المقدمة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على رسوله محمّد وآل بيته الطيّبين الطاهرين المظلومين...
وبعد..
عن إمامنا الرضا عليه السلام: "إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهليّة يحرّمون فيه القتال، فاستحلّت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرمت النيران في مضاربنا، وانتُهب ما فيها من ثِقلنا، ولم تُرع لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم حرمةٌ في أمرنا, إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا، بأرض كربٍ وبلاء، وأورثنا الكرب والبلاء، إلى يوم الانقضاء..."1.
وفي الزيارة المنسوبة إلى الناحية المقدّسة: "السلام على الأجساد العاريات، السلام على الجسوم الشاحبات، السلام على الدماء السائلات، السلام على الأعضاء المقطّعات، السلام على الرؤوس المشالات، السلام على النسوة البارزات"2 , إلى أن يقول: "وسبي أهلك كالعبيد، وصفّدوا في الحديد، فوق أقتاب المطيّات، تلفح وجوههم حرّ الهاجرات، يُساقون في البراري والفلوات، أيديهم مغلولة إلى الأعناق، يُطاف بهم في الأسواق, فالويل للعصاة الفسّاق..." 3.
1 - الصدوق: الأمالي ص 190.
2- ابن المشهديّ: المزار ص 498.
3- المصدر السابق ص 505.
5
1
المقدمة
هذه بعض مشاهدٍ من فوادح ونوائب جرت على الكرام الأطائب من آل بيت الرسول ونساء سبطه مهجة الرسول، وأولاده وأبنائه قرّة عين الزهراء البتول، تحزن لها القلوب وتُدمى، وتسيل المدامع عليها وتُبكى، كيف لا؟ وقد بكت السماء عليه دما، وبكاه كلّ شيءٍ ما يرى ولا يُرى..
ولسنا نجازف القول إن قلنا، إنّ ما جرى بعد عاشوراء لا يقلّ فجيعة، وليس دون ما جرى في اليوم العاشر بليّةً، فقد أُبرزت فيه كرائم الوحي ومخدّرات الرسالة، وفيهم بقيّة الماضين زين العابدين عليه السلام وبضعُ نساءٍ وأطفال ليس لهم حامٍ ولا حميّ، يُدار بهم من بلدٍ إلى بلد، ويُساقون كما تُساق الأسارى... فيا لله ولهذه الفاجعة الأليمة، ما أصعبها وأمضّها وآلمها على قلب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، هذا.. وقد أوصى بعترته وأهل بيته...
ليس هذا لِرسولِ اللهِ يا أُمّة الطُّغيانِ والبغيِ جزا
وغير خفيٍّ على أحد أنّ صوت هذا الموكب وهو على تلك الحالة المحزنة المفجعة، قد أقضّ مضاجع الطغاة، ومنع عيني يزيد وأعوانه الرقاد، وزلزل بنيانهم وأهوى به إلى جهنّم وبئس المهاد، فهو صوت المظلوم وصرخته، ودعاؤه وندبته.. الذي ليس دونه حجاب، وتُفتح له السماء باباً بعد باب.
وإنّ من عوامل بقاء هذا الصوت المدوّي بوجه الطغاة هو التذكير به في كلّ عصر ومصر، من خلال إقامة مجالس العزاء وإثارة المشاعر بالتباكي والبكاء، تقرّباً إلى الله تعالى ومودّة للرسول وآل بيته المظلومين...
ومن هنا قام معهد سيّد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسينيّ بإعداد هذا الكتاب "مجالس السبايا" ليكون عوناً للأخوة القرّاء في رثائهم ومجالسهم..
6
2
المقدمة
في هذه المناسبة الأليمة.. والتي تمتدّ منذ يوم شهادة الإمام الحسين عليه السلام في العاشر من المحرّم وحتى يوم الأربعين ورجوعهم إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم..
ونذكِّر في هذه المقدّمة بما يلي:
1- تناولنا العديد من المجالس والمصائب في هذا الكتاب ولكنّنا لم نستقصي كلّ ما يذكر في هذا المجال.
2- حاولنا- قدر الإمكان- عرض المجالس التي يتداولها القرّاء عادة بعد عاشوراء، مقتصرين على أهمّها.
3- اقتصرنا على ذكر القصائد والنعي والأبيات الشعبيّة والمصيبة مع الإشارة إلى الربط أو ما يسمى بالـ "الـگوريز"، دون ذكر المحاضرة اتّكالاً منّا على قدرات الأخوة القرّاء وجدارتهم.
وفي الختام، فأملنا أن يلقى هذا العمل رضا الله تعالى ورضا نبيّه وأهل بيته عليهم السلام، وأن يتقبّلوه منّا بأحسن القبول، وأن يرزقنا الله شفاعتهم ويحشرنا معهم إنّه سميع مجيب..
معهد سيّد الشهداء عليه السلام
للمنبر الحسينيّ
7
3
مجلس سلب الحسين عليه السلام ورضّ جسده الشريف
مجلس سلب الحسين عليه السلام ورضّ جسده الشريف
ولقد بكيتُ لِقتلِ آلِ مُحمّدٍ بِالطفِّ حتّى كُلّ عُضوٍ مدمعُ
عُقِرتْ بناتُ الأعوجيّة1 هل درتْ ما يُستباحُ بِها وماذا يُصنعُ
وحريمُ آلِ مُحمّدٍ بين العِدىْ نهبٌ تقاسمهُ اللئامُ الرُّضّعُ2
تلك الضعائنُ كالإماءِ متى تُسقْ يُعنِّفْ بهنّ وبالسياطِ تُقنّعُ
مِن فوقِ أقتابِ الجمالِ يشلُّها لُكعٌ على حنقٍ وعبدٌ أكوعُ
مثلُ السبايا بل أذلّ يُشقُّ مِنـ هُنّ الخِمارُ ويُستباحُ البُرقُعُ
1- بنات الأعوجيّة: الخيل منسوبة إلى أعوج، وهو فحل كريم قيل: لم يكن للعرب أشهر ولا أكثر نسلاً منه.
2- الرضّع: جمع راضع، وهم اللئام أيضاً، وأصله أنّ رجلاً كان يرتضع النّاقة والشاة بفمه حتى لا يعلم أحدٌ بأنّه حلبها، لئلّا يطلب منه الحليب لشدّة بخله ولؤمه.
9
4
مجلس سلب الحسين عليه السلام ورضّ جسده الشريف
فمُصفّدٌ في قيدِهِ لا يُفتدى وكريمةٌ تُسبى وقِرطٌ يُنزعُ
تاللهِ لا أنسى الحُسين وشِلوهُ تحْت السنابِكِ بالعراءِ مُوزّعُ
مُتلفِّعاً حُمر الثيابِ وفي غدٍ بالخُضرِ في فردوْسِهِ يتلفّعُ
تطأُ السنابكُ صدرهُ وجبينهُ والأرضُ ترجُفُ خِيفةً وتضعْضعُ
والشمسُ ناشِرة الذوائِبِ ثاكِلٌ والدهرُ مشقوقُ الرِداءِ مُقنّعُ
لهفِي على تِلك الدِّماءِ تُراقُ في أيدي أُميّة عُنوةً وتُضيّع1
يحسين يومك شده بالي وارخصت دمعي الكان غالي
لوانّك يخويه اتشوف حالي حال الغريبه بغير والي
ابراس الرمح راسك گـبالي
التمهيد للمصيبة ( گـوريز ):
بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام ارتفعتْ في ذلك الوقت غُبرةٌ شديدةٌ سوداءُ مُظلمةٌ، فيها ريحٌ حمراءُ، لا يُرى فيه عينٌ ولا أثر،
1- القصيدة لابن أبي الحديد المعتزليّ
10
5
مجلس سلب الحسين عليه السلام ورضّ جسده الشريف
حتىّ ظنّ القومُ أنّ العذاب قد جاءهم. فلبثوا كذلك ساعةً، ثمّ انجلت الغبرة عنهم.
وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: أنّه قال: "لمّا ضُرب الحسينُ بنُ علي بالسيف وسقط، وابتُدِر ليُقطع رأسهُ، نادى مُنادٍ من بِطنان العرش: ألا أيّتها الأمّة المتحيّرة الضالّة بعد نبيّها، لا وفّقكم الله لأضحىً ولا فطر – ثمّ قال -: لا جرم – والله – ما وُفّقوا، ولا يوفّقون حتى يثور ثائرُ الحسين بن عليّ عليه السلام".
المصيبة:
وكيف يوفّقون وقد أقبل القومُ على سلبِ الحسين عليه السلام، فلم يُبقوا للحسينِ شيئاً إلّا سلبوهُ، حتىّ أنّ بجدل بن سليم الكلبيّ- لعنه الله- لمّا لم يجد شيئاً يسلبه، نظر وإذا بخاتم في خنصرِ الحسينِ عليه السلام، كلّما عالجه ليخرجه لم يتمكّن؛ لأنّ الدماء والتراب قد جمُدت عليه، فتناول قطعة سيف إلى جانبه، وصار يحزُّ إصبع الحسينِ عليه السلام إلى أن فصل الإصبع وأخذ الخاتم1.
كأنّي بزينب تخاطبُهُ:
1- والظاهر ان هذا غير الخاتم الذي أوصى به الإمام عليه السلام إلى ولده علي بن الحسين عليه السلام فجعل خاتمه في إصبعه وفوض إليه أمره كما عن الإمام الصادق عليه السلام.
11
6
مجلس سلب الحسين عليه السلام ورضّ جسده الشريف
يخايب خلي اخويه احسين ساعه أغمضله ومد للموت باعه
ابن النبي الحلوه اطباعه دخلّي ابراح روح احسين تظهر
وبعد ذلك نادى عمرُ بنُ سعدٍ في أصحابِهِ: من ينتدبُ للحسينِ، فيوطئ الخيل ظهره وصدره؟ فانتدب منهم عشرةً، فداسوا جسد الحسينِ عليه السلام بحوافرِ خيلِهِم حتّى رضُّوا ظهرهُ وصدرهُ، وقالوا لابن زيادٍ مفتخرين: نحنُ الذين وطأنا بخيولِنا ظهر الحسينِ عليه السلام حتّى طحنّا جناجِن صدرِه (يعني كانت تُسمعُ أصوات تكسيرِ أضلاعِ أبي عبدِ الله عليه السلام)..
وأختُهُ زينبُ واقفةٌ تنظرُ وتصرُخُ وتقول: يا قومُ، أما فيكُم مسلمٌ يدفُنُ هذا الغريب؟!كأنّي بها توجّهتْ نحو أهلِها ونادتْ:
يهلنه احسينكم رضوا اضلوعه اوشاف الموت روعه بعد روعه
يصد لعياله اوتسكب ادموعه يخافنها بعد عينه تيسر
ويُروى أنّ هذا ما أبكى الإمام الحجّة عندما يقولُ لجدِّهِ الحسينِ في زيارةِ الناحيةِ: "وهويت إلى الأرضِ صريعاً تطؤك الخيولُ بحوافرِها، وتعلوك الطغاةُ ببواتِرِها" إلى أن يقول: "فلئن أخرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محارباً، ولمن نصب لك العداوة مناصباً، فلأندبنّك صباحاً ومساءً،
12
7
مجلس سلب الحسين عليه السلام ورضّ جسده الشريف
ولأبكينّ عليك بدل الدموع دماً، حسرةً عليك وتأسّفاً على ما دهاك وتلهّفاً، حتى أموت بلوعة المصاب وغصّة الاكتياب".
أقول سيّدي يا بن الحسن: متى الفرجُ؟ متى ننادي؟ يا لثاراتِ الحسينِ... "أين الطالب بدم المقتول بكربلاء"..
يروى أنّه: إذا ظهر القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف قام بين الركن والمقام وينادي بنداءات خمسة: الأوّل: ألا يا أهل العالم أنا الإمام القائم، الثاني: ألا يا أهل العالم أنا الصمصام1 المنتقم، الثالث: ألا يا أهل العالم إنّ جدّي الحسين قتلوه عطشاناً، الرابع: ألا يا أهل العالم إنّ جدّي الحسين عليه السلام طرحوه عرياناً، الخامس: ألا يا أهل العالم إنّ جدّي الحسين عليه السلام سحقوه عدواناً.
آه ينجل العسكري عيف النوم واترك وخذ بالثار يالمذخور وترك
علاما خيول اميه ادوس وترك صدر جدك بحرب الغاضريه
(سيّدي) ماذا يُهيجُك إنْ صبرت لِوقعةِ الطّفِ الفظيعة
أترى تجِيءُ فجيعةٌ بِأمضّ مِن تِلك الفجِيعة
حيثُ الحُسينُ على الثرى خيلُ العِدى طحنتْ ضُلُوعه
1- الصمصام: السيف القاطع الذي لا ينثني.
13
8
مجلس حرق الخيام وفرار بنات الرسالة
مجلس حرق الخيام وفرار بنات الرسالة
فإنْ يُمْسِ مُغْبرّ الجبينِ فطالما ضُحى الحرْبِ في وجْهِ الكتيبةِ غبّرا
وإنْ يقضِ ظمآناً تفطّر قلْبُهُ فقد راع قلْب الموتِ حتّى تفطّرا
سطا وهو أحْمى منْ يصُونُ كريمةً وأشْجعُ من يقتادُ للحرْبِ عسكرا
قضى بعد ما ردّ السُيُوف على القنا ومُرْهفُهُ فيها وفي الموتِ أثّرا
تعثّر حتىّ مات في الهامِ حدُّهُ وقائِمُهُ في كفِّهِ ما تعثّرا
كأنّ أخاهُ السيف أعْطِي صبْرهُ فلم يبْرحِ الهيجاء حتّى تكسّرا
لهُ اللهُ مفطوراً من الصّبْرِ قلْبُهُ ولو كان من صُمِّ الصّفا لتفطّرا
وفي السبيِ مِمّا يصطفي الخِدْرُ نِسْوةٌ يعزُّ على فتِيانِها أنْ تُسيّرا
حمتْ خِدْرها يقْظى وودّت بنومِها ترُدُّ عليها جفْنها لا على الكرى
14
9
مجلس حرق الخيام وفرار بنات الرسالة
مشى الدهرُ يوم الطفِّ أعمى فلمْ يدعْ عِماداً لها إِلّا وفيهِ تعثّرا
وجشّمها المسْرى ببيداء قفْرةٍ ولم تدرِ قبل الطفِّ ما البِيدُ والسُّرى
ولم تر حتّى عينُها ظِلّ شخْصِها إلى أن بدتْ في الغاضريةِ حُسّرا1
التفت عن يسره واليمين وانادي هلي وين الحين
انا مخدرة عباس وحسين
التمهيد للمصيبة ( گـوريز):
كان المنصور العباسيّ شديد العداوة لآل محمّد؛ حيث تتبّع آثارهم وقتل الكثير منهم، ووضع آخرين منهم في الاسطوانات، عندما بنى عاصمته بغداد، وأباد جمعاً كثيراً من أبناء الحسن عليه السلام وكان يقول: لقد هلك من أولاد فاطمة عليها السلام مقدار مائة وقد بقي سيّدهم وإمامهم فقيل له: من هو؟ قال: جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام.
وكان يبعث على الإمام عليه السلام، فيؤتى به إلى العراق وفي كلّ مرّة يهمّ بقتله، لكن الله كان يحول بينه وبين قتل الإمام عليه السلام، وبلغ من حقده أنّه أمر عامله على المدينة محمّد بن سليمان أن يحرق على أبي عبد الله الصادق عليه السلام داره، فجاء هو وجماعته
1- القصيدة للسيّد حيدر الحلّي رحمه الله.
15
10
مجلس حرق الخيام وفرار بنات الرسالة
بالحطب الجزل، ووضعوه على باب دار الصادق عليه السلام، وأضرموا فيه النّار، فلمّا أخذت النّار ما في الدهليز1، تصايحن العلويات داخل الدار، وارتفعت أصواتهنّ، فخرج الإمام الصادق عليه السلام وعليه قميص وإزار، وفي رجليه نعلان وجعل يخمد النّار ويطفئ الحريق، حتّى قضى عليها، فلمّا كان الغد دخل عليه بعض شيعته يسلّونه، فوجدوه حزيناً باكياً فقالوا: ممّا هذا التأثّر والبكاء، أمِن جرأة القوم عليكم أهل البيت، وليس منهم بأوّل مرّة؟ (ليست هذه هي المرّة الأولى التي تحرق فيها دوركم).
فقال الإمام عليه السلام: لمّا أخذت النّار ما في الدهليز، نظرت إلى نسائي وبناتي يتراكضن في الدّار من حجرة إلى حجرة، ومن مكان إلى مكان، هذا وأنا معهنّ، فتذكّرت روعة عيال جدّي الحسين عليه السلام، يوم عاشوراء لمّا هجم القوم عليهنّ والمنادي ينادي: أحرقوا بيوت الظالمين.
المصيبة:
نعم؛ رُوي أنّه لمّا صُرع الحسين عليه السلام تسابق القوم على نهب رحاله وسلب نسائه، وابن سعد ينادي بجيشه أحرقوا بيوت الظالمين، فأضرموا النّار في الخيام ففرّتِ النساء والأطفال على وجوههم في البيداء، وهم يلوذون بعضهم ببعض ويصرخون:
1- الدهليز - بكس الدال- ما دخل عن باب الدار الممتد بينه وبين صحن الدار
16
11
مجلس حرق الخيام وفرار بنات الرسالة
واجدّاه وامحمّداه واأبتاه، يقول الرواة: أُحرق بالنّار من أطفال الحسين ما يقرب من عشرين طفل وطفلة يوم عاشوراء، يقول حميد بن مسلم: رأيت طفلة هاربة من الخيمة، والنّار تستعرُ بأطراف ثيابها، فلحقتُ بها واخمدتُ النّار عنه، لمّا رأت منّي ذلك الصنع الجميل، قالت: يا شيخ أنت لنا أم علينا؟ فقلتُ لها: بُنيّة أنا لا لكم ولا عليكم، قالت: يا شيخ هل قرأت القرآن؟ قلتُ: نعم، قالت:يا شيخ هل قرأت قوله تعالى"فأمّا الْيتِيم فلا تقْهرْ" قلتُ: نعم قرأته، قالت: يا شيخ والله أنا يتيمة الحسين، قلت لها: بُنيّة لا تخافي إنّي لا أُريد السوء بك، بُنيّة هل من حاجة فأقضيها لك؟ قالت: يا شيخ دُلّني على جسد والدي الحسين، قال: جئتُ بها إلى الميدان، أوقفتها على مصرع أبي عبد الله، قلتُ لها: بُنيّة هذا جسد أبيك الحسين، فلمّا رأته جثةً بلا رأس، وقعت عليه تنادي: أبه يا أبه من الذي قطع وريديك، أبه من الذي أيتمني- على صغر سني – أبه إذا أظلم الليل فمن الذي يحمي حمانا.
يبويه انروح كل احنه فداياك أخذنه للحرب يحسين وياك
أهي غيبه يبويه واگـعد أنعاك واگـولن سافر او يومين يسدر
- وفي موقف آخر– يقول حميد بن مسلم: رأيت امرأة واقفة على باب خيمة، والنّار تستعر بأطراف هذه الخيمة، ولكن هذه
17
12
مجلس حرق الخيام وفرار بنات الرسالة
المرأة تارة تدخل إلى الخيمة وتارة تخرج منه، فتقدمّتُ إليها قلتُ لها: أمة الله النّار النّار ما وقوفك إلى جانب هذه الخيمة المشتعلة بالنّار؟ فالتفتت إليّ وقالت: إنّ لنا عليلاً في هذه الخيمة- تعني الإمام زين العابدين عليه السلام-، دخلوا عليه وهو مسجّى على نطع لا يستطيع النهوض من شدّة المرض، فجرّد الشمر سيفه ليقتله فقال له حميد بن مسلم: يا سبحان الله أتقتل هذا المريض؟ فقال الشمر: لقد أمرنا الأمير بقتل أولاد الحسين، فجاءت عمّته زينب عليها السلام ورمت بنفسها عليه وقالت: إن أردتم قتله فاقتلوني معه، وبينما هم كذلك إذ دخل عمر بن سعد فصحن النساء في وجهه وبكين، فقال للشمر: دعه وشأنه فلمّا خرج عمر بن سعد سحبوا النطع من تحت الإمام زين العابدينعليه السلام وتركوه ملقىً على الأرض.
كانت عِيادتهُ مِنهم سِياطُهُمُ وفي كُعوبِ القنا قالوا البقاء لكا
جرُّوهُ فانتهبُوا النّطع المُعدّ لهُ وأوطأوا جِسمهُ السعدان والحسكا
والهفتاهُ لِزينِ العابِدين لُقىً مِن طُولِ عِلّتِه والسُّقمِ قدْ نُهِكا
18
13
مجلس حمل آل الرسول على النياق
مجلس حمل آل الرسول على النياق
بأبي أبيّ الضيمِ صال وما لهُ إِلّا المُثقّف والحُسام نصيرُ
زجّتْ له الأقدارُ سهْم منيّةٍ فهوى لُقىً فاندكّ منهُ الطُّورُ
بأبي القتيل وغسْلُهُ علقُ الدِّما وعليهِ مِن أرجِ الثّنا كافورُ
ظمآن يعْتلِجُ الغليلُ بصدْرِهِ وتُبلُّ للخطيِّ منهُ صُدُورُ
وغدتْ تدوسُ الخيلُ منه أضالعاً سِرُّ النبيِّ بطيِّها مستورُ
وثواكلٌ يُشجِي الغيُور حنينُها لو كان ما بين العِداةِ غيورُ
حرمٌ لِأحْمد قد هُتِكْن سُتُورُها فهُتِكن مِنْ حرمِ الإلهِ سُتُورُ
هتفتْ غداة الرّوعِ باسمِ كفيلها وكفيلُها بثرى الطفوفِ عفيرُ
19
14
مجلس حمل آل الرسول على النياق
ما لاحظت عينُ الهِلالِ خيالها والشُّهْبُ تخْطُفُ دونها وتغورُ
حتّى النسِيمُ إذا تخطّى نحوها ألْقاهُ في ظِلِّ الرِّماحِ عُثُورُ
فبدا بيومِ الغاضِريّةِ وجْهُها كالشمسِ يستُرُها السّنا والنورُ
فغدت تودُّ لو أنّها نُعِيتْولم ينْظُرْ إِليها شامِتٌ وكفورُ
ابيا حاله كضت زينب نهرها وابدمهم كربله يجري نهرها
الشمر يحسين من بعدك نهرها أو خذوها اميسره لابن الدعيه
التمهيد للمصيبة ( گـوريز):
حدّث يحيى المازني قال: "كنت في جوار أمير المؤمنين عليه السلام في المدينة مدّة مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب عليها السلام ابنته، فلا والله ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوت، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدّها رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم تخرج ليلاً، والحسن عليه السلام عن يمينها والحسين عليه السلام عن شمالها وأمير المؤمنين عليه السلام أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين عليه السلام فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسن عليه السلام مرّة عن ذلك فقال أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب".
20
15
مجلس حمل آل الرسول على النياق
المصيبة:
أقول سيّدي يا أمير المؤمنين:
أمُخمِدُ ضوْء البيتِ عن شخصِ زينبٍ لكي لا يُرى في الليلِ حتّى خيالهُا
تمنّيتُ يوم الطّفِ عينُك أبصرتْ بناتُك كيف ابتُزّ مِنها حِجالُها
أقول سيّدي لقد أبرزت كريمتك لمّا أصبحوا يوم الحادي عشر، وعزم القوم على الانصراف، وقدّموا النياق العجف إلى بنات رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، ونادوا هلمّوا واركبوا فقد أمر ابن سعد بالرحيل، خرجت زينب وأقبلت على عمر ابن سعد قائدِ جيش الضلال وقالت له: سوّد الله وجهك يا بن سعد، تأمر هؤلاء الأجانب أن يركبّونا ونحن ودائع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم؟ قل لهم فليتباعدوا عنّ، ونحن يركِّب بعضنا بعضاً، فتباعدوا عنهم، وجعلت زينبُ عليها السلام بنفسها تركب العيال والأطفال، تنادي كلّ واحدة باسمها وتركبها حتّى ركّبت الجميع، ثمّ أقبلت إلى الإمام زين العابدين عليه السلام وقالت له: قم يا بن أخي واركب الناقة، قال لها: اركبي أنت أوّلاً ودعيني وهؤلاء القوم.
نعم يروى أنّها لمّا أقبلت إلى ناقتها لتركب، والتفتت يمنة ويسرة فلم تر أحداً يعينها على الركوب، تذكّرت عزّها وجلالها، في ذلك الوقت هاج بها الحزن، وحوّلت وجهها إلى جهة نهر العلقميّ
21
16
مجلس حمل آل الرسول على النياق
ونادت بصوت حزين: أخي أبا الفضل أنت الذي أركبتني يوم خروجنا من المدينة، فمن الآن يركِّب أختك زينب؟
يحادي الظعن وين الظعن منوين جرح قلبي على السجاد من ون
أنا وين وشمر ياخلك من وين عقب عباس گـايدلي مطيه
ولمّا سمع زين العابدين عليه السلام ندبتها لأخيها، لم يتمالك نفسه دون أن قام إليها وهو يرتعش من المرض، وقال لها: عمّتاه لقد كسرتِ قلبي وزدتِ كربي، وثنّى لها ركبته ليركّبها فارتعش من الضعف وسقط إلى الأرض، قال الراوي:
فأقبلت فضّة أمة فاطمة عليها السلام وأركبته، وبقي الإمام زين العابدين عليه السلام أقبلوا إليه وأركبوه على ناقة عجفاء فلم يقدر على الركوب، وصار يتمايل يمنة ويسرة، فأخبروا عمر ابن سعد وقالوا له: ما نصنع بهذا العليل فإنّه لم يستطع على الركوب؟ فقال اللعين: قيّدوا رجليه من تحت بطن الناقة، فأقبلوا إليه وقيّدوه وحملوه مقيّداً مغلّلا..
عندك يابو فاضل يا خوي أشتكي حالي حرمه بلا والي والشمر يبرالي
والليحدي للناقة زجر عباس يا عيوني ترضى يذلوني وللشام يهدوني
خويه الفواطم بالدرب منهو الليباريها عگبك يا واليها يا ويلي عليها
وتروح تاليها بيسر عباس يا عيوني ترضى يذلوني وللشام يهدوني
22
17
مجلس حمل آل الرسول على النياق
لذا هذه المصائب انطبعت في صدر الإمام زين العابدين عليه السلام ولم تفارق مخيّلته، لهذا استمرّ بكاؤه عشرات السنين، حتى قال له أبو حمزة الثماليّ مسلّياً له: القتل لكم عادة وكرامتكم من الله الشهادة، فقال له: شكر الله سعيك يا أبا حمزة، صدقت، القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة، ولكن يا أبا حمزة، هل رأت عيناك، أم هل سمعت أذناك أنّ مخدّرة منّا سبيت قبل يوم عاشوراء، يا أبا حمزة والله ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلّا وخنقتني العبرة..
مثل المصيبة اللي دهتنا محّد انصاب
قلبي يبو حمزة تراه اتفطّر اوذاب مثل المصيبة اللي دهتنا محّد انصاب
ما نكست راسي لاجل ذيك الصناديد ما قصروا بالغاضرية زلزلوا البيد
أخي لو ترى السجّاد أضحى مُقيّداً أسِيراً يُعانِي مُوجِع الضربِ قاسِياً
أخي صِرتُ مرمىً لِلحوادِثِ والأسى فليتك حيّاً تنظُرُ اليوم حالِيا
23
18
مجلس مشاهد عن الرأس الشريف والرباب زوجة الحسين عليه السلام
مجلس مشاهد عن الرأس الشريف والرباب زوجة الحسين عليه السلام
العينُ عبرى دمعُها مسفوحُ والقلبُ من ألم ِالأسى مقروحُ
ما عُذرُ مِثلِي يوم عاشورا إذا لم أبكِ آل محمّدٍ وأنوحُ
أم كيف لا أبكي الحسين وقد غدا شِلواً بأرضِ الطفِّ وهو ذبيحُ
والطاهراتُ حواسرٌ مِن حولِه كُلٌّ تنوحُ ودمعُها مسفوحُ
هذي تقولُ أخِي وهذِي والدي ومِن الرزايا قلبُها مقروحُ
أسفِي لِذاك الشيبِ وهو مُضمّخٌ بِدمائِهِ والطِيبُ مِنهُ يفوحُ
أسفِي لِذاك الوجهِ مِن فوقِ القنا كالشمس في أُفُقِ السماءِ يلوحُ
أسفِي لِذاك الجسمِ وهو مُبِضّعٌ وبِكُلِّ جارِحةٍ لديهِ جُروحُ
24
19
مجلس مشاهد عن الرأس الشريف والرباب زوجة الحسين عليه السلام
ولفاطِمُ تبكِي عليهِ بِحُرقةٍ وتُقبِّلُ الأشلاء وهي تصيحُ
ظلّتْ تُولوِلُ حاسِراً مسبيةٌ وسُكينةٌ ولهى عليهِ تنوحُ
يا والِدِي لا كان يومُك إنّه بابٌ ليومِ مصائِبي مفتوحُ
أترى نسيرُ إلى الشامِ مع العِدى أسرى وأنت بكربلاءِ طريحُ 1
وصّيت من يحسين بينه من تهجم الغاره علينه
وحنه حرم شنهو البدينه يبويه انته انصبت واحنه انسبينه
التمهيد للمصيبة ( گـوريز):
بعد شهادة الإمام الحسينعليه السلام أظلمت الدنيا ثلاثة أيّام، واسودّت سواداً عظيماً، حتى ظنّ النّاس أنّ القيامة قامت، وبدت الكواكب نصف النهار، وأخذ بعضها يضرب بعضاً، ولم يُر نور الشمس، وكيف لا يتغيّر الكون ولا يمحى نور الشمس والقمر، وقد تُرِك سيّدُ شباب أهل الجنّة على وجه الصعيد مجرّداً ومثّلوا بذلك الجسد القدسيّ كلّ مثلة! ولقد رأته الرباب على تلك الحالة وما فارقها رأسه طيلة مسيرها في السبي..
1-القصيدة لأبي الحسن الخليعيّ رحمه الله
25
20
مجلس مشاهد عن الرأس الشريف والرباب زوجة الحسين عليه السلام
قال زيد بن أرقم: كنت في غرفة لي فمرّوا عليّ بالرأس وهو يقرأ: "أمْ حسِبْت أنّ أصْحاب الْكهْفِ والرّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عجبًا"، فوقف شعري وقلت: والله يا ابن رسول الله رأسك أعجب وأعجب.
المصيبة:
قال هلال بن معاوية: رأيت رجلاً يحمل رأس الحسين عليه السلام والرأس يخاطبه: فرّقت بين رأسي وبدني، فرّق الله بين لحمك وعظمك وجعلك آيةً ونكالاً للعالمين، فرفع السوط وأخذ يضرب الرأس حتّى سكت.
فالتفتت زينب عليها السلام فرأت رأس أخيها، فضربت جبينها بمقدّم المحمل حتّى صار الدم يخرج من تحت قناعها، وأومأت إليه بحرقة وجعلت تقول:
يا هلالاً لمّا استتمّ كمالاً غالهُ خسْفُهُ فأبدى غُروبا
ما توهّمتُ يا شقيق فؤادِي كان هذا مُقدّراً مكتُوبا
26
21
مجلس مشاهد عن الرأس الشريف والرباب زوجة الحسين عليه السلام
ثمّ وضعهم ابن زياد في خربة، بينما زينب عليها السلام جالسة واليتامى حولها وإذا بامرأة قد أقبلت وهي تحمل طبقاً فيه طعام، وضعته بين يدي الحوراء زينب عليها السلام، فقالت لها العقيلة: ما هذا الطعام يا أمة الله؟ قالت لها: سيّدتي هذا نذر عليّ، إذْ إنّي نذرتُ لله تعالى أنّه كلّما جيء بسبايا أو أُسارى إلى هذه البلدة أُطعمهم – بما أستطيع – فقالت لها الحوراء: أمة الله ولِم هذا النذر؟ قالت – سيّدتي – إِنّ لي ولداً واحداً وقد أُصيب بمرض عضال فحملتُهُ إلى سيّدي ومولاي أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب عليه السلام، وشكوت إليه أحوالي، فقال لي: خذيه إلى ولدي الحسين عليه السلام، فجئتُ به إلى مولاي الحسين، فدعا له الحسين بالعافية فعافاه الله تعالى ببركة دعاء الحسين عليه السلام، وأنا أصنع هذا الطعام لليتامى والفقراء بثواب سيّدي الحسين عليه السلام – فبكت الحوراء – وقالت: أمة الله إذا رأيت الحسين عليه السلام تعرفينه؟ قالت: سيّدتي وكيف لا أعرفه، وهو الذي منّ الله على ولدي بالشفاء ببركته، فقالت الحوراء زينب عليها السلام: أمة الله ارفعي رأسك وانظري إلى باب قصر الإمارة، رفعت المرأة رأسها
27
22
مجلس مشاهد عن الرأس الشريف والرباب زوجة الحسين عليه السلام
وإذا برأس الحسين عليه السلام منصوب على باب القصر.
إذاً ما حال الرباب وقد رأت تلك المصائب، فمن حقّها أن تموت كمداً على الحسين عليه السلام، فقد عاشت الرباب بعد الإمام الحسين عليه السلام في حزن وأسى وبكاء ونياحة، ما هدأت من البكاء ليلاً ولا نهاراً، وفي بعض الروايات أنّها بقيت تبكي سنة كاملة إلى أن ماتت، يقولون لمّا رجعت الى المدينة مع السبايا أزالت سقف بيتها، وما استظلّت بعد الحسين عليه السلام بسقف أبداً، كانت تجلس في حرارة الشمس وبين يديها ابنتها سُكينة تخاطبها: أين مضى عنّي وعنك الحسين عليه السلام ... ويلي..
لـگـعد على درب الظعون وناشد اليرحون ويجون
كلمن لها غياب يلفون وانا غايبي باللحد مدفون
يحسين منته نور العيون
دخل رجل على الإمام زين العابدينعليه السلام فوجد امرأة جالسة في حرارة الشمس فظنّ أنّها جارية، التفت إليه وقال: سيّدي لو
28
23
مجلس مشاهد عن الرأس الشريف والرباب زوجة الحسين عليه السلام
أذنت لهذه الجارية أن تقوم عن حرارة الشمس إنهّا محرِقة، فلو عفوت عنها يا بن رسول الله، فلمّا سمع الإمام زين العابدين عليه السلام كلام هذا الرجل تحادرت دموعه على خدّيه، وقال له: يا هذا ليست هذه جارية، هذه الرباب زوجة والدي الحسين عليه السلام، آلت ألّا تستظلّ بعد الحسين عليه السلام تحت سقفٍ أبداً..
ويلي..كأنّي بها..
لنوحن وگـضّي العمر بالنوح واعمي اعيوني واتلف الروح
اشلون الصبر وحسين مذبوح ودمه على التربان مسفوح
كانت تأتي إليها العقيلة زينب عليها السلام تقف على رأسها تقول لها: رباب قومي عن حرارة الشمس، فإنّها محرقة، فتقول لها الرباب: سيّدتي لا تلوميني إنّي نظرت إلى جسد العزيز أبي عبد الله تصهره الشمس على رمضاء كربلاء..
يصير النوب دهري بيكم ايعود وارد اشيل راسي بيكم اردود
وترد اكفوف ابو فاضل للزنود وتتلايم اردود اجروح الأكبر
يا مفگود هم بيك الزمان ايعود اوهم يلفي الفرح وانزع اهدومي السود
29
24
مجلس مشاهد عن الرأس الشريف والرباب زوجة الحسين عليه السلام
وهم طيبه الليالي وترد لينه اردود
بالأمسِ كانوا معي واليوم قد رحلوا وخلفُوا في سُويدا القلبِ نِيرانا
نذْرٌ عليّ لئِن عادوا وإنْ رجعُوا لأزرعنّ طريق الطفِّ ريحانا
30
25
مجلس مرور الموكب الحسينيّ على مصارع الشهداء
مجلس مرور الموكب الحسينيّ على مصارع الشهداء
رُبوعُ المجدِ مُقفِرةٌ خوالِي يرُنُّ بِها صدى الحُججِ الخوالي
غداة السِبطِ وهو نبيلُ فِهرٍ غدا غرضاً لِغاشِيةِ النِبالِ
فصار إذا أصابتهُ سِهامٌ تكسّرت النِصالُ على النِصالِ
فتىً يلقى الوُفود بِطلْقِ وجه ٍ شمائلُهُ أرقُّ من الشِّمالِ
عجِبْتُ يموتُ مِن ظمأٍ ويجرِي الـ ـفُراتُ العذبُ يطفحُ بالزُلالِ
ويهويِ لِلرمِالِ لِحرِّ وجْهٍ ولم تهوِ النُجومُ على الرِمالِ
ويبقى مثل قرنِ الشمسِ جِسمٌ له بهجيرِ حرِّ الشمسِ صالِي
31
26
مجلس مرور الموكب الحسينيّ على مصارع الشهداء
ورُبّ مصونةٍ للطُّهْرِ طه تبدّتْ تستشيِطُ من الحِجالِ
وتُجهِشُ بالبُكاءِ عُقيْب دِلٍّ فيا لِبُكاً تعقّب من دلالِ
وناعٍ صكّ سمع الدهرِ نعياً وفجّر مسْمع الرِّممِ البوالي
يطوّحُ مُعْلِناً بِمحاقِ بدرٍ عراهُ خسفُهُ عند الكمالِ
لشُقّ له ضِراحٌ لا ضريحٌ وهِيل التُربُ منهُ على الهِلالِ 1
أشاهد كربله دايم واراها وأحن عالظلّت اخوتها وراها
علي السجاد رد ليها وراها او ثلث تيّام اعله الوطيه
التمهيد للمصيبة ( گـوريز):
لمّا سيّر ابن سعد الرؤوس إلى الكوفة، أقام مع الجيش إلى الزوال من اليوم الحادي عشر، فجمع قتلاه وصلّى عليهم ودفنهم، وترك سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، ومن معه من أهل بيته وصحبه بلا غسل ولا كفن ولا دفن، تسفي عليهم الصبا ويزورهم وحوش الفلا.
1- القصيدة للسيّد إبراهيم الطباطبائيّ رحمه الله.
32
27
مجلس مرور الموكب الحسينيّ على مصارع الشهداء
وأمّا علي بن الحسين عليه السلام فإنّه لمّا نظر إلى أهله مجزّرين، وبينهم مهجة الزهراء، بحالة تنفطر لها السماوات، وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً، عظم ذلك عليه واشتدّ قلقه، فلمّا تبيّنت ذلك منه زينب الكبرى بنت عليّعليهما السلام أخذت تسلّيه وتصبّره، وهو الذي لا توازن الجبال بصبره وفيما قالت له:
"ما لي أراك تجودُ بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي، فوالله إنّ هذا لعهدٌ من الله إلى جدّك وأبيك ولقد أخذ الله ميثاق أناسٍ لا تعرفهم فراعنةُ هذه الأرض، وهم معروفون في أهلِ السماواتِ أنّهم يجمعون هذه الأعضاءِ المقطّعةِ والجسوم المضرّجة فيوارونها، وينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء لا يُدرسُ أثرُه، ولا يُمحى رسمُه على كرورِ الليالي والأيّام، وليجتهدنّ أئمّةُ الكفرِ وأشياع الضلالِ في محوِهِ وتطميسِهِ فلا يزدادُ أثرُهُ إلّا علوّاً".
للهِ صبرُ زينبِ العقلية كمْ صابرتْ مصائباً مهُولة
33
28
مجلس مرور الموكب الحسينيّ على مصارع الشهداء
المصيبة:
نعم سارت زينب عليها السلام ومعها عيالات الأصحاب- وكنُّ عشرين امرأة- وسيّروهن على أقتاب الجمال، بغير وطاء كما يساق سبي الترك والروم، وهن ودائع خير الأنبياء ومعهن السجّاد علي ابن الحسين عليه السلام - وعمره ثلاث وعشرون سنة- وهو على بعير ضالع بغير وطاء وقد أنهكته العلّة، ومعه ولده الباقر عليه السلام وله سنتان وشهور.
ويا لهول ما رأت النساء لمّا مرّت على جثث القتلى، أُمٌّ تنظر إلى ولدها ملقىً على وجه الأرض والدماء تجري من جسده، وأُخت ترى أخاها على وجه الثرى، هذا ملقىً على يمينه وهذا ملقىً على شماله وذلك ملقىً على ظهره، إلّا الحسين عليه السلام فإنّه مكبوبٌ على وجهه قد قطع الشمرُ رأسه والجمّالُ يديه، فلمّا رأته أُخته زينبعليها السلام على تلك الحالة صاحت: يا جدّاه يا رسول الله هذا حسينك بالعراء، مذبوح من القفا، مسلوب العمامةِ والرّدا، بأبي المهموم حتى قضى، بأبي العطشان حتى مضى، بأبي منْ لا هو غائبٌ فيُرتجى، ولا جريحٌ فيداوى بأبي من شيبته تقطر بالدّماء.
34
29
مجلس مرور الموكب الحسينيّ على مصارع الشهداء
يجدّي گـوم شوف احسين مذبوح على الشاطي وعلى التربان مطروح
يجدّي ما بگت له امن الطعن روح يجدّي گـلب اخوي احسين فطّر
يجدّي مات محّد وگـف دونه ولا نغّار غمّضله اعيونه
يعالج بالشمس منخطف لونه ولا واحد ابحلگـه ماي گـطر
قالوا ثمّ همّت زينبعليها السلام بأن ترمي بنفسها على جسد الحسينعليه السلام، فناداها زين العابدينعليه السلام: عمّة زينب ارحمي حالي، ارحمي ضعف بدني، إذا رميتِ بنفسك فمن يُركِّبُك وأنا مقيّد على ناقتي؟ عمّة زينب ودّعي أخاكِ وأنت على ظهر النّاقة، فجعلت زينب تطيل النظر إلى جسد أخيها الحسينعليه السلام وهي تقول: أخي حسين أودعتُك الله السميع العليم، يا ابن أُمِّ لقد جاؤونا بالنّياق مهزولة لا موطّأة ولا مرحولة..
لمن تشتكي زينب حالها وهي التي لم تعرف السبي قبل هذا اليوم، يعزّ عليك يا أمير المؤمنين أن ترى ابنتك زينب عليها السلام في ذلّ السبي، كأنّي بها توجّهت إلى أبيها عليّ عليه السلام
بويه يحيدر ما تجينه وتشوفنه اشلون انسبينه
واشوف الزمان شعمل بينه أخونه انذبح واحنا انولينه
35
30
مجلس مرور الموكب الحسينيّ على مصارع الشهداء
زينب عليها السلام امتنعت من أن ترمي بنفسها بطلب من الإمام السجّاد عليه السلام ولكن باقي النساء ما تمالكن أنفسهن، كلُّ امرأة رمت بنفسها على جسد عزيزها، واعتنقت سكينة جسد أبيها الحسين عليه السلام يقول الشيخ الكفعميّ: كانت تحدّث أنّها سمِعتهُ يقول:
شِيعتِي ما إنْ شرِبتُم عذب ماءٍ فاذكُروني
أو سمِعتُم بِغريبٍ أو شهيدٍ فاندِبوني
يعني:
بني سكينة قولي لشيعتي أنّ أبي مات عطشاناً فاذكروه، وقضى غريباً فاندبوه.
ولم يستطع أحد أن ينّحيها عنه حتى اجتمع عليها عدّة منهم وجرّوها بالقهر.
يبويه برضالك يو غصباً عليك يجرني العدو من بين ايديك
وأنا اصرخ وادير العين ليك وادري بحميتك ما تخليك
لكن معذور يلحزوا وريديك
36
31
مجلس مرور الموكب الحسينيّ على مصارع الشهداء
من لي حِمىً بعد الحسينِ ومعتصمْ إنْ جلّ خطبٌ فادِحٌ وبِنا ألمْ
ناديتُ لمّا غاب بدْرُ سما الكرمْ يا غائِباً عن أهلِهِ أتعودُ أمْ
تبقى إلى يومِ المعادِ مُغيّباً
37
32
مجلس الموكب الحسينيّ في الكوفة
مجلس الموكب الحسينيّ في الكوفة
أأنسى حُسيناً بِالطفوفِ مجدّلاً على ظمأٍ والماءُ يلمعُ طامِيا
وواللهِ لا أنسى بناتِ محمّدٍ بقيْن حيارى قدْ فقدْن المُحامِيا
إذا نظرتْ فوق الصعيدِ حُماتها وأرْؤُسُها فوق الرِماحِ دواميا
هُناك انثنت تدعُو ومِن حُرقِ الجوى ضرامٌ غدا بين الجوانحِ وارِيا
أُنادي ولا مِنكم أرى من مُجاوبٍ فما بالُكم لا ترحمون صُراخِيا
ولم أنس حول السِبطِ زينب إذ غدتْ تُنادي بِصوتٍ صدّع الكون عالِيا
أخِي لم تذُقْ مِن بارِدِ الماءِ شُربةً وأشْربُ ماء المُزْنِ بعْدك صافِيا
أخي يا هِلالاً غاب بعد كمالِهِ فأضحت بِهِ أيّامُ سعدِي ليالِيا
أخي صِرْتُ مرمىً لِلحوادِثِ والأسى فليتك حيّاً تنظُُرُ اليوم حالِيا
39
33
مجلس الموكب الحسينيّ في الكوفة
أخي لو ترى السجّاد أضحى مُقيّداً أسيراً يُقاسِي مُوجِع الضربِ عانِيا
عليّ عزيزٌ أن أراك مُعفّراً عليك عزيزٌ أن ترى اليوم ما بِيا
أحاشيك أن ترضى نروحُ حواسِراً سبايا بِنا الأعداءُ تطوِي الفيافِيا 1
(ويلي)..ان صحت بويه يشتموني وان صحت خويه يضربوني
ومن الضرب ورمن امتوني ومن البچه عمين اعيوني
أنادي هلي اولا يسمعوني
التمهيد للمصيبة ( گوريز):
ورد أنّه لمّا وضعت السيّدة الزهراء عليها السلام ابنتها زينبعليها السلام أخذها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقال يا فاطمة، اعلمي أنّ هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصبّ عليها المصائب والرزايا.
وكانت السيّدة زينب عليها السلام على علم بخروجها مع الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء، ولم تفاجئ به، وقد علمت من جدّها وأمّها وأبيها بهذه المصيبة، وبهذه المهمّة التي اختارها الله لها، حتّى يقال أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا عقد قرانها على زوجها عبد الله
1 - لسيّدة زينب للقرشيّ ص 38 نقلاً عن الطراز المذهّب.
40
34
مجلس الموكب الحسينيّ في الكوفة
بن جعفر، شرط عليه أن يأذن لزينب عليها السلام بالخروج مع أخيها فقبل، ولم تنفع محاولات الآخرين ثني زينب عليها السلام من الخروج مع أخيها، ولهذا وقبل أن تغادر العقيلة الحجاز استأذنت من زوجها عبد الله بن جعفر، أن يسمح لها بالسفر مع شقيقها سيّد الشهداء، فأذِن لها في ذلك، ولما عزم الإمام أن يسافر دخل عليه عبد الله بن عبّاس ليعدله عن السفر إلى العراق، فقال له الإمام عليه السلام: "يا بن عبّاس ما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت نبيّهم من وطنه وداره وقراره، وحرم جدّه، وتركوه خائفاً مرعوباً، لا يستقرّ في قرار، ولا يأوي إلى جوار، يريدون بذلك قتله وسفك دمه، ولم يشرك بالله شيئاً، ولم يرتكب منكراً، ولا إثماً".
فأجابه ابن عبّاس بصوت حزين النبرات قائلاً:
"جعلت فداك يا حسين، إن كان لا بدّ لك من المسير إلى الكوفة، فلا تسر بأهلك ونسائك...".
فقال له الإمام الحسين عليه السلام:
"يا ابن العم إنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في منامي، وقد أمرني بأمر لا أقدر على خلافه.. إنّه أمرني بأخذهنّ معي، يا ابن العم إنّهن ودائع رسول الله، ولا آمن عليهنّ أحداً..".
41
35
مجلس الموكب الحسينيّ في الكوفة
المصيبة:
ويقول بعض الرواة: إنّ حفيدة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم السيّدة زينب عليها السلام قالت لابن عبّاس وهي باكية العين:
"يا ابن عبّاس تشير على شيخنا وسيّدنا أن يخلفنا ها هنا ويمضي وحده، لا والله بل نحيا معه ونموت معه، وهل أبقى الزمان لنا غيره؟..".
وكانت السيّدة زينب عليها السلام قد علمت ما سيجري على أهلها من القتل، فخفّت إلى أخيها حينما كانوا في الخزيميّة، وهي تقول له بنبرات مشفوعة بالبكاء:
يا أخي إنّي سمعت هاتفاً يقول:
ألا يا عينُ فاحتفِلي بِجُهْدٍ فمنْ يبكي على الشهداءِ بعدِي
على قومٍ تسوقُهُم المنايا بِمقدارٍ إلى إنجازِ وعدِ
فأجابها الغريب روحي له الفداء:
يا أختاه كلّ الذي قُضي فهو كائن، ومن قبل قد أخبرها بما هو كائن أبوها أمير المؤمنين عليه السلام.
فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان إلى آخر ساعة من ساعات حياته الشريفة، يخبر ابنته زينب عليها السلام بتفاصيل ما سيجري عليها من كربلاء.
42
36
مجلس الموكب الحسينيّ في الكوفة
فلقد ذكروا أنّه دخلت العقيلة زينب عليها السلام على أبيها أمير المؤمنين عليه السلام، لمّا ضربه ابن ملجم المراديّ، قالت: أبه حدّثتني أُمُّ أيمن بحديث كربلاء وأُحبُّ أن أسمعه منك يا أبة، فقال لها أمير المؤمنين عليه السلام: بُنيّة الحديث كما حدّثتْكِ به أُمُّ أيمن بُنيّة: كأنّي بك وبأخواتك سبايا في هذه البلدة، وأنتم أذلّاء تخافون أن يتخطّفكم الناس، وما مرّت الأعوام إلا وزينب عليها السلام أسيرة في هذه المدينة، وإذا بأهل الكوفة قد خرجوا يتفرّجون على بنات أمير المؤمنين، فقامت زينب عليها السلام خاطبة فيهم قالت: ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أيّ دمٍ لرسول الله سفكتم، وأيّ كبدٍ له فريتم، وأيّ كريمة له أبرزتم، وأيّ حرمةٍ له انتهكتم؟
ما توهّمتُ يا شقيق فُؤادِي كان هذا مُقدّراً مكتوبا
ما تدري يخويه اشلون حالي ابراس الرمح راسك اگـبالي
كلمن شاف ذل حالي بكالي عدوانك عليّه غدوا يبكون
صعدت امرأة من أهل الكوفة إلى سطح دارها وسألت من أيِّ الأُسارى أنتم؟ فأجابتها أُمُّ كلثوم: نحن أُسارى آل بيت رسول الله، فنزلت المرأة إلى صحن دارها وجمعت لهنّ ثياباً وأُزراً ومقانع، وصارت توزّعها على بنات رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم.. ويلي
43
37
مجلس الموكب الحسينيّ في الكوفة
ابيا حال ما تدرون صرنه سبايا بستر الروس حرنه
اويّه العده للشام سرنه
ونظر أهل الكوفة إلى أطفال الحسين عليه السلام جياعاً، قد أضرّ بهم الجوع، وقد مرّت عليهم ثلاث ليالي من غير طعام، فبان عليهم الضعف والجوع، وخاصّةً لمّا رأوا بأيدي أطفال الكوفة شيئاً من الخبز والتمر، فصاروا يمدّون أيديهم إلى ذلك الطعام، فصار النّاس يجمعون لهم الطعام ويناولونه يتامى الحسينعليه السلام، التفتت زينب عليها السلام، وإذا بنساء أهل الكوفة يتصدّقون على أطفال الحسينعليه السلام، فصارت تأخذ ذلك الطعام من أيديهم وتُلقي به إلى الأرض وتنادي: يا أهل الكوفة إنّ الصدقة حرام علينا... ويلي
تتصدق الوادم علينه وعطايا الخلك كلها امن ادينه
ما خاب ظنّه اليعتنينه ايظل كل سنه ايروح اويجينه
يوسفه الدهر هل خان بينه اخونه انذبح واحنه انسبينه
ثمّ لمّا أخذ أهل الكوفة يحدّقون بالنّظر إلى أخوات الحسينعليه السلام وحرمه صاحت زينب عليها السلام: غضّوا أبصاركم عن بنات رسول
44
38
مجلس الموكب الحسينيّ في الكوفة
الله.. ويلي...
هذهِ زينبٌ ومن قبلُ كانت بفِنا دارها تُحطُّ الرِحالُ
أمست اليوم واليتامى عليها يا لِقومِي تصدّق الأنذالُ
والذي زاد آلام زينب عليها السلام، أنّ بعض النساء اللواتي سبين معها (حيث كان معها أكثر من عشرين امرأة من نساء الأصحاب) صارت عشائرهن في الكوفة تخلّصهن من السبي ينادي المنادي: فلانة الأسديّة، فتخرج، فلانة المذحجيّة، فتخرج، كأنّي بزينب تلتفت يميناً شمالاً ألا من ينادي أين زينب الهاشميّة؟
أين بنات علي عليه السلام؟ أين بنات فاطمة الزهراء عليها السلام؟
إلى أين تتوجّه زينب عليها السلام؟ وقد فقدت كافلها عبّاس.
أنا منين ابو فاضل أجيبه يطفّي نار دلالي ولهيبه
يبن حامي الحمى وليث الحريبه ترضى تصير اختك سليبه
أحِمى الضائِعاتِ بعدك ضِعنا في يدِ النائِباتِ حسرى بوادِي
45
39
مجلس دفن الأجساد الطاهرة
مجلس دفن الأجساد الطاهرة
للهِ مطروحٌ حوتْ مِنهُ الثرى نفْس العُلى والسؤدد المعقودا
ومُجرّحٌ ما غيّرت منهُ القنا حُسْناً ولا أخلقْن منهُ جديدا
قد كان بدرًا فاغتدى شمس الضُحى مُذْ ألبستهُ يدُ الدماءِ لُبودا
وتُظلُّهُ شجرُ القنا حتّى أبتْ إرسال هاجرةٍ إليهِ برِيدا
وثواكِلٌ في النوحِ تُسعِدُ مثلها أرأيت ذا ثكْلٍ يكونُ سعيدا
وغدتْ أسيرة خِدرها ابنةُ فاطمٍ لم تلق غير أسيرِها مصفودا
تدعو بلفهةِ ثاكلٍ لعِب الأسى بفؤادِهِ حتّى انطوى مفْؤودا
تُخفي الشجا جلدًا فإن غلب الأسى ضعُفتْ فأبدتْ شجْوها المكمُودا
47
40
مجلس دفن الأجساد الطاهرة
نادْت فقطّعتِ القلوب بِشجوِها لكنّما انتظم البيانُ فريدا
إنسان عينِي يا حسينُ أُخيّ يا أملِي وِعقْد جُماني المنضُودا
مالي دعوتُ فلا تجيبُ ولمْ تكنْ عوّدتنِي مِن قبلِ ذاك صُدودا
ألمِحْنةٍ شغلتْك عنِّي أمْ قِلىً حاشاك إنّك ما برِحْت ودودا1
يخويه احسين ما تلتفت لينه اوتشوف اللي جره اخلافك علينه
عگب الخدر والله انسبينه أوعلي السجاد ويانه ولينه
عليل أوعلى الناگه امگيدينه اوتفت حتى الصخر جرّت ونينه
التمهيد للمصيبة (گـوريز):
إنّ مصيبة كربلاء جعلت الإمام زين العابدين عليه السلام من البكّائين الخمسة، وتركت في قلبه جرحاً عميقاً، وهذا ما أجاب به أهل الكوفة في قوله:
"فإنّ الجرح لمّا يندمل، قتل أبي (صلوات الله عليه) بالأمس وأهل بيته معه، ولم ينسني ثكل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، وثكل أبي وبني
1- القصيدة للسيّد هاشم البحرانيّ رحمه الله.
48
41
مجلس دفن الأجساد الطاهرة
أبي ووجده بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه تجري في فراش صدري..".
واستمرّ حزن الإمام زين العابدين عليه السلام والبكاء على أبيه ولم يزل باكياً ليله ونهاره، حتّى قال له بعض مواليه: إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، فقال عليه السلام: يا هذا إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّ يعقوب كان نبيّاً فغيّب الله عنه واحداً من أولاده وعنده اثنا عشر، وهو يعلم أنّه حيّ فبكى عليه حتّى ابيضّت عيناه من الحزن، وإنّي نظرت إلى أبي وإخوتي وعمومتي وصحبي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني؟! وإنّي لا أذكر مصرع بني فاطمة إلّا خنقتني العبرة.
خصوصاً أنّ جميع السبايا رأوا مصارع بني فاطمة، ولكن مرّة واحدة، أمّا الإمام زين العابدين عليه السلام فقد رآهم مرّتين، الأولى عندما خرج السبايا من كربلاء، وأمّا الثانية فعندما رجع الإمام لدفن الجثث الطاهرة.
المصيبة:
فقد روي أنّه لمّا ارتحل عسكر ابن سعد من كربلاء، وساروا بالسبايا والرؤوس، نزل بنو أسد إلى جسد الحسين عليه السلام وصار لهم بكاء وعويل، ثمّ إنّهم اجتهدوا على أن يحرّكوه من مكانه
49
42
مجلس دفن الأجساد الطاهرة
ليشقّوا له ضريحاً، فلم يقدروا، أن يحرّكوا عضواً من أعضائه..
فبينما هم في الكلام إذ طلع عليهم أعرابي على متن جواده وقد ضيّق لثامه، فلمّا رأوه انكشفوا عن تلك الجثث الزواكي. فأقبل الأعرابي، ونزل عن جواده، وصار منحيناً كهيئة الراكع، حتّى أتى ورمى بنفسه على جسد الحسين عليه السلام فجعل يشمّه تارة ويُقبّله أُخرى وقد بلّ لثامه من دموع عينيه..
يگله أو تهمل اعيونه أو يحاچيه يبويه اعله الترب لليوم بعدك
ترِيباً سلِيباً يا عزيز محمّدٍ ولم يأتِ من يبكِي عليك ويدْفنُ
فأقسموا عليه بحقّ هذا الجسد الطريح إلّا ما عرّفتنا عن نفسك، فكشف لثامه وإذا به الإمام زين العابدينعليه السلام، يقول بنو أسد ثمّ أقبلنا إليه لنعينه على جسد الحسين عليه السلام، فبكى بكاءاً شديداً، وقال: إنّ معي من يعينني عليه، ثمّ إنّه بسط كفّيه تحت ظهره الشريف وهو يقول: بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، هذا ما وعد الله ورسوله وصدق الله ورسوله، ما شاء الله لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم، ثمّ أنزله وحده لم يشرك معه أحداً منّا فرأيناه قد وضع خدّه على نحره الشريف وهو يبكي.
50
43
مجلس دفن الأجساد الطاهرة
حط خدّه اعله نحره أوظل يشمّه وينادي أو دمع عينه يسجمه
يبويه اخلافك الدنيه مظلمه يگله أو ينتحب وادموعه اتسيل
وضع خدّه على نحره الشريف وهو يقول: طوبى لأرض تضمّنت جسدك الشريف، أمّا الدنيا فبعدك مظلمة وأما الآخرة فبنورك مشرقة، أمّا الحزن فسرمد، وأمّا الليل فمسهّد، حتّى يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت فيها مقيم، وعليك منّي السلام يا بن رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثمّ إنّه أشرج عليه الِلبْن وأهال عليه التراب. ثمّ وضع كفّه على القبر وجعل يخطّ القبر بأنامله.
وذكر أنّه كتب: هذا قبر الحسين بن عليّ بن أبي طالب الذي قتلوه عطشاناً غريباً، ثمّ التفت إلينا وقال: انظروا هل بقي أحد؟ فقالوا: نعم يا سيّدنا بقي بطل مطروح حول المسنّاة.
وكلّما حملنا جانباً منه سقط الآخر لكثرة ضرب السيوف والسهام. فقال: امضوا بنا إليه، فمضينا فلمّا رآه انكبّ عليه يقبّله وهو يقول: على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك منّي السلام من شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته.
يعمي اخلاف عينك يسرتنا اعداك دنهض واشهر سيفك الفتاك
هذا لواك ما تنهض تشيل لواك نايم يا ذخر زينب وچلثومه
51
44
مجلس دفن الأجساد الطاهرة
ثمّ أنزله في ملحودة قبره وأهال عليه التراب. وبعد أن دفن الأجساد الطاهرة، وجاء إلى الكوفة، وإذا بعمّته زينب عليها السلام قالت: يا بن أخي أين كنت هذا اليوم؟ قال: عمّه مضيت إلى دفن أبي الغريب.
تگله يعمه من الظهر لسّاع دگلي كنت غايب وين
سمعها وزادت أحزانه دم سالت دموع العين
گال الها غبت عنك رحت يم جسم أبوي احسين
رحت الوالدي شفته أنا ثلث تيام فارگته
يعمه وإدْفنت جثته ورضيعه البسهم مفطوم
وسدته على صدره
زينب سمعته وصاحت انشدك يا علي نشده
يعمه عادة الميت يصير علترب خده
يعمه اشلون إدْفنت ابوك وراس ما عنده
سمع عمته وهلّ دمعه يگلها ومختلف وضعه
يعمّه ابدال خد احسين صار اعلى الترب نحره
52
45
مجلس دفن الأجساد الطاهرة
التوت وتحيرت زينب صاحت والدمع يجري
يعمه يا علي السجاد ضاق من الهظم صدري
انا نشدك عن ابو فاضل اخوي اللي كفل خدري
شلعت السهم عن عينه دفنت اوياه كفّينه
يعمّه الجود چـاوينه إجيت او ما جبت وياك
جوده ورايته الخضره
عباسُ تسمعُ ما تقولُ سُكينةٌ عمّاهُ يوم الأسرِ من يحمِينِي
أولسْت تسمعُ زينباً تدعوك من لي يا حِماي إذا العِدى نهروني
53
46
مجلس حمل خولّي لعنه الله لرأس الإمام عليه السلام
مجلس حمل خولّي لعنه الله لرأس الإمام عليه السلام
تُغضي وتتْرُكُ ثار جدِّك مُذْ أتتْ حربُ له بجُنودِها تتْرا
وعليه حرّمتِ الفُرات وإِنّما خُلِق الفراتُ لأُمِّهِ مهْرا
فغدى يكِرُّ عليهِمُ فتخالُهُ الكرّار مهما صال أو كرّا
عمدتْ إليه يدُ القضا فرمتْهُ في سهمٍ أصاب حشاشة الزّهرا
فهوى على وجْهِ الصعيدِ مُصافِحاً في خدِّهِ خدّ الثرى قسرا
أفديهِ مطروحاً بعرصةِ كربلا والخيلُ مِنهُ رضّتِ الصدرا
تركوه عُرياناً على حرِّ الصفا ملقىً ثلاثاً لم يجِدْ قبرا
55
47
مجلس حمل خولّي لعنه الله لرأس الإمام عليه السلام
وسروا بِنسوتِهِ على عُجُفِ المطا للشامِ بعد خُدورِها حسرى
تطوي القِفار على نياقٍ ضُلّعٍ وهي التي لا تعرفُ القفْرا
فإذا بكتْ فالسوطُ يُوْلِمُ متنها والرِمحُ يقرعُ رأسها قهرا
وأّشدُّ ما يدعُ العيون سوافِحاً حتّى المماتِ ويصْدعُ الصخرا
إدْخالُهُنّ على يزيد ثواكِلاً ووُقوفُهنّ إِزاءهُ أسرى1
يحسين راسك حين شفته تلعب عصه ايزيد اعله شفته
ذاك الوگت وجهي لطمته أوصديت له ابحرگه أوندهته
شلت يمينك يالـضربته شتمنى أوتعدت له شتمته
يا سلوة الهادي أومهجته خويه معذور يا لحزوا رگبته
التمهيد للمصيبة ( گـوريز):
روي عن الإمام الصادق عليه السلام، يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: "إذا كان يوم القيامة نصب لفاطمة عليها السلام قبّة من نور، ويُقبِلُ
1-القصيدة للسيّد مهدي الأعرجيّ رحمه الله.
56
48
مجلس حمل خولّي لعنه الله لرأس الإمام عليه السلام
الحسين عليه السلام ورأسه في يده، فإذا رأته شهقت شهقة لا يبقى في الجمع ملكٌ مقرّب، ولا نبيّ مرسل إلّا بكى لها.."
وعنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: "إذا كان يوم القيامة تأتي فاطمة عليها السلام في لمّة من نسائها.
فيقال لها: ادخلي الجنّة.
فتقول: لا أدخل حتّى أعلم ما صنع بولدي من بعدي.
فيُقال لها: أنظري في قلب القيامة، فتنظر إلى الحسين عليه السلام قائماً ليس عليه رأس، فتصرخ صرخة، فأصرخ لصراخها وتصرخ الملائكة لصراخها".
"وتنادي وا ولداه، وا ثمرة فؤاداه".
وهي عليها السلام دائمة الحزن على ولدها ولا تنفكّ حتى يؤخذ لها بحقّها..
وفي مقتل الحسين عليه السلام للسيّد المقرّم: قال أبو الحسن الكاتب: عندي جارية كثيرة الصيام والتهجّد، انتبهت البارحة فزعة ترتعد، فصاحت بي: يا أبا الحسن الحقني، قلت: ما أصابك؟! قالت: إنّي صلّيت وردي ونمت، فرأيت كأنّي في درب من دروب الكرخ1 وإذا
1-الكرخ: محلة بغداد
57
49
مجلس حمل خولّي لعنه الله لرأس الإمام عليه السلام
بحجرة نظيفة بيضاء مفتوحة الباب ونساء وقوف عليه، قلت لهنّ: من مات؟ أو ما الخبر؟ فأومأن إلى داخل الدار فدخلت فإذا بدار نظيفة في نهاية الحسن، وفي صحنها امرأة شابّة لم أر قطّ أحسن منها، ولا أبهى ولا أجمل، وعليها ثياب حسنة وملتحفة بإزار أبيض..
المصيبة:
وفي حجرها رأس رجل يشخب دماً فقلت: من أنتِ؟ قالت: لا عليك، أنا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم وهذا رأس ابني الحسين عليه السلام قولي "لابن أصدق" (قارئ التعزية في ذلك الوقت) عنّي أن ينوح: (يعني هذه الأبيات لفاطمة عليها السلام):
أيُّها العينانِ فِيضا واستهِلّا لا تغيضا
وابكِيا بِالطفِّ ميتاً ترك الجِسم رضِيضاً
لم أُمرِّضْهُ قتيلاً لا ولا كان مريضاً
أقول: فاطمة عليها السلام شاهدة عليهم كيف يطوفون بهذا الرأس في البلدان
58
50
مجلس حمل خولّي لعنه الله لرأس الإمام عليه السلام
يقول المؤرّخون: سرّح ابن سعد في اليوم العاشر رأس الحسين عليه السلام مع خولّي بن يزيد الأصبحي، وكان منزل خولّي على فرسخ من الكوفة، فأخفى الرأس عن زوجته الأنصاريّة، لما يعهده من موالاتها لأهل البيت عليهم السلام، إلّا أنّها رأت من تنّور بيتها نوراً عجيباً، راعها ذلك ولم تعهد ذلك النور من قبل، يُروى أنّها أقبلت إلى ذلك التنّور، كشفته وإذا برأسٍ مخضّب بدمائه، فهالها ما رأت، رجعت إلى زوجها قال لها: جئتك بغنى الدهر هذا رأس الحسين بن عليّ، قالت له: ويحك، الناس تأتي بالدراهم والدنانير وأنت جئت برأس الحسين بن فاطمة، لا جمع رأسي ورأسك وسادة أبداً، فخرجت إلى ذلك التنّور فسمعت أصوات نساء يندبنه بأشجى ندبة، ويُروى أنّها أخرجته، وضعته في حِجرِها وجعلت تمسح الرماد عنهُ وهي تقول: يا رأس أقسمت عليك بحقّ محمّد المصطفى، وبحقّ عليّ المرتضى، وبحقّ فاطمة الزهراء عليها السلام إلّا أخبرتني من أنت، صحيح أنت الحسين بن فاطمةعليهما السلام؟ قالت: ففتح الحسين ُعليه السلام شفتيه وقال: أمة الله أنا المظلوم أنا الغريب أنا العطشان.
59
51
مجلس حمل خولّي لعنه الله لرأس الإمام عليه السلام
فصارت تلطمُ على وجهها وعلى رأسها حتى أغمي عليها والرأس في حجرها، تقول: بينما أنا في تلك الحالة وإذا بأربع نسوة قد دخلن عليّ، تقدّمهن امرأة جليلة القدر، عليها ثيابُ السواد تقوم وتقع (يا زهراء) وهي تقول: بُني حُسين قتلوك، ومن شرب الماء منعوك، وما عرفوا من أمّك ومن أبوك؟!!.
أنا حاضرة يا حسين يا بني يا من ريت ذبّاحك ذبحني
إسعدني على ابني يالتحبني
تقول هذه المرأة: أقبلت إليّ قالت: أمة الله ناوليني هذا الرأس، قلت: كيف أدفعه إليك؟ هو ضيفي هذه الليلة، ضيفٌ عزيز، هذا الحسين ابن رسول الله، قالت: أمة الله أنا أولى بهِ منكِ، من أنتِ؟ قالت: أمة الله أنا أمّهُ فاطمةُ الزهراء عليها السلام.
أنا الوالدة المذبوح إبنها وطول الدهر ما بطّل حزنها
مصيبة ويشيب الطفل منها سبعين جثه بدور كنها
بالمعركة محّد دفنها وزينب حدى الحادي بظعنها
الزهراء عليها السلام عندها طلبٌ منك أيّها الموالي، تريدك أن تساعدها على البكاء.
60
52
مجلس حمل خولّي لعنه الله لرأس الإمام عليه السلام
ولسان حالها:
وين اليواسيني بدمعته على ابني الذي حزوا رقبته
وظلت ثلاث تيام جثته أويلاه يبني الما حضرته
يا ناعِياً إنْ جِئت طِيبة مُقبِلاً عرِّج على مكسورةِ الضِلعِ مُعوِلا
وحدِّث بِما مضّ الفؤاد مُفصِّلاً أفاطِمُ لوْ خِلتِ الحسين مُجدّلا
وقد مات عطشاناً بِشطّ فُراتِ
61
53
مجلس رأس الحسين عليه السلام في طريقه إلى الشام
مجلس رأس الحسين عليه السلام في طريقه إلى الشام
أسفي على النِسوانِ في ذُلِّ السِبا إِذْ لمْ يعُدْ أحدٌ هنالِك يسمعُ
ومضى الجوادُ إلى الخيامِ محمْحِماً ينعى الحسين ودمعُهُ يتدفّعُ
فسمِعْن رنّتهُ النِساءُ فقُلن قدْ وقع الذي كُنّا لهُ نتوقّعُ
فخرجْن من فِسطاطِهنّ صوارِخاً جزعاً صُراخاً للصُخورِ يُصدِّعُ
وأتيْنهُ والشِمرُ جاثٍ فوقهُ بحُسامِهِ للرأسِ منهُ يُقطِّعُ
فرقى الحسين وقُلن ويلك يا عدوّ اللهِ ماذا بالمُطهّرِ تصنعُ
فاحتزّ رأس السبطِ يا لكِ لوعةً لم يبق للإسلامِ شملٌ يُجْمعُ
63
54
مجلس رأس الحسين عليه السلام في طريقه إلى الشام
وجرت خيولُهُمُ على جُثمانِهِ حتّى تحطّم صدرُهُ والأضْلُعُ
يا عينُ إبكي للحسينِ وأهلِهِ بدمٍ إذا ما قلّ منكِ المدْمعُ
إبكي عليه ورأسُهُ في ذابِلٍ والجسمُ منهُ بالسُيوفِ مُبضّعُ
إبكي له ملقىً بلا غُسلٍ ولا كفنٍ ولا نعشٍ هناك يُشيّعُ
إبكي لنسوانِ الحسينِ حواسِراً في البيدِ ما فِيهِنّ منْ يتقنّعُ
إِبكي لهنّ يُسقْن بعد حياتِهِ قسراً وهُنّ إذنْ عُطاشا جُوّعُ1
على اوليانها رادت يمرها يسيره أو بالگلب يسعر جمرها
اشلون الخارجي لختك يمرها وهي امخدرة حمّاي الحميه
التمهيد للمصيبة (گـوريز):
عن سليمان بن مهران الأعمش قال: بينما أنا في الطواف أيّام الموسم، إذا رجلٌ يقول: الّلهم اغفر لي وأنا أعلم أنّك لا تغفر. فسألته عن السبب؟ فقال: كنت أحد الأربعين الذين حملوا
1- القصيدة للشيخ نعمان رحمه الله.
64
55
مجلس رأس الحسين عليه السلام في طريقه إلى الشام
رأس الحسين عليه السلام إلى يزيد على طريق الشام. فنزلنا أوّل مرحلة رحلنا من كربلا على دير للنصارى والرأس مركوز على رمح، فوضعنا الطعام ونحن نأكل، فإذا بكفٍّ على حائط الدير يكتب عليه بقلم من حديد سطراً بدم:
أترجو أمّةٌ قتلتْ حُسيناً شفاعة جدِّه يوم الحِسابِ
وقدْ قُتِل الحسينُ بحُكمِ جورٍ وخالف حُكمُهُم حُكم الكِتابِ
ثمّ غاب.
قال سبط ابن الجوزيّ: فنزلوا بعض المنازل، وفي ذلك المنزل دير فيه راهب، فأخرجوا الرأس على عادتهم ووضعوه على الرمح، وحرسه الحرس على عادته وأسندوا الرمح إلى الدير، فلمّا كان من نصف الليل رأى الراهبُ نوراً من مكان الرأس إلى عنان السماء، فأشرف على القوم وقال: من أنتم؟ قالوا: نحن أصحاب ابن زياد. قال: وهذا رأس من؟ قالوا: رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم. قال: نبيّكم؟ قالوا: نعم. قال: بئس القوم أنتم، لو كان للمسيح ولد لأسكنّاه أحداقنا. ثمّ قال: وهل لكم في شيء؟ قالوا: وما هو؟ قال: عندي عشرة آلاف دينار تأخذونها وتعطوني الرأس يكون
65
56
مجلس رأس الحسين عليه السلام في طريقه إلى الشام
عندي تمام الليلة وإذا رحلتم تأخذونه. قالوا: وما يضرّنا، فناولوه الرأس وناولهم الدنانير، فأخذه الراهب فغسّله وطيّبه وأدخله في صومعته، وأقبل يبكي الليل كلّه، فسمع صوتاً ولم ير شخصاً قال: طوبى لك وطوبى لمن عرف حرمته، فرفع الراهبُ رأسه..
المصيبة:
وقال: يا ربِّ بحقّ عيسى تأمر هذا الرأس يتكلّم معي، فتكلّم الرأس وقال: يا راهب أيّ شيء تريد؟ قال: أقسم عليك من أنت؟ قال: أنا ابن محمّد المصطفى، وأنا ابن عليّ المرتضى، وأنا ابن فاطمة الزهراءعليها السلام، وأنا المقتول بكربلا، أنا المظلوم، أنا العطشان، فسكت، لمّا سمع الراهب ذلك، وضع وجهه على وجه الحسين وقال: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله. فلمّا أصبحوا أخذوا منه الرأس.
أقول: شقّ على الراهب أن يفارق رأس الحسين عليه السلام، وأصبح مفجوعاً لفراق أبي عبد الله ومعرفة الراهب بالحسين عليه السلام عمرها ليلة واحدة فقط، مع ذلك عزّ عليه الفراق.
إذاً ما حال من قضت ستّة وخمسين سنة مع الحسين عليه السلام وعينها ما فارقت الحسين عليه السلام، ومنذ الطفولة زينب عليها السلام
66
57
مجلس رأس الحسين عليه السلام في طريقه إلى الشام
والحسين عليه السلام من حضن فاطمة الزهراءعليها السلام إلى حجر أبيها عليّ عليه السلام، قضت عمرها إلى جنب الحسين عليه السلام ولكن اليوم فارقته على رمضاء كربلا
تگله خويه عمر ما فارگتك بيه تذكر يوم احنا زغار
من حضن امنا الزهرا الجوانح حيدر الكرار
عيني إتبحّر بوجهك وروحي وياك ليل نهار
أيام الكنت وياك أناغيك وتناغيني
خرجت من كربلاء وهي تقول: أخي لو خيّروني بين المقام عندك أو الرحيل عنك لاخترت المقام عندك ولو أنّ السباع تأكل لحمي..
ودعتك الله سفرتي صعبة او طويله يحجاب خدري ناقتي عجفا او هزيله
محّد بقى منكم يخويه يلتجيله بس العليل او فوق ناقه امقيدينه
أبكي عليك بعبرةٍ مسكوبةٍ ومدامع بدمِ الفؤادِ مشُوبةْ
ولِما أصابك مِن عظيمِ مُصيبةٍ تبكيك عينِي لا لأجلِ مثُوبةْ
لكنّما عيني لأجلِك باكِية
67
58
مجلس الدخول إلى الشام
مجلس الدخول إلى الشام
بقيّة آلِ اللهِ سوِّمْ عِرابها فقدْ سلبتْ حربٌ نِزاراً إهابها
وشيعتُكُم ضاعتْ فحيثُ توجّهتْ رأتْ نِوب الأرزاءِ سدّتْ رِحابها
فُنينا فقُم وانقذ بقيّة شملِنا فقد أنشبتْ فِينا أعاديك نابها
أتسطيعُ صبراً أنْ يُقال أُميةٌ أجالتْ على جِسمِ الحسينِ عرابها
وإِنّ برغمِ الغُلْبِ أبناء غالِبٍ كريمتُه أضحى الدماءُ خِضابها
تُخاطبُ شجْواً حامليهِ نساؤهُ وقد شبّ في أحشائِها ما أذابها
أيا حامِلاً في الرمحِ رأساً بحملِهِ لوتْ ذلّةً ابنا لؤيٍّ رقابها
أتعلمُ ماذا قد حملت على القنا وأيّ بني وحيٍ تُقِلُّ كتابها
68
59
مجلس الدخول إلى الشام
أتنسى وهل يُنسى مُصابُ حرائرٍ أصابك ما يوم الطفوفِ أصابها
أتنسى وهل يُنسى وقوفُ نسائكم لدى ابن زيادٍ إذ أماط حِجابها
وعمّتُك الحوراءُ أنّى توجّهتْ رأتْ نائِباتِ الدهرِ تقرعُ بابها
لها اللهُ مِن مسلوبةٍ ثوب عزِّها كستها سياطُ المارقين ثيابها1
گوم يبن العسكري ما تنهضم تنسى وقعة كربلا أوعينك غفت
تنسى وقعة كربلا اوجدك ذبيح ظل ثلث تيام علرمضا طريح
يمتى تنهض سيدي أوبيها تصيح يالثار احسين وأصحابه الغدت
يا لثار احسين جدك ولصحاب علثرى أمست أو مسلوبه الثياب
ليت حاضر سيدي اتشوف الرقاب دون عزها احسين كلها اتقطعت
التمهيد للمصيبة ( گـوريز):
عن جابر الجعفيّ، أنّه قال: لمّا جرّد أبو جعفر عليه السلام أباه عليّ بن الحسين عليه السلام ثيابه سمعته ينشج2 فأمهلته إلى أن فرغ، فقلت له: يا بن رسول الله ممّ بكاؤك وأنت تغسل أباك، أكان حزناً عليه؟
1- القصيدة للسيّد عبد الحسين شكر رحمه الله، من قصيدة له يخاطب بها الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
2- نشج الباكي ينشج - كضرب يضرب - نشيجاً:غصّ بالبكاء في حلقه.
69
60
مجلس الدخول إلى الشام
قال: لا يا جابر وإن عزّ عليّ فراقه، ولكن يا جابر لمّا جرّدت أبي ثيابه، رأيت آثار الجامعة1 في عنقه، وآثار جرح القيد في رجليه.
وهذه الآثار في عنقه ورجليه لمّا حُملوا إلى الشام أسارى، وقد صادف دخول الصحابيّ سهل بن سعد الساعديّ إليها..
قال المجلسيّ في البحار: عن سهل بن سعد الساعديّ قال: خرجت إلى بيت المقدس حتّى توسطّت الشام، فإذا أنا بمدينة مطّردة الأنهار كثيرة الأشجار، وقد علّقوا الستور والحجب والديباج وهم فرحون مستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول. فقلت في نفسي لا نرى لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن، فرأيت قوماً يتحدّثون. فقلت: يا قوم ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن. قالوا: يا شيخ نراك غريباً؟! فقلت: أنا سهل بن سعد قد رأيت محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم. قالوا: يا سهل ما أعجبك السما لا تمطر دماً، والأرض لا تخسف بأهلها. قلت: ولم ذلك؟ قالوا: هذا رأس الحسين عترة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم يُهدى من أرض العراق. فقلت: واعجباه يُهدى رأس الحسين والنّاس يفرحون، قلت: من أيّ باب يدخل؟ فأشاروا إلى باب يُقال له: باب الساعات.
1- الجامعة مؤنث جامع: الغل، لأنها تجمع اليدين إلى العنق.
70
61
مجلس الدخول إلى الشام
المصيبة:
قال: فبينما أنا كذلك إذ الرايات يتلو بعضها بعضاً، فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السنان، عليه رأس، نعم أتدري لمن هذا الرأس؟ وجهه قمريّ أزهريّ كأنّه بدر طالع أشبه النّاس بأمير المؤمنين عليه السلام وهو رأس قمر العشيرة أبي الفضل.. ثمّ نظر سهل أمام المخدّرات فرأى رأساً آخر يشرق النور منه، وله مهابة عظيمة ذو لحية مدوّرة، قد خالطها الشيب والريح تلعب بلحيته الشريفة يميناً وشمالاً، كأنّه وجه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فلمّا تبيّن سهل وإذا به رأس الحسين بن علي عليه السلام ريحانة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم.
مشين أُسًارى خلف رأْسٍ مُعلّقٍ على الرمحِ لا وعيٌ لهنّ ولا صبْرُ
قد اضْطرمتْ أكبادُهُنّ من الأسى وحلّ بِهِنّ الموتُ والرُّعبُ والذُعْرُ
سبايا وهلْ تُسْبى بناتُ محمّدٍ وهُنّ بتاجِ المجْدِ أنْجُمُهُ الزُّهْرُ
لمّا رأى سهل النساء المسبيّات مقيّدات بالحبال (قال سهل): فدنوت من أولاهنّ فقلت: يا جارية من أنت؟ فقالت: أنا سكينة بنت الحسين.
71
62
مجلس الدخول إلى الشام
آنه العگب عزّي اودلالي أوجمعت هلي أوذيك الليالي
ما بين گوم أنذال تالي يسيره أو زجر صاير الوالي
يا ذلّتي او يا ظيم حالي
فقلت لها: ألك حاجة إليّ، فأنا سهل بن سعد ممّن رأى جدّك وسمع حديثه؟ قالت: يا سهل قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّم الرأس أمامنا، حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه، ولا ينظروا إلى حرم رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم.
قال سهل: فدنوت من صاحب الرأس فقلت له: هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ منّي أربعمائة دينار؟ قال: ما هي؟ قلت: تقدّم الرأس أمام الحرم، ففعل ذلك فدفعت إليه ما وعدته.
وسرتْ ومِنْ رأسِ الحسينِ أمامها ثغْرٌ يضيءُ لها الدُجى وجبينُ
بأبي المشيّعِ فوق أطرافِ القنا ولهُ عويلٌ خلفهُ ورنينُ
تصفّر منهنّ الوجوهُ فإنْ بكتْ تسودُّ منها بالسياطِ متونُ
(...) قال سهل: ورأيت روشناً1 عالياً فيه خمسة نسوة، ومعهنّ
1- الرونش: هي أن تخرج أخشاباً إلى الدرب وتبنى عليها، وتجعل لها قوائم من أسفل.
72
63
مجلس الدخول إلى الشام
عجوز محدودبة الظهر فلمّا رأت رأس الحسين عليه السلام وهو على رمح طويل، وشيبته مخضوبة بالدماء قالت: لمن هذا الرأس المتقدّم؟ وما هذه الرؤوس التي خلفه؟ فقالوا لها: هذا رأس الحسين عليه السلام وهذه رؤوس أصحابه. ففرحت فرحاً عظيماً وقالت: ناولوني حجراً لأضرب به رأس الحسين، فناولوها حجراً فضربت به وجه الحسين عليه السلام، فأدمته وسال الدم على شيبته، فالتفتت إليه أمّ كلثوم فرأت الدم سائلاً على وجهه وشيبته، فلطمت وجهها ونادت: واغوثاه وا مصيبتاه وا محمّداه وا عليّاه واحسيّناه.
يا جميلاً كسا الوجود جمالا وجهُك البدرُ نيّرٌ يتلالا
خاطبتْهُ مُذ بان يزهو هِلالا يا هلالاً لماّ استتمّ كمالا
غالهُ خسفُهُ فأبدى غُروبا
وقيل: أنّ سهل قال للإمام عليه السلام: هل من حاجة؟ قال: يا سهل هل عندك ثوب عتيق؟ قلت سيّدي: ما تصنع به (أنتم تهدون إلى النّاس الثياب الثمينة وتسألني ثوباً بالياً)؟ قال: لأضعه تحت الجامعة فإنّها أكلت عنقي. قال سهل فناولته الثوب، فلمّا
73
64
مجلس مصائب السبايا في خربة الشام
مجلس مصائب السبايا في خربة الشام
آلُ النبيِّ بنو الوحيِ ومنبعُ الشرفِ العليِّ وللعلومِ مفاتِحُ
الجدُّ خيرُ المرسلين محمّدُ الهادي الأمينُ أخوُ الخِتامِ الفاتِحُ
والأُمُّ فاطمةُ البتولِةِ بضعةُ الهادي الرسولِ لها المُهيّمنُ مانحُ
والوالدُ الطهرُ الوصيُّ المرتضى علمُ الهدايةِ والمنارُ الواضِحُ
مولىً له النبأُ العظيمُ وحبُّهُ النهجُ القويمُ به المتاجِرُ رابِحُ
يا ناصر الإسلامِ يا باب الهُدى يا كاسر الأصنامِ فهي طوامِحُ
يا ليت عينك والحسينُ بكربلا بين الطغاةِ عنِ الحريمِ يُكافِحُ
أفديهِ محزوز الوريدِ مرمّلاً مُلقىً عليه التُرْبُ سافٍ سافِحُ
75
65
مجلس مصائب السبايا في خربة الشام
والطاهراتُ حواسِرٌ وثواكِلٌ بين العِدى ونوادِبٌ ونوائِحُ
يا فاطمُ الزهراءُ قومي وانظُري وجه الحسينِ له الصعيدُ مُصافِحُ
أكفانُهُ نسْجُ الغُبارِ وغُسلُهُ بدمِ الوريدِ ولمن تنُحْهُ نوائِحُ
وعلى السِنانِ سِنانُ رافعُ رأسِه ولجسمِهِ خيلُ العِداةِ روامِحُ1
حرت يحسين بعيالك ولمها امصايب شفت ما يبره ولمها
درت بالطف بني هاشم ولمها تسل اسيوفها أو تنغر عليه
التمهيد للمصيبة ( گـوريز):
أمر يزيد اللعين بإنزال السبايا في خربة تصهرهم فيها حرارة الشمس، وقد ذكر أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام كان يخرج منها ليروّح عن نفسه، فرآه المنهال ابن عمرو يوماً في حالة يُرثى لها فقال له: سيّدي ما الذي أخرجك مع ما أرى بك من الضعف؟ فقال: يا منهال إنّ الخربة التي نحن فيها لا تقينا من الحرّ، حتّى لقد تقشّرت وجوه عمّاتي من حرارة الشمس، يا
1- القصيدة للشيخ الحافظ البرسيّ رحمه الله.
76
66
مجلس مصائب السبايا في خربة الشام
منهال أنا أخرج سويعة أروّح فيها عن ضعف بدني، فقال المنهال وبينما أنا أكلّمه ويكلّمني، وإذا بامرأة تقوم وتقع تنادي إلى أين يا حمانا؟ إلى أين يا رجانا؟ فسألت عنها فقيل لي: هذه عمّته زينب، فما رجعت إلى الخربة حتى أرجعته معها..
وفي تلك الخربة كانت للحسين عليه السلام بنت صغيرة يحبّها وتحبّه كثيراً، تسمّى رقيّة، لها ثلاث سنين، وكانت مع الأسراء في الشام، وهي تبكي لفراق أبيها ليلها ونهارها، وكانوا يقولون لها هو في السفر فرأته ليلة في النوم..
المصيبة:
فلمّا انتبهت جزعت جزعاً شديداً وقالت: ايتوني بوالدي قرّة عيني، وكلّما أراد أهل البيت عليهم السلام إسكاتها ازدادت حزناً وبكاءاً ولبكائها هاج حزن أهل البيت عليهم السلام فأخذوا في البكاء ولطموا الخدود وارتفع الصياح، فسمع يزيد صيحتهم وبكاءهم فقال: ما الخبر؟ قيل له: إنّ بنت الحسين الصغيرة رأت أباها بنومها فانتبهت وهي تطلبه وتبكي وتصيح. فلمّا سمع يزيد ذلك قال: ارفعوا إليها رأس أبيها وحطّوه بين يديها تتسلّى، فأتوا بالرأس في طبق مغطّى بمنديل ووضعوه بين يديها فقالت: ما هذا! إنّي
77
67
مجلس مصائب السبايا في خربة الشام
طلبت أبي ولم أطلب الطعام، فقالوا: إنّ هنا أباك فرفعت المنديل ورأت رأساً، فقالت: ما هذا الرأس؟! قالوا: رأس أبيك، فرفعت الرأس وضمّته إلى صدرها، وهي تقول: يا أبتاه من ذا الذي خضّبك بدمائك؟! يا أبتاه من ذا الذي قطع وريديك؟! يا أبتاه من ذا الذي أيتمني على صغر سنّي؟! يا أبتاه من لليتيمة حتى تكبر؟! يا أبتاه من للنساء الحاسرات؟! يا أبتاه من للأرامل المسبيّات؟! يا أبتاه من للعيون الباكيات؟! من بعدك واغربتاه يا أبتاه!!
يا والدي والله هظيمه أنا صير من زغري يتيمه
والنوح من بعدك لجيمه أثاري الأبو يا ناس خيمه
يفيّي على ابْناته وحريمه
ليتني توسّدتُ التراب ولا أرى شيبك مخضّباً بالدماء!!
ثمّ وضعت فمها على فم الشهيد المظلوم وبكت حتىّ غشى عليها، فلمّا حرّكوها فإذا هي قد فارقت روحها الدنيا، فارتفعت أصوات أهل البيت عليهم السلام بالبكاء وتجدّد الحزن والعزاء..
كمْ رأتْ في خرابةِ الشامِ أحزاناً تسيخُ الجِبالُ مِن بلواها
رأتِ الذلّ والهوان وقيد الأسرِ فازداد حُزنُها وشجاها
78
68
مجلس مصائب السبايا في خربة الشام
وجاءت هند زوجة يزيد لتتفرّج على السبايا، ولم تعرف أنهنّ سبايا آل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم، وهذه هند كانت قد عاشت في المدينة وتعرف بيت أمير المؤمنين عليه السلام..
أقبلت هند ووضع لها كرسيّها، جلست عليه وأخذت تطيل النظر إلى العائلة، بينما هي تنظر وإذا بها أجهشت بالبكاء، ثمّ التفتت إلى زينب عليها السلام وما كانت تعرف أنّ هذه زينب عليها السلام، ومن أين تعرفها؟! وما ظنّت أنّ الزمان يضربها هذه الضربة! تقدّمت إليها بعبرة قالت لها: أخيّه إدني منيّ، أقبلت زينب ومعها الأطفال يريدون أن يعرفوا ماذا تريد أن تسأل زوجة يزيد، قالت لها: أخيّه أنا جئت لأتفرّج والآن تغيّر الحال لمّا رأيتكم، كسرتم خاطري، وقطّعتم قلبي وبكيت لكم رحمة بكم، من أيّ السبايا أنتم؟ قالت لها زينب عليها السلام: نحن سبايا من المدينة، قالت: المدائن كثيرة، من أيّ مدينة؟ قالت زينب: من مدينة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم.
لمّا سمعت هند ذلك قامت على قدميها وضعت يديها على رأسها قالت: السلام عليك يا رسول الله ثمّ التفتت إلى السيّدة زينب عليها السلام وقالت لها: يا صالحة لي بهذه المدينة أهل ودار أسألك عنهم، قالت: ومن هم؟ قالت: هي دار سيّدي ومولاي أمير
79
69
مجلس مصائب السبايا في خربة الشام
المؤمنين عليه السلام..... إلى أن قالت: أسألك عن فخر المخدّرات زينب، أسألك عن سيّدي أبي عبد الله، وأسألك عن مولاي أبي الفضل العبّاس، وأسألك عن رباب وأمّ كلثوم وعن سكينة... أخذت تسأل عن الجميع...فاختنقت زينب بعبرتها، قالت لها زينب عليها السلام: يا هند لقد آذيتينا، يا هند تسألين عن دار عليّ فقد خلّفناها تنعى أهلها.
تسألين عن الحسين رأسه بين يدي يزيد، تسألين عن قمر العشيرة تركناه على شاطي العلقميّ بلا كفّيْن، تسألين عن أمّ كلثوم هذه الجالسة بجانبك، تسألين عن رباب هذه رباب، تسألين عن سكينة تلك سكينة الجالسة ورأسها بين ركبتيها، بعد عن من تسألين؟ تسألين عن زينب؟ آه... أنا زينب.
أنا زينب لِيحكون عني عظيم المصايب مرْمرنِّي
مصايب حسين الدوهنّني نِزْلن على عيوني وعمنّي
قالت: ماذا صنع الدهر بكم يا زينب؟
بينه، والله خان الدهر يا هند بينه أخونه انذبح واحنا انسبينه
لمّا سمعت ذلك هند شقّت جيبها، وضربت رأسها فخرجت
80
70
مجلس مصائب السبايا في خربة الشام
صارخة: وا إماماه... واحسيّناه، صاح النّاس: أجننت يا أميرة؟! قالت: سوّد الله وجوهكم أهل الشام، أتفرحون وهذا رأس الحسين عند يزيد.
ثمّ قامت هند وحسرت رأسها وشقّت الثياب وهتكت الستر، وخرجت حافية إلى يزيد وهو في مجلس عامّ، وقالت: يا يزيد أنت أمرت برأس الحسين عليه السلام يُشال على الرمح عند باب الدار؟ رأس ابن فاطمة بنت رسول الله مصلوب على فناء داري؟ فلمّا رأى زوجته على تلك الحالة وثب إليها فغطّاها وقال: نعم فأعولي يا هند وابكي على ابن بنت رسول الله وصريخة قريش فقد عجّل عليه ابن زياد فقتله.
أيّ المحاجر لا تبكي عليك دماً أبكيت والله حتّى مِحْجر الحجرِ
81
71
مجلس الأربعين ورجوع السبايا إلى كربلاء
مجلس الأربعين ورجوع السبايا إلى كربلاء
وكمْ ذاتِ خِدرٍ سجّفتْها حماتُها بِسُمْرِ قنىً خِطيّةٍ وبِلُمّعِ
لقد نهبتْ كفُّ المصابِ فُؤادها وأيدي عِداها كلّ بُردٍ وبُرقعِ
فلم تستطِعْ عن ناظريها تستُّراً بغيرِ أكفٍّ قاصراتٍ وأذرعِ
ولمّا رأتهُ بالعراء مُجدّلاً عفيراً على الرمضاءِ غير مشيّعِ
دنتْ منهُ والأرزاءُ تمضغُ قلبها وحنّتْ حنين الوالِهِ المتفجِّعِ
تقولُ وظِفرُ الوجدِ يُدمي فُؤادها عليّ عزيزٌ أن أراك مُودِّعي
عليّ عزيزٌ أن تموت على ظمىً وتشربُ في كأسٍ من الحتفِ مُترعِ
أخِي إنّ شمراً سامني بعدك الأذى وأركبني مِن فوقِ أدبُرِ أضلعِ
82
72
مجلس الأربعين ورجوع السبايا إلى كربلاء
أنعِمْ جواباً يا حسينُ أما ترى شمر الخنا بالسوطِ كسّر أضلُعي
فأجاب زينب وهو يفحصُ في الثرى قُضِي القضاءُ بِما جرى فاسترجِعِي
وتكفّلي حال اليتامى وانظُري ما كُنتُ أصنعُ في حماهُم فاصنعِي1
تگله يحسين توصيني بالايتام حرمه وطحت ما بين ظلاّم
ترضه يبو الشيمه يضرغام خواتك يسارى اتروح للشام
خويه يحسين والله حيّرتني حرمة ابجريره كلّفتني
وما بين عدوانك عفتني
التمهيد للمصيبة (گـوريز):
يقول الإمام الصادق عليه السلام: زُرِ الحسين جائعاً عطِشاً شعثاً مغبّراً، فإنّه قُتِل جائعاً عطشاناً، ومن هنا فإنّ الإمام زين العابدين عليه السلام كلّما نظر إلى طعام أو شراب يبكي ويقول: كيف آكل وقد قُتِل والدي الحسين جائعاً؟ وكيف أشرب وقد قُتِل أبي عطشاناً؟
ولعلّ أوّل من زار الحسين عليه السلام هو جابر بن عبد الله الأنصاريّ، وكان يولي الحسين محبّةً خاصّة، حتى عرف بحبيب الحسين عليه السلام، وكان قد فقد بصره، ويروى أنّه رأى رؤيا قبل خروجه إلى كربلا، نام ليلته فرأى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في المنام وهو أشعث
1- القصيدة للشيخ محمّد حسين الحلّي رحمه الله.
83
73
مجلس الأربعين ورجوع السبايا إلى كربلاء
مغبّر مكشوف الرأس، فقال: ما لي أراك يا رسول الله أشعث؟ فقال: يا جابر الآن رجعت من دفن ولدي الحسين، ثمّ تجهّز جابر للمسير إلى كربلاء، فجاء ومعه عطيّة وغلامه حتّى وافى كربلاء.
عن عطيّة العوفيّ قال: خرجت مع جابر بن عبد الله الأنصاريّ زائراً قبر الحسين عليه السلام، فلمّا وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات، فاغتسل ثمّ اتّزر بإزار وارتدى بآخر. ثمّ فتح صرّة فيها سُعدٌ فنثرها على بدنه، ثمّ لم يخطو خطوة إلّا ذكر الله تعالى، حتّى إذا دنا من القبر قال: ألمسنيه..
المصيبة:
فألمستُهُ فخرّ على القبر مغشيّاً عليه، فرششت عليه شيئاً من الماء، فلمّا أفاق قال: يا حسين ثلاثاً ثمّ قال: حبيب لا يجيب حبيبه.
الله يا جسم الربه إبحضن الزكيه وابحضن طه المصطفى أوحيدر وصيّه
تالي الجسم هذا تگطْعه اسيوف أُميّه وابنات حيدر تنسبي أوتمشي ويّالجناب
ثمّ قال: وأنّى لك بالجواب، وقد شخبت أوداجك على أثباجك، وفرّق بين بدنك ورأسك، فأشهد أنّك ابن خاتم النبيّين، وابن سيّد المؤمنين، وابن فاطمة سيّدة النساء، وما لك لا تكون هكذا
84
74
مجلس الأربعين ورجوع السبايا إلى كربلاء
وقد غذّتك كفّ سيّد المرسلين، وربّيت في حجر المتّقين، ورضعت من ثدي الإيمان، وفطمت بالإسلام، فطبت حيّاً وطبت ميّتاً، غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيّبةٍ بفراقك، ولا شاكّةٍ في الخيرة لك، فعليك سلام الله ورضوانه، وأشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريّا.
ثمّ جال ببصره حول القبر وقال: السلام عليكم أيّتها الأرواح التي حلّت بفناء الحسين وأناخت برحله، والذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه، قال عطيّة:
فقلت له يا جابر فكيف ولم نهبط وادياً ولم نعلُ جبلاً، ولم نضرب بسيف والقوم قد فرّق بين رؤوسهم وأبدانهم وأوتمت أولادهم وأرملت أزواجهم؟ فقال (لي): يا عطيّة سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول: "من أحبّ قوماً حُشر معهم، ومن أحبّ عمل قوم أُشرك في عملهم".
ويروى لمّا رجع السبايا من الشام إلى المدينة توجّهت زينب عليها السلام إلى الإمام زين العابدين عليه السلام: عمّه مُرِ الحادي أن يعرّج بنا إلى كربلاء لنجدّد عهداً بأبيك وباقي أعمامك. فزينب عليها السلام منذ أربعين يوماً غائبة وشوقها إلى الحسين عليه السلام يحدوها للقائه لتبثّه شكواها ممّا جرى لها في السبي.
كأنّي بها توجّهت نحو حادي الإبل:
بالله عليك مر بينا يحادي الابل مر بحسين نشكيله الهظم والذل
85
75
مجلس الأربعين ورجوع السبايا إلى كربلاء
ذل وهظم نشكيله وفرقه البين دلاها العليل ويهلّ دمع العين
عمّه إن كنت تسألين عن دُور إخوتك فهذه ديارهم أضحت قبوراً، تضمّ أجساداً مبضّعة وأشلاءً مقطّعة، وهذا قبر الحسين أبي يا عمّه..
يا عمة الدار هذي وذاك قبر حسين وهاي قبور اخوتك والاصحاب الكل
من سمعته ونّت والدمع مدرار طبت كربلا والقلب يجدح نار
تگل للدار أسمع سؤال زينب للدار
وين اهلك غدو يا دار دليني بيا وادي بيا منزل
بيا وادي بيا منزل غدوا عنك خنت الضيف ما هذا الرجا منك
عمّن تسألين يا زينب؟
صاحت عن احسين عن عباس انشدنچ يوعن علي وجاسم والعيون تهلْ
قال عطيّة: فبينما نحن كذلك وإذا بسواد قد طلع من ناحية الشام، فقلت: يا جابر هذا سواد قد طلع من ناحية الشام، فقال جابر لعبده:
انطلق إلى هذا السواد وأتنا بخبره، قال فمضى العبد، فما كان بأسرع من أن رجع وهو يقول: يا جابر قم واستقبل حرم رسول الله، هذا زين العابدين عليه السلام قد جاء بعمّاته وأخواته، فقام جابر
86
76
مجلس الأربعين ورجوع السبايا إلى كربلاء
يمشي حافي القدمين مكشوف الرأس إلى أن دنا من زين العابدين عليه السلام فقال الإمام عليه السلام: "أنت جابر؟" فقال: نعم يا بن رسول الله، فقال: "يا جابر ها هنا والله قُتلت رجالنا، وذُبحت أطفالنا، وسُبيت نساؤنا وحُرقت خيامنا".
يا جابر مات بوي حسين ظامي بشط العلقمي والماي طامي
ولا واحد لفى من أهلي وعمامي بس الخيل حول الخيم تفتر
أمّا زينب عليها السلام كأنّي بها:
يا نازِلِين بِكربلا هلْ عِندكُم خبرٌ بِقتلانا وما أعلامُها
ما حالُ جُثّةِ ميتٍ في أرضِكُم بقِيتْ ثلاثاً لا يُزارُ مقامُها
ويروى أنّه لمّا دنا منها الإمام عليه السلام قالت: خذ بيدي فلقد غشي على بصري أصبحت لا أرى، دلّني على قبر أخي، أخذ السجاد عليه السلام بيدها، أقبل بها إلى قبر الحسين عليه السلام وضع يديها على القبر صرخت الحوراء عليها السلام واحسيّناه، واحسيّناه.
أخي حسين هل غسّلوك أم كفّنوك أم بغير كفنٍ دفنوك.. وجعلت تبثّه شكواها
أنا ضعت وتحيّرت يحسين بعداك وتمنيت الفنا بعد يا خوي بعداك
والله ما ريد العمر يحسين بعداك عمت عيني ولا شوفك عالوطيه
أدارت العائلة على قبر الحسين عليه السلام يلطمون واحسيّناه
87
77
مجلس الأربعين ورجوع السبايا إلى كربلاء
وامصيبتاه، هذا وزينب لسان حالها:
تنادي لو ينكشف يا حسين قبرك أشگ اللحد وتمدد بجنبك
ريت عمري قبل عمرك وإنت اللي تكفني يا لحسين
واجتمعت النّساء على الإمام السجّاد عليه السلام كلٌّ تسأله عن قبر فقيدها. فمنهنّ الرباب أمّ عبد الله أقبلت إليه والثكل بادٍ عليها منادية: يا بن الحسين أين قبر ولدي الرضيع؟ دلّني عليه، فأقبل بها إلى قبر أبيه الحسين عليه السلام وعيناه تمطران دموعاً وقال: ها هنا دفنت ولدك وأشار إلى جانب صدر الحسين، فانكبّت على القبر الشريف.
وكأنّي بها تقول مخاطبة الحسين عليه السلام في قبره:
رد لهفتي يا لتسمع انداي أو فكّ الگبر بحسين ليّه
خافن أوليدي ابنومته هاي تحت الترب شايف أذيّه
درّت عله اوليدي ثداياي أو هوّه تحت هاي الوطيّة
ثمّ التفتت زينب عليها السلام إلى النساء:
نادت يا الحرم قومن مشنّه لعند لي تكفلنا من أهلنا
نريده يقوم ويردنا لوطنا ما هو لي جابنا وبينا تكفل
أقبلت الحوراء مع النساء إلى قبر أبي الفضل عليه السلام جلست
88
78
مجلس الأربعين ورجوع السبايا إلى كربلاء
عنده نادت عبّاس:
والله نادت يا خوي يا عزنا وقمرنا هاي المحامل قوم ردنا
لعند المدينة وطن جدنا
أتُرى يعودُ لنا الزمانُ بِقُربِكُم هيهات ما لِلقُربِ مِن مِيعادِ
89
79
مجلس الرجوع إلى المدينة
مجلس الرجوع إلى المدينة
يا راكِباً شدقميّاً في قوائِمِهِ يطوي أديم الفيافِي كُلّما ذرعا1
عُجْ بالمدينةِ واصرخْ في شوارِعِها بِصرخةٍ تملأُ الدُنيا بِها جزعا
نادِ الذين إذا نادى الصريخُ بِهم لبُّوهُ قبل صدىً من صوتِهِ رجعا
قل يا بني شيبةِ الحمدِ الذين بِهمْ قامتْ دعائمُ دينِ اللهِ وارتفعا
قُوموا فقدْ عصفتْ بالطفِّ عاصِفةٌ مالتْ بأرجاءِ طودِ العِزِّ فانصدعا
إنْ لم تسدّوا الفضا نقْعاً فلم تجدوا إلى العُلا لكُمُ من منهجٍ شرعا
فلتلْطمِ الخيلُ خدّ الأرضِ عاديةً فإنّ خدّ حسينٍ للثرى ضرعا
ولتُملإِ الأرضُ نعياً في صوارِمِكُم فإنّ ناعي حسينٍ في السماءِ نعا
ولتذهلِ اليوم مِنكمْ كُلُّ مُرضِعةٍ فطِفْلُهُ مِن دِما أوداجِهِ رضعا2
1- يقال هذه ناقة تُذارعُ بُعد الطريق، أي تمدُّ باعها وذراعها لتقطعه، لسان العرب، ج8، ص95.
2- القصيدة للشيخ صالح الكوّاز رحمه الله.
90
80
مجلس الرجوع إلى المدينة
يا طارشي عجّل بمسراك وخذلي رسالة عتب ويّاك
لبويه الصميده مدير الافلاك أوصيك من توصل بحيّاك
وتشوف وادي الغري بعيناك أصفج يمينك فوق يسراك
ونادي يمن بالكون فتّاك زينب الكانت قبل بحماك
يسيره تراهي بولية اعداك
التمهيد للمصيبة ( گـوريز):
في أمالي الشيخ الصدوق بسنده المعتبر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في بيت أمّ سلمة، فقال لها: لا يدخل عليّ أحد، فجاء الحسين- وهو طفل- فما ملكتُ معه شيئاً، حتى دخل على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فدخلت أمّ سلمة على أثره، فإذا الحسين على صدر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وإذا النبيّ يبكي، وإذا في يده شيء يقبّله. فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: يا أمّ سلمة، إنّ هذا جبرئيل يخبرني أنّ هذا مقتول، وهذه التربة التي يقتل عليها، فضعيها عندك، فإذا صارت دماً فقد قتل حبيبي. فقالت أمّ سلمة: يا رسول الله، سل الله أن يدفع ذلك عنه؟ قال: قد فعلت، فأوحى الله – عزّ وجلّ – إليّ: أنّ له درجة لا ينالها أحد من المخلوقين، وأنّ له
91
81
مجلس الرجوع إلى المدينة
شيعة يشفعون فيشّفعون، وأنّ المهديّ من ولده، فطوبى لمن كان من أولياء الحسين، وشيعته هم – والله – الفائزون يوم القيامة".
ولمّا عزم الحسين عليه السلام أن يخرج من المدينة، جئته وقلت: أي بُنيّ لا تفجعني بنفسك، فإنّي سمعت جدّك رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول: يقتل ولدي الحسين بأرض العراق، بمكان يقال له كربلاء، لا تخرج إلى العراق.
فقال لها الحسين عليه السلام: يا أمّاه وأنا أعلم ذلك وأعرف اليوم الذي أقتل فيه، وأعرف من يُقتل معي من أهل بيتي، ولو أردت يا أمّاه أن أريك حفرتي ومضجعي ومصرعي لفعلت.
قالت: بلى يا بُني إنّي أحبّ ذلك، فأومأ الحسين عليه السلام إلى جهة كربلاء فانخفضت الأرض، فنظرت أمّ سلمة فأراها الإمام عليه السلام مكان مصرعه ومصارع أصحابه وأهل بيته عليهم السلام.
فبكت أمّ سلمة وقالت: خار الله لك، ولكن جدّك رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم دفع إليّ تربة، وقصّتها كيت وكيت..
المصيبة:
قال عليه السلام: نعم يا أمّاه أنا أعلم بتلك التربة، وهذه تربة أيضاً من تلك التربة، ضعيها مع تربة جدّي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم وراقبيها، متى رأيتيهما يفوران دماً عبيطاً فاعلمي أنّي قد قتلت.
92
82
مجلس الرجوع إلى المدينة
عن عبد الله بن عبّاس، قال: بينما أنا راقد في منزلي إذ سمعت صراخاً عظيماً عالياً من بيت أمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فخرجت يتوجّه بي قائدي إلى منزلها، وأقبل أهل المدينة إليها الرجال والنساء، فلمّا انتهيت إليها قلت: يا أمّ المؤمنين، ما بالك تصرخين وتغوثين؟ فلم تجبني، وأقبلت على النسوة الهاشميّات وقالت: يا بنات عبد المطلب اسعدنني وابكين معي، فقد والله قتل سيّدكن وسيّد شباب أهل الجنّة، قد والله قتل سبط رسول الله وريحانته الحسين، فقيل يا أمّ المؤمنين، ومن أين علمت ذلك؟ قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في المنام الساعة شعثاً مذعوراً، فسألته عن شأنه ذلك، فقال: قتل ابني الحسين وأهل بيته اليوم فدفنتهم، والساعة فرغت من دفنهم..
ويروى أنّ ابن عبّاس قال لها: يا أمّ سلمة هذه رؤيا، فهل عندك دليل آخر؟ قالت: فقمت حتى دخلت البيت وأنا لا أكاد أن أعقل، فنظرت فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرئيل من كربلا وقد صارت دماً عبيطاً تفور. قالت: يا بن عبّاس أوما تنظر القارورتين تفوران دماً؟ فلطم وجهه..
قال ابن عبّاس: وأخذت أمّ سلمة من ذلك الدم، فلطّخت به
93
83
مجلس الرجوع إلى المدينة
وجهها، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحة على الحسين...
ويلي إجاني الخبر بحسين مذبوح ودمه على التربان مسفوح
لنوحن وقضِّي العمر بالنوح واعمي عيوني واتلف الروح
اشلون الصبر وحسين مذبوح
فقال لها ابن عبّاس:
يا أمّ سلمة أكتمي الخبر حتّى يأتي البريد- يعني حتى ينتشر النبأ بصورة عامّة وبصورة رسميّة- فكتموا الخبر إلى أن صار اليوم الذي قدم فيه الإمام زين العابدين عليه السلام بعمّاته وأخواته، ودخل بشرُ بن حذلم ينعى الحسين عليه السلام لأهل المدينة فصار يصرخ في أزقّة المدينة وشوراعها:
يا أهل يثرِب لا مُقام لكُم بِها قُتِل الحسينُ فأدمُعِي مِدْرارُ
الجِسْمُ مِنهُ بِكربلاء مُضرّجٌ والرأسُ منه على القناةِ يُدارُ
في ذلك اليوم ضجّت المدينةُ ضجّةً واحدة، حتّى صارت كيوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم.
يقول بشر: بينما أنا أسير وإذا بإمرأة طويلة القامة، على كتفها طفلٌ رضيع، قالت: يا بشر عندك علمٌ بالحسين عليه السلام؟
قلتُ: نعم على الخبير سقطتِ، ولكن من أنتِ تسألين عن الحسين عليه السلام؟ فقالت: يا بشر أنا أمّ البنين أُمّ أبي الفضل العبّاس
94
84
مجلس الرجوع إلى المدينة
عليه السلام، فقلتُ لها: يا أمّ البنين عظّم الله لكِ الأجر بولدكِ جعفر، قالت: يا بشر أخبرني عن الحسين عليه السلام، سألتك عن الحسين عليه السلام... يا أمّ البنين عظّم الله لك الأجر بولدكِ عبد الله، قالت: يا بشر أخبرني عن الحسين عليه السلام... يا أمّ البنين عظّم الله لكِ الأجر بولدكِ عون، قالت: يا بشر أخبرني عن الحسين عليه السلام. قلتُ: يا أمّ البنين عظّم الله لك الأجر بولدكِ قمر العشيرة، أبي الفضل العبّاس عليه السلام. لمّا سمعت ذلك وضعت يدها على خاصرتها، وقالت يا بشر لقد قطّعت نياط قلبي، أخبرتني بموت أربعة من أولادي، ولكن إعلم أنّ أولادي وجميع من تحت الخضراء فداءٌ لأبي عبد الله، أخبرني عن الحسين عليه السلام.
عند ذلك قلتُ لها يا أمّ البنين عظّم الله لكِ الأجر بالحسين عليه السلام، فلقد خلّفناه بأرض كربلاء جثّةً بلا رأس، فصاحت أمّ البنين واولداه وا حُسيّناه.
يصير النوب دهري بيهم يعود ورد اشيل راسي بيهم ردود
ترد كفوف أبو فاضل للزنود تتلايم ردود جروح لأكبر
بالأمسِ كانوا معي واليوم قدْ رحلوا وخلّفوا في سُويدا القلبِ نِيرانا
نذرٌ عليّ لإنْ عادوا وإنْ رجعوا لأزرعنّ طريق الطفِّ ريْحاناً
95
85