحة المستقاة من ينبوع الإسلام المحمدي الأصيل.


المقدمة

 المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
 
والصّلاة والسَّلام على سيّد الأنبياء والمرسلين محمّد وعلى عِترته وأهل بيته المظلومين المعصومين، الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.
 
روى المسلمون قاطبة، الروايات والأحاديث المتواترة، في فضل محبّة آل بيت الرسول صلى الله عليه واله وسلم، ومودّتهم وفضلهم، ما ملئت بها الكتب والأسفار، وصار أمر ذلك للمسلم كالشمس في رائعة النهار. 
 
ولسبط رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وريحانته، الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، حظّ وافر من هذه الروايات
 
فقد روى البخاريّ في صحيحه، في باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما": حدّثنا حجّاج بن المنهال، حدّثنا شعبة، قال: أخبرني عدي، قال: سمعت البرّاء رضي الله عنه، قال: رأيت النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم، والحسن بن عليّ على عاتقه، يقول: "أللَّهم إنّي أحبّه فأحبّه".
 
وبسنده عن عقبة بن الحرث أنّه رأى أبا بكر وقد حمل الحسن عليه السلام وهو يقول: بأبي شبيه بالنبيّّ، ليس شبيهاً بعليّ، وعليّ يضحك"1.
 
وروى ابن ماجة بسنده عن أبي هريرة، أنّ النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم قال للحسن: 
 
 
 

1-البخاريّ: صحيح البخاريّ ج 4 ص 216، باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

1

المقدمة

 "أللَّهم إنّي أحبّه، فأحبّه، وأحبّ من يحبّه". قال: وضمّه إلى صدره1.

 
وروى أحمد في مسنده: عن أبي سعيد الخدريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة"2. والروايات في فضله ومناقبه كثيرة، لا يسعنا عرضها في هذا المختصر...
 
"ما منّا إلّا مسموم أو مقتول"3
 
وقد شاءت الحكمة الإلهيّة أن يجعل خاتمة أمر أوليائه من أهل بيت رسوله صلى الله عليه واله وسلم، الشهادة في سبيله، إمّا بالقتل أو بالسمّ، ولم يكن ابتلاؤهم بذلك امتحاناً لإيمانهم، ولا نتيجة لأعمالهم، بل لدرجاتٍ ومقاماتٍ، لم ينالوها إلّا بأصعب الأعمال وأشقّها، وأكثرها ابتلاءً وأمضّها، فقتل من قتل، وسبي من سبي، وأقصي من أقصي، وجرى القضاء في أوليائه وأحبّائه بما يرجى له حسن المثوبة.
 
إخبار النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم بشهادة الحسن عليه السلام 
 
ومن بين هذه المصائب الأليمة والمفجعة، شهادة الإمام الحسن عليه السلام مظلوماً مسموماً، صابراً محتسباً...
 
وهو ما كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أخبره به وبما يجري عليه وعلى أهل البيت عليهم السلام، من مصائب مفجعة:
 
 
 

1- القزوينيّ محمّد بن يزيد: سنن ابن ماجة ج 1 ص 51، باب في فضائل أصحاب رسول الله، فضل الحسن والحسين ابني عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم.
2- ابن حنبل الإمام أحمد: مسند أحمد: ج 3 ص 3.
3-المجلسيّ: بحار الأنوار ج 44 ص 138 عن كفاية الأثر للقمّي.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
8

2

المقدمة

 فعن ابن عبّاس، قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كان جالساً ذات يوم، إذ أقبل الحسن عليه السلام، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال: "إليَّ إليَّ يا بنيّ"، فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليمنى... وساق الحديث إلى أن قال: قال النبيّ صلى الله عليه واله وسلم: "وأمّا الحسن فإنّه ابني، وولدي، ومنّي، وقرّة عيني، وضياء قلبي، وثمرة فؤادي، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، وحجّة الله على الأمّة، أمره أمري، وقوله قولي، من تبعه فإنّه منّي، ومن عصاه فليس منّي، وإنّي لمّا نظرت إليه، تذكّرت ما يجري عليه من الذلّ بعدي، فلا يزال الأمر به حتى يقتل بالسمّ ظلماً وعدواناً، فعند ذلك تبكي الملائكة والسبع الشداد لموته، ويبكيه كلّ شيء حتى الطير في جوّ السماء، والحيتان في جوف الماء، فمن بكاه لم تعمَ عينه يوم تعمى العيون، ومن حزن عليه لم يحزن قلبه يوم تحزن القلوب، ومن زاره في بقيعه ثبتت قدمه على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام..."1.

 
وعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: "بينا أنا وفاطمة والحسن والحسين عند رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، إذ التفت إلينا فبكى، فقلت: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: أبكي ممّا يصنع بكم بعدي، فقلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: أبكي من ضربتك على القَرْن، ولَطم فاطمة خدّها، وطعنة الحسن في الفخِذ، والسمّ الذي يُسقى، وقتل الحسين، قال: فبكى أهل البيت جميعاً.."2.
 
 
 

1-المجلسيّ: بحار الأنوار ج 44 ص 148 عن الأمالي للصدوق ص 175-177.
2-الصدوق: الأمالي ص 197.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

3

المقدمة

 إخبار الحسن عليه السلام بشهادته

 
وروي عن الصادق، عن آبائه عليهم السلام، أنّ الحسن عليه السلام قال لأهل بيته: "إنّي أموت بالسمّ، كما مات رسول الله صلى الله عليه واله وسلم "، فقالوا: ومن يفعل ذلك؟ قال: "امرأتي جعدة بنت الأشعث بن قيس، فإنّ معاوية يدسّ إليها، ويأمرها بذلك"، قالوا: أخرجها من منزلك، وباعدها من نفسك، قال: "كيف أخرجها ولم تفعل بعد شيئاً؟ ولو أخرجتها ما قتلني غيرها، وكان لها عذر عند الناس..."1.
 
هذا الكتاب
 
وإذ كان هؤلاء الصفوة هم لحم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ودمه، يفرحه ما يفرحهم، ويحزنه ما يحزنهم، فإنّ ما يقتضيه أجر الرسالة وواجب المودّة، المنصوص عليه في الكتاب الكريم: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾2، هو التقرّب إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، بادِّكار أحزانهم، واستحضار آلامهم، إظهاراً لمكنون الحبّ، وبراءة من البغض والنصب.
 
ولهذا قام معهد سيّد الشهداء للمنبر الحسينيّ بإعداد هذا الكتاب "السبط المسموم"، ليكون واحداً من الإصدارات التي يصدرها ضمن سلسلة مجالس العترة، ليكون معيناً للأخوة القرّاء، ومساعداً لهم في المجالس التي يقيمونها في ذكرى شهادة هذا الإمام العظيم.
 
 
 

1-الراونديّ قطب الدين: الخرائج والجرائح ج 1 ص 241.
2- الشورى: 23.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
10

4

المقدمة

 وقد راعى هذا الإصدار الأمور التالية


أدرجنا ثلاث قصائد من الشعر القريض، ليتسنّى للقارئ الكريم اختيار ما يشاء منها.
أضفنا للكتاب العديد من الأبيات الشعبيّة الدارجة والمفهومة إلى حدٍّ ما.

ذكرنا موجزاً عن حياة الإمام عليه السلام ، ولم نستقص كلّ شيء عن حياته المباركة، لئلّا يخرج الكتاب عن حدّ الإيجاز، واتكالاً منّا على جدارة الأخوة القرّاء من جهة أخرى.

قمنا بتخريج المصادر والمراجع لكلّ ما ورد في المتن، لتسهيل الرجوع إليها لمن أحبّ.
وفي الختام، كلّنا رجاء أن يلقى هذا الكتاب القبول والرضا من إمام زماننا عجّل الله تعالى فرجه، وأن يزوّدنا الأخوة القرّاء بإرشاداتهم وملاحظاتهم الهامّة والبنّاءة لنصل بعملنا إلى المستوى اللائق والمقبول..

هذا ونسأله تعالى أن يتقبّل منّا ومن الجميع، وأن يرزقنا شفاعة مولانا الحسن بن عليّ عليه السلام ، إنّه سميع مجيب.
معهد سيّد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسينيّ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

5

المقدمة

 القصيدة الأولى: للسيّد مهدي الأعرجيّ 

 
قَضَى الزَّكِيُّ فَنُوحُوا يَا مُحِبِّيهِ            وابْكُوا عَلَيْهِ فَذِي الأَمْلاكُ تَبْكِيهِ
قَضَى ابْنُ فَاطِمَةَ الطُهْرِ البَتُولَةِ مَنْ         عَمَّ البَرايَا جَمِيعاً في أَيادِيهِ
مَضَى وَقَدْ قُطِّعَتْ أَحْشاؤُهُ قِطَعاً           وَصَارَ يَقذِفُهَا فِي الطَّشْتِ مِنْ فِيهِ
قَضَى وَأَظْلَمَ وَجْهُ الكائِناتِ أسًى          لمَّا أَصَاتَ بِصَوْتِ الحُزْنِ نَاعِيهِ
وَلمْ يَزَلْ كاظِماً لِلْغَيْظِ مُحْتَسِباً           علَى الأَذَى صَابِراً حُكْمَ بارِيهِ
حَتَّى قَضَى بِنَقِيعِ السُّمِّ مُضْطَّهَداً          وَجُرِّعَ الحَتْفَ قَسْراً مِنْ أَعادِيهِ
ومُذْ قَضَى أَحْدَقَتْ في نَعْشِهِ فِئَةٌ           مِنْ قَوْمِهِ ومَوالِيهِ وأَهْلِيهِ
فَمالَ فِيهِ أَخُوهُ السِّبْطُ لا فَشَلاً            لكِنَّما هُوَ قِدْماً كانَ مُوصِيهِ
إِلَى البَقِيعِ وَوَارَاهُ هُناكَ وقَدْ               أقَامَ عِنْدَ شَفِيرِ القَبْرِ يَرْثِيهِ
أَخِي سَأبْكِيكَ ما نَاحَ الحَمَامُ وَمَا        سَحَّ الغَمَامُ ومَا انْهَلَّتْ غَوادِيهِ
أَذْكَيْتَ جَمْرَةَ أَشْجَانِي وإِنَّكَ قَدْ         ذَكَّرْتَني مَا أنَا قَدْ كُنْتُ نَاسِيهِ
فاليَوْمَ بَعْدَكَ يا ذُخْرِيِ ويَا عَضُدِي       لمْ يَحْلُ لِي مَجْلِسٌ إِذْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ1
 
 
 

1- أنظر ديوان شعراء الحسين ص157. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

6

المقدمة

 أبوذيّه


أنه ابوجهي هالدهر ما يوم بسّام 
                   عسن عمري قبل هالعام بسام
ولا شاهد عضيدي الحسن بسام 
                   كبدته اتمرّدت واصفق بديّه

شعبيّ

مات سبط المصطفى او صارت ابطيبه زلزلة     
                            هذا يصرخ ذاك يلطم ذا ادموعه سايله
او صوّت الناعي ابسككها مات سبط المصطفى 
                           سمّته جعده اللعينه او غاب نوره وانطفى
أحزنت قلب الموالي والعدو قلبه اشتفى       
                           ألف وسفه اعلى الزكي أظلم يويلي منزله
منزله أظلم يويلي واعتلى منّه النحيب    
                           والشهيد احسين نادى اودمعه ابخدّه صبيب
يا عضيدي انجرح قلبي جرح بالغ ما يطيب  
                            ألف وسفه بسمّ تقضي اشصار منّك في الملا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

 


7

المقدمة

 القصيدة الثانية: للشيخ عبد الحسين شكر 

 
لا غَرْوَ إِنِ تَكُنِ الأَبْدانُ قَدْ خَلَعَت          ثَوْبَ المَحاسِنِ مِن حُزْنٍ عَلَى الحَسَنِ
ما لِلْقَضاءِ ولِلْأَقْدَارِ فِيهِ مَضَتْ               وهْوَ الَّذِي أَبَداً لَوْلاهُ لَمْ تَكُنِِ
لِلَّهِ كَمْ أَقْرَحَتْ جَفْنَ النِّبيِّ وَكَمْ             قَدْ أَلْبَسَتْ فاطِماً ثَوْباً مِنَ الحُزُنِ
لَمْ أَنْسَ يَوْمَ عَمِيدِ الدِّينِ دَسَّ لَهُ             بِجَعْدَةَ السُّمَّ سِرّاً صَاحِبُ الفِتَنِ
فَقَطَّعَتْ كَبِداً مِمَّنْ غَدَا كَبِداً                لِفاطِمٍ وحَشًا مِنْ واحِدِ الزَّمَنِ
حَتَّى قَضَى بِنَجِيعِ السُّمِّ مُمْتَثِلاً              لأَمْرِ بَارِئِهِ في السِّرِّ والعَلَنِ
مَنْ مُبْلِغُ المُصْطَفَى والطُهْرَ فَاطِمَةً            أَنَّ الحُسَيْنَ دَماً يَبْكِي عَلَى الحَسَنِ
يَدْعُوهُ يا عَضُدِي فِي كُلِّ نَائِبَةٍ              ومُسْعِدِي إنْ رَمَانِي الدَّهْرُ بالوَهَنِ
لَهْفِي لِزَيْنَبَ تَدْعُوهُ، ومُقْلَتُها               عَبْرَى وأَدْمُعُها كَالعارِضِ الهَتِنِ
مَاتَ الحَبِيبُ، وَمَاتَ الحُبُّ ثُمَّ مَضَى        فَلَمْ أَجِدْ كافِلاً ذَا اليَوْمِ يَكْفُلُنِي1
 
 
 

1- أنظر: رياض المدح والرثاء ص 317.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

8

المقدمة

 أبوذيّه


يا بو محمد يا من للدين مَنْسَك 
                     يا هو اللي تِجري عليك من ساك
يا بحر الجود طول الدهر ما انْساك   
                    القلب يِنْعاك والدّمعه جريَّه

شعبيّ

كبد الحسن مقطّعه بسم المنيه
                      أصبح يعالج واصبحت زينب شجيّه
دخلت عليه وعاينت له يلوج وحده
                      عنده أخوه حسين دمعه فوق خدّه
أمر أخيّه يشيل طشت البيه كبده
                       شيله يخويه لا تشوفه الهاشميه
شيل الطشت خوفي الوديعه تشوف كبدي
                    خوفي تحن ومن بكاها ايزيد وجدي
هذي وديعة والدي حيدر وجدّي
                    مقدر أشوفك ادموعها ابخدها جريّه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

9

المقدمة

 القصيدة الثالثة: للشيخ باقر حيدر 

 
تَفَنَّنَ رَيْبُ الدَّهْرِ في آلِ أَحْمَدِ        فُنُوناً مِنَ الأَرْزَاءِ لَنْ تَتَجَمَّعا
فمَا بَيْنَ مَنْ يَلْقَى المَنوُنَ بِصَارِمٍ      وَمَا بَيْنَ مَنْ يُسْقَى مِنَ السُمِّ مُنْقَعا
فَلَيْسَ الَّذِي قَدْ مَاتَ بالسَّيْفِ مَيِّتاً    إِذا كانَ يَأْبَى أَنْ يَذِلَّ وَيخْضَعا
وَمَا المَوْتُ إلَّا أَنْ يَعِيشَ بِذِلَّةٍ         وَمِنْ دُونِها تَهْوِي الأَسِنَّةُ شُرَّعا
بِنَفْسِيَ مَنْ ذَاقَ الهَوانَ بِنَفْسِهِ        إِلَى أَنْ سَقَى كَأْساً مِنَ السُمِّ مُتْرَعا
وَدَافُوا لَهُ السُّمَّ الذُعَافَ فَلَيْتَني        أَكُونُ الَّذِي مِنْ دُونِه المُتَجَرِّعا
تَواصَلَ فِيهِ السُّمُّ حَتَّى انْتَهى بِهِ      فَذَابَ وأَلْقَى قَلْبَهُ مُتَقَطِّعا
أَبَوْا قُرْبَهُ مِنْ جَدِّهِ بِضَرِيحِهِ           وقَدْ كانَ مِنْهُ قَدْ تَبَوَّأَ أَضْلُعا
رَمَوْا نَعْشَهُ نَبْلاً فَشُلَّتْ أَكُفُّهُمْ       وَبَانَتْ يَدُ الرَّامِي بَنَاناً وإِصْبَعا1
 
 
أبو ذيّّه
 
تصيح ابصوت يبن امي وجدته     يخويه سمتك جعده وجدته
امقطع بالطشت كبده وجدته      الحسن يحسين مشرف عالمنية
 



1-أنظر: الخاقانيّ عليّ: الكوكب الدرّي من شعراء الغريّ ص 104.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

10

المقدمة

 نصَّاري


يقلبي امن الحزن ذوب او تولم
                 على اللي ذاب كبده او خلص بالسم
وسافه اعلى ابو محمد منهل الجود
                  قضى نحبه اومنه الكبد ممرود
اشحال احسين لمن عاين العود
                   يقلِّب بيه كبده اللي تخذّم
يبو امحمد نحل جسمي اعلى فرگاك
                    اشيصبرني يخويه اخلاف عيناك
عسانا انروح كل احنه فداياك
                   بس انته يبحر الجود تسلم
عقب ذيك الهضيمه اوذيك الهموم
                   تاليها ارحلت والكبد مسموم
عيد أصبح لهالي الشام هاليوم
                     يخويه اوعالهواشم أصبح أظلم
ألف وسفه يروح النبيّ وكبده
                     يبو محمد من ايدي تروح برده
يخويه اصبحت من بعدك بشدّه 
                     وعليَّ جيش النوايب قام يلتم
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

11

المقدمة

 يگلة يا عضيدي يبو محمد        كبدك من نجيع السم تمرّد

يخويه اليوم طاغي الشام عيَّد     وعلى قلبي يخويه تراكم الهم
 
بحرانيّ
العسل مزجت باللبن والسم وياه          صايم اودنت له الفطور اوقعدت احذاه
منه شرب يا ويح قلبي اوقطع امعاه        حالاً تقيا وانغشى اعليه الشفيه
دنّى الطشت يمّه وتقيّا اوطاح كبده        قطعه بعد قطعه وأبو السجاد عنده
اولن زينب اتنادي الحسن يحسين سنده     ابوجهه ترى لاحت علامات المنيه 1
 
 
 

1-الجمريّ ملا عطيّة بن علي: الجمرات الوديّة في المودّة الجمريّة ج 6 ص 21.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

12

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 الإمام الحسن عليه السلام هو ابن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وابن سيّدة نساء العالمين فاطمة بنت محمّد سيّد المرسلين صلى الله عليه واله وسلم الطاهرين، ثاني أئمّة أهل البيت، الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.

 
كنيته: أبو محمّد، وألقابه: السيّد، والسبط، والأمير، والحجّة، والبرّ، والتقيّ، والأثير، والزكيّ، والمجتبى، والسبط الأوّل، والزاهد1.
 
ولد بالمدينة في النصف من شهر رمضان، سنة ثلاث من الهجرة2، وقيل: سنة اثنتين3
 
جاءت به أمّه فاطمة إلى النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم، يوم السابع من مولده، في خرقة من حرير الجنّة كان جبرئيل عليه السلام نزل بها إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، فأخذه بيده، وأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى، ثمّ قال لعليّ عليه السلام: "أيّ شيءٍ سمّيت ابني؟ قال: ما كنت لأسبقك بذلك، فقال: ولا أنا بسابق ربّي به، فهبط جبريل، فقال: يا محمّد، إنّ ربّك يُقْرِئُكَ السلام ويقول لك: عليٌّ منك بمنزلة هارون من موسى ولكن لا نبيّ بعدك، فسمّ
 



1- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 29.
2-المفيد: الإرشاد ج 2 ص 5، الطوسيّ: تهذيب الأحكام ج 6 ص 39، ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 28. 
3- أنظر: الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 461، ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 28..
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

13

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 ابنك هذا باسم ولد هارون، فقال: وما كان اسم ابن هارون، يا جبريل؟ قال: شُبَّر، فقال صلى الله عليه واله وسلم: إنّ لساني عربيّ، فقال: سمّه الحسن"، فسمّاه حسناً، وكنّاه أبا محمّد، وفي اليوم السابع من ولادته، أمر النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم أن يُعقّ عنه بكبشين، وأن يُحلق رأسه، ويتصدّق بزنة الشعر فضّة، ثمّ طلى رأسه بيده المباركة بالطيب والخلوف..1


 
 

1-المفيد: الإرشاد ج 2 ص 57.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24
 

14

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 الحسن عليه السلام مع جدّه النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم 


لقد نشأ أبو محمّد الحسن بن عليّ عليه السلام في أحضان جدّه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، وغذّاه برسالته وتعاليم الإسلام وأخلاقه ويسره وسماحته، وظلّ معه وفي رعايته إلى أن اختاره الله إليه، حتّى أصبح مفطوراً على أخلاقه وآدابه وتعاليمه 1.

فقد كان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه واله وسلم خلقاً وسؤدداً وهدياً، فعن أنس بن مالك، قال: لم يكن أحد أشبه برسول الله صلى الله عليه واله وسلم من الحسن بن عليّ عليه السلام. 

وفي الرواية: أتت فاطمة بابنيها الحسن والحسين إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في شكواه، التي توفي فيها فقالت: "يا رسول الله، هذان ابناك ورّثهما شيئاً" فقال: "أمّا الحسن فإنّ له هديي2 وسؤددي، وأمّا الحسين فإنّ له جودي وشجاعتي"3.

وجاء عن أنس بن مالك، أنّه قال: دخل الحسن على النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم فأردت أن أميطه عنه، فقال: "ويحك يا أنس! دع ابني وثمرة فؤادي، فإنّ من آذى هذا آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله".

 
 
 

1- آل ياسين الشيخ محمّد حسن: الأئمّة الاثنا عشر سيرة وتاريخ ج 1 ص 125.
2- معروف الحسنيّ هاشم: سيرة الأئمّة الاثني عشر ج 1 ص 462.
3-في رواية ابن أبي الحديد: "هيبتي".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

15

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 وكان الرسول صلى الله عليه واله وسلم يُقبِّل الإمام الحسن عليه السلام في فمه، ويُقبِّل الإمام الحسين عليه السلام في نحره، وكأنّه يريد إثارة قضيّة مهمّة ترتبط بسبب استشهادهما عليه السلام وإعلاماً منه عن تعاطفه معهما، وتأييده لهما في مواقفهما وقضاياهما.


لقد كان الإمام الحسن عليه السلام أحبّ الناس إلى النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم ، بل لقد بلغ من حبّه له ولأخيه، أنّه كان يقطع خطبته في المسجد، وينزل عن المنبر ليحضنهما.
والكلّ يعلم أنّ الرسول صلى الله عليه واله وسلم لم ينطلق في مواقفه من منطلق الأهواء الشخصيّة، والنزعات والعواطف الذاتيّة، وإنّما كان ينبّه الأمّة إلى عظمة هذين الإمامين ومقامهما الرفيع 1.

وقد ورد عن النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم في حقّه وحقّ أخيه الحسين عليه السلام الكثير من الروايات، التي تنصّ على فضلهما ومكانتهما وإمامتهما، ولهما معه صلى الله عليه واله وسلم الكثير من المواقف المشهودة والمعروفة، التي رواها الرواة والمؤرّخون، ممّا لا يسع المجال لذكرها وتعدادها.

ونحن نكتفي ها هنا بذكر شيء يسير منها

فعن النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم، أنّه قال فيهما: "هما ريحانتاي من الدنيا"، وأنّه كان يقول لعليّ عليه السلام: "سلام عليك أبا الريحانتين، أوصيك بريحانتيّ من الدنيا خيراً..".2

 
 

1- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 57, ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة ج 16 ص 210-211.
2-المجمع العالميّ لأهل البيت: أعلام الهداية, الإمام الحسن "المجتبى" ج 4 ص 51.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

16

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 وعن أنس بن مالك، أنّه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، أيّ أهل بيتك أحبّ إليك؟ قال: "الحسن والحسين"، وكان يقول لفاطمة سلام الله عليها: "ادعي ابنيّ، فيشمّهما ويضمّهما إليه"1.


وعنه صلى الله عليه واله وسلم، أنّه كان يقول فيهما: "أللَّهم إنّي أحبّهما فأحبّهما، وأحبّ من يحبّهما". وعنه صلى الله عليه واله وسلم: "من أحبّ الحسن والحسين فقد أحبّني"، وفي بعض الروايات: "الحسن والحسين ابناي، من أحبّهما أحبّني، ومن أحبّني أحبّه الله، ومن أحبّه الله أدخله الجنّة، ومن أبغضهما أبغضني، ومن أبغضني أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله النّار"2.

واجتمع أهل القِبلة على أنّ النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم، قال: "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا".
واجتمعوا أيضاً أنّه صلى الله عليه واله وسلم قال: "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة"3.
وعنه صلى الله عليه واله وسلم، في حقّ الإمام الحسن عليه السلام: "هو سيّد شباب أهل الجنّة، وحجّة الله على الأمّة، أمره أمري، وقوله قولي، من تبعه فإنّه منّي، ومن عصاه فإنّه ليس منّي..."4.


هذا بالإضافة إلى الحوادث الشهيرة التي كانت مناسبة لنزول

 
 

1- الفيروزآبادي السيّد مرتضى الحسينيّ: فضائل الخمسة من الصحاح الستّة ج 3 ص 226-227, عن صحيح البخاريّ وحلية الأولياء لأبي نعيم.
2-المصدر السابق ص 247, عن صحيح الترمذيّ.
3- المصدر السابق ص 249 و250 و252, عن صحيح الترمذيّّ وابن ماجة والمستدرك على الصحيحين.
4-ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 394.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

17

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 الآيات القرآنيّة في فضل أهل البيت عليهم السلام، ممّا رواه المسلمون جميعاً، ومنها


- آية التطهير: حيث نزلت على النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم في بيت أمّ سلمة، فدعا النبيّّ عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فجلّلهم في الكساء، وقال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ 1.

- آية المباهلة: ومناسبتها أنّه وفد بعض أساقفة نصارى نجران على النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم، وناظروه في عيسى عليه السلام2، فأقام عليهم الحجّة، فلم يقبلوا، ثمّ اتفقوا على المباهلة 3أمام الله، على أن يجعلوا لعنة الله الخالدة، وعذابه المعجّل على الكاذبين.

ولقد سجّل القرآن الكريم هذا الحادث العظيم في تاريخ الرسالة الإسلاميّة، بقوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾4.

فلمّا رجعوا إلى منازلهم، قال رؤساؤهم "السيّد والعاقب والأهتم": إن باهلنا بقومه باهلناه، فإنّه ليس نبيّاً، وإن باهلنا بأهل بيته خاصّة لم نباهله، فإنّه لا يُقدم إلى أهل بيته إلّا وهو صادق، فخرج إليهم صلى الله عليه واله وسلم،

 
 

1- المجمع العالميّ لأهل البيت: أعلام الهداية, الإمام الحسن "المجتبى" ج 4 ص 50.
2- آل ياسين الشيخ محمّد حسن: الأئمّة الاثنا عشر، سيرة وتاريخ ج 1 ص 127.
3-من البهلة, وهي اللعنة, ثمّ كثر استعمال الابتهال في المسألة والدعاء إذا كان بإلحاح.
4- آل عمران: 59-61.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

18

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

  ومعه عليّ وفاطمة والحسنان، فسألوا عنهم، فقيل لهم: هذا ابن عمّه، ووصيّه، وختنه عليّ بن أبي طالب، وهذه ابنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين، ففرقوا، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم: نعطيك الرضا، فاعفنا من المباهلة، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم على الجزية وانصرفوا. قال الطبرسيّ: أجمع المفسّرون على أنّ المراد بأبنائنا الحسن والحسين عليه السلام ".


وقال الزمخشريّ: وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء1.

- سورة "هل أتى": روى الزمخشريّ في كشّافه، عن ابن عبّاس رضي الله عنه: أنّ الحسن والحسين مرضا، فعادهما رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر عليّ وفاطمة وفضّة- جارية لهما- إن بَرِئا ممّا بهما، أن يصوموا ثلاثة أيّام، فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض عليّ من شمعون الخيبريّ اليهوديّ ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً، واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل، فقال: السلام عليكم، أهل بيت محمّد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة، فآثروه، وباتوا لم يذوقوا إلّا الماء، وأصبحوا صياماً، فلمّا أمسوا، ووضعوا الطعام بين أيديهم، وقف عليهم يتيم، فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك،

 
 

1-مرتضى العاملي جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الحسن ص 16-20. وانظر: المجمع العالميّ لأهل البيت: أعلام الهداية, الإمام الحسن "المجتبى"ج 4 ص 52.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

19

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

  فلمّا أصبحوا، أخذ عليّ عليه السلام 1 بيد الحسن والحسين، وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فلمّا أبصرهم، وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: "ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم"، وقام، فانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل جبريل، وقال: "خذها يا محمّد، هنّأك الله في أهل بيتك، فأقرأه السورة"2.


 

1- في المصدر: رضي الله عنه.
2-الزمخشريّ جار الله: الكشّاف ج 4 ص 197.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

 


20

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 من فضائله ومناقبه


عن الصادق عليه السلام: حدّثني أبي، عن أبيه عليه السلام: "أنّ الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، كان أعبد الناس في زمانه، وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا حجّ، حجّ ماشياً، وربّما مشى حافياً، وكان إذا ذكر الموت بكى، وإذا ذكر القبر بكى، وإذا ذكر البعث والنشور بكى، وإذا ذكر الممرّ على الصِراط بكى، وإذا ذكر العَرْض على الله، تعالى ذكره، شَهِق شَهْقة يُغشى عليه منها. 

وكان إذا قام في صلاته، ترتعد فرائصه بين يدي ربّه عزّ وجلّ، وكان إذا ذكر الجنّة والنّار، اضطرب اضطراب السليم 1، وسأل الله تعالى الجنّة، وتعوّذ به من النّار. وكان عليه السلام لا يقرأ من كتاب الله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، إلّا قال: "لبّيك اللَّهم لبّيك. ولم يُرَ في شيء من أحواله إلّا ذاكراً لله سبحانه، وكان أصدق الناس لهجةً، وأفصحهم منطقاً"2.

وروي أنّ شاميّاً رآه راكباً، فجعل يلعنه والحسن لا يردّ، فلمّا فرغ أقبل الحسن عليه وضحك، وقال: "أيّها الشيخ، أظنّك غريباً، ولعلّك شبَّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا

 
 

1- أي الاضطراب من لسعة العقرب.
2- الصدوق: الأماليّ ص 244.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

21

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنياك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرَّكت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأنّ لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً، ومالاً كبيراً"، فلمّا سمع الرجل كلامه بكى، ثمّ قال: أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبّتهم 1.


وروي أنّه عليه السلام مرّ على فقراء، وقد وضعوا كسيرات على الأرض، وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها، فقالوا له: هلمَّ يا ابن بنت رسول الله إلى الغداء، قال: فنزل، وقال: "إنّ الله لا يحبّ المستكبرين"، وجعل يأكل معهم حتى اكتفوا، والزاد على حاله ببركته، ثمّ دعاهم إلى ضيافته وأطعمهم وكساهم 2.

وعن بعضهم، أنّه قال: ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، ما بلغ الحسن عليه السلام، كان يبسط له على باب داره، فإذا خرج وجلس انقطع الطريق، فما مرّ أحد من خلق الله إجلالاً له، فإذا علم قام ودخل بيته، فمَرَّ الناس. ولقد رأيته في طريق مكّة ماشياً، فما من خلق الله أحدٌ رآه إلّا نزل ومشى، حتى رأيت سعد بن أبي وقّاص يمشي!3

 
 

1-ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 19.
2- المصدر السابق ص 23.
3-المصدر السابق ص 7.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

22

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 وذكر في المناقب أنّه كان عليه السلام إذا توضّأ، ارتعدت مفاصله واصفرّ لونه، فقيل له في ذلك، فقال: حقٌ على كلّ من وقف بين يدي ربّ العرش أن يصفرّ لونه، وترتعد مفاصله. 


وكان عليه السلام إذا بلغ باب المسجد، رفع رأسه، ويقول: "إلهي ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي، بجميل ما عندك يا كريم".

وكان إذا فرغ من الفجر، لم يتكلّم حين تطلع الشمس، وإن زحزح. أي وإن أريد تنحيه من ذلك، باستنطاق ما يهمّ. 

وعن الصادق عليه السلام، أنّ الحسن بن عليّ عليه السلام حجّ خمساً وعشرين حجّة ماشياً، وقاسَم الله تعالى ماله مرّتين. وفي خبر: قاسَم ربّه ثلاث مرّات، وحجّ عشرين حجّة على قدميه.

وروي عنه عليه السلام، قوله: "إنّي لأستحيّي من ربّي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته، فمشى عشرين مرّة من المدينة على رجليه". 

وروي أنّه عليه السلام خرج من ماله مرّتين، وقاسم الله ماله ثلاث مرّات، حتّى إن كان ليعطى نعلاً ويمسك نعلاً، ويعطى خفّاً ويمسك خفّا 1.

عن الرضا، عن آبائه، قال: "لمّا حضرت الحسن بن عليّ بن أبي طالب الوفاة بكى، فقيل له: يا ابن رسول الله أتبكي، ومكانك من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الذي أنت به؟ وقد قال فيك رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ما قال؟ وقد حججت عشرين حجّة ماشياً؟ وقد قاسمت ربّك مالك

 
 

1- ابن شهرآشوب: المناقب ج 4 ص 14, وانظر: ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة ج 16 ص 211.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

23

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 ثلاث مرّات حتّى النعل والنعل؟ فقال عليه السلام:" إنّما أبكي لخصلتين: لهول المطلع وفراق الأحبّة"1


وعن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام، يقول: كتب إلى الحسن بن عليّ عليه السلام قومٌ من أصحابه يعزّونه عن ابنة له، فكتب إليهم: "أمّا بعد، فقد بلغني كتابكم تعزّوني بفلانة، فعند الله أحتسبها تسليماً لقضائه، وصبراً على بلائه، فإن أوجعتنا المصائب، وفجعتنا النوائب بالأحبّة المألوفة، التي كانت بنا حفيّة 2، والإخوان المحبّين، الذين كان يسرّ بهم الناظرون، وتقرّ بهم العيون. أضحوا قد اخترمتهم الأيّام، ونزل بهم الحِمام، فخلفوا الخلوف، وأودت بهم الحتوف، فهم صرعى في عساكر الموتى، متجاورون في غير محلّة التجاور، ولا صلاة بينهم ولا تزاور، ولا يتلاقون عن قرب جوارهم، أجسامهم نائية من أهلها، خالية من أربابها، قد أجشعها 3 إخوانها، فلم أرَ مثل دارها داراً، ولا مثل قرارها قراراً في بيوت موحشة، وحلول مخضعة، قد صارت في تلك الديار الموحشة، وخرجت عن الدار المؤنسة، ففارقتها من غير قِلىً4، فاستودعتها البلاء، وكانت أمّة مملوكة، سلكت سبيلاً مسلوكة، صار إليها الأوّلون، وسيصير إليها الآخرون، والسلام"5.

 
 

1-الصدوق: الأمالي ص 291.
2- الحفيّ: البَرّ اللطيف.
3- في نسخة: أخشعها.
4-القلى: البغض والهجران.
5- الطوسيّ: الأمالي ص 202.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

24

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 من مواعظه قبيل شهادته


وممّا وعظ به جنادة بن أبي أميّة، عندما دخل عليه قبيل وفاته، وقال له: عظني يا ابن رسول الله، قال: "نعم، استعدّ لسفرك، وحصّل زادك قبل حلول أجلك، واعلم أنّك تطلب الدنيا والموت يطلبك، ولا تحمل همّ يومك، الذي لم يأتِ على يومك الذي أنت فيه، واعلم أنّك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلّا كنت فيه خازناً لغيرك. 

واعلم أنَّ في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة، خذ منها ما يكفيك، فإن كان ذلك حلالاً، كنت قد زهدت فيها، وإن كان حراماً، لم يكن فيه وزر، فأخذت كما أخذت من الميتة، وإن كان العتاب فإنّ العتاب يسير. 

واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً، وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سلطان، فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزَّ وجلَّ، وإذا نازعتك إلى صحبة الرِّجال حاجة، فاصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك، وإن قلت صدَّق قولك، وإن صلت شد

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

25

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

 صولك1، وإن مددت يدك بفضل مدَّها، وإن بدت عنك ثلمة سدَّها، وإن رأى منك حسنةً عدَّها، وإن سألته أعطاك، وإن سكتَّ عنه ابتداك، وإن نزلت إحدى الملمّات به ساءك.


من لا تأتيك منه البوائق، ولا يختلف عليك منه الطرائق، ولا يخذلك عند الحقائق، وإن تنازعتما منقسماً آثرك"2.

 
 

1- الصول: السطوة والاستطالة.
2- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 44 ص 138 عن كفاية الأثر للقمّي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

26

ما جرى عليه بعد إرتحال أبيه عليه السلام

 لمّا قبض أمير المؤمنين عليه السلام خطب الحسن عليه السلام في الناس وذكر حقّه، فبايعه أصحاب أبيه على حرب من حارب، وسلم من سالم. 

قالوا: خطب الحسن بن عليّ عليه السلام صبيحة الليلة، التي قبض فيها أمير المؤمنين عليه السلام ، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، ثمّ قال: "لقد قُبض في هذه الليلة رجلٌ لم يسبقه الأوّلون بعمل، ولا يدركه الآخرون بعمل، لقد كان يجاهد مع رسول الله، فيقيه بنفسه، وكان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يوجّهه برايته فيكنفه جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتّى يفتح الله على يديه. ولقد توفي عليه السلام في الليلة، التي عرج فيها بعيسى بن مريم عليه السلام ، وفيها قبض يوشع بن نون وصيّ موسى، وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلّا سبعمائة درهم فضلت من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله". 
 
ثمّ خنقته العبرة فبكى، وبكى الناس معه.
 
ثمّ قال: "أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، أنا ابن السراج المنير، أنا من أهل بيتٍ أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً، أنا من أهل بيتٍ افترض الله حبّهم في كتابه، فقال عزّ وجلّ: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

27

ما جرى عليه بعد إرتحال أبيه عليه السلام

 حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾1 فالحسنة مودّتنا أهل البيت". 

 
ثمّ جلس، فقام عبد الله بن عبّاس بين يديه، فقال: معاشر الناس، هذا ابن نبيّكم، ووصيّ إمامكم فبايعوه. فاستجاب له الناس، وقالوا: ما أحبّه إلينا! وأوجب حقّه علينا! وتبادروا إلى البيعة له بالخلافة، وذلك في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رمضان، سنة أربعين من الهجرة، فرتّب العمّال، وأمر الأمراء... وجعل ينظر في الأمور 2.
 
 
 

1- الشورى: 23.
2- أنظر حول ما تقدّم: المفيد: الإرشاد ج 2 ص 59، الأصفهانيّ أبو الفرج: مقاتل الطالبيّين ص 62. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

28

ما جرى عليه بعد إرتحال أبيه عليه السلام

 الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية

 
لمّا علم معاوية بوفاة أمير المؤمنين عليه السلام ، وبيعة الناس مع الإمام الحسن عليه السلام ، دسّ رجلاً من حمير إلى الكوفة، ورجلاً من بني القين إلى البصرة، ليكتبا إليه بالأخبار، ويفسدا على الإمام الأمور، فعرف ذلك الإمام، فأمر باستخراج الحميريّ من عند لحّام بالكوفة، فأُخرج وأمر بضرب عنقه، وكتب إلى البصرة باستخراج القينيّ من بني سليم، فأُخرج وضربت عنقه.
 
وقد أخذ الإمام عليه السلام جانب الحزم في موقفه مع معاوية، فكتب الإمام عليه السلام إليه: "أمّا بعد، فإنّك دسست إليّ الرجال كأنّك تحبّ اللقاء، لا أشكّ في ذلك، فتوقّعه إن شاء الله، وبلغني عنك أنّك شمتّ بما لم يشمت به ذوو الحجى، وأنّما مثلك في ذلك كما قال الأوّل:
 
فَإِنَّا وَمَنْ قَدْ ماتَ مِنَّا لَكَالَّذِي      يَروُحُ فَيُمْسِي في المَبِيتِ لِيَغْتَدِي
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْقَى خِلَافَ الَّذِي مَضَى     تَجَهَّزْ لأُخْرَى مِثْلِها فَكَأَنْ قَدِ
 
لقد كانت هذه الحادثة إنذاراً لمعاوية بالحرب، وتهديداً له، وقطعاً لآماله بالاستيلاء على الكوفة بسلام 1.
 
 
 

1- المجمع العالميّ لأهل البيت: أعلام الهداية، الإمام الحسن "المجتبى"، ج 4 ص 124-125.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

29

ما جرى عليه بعد إرتحال أبيه عليه السلام

 وكتب الحسن إلى معاوية مع جندب بن عبد الله الأزديّ: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله الحسن أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك، فإنّي أحمد الله الذي لا إله إلّا هو، أمّا بعد: فإنّ الله تعالى عزّ وجلّ بعث محمّداً صلى الله عليه واله وسلم رحمة للعالمين، ومِنَّة على المؤمنين، وكافّة إلى الناس أجمعين، ﴿لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾، فبلَّغ رسالات الله، وقام على أمر الله، حتّى توفّاه الله غير مقصّر ولا وانٍ، حتى أظهر الله به الحقّ، ومحق به الشرك، ونصر به المؤمنين، وأعزّ به العرب، وشرَّف به قريشاً خاصّة، فقال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾، فلمّا توفّي صلى الله عليه واله وسلم ، تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه، ولا يحلّ لكم أن تنازعونا سلطان محمّد في الناس وحقّه، فرأت العرب أنّ القول كما قالت قريش، وأنّ الحجّة لهم في ذلك على من نازعهم أمر محمّد- صلى الله عليه واله وسلم - فأنعمت لهم العرب وسلّمت ذلك، ثمّ حاججنا نحن قريشاً بمثل ما حاجّت به العرب، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها، إنّهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانتصاف والاحتجاج، فلمّا صرنا أهل بيت محمّد وأوليائه إلى محاجَّتهم، وطلب النَّصَف منهم باعدونا، واستولَوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا، والعَنَت منهم لنا، فالموعد الله، وهو الوليّ النصير. 

`
"وقد تعجّبنا لتوثّب المتوثّبين علينا في حقّنا، وسلطان نبيّنا صلى الله عليه واله وسلم ، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام، فأمسكنا عن منازعتهم، مخافةً على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب بذلك مغمزاً يثلمونه به، أو يكون لهم بذلك سبب لما أرادوا به من فساده،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

30

ما جرى عليه بعد إرتحال أبيه عليه السلام

 فاليوم فليعجب المتعجّب من توثّبك يا معاوية، على أمرٍ لست من أهله، لا بفضلٍ في الدين معروف، ولا أثرٍ في الإسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، ولكنّ الله خيَّبك، وستردّ، فتعلم لمن عقبى الدار، تالله، لتلقينّ عن قليلٍ ربّك، ثمّ ليجزينَّك بما قدَّمت يداك، وما الله بظلّام للعبيد.

 


إنّ عليّاً رضوان الله عليه لمّا مضى لسبيله رحمة الله عليه يوم قبض، ويوم منَّ الله عليه بالإسلام، ويوم يبعث حيّاً- ولَّاني المسلمون الأمر بعده، فأسأل الله أن لا يزيدنا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة، ممّا عنده من كرامته، وإنّما حملني على الكتاب إليك الإعذار فيما بيني وبين الله سبحانه وتعالى في أمرك، ولك في ذلك إن فعلت الحظّ الجسيم، وللمسلمين فيه صلاح، فدَع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنّك تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر منك عند الله، وعند كلّ أوّابٍ حفيظ، ومن له قلب منيب. واتقِ الله، ودَع البغي، واحقن دماء المسلمين. فوالله، مالك من خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر ممّا أنت لاقيه به، فادخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله، ومن هو أحقّ به منك، ليطفىء الله النائرة بذلك، وتجمع الكلمة، وتصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلّا التمادي في غيّك، نهدتُ إليك بالمسلمين، فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين".

فكتب إليه معاوية، جواباً على رسالته، جاء فيها

...ولو علمت أنّك أضبط منّي للرعيّة، وأحوط على هذه الأمّة،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

31

ما جرى عليه بعد إرتحال أبيه عليه السلام

 وأحسن سياسة، وأقوى على جمع الأموال، وأكيد للعدوّ، لأجبتك إلى ما دعوتني إليه، ورأيتك لذلك أهلاً، ولكنّي قد علمت أنّي أطول منك ولاية، وأقدم منك لهذه الأمّة تجربة، وأكثر منك سياسة، وأكبر منك سنّاً، فأنت أحقّ أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني، فادخل في طاعتي، ولك الأمر من بعدي، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغاً ما بلغ، تحمله إلى حيث أحببت، ولك خراج أيّ كور العراق شئت، معونة لك على نفقتك، يجيبها لك أمينك، ويحملها إليك في كلّ سنة، ولك ألّا يُستولى عليك بالإساءة، ولا تقضى دونك الأمور، ولا تُعصى في أمر أردت به طاعة الله عزّ وجلّ. 

 
أعاننا الله وإيّاك على طاعته، إنّه سميع مجيب الدعاء، والسلام1
 
وفي كتاب آخر من الإمام عليه السلام لمعاوية، جواباً على رسالته، التي لمّح فيها للصلح، وطلب فيها من الإمام عليه السلام أن يبايعه على أن يجعل له ولاية العهد، نلاحظ قوّة موقف الإمام، وعدم اهتمامه بمثل هذه العروض، التي كان يحاول فيها معاوية استمالة جانب الإمام، يقول عليه السلام: "أمّا بعد، فقد وصل إليّ كتابك، فتركت جوابك خشية البغي عليك، فاتبع الحقّ تعلم أنّي من أهله، والسلام"2.
وجرت بين الإمام عليه السلام وبين معاوية مراسلات ومكاتبات واحتجاجات في استحقاقه الأمر.. يطول ذكرها..
 
 
 

1- الأصفهانيّ أبو الفرج: مقاتل الطالبيّين ص 64-67.
2-المجمع العالميّ لأهل البيت: أعلام الهداية، الإمام الحسن "المجتبى"، ج 4 ص 124-125.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

32

ما جرى عليه بعد إرتحال أبيه عليه السلام

 جيش الإمام عليه السلام 


إلى أن سار معاوية نحو العراق ليغلب عليه...فتحرّك إليه الحسن عليه السلام ، واستنفر الناس للجهاد...إلّا أنّ هؤلاء القوم الذين خرجوا معه، كانوا من أخلاط الناس، ويمكن تصنيفهم بالنظرة الأولى إلى فئات

أ ـ الخوارج: وهم الذين خرجوا عن طاعة الإمام عليّ عليه السلام ، وحاربوه وناوؤه، ونصبوا له العداوة، فكانوا قد وجدوا من الإمام الحسن عليه السلام حلّاً وسطاً، فانضمّوا إليه لمحاربة معاوية، وهؤلاء أناس تستثيرهم أدنى شبهة عارضة، فيتعجّلون الحكم عليها..

ب ـ الفئة الممالئة للحكم الأمويّ: وهي على قسمين
1 - الذين لم يجدوا في حكومة الكوفة ما يشبع نهمهم، ويروي من ظمئهم، فيما يحلمون به من مطامع يطمحون إليها، فأضمروا ولاءهم للشام، مترقّبين سنوح الفرصة للوثوب على الحكم، وتسليم الأمر لمعاوية.
2- والذين حقدوا على حكومة الكوفة، لضغائن في نفوسهم، أورثتها العهود السالفة، أو حسابات شخصيّة.

ج ـ الفئة المتأرجحة: التي ليس لها مسلك معيّن أو جهة خاصّة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

33

ما جرى عليه بعد إرتحال أبيه عليه السلام

 مستقلّة، وإنّما هدفها ضمان السلامة وبعض المطامع عند الجهة التي ينعقد لها النصر، فهي تترقّب عن كثب إلى أيّ جهة تنقلب الأمور، ليميلوا معها.

 
د ـ الفئة: التي تثيرها بعض العصبيّات القبليّة أو الإقليميّة.
 
هـ ـ الغوغاء: وهي الفئة التي لا تستند في موقفها إلى أساس متين.
 
و ـ الفئة المؤمنة المخلصة: وهم القلّة الخيّرة، التي يذوب صوتها في زحام الأصوات الأخرى المعاكسة لها، والمتناحرة فيما بينها.
فجيش الإمام خليط، لا يربط بين فئاته هدف واحد، وهو معرّض للانقسام والتفكّك لدى أيَّة بادرة للانقسام، من شأنها أن تفسد أيَّة خطّة، مهما كانت حنكة القائد، الذي وضع تلك الخطّة. وقد شعر الإمام عليه السلام بخطورة هذا الموقف بين هذا الخليط، الذي يحمل عوامل الانقسام على نفسه 1.
 
ولمّا خطب فيهم عليه السلام ، ممتحناً أمرهم في طاعتهم له، ليتميّز بذلك أولياؤه من أعدائه، وصَفوه بالكفر، وشدّوا على فسطاطه فانتهبوه، حتى أخذوا مصلّاه من تحته، ونزعوا مِطرفه 2عن عاتقه...وطعنه رجل في فخذه، فشقّه حتى بلغ العظم...
وكتب جماعة من رؤساء القبائل إلى معاوية بالطّاعة له في السرّ، واستحثّوه على السير نحوهم، وضمنوا له تسليم الحسن عليه السلام إليه عند دنوّهم من عسكره، أو الفتك به، وبلغ الحسن عليه السلام ذلك.
 
 
 

1- المصدر السابق ج 4 ص 130-131.
2-المِطرف: رداء من خزّ.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

34

ما جرى عليه بعد إرتحال أبيه عليه السلام

 قائد جيش الإمام عليه السلام 

 
كان الإمام عليه السلام قد أرسل مقدّمة جيشه، البالغ عددهم اثني عشر ألفاً، يقودهم عبيد الله بن العبّاس.
وعندما وصل عبيد الله إلى "مسكن"، وعسكر فيها، جعل معاوية يبث الشائعات الكاذبة، أنّ الحسن يكاتب معاوية على الصلح، فلِمَ تقتلون أنفسكم؟!.
 
وأرسل معاوية إلى عبيد الله بن العبّاس يرغّبه في المصير إليه، وضمن له ألف ألف درهم، يُعجِّل له منها النّصف، ويعطيه النّصف الآخر عند دخوله الكوفة1
 
وجاء في رسالة معاوية له: أنّ الحسن قد راسلني في الصلح، وهو مسلِّم إليّ، فإن دخلت في طاعتي كنت متبوعاً، وإلّا دخلت وأنت تابع 2. فانسلّ عبيد الله بن العبّاس في الليل إلى معسكر معاوية في خاصّته، وأصبح الناس قد فقدوا أميرهم...
وتوالت الخيانات من بعده في جيش الإمام عليه السلام ، حتى بلغ عدد الفارّين ثمانية آلاف!! 3
 
 


1-المفيد: الإرشاد ج 2 ص 13.
2- المجمع العالميّ لأهل البيت: أعلام الهداية، الإمام الحسن "المجتبى" ج 4 ص 134.
3- المصدر السابق ص 137.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

35

ما جرى عليه بعد إرتحال أبيه عليه السلام

 ولم تقف محنة الإمام عليه السلام في جيشه إلى هذا الحدّ، فقد أقدم المرتشون والخوارج على قتله، وجرت ثلاث محاولات لاغتياله، وسلم منها، وهي:

كان يصلّي، فرماه شخص بسهم، فلم يؤثّر شيئاً فيه.
 
طعنه الجرّاح بن سنان في فخذه، فشقّه حتى بلغ العظم..
طُعن عليه السلام أيضاً بخنجر في أثناء الصلاة 1
 
فازدادت بصيرة الحسن عليه السلام بخذلان القوم له، وفساد نيّات المحكّمة- الخوارج- فيه، بما أظهروه له من السبِّ والتكفير، واستحلال دمه، ونهب أمواله، ولم يبق معه من يأمن غوائله إلّا خاصّة من شيعته، وشيعة أبيه عليه السلام ، وهم جماعة لا تقوم لأجناد الشام 2.
 
 
 
 

1- المصدر السابق ص 141-142.
2-المفيد: الإرشاد ج 2 ص 13.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

36

الصلح

 وكتب إليه معاوية في الهدنة والصلح 1، وأنفذ إليه بكتب أصحابه، التي ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه إليه، واشترط له على نفسه في إجابته إلى صلحه شروطاً كثيرة، وعقد له عقوداً كان في الوفاء بها مصالح شاملة، فلم يثق به الحسن عليه السلام ، وعلم احتياله بذلك واغتياله.

 
وقبل أن يقبل اقتراح معاوية للصلح، قام الإمام عليه السلام بإتمام الحجّة، من خلال خطاب يتضمّن استطلاعاً لآراء أصحابه، واستخباراً لنيّاتهم، فقد قال عليه السلام ، بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه: "أما والله ما ثنّانا عن قتال أهل الشام ذلّة ولا قلّة، ولكن كنّا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فَشِيب السلام بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم تتوجّهون معنا، ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، وكنّا لكم وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا، ثمّ أصبحتم تصدّون قتيلين: قتيلاً بصفين تبكون عليهم، وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأرهم، فأمّا الباكي فمخذول، وأمّا الطالب فثائر".
 
وبعد ذلك، عرض عليهم اقتراح معاوية للصلح، فقال عليه السلام: "وإنّ معاوية قد دعا إلى أمرٍ ليس فيه عزٌّ ولا نَصَفَةٌ، فإن أردتم
 
 
 

1- كتب العديد من علمائنا «رضوان الله عليهم» تحت عنوان "صلح الحسن" وتعرّضوا له في مؤلّفاتهم، منهم: السيّد عبد الحسين شرف الدين، والشيخ راضي آل ياسين، والسيّد محمّد جواد فضل الله، وغيرهم.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

37

الصلح

 الحياة قبلناه منه، وأغضضنا على القذى، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله، وحاكمناه إلى الله".

 
فنادى القوم بأجمعهم: بل البقيّة والحياة1
 
"فلم يجد بُدّاً، من إجابة معاوية إلى ما التمس، من ترك الحرب وإنفاذ الهدنة، لما كان عليه أصحابه ممّا وصفناه من ضعف البصائر في حقّه، والفساد عليه، والخلف منهم له، وما انطوى كثير منهم عليه في استحلال دمه، وتسليمه إلى خصمه، وما كان في خذلان ابن عمّه له، ومصيره إلى عدوّه، وميل الجمهور منهم إلى العاجلة، وزهدهم في الآجلة. 
 
فتوثّق عليه السلام لنفسه من معاوية لتأكيد الحجّة عليه، والإعذار فيما بينه وبينه عند الله عزَّ وجلَّ، وعند كافّة المسلمين"2، واشترط عليه شروطاً لهذا الصلح شكّلت صيانة للإسلام وحفظاً لنهج رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، وهي على الشكل التالي:تسليم الأمر إلى معاوية، على أن يعمل بكتاب الله وبسنّة رسوله صلى الله عليه واله وسلم ، وبسيرة الخلفاء الصالحين.
 
أن يكون الأمر للحسن عليه السلام من بعده، فإن حدث به حدث، فلأخيه الحسين عليه السلام ، وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد.
أن يترك سبّ أمير المؤمنين عليه السلام ، والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا يذكر عليّاً عليه السلام إلّا بخير.
 
 
 

1-المجمع العالميّ لأهل البيت، أعلام الهداية، الإمام الحسن المجتبى ج 4 ص 145.
2-المفيد: الإرشاد ج 2 ص 14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

38

الصلح

 على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يُؤمن الأسود والأحمر، وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع أحداً بما مضى، ولا يأخذ أهل العراق بإحنة. وعلى أمان أصحاب عليّ عليه السلام ، حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة عليّ عليه السلام بمكروه، وأنّ أصحاب عليّ عليه السلام وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وأن لا يتعقّب عليهم شيئاً، ولا يتعرّض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كلّ ذي حقٍّ حقّه، وعلى ما أصاب أصحاب عليّ عليه السلام ، حيث كانوا. وعلى أن لا يبغي للحسن بن عليّ عليه السلام ، ولا لأخيه الحسين عليه السلام ، ولا لأحد من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم غائلة، سرّاً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق 1.

 
وبالجملة: دعاه إلى ترك سبّ أمير المؤمنين عليه السلام ، والعدول عن القنوت عليه في الصلوات، وأن يؤمن شيعته، ولا يتعرّض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كلّ ذي حقّ منهم حقّه. 
 
فأجابه معاوية إلى ذلك كلّه، وعاهده عليه، وحلف له بالوفاء به.
 
 
 

1-المجمع العالميّ لأهل البيت، أعلام الهداية، الإمام الحسن المجتبى ج 4 ص 146.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

39

الصلح

 أسباب الصلح وأهدافه


وتتلخّص أهمّ أسباب الصلح وأهدافه فيما يلي

1- ضعف أنصار الإمام وتخاذلهم، وعدم انصياعهم لأوامره، بعد تأثير دسائس معاوية فيهم، وبهذا سوف لا تجدي المقاومة، بل سوف تتحتّم الانتكاسة للخطّ الرساليّ أمام مكر معاوية، وعلى الإمام أن يحافظ على بقاء هذا الخطّ، وتناميه في مجتمع يسوده مكر معاوية وخدائعه.
ويترتّب على انتكاسة جيش الإمام الحسن عليه السلام ، استشهاده مع الخلَّص من أهل بيته وأصحابه، أو أسرهم وبقاؤهم أحياءً في سجن معاوية، أو إطلاق سراحهم مع بقائهم في موقع الضعف، بعد الامتنان عليهم بالحرّية، وكلّ هذه النتائج غير محمودة. فإنّ الاستشهاد إذا لم يترتّب عليه أثر مشروع عاجل أو آجل فلا مبرّر له، ولا سيّما إذا اقترن بتصفية الخطّ الإماميّ، وإبادته الشاملة.

2- كشف واقع المخطط الأمويّ الجاهليّ، وتحصين الأمّة الإسلاميّة ضدّه، بعد أن مهّدت الخلافة لسيطرة صبيان بني أميّة على زمام قيادة الأمّة المسلمة، والتلاعب بمصير الكيان الإسلاميّ، ومصادرة الثورة النبويّة المباركة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

40

الصلح

 3- حقن دماء المسلمين، حيث لا تجدي الحرب مع الفئة الباغية.

 
4- صيانة الثلّة المؤمنة بحقّانيّة أهل البيت عليهم السلام ، وحفظهم من التصفية والإبادة الأمويّة الشاملة، بعد إحراز بقاء الحقد الأمويّ لبني هاشم ومن يحذو حذوهم، كما أثبتته حوادث التاريخ الإسلاميّ الدامي.
 
5- ضرورة تهيئة الظروف الملائمة، لمقارعة الكفر والنفاق المستتر، من موقع القوّة.
 
لقد خفيت الأسباب الحقيقيّة، التي كانت تكمن وراء الموقف الإلهيّ، الذي اتخذه الإمام المعصوم على كثير من الناس المعاصرين للحدث، وعلى بعض اللّاحقين من أصحاب الرؤى السطحيّة، أو المُضلَّلين الذين وقعوا تحت تأثير التزييف للحقائق، لكنّ الأحداث التي أعقبت الصلح، والسياسات العدوانيّة التي انتهجها معاوية وبقيّة الحكام الأمويّين، والتي ألحقت أضراراً جسيمة بالإسلام والمسلمين، كشفت عن بعض أسرار موقف الإمام الحسن عليه السلام 1.
 
وهكذا صالح الحسن عليه السلام ، كما صالح جدّه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في الحديبيّة، وكان في ذلك خيرٌ كبيرٌ لهذه الأمّة، فعن أبي جعفر عليه السلام ، قال: "والله للّذي صنعه الحسن بن عليّ عليه السلام ، كان خيراً لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس.."2.
 
 
 

1- المصدر السابق ج 4 ص 158.
2- الكلينيّ: الكافي ج 8 ص 330.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

41

الصلح

 موقف الإمام عليه السلام بعد الصلح


وقد احتجّ عليه السلام على من أنكر عليه مصالحة معاوية، ونسبه إلى التقصير في طلب حقّه، فعن سليم بن قيس، قال: قام الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام على المنبر، حين اجتمع مع معاوية، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: "أيّها الناس إنّ معاوية زعم: أنّي رأيته للخلافة أهلاً، ولم أرَ نفسي لها أهلاً، وكذب معاوية، أنا أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان نبيّ الله، فأقسم بالله، لو أنّ الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني، لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها، ولما طمعتم فيها، يا معاوية، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: "ما ولّت أمّة أمرها رجلاً قطّ، وفيهم من هو أعلم منه، إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً، حتى يرجعوا إلى ملّة عبدة العجل". 

وقد ترك بنو إسرائيل هارون، واعتكفوا على العجل، وهم يعلمون أنّ هارون خليفة موسى، وقد تركت الأمّة عليّاً عليه السلام ، وقد سمعوا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، يقول لعليّ: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، غير النبوّة، فلا نبيّ بعدي" وقد هرب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من قومه، وهو يدعوهم إلى الله، حتى فرّ إلى الغار، ولو وجد عليهم أعواناً ما هرب منهم، ولو وجدت أنا أعواناً ما بايعتك، يا معاوية. 

وقد جعل الله هارون في سعة حين استضعفوه، وكادوا يقتلونه، ولم يجد
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

42

الصلح

 عليهم أعواناً، وقد جعل الله النبيّّ في سعة، حين فرّ من قومه، لمّا لم يجد أعواناً عليهم، كذلك أنا وأبي في سعة من الله، حين تركتنا الأمّة، وبايعت غيرنا، ولم نجد أعواناً، وإنّما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً. 

 

 
أيّها الناس: إنّكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب، لم تجدوا رجلاً من ولد النبيّّ غيري وغير أخي". 
 
وعن حنان بن سدير، عن أبيه سدير، عن أبيه، عن أبي سعيد عقيصيّ، قال: لمّا صالح الحسن بن عليّ بن أبي طالب، معاوية بن أبي سفيان، دخل عليه الناس، فلامه بعضهم على بيعته، فقال عليه السلام: "ويحكم، ما تدرون ما عملت، والله، للّذي عملت لشيعتي خير ممّا طلعت عليه الشمس أو غربت، ألا تعلمون أنّي إمامكم، ومفترض الطاعة عليكم، وأحد سيّدي شباب أهل الجنّة، بنصٍّ من رسول الله عليّ؟" قالوا: بلى. قال: "أما علمتم أنّ الخضر لمّا خرق السفينة، وأقام الجدار، وقتل الغلام كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران عليه السلام ، إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان ذلك عند الله، تعالى ذكره، حكمة وصواباً؟ أما علمتم أنّه، ما منّا أحد إلّا يقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلّا القائم ؟ الذي يصلّي خلفه روح الله عيسى بن مريم عليه السلام ، فإنّ الله عزّ وجلّ يخفي ولادته، ويغيّب شخصه، لئلّا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج، ذاك التاسع من ولد أخي الحسين، ابن سيّدة الإماء، يطيل الله عمره في غيبته، ثمّ يظهره بقدرته في صورة شابّ دون أربعين سنة، ذلك ليعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير"1.
 
 
 

1- الطبرسيّ: الاحتجاج ج 2 ص 288.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

43

الصلح

 ما بعد الصلح

 
ولمّا استتمّت الهُدنة على ذلك، سار معاوية حتى نزل بالنخيلة 1، وكان ذلك يوم جمعة، فصلّى بالنّاس ضحى النهار، فخطبهم، وقال في خطبته: "إنّي والله، ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا، ولا لتزكّوا، إنّكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون، ألّا وإنّي كنت منَّيتُ الحسنَ، وأعطيتُه أشياء، وجميعها تحت قدميَّ، لا أفي بشيء منها له".
 
ولمّا استقرّ الصلح بين الحسن صلوات الله عليه وبين معاوية على ما ذكرناه، خرج الحسن عليه السلام إلى المدينة، فأقام بها كاظماً غيظه، لازماً منزله، منتظراً لأمر ربّه جلَّ اسمه، إلى أن تمّ لمعاوية عشر سنين من إمارته، وعزم على البيعة لابنه يزيد، فأراد التخلّص من الحسن عليه السلام ، ليخلو هذا الأمر من بعده ليزيد، فدسّ إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس2 وكانت زوجة الحسن عليه السلام من حملها على سمّه، وضمن لها أن يزوّجها بابنه يزيد، وأرسل إليها مائة ألف درهم، فسقته جعدة السمّ...
 
 
 

1- النخيلة: موضع قرب الكوفة.
2- روى الكلينيّ في الكافي ج 8 ص 167: عن أبي عبد الله أنّه قال:"إنّ الأشعث بن قيس شرك في دم أمير المؤمنين، وابنته جعدة سمّت الحسن، ومحمّد ابنه شرك في دم الحسين"!.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

44

الصلح

 فسوّغها معاوية المال، ولم يزوّجها منه، وأرسل إليها: إنّا لنحبّ حياة يزيد، ولولا ذلك لوفينا لك بتزويجه 1، فإنّ امرأة لا تصلح للحسن بن عليّ، لا تصلح لبنيّ يزيد2.

 
فخلف عليها رجل من آل طلحة فأولدها، فكان إذا وقع بينهم وبين بطون قريش كلام عيّروهم، وقالوا: يا بني مُسِمّة الأزواج3.
 
ومضى عليه السلام لسبيله في صفر 4، سنة خمسين من الهجرة، وله يومئذ ثمان وأربعون سنة، فكانت خلافته عشر سنين5.... 
 
 
 

1- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 6.
2-الطبرسيّ: الاحتجاج ج 2 ص 292.
3- الأصفهانيّ أبو الفرج: مقاتل الطالبييّن ص 80/ الخوارزميّ: مقتل الحسين ج 1 ص 198.
4-وقع الخلاف في تاريخ شهادته على أقوال، أشهرها أنّه في آخر صفر لليلتين بقيتا منه، وذهب بعضهم إلى أنّها في السابع منه، وقيل: إنّه لخمس خلون من ربيع الأوّل، وقيل: إنّه لخمس بقين منه.
5-أنظر حول جميع ما تقدّم: المفيد: الإرشاد ج 2 ص 915، الأصفهانيّ: مقاتل الطالبيّين ص 62 – 82. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

45

في شهادته وقتله عليه السلام

 مّا عزم معاوية على قتل الإمام، كتب إلى ملك الروم يسأله أن يوجّه إليه من السمّ القتّال شربة، فكتب إليه ملك الروم: أنّه لا يصلح لنا في ديننا أن نعين على قتال من لا يقاتلنا، فكتب إليه: إنّ هذا ابن الرجل الذي خرج بأرض تهامة، قد خرج يطلب ملك أبيه، وأنا أريد أن أدسّ إليه من يسقيه ذلك، فأريح العباد والبلاد منه، ووجّه إليه بهدايا وألطاف، فوجّه إليه ملك الروم بهذه الشربة، التي دسّ بها إلى الحسن عليه السلام 1.

 
فما ذهبت الأيّام، حتى بعث معاوية إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس بمال جسيم، وجعل يمنّيها بأن يعطيها مائة ألف درهم أيضاً، ويزوّجها من يزيد، وحمل إليها ذلك السمّ، لتسقيه الإمام الحسن عليه السلام...
 
وفي بعض الأيّام، انصرف الإمام إلى منزله، وكان صائماً في يوم حارّ، فأخرجت له وقت الإفطار شربة لبن، وقد ألقت فيها ذلك السمّ، فشربها الإمام عليه السلام..
 
وقيل: إنّها سقته السمّ في برادة من الذهب 2، في السويق المحلّى بالسكّر "القند"3
 
ولمّا أحسّ الإمام بحرارة السمّ، قال: "يا عدوّة الله! قتلتيني،
 
 
 

1-الطبرسيّ: الاحتجاج ج 2 ص 291-292.
2- برادة الذهب: سحالته وما يبرد منه.
3- الطبريّ الإماميّ: دلائل الإمامة ص 61، الشاميّ: الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم ص 511، فرهاد ميرزا: القمقام الزخار والصمصام البتّار ج 1 ص 228.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

46

في شهادته وقتله عليه السلام

  قتلك الله، والله، لا تبصرين خيراً 1، ولقد غرّك، وسخر منك، والله يخزيك ويخزيه"2.

وبقي عليه السلام يعاني ألم السمّ يومين، على أقلّ الروايات 3، وفي بعضها: أربعين يوماً 4، وهو يتقيّأ دماً، توضع تحته طست، وترفع أخرى...
 
ولمّا نظر الطبيب، الذي كان يتولّى معالجته، إلى حالته عليه السلام ، قال: هذا رجل (مريض)، قد قطَّع السمّ أمعاءه!5
 
وعن جنادة بن أبي أميّة، قال: دخلت على الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام في مرضه، الذي توفّي فيه، وبين يديه طست يقذف عليه الدم، ويخرج كبده 6 قطعة قطعة من السمّ، الذي أسقاه معاوية...
 
 

1- في بعض النسخ:"والله لا تصيبينّ منّي خلفاً".
2- الراونديّّ قطب الدين: الخرائج والجرائح ج 1 ص 241، والرواية عن الصادق عن آبائه. 
3- المصدر السابق ص 242.
4- الإرشاد: المفيد ج 2 ص 15، ابن سعد: ترجمة الإمام الحسن، من القسم غير المطبوع، من كتاب الطبقات الكبير، تهذيب وتحقيق السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ قدّس سرّه ص 85 و 98، التميميّ المغربيّ القاضيّ أبي حنيفة النّعمان بن محمّد: شرح الأخبار في فضائل الأئمّة الأطهار ج 3 ص 124.
5- ابن سعد: ترجمة الإمام الحسن، من القسم غير المطبوع، من كتاب الطبقات الكبير، تهذيب وتحقيق السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ قدّس سرّه ص 83، الباعونيّ الشافعيّ: جواهر المطالب في فضائل الإمام عليّ بن أبي طالب ج2 ص 210.
6- المراد بالكبد في هذه الروايات إمّا الدم أو الأمعاء، كما نصّت على ذلك روايات أخرى، وإلّا فإنّ الكبد لا يخرج عن طريق الفم، والله العالم.
قال العلّامة الشيخ باقر شريف القرشيّ: «لقد نصّت الروايةعلى تقدير ثبوتهاأنّ السمّ أثّر في كبد الإمام، حتى قاء بعضاً منه، وقد تحقّق في الطبّ الحديث أنّ السمّ لا يوجب قيء الكبد... وقد يتوهّم أنّ هذا يتصادم مع ما جاء في الرواية، وهو مدفوع، فإنّ الكبد في الاستعمالات العربيّة، يطلق على الجهاز الخاصّ في الجانب الأيمن، الذي يفرز الصفراء، كذلك يطلق على ما في الجوف بكامله، كما جاء في (القاموس)، وفي (تاج العروس) ما نصّه: وربّما سُمّي الجوف بكامله كبداً..
قال: ومن المجاز الكبد الجنب، وفي الحديث: «فوضع يده على كبده»، وإنّما وضعها على جنبه من الظاهر، وفي حديث مرفوع: «وتلقي الأرض أفلاذ كبدها»، أي تلقي ما خبّىء في بطنها من الكنوز والمعادن، فاستعار لها الكبد، وجاء ذلك أيضاً في (لسان العرب)، وعلى ذلك فيكون المراد من الرواية، أنّه ألقى من جوفه قطعاً من الدم المتخثّر، تشبه الكبد، وبهذا يظهر عدم التنافي بين الرواية وبين ما ذكره الأطبّاء فيما نحسب، والله العالم». (الميلانيّ: قادتنا كيف نعرفهم؟ ج 5 ص 293، عن حياة الإمام الحسن، للقرشيّ ج2 ص 475).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

47

في شهادته وقتله عليه السلام

  فقلت: يا مولاي، ما لك لا تعالج نفسك؟ فقال: "يا عبد الله، بماذا أعالج الموت؟" قلت: إنّا لله، وإنّا إليه راجعون.

 
ثمّ التفت إليَّ، فقال: "والله، لقد عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، أنّ هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد عليّ وفاطمة، ما منّا إلّا مسموم أو مقتول"، ثمّ رفعت الطست، وبكى صلوات الله عليه وآله....
 
قال: ثمّ انقطع نفسه، واصفرّ لونه، حتى خشيت عليه، ودخل الحسين عليه السلام ، والأسود بن أبي الأسود، فانكبّ عليه، حتى قبَّل رأسه وبين عينيه، ثمّ قعد عنده، فتسارّا جميعاً، فقال أبو الأسود: إنّا لله، إنّ الحسن قد نعيت إليه نفسه1.
 
 
 

1- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 44 ص 138 عن كفاية الأثر للقمّي.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

48

في شهادته وقتله عليه السلام

 لا يوم كيومك، يا أبا عبد الله

 
ولمّا نظر إليه الحسين عليه السلام بكى، فقال له الحسن عليه السلام: "ما يبكيك يا أبا عبد الله؟" قال: "أبكي لما يصنع بك"، فقال له الحسن عليه السلام: "إنّ الذي يؤتى إليّ سمّ يدسّ إليّ فأقتل به، ولكن لا يوم كيومك، يا أبا عبد الله، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل، يدَّعون أنّهم من أمّة جدّنا محمّد صلى الله عليه واله وسلم ، وينتحلون دين الإسلام، فيجتمعون على قتلك، وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك، فعندها تحلّ ببني أميّة اللعنة، وتمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كلّ شيء، حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار"1.
 
قاله يبو السجاد لا تبكي ولا تنوح      أنا على ما بي أعالج طلعة الروح
وإنت تظل بكربلا عريان مطروح      مرضوض صدرك بالثرى ومقطوع اليدين
 
وقال له: "كيف تجدك، يا أخي؟" قال: "أجدني في أوّل يوم من أيّام الآخرة، وآخر يوم من أيّام الدنيا، وأعلم أنّي لا أسبق أجلي، وأنّي
 
 


1- الصدوق: الأماليّ ص 177.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

49

في شهادته وقتله عليه السلام

 وارد على أبي وجدّي صلى الله عليه واله وسلم ، على كره منّي لفراقك، وفراق إخوتك، وفراق الأحبّة، وأستغفر الله، من مقالتي هذه وأتوب إليه، بل على محبّة منّي للقاء رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، ولقاء فاطمة، وحمزة، وجعفر عليهم السلام ، وفي الله عزَّ وجلَّ خلف من كلّ هالك، وعزاء من كلّ مصيبة، ودرك من كلّ ما فات..." 

 

 

 

 

 

 

 

 

67


50

في شهادته وقتله عليه السلام

 يوصي أخاه الحسين عليه السلام 

 
ثمّ قال للحسين عليه السلام اكتب: "هذا ما أوصى به الحسن بن عليّ إلى أخيه الحسين بن عليّ، أوصى: أنّه يشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأنّه يعبده حقّ عبادته، لا شريك له في الملك، ولا وليّ له من الذلّ، وأنّه خلق كلّ شيء فقدّره تقديراً، وأنّه أولى من عُبد، وأحقّ من حمد، من أطاعه رشد، ومن عصاه غوى، ومن تاب إليه اهتدى. 
 
فإنّي أوصيك يا حسين، بمن خلّفت من أهلي وولدي وأهل بيتك، أن تصفح عن مسيئهم، وتقبل من محسنهم، وتكون لهم خلفاً ووالداً..."1.
وقال: "يا أخي، إنّي مفارقك، ولاحق بربّي عزَّ وجلَّ، وقد سقيت السمّ، ورميت بكبدي في الطست، وإنّي لعارف بمن سقاني السمّ، ومن أين دُهيت، وأنا أخاصمه إلى الله تعالى، فبحقّي عليك، إن تكلّمت في ذلك بشيء، وانتظر ما يُحدث الله، عزّ ذكره، فيَّ..2
 
فإذا قضيت، فغمِّضني، وغسّلني، وحنّطني، وكفّني، وصلّ عليَّ،
 
 
 

1- الطوسيّ: الأماليّ ص 159.
2-المفيد: الإرشاد ج 2 ص 17.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

51

في شهادته وقتله عليه السلام

  واحملني على سريري إلى قبر جدّي، حتى تلحدني إلى جانبه، فإن منعت من ذلك، فبحقّ جدّك رسول الله، وأبيك أمير المؤمنين، وأمّك فاطمة، وبحقّي عليك، إن خاصمك أحد، ردّني إلى البقيع، إلى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد رحمة الله عليها، فادفنّي هناك، ولا تهرق فيَّ محجمة دم"1.

 
وقام الحسن عليه السلام لحاجة الإنسان، ثمّ رجع، فقال: "سقيت السمّ عدّة مرّات، وما سقيت مثل هذه، لقد لفظت طائفة من كبدي، ورأيتني أقلّبه بعود في يدي.."2
 
 
 

1-الطبريّ الإماميّ: دلائل الإمامة ص 61، والمفيد: الإرشاد ج 2 ص 17، باقتباس وتصرّف منهما.
2-المسعوديّ: مروج الذهب ج3 ص 6.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

52

لحظات الوداع

 ولمّا دنت وفاته، ونفدت أيّامه، وجرى السمّ في بدنه، تغيَّر لونه واخضرَّ، فقال له الحسين عليه السلام: "ما لي أرى لونك مائلاً إلى الخضرة؟" فبكى الحسن عليه السلام ، وقال: "يا أخي، لقد صحَّ حديث جدّي فيَّ وفيك، ثمّ اعتنقه طويلاً، وبكيا كثيراً"1.

 
قالوا: وهكذا أخذ السمّ في بدن الحسن عليه السلام مأخذاً كبيراً، وكان رأسه في حجر الحسين عليه السلام ، وهو يقذف بين الحين والآخر أحشاءه في الطشت قطعة قطعة... وبينما هما كذلك، وإذا بالعقيلة زينب، وباقي الهاشميّات، جئن لعيادة الإمام عليه السلام ، فالتفت إمامنا الحسن عليه السلام إلى أخيه الحسين عليه السلام ، وقال: "أخي، أبا عبد الله، نحِّ هذا الطشت عنّي، لئلّا تراه أختنا زينب"...2
 
يحسين شيل الطشت عني         خواتك يبو السجاد اجنّي
يردن يشبعن شوف مني           ويردن يخويه ايودعني
                 وينوحن عليَّ ويندبني
 
ولمّا دخلت زينب، ورأت الحسن عليه السلام بتلك الحالة، صاحت: وا
 
 
 

1-المجلسيّ: بحار الأنوار ج 44 ص 145.
2-الحيّاوي الشيخ فاضل، عدّة الخطيب ج 1 ص 102.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

53

لحظات الوداع

 هذا موقف لزينب والهاشميّات، رأين فيه الحسن عليه السلام ، وهو يجود بنفسه من أثر السمّ، لكن يعزّ عليك يا أبا محمّد، لمّا دخلن على يزيد، وكان بين يديه طشت... وماذا كان في داخله؟! كان رأس أخيك الحسين عليه السلام ، وهو يقلّب شفتيه بعودٍ من خيزران... ولمّا رأته زينب، صاحت وا أخاه، واحسيناه..1

 
انصدع قلب الطاهرة زينب بطشتين            بواحد كبد للحسن وبواحد راس الحسين
وطشت الحوى راس السبط أعظم الاثنين       وشافت الطاغي بالعصا يضرب المبسم
 
ولمّا نزل بالحسن عليه السلام ، الموت قال: "أخرجوا فراشي إلى صحن الدار"، فأخرج، فقال عليه السلام: "أللَّهم، إنّي أحتسب نفسي عندك، فإنّي لم أصب بمثلها"2.
ولمّا أشرف على الرحيل، قال له الحسين عليه السلام: "أريد أن أعلم حالك يا أخي"، فقال له الحسن عليه السلام: "سمعت النبيّ صلى الله عليه واله وسلم يقول: لا يفارق العقل منّا أهل البيت، ما دام الروح فينا، فضع يدك في يدي، حتى إذا عاينت ملك الموت، أغمز يدك".
 
فوضع يده في يده، فلمّا كان بعد ساعة، غمز يده غمزاً خفيفاً،
 
 
 

1-الطريق إلى منبر الحسين، من مجالس الشيخ الكاشي رحمه الله ج 3 ص 302.
2- الأربليّ ابن أبي الفتح: كشف الغمّة في معرفة الأئمّة ج 2 ص 213.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

54

لحظات الوداع

  فقرَّب الحسين عليه السلام أذنه إلى فمه، فقال: "قال لي ملك الموت: أبشر، فإنّ الله عنك راضٍ، وجدّك شافع"1.

 
ثمّ سكن أنينه، وعرق جبينه.. ومدّ يديه ورجليه، وغمّض عينيه، وفارقت روحه الدنيا...2
 
وا إماماه...وامظلوماه...                     واحسناه... واسيّداه..
وحسين ودمعته بخده جريّه                  حط راسه بحجره وقضى نحبه الشفيه
ينادي يبو محمد يخويه قطعت بيه            ودعتك الله يالحسن يا قرة العين
 
 
 

1-ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 43.
2-المازندرانيّ الحائريّ الشيخ محمّد مهدي: معالي السبطين في أحوال الحسن والحسين ج 1 ص 54.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

55

لحظات الوداع

 التجهيز والدفن

 
ولمّا توفي الحسن عليه السلام ، ضجّ الناس ضجّة عظيمة، وصار كيوم مات رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، وخرج أولاده وأخوته يبكون وينوحون، وأقبل بنو هاشم، رجالاً ونساءً يبكون عليه1، وارتجّت المدينة صياحاً، فلا يُلقى أحد إلّا باكيا 2.
 
وبعثت بنو هاشم إلى "العوالي"، صائحاً يصيح في كلّ قرية من قرى الأنصار بموت الحسن عليه السلام ، فنزل أهل العوالي، ولم يتخلّف أحد عنه 3
ثمّ قام الإمام الحسين عليه السلام بتغسيله وتكفينه...
 
ولمّا لفّ في أكفانه، قال محمّد بن الحنفيّة: رحمك الله يا أبا محمّد، فوالله لئن عزّت حياتك، لقد هدّت وفاتك، ونعم الروح روح عمّر به بدنك، ونعم البدن بدن ضمّه كفنك، لِم لا تكون كذلك؟ وأنت سليل الهدى، وحلف أهل التقوى، وخامس أصحاب الكساء، غذتك كفّ الحقّ، وربيت في حجر الإسلام، وأرضعتك ثديا الإيمان، فطب حيّاً
 
 
 

1- مراجع من العلماء الأعلام: كتاب الوفيّات ج 2 ص 124.
2- ابن سعد: ترجمة الإمام الحسن، من القسم غير المطبوع، من كتاب الطبقات الكبير، تهذيب وتحقيق السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ قدّس سرّه ص 86.
3-المصدر السابق ص 89. 


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

56

لحظات الوداع

 وميّتاً، فعليك السلام ورحمة الله، وإن كانت أنفسنا غير قالية لحياتك، ولا شاكّة في الخيار لك1

وصلّى عليه الإمام الحسين عليه السلام 2، وحملوه على سريره، وتوجّهوا به إلى قبر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم. 
 
ولم يشكّ مروان، ومن معه من بني أميّة، أنّهم سيدفنونه عند رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، فتجمّعوا له، ولبسوا السلاح، وأقبلوا إليهم في جمعهم... 3
ورميت جنازة الإمام عليه السلام بالنبال، حتى سُلّ منها سبعون نبلاً!!.4
 
وكادت الفتنة أن تقع بين بني هاشم وبني أميّة...، فقال الحسين عليه السلام: "والله، لولا عهدُ الحسن إليَّ بحقن الدماء، وأن لا أُهريق في أمره محجمة دم، لعلمتم كيف تأخذ سيوفُ الله منكم مأخذها؟ وقد نقضتم العهد بيننا وبينكم، وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا".
 
عندها مضوا بالحسن عليه السلام إلى البقيع، واجتمع الناس في جنازته، حتى كان البقيع لا يسع أحداً من الزحام5، ولو طرحت إبرة ما وقعت إلّا على رأس انسان 6، ثمّ دفنوه عند قبر جدّته فاطمة بنت أسد رضي الله عنها7.
 
 


1- اليعقوبيّ: تاريخ اليعقوبيّ ج 2 ص 225.
2- لما جاء في الروايات: "أنّ الإمام لا يلي أمره إلّا إمام مثله"، أنظر: الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 384.
3-المفيد: الإرشاد ج 2 ص 18.
4- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 44.
5- الباعونيّ الشافعيّ: جواهر المطالب في فضائل الإمام عليّ بن أبي طالب ج 2 ص 213.
6-الحاكم النيسابوريّ: المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 173.
7- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 19.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

57

لحظات الوداع

 ومكث الناس يبكون على الحسن بن عليّ وما تقوم الأسواق، وأقام نساء بني هاشم النوح عليه شهراً، وحدَّ نساء الحسن بن عليّ عليه السلام سنة 1.

 
 

1-الحاكم النيسابوريّ: المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 173.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

58

لحظات الوداع

 على قبر الحسن عليه السلام 

 
ووقف الحسين عليه السلام عند قبر أخيه الحسن عليه السلام ، وقال: "رحمك الله يا أبا محمّد، إن كنت لناصر الحقّ مظانّه، وتؤثر الله عند مداحض الباطل في مواطن اليقين بحسن الرّوية، وتستشفّ جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة، وتقبض يداً طاهرة، وتردع ماردة أعدائك بأيسر المؤنة عليك، وأنت ابن سلالة النبوّة، ورضيع لبان الحكمة، وقد صرت إلى روحٍ وريحان وجنّة نعيم.
 
أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه، ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأسى عليه"1.
 
ولمّا وضع الحسن عليه السلام في لحده، قال الحسين عليه السلام 
 
أَأَدْهُنُ رَأْسِي أَمْ تَطِيبُ مَجالِسِي2          وَرأْسُكَ مَعفُورٌ وأَنْتَ سَلِيبُ 
أَوَ اسْتَمْتِعُ الدُنْيا لِشَيْءٍ أُحِبُّهُ                 ألَا كُلُّ مَا أَدْنَى إِلَيْكَ حَبِيبُ 
فَلا زِلْتُ أَبْكِي مَا تَغَنَّتْ حَمَامَةٌ            عَلَيْكَ وَمَا هَبَّتْ صَباً وَجَنوبُ 
وَمَا هَمَلَتْ عَيْنِي مِنَ الدَّمْعِ قَطْرَةً           وَمَا اخْضَرَّ في دَوْحِ الحِجازِ قَضِيبُ 
 
 
 

1- الميلانيّ السيّد محمّد هادي الحسينيّ: قادتنا كيف نعرفهم؟ ج 5 ص 301-302، عن ترجمة الإمام الحسن، من تاريخ مدينة دمشق، لابن عساكر 352.
2- في بعض المصادر: محاسني، ولعلّه أولى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

59

لحظات الوداع

 بُكائِي طَوِيلٌ والدُّمُوعُ غَزيرَةٌ              وَأَنْتَ بَعِيدٌ وَالمزَارُ قَرِيبُ 

غَرِيبٌ وَأَطْرافُ البُيوتِ تَحُوطُهُ            ألَا كُلُّ مَنْ تَحْتَ التُّرابِ غَرِيبُ 
وَلا يَفرَحُ البَاقي خِلافَ الذي مَضَى       وَكُلُّ فَتىً لِلموتِ فيهِ نَصيبُ 
فَلَيْسَ حَرِيباً مَنْ أُصِيبَ بِمالِهِ               وَلكِنْ مَنْ وَارَى أَخاهُ حَرِيبُ1 
نَسِيبُكَ مَنْ أَمْسَى يُناجِيكَ طَيْفُهُ          وَلَيْسَ لِمَنْ تَحْتَ التُرابِ نَسِيبُ2
 
وللحسين عليه السلام موقف، ورثاء آخر على أخيه أبي الفضل العبّاس عليه السلام ، إلّا أنّه رآه بحالة أخرى
 
يداه مقطوعتان... وجبينه مفضوخ...
السهم نابت في العين... والعين الأخرى جمد عليها الدم...
السهام في صدره... وجراحاته تنزف دماً...
القربة مخرّقة... والعلم ممزّق...
 
ولعظم هذه المصيبة، نادى بنداء يحرق القلوب، ويدمي الحشى، وتسيل منه المدامع
 
"الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوّي"!!
أَأَخَيُّ مَنْ يَحْمِي بَنَاتِ مُحَمَّدٍ                      إنْ صِرْنَ يَسْتَرْحِمْنَ مَنْ لَا يَرْحَمُ
 
 
 

1-الحريب: من سلب ماله.
2-ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 45.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

60

لحظات الوداع

 في زيارته عليه السلام 

 
عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، أنّ الحسين بن عليّ عليهم السلام ، كان يزور قبر الحسن بن عليّ عليه السلام ، كلّ عشيّة جمعة1.
وعن النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم ، أنّه قال للحسن عليه السلام ، في حديث له:"...تزورك طائفة من أمّتي، يريدون به برّي، وصلتي، فإذا كان يوم القيامة، زرتها في الموقف، وأخذت بأعضادها، فأنجيتها من أهواله وشدائده"2.
 
وعن إبراهيم بن عبد الله بن حسين بن عثمان بن معلّى بن جعفر، قال: قال الحسن بن عليّ عليه السلام: "يا رسول الله، ما لمن زارنا؟" قال: "من زارني حيّاً أو ميتاً، أو زار أباك حيّاً أو ميتاً، أو زار أخاك حيّاً أو ميتاً، أو زارك حيّاً أو ميتاً، كان حقّاً عليَّ أن أستنقذه يوم القيامة".
 
عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال: بينا الحسين بن عليّ عليه السلام في حجر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، إذ رفع رأسه، فقال: "يا أبه، ما لمن زارك بعد موتك؟" فقال: "يا بنيّ من أتاني زائراً بعد موتي فله الجنّة، ومن أتى أباك زائراً بعد موته فله الجنّة، ومن أتى أخاك زائراً بعد موته فله الجنّة، ومن أتاك زائراً بعد موتك فله الجنّة"3.
 
 
 

1-الحرّ العامليّ: وسائل الشيعة ج 14 ص 408.
2-النوريّ الميرزا حسين: مستدرك الوسائل ج 10 ص 228. 
3-الطوسيّ: تهذيب الأحكام ج 6 ص 40.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

61

لحظات الوداع

 عن بكر بن صالح، عن عمرو بن هشام، عن بعض أصحابنا، عن أحدهما عليه السلام ، قال: "إذا أتيت قبور الأئمّة بالبقيع، فقف عندهم، واجعل القبلة خلفك، والقبر بين يديك، ثمّ تقول": "السلام عليكم أئمّة الهدى، السلام عليكم أهل البرّ والتقوى، السلام عليكم أيّها الحجج على أهل الدنيا، السلام عليكم أيّها القوّامون في البرية بالقسط. 


السلام عليكم أهل الصفوة، السلام عليكم يا آل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، السلام عليكم أهل النجوى". 
أشهد أنّكم قد بلّغتم ونصحتم وصبرتم في ذات الله، وكُذِّبتم وأُسيء إليكم فغفرتم، وأشهد أنّكم الأئمّة الراشدون المهديّون، وأنّ طاعتكم مفروضة، وأنّ قولكم الصدق، وأنّكم دعوتم فلم تُجابوا، وأمرتم فلم تُطاعوا، وأنّكم دعائم الدين، وأركان الأرض.

لم تزالوا بعين الله ينسخكم في أصلاب كلّ مطهّر، وينقلكم من أرحام المطهّرات، لم تدنّسكم الجاهليّة الجهلاء، ولم تُشرِك فيكم فتنُ الأهواء، طبتم وطاب منبتكم. 

منَّ بكم علينا ديّان الدين، فجعلكم في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وجعل صلواتنا عليكم، رحمة لنا، وكفّارة لذنوبنا، إذ اختاركم الله لنا، وطيَّب خلقنا بما منَّ به علينا من ولايتكم، وكنّا عنده مُسَمّينَ بعلمكم، معترفين بتصديقنا إيّاكم. 

وهذا مقام من أسرف وأخطأ، واستكان وأقرّ بما جنى، ورجا بمقامه الخلاص، وأن يستنقذ بكم مستنقذ الهلكى من الردى، فكونوا لي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

62

لحظات الوداع

 شفعاء، فقد وفدت إليكم، إذ رغب عنكم أهل الدنيا، واتخذوا آيات الله هزواً، واستكبروا عنها. 

 
"يا من هو قائم لا يسهو، ودائم لا يلهو، ومحيط بكلّ شيء ، لك المنّ بما وفّقتني، وعرّفتني أئمّتي، وبما أقمتني عليه، إذ صدَّ عنه عبادك، وجهلوا معرفته، واستخفُّوا بحقّه، ومالوا إلى سواه، فكانت المِنَّةُ منك عليَّ، مع أقوام خصصتهم بما خصصتني به. 
فلك الحمد، إذ كنت عندك في مقامي هذا مذكوراً مكتوباً، فلا تحرمني ما رجوت، ولا تخيّبني فيما دعوت في مقامي هذا، بحرمة محمّد وآله الطاهرين. 
 
وادع لنفسك بما أحببت"1.
 
 
 

1- القميّ ابن قولويه: كامل الزيارات ص 117-120.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

 


63

لحظات الوداع

 وفي وداعه عليه السلام 

 
تقف على قبره، كوقوفك عليه عند الزيارة، وتقول: السلام عليك يا بن رسول الله، السلام عليك يا مولاي ورحمة الله وبركاته، أستودعك الله وأسترعيك، وأقرأ عليك السلام، آمنّا بالله والرسول، وبما جئت به، ودللت عليه، أللَّهم اكتبنا مع الشاهدين.
ثمّ تسأل الله حاجتك، وأن لا يجعله آخر العهد منك، وادع بما أحببت، إن شاء الله 1.
 
 
 

1-الطوسيّ: تهذيب الأحكام ج 6 ص 41.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

64

خاتمة في المراثي

 رثاء سليمان بن قَتَّه

 
ما1 كَذَّبَ اللهُ مَنْ نَعَى حَسَناً      لَيْسَ لِتَكْذِيبِ نَعْيِهِ ثَمَنُ
كُنْتَ خَلِيلِي وَكُنْتَ خَالِصَتِي     لِكُلٍّ حَيٍّ مِنْ أهلِهِ سَكَنُ
أَجُولُ في الدَّارِ لَا أَراكَ وَفي         الدَّارِ أُنَاسٌ جِوارُهُمْ غَبَنُ
بَدَّلْتُهُمْ مِنْكَ لَيْتَ أنَّهُمُ             أَضْحَوْا وَبَيْنِي وَبْينَهُمْ عَدَنُ2
 
 
 

1- في المصدر: "يا"، وما في المتن أثبتناه من المناقب، لابن شهرآشوب ج 4 ص 51.
2- الأصفهانيّ أبو الفرج: مقاتل الطالبيّين ص 84.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

65

خاتمة في المراثي

 رثاء دعبل

 
تَعَزَّ بِمَنْ قَدْ مَضَى سَلْوَةً       وإنَّ العَزاءَ يُسَلِّي الحَزِنْ
بِمَوْتِ النَّبِيِّ وَقَتْلِ الوَصِيِّ      وَذَبْحِ الحُسَيْنِ وسُمِّ الحَسَنْ1
 
 
 

1-ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 52.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

66

خاتمة في المراثي

 رثاء السيّد محسن الأمين

 
لَهْفِي عَلَى الحَسنِ الزَّاكِي وَما فَعَلَتْ       بِهِ الأَعادِي وَمَا لاقَى مِنَ المِحَنِ
سَقَتْهُ بَغْياً نَقِيعَ السُّمِّ لَا سُقِيَتْ            صَوْبَ الحَيَا مِنْ غَوادِي عَارِضٍ هَتِنِ
فَقَطَّعَتْ كَبِداً لِلْمُصْطَفَى وَرَمَتْ           فُؤادَ بَضْعَتِهِ الزَّهْراءِ بِالحُزُنِ
وَأَوْسَعَتْ مِنْ عَليٍّ قَلْبَهِ حَرَقاً              وَغادَرَتْهُ رَهِينَ الوَجْدِ وَالشَّجَنِ
وَلِلْحُسَيْنِ حَنِينٌ مِنْ فُؤادِ شَجٍ             بالوَجْدِ مُضْطَرِمٌ بِالحُزْنِ مُرْتَهَنِ
لِلَّهِ رُزْءُ ابْنِ بِنْتِ المُصْطَفَى فَلَقَدْ           أَضْحَى لهُ الصُّبْحُ مِثْلَ الفَاحِمِ الدَّجِنِ
رُزْءٌ لهُ هَدَّ رُكْنَ الدِّينِ وَانْفَصَمَتْ        مِنْهُ العُرَى وَاكْتَسَى بِالذُّلِّ وَالوَهَنِ
رُزْءٌ أَنَاخَ عَلَى الإِسْلامِ كَلْكَلُهُ            فَغَالَهُ وَمَضَى بِالفَرْضِ وَالسُّنَنِ
رُزْءٌ تَهوُنُ لهُ الأَرْزاءُ أَجْمَعُها             مِنْ عِظْمِهِ وَهْوَ حَتَّى اليَوْمَ لَمْ يَهُنِ
رُزْءٌ لَهُ حَرَمُ الجَبَّارِ في حُزُنٍ               وَبَعْدَهُ حُرَمُ الجَبَّارِ لَمْ يُصَنِ
رُزْءٌ لَهُ مِنْ مِنَى تَبْكِي مَشاعِرَها           وَخَطْبُهُ نَازِلٌ بِالبَيْتِ ذِي الرُّكُنِ
سَقَى البَقِيعَ وَمَنْ ضَمَّ البَقِيعُ حَياً          يَهْمِي بِهِ في ثَراهُ صَيِّبُ المُزُنِ1
 
 
 

1-الأمين السيّد محسن: المجالس السنيّة ج 2 ص 272.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

67

خاتمة في المراثي

 رثاء السيّد رضا الموسويّ الهنديّ


لَهِفْي لَهُ مِنْ واجِدٍ كَمِدِ         مُسْتَضْعَفٍ في الأَرْضِ مُمْتَهَنِ 
مَا أَبْصَرَتْ عَيْنٌ وَلا سَمِعَتْ      أُذُنٌ بِمَنْ سَاواهُ في المِحَنِ 
يَرْعَى عِداهُ بِعَيْنِهِ وَيَعِي          شَتْمَ الوَصِيِّ أَبِيهِ فِي أُذُنِ 
وَيرَى أَذَلَّ النَّاسِ شِيعَتَهُ         وَأَعزَّهُمْ عُبَّادَةَ الوَثَنِ 
وَقَدِ ارْتَدَى بِالصَّبْرِ مُشْتَمِلاً      بِالحِلْمِ مُحْتَفِظاً عَلَى السُّنَنِ 
حَتَّى سَقَوْهُ السُّمَّ فَاقْتَطَعُوا        مِنْ دَوْحِ أَحْمَدَ أَيَّما غُصُنِ 
سُمَّاً يُقَطِّعُ قَلْبَ فَاطِمَةٍ            وَجْداً علَى قَلْبِ ابْنِها الحَسَنِ 
وَهَوَى شَهِيداً صَابِراً فَهَوَتْ      حُزْناً عَلَيْهِ كَواكِبُ الدُّجَنِ 
وَتَجَهَّزَتْ بِالجُنْدِ طَائِفَةٌ           مُقْتادَةٌ لِلْبَغْيِ فِي شَطَنِ 
يَا لَلْوَرى لِصُدُورِ طَائِفَةٍ          شُحِنَتْ مِنَ الشَّحْنَاءِ والإِحَنِ 
أَقْصَتْ حَشَا الزَّهْراءِ عَنْ حَرَمِ     الهادِي وَأَدْنَتْ مِنْهُ كُلَّ دَنِي 
أللهَُ مِنْ صَبْرِ الحُسَيْنِ بِهِ           حَاطَتْ ذَووُ الأَحْقادِ والضَّغَنِ 
تَرَكُوا جَنازَةَ صِنْوِهِ غَرَضاً         لِلنَّبْلِ يَثْبُتُ مِنْهُ في الكَفَنِ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

68

خاتمة في المراثي

 وَيَصُدُّهُ عَنْهُمْ وَصِيَّتُهُ         حَاشَاهُ مِنْ فَشَلٍ وَمِنْ وَهَنِ 

فَمَضَى بِهِ نَحْوَ البَقِيعِ إِلَى     خَيْرِ البِقَاعِ بِأَشْرَفِ المُدُنِ 
وَارَاهُ وَالأَرْزاءُ مُورِيَةٌ          بِحَشَاهُ زَنْدُ الهَمِّ وَالحُزُنِ 
وَدَعا وَأَدْمُعُهُ قَدِ انْحَدَرَتْ     مِنْ أَعْيُنٍ نَابَتْ عَنِ المُزُنِ 
أَيَطِيبُ بَعْدَكَ مَجْلِسٌ لِيَ أَمْ   عَيْشِي الهَنِيِّ وَقدْ فَقَدْتُ هَنِي 
أَفْدِيكَ مِنْ ثَاوٍ بِحُفْرَتِهِ         مُسْتَوْدَعٍ فِي الأَرْضِ مُرْتَهَنِ1
 
 
 

1-الموسويّ الهنديّ السيّد رضا: ديوان السيّد رضا الهنديّ: ص 34-36.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

69

خاتمة في المراثي

 رثاء السيّد محمّد حسين النجفيّ، المعروف بالكيشوان

 
لِلَّهِ أَيُّ حَشاً تَكَابَدَ مِحْنَةً         يَشْجَى لَها الصَّخْرُ الأَصَمُّ ويَصْدَعُ
وَرَزِيَّةٌ جَرَّتْ لِقَلْبِ مُحَمَّدٍ         حُزْناً تَكادُ لَها السَّماءُ تَزَعْزَعُ
ما زَالَ مُضْطَهَداً يُقاسِي مِنْهُمُ      غُصَصاً بهِا كَأْسُ الرَّدَى يَتَجَرَّعُ
حَتَّى إِذَا نَفَذَ القَضاءُ مُحَتَّماً        أضْحَى يُدَسُّ إِلَيْهِ سُمُّ مُنْقَعُ
وَتَفَتَّتَتْ بِالسُّمِّ مِنْ أَحْشَائِهِ        كَبِدٌ لَهَا حَتَّى الصَّفَا يَتَصَدَّعُ
وَسَرَى بِهِ نَعْشٌ تَوَدُّ بَنَاتُهُ           لَوْ يَرْتَقِي لِلْفَرْقَدَيْنِ وَيُرْفَعُ
نَعْشٌ لَهُ الرُّوحُ الأَمِينُ مُشَيِّعٌ       وَلَهُ الكِتابُ المُسْتَبِينُ مُوِدِّعُ
نَعْشٌ أعَزَّ اللهُ جَانِبَ قُدْسِهِ         فَغَدَتْ لهُ زُمَرُ المَلائِكِ تَخْضَعُ 
نَثَلُوا1 لَهُ حِقْدَ الصُّدُورِ فَما يُرَى    مِنْها لِقَوْسٍ بِالكِنانَةِ مَنْزِعُ 
وَرَمَوْا جَنازَتَهُ فَعَادَ وَجِسْمُهُ         غَرَضٌ لِرامِيَةِ السِّهامِ وَمَوْقِعُ 
شَكُّوهُ حَتَّى أَصْبَحَتْ مِنْ نَعْشِهِ       تُسْتَلُّ غَاشِيَةُ النِّبالِ وَتُنْزَعُ
 
 
 

1- نَثَل: أي استخرج.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

70

خاتمة في المراثي

 لَمْ تَرْمِ نَعْشَكَ إِذْ رَمَتْكَ عِصابَةٌ     نَهَضَتْ بِها أَضْغَانُها تَتَسَرَّعُ

لَكِنَّها عَلِمَتْ بِأَنَّكَ مُهْجَةُ الـ     زَّهْراءِ فابْتَدَرَتْ لِحَرْبِكَ تَهْرَعُ
مَنَعَتْهُ مِنْ حَرَمِ النِّبيِّ ضَلالَةً          وَهْوَ ابْنُهُ فَلأَيِّ أَمْرٍ يُمْنَعُ
لِلَّهِ أَيُّ رَزِيَّةٍ كَادَتْ لَها             أَرْكانُ شَامِخَةِ الهُدَى تَتَضَعْضَعُ
رُزْءٌ بَكَتْ عَيْنُ الحُسَيْنِ لَه وَمِنْ     ذَوْبِ الحَشَا عَبَراتُهُ تَتَدَفَّعُ
يَوْمَ انْثَنَى يَدْعُو ولَكِنْ قَلْبُهُ          وَارٍ وَمُقْلَتُهُ تَفِيضُ وَتَدْمَعُ
أَتُرَى يَطِيفُ بِيَ السُّلُوُّ وَناظِري      مِنْ بَعْدِ فَقْدِكَ بِالكَرَى لا يَهْجَعُ
أَأُخَيُّ لا عَيْشِي يَجُوسُ خِلالَهُ        رَغَدٌ وَلا يَصْفُو لِوُرْدِيَ مَشْرَعُ
خَلََّفْتَنِي مَرْمَى النَّوائِبِ لَيْسَ لِي      عَضُدٌ أَرُدُّ بِه الخُطُوبَ وَأَدْفَعُ1
 
 
 

1- أنظر: رياض المدح والرثاء ص 103.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

71

خاتمة في المراثي

 رثاء السيّد عليّ الترك


وَيْلاهُ مِنْ زَمَنٍ ممَّا لَقِيتُ بِهِ                مِمَّا لَقِيتُ أَلا وَيْلاهُ مِنْ زَمَنِي
فَكَمْ رَمانِي بِسَهْمِ النَّائِباتِ! وكَمْ          صَبَرْتُ والصَّبْرُ حَقّاً أَمْنَعُ الجُنَنِ!
جارَتْ عَلَيَّ لَيالِيهِ وَكَمْ غَدَرَتْ            قَبْلِي وجارَتْ عَلَى ابْنِ المُصْطَفَى الحَسَنِ!
أللهُ أَكْبَرُ كَما قاسَى ابْنُ فاطِمَةٍ             مِنَ المصَائِبِ يا لِلَّهِ والِمحَنٍ
ساقَ ابْنُ حَرْبٍ لَهُ جَيْشَ العَمَى فَأَتَتْ      يَقْتادُها بَغْيُها طَوْعاً بِلاَ رَسَنِ
فَخانَهُ صَحْبُهُ طُرّاً سِوَى نَفَرٍ               فيا رَعَى اللهُ مَنْ أَوْفَى وَلَمْ يَخُنِ
وخَرَّ مِنْ طَعْنَةِ "الجَرَّاحِ" مُنْعَفِراً             لِلَّهِ ما صَنَعَ "الجَرَّاحُ" بِالحَسَنِ
لَهْفِي لِجَامِعِ شَمْلِ الدِّينِ حِينَ غدَا         مُشَتَّتَ الشَّمْلِ مَطْرُوداً عَنِ الوَطَنِ
ومُذْ بِهِ غَدَرَتْ كُوفانُ قُوِّضَ عَنْ          جِوارِ قَبْرِ أَبِيهِ وَهْوَ ذُو شَجَنِ
وَأَمَّ مَهْبِطَ وَحْيِ اللهِ مُضْطَهَداً             يَشْكُو إِلَى اللهِ ما لاقَى مِنَ الِمحَنِ
ولَمْ يَزَلْ كاظِماً لِلْغَيْظِ مِحْنَتُهُ             مَصَائِبُ الدَّهْرِ تحْتَ القَدْحِ بِالسُّفُنِ
حَتَّى إِذا ما سَقَى السُّمُّ النَّجِيعَ جَرَى       في الجِسْمِ مِنْهُ كَمَجْرَى الماءِ في الغُصُنِ
وعادَ يَقْذِفُ مِنْ أَحْشائِهِ كَبِداً              في الطَّشْتِ يا لَيْتَ ذَاكَ السُّمُّ في بَدَنِي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

72

خاتمة في المراثي

 حَتَّى قَضَى فَعَلَى الدُّنْيا العَفَا لَقَدْ     أَوْدَى بِمُهْجَةِ طَهَ حادِثُ الزَّمَنِ

مَنْ لِلْمَكارِمِ يَقْضِي حَقَّ وارِدِها      مَنْ لِلصَّوارِمِ والعَسَّالَةِ اللَّدُنِ
مَنْ لِلْوُفُودِ ومَنْ لِلْجُودِ يَبْسُطُهُ        مَنْ لِلْحُدُودِ فُرُوضِ اللهِ وَالسُّنَنِ
أللهُ يَوْمَ الزَّكِيِّ ابْنِ النَّبِيِّ لَقَدْ          أَبْكَى الحُسَيْنَ بِدَمْعٍ كَالْحَيَا الهَتِنِ
بَكَى غَداةَ رَأَى نَعْشَ الزّكِيِّ سَرَى     بُكَاءَ صَبٍّ عَلَى الأَطْلالِ وَالدِّمَنِ
وصَيَّرُوا نَعْشَ سِبْطِ المُصْطَفَى غَرَضاً    لِلنَّبْلِ تَرْمِيهِ أَهْلُ البَغْيِ والإِحَنِ1
 
 
 

1- الخاقانيّ عليّ: الكوكب الدرّي من شعراء الغريّ ص 456. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

73
السبط المسموم شهادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام سلسلة مجالس العترة