كاظم الغيظ شهادة الإمام موسى الكاظم عليه السلام


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-06

النسخة: 0


الكاتب

معهد سيد الشهداء

هو مؤسسة ثقافية متخصصة تعنى بشؤون النهضة الحسينية ونشرها، وإعداد قدرات خطباء المنبر الحسيني وتنميتها، معتمدة على كفاءات علمائية وخبرات فنية وإدارية... المرتكزة على الأسس الصحيحة المستقاة من ينبوع الإسلام المحمدي الأصيل.


المقدمة

 "أللهمّ صلِّ على

الأمين المؤتمن موسى بن جعفر
البرّ الوفيّ الطاهر الزكيّ النور المبين
المجتهد المحتسب الصابر على الأذى فيك،
أللهمّ وكما بلّغ عن آبائه ما استودع من أمرك
ونهيك, وحمل على المحجّة وكابد أهل العزّة
والشدّة فيما كان يلقى من جهّال قومه، ربِّ
فصلِّ عليه أفضل وأكمل ما صلّيت على أحد
ممّن أطاعك ونصح لعبادك إنّك غفور
رحيم"1.
 
 
 


1- الطوسيّ: مصباح المتهجّد ص 403.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
5

1

المقدمة

 بسم الله الرحمن الرحيم

 
والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين محمّد وعلى عترته وأهل بيته المظلومين المعصومين, الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
 
تمثّل حياة الإمام الكاظم عليه السلام حلقة من حلقات السلسلة الطيّبة لسيرة أئمّة أهل البيت عليهم السلام التي عمل فيها الأئمّة عليهم السلام على تحقيق أهداف الإسلام المحمّدي الأصيل حسبما تهيّأ لكلّ واحد منهم من ظروف وتسنّى له من أوضاع في عصره.
 
وقد كان هذا الإمام العظيم- كبقيّة الصفوة من أهل بيته عليهم السلام- ممّن خصّهم الله تعالى بالمنزلة العظيمة والدرجة الرفيعة, وعرفوا بالعلم والحكمة والمعرفة, وامتازوا بالفضل والكرامات والمواهب الإلهيّة والربّانيّة..
 
ويصف الإمام الصادق عليه السلام ولده الإمام الكاظم عليه السلام بأنّ: "..فيه العلم, والحكم, والفهم, والسخاء, والمعرفة فيما يحتاج الناس إليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم, وفيه حسن الخلق, وحسن الجوار, وهو باب من أبواب الله تعالى.."1.
 
 
 

1-  الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 34.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

2

المقدمة

 وفي رواية أخرى عنه عليه السلام في حقّ ولده الكاظم عليه السلام: "..بأبي أنت وأمّي يا مودع الأسرار"1.

 
وقد كان عصره وحياته عليه السلام مليئة بالأحداث المهمّة والمثيرة، كما يقول الإمام الخامنئيّ قدس سره، ويضيف: "وأعتقد أنّ الجهاد والمواجهة قد بلغتا أوجهما في عهد هذا الإمام عليه السلام"2.
 
فلم يستسلم الإمام عليه السلام أمام الضغوط التي تعرّض لها من حكّام عصره، الذين حاولوا تحجيم دوره ونشاطه، فتابع مسيرة آبائه وأجداده عليهم السلام العلميّة والفكريّة، وقام بتربية نخبة من العلماء والفقهاء، ووقف عليه السلام- وبأسلوبه الخاصّ- في وجه طاغية زمانه، صابراً على المحن حتّى عرف بالصابر، كاظماً لغيظه حتّى عرف بالكاظم، فعمدوا إلى حبسه، مكبّلاً بحلق القيود، ملقىً في قعر السجون وظلم المطامير، غريباً عن أهله وأقاربه وأصحابه، وهو مع هذا كلّه بقي ثابتاً صامداً لا تأخذه في الله لومة لائم، حتّى أذيبت حشاشته بسمٍّ نقيعٍ دسَّ له، فمضى إلى ربّه شهيداً مسموماً غريباً..
 
هذا الكتاب:
 
وإنّ من حقّ هذا الإمام علينا ونحن من محبّيه وأتباعه أن نستذكر أحواله وتاريخه وما جرى عليه، ونذكّر الناس بذلك، إحياءً لأمره، وإظهاراً لفضله، علّنا نكون بذلك ممّن يحيي أمرهم فلا يموت قلبه يوم تموت القلوب.
 
 
 

1- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 311.
2- الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت عليهم السلام ص 88.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
8

3

المقدمة

 ولهذا قام معهد سيّد الشهداء للمنبر الحسينيّ بإعداد هذا الكتاب "كاظم الغيظ"، ليكون واحداً من الإصدارات التي يصدرها ضمن سلسلة مجالس العترة، ليكون معيناً للإخوة القرّاء، ومساعداً لهم في المجالس التي يقيمونها في ذكرى هذا الإمام العظيم.


وقد راعى هذا الإصدار الأمور التالية:

أدرجنا ثلاث قصائد من الشعر القريض، ليتسنّى للقارئ الكريم اختيار ما يشاء منها.

أضفنا للكتاب العديد من الأبيات الشعبيّة الدارجة والمفهومة إلى حدٍّ ما.

ذكرنا موجزاً عن حياة الإمام عليه السلام، ولم نستقص كلّ شيء عن حياته المباركة، لئلّا يخرج الكتاب عن حدّ الإيجاز، واتكالاً منّا على جدارة الإخوة القرّاء من جهة أخرى.

قمنا بتخريج المصادر والمراجع لكلّ ما ورد في المتن، لتسهيل الرجوع إليها لمن أحبّ.

وفي الختام، كلّنا رجاء أن يلقى هذا الكتاب القبول والرضا من إمام زماننا عجّل الله تعالى فرجه، وأن يزوّدنا الإخوة القرّاء بإرشاداتهم وملاحظاتهم الهامّة والبنّاءة لنصل إلى المستوى اللائق والمقبول..

هذا ونسأله تعالى أن يتقبّل منّا ومن الجميع، وأن يرزقنا شفاعة مولانا الإمام موسى الكاظم عليه السلام، إنّه سميع مجيب.
معهد سيّد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسيني
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

4

المقدمة

 القصيدة الأولى: للسيّد مهدي الأعرجيّ: 

 
رَحَلُوا وَمَا رَحَلُوا أُهَيْلُ وِدَادِي                 إِلَّا بِحُسْنِ تَصَبُّرِي وَفُؤَادِي
 
سَارُوا وَلَكِنْ خَلَّفُونِي بَعْدَهُمْ                  حَزِنَاً أَصُوبُ الدَّمْعَ صَوْبَ عِهَادِ
 
وَخَلَتْ مَنَازِلُهُمْ فَهَا هِيَ بَعْدَهُمْ                قَفْرَى وَمَا فِيهَا سِوَى الأَوْتَادِ
 
أَبْكِي بِهَا طَوْرَاً لِفَرْطِ صَبَابَتِي                 وَأَصِيحُ فِيهَا تَارَةً وَأُنَادِي
 
يَا دَارُ أَيْنَ مَضَى ذَوُوكِ أَمَا لَهُمْ                بَعْدَ التَّرَحُّلِ عَنْكِ يَوْمُ مَعَادِ؟
 
تَبَّاً لَهُمْ مِنْ أُمّّةٍ لَمْ يَحْفَظُوا                    عَهْدَ النَّبِيِّ بِآلِهِ الأَمْجَادِ
 
قَدْ شَتَّتُوهُمْ بَيْنَ مَقْهُورٍ وَمَأْ                   سُورٍ وَمَنْحُورٍ بِسَيْفِ عِنَادِ
 
هَذَا بِسَامُرَّا وذَاكَ بِكَرْبَلَا                      وَبِطُوسَ ذَاكَ وَذَاكَ فِي بَغْدَادِ
 
لَهْفِي وَهَلْ يُجْدِي أَسَىً لَهْفِي عَلَى            مُوسَى بْنِ جَعْفَرَ عِلَّةِ الإِيجَادِ؟
 
مَا زَالَ يُنقَلُ فِي السُّجُونِ مُعَانِياً               عَضَّ القُيُودِ وَمُثْقِلَ الأَصْفَادِ
 
قَطَعَ الرَّشِيدُ عَلَيهِ فَرْضَ صَلَاتِهِ                 قَسْراً وَأَظْهَرَ كَامِنَ الأَحْقَادِ
 
حَتَّى إِلَيْهِ دَسَّ سُمَّاً قَاتِلاً                       فَأَصَابَ أَقْصَى مُنْيَةٍ وَمُرَادِ
 
وَضَعُوا عَلَى جِسْرِ الرُّصَافَةِ نَعْشَهُ              وَعَلَيْهِ نَادَى بِالهَوَانِ مُنَاد 1
 
 
 

1- أنظر: البلادي البحرانيّ: رياض المدح والرثاء ص 755- 756.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

5

المقدمة

 أبوذيّة:


كف الدهر ريته اليوم ينشال              جرح قلبي ولا أظن بعد ينشال 
نعش موسى على احماميل ينشال          اويظل فوق الجسر ثاوي رميّة 

شعبي:

يا قلب ذوب ويا دمع عيني تفجّر
                         للّي قضى بسجن الرّجس قلبه مفطّر
ما شاف بالدنيا ولا ساعة هنيّة
                        بسرداب مظلم جرع كاسات المنيّة
بالسّجن ما يعرف نهاره من العشيّة
                        هضم وصبر قلبه تفطّر والصّبر مر
آمر الطاغي تشيل ابن جعفر حماميل
                        شالوا الجنازة ولا مشت خلفه رجاجيل
وعلى الجسر ذبّوه وبرجله زناجيل
                        وقلوب شيعتهم عليه ابنار تسعر
شيعة عليّ الكرار فجعتهم شديده
                        من عاينوه امغلّل وبالسّاق قيده
مطروح فوق الجسر ما فكّوا حديده
                        صاحت يبو ابراهيم يومك صاير اقشر 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12

6

المقدمة

 القصيدة الثانية: للشيخ حسن البهبهانيّ: 

 
أَكَادُ أَشْرَقُ فِي دَمْعِي لِفَرْطِ بُكاً         كَأَنَّ عَيْنِيَ فِي التَّذْرافِ عَيْنانِ
 
وَمَا لِعَيْنِيَ لا تَبْكِي وَقَدْ نَظَرَتْ           بَابَ الحَوَائِجِ مُوْسَى فَخْرَ عَدْنانِ
 
لَهْفِي عَلَيْهِ سَجِيناً طُولَ مُدَّتِهِ             مَا زَالَ يُنْقَلُ مِنْ سِجْنٍ إِلى ثَانِي
 
جَرُّوْهُ وَهْوَ يُصَلِّي طَوْعَ بَارِئِهِ             فَنَاصَبُوا اللهَ فِي كُفْرٍ وَطُغْيَانِ
 
سَارُوا بِهِ فِي قُيُودٍ كَبَّلُوهُ بِهَا             وَقَدْ جَنَوْا مَا جَنَوْهُ آلُ سُفْيَانِ
 
لَهْفِي لَهُ وَهْوَ فِي قَعْرِ السُّجُونِ لَقىً        وَلَيْسَ يَدْنُوهُ مِنْ أَهْلٍ وَجِيرَانِ
 
حَتَّى إِذَا جَرَّعُوهُ السُّمَّ فِي رُطَبٍ           فَحَالَ مِنْ وَقْعِهِ المُرْدِي بِأَلْوَانِ
 
نَاءٍ عَنِ الأَهْلِ لَمْ يَحْضُرْهُ مِنْ أَحَدٍ         فِدَاهُ أَهْلُوهُ مِنْ شِيبٍ وَشُبَّانِ
 
لِمَنْ عَلَى الجِسْرِ نَعْشٌ لَا يُشَيِّعُهُ           مِنَ الوَرَى غَيْرُ حُرَّاسٍ وسَجَّانِ
 
لِمَنْ عَلَى الجِسْرِ نَعْشٌ مَا أُعِدَّّ لَهُ          ضَرِيحُ قَبْرٍ وَلَمْ يُدْرَجْ بِأَكْفَانِ
 
لِمَنْ عَلَى الجِسْرِ نَعْشٌ لَا يُجَهِّزُهُ          أَهْلُ المَوَدَّةِ مِنْ صَحْبٍ وَأَعْوَانِ
 
أَلقَيْدُ فِي رِجْلِهِ وَالغُلُّ فِي يَدِهِ             وَلِلْعَبَاءَةِ شَأْنٌ أَعْظَمُ الشَّانِ1 
 
 
 

1- الخاقانيّ: الكوكب الدرّي من شعراء الغريّ ص 192- 193.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

7

المقدمة

 أبوذيّة:


ابسجن يالكاظم العدوان سمّوك           وانته قاضي الحاجات سمّوك 
بالله يالتشيل النعش ساموك              صدق ظل ابحديده ابن الزكيّة 

شعبي:

على الكاظم ينوح او يبكي الدين
                   وقع بالحبس وحده او ماله امعين
يا قلبي على الكاظم تألّم
                   يعيني اعليه سحّي الدمع دم
غريب او بالحبس ويلوج بالسم
                   يتقلّب يسار او نوب ايمين
بسم ما طاح سدّو بابه اعليه
                    ظل وحده ولا واحد قرب ليه
تقبل مدّد ايده او عدل رجليه
                   قضت روحه يويلي او فرّق البين
على ظهر الجسر خلّى الشفيّه
                   نادى اعليه المنادي اضحويّه
هذا نعش امام الرافضيّه
                   تعالوا اتفرّجو فرجة مطربين
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

8

المقدمة

 القصيدة الثالثة: للشيخ آل راضي: 

 
بَكَيْتُ لِعَافِي مَرْبَعٍ عَزَّ بَاكِيهِ                  وَلَمْ أَبْكِهِ لَكِنْ بَكَيْتُ لِأَهْلِيهِ
 
تَعَفَّى وَحَاشَا رَبْعَ أُنْسِيَ أَنَّهُ                    يُعَفَّى وَأَيْدِي النَّائِباتِ تُعَفِّيهِ
 
وَأَنَّ زَمَانَاً قَدْ يَسُرُّكَ يَوْمُهُ                      فَفِي غَدِهِ مِنْ مَطْلَعِ السُّوءِ مَا فِيهِ
 
وِلَكِنَّنِي في حُبِّ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ              تَخَلَّصْتُ مِنْ أَسْوَائِهِ وَمَسَاوِيهِ
 
لِكُلِّ مُهِمٍّ في الحَوَائِجِ إِنْ يَكُنْ                  يُرَدُّّ إِلَى بَابِ الحَوَائِجِ يَقْضِيهِ
 
أَمِثْلُ الإِمَامِ الطُّهْرِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ            يُشَرَّدُ عَنْ أَوْطَانِهِ وَأَهَالِيهِ
 
يُطَافُ بِهِ رَحْبَ البِلادِ مُشَرَّدَاً                 بِلَا مَلْجَأٍ إِلَّا المَجَالِسُ تَأْوِيهِ
 
غَرِيباً بِلَا فَادٍ وَلَوْ يَنْفَعُ الفِدَا                   لَرَاحَتْ نُفُوسُ العَالَمِينَ تُفَادِيهِ
 
فَسَلْ مَحْبِسَ السِّنْدِيِّ أَيُّ حُشَاشَةٍ              أُذِيبَتْ وَذَاكَ السُمُّ مَا عُذْرُ سَاقِيهِ؟
 
وَسَلْ جِسْرَ بَغْدَادٍ عَنِ النَّعْشِ مَنْ سَعَى         إِلَيْهِ وَمَا نَادَى عَلَيْهِ مُنَادِيهِ؟
 
أَيَحْمِلُ حَمَّالُونَ نَعْشَ ابْنِ جَعْفَرٍ               وَيَنْعَاهُ جَهْراً بِالمَهَانَةِ نَاعِيهِ!1 
 
 
 

1-  الهاشميّ النجفيّ الخطيب عليّ بن الحسين: وفاة الإمام موسى الكاظم عليه السلام ص 97- 98.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

9

المقدمة

 أبوذيّة:


نشيّع موسى بن جعفر بدينه              غريب اقسم وماله احّد بدينه
ونشيل جنازته ونلطم بدينه                او نواسي جدّه حمّاي الحميّة 

شعبي:

من سمعت الشيعة الصوت كبّر
                    طلعت فرد طلعة ابحال الكشر
صاحت آه وا موسى بن جعفر
                    هاي امصيبتك بكّت الدارين
اجت للنعش ركضة واحتفت بيه
                    لطم عالروس اويلي او دارت اعليه
طاحو عالنعش واتمسكو بيه
                    رحت واتيتمت بعدك مساكين
بعد ما نزّلوه ابوسط لحده
                    دارت عالقبر تبكي اعلى فقده
بس احسين محّد حضر عنده 
                    ثلث تيّام ظل من غير تكفين 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

10

لمحة عن حياة الامام عليه السلام

 هو الإمام موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، سابع أئمّة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً.

 
ولادته وشهادته:
 
ولد عليه السلام في الأبواء- بين مكّة والمدينة- في السابع من صفر سنة 128 للهجرة ، واستشهد في شهر رجب سنة 183 للهجرة1 في الخامس والعشرين منه2 على الأشهر3 ، وقيل: لستٍّ بقين منه4 ، وقيل: لخمسٍ خلون منه5 ، وقيل: لستٍّ خلون منه6.
 
وقبض عليه السلام ببغداد مسموماً على يد السنديّ بن شاهك في حبسه 7، ودفن ببغداد في مقبرة قريش8.
 
 

1- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 323، الطبرسي: إعلام الورى ص 286، النيسابوري: روضة الواعظين ج 1 ص 221، ابن مكي العاملي الشيخ محمّد المعروف بالشهيد الأول: الدروس الشرعية في فقه الإمامية ج 2 ص 13.
2- الطوسي: مصباح المتهجد ص 812، الشافعي الشيخ كمال الدين بن محمّد بن طلحة: مطالب السؤول في مناقب آل الرسول ج 2 ص 126، الطبرسي: إعلام الورى ص 286، الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ج 13 ص 32.
3- القمي الشيخ عبّاس: منتهى الآمال ج 2 ص 335.
4- الطوسي: تهذيب الأحكام ج 6 ص 81، ابن مكي العاملي الشيخ محمّد المعروف بالشهيد الأول: الدروس الشرعية في فقه الإمامية ج 2 ص 13، النيسابوري: روضة الواعظين ج 1 ص 221.
5- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 92، ابن مكي العاملي الشيخ محمّد المعروف بالشهيد الأول: الدروس الشرعية في فقه الإمامية ج 2 ص 13، النيسابوري: روضة الواعظين ج 1 ص 221.
6- الكليني: الكافي ج 1 ص 476، المفيد: الإرشاد ج 2 ص 215.
7- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 324، وانظر: المسعودي: مروج الذهب ج 3 ص 388. 
8- الكليني: الكافي ج 1 ص 476.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

11

لمحة عن حياة الامام عليه السلام

 كنيته وألقابه:

 
أمّا كنيته فأبو الحسن الأوّل، وأبو الحسن الماضي، وأبو إبراهيم، وأبو عليّ.
 
وأمّا ألقابه، فيعرف بالعبد الصالح، والنفس الزكيّة، وزين المجتهدين، والوفيّ، والصابر، والأمين، والزاهر، وسمّي بذلك لأنّه زهر بأخلاقه الشريفة وكرمه المضيء التامّ1.
 
وأشهر ألقابه الكاظم2، وسمّي الكاظم لما كظمه من الغيظ، وغضّ بصره عمّا فعله الظالمون به حتّى مضى قتيلاً في حبسهم3.
 
وروى الصدوق أعلى الله مقامه، عن ربيع بن عبد الرحمن قال: كان والله موسى بن جعفر عليهما السلام من المتوسّمين، يعلم من يقف عليه بعد موته، ويجحد الإمامة بعد إمامته، وكان يكظم غيظه عليهم، ولا يبدي لهم ما يعرفه منهم، فسمّي الكاظم لذلك4.
 
ويعرف بباب قضاء الحوائج عند الله5، وذلك لنجح قضاء حوائج السائلين6، ومطالب المتوسّلين إلى الله تعالى به7.
 
 
 

1- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 323.
2- الشافعي الشيخ كمال الدين بن محمّد بن طلحة: مطالب السؤول في مناقب آل الرسول ج 2 ص 121.
3- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 323. 
4- الصدوق: علل الشرائع ج 1 ص 275.
5- الصبّان: إسعاف الراغبين المطبوع بهامش نور الأبصار ص 246.
6- ابن الصبّاغ المالكيّ: الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة ج 2 ص 932.
7- الشافعيّ ابن طلحة: مطالب السؤول في مناقب آل الرسول ج 2 ص 120.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

12

لمحة عن حياة الامام عليه السلام

 وروى الخطيب البغداديّ بسنده عن الحسن بن إبراهيم أبي عليّ الخلّال أنّه قال: ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسّلت به إلّا سهَّل الله تعالى لي ما أحبّ1.

 
ورؤي في بغداد امرأة تهرول فقيل: إلى أين؟ قالت: إلى موسى بن جعفر فإنّه حُبِسَ ابني، فقال لها رجل-مستهزئاً-: إنّه قد مات في الحبس، فقالت: بحقِّ المقتول في الحبس أن تريني القدرة، فإذا بابنها قد أطلق وأُخذ ابنُ المستهزئ بجنايته2.
 
وفي بعض الروايات عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال لزكريا بن آدم بن عبد الله بن سعد الأشعريّ: "إنّ الله يدفع البلاء بك عن أهل قمّ كما يدفع البلاء عن أهل بغداد بقبر موسى بن جعفر عليهما السلام"3.
 
والدته المصفَّاة:
 
أمّه أمّ ولد يقال لها حميدة المصفَّاة4، وعن المعلّى بن خنيس أنّ أبا عبد الله عليه السلام قال: "حميدة مصفّاة من الأدناس، كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتّى أُدِّيت إليَّ كرامةً من الله لي والحجّة من بعدي"5.
 
 
 

1- الخطيب البغداديّ: تاريخ بغداد ج 1 ص 133.
2- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 305.
3- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 57 ص 220.
4- لطبرسيّ: إعلام الورى ص 286.
5- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 477.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

13

لمحة عن حياة الامام عليه السلام

 ويروى أنّ الإمام الباقر عليه السلام عندما سألها: "ما اسمك؟" قالت: حميدة، فقال عليه السلام: "حميدة في الدنيا، محمودة في الآخرة"1.

 
قال المحدّث الشيخ عبّاس القمّي رحمه الله:
 
الظاهر عندي من بعض الروايات أنّها كانت في غاية العلم والفقاهة والتبحّر في أحكام الدين، حتّى أنّ الإمام الصادق عليه السلام كان يأمر النساء بالرجوع إليها في أخذ الأحكام2.
 
مع أبيه الإمام الصادق عليه السلام:
 
وكان والده الإمام الصادق عليه السلام يحوطه بالمحبّة والرعاية والاهتمام الخاصّ منذ صغره، ويقول فيه ما برز شأنه وعلوّ مقامه، تدليلاً على منزلته ودرجته التي اختصّه الله تعالى بها، فعن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: حججنا مع أبي عبد الله عليه السلام في السنة التي ولد فيها ولده موسى عليه السلام فلمّا نزلنا الأبواء وضع لنا الغداء، وكان إذا وضع الطعام لأصحابه أكثره وأطابه، قال: فبينا نحن نأكل إذ أتاه رسول حميدة، فقال: إنّ حميدة تقول لك: إنّي قد أنكرت نفسي وقد وجدت ما كنت أجد إذا حضرتني ولادتي، وقد أمرتني أن لا أسبقك بابني هذا، قال: فقام أبو عبد الله عليه السلام فانطلق مع الرسول فلمّا انطلق قال له أصحابه: سرّك الله وجعلنا فداك ما صنعت حميدة؟ قال: "قد سلّمها الله، وقد وهب لي غلاماً وهو خير من برأ الله في خلقه"3.
 
 


1- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 477.
2- القمّي الشيخ عبّاس: منتهى الآمال ج 2 ص 289.
3- البرقيّ: المحاسن ج 2 ص 314.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

14

لمحة عن حياة الامام عليه السلام

 وعن منهال القصّاب، قال: خرجت من مكّة وأنا أريد المدينة فمررت بالأبواء وقد ولد لأبي عبد الله موسى عليه السلام فسبقته إلى المدينة، ودخل بعدي بيوم، فأطعم الناس ثلاثاً، فكنت آكل فيمن يأكل، فما آكل شيئاً إلى الغد حتّى أعود فآكل، فمكثت بذلك ثلاثاً، أطعم حتّى أرتفق1 ثمّ لا أطعم شيئاً إلى الغد2.

 
وعن المفضّل بن عمر قال: ذكر أبو عبد الله عليه السلام أبا الحسن عليه السلام- وهو يومئذٍ غلام- فقال: "هذا المولود الذي لم يولد فينا مولود أعظم بركة على شيعتنا منه!.."3.
 
وكان الإمام الصادق عليه السلام يحبّه ويميل إليه4، وروي أنّه قيل له عليه السلام: ما بلغ بك من حبّك موسى؟ قال: "وددت أن ليس لي ولد غيره حتّى لا يشركه في حبّي له أحد"5.
 
وعن الرضا عليه السلام أنّ موسى بن جعفر عليه السلام تكلّم يوماً بين يدي أبيه عليه السلام فأحسن فقال له: "يا بني، الحمد لله الذي جعلك خلفاً من الآباء، وسروراً من الأبناء، وعوضاً عن الأصدقاء"6.
 
 
 

1- أي اتّكأ على مرفق يده أو على المخدّة وامتلأ.
2- البرقنيّ: المحاسن ج 2 ص 418.
3- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 309.
4- الطبريّ ابن رستم: دلائل الإمامة ص 309.
5- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 75 ص 209.
6- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 135.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

15

لمحة عن حياة الامام عليه السلام

 فضائله ومناقبه وبعض أحواله

 
بالحديث عن فضائله فإنّها أكثر من أن تعدّ وتحصى، وفوق أن تحصر وتروى، فقد كان عليه السلام أعبد أهل زمانه وأفقههم وأسخاهم كفّاً وأكرمهم نفساً.1
 
أمّا عبادته: فقد روي: أنّه كان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح، ثمّ يعقب حتّى تطلع الشمس، ويخرّ لله ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد حتّى يقرب زوال الشمس. وكان يدعو كثيراً فيقول: "أللهم إنّي أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب" ويكرّر ذلك. وكان يبكي من خشية الله حتّى تخضلّ لحيته بالدموع2. وكان عليه السلام يدعى "العبد الصالح" من عبادته واجتهاده. وقيل: إنّه دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسجد سجدة في أوّل الليل، وسمع وهو يقول في سجوده: "عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك، يا أهل التقوى، ويا أهل المغفرة" وجعل يردّدها حتّى أصبح"3.
 
وروي أنّه كانت لموسى بن جعفر عليهما السلام، بضع عشرة سنة كلّ يوم سجدة بعد ابيضاض الشمس إلى وقت الزوال، وكان عليه السلام أحسن
 
 
 
 

1- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 231- 232.
2- المصدر السابق.
3- الطبريّ الإماميّ ابن رستم: دلائل الإمامة ص 310.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

16

لمحة عن حياة الامام عليه السلام

  الناس صوتاً بالقرآن فكان إذا قرأ يحزن، وبكى السامعون لتلاوته، وكان يبكي من خشية الله حتّى تخضلّ لحيته بالدموع1.

 
وعن أحمد بن عبد الله، عن أبيه قال: دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح فقال لي: أشرف على هذا البيت وانظر ما ترى؟ فقلت: ثوباً مطروحاً، فقال: انظر حسناً، فتأمّلت فقلت: رجل ساجد، فقال لي: تعرفه؟ هو موسى بن جعفر، أتفقّده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلّا على هذه الحالة، إنّه يصلّي الفجر فيعقّب إلى أن تطلع الشمس، ثمّ يسجد سجدة، فلا يزال ساجداً حتّى تزول الشمس وقد وكّل من يترصّد أوقات الصلاة، فإذا أخبره وثب يصلّي من غير تجديد وضوء، وهو دأبه، فإذا صلّى العتمة أفطر، ثمّ يجدِّد الوضوء ثمّ يسجد فلا يزال يصلّي في جوف الليل حتّى يطلع الفجر2.
 
وعن هشام بن أحمر قال: كنت أسير مع أبي الحسن عليه السلام في بعض أطراف المدينة إذ ثنى رجله عن دابته، فخرّ ساجداً، فأطال وأطال، ثمّ رفع رأسه وركب دابته فقلت: جعلت فداك قد أطلت السجود؟ فقال: "إنّني ذكرت نعمة أنعم الله بها عليّ فأحببت أن أشكر ربّي"3.
 
وعن عليّ بن جعفر أنّه قال: خرجنا مع أخي موسى بن جعفر عليه السلام في أربع عُمَر يمشي فيها إلى مكّة بعياله وأهله، واحدة منهنّ مشى
 
 
 

1- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 318.
2- المصدر السابق.
3- الكلينيّ: الكافي ج 2 ص 98.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

17

لمحة عن حياة الامام عليه السلام

  فيها ستّة وعشرين يوماً، وأخرى خمسة وعشرين يوماً، وأخرى أربعة وعشرين يوماً وأخرى أحداً وعشرين يوماً.1

 
وكان معروفاً باستجابة الدعاء، فقد حكي أنّه مغص بعض الخلفاء فعجز بختيشوع النصرانيّ عن دوائه وأخذ جليداً فأذابه بدواء ثمّ أخذ ماء وعقده بدواء وقال: هذا الطب إلا أن يكون مستجاب دعاء ذا منزلة عند الله يدعو لك، فقال الخليفة: عليّ بموسى بن جعفر، فأتي به فسمع في الطريق أنينه فدعا الله سبحانه وزال مغص الخليفة، فقال له: بحقّ جدّك المصطفى أن تقول بمَ دعوت لي؟ فقال عليه السلام قلت: "أللهمّ كما أريته ذلّ معصيته فأَرِه عزّ طاعتي" فشفاه الله من ساعته2.
 
وعن حمّاد بن عيسى قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام بالبصرة فقلت له: جعلت فداك ادع الله تعالى أن يرزقني داراً، وزوجةً، وولداً، وخادماً، والحجّ في كلّ سنة، قال: فرفع يده ثمّ قال: "أللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد وارزق حمّاد بن عيسى داراً وزوجةً وولداً وخادماً والحجّ خمسين سنة"، قال حمّاد: فلمّا اشترط خمسين سنة علمت أنّي لا أحجّ أكثر من خمسين سنة، قال حمّاد: وقد حججت ثماني وأربعين سنة، وهذه داري قد رزقتها، وهذه زوجتي وراء الستر تسمع كلامي، وهذا ابني، وهذه خادمي وقد رزقت كلّ ذلك، فحجّ بعد هذا الكلام حجّتين تمام الخمسين، ثمّ خرج بعد الخمسين حاجّاً فزامل أبا العبّاس النوفليّ فلمّا صار في موضع الإحرام دخل يغتسل
 
 
 

1- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 48 ص 100 عن قرب الإسناد للحميريّ.
2- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 305.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

18

لمحة عن حياة الامام عليه السلام

 فجاء الوادي فحمله فغرق، فمات رحمنا الله وإيّاه قبل أن يحجّ زيادة على الخمسين وقبره بسيّالة1

 
وكان عليه السلام شيخاً بهيّاً كريماً، أعتق ألف مملوك2 وكان يبلغه عن رجل أنّه يؤذيه، فيبعث إليه بصرّة فيها ألف دينار. وكان يصرّ الصرر ثلاثمائة دينار وأربعمائة دينار ومائتي دينار ثمّ يقسّمها بالمدينة. وكانت صرّة موسى إذا جاءت الإنسان استغنى3.
 
وكان يُضرب بها المثل، فكان أهله يقولون: عجباً لمن جاءته صرّة موسى فشكا القلّة4.
 
وكان أوصل الناس لأهله ورحمه، وكان يفتقد فقراء المدينة في الليل فيحمل إليهم فيه العَيْن5 والوَرِق6 والأدِقّة44 والتمور، فيوصل إليهم ذلك، ولا يعلمون من أيّ جهة هو8.
 
وكان عليه السلام زاهداً في الدنيا لا تهمّه زخرفاتها وزبرجاتها، يعمل بكدّ يمينه وعرق جبينه: فعن إبراهيم بن عبد الحميد قال: دخلت على أبي الحسن الأوّل عليه السلام في بيته الذي كان يصلّي فيه، فإذا ليس في 
 
 
 

1- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 48 ص 47- 48. وسيّالة: موضع بالحجاز، قيل: هو أوّل مرحلة لأهل المدينة إذا أرادوا مكّة.
2- الطبريّ الإماميّ ابن رستم: دلائل الإمامة ص 310.
3- المصدر السابق.
4- ابن عنبة: عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ص 196.
5- أي الذهب والدنانير.
6- أي الفضّة والدراهم.
7- جمع دقيق وهو الطحين.
8- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 231- 232.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

19

لمحة عن حياة الامام عليه السلام

 البيت شيء إلّا خصفة46 وسيف معلّق، ومصحف.

 
وعن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة، عن أبيه قال: رأيت أبا الحسن عليه السلام يعمل في أرض له قد استنقعت قدماه في العرق، فقلت له: جعلت فداك أين الرجال؟ فقال: "يا عليّ قد عمل باليد من هو خير منّي في أرضه ومن أبي"، فقلت له: ومن هو؟ فقال: "رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين وآبائي عليهم السلام كلّهم كانوا قد عملوا بأيديهم وهو من عمل النبيّين والمرسلين والأوصياء والصالحين"1.
 
هذا، مع صبره وتحمّله للأذى، وكظمه للغيظ، حتّى عرف بالكاظم، وعفوه عمّن أساء واعتذر، حتّى روي أنّه أحضر وُلْدَه يوماً فقال لهم: "يا بَنِيَّ إنّي موصيكم بوصيّة من حفظها لم يضع معها، إن أتاكم آتٍ فأسمعكم في الأذن اليمنى مكروهاً، ثمّ تحول إلى الأذن اليسرى فاعتذر وقال: لم أقل شيئاً، فاقبلوا عذره"2.
 
ولنعم ما قاله أبو نؤاس فيه لمّا لقيه يوماً: 
 
إِذَا أَبْصَرَتْكَ العَيْنُ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ      وَعَارَضَ فِيهِ الشَّكُّ أَثْبَتَكَ القَلْبُ
 
وَلَوْ أَنَّ رَكْبَاً أَمَّمُوكَ لَقَادَهُمْ         نَسِيمُكَ حَتَّى يَسْتَدِلَّ بِكَ الرَّكْبُ
 
جَعَلْتُكَ حَسْبِي في أُمُورِيَ كُلِّهَا    وَمَا خَابَ مَنْ أَضْحَى وَأَنْتَ لَهُ حَسْبُ3 
 
 

1- في هامش البحار: الخصفة: محرّكة، الجلّة تعمل من الخوص للتمر، والثوب الغليظ جدّاً: جمع خصف وخصاف.
2- الكلينيّ: الكافي ج 5 ص 75- 76.
3- الأربليّ: كشف الغمّة في معرفة الأئمّة ج 3 ص 9.
4- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 317.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

20

من أدوار الإمام عليه السلام

 يرى الإمام الخامنئيّ  قدس سره أنّ حياة الإمام الكاظم عليه السلام كانت مليئة بالأحداث المهمّة والمثيرة، وأنّ الجهاد والمواجهة قد بلغتا أوجهما في عهده عليه السلام، حتّى انتهى الأمر إلى اعتقال الإمام وسجنه..

 
وأنّ مواجهة الأئمّة عليهم السلام بنحو عامّ كانت مواجهة ذات هدف سياسيّ وهو عبارة عن تشكيل حكومة إسلاميّة، فمنذ وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحتّى زمان الغيبة، كان سعي الأئمّة عليهم السلام هو إيجاد وتأسيس حكومة إلهيّة في المجتمع، وأنّه لا نستطيع القول: إنّ كلّ إمام كان بصدد تأسيس حكومة إلهيّة في زمانه وعصره، ولكن هدف كلّ إمام كان يتضمّن تأسيس حكومة إسلاميّة مستقبليّة، وقد يكون ذلك في المستقبل القريب أو البعيد.
 
فهدف تأسيس الحكومة كان دائماً نصب أعين الأئمّة عليهم السلام، لكن الزمن المنشود لتأسيسها وقيامها يختلف من إمام لآخر، وكلّ الأعمال التي كان يقوم بها الأئمّة عليهم السلام بغضّ النظر عن الأمور المعنويّة والروحيّة التي تهدف إلى تكامل ورقيّ النفس الإنسانيّة وقربها إلى الله تعالى، كانت أعمالاً تهدف إلى تأسيس هذه الحكومة الإسلاميّة. فنشاطهم في نشر العلم والمناظرات التي كانوا يقومون بها ضدّ خصومهم في العلم والسياسة، ومواقفهم إلى جانب جماعة ووقوفهم في وجه أخرى، كلّها تصبّ في هذا المجال، ألا وهو تأسيس الحكومة الإسلاميّة1.
 
 
 

1- أنظر: الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت عليهم السلام للإمام الخامنئيّ، فصل عنصر الجهاد في حياة الأئمّة عليهم السلام ص 63، بتصرّف وتلخيص.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

21

من أدوار الإمام عليه السلام

 وعلى هذا الأساس يمكننا أن نسلّط الضوء على أهمّ الأدوار التي قام بها هذا الإمام العظيم في فترة إمامته: 

 
أوّلاً: الدور العلميّ والفكريّ:
 
التفّ حول الإمام الكاظم عليه السلام في المدينة المنوّرة جمع غفير من كبار الرواة والعلماء ممّن تتلمذوا في جامعة الإمام الصادق عليه السلام الكبرى، حيث قام الإمام بعد أبيه عليهما السلام بإدارة شؤون تلك المدرسة التي أعزّت العلم ورفعت مناره، فأصبح بعد أبيه عميداً وزعيماً للحركة العلميّة والنهضة الفكريّة في عصره. وكان العلماء والرواة ملازمون لمجلسه عليه السلام ولا يفترقون عنه، حتّى بلغ من احتفائهم به وإقبالهم عليه أنّه إذا نطق بكلمة أو أفتى بفتوى سارعوا إلى تدوين ذلك. روى ابن طاووس: أنّ أصحاب الإمام الكاظم عليه السلام وخواصّه من شيعته وأهل بيته كانوا يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح (من الخشب)، فإذا نطق بكلمة أو أفتى في نازلة بادروا إلى تسجيل ذلك.
 
لقد روى العلماء والفقهاء من أحاديثه عليه السلام الكثير ودوّنوها في كتبهم ومسانيدهم، وفي شتّى العلوم التي تلقّوها منه، على اختلاف آرائهم وتباين نزعاتهم، من الحكمة والتفسير والفقه والحديث، حتّى طبقت آراؤه الخافقين، وضربت لأجل ذلك آباط الإبل، للاستماع إلى حديثه والانتهال من علومه1.
 
وكانت أيّامه أيّام شدّة وضيق وبلاء ولا سيّما في عهد هارون الملقّب بالرشيد فلذلك كانت الرواية عنه أقل من أبيه الصادق ومع ذلك فقد
  
 
 

1- الشاكريّ الحاج حسين: موسوعة المصطفى والعترة ج 11 ص 229- 230.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

22

من أدوار الإمام عليه السلام

  روى عنه الناس فأكثروا وروى عنه من علوم الدين الشيء الكثير وكان أفقه أهل زمانه وأجلّهم وروى عنه العلماء في فنون العلم من علم الدين وغيره ما دوّن وملأ بطون الدفاتر وألّفوا في ذلك المؤلّفات الكثيرة وكان عليه السلام يعرف بين الرواة بـ "العالم".

 
وقال في المناقب: أخذ عنه العلماء ما لا يحصى كثرة وذكر عنه الخطيب في تاريخ بغداد والسمعانيّ في الرسالة القواميّة وأبو صالح أحمد المؤذّن في الأربعين وأبو عبد الله بن بطّة في الإبانة والثعلبيّ في الكشف والبيان. وكان أحمد بن حنبل إذا روى عنه قال: حدّثني موسى بن جعفر، حدّثني أبي جعفر بن محمّد، حدّثني أبي محمّد بن عليّ، حدّثني أبي عليّ بن الحسين، حدّثني أبي الحسين بن عليّ، حدّثني أبي عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ قال أحمد: وهذا إسناد لو قرئ على المجنون لأفاق الخ..
وكانت مدرسته في داره بالمدينة وفي المسجد كما كان آباؤه عليه وعليهم السلام وكانت ترد إليه المسائل وهو في السجن ببغداد فيجيب عنها1.
 
من ذلك جوابه على كتاب لعليّ بن سويد السائيّ- أحد أصحابه- كان سأله فيه عن حاله وعن مسائل، فاحتبس الجواب أشهراً ثمّ أجابه عليه السلام من السجن بكتاب أرسله إليه2.
 
وقد قام الإمام عليه السلام بتربية نخبة من الأصحاب تميّزوا بتخصّصهم في حقول المعرفة المختلفة، والعلوم الدينيّة المتنوّعة من فقه وكلام
 
 
 

1- الأمين السيّد محسن: أعيان الشيعة ج 1 ص 100- 101.
2- الكلينيّ: الكافي ج 8 ص 124.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

23

من أدوار الإمام عليه السلام

  وتفسير وغيرها، ومن بين هؤلاء مجموعة من تلامذته الفقهاء، قال الشيخ الكشّي في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم وأبي الحسن الرضا عليهما السلام: أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء وتصديقهم، وأقرّوا لهم بالفقه والعلم، وهم ستّة نفر... منهم يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى بيّاع السابريّ، ومحمّد بن أبي عمير، وعبد الله بن المغيرة، والحسن بن محبوب، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر. وقال بعضهم مكان الحسن بن محبوب الحسن بن عليّ بن فضّال وفضالة بن أيوب، وقال بعضهم مكان ابن فضّال عثمان بن عيسى، وأفقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى1

 
ثانياً: المطالبة بحقّه في الإمامة:
 
قام الإمام الكاظم عليه السلام وفي العديد من المناسبات بالتأكيد على حقّه وحقّ آل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالإمامة، تصريحاً تارة وتلميحاً أخرى، بل كان يواجه بعض حكّام بني العبّاس بهذه الحقيقة، ويصارح بها، أكثر من مرّة، وفي أكثر من مناسبة6، وقد ذكر الرواة مواقف عديدة تؤكّد هذا الأمر وتوضحه:
 
منها: ما نقله الرواة أنّه لمّا دخل هارون الرشيد المدينة توجّه لزيارة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الناس، فتقدّم إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا بن عمّ، مفتخراً بذلك على غيره، فتقدّم أبو الحسن عليه السلام إلى القبر فقال: "السلام عليك يا رسول الله،
 
 

1- الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشّي ج 2 ص 830، الرقم 1050.
2- مرتضى السيّد جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام ص 323.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

24

من أدوار الإمام عليه السلام

  السلام عليك يا أبه"، فتغيّر وجه الرشيد وتبيّن الغيظ فيه1، فلم يزل ذلك في نفس الرشيد إلى أن قبض عليه2.

 
فقد أراد الرشيد بقوله هذا أن يفهم الناس أنّه من آل محمّد وأنّه ابن عمّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما ضلّل به بنو العبّاس الناس ورفعوه شعاراً لهم في مواجهة بني أميّة حتّى أزالوا ملكهم، ولكن الإمام لم يترك له هذه الفرصة، فقام بالردّ عليه ليسمع الناس أنّه ابن رسول الله وذرّيته، وعترته أهل بيته، وإذا كان هذا الرجل مفروض الطاعة لقرابته من رسول الله من خلال كونه ابن عمّه، فأنا أولى به وأقرب لكوني ابنه وولده.
 
والظاهر أنّ بني العبّاس كانوا قد تنبّهوا لهذا الأمر وتداعياته على مستوى الأمّة وعلاقتها بأهل البيت عليهم السلام، فأثاروا قضيّة أبناء البنات، وتسمية أولاد البنت بأولاد الرجل، التي افتعلها أسلافهم الأمويّون محاولة منهم للطعن في أهل البيت الذين هم أولاد رسول الله ودمه ولحمته، كما سمّاهم النبيّ بذلك، فتصرّفوا في فرائض الإرث، وقالوا بعدم توريث البنت، لأنّها ليست بولد في العرف الجاهليّ، قال الشاعر3 :
 
بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا    بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعِدِ 
 
حتّى وصل الأمر بهم أن قدّموا العمّ على البنت في العصر العبّاسي، 
 
 
 

1- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 234.
2- مرتضى السيّد جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام ص 323.
3- وهو مروان بن أبي حفصة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

25

من أدوار الإمام عليه السلام

 فقال مروان بن أبي حفصة:

 
أَنَّى يَكُونُ وَلَيْسَ ذَاكَ بِكَائِنٍ     لِبَنِي البَنَاتِ وِرَاثَةُ الأَعْمَام 
 
فأجابه شاعر الشيعة1
 
لِمَ لَا يَكُونُ وَإِنَّ ذَاكَ لَكَائِنٌ   لِبَنِي البَنَاتِ وِرَاثَةُ الأَعْمَامِ
 
ِلْبِنْتِ نِصْفٌ كَامِلٌ مِنْ إِرْثِهِ  وَالعَمُّ مَتْرُوكٌ بِغَيْرِ سِهَامِ2
   
 
وقد سأل الرشيد يوماً الإمام الكاظم عليه السلام:لم جوّزتم للعامّة والخاصّة أن ينسبوكم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون لكم: يا بني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنتم بنو عليّ؟ وإنّما ينسب المرء إلى أبيه، وفاطمة إنّما هي وعاء والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جدّكم من قبل أمّكم؟ فقال عليه السلام: "يا أمير المؤمنين لو أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟"، فقال: سبحان الله ولم لا أجيبه؟ بل افتخر على العرب والعجم وقريش بذلك، فقال له: "لكنّه صلى الله عليه وآله وسلم لا يخطب إليَّ ولا أزوّجه"، فقال: ولم؟ فقال عليه السلام: "لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم ولدني ولم يلدك"، فقال: أحسنت يا موسى، ثمّ قال: كيف قلتم: إنّا ذرّية النبيّ والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يعقّب وإنّما العقب للذكر لا للأنثى، وأنتم ولد البنت ولا يكون لها عقب؟! فأجابه الإمام عليه السلام- بعد أن طلب أن يعفيه فلم يعفه- فقال: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ﴾
 
 

1- وهو جعفر بن عفّان الطائي.
2- مجلة تراثنا ص 90- 91، ج 55، العدد الثالث السنة الرابعة عشرة رجب 1419 هـ.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

26

من أدوار الإمام عليه السلام

  من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟" فقال: ليس لعيسى أب، فقال عليه السلام: "إنّما ألحقناه بذراري الأنبياء عليهم السلام من طريق مريم عليها السلام وكذلك أُلحقنا بذراري النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من قبل أمّنا فاطمة عليها السلام. أزيدك يا أمير المؤمنين؟" قال: هات، فقال عليه السلام: "قول الله عزَّ وجلَّ:﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ ولم يدّع أحد أنّه أدخل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تحت الكساء عند المباهلة للنصارى إلّا عليّ بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين فكان تأويل قوله تعالى ﴿أَبْنَاءنَا﴾ الحسن والحسين، ﴿وَنِسَاءنَا﴾ فاطمة ﴿وَأَنفُسَنَا﴾ عليّ بن أبي طالب عليهم السلام"12.

 
ومنها: إنّه لقيه الرشيد عند الكعبة فلم يقم له حتّى وقف الرشيد على رأسه فقال: أنت الذي يبايعك الناس؟ قال : "نعم، أنا إمام القلوب، وأنت إمام الجسوم"13.
 
ومنها: ما عن محمّد بن سابق بن طلحة الأنصاريّ قال: كان ممّا قال هارون لأبي الحسن عليه السلام حين أُدخل عليه: ما هذه الدار؟ فقال: "هذه دار الفاسقين، قال الله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ الآية"14. فقال له هارون : فدار من هي؟
 
 
 

1- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 80- 81.
2- القاضي التستريّ: شرح إحقاق الحقّ، ج 19 ص 543. وانظر: مرتضى السيّد جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام ص 323، وفيه: أنت الذي تبايعك الناس سرّاً.
3- سورة الأعراف 146.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

27

من أدوار الإمام عليه السلام

  قال : "هي لشيعتنا فترة ولغيرهم فتنة"، قال فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟ فقال: "أُخذت منه عامرة ولا يأخذها إلّا معمورة"، قال: فأين شيعتك؟ فقرأ أبو الحسن عليه السلام: "﴿لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتّى تأتيهم البيّنة﴾1، قال: فقال له فنحن كفّار؟ قال: "لا ولكن كما قال الله: ﴿الذين بدّلوا نعمة الله كفراً وأحلّوا قومهم دار البوار﴾"، فغضب عند ذلك وغلظ عليه، فقد لقيه أبو الحسن عليه السلام بمثل هذه المقالة وما رهبه، وهذا خلاف قول من زعم أنّه هرب منه من الخوف2.

 
ومنها: المطالبة بفدك، بما ترمز إليه من حقّ الإمامة، فقد روي أنّ موسى الكاظم عليه السلام ورد على المهديّ محمّد، فرآه يردّ المظالم، فقال: "يا أمير المؤمنين ما بال مظلمتنا لا تردّ"، فقال له: وما ذاك يا أبا الحسن؟ فذكر له الإمام عليه السلام أمر فدك وحدودها- كما سيأتي- فقال له المهديّ: هذا كثير وأنظر فيه3.
 
وتكرّر هذا المشهد مرّة أخرى مع الرشيد، فروي أنّه كان يقول لموسى بن جعفر عليهما السلام: خذ فدكاً حتّى أردها إليك، فيأبى حتّى ألحّ عليه فقال عليه السلام: "لا آخذها إلّا بحدودها" قال: وما حدودها؟ قال: "إن حددتها لم تردّها؟" قال: بحقّ جدّك إلّا فعلت، قال: "أمّا الحدّ الأوّل فعدن"، فتغيّر وجه الرشيد وقال: إيهاً! قال: "والحدّ الثاني سمرقند"، فاربدّ وجهه. "والحدّ الثالث إفريقية"، فاسودّ وجهه وقال: هيه! قال: 
 
 
 

1- سورة البيّنة الآية1.
2- المفيد: الاختصاص ص 262.
3- القاضي التستريّ: شرح إحقاق الحقّ ج 12 ص 340.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

28

من أدوار الإمام عليه السلام

 "والرابع سيف البحر ممّا يلي الجزر وأرمينية"، قال الرشيد : فلم يبق لنا شيء، فتحوّل إلى مجلسي، قال موسى: "قد أعلمتك أنّني إن حددتها لم تردّها"، فعند ذلك عزم على قتله.

 
وفي رواية ابن أسباط أنّه قال: "أمّا الحدّ الأوّل فعريش مصر، والثاني دومة الجندل، والثالث أحد، والرابع سيف البحر". فقال: هذا كلّه؟ هذه الدنيا! فقال: "هذا كان في أيدي اليهود بعد موت أبي هالة فأفاءه الله على رسوله بلا خيل ولا ركاب فأمره الله أن يدفعه إلى فاطمة عليها السلام"1.
 
ويرى الإمام الخامنائيّ  قدس سره أنّ هذا الطرح من الإمام الكاظم عليه السلام كان يدلّ على استراتيجيّة الإمامة، وأنّ هارون كان هدفه من وراء هذا العمل أن يسلب تأثير هذا الرمز "فدك" الذي كان أهل البيت عليهم السلام يطرحونه دائماً كدليل وشاهد على مظلوميّتهم التاريخيّة، فبإرجاعه لفدك يسحب هذا السلاح من أيديهم، والإمام عليه السلام وبعد إصرار هارون على بيان هذا الأمر أظهر هذا الأمر الأهمّ الذي يرسم استراتيجيّة الإمامة، والذي كان كافياً حتّى يقرّر هارون الرشيد قتله2.
 
ثالثاً: تحريم التعامل مع السلطة:
 
فقد حرَّم الإمام عليه السلام التعاون مع حكومة هارون في جميع المجالات، ويظهر ذلك جليّاً في حديثه مع صفوان بن مهران الجمّال قال: دخلت
 
 
 

1- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 320- 321.
2- أنظر: الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت عليهم السلام للإمام الخامنئيّ، فصل عنصر الجهاد في حياة الأئمّة عليهم السلام ص 96- 97، بتصرّف وتلخيص.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

29

من أدوار الإمام عليه السلام

  على أبي الحسن الأوّل عليه السلام فقال لي: "يا صفوان، كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً"، قلت: جعلت فداك أيّ شيء؟ قال: "إكراؤك جمالك من هذا الرجل- يعني هارون-" قال: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للهو، ولكنّي أكريته لهذا الطريق- يعني طريق مكّة-، ولا أتولّاه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني. فقال لي: "يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟" قلت: نعم جعلت فداك، قال: فقال لي: "أتحبّ بقاءهم حتّى يخرج كراؤك؟" قلت: نعم، قال: "من أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النّار". قال صفوان: فذهبت فبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني فقال لي: يا صفوان بلغني أنّك بعت جمالك، قلت: نعم، قال: ولم؟ قلت: أنا شيخ كبير وإنّ الغلمان لا يفون بالأعمال؟ فقال: هيهات هيهات، إنّي لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر، قلت: ما لي ولموسى بن جعفر؟ فقال: دع هذا عنك، فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك1.

 
ومن هذه الرواية وأمثالها يظهر جليّاً كيف أنّ الرشيد كان يعلم بموقف الإمام عليه السلام من السلطة ومواجهتها بمثل هذه الأساليب.
 
وفي رواية أخرى عن زياد بن سلمة قال: دخلت على أبي الحسن موسى عليه السلام فقال لي: "يا زياد إنّك لتعمل عمل السلطان؟" قال: قلت: أجل، قال لي: "ولم؟" قلت: أنا رجل لي مروّة وعليّ عيال وليس وراء ظهري شيء، فقال لي: "يا زيداً لئن أسقط من حالقفأتقطَّع قطعةً قطعة

 
 

1- الحرّ العامليّ: وسائل الشيعة ج 17 ص 182- 183.
2- وهو الجبل المرتفع.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

30

من أدوار الإمام عليه السلام

 أحبّ إليَّ من أن أتولّى لأحد منهم عملاً أو أطأ بساط رجل منهم، إلّا لماذا؟" قلت: لا أدري، قال: "إلّا لتفريج كربة عن مؤمن أو فكّ أسره أو قضاء دينه، يا زياد إنّ أهون ما يصنع الله عزَّ وجلَّ بمن تولّى لهم عملاً أن يضرب عليه سرادق من نار إلى أن يفرغ الله عزَّ وجلَّ من حساب الخلائق، يا زياد فإنّ وليت شيئاً من أعمالهم فأحسن إلى إخوانك فواحدة بواحدة، والله من وراء ذلك، يا زياد أيُّما رجلٍ منكم تولّى لأحد منهم عملاً ثمّ ساوى بينكم وبينهم فقولوا له: أنت منتحل كذّاب، يا زياد إذا ذكرت مقدرتك على الناس فاذكر مقدرة الله عليك غداً ونفاد ما أتيت إليهم عنهم وبقاء ما أبقيت إليهم عليك"1.

 
رابعاً: اختراق السلطة الحاكمة:
 
فقد تصدّر العديد من أصحاب الإمام عليه السلام مواقع هامّة في الحكومة العبّاسيّة، وذلك بإذن خاصٍ غير علنيّ من الإمام عليه السلام، ومن بين هؤلاء عليّ بن يقطين الذي كان وزيراً لهارون وكان على اتصالٍ سرّي ودائم مع الإمام عليه السلام2.
 
وكان الهدف من ذلك تحقيق عدّة أمور:
 
الأوّل: الإحاطة بالوضع السياسيّ، فإنّ الاقتراب من أعلى موقع سياسيّ من شأنه أن يزوّد الإمام عليه السلام وأصحابه بالمجريات السياسيّة التي تحصل في بلاط الحاكم، ليعمل على اتّخاذ التدابير المختلفة بشأنها، خصوصاً تلك التي تعرّض الوجود الشيعيّ للخطر.
 
 
 

1- الطوسيّ: تهذيب الأحكام ج 6 ص 333، ولاحظ: القرشيّ الشيخ باقر شريف: حياة الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام ج 2 ص 72- 74.
2- المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام، أعلام الهداية، الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، ج 9 ص 144- 145، وقد عدَّد ستّة من أصحاب الإمام ممّن تولّوا مراكز مهمّة في السلطة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

31

من أدوار الإمام عليه السلام

 الثاني: قضاء حوائج المؤمنين، ودفع الأذى عنهم، من خلال تمرير أمورهم داخل السلطة، ونقل الصورة المناسبة عنهم، وإحباط مؤامرة المغرضين والمعادين للأئمّة وشيعتهم.

 
الثالث: التأثير في السياسة العامّة، من خلال المشورة مع الحاكم مثلاً، أو إنجاز بعض الأعمال التي تتعلّق بالصالح العامّ للأمّة1.
 
والروايات التي تتحدّث عن علاقة الإمام الكاظم عليه السلام بعليّ بن يقطين تؤكّد بعض هذه الأهداف، فعن إبراهيم بن أبي محمود، عن عليّ بن يقطين قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام ما تقول في أعمال هؤلاء؟ قال: "إن كنت لا بدّ فاعلاً فاتق أموال الشيعة"، قال: فأخبرني عليّ أنّه كان يجبيها من الشيعة علانية ويردّها عليهم في السرّ.
 
ويروى أنّه استأذن عليّ بن يقطين الإمام الكاظم عليه السلام في ترك عمل السلطان فلم يأذن له وقال: "لا تفعل فإنّ لنا بك أنساً، ولإخوانك بك عزّاً، وعسى أن يجبر الله بك كسراً، ويكسر بك نائرة المخالفين عن أوليائه، يا عليّ كفّارة أعمالكم الإحسان إلى إخوانكم، اضمن لي واحدة وأضمن لك ثلاثاً، اضمن لي أن لا تلقى أحداً من أوليائنا إلّا قضيت حاجته وأكرمته، وأضمن لك أن لا يظلّك سقف سجن أبداً ولا ينالك حدّ سيف أبداً، ولا يدخل الفقر بيتك أبداً، يا عليّ من سرَّ مؤمناً فبالله بدأ وبالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثنّى وبنا ثلّث"2.
 
 
 

1- المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام، أعلام الهداية، الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام ج 9 ص105- 107.
2- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 48 ص 136، عن كتاب حقوق المؤمنين لأبي عليّ بن طاهر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

32

من أدوار الإمام عليه السلام

 وعن عليّ بن يقطين أنّه كتب إلى أبي الحسن موسى عليه السلام: إنّ قلبي يضيق ممّا أنا عليه من عمل السلطان- وكان وزيراً لهارون- فإن أذنت لي جعلني الله فداك هربت منه؟ فرجع الجواب: "لا آذن لك بالخروج من عملهم واتق الله"- أو كما قال-1.

 
وتشير بعض الروايات إلى أنّ عليّ بن يقطين كان يزوّد الإمام عليه السلام بالمعلومات السريّة والخاصّة، ويحرص على إيصالها إلى الإمام عليه السلام سرّاً من خلال توصيته لرسولين بعثهما إليه بتجنّب الطريق وأن لا يعلم بهما أحد، وكذلك من ناحية الإمام عليه السلام فقد التقى بهما في مكان خارج المدينة، ولم يأذن لهما بدخولها، وأمرهما بالانصراف والرجوع...2
 
خامساً: نصب الوكلاء:
 
أقام الإمام عليه السلام جماعة من أصحابه وتلامذته فجعلهم وكلاء له في بعض المناطق الإسلاميّة، وأرجع إليهم شيعته لأخذ الأحكام الدينيّة منهم، كما وكّلهم في قبض الحقوق الشرعيّة، لصرفها على الفقراء والمساكين من الشيعة وإنفاقها في مواردها المختلفة. فقد نصّب المفضّل بن عمر وكيلاً له في قبض الحقوق وأذن له في صرفها على مستحقّيها، كما أقام له كلّاً من حيّان السرّاج وزياد بن مروان القنديّ وعليّ بن أبي حمزة البطائنيّ وغيرهم، وقد وصلت إليهم أموال ضخمة من الشيعة، إلّا أنّهم خانوا الله ورسوله فاشتروا بها الضياع
 
 

1- المصدر السابق ص 158، عن قرب الإسناد للحميريّ.
2- الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشّي، ج 2 ص 735.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

33

من أدوار الإمام عليه السلام

  والقصور وذهبوا إلى القول بالوقف على الإمام الكاظم عليه السلام، وأنكروا إمامة الإمام الرضا عليه السلام1.

 
هذه إطلالة مختصرة على أدوار الإمام عليه السلام وهناك الكثير من الأمور في حياته عليه السلام التي تستحقّ الوقوف عندها والتدبّر فيها، نحيل القارئ الكريم فيها إلى دراسات أوسع.
 
 
 

1- القرشيّ الشيخ باقر شريف: حياة الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام ج 2 ص 493.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

34

مع حكام عصره

 عاصر الإمام الكاظم عليه السلام العديد من الحكّام العبّاسيّين الطغاة، خلال فترة إمامته التي امتدّت حوالى خمس وثلاثين سنة، وهم على الشكل التالي:

 
أبو جعفر المنصور.
 
محمّد المهديّ.
 
موسى الهادي.
 
هارون الرشيد.
 
وبالرغم من تفاوت أذواق هؤلاء وأساليبهم في العمل، فقد كانوا متّفقين على عداء الطالبيّين ومعاملتهم بالقسوة والغلظة، ومطاردتهم في كلّ حدب وصوب1.
 
ونحن نشير ها هنا إلى بعض ما روي من أحداث جرت بين الإمام عليه السلام وحكّام عصره:
 
مع أبي جعفر المنصور:
 
وقد تناولنا في كتابنا "صادق العترة" شيئاً عن حياته وعن معاناة الإمام الصادق عليه السلام معه، ولكنّه لم يتعرّض ظاهراً للإمام
 
 
 

1- آل ياسين الشيخ محمّد حسن: الأئمّة الاثنا عشر، سيرة وتاريخ، ج 2 ص 42.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

35

مع حكام عصره

  الكاظم عليه السلام 1، ولعلّ ذلك يعود إلى بعض الأسباب التي انتهجها الأئمّة عليهم السلام في التعاطي مع أمثال هذه الظروف القاسية:

 
منها: أسلوب النصّ على الإمام الكاظم عليه السلام: فلقد كان الإمام الصادق عليه السلام لا سيّما في أواخر عمره الشريف يتحاشى الصراحة في النص على إمامة ولده الكاظم عليه السلام إلّا لخواصّ أصحابه، وذلك خوفاً من السلطات الحاكمة التي كانت تراقبه أشدّ المراقبة في السنين الأخيرة من حياته المباركة، كما تؤكّد ذلك مواقف المنصور معه واهتمامه بمعرفة وصيّه عندما بلغه نبأ وفاته عليه السلام، فقد دعا أبو جعفر المنصور في جوف الليل أبا أيوب الخوزيّ، فلمّا أتاه رمى كتاباً إليه، وقال: هذا كتاب محمّد بن سليمان يخبرنا بأنّ جعفر بن محمّد قد مات، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، وأين مثل جعفر! ثمّ قال له: اكتب إن كان أوصى إلى رجل بعينه فقدّمه واضرب عنقه، فكتب وعاد الجواب: قد أوصى إلى خمسة أحدهم أبو جعفر المنصور، ومحمّد بن سليمان، وعبد الله، وموسى، وحميدة. قال المنصور: ما إلى قتل هؤلاء سبيل.
 
وفي رواية (أخرى): أوّلهم أبو جعفر المنصور، ثمّ عبد الله، وموسى، ومحمّد بن جعفر، ومولى لأبي عبد الله.
 
ويبدو من وصيّة الإمام الصادق عليه السلام لهؤلاء الخمسة أنّه كان يقدّر حراجة الموقف ويخاف على خليفته من أولئك الطغاة، فصاغ وصيّته على هذا النحو، وأخبر ثقات أصحابه بخليفته الشرعيّ، وأوصاهم
 
 

1- القمّي الشيخ عبّاس: منتهى الآمال ج 2 ص 335.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

36

مع حكام عصره

 بالكتمان حتّى عن عامّة الشيعة ريثما يتهيّأ الجوّ المناسب لذلك1.

 
ولم يكن أسلوب الإمام الصادق عليه السلام في النص على ولده الكاظم عليه السلام ليخفى على النابهين والواعين من أصحابه، فقد ورد عن داود بن كثير الرقّي أنّه قال: وفد من خراسان وافد يكنّى أبا جعفر واجتمع إليه جماعة من أهل خراسان، فسألوه أن يحمل لهم أموالاً ومتاعاً و مسائلهم في الفتاوى والمشاورة، فورد الكوفة فنزل وزار أمير المؤمنين عليه السلام ورأى في ناحية رجلاً وحوله جماعة، فلمّا فرغ من زيارته قصدهم فوجدهم شيعة فقهاء ويسمعون من الشيخ فسألهم عنه، فقالوا: هو أبو حمزة الثماليّ، قال: فبينا نحن جلوس إذ أقبل أعرابيّ، فقال: جئت من المدينة، وقد مات جعفر بن محمّد عليهما السلام، فشهق أبو حمزة وضرب بيده الأرض، ثمّ سأل الأعرابيّ: هل سمعت له بوصيّة؟ قال: أوصى إلى ابنه عبد الله، وإلى ابنه موسى، وإلى المنصور، فقال أبو حمزة: الحمد لله الذي لم يضلّنا، دلّ على الصغير، ومنَّ على الكبير وستر الأمر العظيم، ووثب إلى قبر أمير المؤمنين فصلّى وصلّينا، ثمّ أقبلت عليه وقلت له: فسِّر لي ما قلته؟ فقال: بيَّن أنّ الكبير ذو عاهة، ودلَّ على الصغير بأن أدخل يده مع الكبير، وستر الأمر بالمنصور، حتّى إذا سأل المنصور من وصيّه؟ قيل أنت2.
 
ومنها: أسلوب التقيّة الذي اتّبعه الإمام الكاظم عليه السلام وأصحابه معه، حيث نجدهم يكنّون عن الإمام في رواياتهم بقولهم، قال العبد
 
 
 

1- الشاكريّ الحاج حسين: موسوعة المصطفى والعترة ج 11 ص 37.
2- القطب الراونديّ: الخرائج والجرائح ج 1 ص 328.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

37

مع حكام عصره

  الصالح، أو قال السيّد، أو قال العالم، أو قال أبو الحسن1، ونحو ذلك من التعابير التي توحي بالجوّ الخانق الذي كان يحيط بالإمام عليه السلام، خصوصاً في عصر هذا الطاغية المنصور، فإنّه بعد قتله للإمام الصادق عليه السلام بالسمّ، وقضائه على الثورات العلويّة في زمانه، لم يغيّر من سياسته ضدّ العلويّين، بل بقي هاجس القلق والخوف يلاحقه، ولم تهدأ ذاته المليئة بالحقد عليهم، فاستمرّ في اضطهادهم، فزجّ الأبرياء في السجون المظلمة وهدمها عليهم، ودفن البعض أحياء في أسطوانات البناء، وبثَّ الجواسيس، لأجل أن يحيط علماً بكلّ نشاطهم، وأخذت عيونه ترصد كلّ حركة، كما سمح للتيّارات الإلحاديّة كالغلاة والزنادقة في أن تأخذ طريقها بين عامّة الناس لإضلالهم، واستغلّ بعض العلماء لتأييد سياسته وإسباغ الطابع الشرعيّ على حكمه2.

 
وبالرغم من عدم تعرّض المنصور للإمام عليه السلام ظاهراً فقد حكي- في موقف نادر- : أنّ المنصور تقدّم إلى موسى بن جعفر عليه السلام بالجلوس للتهنئة في بعض المناسبات فاعتذز الإمام عليه السلام عن الجلوس فقال له المنصور: إنّما نفعل هذا سياسة للجند، فسألتك بالله العظيم إلّا جلست فجلس ودخلت عليه الملوك والأمراء والأجناد يهنّؤونه، ويحملون إليه الهدايا و التحف، وعلى رأسه خادم المنصور يحصي ما يحمل، فدخل في آخر الناس رجل شيخ كبير السنّ فقال له: يا ابن بنت رسول الله إنّني رجل صعلوك لا مال لي أتحفك ولكن أتحفك
 
 

1- المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام، أعلام الهداية، الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، ص 68.
2- المصدر السابق ص 63.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

38

مع حكام عصره

  بثلاثة أبيات قالها جدّي في جدّك الحسين بن عليّ عليه السلام: 

 
عَجِبْتُ لِمَصْقُولٍ عَلَاكَ فِرِنْدُهُ1           يَوْمَ الهِيَاجِ وَقَدْ عَلَاكَ غُبَارُ
وَلِأَسْهُمٍ نَفَذَتْكَ دُونَ حَرَائِرٍ              يَدْعُونَ جَدَّكَ وَالدُّمُوعُ غِزَارُ
أَلَاْ تَغَضْغَضَتِ2 السِّهَامُ وَعَاقَهَا           عَنْ جِسْمِكَ الإِجْلَالُ وَالإِكْبَارُ 
 
 
قال: "قبلت هديتك، اجلس بارك الله فيك"، ورفع رأسه إلى الخادم وقال: "امض إلى أمير المؤمنين وعرّفه بهذا المال، وما يصنع به"، فمضى الخادم وعاد وهو يقول: كلها هبة منّي له، يفعل به ما أراد فقال موسى عليه السلام للشيخ: "اقبض جميع هذا المال فهو هبة منّي لك"3.
 
وهكذا مرّت هذه الأيّام العصيبة على إمامنا الكاظم عليه السلام, وهو ينأى بنفسه عن التعرّض ظاهراً لهذا الحاكم الظالم, في أجواءٍ من التقيّة الضاغطة, حتّى هلك المنصور وهو في طريقه إلى مكّة.
 
فعن عليّ بن أبي حمزة قال: سمعت أبا الحسن موسى عليه السلام يقول: "لا والله، لا يرى أبو جعفر بيت الله أبداً". فقدمت الكوفة فأخبرت أصحابنا، فلم يلبث أن خرج، فلمّا بلغ الكوفة قال لي أصحابنا في ذلك فقلت: لا والله، لا يرى بيت الله أبداً. فلمّا صار إلى البستان اجتمعوا أيضاً إليّ فقالوا: بقي بعد هذا شيء؟! قلت: لا والله لا يرى بيت الله أبداً. فلمّا نزل بئر ميمون أتيت أبا الحسن عليه السلام فوجدته في المحراب، قد
 
 

1- فرند السيف بكسر الفاء والراء: جوهره ووشيه, وهو ما يرى فيه شبيه مدبّ النمل أو شبه الغبار.
2- التغضغض: الانتقاص والتفرق
3- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 318- 319.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

39

مع حكام عصره

 سجد فأطال السجود، ثمّ رفع رأسه إليّ فقال: "اخرج فانظر ما يقول الناس". فخرجت فسمعت الواعية على أبي جعفر، فرجعت فأخبرته فقال: "ألله أكبر، ما كان ليرى بيت الله أبداً"1.

 
مع المهديّ العبّاسيّ:
 
وهو أبو عبد الله, محمّد بن المنصور, المعروف بالمهديّ, وقد افتتح عهده بالتحبّب إلى الخاصّ والعامّ, والنظر في المظالم, والكفّ عن القتل, وأمن الخائف وإنصاف المظلوم, وبسط يده في الإعطاء فأذهب جميع ما خلّفه المنصور2.
 
وقد استغلّ الإمام الكاظم هذه الأجواء والظروف, فبدأ بالمطالبة بحقّ آل البيت عليهم السلام, والذي كانت فدك ترمز إليه, فعن عليّ بن أسباط أنّه قال: لمّا ورد أبو الحسن موسى عليه السلام على المهديّ رآه يردّ المظالم فقال: "يا أمير المؤمنين ما بال مظلمتنا لا ترد؟" فقال له: وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: "إنّ الله تبارك وتعالى لمّا فتح على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم فدك وما والاها، لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فأنزل الله على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ فراجع في ذلك جبرئيل وراجع جبرئيل عليه السلام ربّه فأوحى الله إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة عليها السلام، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: يا فاطمة إنّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"- ثمّ ذكر كيفيّة أخذها من السيّدة فاطمة عليها السلام
 
 

1- الحميري: قرب الإسناد ص 337.
2- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 343.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

40

مع حكام عصره

  إلى أن قال- فقال له المهديّ: يا أبا الحسن حدَّها لي، فقال: "حدٌّ منها جبل أحد، وحدٌّ منها عريش مصر، وحدٌّ منها سيف البحر، وحدٌّ منها دومة الجندل"، فقال له: كلّ هذا؟ قال: "نعم يا أمير المؤمنين هذا كلّه، إنّ هذا كلّه ممّا لم يوجف على أهله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخيل ولا ركاب"، فقال: كثير، وأنظر فيه1.

 
وقد كان المهديّ خليعاً متهتّكاً منشغلاً بالسماع والملاهي والجواري، وكان لا يشرب النبيذ لا تحرّجاً ولكنّه كان ل2 يشتهيه، وكان أصحابه.. ومواليه يشربون عنده بحيث يراهم3. وكان في أوّل أمره يحتجب عن الندماء تشبيهاً بالمنصور نحواً من سنة، ثمّ ظهر لهم، فأشير عليه أن يحتجب فقال: إنّما اللذة مع مشاهدتهم4.
 
ويظهر أنّه كان ولعاً بمجالس الشراب حتّى حاول- بزعمه- التشكيك بحرمتها، ممّا استدعى تصدّي الإمام الكاظم عليه السلام له، فعن عليّ بن يقطين قال: سأل المهديّ أبا الحسن عليه السلام عن الخمر هل هي محرّمة في كتاب الله عزَّ وجلَّ؟ فإنّ الناس إنّما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون التحريم لها، فقال له أبو الحسن عليه السلام: "بل هي محرّمة في كتاب الله عزَّ وجلَّ يا أمير المؤمنين"، فقال له: في أيّ موضع هي محرّمة في كتاب الله جلَّ اسمه يا أبا الحسن؟ فقال: "قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَق﴾
 
 

1- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 543.
2- في المصدر إلّا وهو لا يستقيم.
3- الطبريّ: تاريخ الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك ج 4 ص 577.
4- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 276- 277.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

41

مع حكام عصره

  فأمّا قوله:b يعني الزنى المعلن ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواجر للفواحش في الجاهليّة، وأمّا قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا بَطَنَ﴾ يعني ما نكح من الآباء، لأنّ الناس كانوا قبل أن يبعث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوّجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمّه، فحرَّم الله عزَّ وجلَّ ذلك، وأمّا الإثمّ فإنّها الخمرة بعينها، وقد قال الله عزَّ وجلَّ وفي موضع آخر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ فأمّا الإثمّ في كتاب الله فهي الخمرة والميسر، ﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ﴾ كما قال الله تعالى"، قال: فقال المهديّ: يا عليّ بن يقطين هذه والله فتوى هاشميّة، قال: قلت له: صدقت والله يا أمير المؤمنين، الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت، قال: فوالله ما صبر المهديّ أن قال لي: صدقت يا رافضيّ!1.

 
وكما هو ديدن الخلفاء أن يلجأوا في المعضلات إلى أهل بيت الوحي ومعدن العلم، حينما تعييهم المذاهب والآراء، فقد اتفق للمهديّ هذا الأمر عند توسعته للمسجد الحرام، فعن الحسن بن عليّ بن النعمان أنّه قال: لمّا بنى المهديّ في المسجد الحرام بقيت دار في تربيع المسجد، فطلبها من أربابها فامتنعوا، فسأل عن ذلك الفقهاء فكلّ قال له: إنّه لا ينبغي أن يدخل شيئاً في المسجد الحرام غصباً، فقال له عليّ بن يقطين: يا أمير المؤمنين لو (إنّي) كتبت إلى موسى بن جعفر عليه السلام لأخبرك بوجه الأمر في ذلك، فكتب إلى والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع علينا
 
 

1- الكلينيّ: الكافي ج 6 ص 406.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

42

مع حكام عصره

  صاحبها، فكيف المخرج من ذلك؟ فقال ذلك لأبي الحسن عليه السلام، فقال أبو الحسن عليه السلام: "ولا بدّ من الجواب في هذا؟" فقال له: الأمر لا بدّ منه، فقال له اكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها"، فلمّا أتى الكتاب إلى المهديّ أخذ الكتاب فقبّله، ثمّ أمر بهدم الدار، فأتى أهل الدار أبا الحسن عليه السلام فسألوه أن يكتب لهم إلى المهديّ كتاباً في ثمن دارهم، فكتب إليه أن: "أرضخ 1لهم شيئاً" فأرضاهم2

 
ولم يستطع المهديّ أن يخفي حقده الدفين على الإمام الكاظم عليه السلام، وقام بحبسه وسجنه - والظاهر أنّ هذه كانت بداية محنة الإمام عليه السلام في السجون مع طغاة عصره- ولكنّ الله تعالى أنجاه من بين يديه بلطفه وقدرته3
 
وروى في هذا أبو خالد الرمّانيّ، وأبو يعقوب الزباليّ، قال كلّ واحد منهما: استقبلت أبا الحسن بالأَجفُر4 في المَقدمة الأولى على المهديّ، فلمّا خرج ودّعته وبكيت، فقال لي: "ما يبكيك؟" قلت: حملك هؤلاء ولا أدري ما يحدث، قال: فقال لي: "لا بأس عليّ منه في وجهي هذا ولا هو بصاحبي وإنّي لراجع إلى الحجاز ومارٌّ عليك في هذا الموضع راجعاً، فانتظرني في يوم كذا وكذا في وقت كذا وكذا فإنّك تلقاني راجعاً"، قلت له: خير البشرى لقد خفته عليك، قال: "فلا تخف". فترصّدته ذلك الوقت في ذلك الموضع
 
 

1- أرضخ الرجل: أعطاهم قليلاً من كثير.
2- العيّاشي محمّد بن مسعود: تفسير العياشيّ ج 1 ص 185.
3- الأربلي: كشف الغمّة في معرفة الأئمّة ج 3 ص 3، وقال: ورواه الجنابذيّ وذكر أنّه وصله بعشرة آلاف دينار.
4- موضع بين فيد والخزيميّة في طريق مكّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

43

مع حكام عصره

  فإذا بالسواد قد أقبل ومنادٍ ينادي من خلفي، فأتيته فإذا هو أبو الحسن على بغلة له، فقال لي: "إيهاً أبا خالد"، قلت: لبّيك يا ابن رسول الله الحمد لله الذي خلّصك من أيديهم، فقال: "أما إنّ لي عودة إليهم لا أتخلّص من أيديهم!"1.

 
مع موسى الهادي:
 
وهو أبو محمّد موسى بن محمّد المعروف بالهادي، وكان يسمّى موسى أطْبِقْ، لأنّ شفته العليا كانت تقلص، فكان أبوه وكَّل به في صغره خادماً كلّما رآه مفتوح الفم قال: موسى أطْبِقْ، فيفيق على نفسه ويضمّ شفتيه، فشُهِر بذلك2.
 
كان قاسي القلب، شرس الأخلاق، صعب المرام3، يتناول المسكر، ويلعب، جبّاراً، وهو أوّل من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة، والأعمدة والقسيِّ الموترة، فاتّبعه عماله في ذلك، وكثر السلاح في عصره4.
 
وقد ألحَّ في طلب الطالبيّين، وأخافهم خوفاً شديداً، وقطع ما كان المهديّ يجريه لهم من الأرزاق والأعطية، وكتب إلى الآفاق في طلبهم وحملهم5.
 
 

1- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 287.
2- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 279.23- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 356.
3- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 279- 280.
4- اليعقوبيّ: تاريخ اليعقوبيّ ج 2 ص 404.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

44

مع حكام عصره

 محنة شهيد فخّ:

 
ولمّا اشتدّ خوف العلويّين وكثر من يطلبهم، ويحثّ عليهم، عزم الشيعة وغيرهم إلى الحسين بن عليّ بن الحسن بن الحسن بن عليّ عليهما السلام (وأمّه زينب بنت عبد الله بن الحسن)، وقالوا له: أنت رجل أهل بيتك، وقد ترى ما أنت وأهلك وشيعتك فيه من الخوف والمكروه، فقال: وإنّي وأهل بيتي لا نجد ناصرين فننتصر، فبايعه خلق كثير ممّن حضر الموسم، فما وافاه إلّا أقل من خمسمائة1..
 
وبعد أن تغلّب الحسين على المدينة، خرج قاصداً إلى مكّة ومعه من تبعه من أهله ومواليه وأصحابه، وهم زهاء ثلاثمائة، واستخلف رجلاً على المدينة، فلمّا صاروا بفخ2 تلقتهم الجيوش، فعرض على الحسين الأمان والعفو والصلة، فأبى ذلك أشدّ الإباء، فالتقوا للقتال يوم التروية وقت صلاة الصبح حتّى قتل أكثر أصحاب الحسين، وجعلت المسوّدة تصيح بالحسين: يا حسين لك الأمان فيقول: لا أمان أريد، ويحمل عليهم حتّى قتل، وقتل معه سليمان بن عبد الله بن الحسن، وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن، وأصابت الحسن بن محمّد نشابة في عينه فتركها وجعل يقاتل أشدّ القتال حتّى أمنوه ثمّ قتلوه.
 
وجاء الجند بالرؤوس إلى موسى والعبّاس، وعندهما جماعة من ولد الحسن والحسين فلم يسألا أحداً منهم إلّا موسى بن جعفر عليه السلام فقالا: هذا رأس حسين؟ قال: "نعم إنّا لله وإنّا إليه راجعون مضى والله
 
 
 

1- المصدر السابق.
2- فخّ بفتح الفاء وتشديد الخاء بئر بينه وبين مكّة فرسخ تقريباً.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

45

مع حكام عصره

 مسلماً صالحاً صوّاماً آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله، فلم يجيبوه بشيء..".

 
وروي عن جماعة أن محمّد بن سليمان لمّا حضرته الوفاة جعلوا يلقّنونه الشهادة وهو يقول:
 
 
أَلَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي وَلَمْ أَكُنْ                   لَقِيتُ حُسَيْناً يَوْمَ فَخٍّ وَلَا الحَسَنْ 
 
فجعل يردّدها حتّى مات1.
 
وأقامت جثّة الحسين ومن قتل معه ثلاثة أيّام، لم يواروا حتّى أكلتهم السباع والطير2.
 
ولمّا بلغ والي المدينة مقتل الحسين بفخّ وثب على دار الحسين ودور جماعة من أهل بيته وغيرهم ممّن خرج مع الحسين، فهدمها وحرَّق النخل، وقبض ما لم يحرقه، وجعله في الصوافي المقبوضة3.
 
وقد رأينا- فيما تقدّم- موقف الإمام عليه السلام من مقتل الحسين شهيد فخّ، بالرغم من أنّه نأى عليه السلام بنفسه عن الدخول بهذا الأمر، لعلمه بما ستؤول إليه الأمور، هذا، من غير أن يخفي حزنه على تلك العصبة العلويّة، فعن عبد الله بن المفضّل مولى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: لمّا خرج الحسين بن عليّ المقتول بفخّ، واحتوى على المدينة دعا موسى بن جعفر عليهما السلام إلى البيعة فأتاه فقال له: :يا ابن
 
 

1- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 48 ص 160- 165.
2- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 358.
3- الطبريّ: تاريخ الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4 ص 601.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

46

مع حكام عصره

 عمّ، لا تكلّفني ما كلّف ابنُ عمّك1 عمَّك أبا عبد الله عليه السلام2 فيخرج منّي ما لا أريد كما خرج من أبي عبد الله عليه السلام ما لم يكن يريد"، فقال له الحسين: إنّما عرضت عليك أمراً فإن أردته دخلت فيه، وإن كرهته لم أحملك عليه والله المستعان، ثمّ ودّعه. فقال له أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام حين ودّعه: "يا ابن عمّ، إنّك مقتول فأجد الضراب3، فإنّ القوم فساق، يظهرون إيماناً، ويسرّون شركاً، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون أحتسبكم عند الله من عصبة"، ثمّ خرج الحسين، وكان من أمره ما كان، قتلوا كلّهم كما قال عليه السلام4.

 
وفي قصيدة دعبل التي أنشدها بمحضر الإمام الرضا عليه السلام: 
 
أَفَاطِمُ قُومِي يَا ابْنَةَ الخَيْرِ وَانْدُبِي           نُجُومَ سَمَاوَاتٍ بِأَرْضِ فَلَاتِ
قُبُورٌ بِكُوفَانٍ وَأُخْرَى بِطَيْبَةٍ                وأُخْرَى بِفَخٍّ نَالَهَا صَلَوَاتِي5 
 
وروي عن أبي جعفر الجواد عليه السلام أنّه قال: "لم يكن لنا بعد الطفّ مصرع أعظم من فخّ"6.
 
ولمّا قتل الحسين بن عليّ صاحب فخّ وتفرّق الناس عنه، حمل رأسه والأسرى من أصحابه إلى موسى بن المهديّ، ثمّ أمر برجل من الأسرى
 
 

1- قال العلّامة المجلسيّ: قوله: ما كلّف ابن عمّك، أي محمّد بن عبد الله، وسمّى أبا عبد الله عمّه مجازاً.
2- يعني الإمام الصادق عليه السلام.
3- أي أحسن القتال.
4- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 366.
5- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 49 ص 248.
6- المصدر السابق ج 48 ص 165.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

47

مع حكام عصره

  فوبّخه ثمّ قتله، ثمّ صنع مثل ذلك بجماعة من ولد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، وأخذ من الطالبيّين، وجعل ينال منهم إلى أن ذكر موسى بن جعفر صلوات الله عليه فنال منه وقال: "والله ما خرج حسين إلّا عن أمره، ولا اتبع إلّا محبّته، لأنّه صاحب الوصيّة في أهل هذا البيت، قتلني الله إن أبقيت عليه"1.

 
وعن عليّ بن يقطين قال: رفع الخبر إلى موسى بن جعفر عليهما السلام، وعنده جماعة من أهل بيته، بما عزم عليه موسى بن المهديّ في أمره، فقال لأهل بيته: "ما تشيرون؟"، قالوا: نرى أن تتباعد عن هذا الرجل، وأن تغيّب شخصك منه، فإنّه لا يؤمن شرّه. فتبسّم أبو الحسن عليه السلام، ثمّ قال: 
 
زَعَمَتْ سُخِينَةُ أَنْ سَتَغْلِبُ رَبَّهَا                 ولَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الغَلَّابِ2 
 
ثمّ رفع عليه السلام يده إلى السماء، فقال: "إلهي، كم من عدوٍّ شَحَذَ لي ظُبَةَ مُديته3 ، وأرهف لي سِنان حدّه، وداف لي قواتل سُمومه، ولم تنم عنّي عين حراسته، فلمّا رأيتَ ضعفي عن احتمال الفوادح، وعجزي عن مُلمّات الجوائح4، صرفتَ ذلك عنّي بحولك وقوّتك لا بحولي ولا بقوّتي، فألقيتَه في الحفير الذي احتفره لي، خائباً ممّا أمَّله في دنياه، متباعداً ممّا رجاه في آخرته، فلك الحمد على ذلك قَدر استحقاقك.
 
 

1- المجلسيّ: بحار الأنوار، ج 48 ص 151.
2- في هامش الأمالي: البيت لكعب بن مالك، وقيل: لحسّان بن ثابت، وسَخينة: لقب قريش، لأنّها كانت تُعاب بأكل السَّخينة، وهي طعام يُتَّخذ من الدقيق، وإنّما يأكلونها في شدَّة الدهر وغلاء السعر.
3- الظبة: حدّ السيف ونحوه، والمُدية: الشَّفرة الكبيرة.
4- الجائحة: المصيبة تحلّ بالرجل في ماله فتجتاحه كلّه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

48

مع حكام عصره

 سيّدي اللهم فخُذه بعزّتك، وافلُل حدَّه عنّي بقدرتك، واجعل له شُغلاً فيما يليه، وعجزاً عمّن يُناويه، أللهم وأَعْدِني عليه عَدْوىً1 حاضرة، تكون من غيظي شِفاء، ومن حقّي عليه وفاء، وصِل اللهمّ دعائي بالإجابة، وانظِم شَكاتي بالتغيير، وعرّفه عمّا قليل ما وعدتَ الظالمين، وعرّفني ما وعدتَ في إجابة المضطرّين، إنّك ذو الفضل العظيم والمنّ الكريم".

 
قال: ثمّ تفرّق القوم، فما اجتمعوا إلّا لقراءة الكتاب الوارد بموت موسى بن المهديّ2.
 
وهكذا انتهت هذه الفترة الصعبة من حياة الإمام الكاظم لتبدأ مرحلة أخرى هي الأشدّ والأصعب في حياة الإمام عليه السلام، وهي عصر الطاغية هارون الرشيد.
 
مع هارون الرشيد:
 
وهو أبو جعفر هارون بن المهديّ، وكان مولعاً بالغناء والمغنّين وهو أوّل من جعل لهم مراتب وطبقات، وأوّل خليفة لعب بالصَّوالجة3 والكرة، وأوّل خليفة لعب بالشطرنج من بني العبّاس4.
 
وكان يشرب الخمر وأدمن عليه، وكان يدعو خواصّ جواريه إذا أراد 
 
 

1- أعداه: نصره وأعانه وقوّاه، والعدوى: طلبك إلى والٍ ليُعديك على من ظلمك، أي ينتقم منه.
2- الصدوق: الأمالي ص 459.
3-الصوالجة: جمع صولجان، وهو عصا يعطف طرفها، يضرب بها الكرة على الدواب، فارسي معرّب.
4- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 295.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

49

مع حكام عصره

 الشراب، وربّما يتولّى السقاية بنفسه لندمائه1، وكان شديد العلاقة أيضاً بالجواري2.

 
أفضت الخلافة إلى هارون، وزهرت له الدنيا، واستوسقت له الأمور، ونال من دنياه كلّ ما اشتهى وأراد، وقد عمّ نفوذه على أغلب أنحاء هذه المعمورة حتّى أثر عنه خطابه للسحاب: اذهبي إلى حيث شئت يأتيني خراجك3
 
وقد سار على نهج أسلافه ممّن سبقه من الخلفاء فتتبّع العلويّين وأبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فملأ منهم السجون، وسفك منهم الدماء، وأذاقهم ألوان الأذى وصنوف العذاب.
 
محنة الإمام الكاظم عليه السلام مع الرشيد:
 
لقد كان هارون الرشيد- كغيره من الخلفاء- يعلم بأنّ الإمامة حقّ لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن أخفوا هذا الأمر وحاولوا أن يلبسوه على العامّة، فعن الريّان بن شبيب، قال: سمعت المأمون يقول: ما زلت أحبّ أهل البيت عليهم السلام، وأظهر للرشيد بغضهم تقرّباً إليه، فلمّا حجّ الرشيد كنت أنا ومحمّد والقاسم معه، فلمّا كان بالمدينة استأذن عليه الناس، فكان آخر من أذن له موسى بن جعفر عليهما السلام، فدخل، فلمّا نظر إليه الرشيد تحرّك ومدّ بصره وعنقه إليه حتّى دخل البيت الذي كان فيه، فلمّا قرب منه جثا الرشيد على ركبتيه وعانقه، ثمّ أقبل عليه، فقال له:
 
 

1- القرشيّ الشيخ باقر شريف: حياة الإمام موسى بن جعفر علهما السلام ج 2 ص 67.
2- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 291.
3- القرشيّ باقر شريف: حياة الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام ج 2 ص 21.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

50

مع حكام عصره

  كيف أنت يا أبا الحسن؟ كيف عيالك؟ كيف عيال أبيك؟ كيف أنتم؟ ما حالكم؟ فما زال يسأله عن هذا وأبو الحسن عليه السلام يقول: "خيرٌ خير"، فلمّا قام أراد الرشيد أن ينهض، فأقسم عليه أبو الحسن عليه السلام فقعد، وعانقه وسلَّم عليه وودَّعه.

 
قال المأمون: وكنت أجرأ ولد أبي عليه، فلمّا خرج أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام قلت لأبي: يا أمير المؤمنين، لقد رأيتك عملت بهذا الرجل شيئاً ما رأيتك فعلت بأحد من أبناء المهاجرين والأنصار ولا ببني هاشم! فمن هذا الرجل؟ فقال: يا بنيّ، هذا وارث علم النبيّين، هذا موسى بن جعفر بن محمّد، إن أردت العلم الصحيح فعند هذا...1
 
وفي رواية أخرى أنّه قال له: هذا إمام الناس وحجّة الله على خلقه وخليفته على عباده، فقلت: يا أمير المؤمنين أوليست هذه الصفات كلّها لك وفيك؟ فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حقّ، والله يا بنيّ إنّه لأحقّ بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منّي ومن الخلق جميعاً، ووالله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإنّ الملك عقيم2.
 
ومن هذه الكلمات لولده المأمون يتّضح الخلفية التي كان يتعاطى من خلالها هارون مع الإمام الكاظم عليه السلام، وحجم الخطر الذي كان يشعر به من وجود هذا الإمام العظيم حتّى وهو في غياهب السجون وظلم المطامير.
 
 

1- الصدوق: الأمالي ص 458.
2- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج 1 ص 85.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

51

مع حكام عصره

 وهكذا كانت السنون التي قضاها الإمام عليه السلام في عهد الرشيد أسوأ ما مرّ به في حياته، فقد سخَّر الرشيد كافّة أجهزته القمعيّة لمراقبة الإمام والنيل منه واستدعائه أكثر من مرّة إلى بغداد في مطلع خلافته وهو حاقد عليه، وكان يضعه في سجنه ثمّ يأمر بإطلاقه بعد مدّة من الزمن، وأحياناً كان يتظاهر بإكرامه وتعظيمه دجلاً ونفاقاً1.

 
 

1- الشاكريّ الحاج حسين: موسوعة المصطفى والعترة عليهم السلام ج 11 ص 377.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

52

علم الإمام بمصيره وشهادته

قد كان الإمام الكاظم عليه السلام يعلم بما سيجري عليه في مستقبل أمره، وعلى يدي مَن؟ وأين؟ وكيف؟ كلّ ذلك بما سبق له من علمٍ لدنّي، ومن إخبار آبائه وأجداده عليهم السلام له بذلك، فقد تقدّم قوله لأبي خالد الزباليّ لمّا أخذه المهديّ العبّاسيّ وأطلق سراحه: "يا أبا خالد، إنّ لهم إليَّ عودة لا أتخلّص منهم"1.
 
وعن الحسن بن عليّ بن فضّال قال: سمعت عليّ بن جعفر يقول: كنت عند أخي موسى بن جعفر عليه السلام- كان والله حجّة الله في الأرض بعد أبي صلوات الله عليه- إذ طلع ابنه عليّ فقال لي2 : "يا عليّ هذا صاحبك وهو منّي بمنزلتي من أبي فثبّتك الله على دينه"، فبكيت، وقلت في نفسي نعى والله إليّ نفسه فقال: "يا عليّ، لا بدّ من أن تمضي مقادير الله فيَّ ولي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلم أسوة، وبأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام"3، وكان هذا قبل أن يحمله هارون الرشيد في المرّة الثانية بثلاثة أيّام.
 
 
 

1- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 48 ص 228.
2- يعني الإمام الكاظم عليه السلام لأخيه علي بن جعفر.
3- الطوسيّ: كتاب الغيبة ص 42.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

53

علم الإمام بمصيره وشهادته

 السبب في قبض الرشيد على الإمام عليه السلام وحبسه وقتله:

 
وفي هذا المجال روى الشيخ المفيد في الإرشاد عن جملة من المشايخ أنّه: كان السبب في أخذ موسى بن جعفر عليهما السلام أنّ الرشيد جعل ابنه في حجر جعفر بن محمّد بن الأشعث، فحسده يحيى بن خالد بن برمك على ذلك، وقال: إن أفضت إليه الخلافة زالت دولتي ودولة ولدي، فاحتال على جعفر بن محمّد - وكان يقول بالإمامة - حتّى داخله وأنس إليه، وكان يكثر غشيانه في منزله فيقف على أمره ويرفعه إلى الرشيد، ويزيد عليه في ذلك بما يقدح في قلبه.
 
ثمّ قال يوماً لبعض ثقاته: تعرفون لي رجلاً من آل أبي طالب ليس بواسع الحال، يعرّفني ما أحتاج إليه، فدلّ على عليّ1 بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد، وكان موسى بن جعفر عليه السلام يأنس بعليّ بن إسماعيل ويصله ويبرّه.
 
فحمل إليه يحيى بن خالد مالاً، ثمّ أنفذ إليه يرغّبه في قصد الرشيد ويعده بالإحسان إليه، فعمل على ذلك، وأحسّ به موسى عليه السلام فدعاه فقال له: "إلى أين يا بن أخي؟" قال: إلى بغداد. قال: "وما تصنع؟" قال: عليّ دين وأنا معلّق. فقال له موسى: "فأنا أقضي دينك وأفعل بك وأصنع" فلم يلتفت إلى ذلك، وعمل على الخروج، فاستدعاه أبو الحسن فقال له: "أنت خارج؟" قال: نعم، لا بدّ لي من ذلك. فقال له:
 
 
 
 

1- وفي بعض الروايات أنّه محمّد بن إسماعيل.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

54

علم الإمام بمصيره وشهادته

  "انظر- يا بن أخي- واتّقِ الله، ولا تؤتم أولادي" وأمر له بثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم، فلمّا قام من بين يديه قال أبو الحسن موسى عليه السلام لمن حضره: "والله ليسعينّ في دمي، ويؤتمنّ أولادي" فقالوا له: جعلنا الله فداك، فأنت تعلم هذا من حاله وتعطيه وتصله! قال لهم: "نعم، حدّثني أبي، عن آبائه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنّ الرحم إذا قطعت فوصلت فقطعت قطعها الله، وإنّني أردت أن أصله بعد قطعه لي، حتّى إذا قطعني قطعه الله".

 
قالوا: فخرج عليّ بن إسماعيل حتّى أتى يحيى بن خالد، فتعرّف منه خبر موسى بن جعفر عليهما السلام ورفعه إلى الرشيد وزاد عليه1، ثمّ أوصله إلى الرشيد فسأله عن عمّه فسعى به إليه وقال له: إنّ الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب، وأنّه اشترى ضيعة سمّاها اليسيرة بثلاثين ألف دينار، فقال له صاحبها- وقد أحضره المال- لا آخذ هذا النقد، ولا آخذ إلّا نقد كذا وكذا، فأمر بذلك المال فردّ وأعطاه ثلاثين ألف دينار من النقد الذي سأل بعينه. فسمع ذلك منه الرشيد وأمر له بمائتي ألف درهم تسبيباً على بعض النواحي، فاختار بعض كور المشرق، ومضت رسله لقبض المال وأقام ينتظرهم، فدخل في بعض تلك الأيّام إلى الخلاء فزحر زحرة خرجت منها حشوته كلّها فسقط، وجهدوا في ردّها فلم يقدروا، فوقع لما به، وجاءه المال وهو ينزع، فقال: ما أصنع به وأنا في الموت؟!
 
 

1- وفي بعض الروايات أنّه قال له: ما ظننت أنّ في الأرض خليفتين حتّى رأيت أخي موسى بن جعفر عليهما السلام يسلّم عليه بالخلافة. (الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 72).

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

55

علم الإمام بمصيره وشهادته

 وخرج الرشيد في تلك السنة إلى الحجّ، وبدأ بالمدينة فقبض فيها على أبي الحسن موسى عليه السلام. ويقال: إنّه لمّا ورد المدينة استقبله موسى بن جعفر في جماعة من الأشراف، وانصرفوا من استقباله، فمضى أبو الحسن إلى المسجد على رسمه، وأقام الرشيد إلى الليل وصار إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، إنّي أعتذر إليك من شيء أريد أن أفعله، أريد أن أحبس موسى بن جعفر، فإنّه يريد التشتيت بين أمّتك وسفك دمائها.


ثمّ أمر به فأخذ من المسجد فأدخل إليه فقيَّده، واستدعى قبّتين فجعله في إحداهما على بغل، وجعل القبّة الأخرى على بغل آخر، وخرج البغلان من داره عليهما القبّتان مستورتان، ومع كلّ واحدة منهما خيل، فافترقت الخيل فمضى بعضها مع إحدى القبّتين على طريق البصرة، والأخرى على طريق الكوفة، وكان أبو الحسن عليه السلام في القبّة التي مضي بها على طريق البصرة، وإنّما فعل ذلك الرشيد ليعمّي على الناس الأمر في باب أبي الحسن عليه السلام.

وأمر القوم الذين كانوا مع قبّة أبي الحسن أن يسلّموه إلى عيسى بن جعفر بن المنصور- وكان على البصرة حينئذٍ- فسلّم إليه فحبسه عنده سنة، وكتب إليه الرشيد في دمه، فاستدعى عيسى بن جعفر بعض خاصّته وثقاته فاستشارهم فيما كتب به الرشيد، فأشاروا عليه بالتوقّف عن ذلك والاستعفاء منه، فكتب عيسى بن جعفر إلى الرشيد يقول له: قد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي، وقد اختبرت حاله ووضعت عليه العيون طول هذه المدّة، فما وجدته يفتر عن العبادة،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

56

علم الإمام بمصيره وشهادته

  ووضعت من يسمع منه ما يقول في دعائه فما دعا عليك ولا عليّ ولا ذكرنا في دعائه بسوء، وما يدعو لنفسه إلّا بالمغفرة والرحمة، فإن أنت أنفذت إليّ من يتسلّمه منّي وإلّا خلّيت سبيله فإنّني متحرّج من حبسه. وروي: أنّ بعض عيون عيسى بن جعفر رفع إليه أنّه يسمعه كثيراً يقول في دعائه وهو محبوس عنده: "أللهم إنّك تعلم أنّي كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، أللهمّ وقد فعلت فلك الحمد". فوجّه الرشيد من تسلّمه من عيسى بن جعفر، وصيّر به إلى بغداد، فسلّم إلى الفضل بن الربيع فبقي عنده مدّة طويلة1.

 
الرشيد يطلق سراحه ثمّ يعيده إلى السجن:
 
ويروى أنّه لمّا حبس هارون الرشيد موسى بن جعفر عليه السلام، وجنَّ عليه الليل، قام عليه السلام فجدَّد طهوره، واستقبل بوجهه القبلة، وصلَّى لله عزَّ وجلَّ أربع ركعات، ثمّ دعا بهذه الدعوات، فقال: "يا سيّدي نجّني من حبس هارون، وخلِّصني من يديه، يا مخلِّص الشجر من بين رمل وطين وماء، ويا مخلِّص اللبن من بين فرث ودم، ويا مخلِّص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلِّص النّار من بين الحديد والحجر، ويا مخلِّص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلِّصني من يدي هارون". فاستجاب الله دعاءه وأطلق هارون عنه، وسلَّمه إلى حاجبه ليسلّمه إلى الدار، فصار موسى بن جعفر عليهما السلام كريماً شريفاً عند
 
 
 

1- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 237 وما بعدها. قال الشيخ الكلينيّ أعلى الله مقامه: وكان هارون حمله من المدينة لعشر ليال بقين من شوّال سنة تسع وسبعين ومائة، وقد قدم هارون المدينة منصرفه من عمرة شهر رمضان، ثمّ شخص هارون إلى الحجّ وحمله معه، ثمّ انصرف على طريق البصرة فحبسه عند عيسى بن جعفر، ثمّ أشخصه إلى بغداد، فحبسه عند السنديّ بن شاهك فتوفّي عليه السلام في حبسه.. (الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 476).

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

57

علم الإمام بمصيره وشهادته

  هارون، وكان يدخل عليه في كلّ خميس1. إلى أن حبسه الثانية فلم يطلق عنه حتّى سلَّمه إلى السِّندي بن شاهك وقتله بالسمّ2.

 
في حبس الفضل بن الربيع:
 
كانت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام بضع عشرة سنة كلّ يوم سجدة بعد انقضاض الشمس إلى وقت الزوال، (وهكذا كان من أمره وهو في السجن)، فكان هارون ربما صعد سطحاً يشرف منه على الحبس الذي حبس فيه أبو الحسن عليه السلام فكان يرى أبا الحسن عليه السلام ساجداً، فقال للربيع: يا ربيع ما ذاك الثوب الذي أراه كلّ يوم في ذلك الموضع؟! فقال: يا أمير المؤمنين ما ذاك بثوب وإنّما هو موسى بن جعفر عليهما السلام له كلّ يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال، قال الربيع: فقال لي هارون: أما إنّ هذا من رهبان بني هاشم، قلت: فما لك قد ضيّقت عليه الحبس؟! قال: هيهات لا بدّ من ذلك!3.
 
وعن أحمد بن عبد الله الفرويّ4، عن أبيه، قال: دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح، فقال لي: ادن منّي، فدنوت حتّى حاذيته، ثمّ قال لي: أشرف إلى البيت في الدار، فأشرفت فقال: ما ترى في البيت؟ قلت: ثوباً مطروحاً. فقال: انظر حسناً، فتأمّلت ونظرت فتيقّنت، فقلت: رجل ساجد. فقال لي: تعرفه؟ قلت: لا، قال: هذا مولاك، قلت: ومن مولاي؟ فقال: تتجاهل عليَّ؟ فقلت: ما أتجاهل، ولكن لا أعرف لي مولى،
 
 
 

1- الصدوق: الأمالي ص 460- 461.
2- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 87- 88.
3- المصدر السابق ج 1 ص 88.
4- في هامش الأمالي: في بعض النسخ: الغرويّ، وفي البحار: القرويّ.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

58

علم الإمام بمصيره وشهادته

 فقال: هذا أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام، إنّي أتفقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلّا على الحال التي أخبرك بها، أنّه يصلّي الفجر فيعقّب ساعة في دبر صلاته إلى أن تطلع الشمس، ثمّ يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتّى تزول الشمس، وقد وكَّل من يترصّد له الزوال، فلست أدري متى يقول الغلام: قد زالت الشمس! إذ يثب فيبتدئ بالصلاة من غير أن يجدّد وضوءاً، فأعلم أنّه لم ينم في سجوده ولا أغفى، فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر، فإذا صلّى العصر سجد سجدةً، فلا يزال ساجداً إلى أن تغيب الشمس، فإذا غابت الشمس وثب من سجدته فصلّى المغرب من غير أن يحدث حدثاً، فلا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلّي العتمة، فإذا صلّى العتمة أفطر على شويّ1 يؤتى به، ثمّ يجدِّد الوضوء، ثمّ يسجد، ثمّ يرفع رأسه، فينام نومة خفيفة، ثمّ يقوم فيجدِّد الوضوء، ثمّ يقوم فلا يزال يصلّي في جوف الليل حتّى يطلع الفجر، فلست أدري متى يقول الغلام: إنّ الفجر قد طلع! إذ قد وثب هو لصلاة الفجر، فهذا دأبه منذ حوِّل إليّ. فقلت: اتقِ الله، ولا تُحدِثَنَّ في أمره حَدَثَاً يكون منه زوال النعمة، فقد تعلم أنّه لم يفعل أحد بأحد منهم سوءاً إلّا كانت نعمته زائلة. فقال: قد أرسلوا إليَّ في غير مرّة يأمرونني بقتله، فلم أجبهم إلى ذلك، وأعلمتهم أنّي لا أفعل ذلك، ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني.

 
فلمّا كان بعد ذلك حُوِّل إلى الفضل بن يحيى البرمكيّ، فحبس عنده...2
 
 
 

1- الشوي: ما شوي من اللحم.
2- الصدوق: الأمالي ص 211.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

59

علم الإمام بمصيره وشهادته

 عند الفضل بن يحيى:


ولمّا أراد الرشيد الفضل بن الربيع عليّ شيء من أمر أبي الحسن عليه السلام فأبى، كتب إليه بتسليمه إلى الفضل بن يحيى فتسلّمه منه، وجعله في بعض حجر داره ووضع عليه الرصد، وكان عليه السلام مشغولاً بالعبادة يحيي الليل كلّه صلاةً وقراءةً للقرآن ودعاءً واجتهاداً، ويصوم النهار في أكثر الأيّام، ولا يصرف وجهه من المحراب، فوسّع عليه الفضل بن يحيى وأكرمه. فاتّصل ذلك بالرشيد وهو بالرقّة فكتب إليه ينكر عليه توسعته على موسى ويأمره بقتله، فتوقّف عن ذلك ولم يقدم عليه، فاغتاظ الرشيد لذلك ودعا مسروراً الخادم فقال له: اخرج على البريد في هذا الوقت إلى بغداد، وادخل من فورك على موسى بن جعفر، فإن وجدته في دعة ورفاهيّة فأوصل هذا الكتاب إلى العبّاس بن محمّد ومره بامتثال ما فيه. وسلَّم إليه كتاباً آخر إلى السنديّ بن شاهك يأمره فيه بطاعة العبّاس بن محمّد. فقدم مسرور فنزل دار الفضل بن يحيى لا يدري أحد ما يريد، ثمّ دخل على موسى بن جعفر عليه السلام فوجده على ما بلغ الرشيد، فمضى من فوره إلى العبّاس بن محمّد والسنديّ بن شاهك فأوصل الكتابين إليهما، فلم يلبث الناس أن خرج الرسول يركض إلى الفضل بن يحيى، فركب معه وخرج مشدوهاً دهشاً حتّى دخل على العبّاس بن محمّد، فدعا العبّاس بسياط وعقابين وأمر بالفضل فجرّد وضربه السندي بين يديه مائة سوط، وخرج متغيّر اللون خلاف ما دخل، وجعل يسلّم على الناس يميناً وشمالاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

60

علم الإمام بمصيره وشهادته

 في حبس السنديّ بن شاهك:

 
وكتب مسرور بالخبر إلى الرشيد، فأمر بتسليم موسى عليه السلام إلى السنديّ بن شاهك، وجلس الرشيد مجلساً حافلاً وقال: أيّها الناس، إنّ الفضل بن يحيى قد عصاني وخالف طاعتي، ورأيت أن ألعنه فالعنوه لعنه الله. فلعنه الناس من كلّ ناحية، حتّى ارتجّ البيت والدار بلعنه. وبلغ يحيى بن خالد الخبر، فركب إلى الرشيد فدخل من غير الباب الذي تدخل الناس منه، حتّى جاءه من خلفه وهو لا يشعر، ثمّ قال له: التفت- يا أمير المؤمنين- إليّ، فأصغى إليه فزعاً، فقال له: إنّ الفضل حدث، وأنا أكفيك ما تريد، فانطلق وجهه وسرّ، وأقبل على الناس فقال: إنّ الفضل كان قد عصاني في شيء فلعنته، وقد تاب وأناب إلى طاعتي فتولّوه. فقالوا: نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت وقد تولّيناه.
 
ثمّ خرج يحيى بن خالد على البريد حتّى وافى بغداد، فماج الناس وأرجفوا بكلّ شيء، وأظهر أنّه ورد لتعديل السواد والنظر في أمر العمّال، وتشاغل ببعض ذلك أيّاماً، ثمّ دعا السنديّ فأمره فيه بأمره فامتثله1.
 
ولمّا حبس هارون الرشيد أبا إبراهيم موسى عليه السلام وأظهر الدلائل والمعجزات وهو في الحبس تحيّر الرشيد، فدعا يحيى بن خالد البرمكيّ فقال له: يا أبا عليّ أما ترى ما نحن فيه من هذه العجائب، ألا تدبر في أمر هذا الرجل تدبيراً يريحنا من غمّه؟ فقال له يحيى بن خالد
 
 
 

1- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 237 243، وانظر: الأصفهانيّ: مقاتل الطالبيّين ص 414- 417، باختلاف بينهما في بعض الفقرات.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

61

علم الإمام بمصيره وشهادته

 البرمكيّ: الذي أراه لك يا أمير المؤمنين أن تمنن عليه وتصل رحمه، فقد- والله- أفسد علينا قلوب شيعتنا. وكان يحيى يتولّاه، وهارون لا يعلم ذلك. فقال هارون: انطلق إليه وأطلق عنه الحديد، وأبلغه عنّي السلام، وقل له: يقول لك ابن عمّك: إنّه قد سبق منّي فيك يمين أنّي لا أخلّيك حتّى تقرّ لي بالإساءة، وتسألني العفو عمّا سلف منك، وليس عليك في إقرارك عار، ولا في مسألتك إيّاي منقصة. وهذا يحيى بن خالد (هو) ثقتي ووزيري، وصاحب أمري، فسله بقدر ما أخرج من يميني وانصرف راشداً. فقال أبو إبراهيم عليه السلام ليحيى: "يا أبا عليّ أنا ميّت، وإنّما بقي من أجلي أسبوع، أكتم موتي وائتني يوم الجمعة عند الزوال، وصلِّ عليّ أنت وأوليائي فرادى، وانظر إذا سار هذا الطاغية إلى الرقّة، وعاد إلى العراق لا يراك ولا تراه لنفسك، فإنّي رأيت في نجمك ونجم ولدك ونجمه أنّه يأتي عليكم فاحذروه". ثمّ قال: "يا أبا عليّ أبلغه عنّي: يقول لك موسى بن جعفر: رسولي يأتيك يوم الجمعة فيخبرك بما ترى، وستعلم غداً إذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي على صاحبه، والسلام". فخرج يحيى من عنده، واحمرّت عيناه من البكاء حتّى دخل على هارون فأخبره بقصّته وما ردّ عليه، فقال له] هارون: إن لم يدع النبوّة بعد أيّام فما أحسن حالنا. فلمّا كان يوم الجمعة توفّي أبو إبراهيم عليه السلام، وقد خرج هارون إلى المدائن قبل ذلك، فأخرج إلى الناس حتّى نظروا إليه، ثمّ دفن عليه السلام ورجع الناس، فافترقوا فرقتين: فرقة تقول: مات، وفرقة تقول: لم يمت1.

 


1- الطوسيّ: كتاب الغيبة ص 24- 26، وفي هامشه: أي فرقة تقول: مات حتف أنفه، وفرقة تقول: لم يمت بل قتل بالسمّ (حاشية طبع النجف). وانظر: ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 290. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

62

علم الإمام بمصيره وشهادته

 وبعث موسى بن جعفر عليهما السلام إلى الرشيد من الحبس رسالة كانت: "إنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء إلّا انقضى عنك معه يوم من الرخاء حتّى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء، يخسر فيه المبطلون"1.

 
وسألت أخت السنديّ بن شاهك أخاها أن تتولّى حبسه- وكانت تتديّن- ففعل، فكانت تلي خدمته، فحكي أنّها قالت: كان إذا صلى العتمة حمد الله ومجّده ودعاه، فلم يزل كذلك حتّى يزول الليل، فإذا زال الليل قام يصلّي حتّى يصلّي الصبح، ثمّ يذكر قليلاً حتّى تطلع الشمس، ثمّ يقعد إلى ارتفاع الضحى، ثمّ يتهيّأ ويستاك ويأكل، ثمّ يرقد إلى قبل الزوال، ثمّ يتوضّأ ويصلّي حتّى يصلّي العصر، ثمّ يذكر في القبلة حتّى يصلّي المغرب، ثمّ يصلّي ما بين المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه. فكانت أخت السندي إذا نظرت إليه قالت: خاب قوم تعرّضوا لهذا الرجل، وكان عبداً صالحاً.2
 
وأنفذ هارون الرشيد إلى موسى بن جعفر عليهما السلام جارية خصيفة لها جمال ووضاءة لتخدمه في السجن فقال: قل له: "بل أنتم بهديّتكم تفرحون لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها". قال: فاستطار هارون غضباً وقال: ارجع إليه وقل له: ليس برضاك حبسناك ولا برضاك خدمناك واترك الجارية عنده وانصرف. قال: فمضى ورجع، ثمّ قام هارون عن مجلسه وأنفذ الخادم إليه ليتفحّص عن حالها فرآها
 
 


1- البغداديّ: تاريخ بغداد ج 13 ص 32، الأربلي: كشف الغمّة في معرفة الأئمّة ج 3 ص 8- 9.
2- لبغداديّ: تاريخ بغداد ج 13 ص 30.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

63

علم الإمام بمصيره وشهادته

 ساجدة لربّها لا ترفع رأسها تقول: قدّوس سبحانك سبحانك، فقال هارون: سحرها والله موسى بن جعفر بسحره، عليّ بها، فأتي بها وهي ترتعد شاخصة نحو السماء بصرها فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني الشأن البديع إنّي كنت عنده واقفة وهو قائم يصلّي ليله ونهاره، فلمّا انصرف من صلاته بوجهه وهو يسبّح الله ويقدّسه، قلت: يا سيّدي هل لك حاجة أعطيكها؟ قال: "وما حاجتي إليك!" قلت: إنّي أدخلت عليك لحوائجك، قال: "فما بال هؤلاء"، قالت: فالتفت فإذا روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أوّلها بنظري ولا أوّلها من آخرها فيها مجالس مفروشة بالوشيّ والديباج، وعليها وصفاء ووصايف لم أر مثل وجوهم حسناً ولا مثل لباسهم لباساً، عليهم الحرير الأخضر والأكاليل، والدرّ والياقوت، وفي أيديهم الأباريق والمناديل، ومن كلّ الطعام، فخررت ساجدة حتّى أقامني هذا الخادم فرأيت نفسي حيث كنت، قال: فقال هارون: يا خبيثة لعلّك سجدت فنمت فرأيت هذا في منامك، قالت: لا والله يا سيّدي إلّا قبل سجودي، رأيت فسجدت من أجل ذلك، فقال الرشيد: اقبض هذه الخبيثة إليك فلا يسمع هذا منها أحد، فأقبلت في الصلاة فإذا قيل لها في ذلك، قالت: هكذا رأيت العبد الصالح، فسألت عن قولها قالت: إنّي لمّا عاينت من الأمر نادتني الجواري يا فلانة ابعدي عن العبد الصالح حتّى ندخل عليه فنحن له دونك. فما زالت كذلك حتّى ماتت وذلك قبل موت موسى عليه السلام بأيّام يسيرة1.

 


1- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 297- 298.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

64

علم الإمام بمصيره وشهادته

 محاولة اغتياله في السجن:

 
قال المجلسيّ رحمه الله: رأيت في بعض مؤلّفات أصحابنا: روي أنّ الرشيد لعنه الله لمّا أراد أن يقتل الإمام موسى بن جعفر عليه السلام عرض قتله على سائر جنده وفرسانه فلم يقبله أحد منهم، فأرسل إلى عمّاله في بلاد الإفرنج يقول لهم: التمسوا لي قوماً لا يعرفون الله ورسوله فإنّي أريد أن أستعين بهم على أمر، فأرسلوا إليه قوماً لا يعرفون من الإسلام ولا من لغة العرب شيئاً، وكانوا خمسين رجلاً، فلمّا دخلوا إليه أكرمهم وسألهم من ربّكم؟ ومن نبيّكم؟ فقالوا: لا نعرف لنا ربّاً ولا نبيّاً أبداً فأدخلهم البيت الذي فيه الإمام عليه السلام ليقتلوه، والرشيد ينظر إليهم من روزنة البيت، فلمّا رأوه رموا أسلحتهم وارتعدت فرائصهم وخرّوا سجداً يبكون رحمة له، فجعل الإمام يمرّ يده على رؤوسهم ويخاطبهم بلغتهم وهم يبكون، فلمّا رأى الرشيد خشي الفتنة وصاح بوزيره أخرجهم وهم يمشون القهقرى إجلالاً له، وركبوا خيولهم ومضوا نحو بلادهم من غير استئذان1.
 
وفي رواية أخرى: أنّ هارون الرشيد لمّا ضاق صدره ممّا كان يظهر له من فضل موسى بن جعفر عليهما السلام وما كان يبلغه عنه من قول الشيعة بإمامته واختلافهم في السرّ إليه بالليل والنهار خشية على نفسه وملكه ففكّر في قتله بالسمّ، فدعا برطب فأكل منه، ثمّ أخذ صينيّة فوضع عليها عشرين رطبة وأخذ سلكاً فعركه2 في السمّ وأدخله في سمّ الخياط، فأخذ رطبة من ذلك الرطب فأقبل يردّد إليها ذلك السمّ بذلك الخيط حتّى علم أنّه قد حصل السمّ فيها فاستكثر منه، ثمّ ردّها في ذلك
 
 
 

1- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 48 ص 249.
2- أي دلّكه.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

65

علم الإمام بمصيره وشهادته

  الرطب وقال لخادم له: احمل هذه الصينيّة إلى موسى بن جعفر وقل له: إنّ أمير المؤمنين أكل من هذا الرطب وتنغّص لك به وهو يقسم عليك بحقّه لمّا أكلتها عن آخر رطبة فإنّي اخترتها لك بيدي، ولا تتركه يُبقي منها شيئاً ولا يُطعم منه أحداً. فأتاه بها الخادم وأبلغه الرسالة فقال: "ائتني بخلال"، فناوله خلالاً، وقام بإزائه وهو يأكل الرطب، وكانت للرشيد كلبة تعزّ عليه فجذبت نفسها وخرجت تجرّ سلاسلها من ذهب وجوهر حتّى حاذت موسى بن جعفر عليهما السلام، فبادر بالخلال إلى الرطبة المسمومة، ورمى بها إلى الكلبة فأكلتها فلم تلبث أن ضربت بنفسها الأرض وعوت وتهرَّت قطعة قطعة واستوفى عليه السلام باقي الرطب وحمل الغلام الصينيّة حتّى صار بها إلى الرشيد. فقال له: قد أكل الرطب عن آخره؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فكيف رأيته؟ قال: ما أنكرت منه شيئاً يا أمير المؤمنين، قال: ثمّ ورد عليه خبر الكلبة وأنّها قد تهرّت وماتت، فقلق الرشيد لذلك قلقاً شديداً واستعظمه ووقف على الكلبة فوجدها متهرّية بالسمّ، فأحضر الخادم ودعا له بسيف ونطع وقال له: لتصدقني عن خبر الرطب أو لأقتلنّك، فقال: يا أمير المؤمنين إنّي حملت الرطب إلى موسى بن جعفر وأبلغته سلامك وقمت بإزائه فطلب منّي خلالاً فدفعته إليه، فأقبل يغرز في الرطبة بعد الرطبة ويأكلها حتّى مرّت الكلبة فغرز الخلال في رطبة من ذلك الرطب فرمى بها فأكلتها الكلبة وأكل هو باقي الرطب، فكان ما ترى يا أمير المؤمنين. فقال الرشيد: ما ربحنا من موسى عليه السلام إلّا أنا أطعمناه جيد الرطب وضيّعنا سمّنا وقتل كلبتنا، ما في موسى حيلة1.

 
 

1- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 48 ص 223- 224، والصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 94- 95.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

66

الشهادة

 و هكذا بقي الإمام عليه السلام بأمر من هارون الرشيد في سجن السنديّ بن شاهك لعنه الله، الذي جهد في إرهاقه وتنكيله، وبالغ في أذاه، وضيّق عليه في المأكل والمشرب، وما رآه إلّا سبّه وشتمه، ومنعه من التواصل مع الناس، كلّ ذلك ليتقرّب إلى هارون وينال من دنياه.

 
وأقفل الباب في وجهه ولم يدعه يخرج إلّا لتجديد طهوره1 ، هذا وقد قيّده بثلاثة قيود من الحديد وزنها ثلاثون رطلاً 2، والإمام عليه السلام متوجّهاً إلى ربّه بالدعاء والمناجاة والصلاة، يسجد عند طلوع الشمس فلا يرفع رأسه إلى الزوال سجدة واحدة..3
 
وكتب الإمام عليه السلام من سجنه إلى عليّ بن سويد كتاباً جاء فيه: "إن أول ما أنهي عليك أن أنعى إليك نفسي في ليالي هذه، غير جازع، ولا نادم، ولا شاكٍّ فيما هو كائن ممّا قضى الله وقدر وحتم"4.
 
إلى أن أمر هارون السنديّ بن شاهك فيه بأمره، فدسّ له سمّاً في طعام له، وفي بعض الروايات أنّه جعله له في رطب، فأكل منه الإمام عليه السلام، فقال له السندي: تزداد؟ فقال له: حسبك قد بلغت ما تحتاج
 
 
 

1- القرشيّ باقر شريف: حياة الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام ج 2 ص 486- 487.
2- البحرانّي: عوالم الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام ص 458.
3- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 88.
4- القطب الراونديّ: الخرائج والجرائح ج 1 ص 325.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

67

الشهادة

  إليه فيما أمرت به1، فأحسّ الإمام بالسمّ يسري في بدنه، فمرض وتوعّك ثلاثة أيّام2.

 
امن البصرة السجن بغداد جابه           ابحديد او قيد ويدوّر ذهابه
ذبّه ابسجن أظلم غلق بابه                ونهى السجّان يمّه الناس يصلون
عجيبه امصيبته والله عجيبه               من سجن السجن ظالم يجيبه
                     او كبده من الألم زايد لهيبه
  
ثمّ إنّ الإمام عليه السلام دعا بالمسيّب بن زهير- وذلك قبل وفاته بثلاثة أيّام وكان موكلاً به- فقال له: "يا مسيّب"، فقال: لبّيك يا مولاي، قال: "إنّي ظاعن في هذه الليلة إلى المدينة، مدينة جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله لأعهد إلى عليّ ابني ما عهده إليّ أبي، وأجعله وصيّي وخليفتي وآمره بأمري"، قال المسيّب: فقلت: يا مولاي كيف تأمرني أن أفتح لك الأبواب وأقفالها والحرس معي على الأبواب؟! فقال: "يا مسيّب ضعف يقينك في الله عزَّ وجلَّ وفينا؟"، قلت: لا يا سيّدي، قال: "فمه؟"، قلت: يا سيّدي ادع الله أن يثبّتني، فقال: "اللهمّ ثبّته". ثمّ قال: "إنّي أدعو الله عزَّ وجلَّ باسمه العظيم الذي دعا به آصف حتّى جاء بسرير بلقيس فوضعه بين يدي سليمان قبل ارتداد طرفه إليه حتّى يجمع بيني وبين ابني عليّ بالمدينة".
 
قال المسيّب: فسمعته عليه السلام يدعو ففقدته عن مصلّاه فلم أزل
 
 
 

1 المجلسيّ: بحار الأنوار ج 48 ص 247.
2- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 242.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

68

الشهادة

  قائماً على قدمي حتّى رأيته قد عاد إلى مكانه وأعاد الحديد إلى رجليه فخررت لله ساجداً لوجهي شكراً على ما أنعم به عليّ من معرفته.

 
فقال لي: "ارفع رأسك يا مسيّب، واعلم أنّي راحل إلى الله عزَّ وجلَّ في ثالث هذا اليوم"، قال: فبكيت فقال لي: "لا تبك يا مسيّب، فإنّ عليّاً ابني هو إمامك ومولاك بعدي، فاستمسك بولايته فإنّك لن تضلّ ما لزمته"، فقلت: الحمد لله...1
 
ثمّ إنّ السنديّ بن شاهك أحضر القضاة والعدول قبل وفاته عليه السلام، وأخرجه إليهم وقال: إن الناس يقولون: إنّ أبا الحسن موسى في ضنك وضرّ، وها هو ذا، لا علّة به ولا مرض ولا ضرر، فالتفت عليه السلام فقال لهم: "اشهدوا عليّ إنّي مقتول بالسمّ منذ ثلاثة أيّام، استشهدوا أنّي صحيح الظاهر ولكنّي مسموم وسأحمرّ في آخر هذا اليوم حمرة"، فمضى كما قال عليه السلام..2
 
وفي رواية أنّه قال عليه السلام: "يا فلان وفلان، إنّي سقيت السمّ في يومي هذا، وفي غدٍ يصفرّ بدني، وبعد غدٍ يسودّ وأموت"3.
 
وفي بعض الروايات: جاءه الطبيب فعرض عليه خضرة في بطن راحته، وكان السمّ الذي سمّ به قد اجتمع في ذلك الموضع، فانصرف الطبيب إليهم فقال: والله هو أعلم بما فعلتم به4.
 
 
 

1- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 48 ص 223- 224، والصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 95.
2- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 48 ص 247- 248.
3- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 328.
4- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 99.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

69

الشهادة

 ألف يا حيف ألف وأكثر وسافه       يظل نعشك على جسر الرصافة

وطبيب الگلّب ابكفّك وشافه         ايگول او لا عشيرة الهاذا تظهر 
 
قال المسيّب بن زهير: ثمّ إنّ سيّدي عليه السلام دعاني في ليلة اليوم الثالث فقال لي: "إنّي على ما عرّفتك من الرحيل إلى الله عزَّ وجلَّ فإذا دعوت بشربة من ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخت وارتفع بطني واصفرّ لوني واحمرّ واخضرّ وتلوّن ألواناً فخبّر الطاغية بوفاتي، فإذا رأيت بي هذا الحدث فإيّاك أن تظهر عليه أحداً ولا على من عندي إلّا بعد وفاتي".
 
قال المسيّب بن زهير: فلم أزل أرقب وعده حتّى دعا عليه السلام بالشربة فشربها ثمّ دعاني، فقال لي: "يا مسيّب إن هذا الرجس السنديّ شاهك سيزعم أنّه يتولّى غسلي ودفني، هيهات هيهات أن يكون ذلك أبداً! فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها ولا ترفعوا قبري فوق أربع أصابع مفرّجات ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبرّكوا به،1 فإنّ كلّ تربة لنا محرّمة إلّا تربة جدّي الحسين بن عليّ عليهما السلام فإنّه تعالى جعلها شفاءً لشيعتنا وأوليائنا".
 
قال: ثمّ رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه وكان عهدي بسيّدي الرضا عليه السلام وهو غلام فأردت سؤاله فصاح بي سيّدي موسى عليه السلام فقال: "أليس قد نهيتك يا مسيّب"؟! فلم أزل صابراً
 
 


1- الظاهر أنّ مراده عليه السلام الأخذ من التربة لأكلها استشفاءً بها والله العالم.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

70

الشهادة

  حتّى1..حضر أجل الإمام واستقبل القبلة وعرق جبينه وسكن أنينه وفاضت روحه الطاهرة ومضى وحيداً فريداً غريباً بعيداً عن الأهل والأوطان وهو مع ذلك في ظلمات السجون مكبّلاً بالحديد..

 
أي وا إماماه، وا سيّداه، وا غريباه، وا كاظماه..
 
وقيل: بل غمر في بساط ولفّ2، وقعد الفرّاشون النصارى على وجهه3.
 
 
دَسُّوا إِلَيْكَ نَقِيعَ السُّمِّ في رُطَبٍ          فَاخْضَرَّ لَوْنُكَ مُذْ ذَابَتْ بِهِ الكَبِدُ
 
حَتَّى قَضَيْتَ غَرِيبَ الدَّارِ مُنْفَرِدَاً          لِلهِ نَاءٍ غَرِيبُ الدَّارِ مُنْفَرِدُ 
 
يقول المسيّب بن زهير: ثمّ أنهيت الخبر إلى الرشيد فوافى السنديّ بن شاهك فوالله لقد رأيتهم بعيني وهم يظنّون أنّهم يغسّلونه فلا تصل أيديهم إليه ويظنّون أنّهم يحنّطونه ويكفّنونه وأراهم لا يصنعون به شيئاً، ورأيت ذلك الشخص يتولّى غسله وتحنيطه وتكفينه وهو يظهر المعاونة لهم وهم لا يعرفونه.
 
فلمّا فرغ من أمره قال لي ذلك الشخص: "يا مسيّب مهما شككت فيه فلا تشكّنّ فيَّ فإنّي إمامك ومولاك وحجّة الله عليك بعد أبي عليه السلام، يا مسيّب مثلي مثل يوسف الصدِّيق عليه السلام ومثلهم مثل
 
 

1- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 48 ص 223- 224، والصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 94- 95.
2- ابن عنبة: عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ص 177.
3- الأصفهانيّ: مقاتل الطالبيّين ص 417.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

71

الشهادة

 إخوته حين دخلوا فعرفهم وهم له منكرون"1

 
ثمّ حمله السنديّ بن شاهك على نعش وأخرج ووضع على جسر ببغداد2 (جسر الرصافة)3 ونودي عليه: هذا إمام الرافضة فاعرفوه..
 
فلمّا أتي به مجلس الشرطة أقام أربعة نفر فنادوا- بعكس هذا النداء-: ألا من أراد أن ينظر إلى (الطيّب بن الطيّب) موسى بن جعفر فليخرج.. ..4 وترك ثلاثة أيّام على الطريق يأتي من يأتي فينظر إليه..5
 
ثلث تيام ظل من غير تغسيل                  ما عنده عشيره النعشه اتشيل
 
شالوه للجسر أربع حماميل                      اوبيه سمعت الناس او غدت تلتم
 
اشحال ابنه الرضا لمن قصد ليه                   اوعاين للحديد اوشاف رجليه
 
ظل يبكي اعلى حاله او ينحني اعليه             حتّى انگتل بخراسان بالسم 
 
يقول الراوي: وخرج سليمان بن أبي جعفر- عمّ الرشيد- من قصره إلى الشطّ فسمع الصياح والضوضاء فقال لولده وغلمانه: ما هذا؟ قالوا: السنديّ بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر على نعش، فقال لولده وغلمانه: يوشك أن يفعل به هذا في الجانب الغربيّ فإذا عبر به فانزلوا 
 
 

1- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 48 ص 223- 224، والصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 94- 95.
2- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 242.
3- القرشيّ الشيخ باقر شريف: حياة الإمام الرضا عليه السلام ج 1 ص 90.
4- الصدوق: كمال الدين وتمام النعمة ص 38.
5- ابن عنبة: عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ص 177.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

72

الشهادة

 مع غلمانكم فخذوه من أيديهم فإن مانعوكم فاضربوهم واخرقوا ما عليهم من السواد، قال: فلمّا عبروا به نزلوا إليهم فأخذوه من أيديهم وضربوهم وخرقوا عليهم سوادهم ووضعوه في مفرق أربع طرق وأقام المنادون ينادون: ألا من أراد أن ينظر إلى الطيّب بن الطيّب موسى بن جعفر فليخرج، وحضر الخلق وغسّله وحنّطه بحنوط وكفّنه بكفن فيه حبرة استعملت له بألفي وخمس مائة دينار مكتوباً عليها القرآن كلّه، واحتفى ومشى في جنازته متسلّباًمشقوق الجيب إلى مقابر قريش فدفنه عليه السلام هناك2، ويقال: إنّه دفن بقيوده وإنّه أوصى بذلك3، وإنّ تلك البقعة كان قد ابتاعها لنفسه قبل وفاته4.

 
أَبْكِي لِنَعْشِكَ وَالأَبْصَارُ تَرْمُقُهُ     مُلْقىً عَلَى الجِسْرِ لَا يَدْنُو لَهُ أَحَدُ
 
أَبْكِيكَ مَا بَيْنَ حَمَّالِينَ أَرْبَعَةٍ      تُشَالُ جَهْراً وَكُلُّ النَّاسِ قَدْ شَهِدُوا 
 
 

1- أي خلع لباس الزينة ولبس أثواب المصيبة.
2- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 93 و96.
3- النوريّ المحدّث الشيخ حسين: مستدرك الوسائل ج 2 ص485، عن الشيخ النوبختيّ في كتاب الفرق.
4- الطبريّ الإماميّ ابن رستم: دلائل الإمامة ص 306.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

73

الإمام الكاظم عليه السلام وجدّه الحسين عليه السلام

 سيّدي يا باب الحوائج يا موسى بن جعفر، بالرغم من عظم مصابك، وجليل رزئك، فقد قضيت مسموماً غريباً، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، هذه المصيبة التي كانت في قلبك الشريف، كما يروى عن ولدك الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: "كان أبي صلوات الله عليه إذا دخل شهر المحرّم لا يرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين صلوات الله عليه"1..

 
لقد احمرّ جسدك واخضرّ واسودّ من أثر السمّ، ولكن لم تمزّقه السيوف وتعلوه الأسنّة وتنفذ فيه السهام، ولم تملأه الجراحات، وتغسّله الدماء النازفات، ولم يرفع رأسك على رأس الرمح، ولم يدسّ جسدك بحوافر الخيل، كما صنعوا بجدّك الحسين عليه السلام..، ولم تُسْبَ نساؤك وعيالك، كما سبيت نساء جدّك الحسين عليه السلام وعياله..
 
يصرخ الناعي بقلب مالوم              ينده ودمع العين مسجوم
 
موسى بن جعفر مات مسموم         او ودّع الدنيا مثل هاليوم 
 
 

1- الصدوق: الأمالي ص 191.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

74

الإمام الكاظم عليه السلام وجدّه الحسين عليه السلام

 لكن أگول اتخفّ الهموم             ما مات ومن الماي محروم


ولا سلبوا من عنده الهدوم           اولا بالحوافر سحگته القوم

اويلاه يبو اليمه يمظلوم              البعده انسبت زينب وكلثوم

لَيْسَ هَذَا لِرَسُولِ اللهِ يَا               أُمَّةَ الطُّغْيانِ وَالبَغْيِ جَزَا

جَزَرُوا جَزْرَ الأَضَاحِي نَسْلَهُ           ثُمَّ سَاقُوا أَهْلَهُ سَوْقَ الإِمَا 

في الصلاة عليه:

"أللهمّ صلِّ على محمّدٍ وأهل بيته وصلِّ على موسى بنِ جعفر وصيّ الأبرار، وإمامِ الأخيار، وعيبةِ الأنوار، ووارثِ السكينة والوقار، والحكم والآثار، الذي كان يحيي الليل بالسهر إلى السحر، بمواصلة الاستغفار، حليف السجدة الطويلة، والدموع الغزيرة، والمناجاة الكثيرة، والضَّراعات المتّصلة الجميلة، ومقرّ النُّهى والعدل، والخير والفضل، والنَّدى والبذل، ومألف البلوى والصبر، والمضطهد بالظلم، والمقبور بالجور، والمعذّب في قعر السجون وظلم المطامير، ذي الساق المرضوض بحلق القيود، والجنازة المنادى عليها بذلّ الاستخفاف، والوارد على جدّه المصطفى وأبيه المرتضى وأمّه سيّدة النساء، بإرث مغصوب، وولاء مسلوب، وأمر مغلوب، ودم مطلوب وسمّ مشروب. أللهمّ وكما صبر على غليظ المحن، وتجرّع (فيك) غصص الكرب، واستسلم لرضاك، وأخلص الطاعة لك، ومحض الخشوع واستشعر الخضوع، وعادى البدعة وأهلها، ولم 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

75

الإمام الكاظم عليه السلام وجدّه الحسين عليه السلام

 يلحقه في شيء من أوامرك ونواهيك لومة لائم، صلِّ عليه صلاة نامية منيفة زاكية توجب له بها شفاعة أمم من خلقك، وقرون من براياك، وبلّغه عنّا تحيّة وسلاماً، وآتنا من لدنك في موالاته فضلاً وإحساناً، ومغفرةً ورضواناً، إنّك ذو الفضل العميم، والتجاوز العظيم، برحمتك يا أرحم الراحمين"1.

 
في زيارته:
 
ورد في فضل زيارته عليه السلام الفضل الكبير والأجر الجزيل:
 
فعن الحسين بن محمّد الأشعريّ القمّي، قال: قال لي الرضا عليه السلام: "من زار قبر أبي ببغداد كان كمن زار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقبر أمير المؤمنين، إلّا أنّ لرسول الله وأمير المؤمنين فضلهما".
 
وعن الحسن بن عليّ الوشّاء، قال: قلت للرضا عليه السلام: ما لمن زار قبر أبيك أبي الحسن عليه السلام، فقال: "زره"، قال: فقلت: فأي شيء فيه من الفضل، قال: "له مثل من زار قبر الحسين عليه السلام"2.
 
وعن عليّ بن ميسّر عن أبي سنان قال: قلت للرضا عليه السلام ما لمن زار أباك؟ قال: "الجنّة، فزره"3.
 
وعن محمّد بن عيسى بن عبيد، عمّن ذكره، عن أبي الحسن عليه السلام5 ، قال: "تقول ببغداد: السلام عليك يا وليّ الله، السلام عليك يا حجّة
 
 
 

1- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 99 ص 17، عن مصباح الزائر للسيّد ابن طاووس.
2- ابن قولويه: كامل الزيارات ص 497- 499.
3- الطوسيّ: تهذيب الأحكام ج 6 ص 82.
4- الظاهر أنّه الهادي عليه السلام.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

76

الإمام الكاظم عليه السلام وجدّه الحسين عليه السلام

  الله، السلام عليك يا نور الله في ظلمات الأرض، السلام عليك يا من بدا لله في شأنه، أتيتك عارفاً بحقّك، معادياً لأعدائك، فاشفع لي عند ربّك يا مولاي". قال: "وادع الله واسأل حاجتك"، قال: "وسلِّم بهذا على أبي جعفر محمّد بن عليّ عليهما السلام"1.

 
وقال: قال عليه السلام: "إذا أردت زيارة موسى بن جعفر ومحمّد بن عليّ: فاغتسل وتنظّف والبس ثوبيك الطاهرين، وزر قبر أبي الحسن موسى بن جعفر ومحمّد بن عليّ بن موسى الرضا، وقل حين تصير عند قبر موسى بن جعفر عليهما السلام: السلام عليك يا وليّ الله، السلام عليك يا حجّة الله، السلام عليك يا نور الله في ظلمات الأرض، السلام عليك يا من بدا لله في شأنه. أتيتك زائراً عارفاً بحقّك، معادياً لأعدائك، موالياً لأوليائك، فاشفع لي عند ربّك يا مولاي. ثمّ سل حاجتك.."الخ2.
 
وقال عليه السلام: "وتقول عند قبر أبي الحسن عليه السلام ببغداد، ويجزي في المواطن كلّها أن تقول: السلام على أولياء الله وأصفيائه، السلام على أمناء الله وأحبّائه، السلام على أنصار الله وخلفائه، السلام على محالّ معرفة الله، السلام على مساكن ذكر الله، السلام على مظاهر أمر الله ونهيه، السلام على الدعاة إلى الله، السلام على المستقرّين في مرضاة الله، السلام على الممحّصين في طاعة الله، السلام على الأدلّاء على الله، السلام على الذين من والاهم فقد والى الله، ومن
 
 
 

1- ابن قولويه: كامل الزيارات ص 501- 502.
2- المصدر السابق ص 502.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

 


77

الإمام الكاظم عليه السلام وجدّه الحسين عليه السلام

  عاداهم فقد عادى الله، ومن عرفهم فقد عرف الله، ومن جهلهم فقد جهل الله، ومن اعتصم بهم فقد اعتصم بالله، ومن تخلّى منهم فقد تخلّى من الله، أُشهد الله أنّي سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم، مؤمن بسرّكم وعلانيتكم، مفوّض في ذلك كلّه إليكم، لعن الله عدوّ آل محمّد من الجنّ والإنس، وأبرأ إلى الله منهم، وصلّى الله على محمّد وآله. وهذا يجزي في المشاهد كلّها، وتكثر من الصلاة على محمّد وآله، وتسمّي واحداً واحداً بأسمائهم، وتبرأ إلى الله من أعدائهم، وتخيَّر لنفسك من الدعاء وللمؤمنين والمؤمنات"1.

 
وفي وداع أبي الحسن موسى عليه السلام: "تقف على القبر كوقوفك أوّل مرّة للزيارة وتقول: السلام عليك يا مولاي يا أبا الحسن ورحمة الله وبركاته، أستودعك الله واقرأ عليك السلام آمنّا بالله وبالرسول وبما جئت به ودللت عليه، أللهمّ اكتبنا مع الشاهدين"2.
 
 
 

1- ابن قولويه: كامل الزيارات ص 503- 504.
2- الطوسيّ: تهذيب الأحكام ج 6 ص 83.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

78

خاتمة في المراثي

 ممّا رثاه به عليه السلام القاضي كما في المناقب: 

 
أَتُقْتَلُ يَا ابْنَ الشَّفِيعِ المُطَاعْ               وَيَا ابْنَ المَصَابِيحِ وَابْنَ الغُرَرْ
 
وَيَا ابْنَ الشَّرِيعَةِ وَابْنَ الكِتَابْ             وَيَا ابْنَ الرِّوَايَةِ وَابْنَ الأَثَرْ
 
مَنَاسِبُ لَيْسَتْ بِمَجْهُولَةٍ                  بِبَدْوِ البِلَادِ وَلَا بِالحَضَرْ
 
مُهَذَّبَةٌ مِنْ جَمِيعِ الجِهَاتْ                 وَمِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ أَوْ كَدَرْ1 
 
 

1- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 328- 329.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

79

خاتمة في المراثي

 رثاء الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ:


قَضَى حَيَاتَهُ مَدَى الزَّمَانِ                    وَهْيَ حَيَاةُ عَالَمِ الإِمْكَانِ

في السِّجْنِ وَالحَدِيدِ وَالعَذَابِ                يَا لَعَظيِمِ الرُّزْءِ وَالمُصَابِ

وَنُورُهُ في ظُلْمَةِ المَطْمُورَه                    أَنَارَ وَجْهَ قُطْرَيِ المَعْمُورَه

بَلِ الجِهَاتِ السِّتَّ وَالسَّبْعَ العُلَى             والمَلَأُ الأَعْلَى اسْتَنَارَتْ كَمَلَا

وَيْلٌ لِهَارُونَ الخَنَا أَخْنَى عَلَى                مُوسَى رَبِيبِ المَجْدِ بَلْ رَبِّ العُلَا

مِنْ بَعْدِ أَنْ قَضَى عَلَى صَلَاتِهِ                 َقْطَعُهَا لَا بَلْ عَلَى حَيَاتِهِ

سَيَّرَهُ مِنْ طَيْبَةَ الغَرَّاءِ                        ظُلْمَاً إِلَى بَصْرَةَ وَالزَّوْرَاءِ

وَلَا تَخَلْ أَخْرَجَهُ عَنْ وَطَنِهْ                   لَا بَلْ أَزَالَ رُوحَهُ عَنْ بَدَنِهْ

كَيْفَ وَأَيْنَ الرَّوْضَةُ المُنَوَّرَه                  مِنْ مَحْبِسِ السِّنْدِيِّ رَأْسِ الفَجَرَه

وَلَمْ يَزَلْ يُعَالِجُ الحُبُوسَا                      وَكَانَ كُلُّ يَوْمِهِ عَبُوسَا

وَعَضَّهُ القَيْدُ فَرَضَّ سَاقَهْ                      لَهْفِي لِمَنْ أَمَضَّهُ وِثَاقُهْ

وَلَمْ يَزَلْ مُصَفَّدَاً مُكَبَّلَا                     حَتَّى قَضَى بِالسُّمِّ مُوسَى الأَجَلَا

آَنَسَ نَارَاً مِنْ سَمُومِ السُّمِّ                   فَزَادَهُ غَمَّاً عَقِيبَ غَمِّ

نُورُ الهُدَى خَبَا فَأَظْلَمَ الفَضَا                 يَا سَاعَدَ اللهُ إِمَامَنَا الرِّضَا

وَاعَجَبَا مَنْ هُوَ أَزْكَى ثَمَرَه                 مِنْ دَوْحَةِ المَجْدِ الأَثِيلِ المُثْمِرَه 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

80

خاتمة في المراثي

 مِنْ دَوْحَةِ العَلْيَاءِ وَالفُتُوَّه           مِنْ دَوْحَةِ التَّنْزِيلِ والنُّبُوَّه

 
كَيْفَ قَضَى بِالرُّطَبِ المَسْمُومِ       عَلَى يَدِ ابْنِ شَاهِكِ المَشُومِ
 
أَمِثْلُ مُوسَى وَارِثِ الرِّسَالَه         يُحْمَلُ نَعْشُهُ مَعَ الحَمَّالَه
 
نَعْشٌ تَطُوفُ حَوْلَهُ الأَفْلَاكُ         تَبَرَّكَتْ بِحَمْلِهِ الأَمْلَاكُ
 
وَلَمْ يُشَيِّعْهُ مِنَ النَّاسِ أَحَدْ         فَيَا لَهَا مِنْ غُرْبَةٍ بِغَيْرِ حَدّْ
 
بَلْ شَيَّعَهُ الزَّفَرَاتُ المُحْرِقَهْ          مِنْ أَنْفُسٍ قُلُوبُهَا مُحْتَرِقَهْ
 
شَيَّعَهُ العُقُولُ وَالأَرْوَاحُ             لَهُمْ عَلَى غُرْبَتِهِ نِيَاحُ
 
وَكَيْفَ نَعْشُ صَاحِبِ الخِلَافَهْ       يُرْمَى عَلَى الجِسْرِ مِنَ الرُّصَافَهْ
 
تَنُوحُ في غُرْبَتِهِ عَلَيْهِ               خَشْخَشَةُ الحَدِيدِ في رِجْلَيْهِ
 
نَاحَتْ عَلَيْهِ زُمَرُ المَلَائِكِ           بَلْ نَاحَتِ الحُوْرُ عَلَى الأَرَائِكِ
 
أَمْ كَيْفَ يُسْتَخَفُّ بِالنِّدَاءِ          عَلَيْهِ وَهْوَ أَعْظَمُ الأَرْزَاءِ؟
 
فَيَا لَذَاكَ الهَتْكِ وَالجَسَارَه           عَلَى سَلِيلِ القُدْسِ وَالطَّهَارَه
 
نَادَى عَلَيِْه الرِّجْسُ بِالتَّحْقِيرِ        وَإِنَّهُ ابْنُ آَيَةِ التَّطْهِيرِ
 
أَيُذْكَرُ الطَّيِّبُ وَابْنُ الطَّيِّبِ         بِأَفْحَشِ القَوْلِ فَيَا لَلَعَجَبِ!
 
وَهْوَ ابْنُ مَنْ نُودِيَ بِاسْمِهِ عَلَى    مَنَابِرِ القُدْسِ بِعِزٍّ وَعُلَى
 
نُودِيَ بِاسْمِهِ العَظِيمِ السَّامِي      في الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ بِالإِعْظَامِ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

81

خاتمة في المراثي

 أَحُجَّةُ الحَقِّ إِمَامُ الرَّافِضَهْ           بَلْ حُجَّةُ البّاطِلِ مِنْهُ دَاحِضَهْ

 
وَلَيْسَ في الغَيْبِ وَلَا الشَّهَادَهْ      سِوَاهُ قَائِدٌ إِلَى السَّعَادَهْ
 
بَلْ رَفَضَ البَاطِلَ رَفْضَاً رَفْضَا      وَمَحَضَ الحَقَّ الصَّرِيحَ مَحْضَا
 
فَلَا وَرَبِّ العَرْشِ لَوْلَا الكَاظِمُ      لَمْ يَكُ لِلدِّينِ الحَنِيفِ نَاظِمُ1
 
 
 

1- الأصفهاني الشيخ محمد حسين: الأنوار القدسية ص 91-94
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

82

خاتمة في المراثي

 رثاء السيّد صالح القزوينيّ:


إِعْطِفْ عَلَى الكَرْخِ مِنْ بَغْدَادَ وَابْكِ بِهَا       كَنْزاً لِعِلْمِ رَسُولِ اللهِ مَخْزُونَا

مُوسَى بْنُ جَعْفَرَ سِرُّ اللهِ وَالعَلَمُ                المُبِينُ في الدِّينِ مَفْرُوضَاً وَمَسْنُونَا

بَابُ الحَوَائِجِ عِنْدَ اللهِ وَالسَّبَبُ                 المُوصُولُ بِاللهِ غَوْثُ المُسْتَغِيثِينَا

أَلكَاظِمُ الغَيْظَ عَمَّنْ كَانَ مُقْتَرِفَاً                ذَنْبَاً وَمَنْ عَمَّ بِالحُسْنَى المُسِيئِينَا

يَا ابْنَ النَّبيّين كَمْ أَظْهَرْتَ مُعْجِزَةً              في السِّجْنِ أَزْعَجْتَ فِيهَا الرِّجْسَ هَارُونَا!

وَكَمْ بِكَ اللهُ عَافَى مُبْتَلَىً وَلَكَمْ                شَافَى مَرِيْضَاً وَأَغْنَى فِيكَ مِسْكِينَا!

لَمْ يُلْهِكَ السِّجْنُ عَنْ هَدْيٍ وَعَنْ نُسُكٍ        إِذْ لَا تَزَالُ بِذِكْرِ اللهِ مَفْتُونَا

وَكَمْ أَسَرُّوا بِزَادٍ أَطْعَمُوكَ بِهِ                   سُمّاً فَأَخْبَرْتَهُمْ عَمَّا يُسِرُّونَا!

وَلِلطَّبِيبِ بَسَطْتَ الكَفَّ تُخْبِرُهُ                لَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهَا السُّمُّ تَمْكِينَا

بَكَتْ عَلَى نَعْشِكَ الأَعْدَاءُ قَاطِبَةً               مَا حَالُ نَعْشٍ لَهُ الأَعْدَاءُ بَاكُونَا

رَامُوا البَرَاءَةَ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ دَمِهِ                وَاللهُ يَشْهَدُ مَا كَانُوا بَرِيئِينَا

كَمْ جَرَّعَتْكَ بَنُو العَبَّاسِ مِنْ غُصَصٍ            تُذِيبُ أَحْشَاءَنَا ذِكْراً وَتُشْجِينَا

أَبْكَيْتَ جَدَّيْكَ وَالزَّهْرَاءَ أُمَّكَ وَ                الأَطْهَارَ آَبَاءَكَ الغُرَّ المَيَامِينَا

طَالَتْ لِطُولِ سُجُودٍ مِنْهُ ثَفْنَتُهُ                  فَقَرَّحَتْ جَبْهَةً مِنْهُ وَعِرْنِينَا

رَأَى فَرَاغَتَهُ في السِّجْنِ مُنْيَتَهُ                    وَنِعْمَةً شَكَرَ البَارِي بِهَا حِينَا 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

83

خاتمة في المراثي

 يَا وَيْلَ هَارُونَ لَمْ تَرْبَحْ تِجَارَتُهُ          بِصَفْقَةٍ كَانَ فِيهَا الدَّهْرُ مَغْبُونَا

 
لَيْسَ الرَّشِيدُ رَشِيداً في سِيَاسَتِهِ          كَلَّا وَلَا ابْنُهُ المَأْمُونُ مَأْمُونَا
 
تَاللهِ مَا كَانَ مِنْ قُرْبٍ وَلَا رَحِمٍ          بَيْنَ المُصَلِّينَ لَيْلاً وَالمُغَنِّينَا
 
لَهْفِي لِمُوسَى بِهِمْ طَالَتْ بَلِيَّتُهُ           وَقَدْ أَقَامَ بِهِمْ خَمْساً وَخَمْسِينَا
 
يَزِيدُهُمْ مُعْجِزَاتٍ كُلَّ آوِنةٍ              وَنَائِلاً وَلَهُ ظُلْماً يَزِيدُونَا
 
لَمْ يَحْفَظُوا مِنْ رَسُولِ اللهِ مَنْزِلَهُ        وَلَا لِحُسْنَاهُ بِالحُسْنَى يُكَافُونَا
 
بَاعُوا لَعَمْرِي بِدُنْيَا الغَيْرِ دِينَهُمُ        جَهْلاً فَمَا رَبِحُوا دَنْيَا وَلَا دِيْنَا
 
في كُلِّ يَوْمٍ يُقَاسِي مِنْهُمُ حَزَناً        حَتَّى قَضَى في سَبِيلِ اللهِ مَحْزُونَا1
 
 
 

1- الشاكريّ الحاج حسين: موسوعة المصطفى والعترة ج 11 ص 483- 485.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

84

خاتمة في المراثي

 رثاء الشيخ محمّد عليّ اليعقوبيّ:


بِنَفْسِي الَّذِي لَاقَى مِنَ القَوْمِ صَابِراً         أَذَىً لَوْ يُلَاقِي يَذْبُلاً سَاخَ يَذْبُلُ

بَعِيْدَاً عَنِ الأَوْطَانِ وَالأَهْلِ لَمْ يَزَلْ          بِبَغْدَادَ مِنْ سِجْنٍ لِآَخَرَ يُنْقَلُ

يُعَانِي وَحِيداً لَوْعَةَ السِّجْنِ مُرْهَقَاً         وَيُرْسَفُ بِالأَصْفَادِ وَهْوَ مُكَبَّلُ

وَدَسَّ لَهُ السُّمَّ ابْنُ شَاهِكَ غِيلَةً            فَأَدْرَكَ مِنْهُ الرِّجْسُ مَا كَانَ يَأْمُلُ

وَمَاتَ سَمِيماً حَيْثُ لَا مُتَعَطِّفٌ            لَدَيْهِ وَلَا حَانٍ عَلَيْهِ يُعَلِّلُ


قَضَى فَغَدَا مُلْقَىً عَلَى الجِسْرِ نَعْشُهُ        لَهُ النَّاسُ لَا تَدْنُو وَلَا تَتَوَصَّلُ


وَنَادَوْا عَلَى جِسْرِ الرُّصَافَةِ حَوْلَهُ          نِدَاءً تَكَادُ الأَرْضُ مِنْهُ تُزَلْزَلُ


فَقُلْ لِبَنِي العَبَّاسِ فِيمَ اعْتِذَارُهَا            عَنِ الآلِ لَوْ أَنَّ المَعَاذِيرَ تُقْبَلُ؟


بِحَيْثُ رَسُولُ اللهِ وَالطُّهْرُ فَاطِمٌ            خَصِيمَانِ وَالرَّحْمَنُ يَقْضِي وَيَفْصِلُ


رَمَتْ قَبْلَهَا حَرْبٌ فَأَصْمَتْ سِهَامَهَا       وَسَهْمُ بَنِي الأَعْمَامِ أَدْمَى وَأَقْتَلُ


فَيَا بْنَ الأُلَى عَنْ حُبِّهِمْ وَوَلَائِهِمْ           جَمِيْعُ الوَرَى يَوْمَ القِيَامَةِ تُسْأَلُ
 

خُذُوا يَوْمَ حَشْرِي إِنْ وَهُنْتُ بِسَاعِدِي     فَإِنِّي بِأَعْبَاءِ الجَرَائِمِ مُثْقَلُ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

 


85

خاتمة في المراثي

 وقال أيضاً يرثيه عليه السلام: 

 

 
مَا أَنصَفَتْكَ بَنُو الأَعْمَامِ إِذْ قَطَعَتْ              أَوَاصِراً بِرَسُولِ اللهِ تَتَّحِدُ
 
أَبْكِيكَ رَهْنَ السُّجُونِ المُظْلِمَاتِ وَقَدْ          ضَاقَ الفَضَا وَتَوَالَى حَوْلَكَ الرَّصَدُ
 
تُمْسِي وَتَغْدُو بَنُو العَبَّاسِ في مَرَحٍ             وَأَنْتَ في مَحْبِسِ السِّنْدِيِّ مُضْطَهَدُ!
 
دَسُّوا إِلَيْكَ نَقِيعَ السُّمِّ في رُطَبٍ               فَاخْضَرَّ لَوْنُكَ مُذْ ذَابَتْ بِهِ الكَبِدُ
 
حَتَّى قَضَيْتَ غَرِيْبَ الدَّارِ مُنْفَرِداً               لِلَّهِ نَاءٍ غَرِيْبُ الدَّارِ مُنْفَرِدُ
 
أَبْكِي لِنَعْشِكَ وَالأَبْصَارُ تَرْمُقُهُ                 مُلْقَىً عَلَى الجِسْرِ لَا يَدْنُو لَهُ أَحَدُ
 
أَبْكِيكَ مَا بَيْنَ حَمَّالِينَ أَرْبَعَةٍ                  تُشَالُ جَهْراً وَكُلُّ النَّاسِ قَدْ شَهِدُوا
 
نَادَوْا عَلَيْهِ نِدَاءً تَقْشَعِرُّ لَهُ                       السَّبْعُ الطِّبَاقُ فَهَلَّا زُلْزِلَ البَلَدُ
 
لَمْ تَجْتَمِعْ هَاشِمُ البَطْحَا لَدَيْهِ وَلَا              الأَشْرَافُ مِنْ مُضَرِ الحَمْرَاءِ تَحْتَشِدُ
 
كَأَنَّهَا مَا دَرَتْ أَنَّ العَمِيدَ مَضَى                وَمِنْ رُوَاقِ عُلَاهَا قَدْ هَوَى العَمَدُ1 
 
 
 

1- الشاكريّ الحاج حسين: موسوعة المصطفى والعترة ج 11 ص 499- 501.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
108

86
كاظم الغيظ شهادة الإمام موسى الكاظم عليه السلام