رحلة السبي


الناشر: معهد سيد الشهداء "ع"

تاريخ الإصدار: 2016-07

النسخة: 0


الكاتب

معهد سيد الشهداء

هو مؤسسة ثقافية متخصصة تعنى بشؤون النهضة الحسينية ونشرها، وإعداد قدرات خطباء المنبر الحسيني وتنميتها، معتمدة على كفاءات علمائية وخبرات فنية وإدارية... المرتكزة على الأسس الصحيحة المستقاة من ينبوع الإسلام المحمدي الأصيل.


المقدمة

 المقدمة


الحمد لله الذي منّ علينا بنعمة الولاية لنبيه وال نبيه صلوات الله عليهم، فجعلهم الشموس الطالعة، والأقمار المنيرة، والأنجم الزاهرة، وأعلام الدين وقواعد العلم، صالحاً بعد صالح، وصادقاً بعد صادق، وسبيلاً بعد سبيل.

 والحمد لله الذي منّ علينا من بينهم بسفينة النجاة، ومصباح الهدى، الإمام الحسين بن علي عليهما السلام الذي أُمرنا بإحياء ذكره وإقامة أمره، تعظيماً لحقه. وبعد 

شكلت النهضة الحسينية ولا زالت مجالاً واسعاً للبحث والدراسة واستخلاص العبر، ورغم مرور ما يزيد على الثلاثة عشر قرنا على هذه الواقعة الخالدة، فان أجيال الأحرار في العالم ما فتئت تستلهم من المعين الكربلائي هدي طريقها ونبراس سيرها.

وإذا كان "لكل عصر يزيده ولكل عصر حسينه" فإن التعرف على أبطال الواقعة الكربلائية الخالدة ومجريات الأحداث والوقائع التي سبقتها ولحقتها بلغة العقل والقلب معاً المشفوعة بالتحليل الدقيق والعميق لهذه المجريات ومحورها الرئيسي يوم العاشر من المحرم لعام 61 هجري. تعد مقدمة ضرورية لفهم مقتضيات هذه النهضة وظروفها ومفاعيلها ونتائجها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
5

1

المقدمة

 ويسر معهد سيد الشهداء عليه السلام أن يفي بما وعدكم به في مقدمة كتاب رحلة الشهادة باستكمال الشريط التوثيقي لأحداث ووقائع مابعد الشهادة الحسينية وانطلاقة رحلة السبي المكللة بالالام والأحزان وصولاً إلى عودة القافلة النبوية إلى المدينة المنورة. ويهمنا أن نلفت نظركم إلى ما يلي:


1- اعتمدنا في كتابة هذا الإصدار على مجموعة مصادر تاريخية معتبرة ومعتمدة.

 أهم المصادر إلتي اعتمدت:

بحار الأنوار العلامة المجلسي‏

ينابيع المودة القندوزي‏

البداية والنهاية في التاريخ أبو الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي‏

تاريخ ابن عساكر ترجمة الامام الحسين عليه السلام تحقيق المحمودي‏

تاريخ الطبري محمد بن جرير الطبري‏

تاريخ اليعقوبي اليعقوبي‏

تذكرة الخواص سبط ابن الجوزي‏

الفتوح ابن الأعثم الكوفي‏

الكامل في التاريخ ابن الأثير الجزري‏

اللهوف على قتلى الطفوف رضي الدين ابن طاووس
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
6

2

المقدمة

 مثير الأحزان ابن نما


مختصر تاريخ دمشق ابن منظور

مروج الذهب المسعودي‏

مقتل الحسين عليه السلام الخوارزمي‏

2- في بعض القضايا التي تحتاج إلى سرد تحليلي مبسوط، وضعنا النتيجة التي اعتمدها مشهور أرباب السير دون الخوض في تفاصيل استدلالاتهم وتحليلاتهم.

3- إن هذا الإصدار وضع بشكل مبسط ليسهل على القارى غير المتخصص التعامل معه، مع المحافظة في نفس الوقت على قيمته التاريخية العلمية.

 ونحن إذ نسأل الله تعالى أن تشكل هذه القصة التجسيرالمعرفي بحسبها بيننا وبين مولى الأحرار وتحقق التعلق العقلي القلبي والعاطفي به، نرجو أن نكون وإياكم من جملة المشمولين بشفاعته يوم القيامة.

والله تعالى من وراء القصد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

3

المقدمة

 "فلئن أخرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محارباً، ولمن نصب لك العداوة مناصباً، فلأندبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكين عليك بدل الدموع دماً، حسرةً عليك وتأسفاً، على ما دهاك وتلهفاً، حتى أموت بلوعة المصاب، وغصة الاكتئاب" 1.

 
 

1- زيارة الناحية المقدسة، محمد بن المشهدي، المزار501، والمجلسي، البحار 98  320.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
8

4

الفصل الأول: ما بعد الملحمة الحسينية عام 61هـ

 الفصل الأول: ما بعد الملحمة الحسينية عام 61هـ

 
تداعيات الملحمة الحسينية

لم يكتمل مشهد المأساة الملحمة ظهيرة العاشر من المحرم لعام 61 للهجرة النبوية، إذ كان هذا اليوم بداية مرحلة جديدة من الجهاد والثورة والاستثمار الواعي والهادف لكل منجزات الملحمة العاشورائية.

كان أبطال الجهاد المتواصل في خط كربلاء ونهجها، مختلفين عن أبطال المعركة الكربلائية، فبدت زينب عليها السلام عنواناً متألقاً في قيادة قافلة السبي في ظل توجيهات إمام زمانها الإمام السجّاد عليه السلام الذي فرض التكليف الشرعي بوجوب حفظ خط الإمامة أن يكون موقفه كموقف جده أمير المؤمنين عليه صلوات الرحمن يوم الدار، رغم أنه الموجّه الأساس لمجريات أحداث ما بعد المعركة.

ولقد جسّد عوائل الشهداء، من النساء الأرامل والأطفال الأيتام مفردات اكتمال المشهد الجهادي المحمدي، الأمر الذي أتاح للتاريخ أن يكتب مجدداً بمداد الدمع الثائر، وصرخة الألم المتمردة، ومواقف التحدي والمواجهة في قصور الخلافة ومساجد المسلمين وأسواقهم
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

5

الفصل الأول: ما بعد الملحمة الحسينية عام 61هـ

 ودورهم وساحات اجتماعهم فكانت رحلة السبي جزءاً لا يتجزأ من تاريخ النهضة الحسينية المباركة.

 
تجليّات الغضب الإلهي عند مقتل الإمام الحسين عليه السلام‏
 
سرعان ما تبدى الغضب الإلهي لمقتل سيّد الشهداء عليه السلام في مرايا عوالم الكائنات في تعابير كونية مذهلة متنوعة عديدة.
 
لقد ظهر هذا الغضب في الأرض والسماء، في النبات والحيوان، في البحر والبر، وعرف بعض الناس علّة هذه الايات في أقطار، وجهلها اخرون في أقطار أخرى، وقد استفاض بين المسلمين بل أجمعوا على أصل هذه المتغيرات الكونية، وقد نص كثير من المؤرخين على بعضها 1، ومنها: أن السماء أمطرت دماً عبيطاً، وأنه لم يرفع حجر في بيت المقدس إلا وجد تحته دم عبيط، واسوداد السماء وبكاؤها وغير ذلك من الحقائق التي لايصرعلى المماراة فيها مسلم.
 
نهب المخيم الحسيني‏
 
لم يكتف جلاوزة بني أمية، أعداء الله ورسوله صلى الله عليه واله، بعد قتل الإمام الحسين عليه السلام بسلبه ورضّ جسده الطاهر بحوافر الخيل، بل جاوزوا ذلك فعدوا على المخيم لنهب ما فيه، ولهتك
 
 

1- المصادر: كامل الزيارات  مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي، تاريخ ابن عساكر، شرح المواهب اللدنية للزرقاني، صحيح البخاري، المعجم الكبير، مجمع الزوائد، الصواعق المحرقة، تاريخ الخلفاء، ينابيع المودة، تاريخ ابن عساكر، تهذيب التهذيب، الحدائق الوردية، فتوح اين الأعثم الكوفي، الكشف والبيان للثعلبي، دلائل النبوة، ذخائر العقبى، تاريخ مدينة دمشق...

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
10

6

الفصل الأول: ما بعد الملحمة الحسينية عام 61هـ

 ستر حُرم رسول الله صلى الله عليه واله بسلب ما عليهّن من حلي بصورة مفجعة يندى لها جبين كلّ أبيّ غيور، وذلك بأمرٍ مباشر من عمر بن سعد الذي قال لجنوده: "دونكم الخيام فانهبوها"، وكان أول المبادرين في النهب شمر بن ذي الجوشن، فدخل الجند وجعلوا يسلبون ما على النساء والأطفال، حتى أخذوا قرطاً في أذن السيدة أم كلثوم وخرموا أذنها، وفرغ القوم من القسمة، ثم قطعوا الخيام بالسيوف وأضرموا فيها النار، فخرجت بنت أمير المؤمنين عليها السلام وقالت: "يا ابن سعد! الله يحكم بيننا وبينك، ويحرمك شفاعة جدنا ولا يسقيك من حوضه كما فعلت بنا وأمرت بقتال سبط الرسول صلى الله عليه واله، ولم ترحم صبيانه ولم تشفق على نسائه..".


فلم يلتفت ابن سعد لها.

وقد روي عن الإمام الرضا عليه السلام انه قال: "إن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون القتال فيه، فاستُحلّت فيه دماؤنا! وهُتك فيه حُرمنا! وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا! وأضرمت النيران في مضاربنا! وانتُهب ما فيها من ثقلنا!".

محاولة قتل الإمام زين العابدين عليه السلام‏

كان الإمام زين العابدين وسيد الساجدين علي بن الحسين عليه السلام حاضراً في كربلاء مع أبيه وكان مريضاً، ولم يرد في المصادر التاريخية إلى أي فترة استمر به هذا المرض، لكن المستفاد من بعض الإشارات التاريخية أنه عليه السلام كان لا يزال مريضاً ناحلاً ضعيفاً حتى في الشام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

7

الفصل الأول: ما بعد الملحمة الحسينية عام 61هـ

 وقد دخل الشمر بن ذي الجوشن إلى الخيمة التي فيها الإمام زين العابدين عليه السلام، وهو متمدّد على فراش، فقال شمر: "اقتلوا هذا!" فقال له رجل من أصحابه: سبحان الله "أتقتل فتىً حدثاً مريضاً لم يقاتل؟!".


فخرجت إليه السيّدة زينب بنت عليّ عليه السلام وقالت: "والله لا يُقتل حتى أُقتل! فكفّ عنه".

ولا بدّ من الإشارة إلى أن مرضه عليه السلام وإن كان سبباً مساعداً في انصراف الأعداء عن قتله لأنهم كانوا يرونه قاب قوسين من أجله لما به من شدة المرض، ولكنه لم يكن السبب الرئيسي في انصرافهم عنه، بل كان الموقف الفدائي العظيم الذي قامت به عمته السيدة زينب عليه السلام حيث تعلّقت به وقالت مخاطبة الشمر: "حسبك من دمائنا! والله لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه!" وقد تكرر منها عليه السلام هذا الموقف الفدائي العظيم في عدة حالات.

حرق الخيام‏

بعد فشل شمر بن ذي الجوشن في قتل الإمام زين العابدين عليه السلام، قام الجند بإخراج النساء من الخيمة، وأشعلوا فيها النار، فخرجن مسلّبات حافيات باكيات، ولا يخفى أن جميع الخيام قد أُضرمت فيها النار، بدليل قول الإمام الرضا عليه السلام "وأُضرمت في مضاربنا النار"، ولكن الظاهر أن هذا الفسطاط الذي كن النسوة والأطفال فيه جميعاً مع الإمام زين العابدين عليه السلام هو اخر
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12

8

الفصل الأول: ما بعد الملحمة الحسينية عام 61هـ

 الخيام التي أحرقت بعد إخراجهم منه.


فخرجت السيدة زينب عليها السلام تنادي بصوت حزين وقلب كئيب: "وا محمداه صلى عليك مليك السماء، هذا حسين بالعراء! مرمّل بالدماء! مقطع الأعضاء! واثكلاه! وبناتك سبايا! إلى الله المشتكى وإلى محمد المصطفى وإلى عليّ المرتضى وإلى فاطمة الزهراء وإلى حمزة سيد الشهداء!".
"وا محمداه! وهذا حسينٌ بالعراء! تسفي عليه ريح الصبا! قتيل أولاد البغايا! وا حزناه! واكرباه عليك يا أبا عبد الله! اليوم مات جدي رسول الله!" يا أصحاب محمد! هؤلاء ذرية لمصطفى يساقون سوق السبايا!!
رأس الإمام الحسين عليه السلام ورؤوس الشهداء

إن واقعة حمل رأس سبط رسول الله صلى الله عليه واله وسائر الرؤوس الطاهرة جريمة أخرى من الجرائم الفظيعة التي شهدتها كربلاء، وهذه الجريمة كشفت نقاباً اخر عن خبث سريرة النظام الأموي!

وقد سرّح عمر بن سعد من يومه ذلك وهو يوم عاشوراء برأس الإمام الحسين عليه السلام مع خِوَلِّي بن يزيد الأصبحي، إلى عبيد الله بن زياد، ثم أمر برؤوس الشهداء الباقين، ما عدا رأس الحر الرياحي الذي منعت عشيرته من قطع رأسه، وسرّح بها مع شمر بن ذي الجوشن، وقيس بن الأشعث وعمرو بن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

9

الفصل الأول: ما بعد الملحمة الحسينية عام 61هـ

 الحجاج، فأقبلوا حتى قدِموا على ابن زياد.


وقد تنافست القبائل منها كندة وهوزان وبنو تميم وبنو أسد، على حمل رؤوس الشهداء.

الأجساد الطاهرة

بقي جسد الإمام الحسين عليه السلام مع أجساد الشهداء الاخرين من أهل بيته وأصحابه عليه السلام في العراء لا توارى، تصهرها حرارة الشمس، وتسفي عليها الرياح، وكان اللعين عمر بن سعد قد دفن القتلى من جيشه وصلى عليهم، وترك جسد الإمام الحسين عليه السلام وأجساد أنصاره.

الساعات الأخيرة من يوم عاشوراء

اجتمعت حُرَمُ الإمام الحسين عليه السلام وبناته وأطفاله في أسر الأعداء، مشغولين بالحزن والهموم والبكاء، وانقضى عليهم اخر ذلك النهار وهم فيما لا يحيط به القلب من الحزن والفجيعة، وباتوا تلك الليلة فاقدين لحُماتهم ورجالهم، غرباء في إقامتهم وترحالهم، والأعداء يبالغون في البراءة منهم والإعراض عنهم، ليتقربوا بذلك إلى المارق عمر بن سعد مؤتّم أطفال النبي محمد صلى الله عليه واله ومُقرّح الأكباد، وإلى الزنديق عبيد الله بن زياد، والى الكافر يزيد بن معاوية رأس الإلحاد والعناد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

10

الفصل الأول: ما بعد الملحمة الحسينية عام 61هـ

 الرأس المقدس في بيت خولي الأصبحي‏


سارع خولي بن يزيد الأصبحي بحمل الرأس المقدس إلى عبيد الله بن زياد، وقد توقف عند منزل في الطريق اسمه الحنانة ، ولما وصل إلى قصر الإمارة في الكوفة وجد باب القصر مغلقاً، فأتى منزله، ووضع الرأس تحت أجانة، ودخل إلى زوجته النوار إبنة مالك بن عقرب، فسألته عن الأخبار، فأجابها والسعادة تغمره: "لقد جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معكِ في الدار"، فجنّ جنونها وقالت: "ويلك، جاء الناسُ بالذهب والفضة وجئتَ برأس ابن رسول الله صلى الله عليه واله! لا والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبداً، أبشر فإن خصمك غداً جده محمد المصطفى!". 
وقد روي أنها أعانت على قتله يوم أخذ المختار بالثأر من قتلة سيد الشهداء عليه السلام.

خروج بقيّة الركب الحسيني عن كربلاء إلى الكوفة

أقام ابن سعد بقية يومه واليوم الثاني إلى زوال الشمس، ثم ارتحل متجهاً نحو الكوفة بمن تخلّف من عيال الإمام الحسين عليه السلام، وحمل نساءه على أقتاب الجمال بغير وطاء ولا غطاء! مكشفات الوجوه بين الأعداء وهن ودائع خير الأنبياء! وساقوهن كما يُساق سبي الترك والروم في أسر المصائب والهموم.

فأمر ابن سعد لعنه الله أن يمروا بهم على المقاتل لرؤية إخوانهن وأبنائهن ووداعهم، فذهبوا بهن إلى ساحة المعركة، فلما نظر النسوة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

11

الفصل الأول: ما بعد الملحمة الحسينية عام 61هـ

 إلى القتلى صحن ولطمن خدودهن.


وصاحت السيدة زينب عليها السلام: "يا محمداه! صلى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء! مرمّل بالدماء! مقطّع الأعضاء! وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا!" فأبكت بذلك كل عدو وصديق..

ولم تذكر المصادر التاريخية تفصيل ما جرى على الركب الحسيني في الطريق من كربلاء إلى الكوفة.

وقد وصل عسكر ابن سعد وبقية الركب الحسيني إلى مشارف الكوفة في اليوم الحادي عشر ليلاً، وباتوا ليلتهم في منزل من منازل الطريق القريبة جداً من الكوفة أو على مشارفها. وكان الدخول إلى الكوفة نهار الثاني عشر، لما يقتضيه العامل الإعلامي وزهو الإنتصار والمباهاة بالظفر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

12

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 
تدابير ابن زياد لاستقبال بقية الركب الحسيني‏

لما وصل إلى ابن زياد خبر عودة جيش عمر بن سعد إلى الكوفة، أمر أن لا يحمل أحد من الناس السلاح في الكوفة، كما أمر عشرة الاف فارس أن يأخذوا السكك والأسواق، والطرق والشوارع، خوفاً من أن يتحرك الناس حميّة وغيرة على أهل البيت عليهم السلام إذا رأوا بقيتهم بتلك الحالة من الأسر والسبي، وكان عدد نفوس أهل الكوفة انذاك يربو على ثلاثمائة ألف نسمة، وأمر أن تُجعل الرؤوس في أوساط المحامل أمام النساء، وأن يُطاف بهم في الشوارع والأسواق حتى يغلُب على الناس الخوف، كما أمر ابن زياد أن يضعوا الرأس المقدس على الرمح ويُطاف به في سكك الكوفة.

وكان رأس الإمام الحسين عليه السلام أول رأس رفع على رمح.

استقبال الكوفة لبقيّة الركب الحسينّي‏

خرجت الكوفة عن بكرة أبيها لتشهد احتفال ابن زياد بقدوم جيشه المنتصر!
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

13

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 وقد امتلأت شوارع الكوفة وسككها وأزقتها بالرجال والنساء والأطفال والشيوخ، فلما رأت النساء حال السبايا، وقد حملوا على جمالٍ بغير وطاء، بكين ولطمن خدودهن، فقال الإمام زين العابدين عليه السلام لهن بصوتٍ ضئيل وفي عنقه الجامعة، ويداه مغلولتان: "إن هؤلاء النسوة يبكين! فمن قتلنا؟".


وأشرفت امرأة من الكوفيات فقالت لهن: "من أي الأسارى أنتن؟" فقلن: "نحن أسارى ال محمد صلى الله عليه واله".

فنزلت المرأة من سطحها فجمعت لهن مُلأً وأُزراً ومقانع، وأعطتهنّ، فتغطيّن.

وقد روى مسلم الجصّاص أنه فيما كان يقوم بإصلاح دار الإمارة، ضجت الكوفة بالزاعقات، فسأل عن السبب، فأخبروه انهم أتوا برأس خارجي خرج على يزيد، فلما علم أنه رأس الحسين بن علي، لطم وجهه حتى كادت عيناه أن تُفقا، ورأى الحُرَم والنساء وأولاد فاطمة عليها السلام، وعلي بن الحسين عليه السلام على بعير بغير وطاء، وأوداجه تشخب دماً، وهو يقول:

يا أمّة السوء لا سقياً لربعكم‏
                                  يا أمّة لم تراع حُرمة جدّنا فينا

وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم بنت أمير المؤمنين علي عليه السلام وقالت: "يا أهل الكوفة ! إن الصدقة علينا حرام!"، وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم، ثم قالت: "صِه يا أهل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

14

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 الكوفة! تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم! فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء".

 
أرادت عليها السلام من رد عطايا أهل الكوفة، أن تعرّف الناس بأن سبايا هذا الركب ليسوا من أي الناس بل هم ال رسول الله الذين فرض الله مودتهم وإتّباعهم.
 
خطب آل بيت النبوة عليهم السلام في شوارع الكوفة
 
خطبة السيدة زينب بنت علي عليهما السلام:
 
لمّا رأت العقيلة زينب عليه السلام الحشود الكثيرة من أهالي الكوفة قد ملأت الشوارع اندفعت تبين ما جرى على أهل بيت النبوة، وأخذت تحمّل أهل الكوفة مسؤولية نقض العهد والبيعة وقتل ريحانة رسول الله صلى الله عليه واله، وتوخز ضمائرهم وتحرق قلوبهم بتعريفهم عظم ما اجترحوا من جُرم، فأومأت إلى الناس أن اسكتوا فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس، ثم قالت:
 
الحمد لله، والصلاة والسلام على أبي محمد واله الطيبين الأخيار، أما بعد يا أهل الكوفة: يا أهل الختل 1 والغدر! أتبكون ؟! فلا رقأت 2 الدمعة، ولا هدأت الرنة 3 ! إنما مَثَلكم كمَثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً 4 ، تتخذون أيمانكم دخلاً 5
 
 
 

1- أقبح أنواع الغدر.
2- سكنت و جفت بعد جريانها.
3- الصوت الحزين عند البكاء
4- خيط الصوف ينقض ويفل ليغزل ثانية.
5- المكر والخيانة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

15

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 بينكم! ألا وهل فيكم إلا الصَّلفٌ 1 النطف 2، والصدر الشَّنف 3، وملق 4 الإماء، وغمز 5الأعداء، أو كمرعى على دمنة 6، أو كفضة على ملحودة 7!؟ ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون!

 
أتبكون وتنتحبون!؟ إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها 8، ولن ترحضوها 9بغُسل بعدها أبداً؟ وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجتكم، ومدره10 سنتكم؟! ألا ساء ما تزرون، وبُعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة!
 
ويلكم يا أهل الكوفة، أتدرون أي كبدٍ لرسول الله فريتم؟! وأي كريمة له أبرزتم؟! وأي دمّ‏ٍ له سفكتم، وأي حرمة له انتهكتم؟! ولقد جئتم بها صلعاء عنقاء11 سوداء فقماء12 خرقاء شوهاء ،
 
 

1- الذي يمدح نفسه بما ليس فيه‏
2- المتلطخ بالعيب.
3- المبغض.
4- الإظهار باللسان لما ليس في القلب.
5- الغمز عنا بمعنى الطعن والذم، وطعن العدو مضرب المثل كما لا يخفى.
6- مكان تراكم أرواث الحيوانات.
7- الجثة الموضوعة في القبر.
8- الخزي.
9- تغسلوها.
10- قد تبدل الألف هاء كما في أراق وهراق، ومدره ومدرأ، والمدرأ والمدره الزعيم الذي يدرأ عن القوم ويدفع عنهم. وإضافة مدره إلى السنة معناه: محورها ومدارها. صحاح الجوهري، بتصرف. 
11- مكشوفة مذهلة.
12- شديدة الإعوجاج، متفاقمته.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

16

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 كطلاعالأرض ومل‏ء2 السماء.

 
أفعجبتم أن مطرت السماء دماً؟! ولعذاب الاخرة أخزى وأنتم لا تُنصرون! فلا يستخفنكم المهل3، فإنه لا يحفزه البدار 4، ولا يخاف فوت الثار، وإن ربكم لبالمرصاد!".
 
وإذا الناس حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم.
 
وبكى شيخ حتى اخضلّت لحيته، وهو يقول: " بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول! وشبابكم خير الشباب! ونساؤكم خير النساء! ونسلكم خير نسل، لا يخزى ولا يُبزى" 5.
 
خطبة فاطمة بنت الحسين عليه السلام:
 
ثم خطبت فاطمة بنت الحسين عليه السلام فقالت: ... "أما بعدُ يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخيلاء، فإنا أهل بيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا، فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجته على الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا الله بكرامته، وفضلنا بنبيه محمد صلى الله عليه واله على كثير ممن خلق تفضيلاً بيناً، فكذبتمونا وكفرتمونا! ورأيتم قتالنا حلالاً! وأموالنا نهباً!.... كما قتلتم جدنا بالأمس "أمير المؤمنين علي عليه السلام" وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت عليهم السلام لحقد متقدم!! قرّت لذلك عيونكم وفرحت
 
 

1- كملى الأرض.
2- كناية عن عظم حجم هذه الجريمة.
3- الإمهال.
4- المسارعة الى الشي‏ء.
5- لا يُبزى: لا يقهر.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

17

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 قلوبكم، افتراءً على الله، ومكراً مكرتم، والله خير الماكرين ... ".

 
فارتفعت الأصوات بالبكاء، وقالوا: حسبك يا ابنة الطيبين! فقد أحرقت قلوبنا، وانضجت نحورنا، وأضرمت اجوافنا. فسكتت..
 
خطبة أم كلثوم بنت علي عليه السلام:
 
ورفعت أم كلثوم صوتها بالبكاء، وخطبت فقالت: "يا أهل الكوفة سوأة لكم! خذلتم حسيناً وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وورثتموه؟! وسبيتم نساءه ونكبتموه؟! فتباً لكم وسحقاً.. ... قتلتم خير رجالات بعد النبي صلى الله عليه واله ! ونُزعت الرحمة من قلوبكم، ألا إنّ حزب الله هم الفائزون، وحزب الشيطان هم الخاسرون".
 
فضجّ الناس بالبكاء والحنين والنوح، ونشر النساء شعورهن، ووضعن التراب على رؤوسهن، وخمشن وجوههن وضربن خدودهن، ودعون بالويل والثبور، وبكى الرجال فلم يُرَ باكٍ وباكية أكثر من ذلك اليوم.
 
وفيما الناس تضج بالبكاء والنحيب، أومأ الإمام زين العابدين عليه السلام إلى الناس أن اسكتوا، فسكتوا، فقام وحمد والله وأثنى عليه، وذكر النبي صلى الله عليه واله وصلى عليه، ثم قال:
 
"أيّها الناس! من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، أنا ابن من انتهكت حرمته، وسُلبت نعمته، وانتهب ماله، وسُبي عياله! أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذُحلٍ ولا ترات 23 ! أنا ابن من قٌتل صبراً، فكفى بذلك فخراً!
 
 
 

1- أي لم يكن لأحد عليه أحقاد شخصية ولا ثارات.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

18

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 أيها الناس! فأنشدكم الله، هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه!؟ واعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه!


فتباً لما قدمتم لأنفسكم! وسوأة لرأيكم! بأي عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه واله إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمتي!؟"

فارتفعت الأصوات من كل ناحية، ويقول بعضهم لبعض: هلكتم وما تعلمون!

أهم الخطوط الرئيسية في خطب ال البيت عليهم السلام في شوارع الكوفة

لقد خاطب ال بيت النبوة عليهم السلام أهل الكوفة بكلامٍ جمعه خطّ مشترك رئيس، هو أنهم ألقوا باللائمة على أهل الكوفة، وخاطبوهم بصفتهم الجناة الذين ارتكبوا جريمة قتل سيد الشهداء عليه السلام وأهل بيته وأنصاره، فالأمة هي وقود النار التي اقتدح شرارتها الجبابرة الظالمون، وهي أداة القتل، بل هي التي باشرت بارتكاب الجريمة، وفي هذا وردت نصوص كثيرة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام منها هذه الفقرة من زيارة عاشوراء: "... فلعن الله أمة أسست أساس الظلم والجور عليكم أهل البيت، ولعن الله أمة دفعتكم عن مقامكم وأزالتكم عن مراتبكم التي رتبكم الله فيها، ولعن الله أمة قتلكم...".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

19

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 إن دور الأمة هو الفاعل والرئيس، فبالأمة ينتصر قادة الخير، وبدونها يعجزون عن تحقيق أي هدف من أهداف الإصلاح والخير، وبالأمة ينتصر قادة الشر، وبدونها لن يستطيعوا بلوغ اهدافهم الشريرة.

 


الرأس بين يدي ابن زياد


جلس ابن زياد في قصر الإمارة، وأذّن للناس أذاناً عاماً، وأمر بإحضار الرأس فوضع بين يديه، فجعل ينظر إليه ويبتسم! وفي يده قضيب يضرب به ثناياه!

الموكب الحسيني في مواجهة ابن زياد

وسيقت العقائل الهاشميات إلى قصر الإمارة وأدخل عيال الحسين عليه السلام على ابن زياد، فدخلت السيدة زينب عليها السلام في جملتهم متنكرة بثياب لاتلفت النظر إطلاقاً، فمضت حتى جلست ناحية من القصر.

فقال ابن زياد : "من هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟".

فأعاد ثانية وثالثة يسأل عنها.

فقال له بعض النسوة: "هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين".

فأقبل عليها ابن زياد، وقال لها: "الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم!".

فقالت السيدة زينب عليها السلام: "الحمد لله الذي أكرمنا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

20

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 بنبيه محمد صلى الله عليه واله وطهرنا من الرجس تطهيرا، وإنما يفتضح الفاسق ويكذّب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله".


فقال ابن زياد: "كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟".

قالت عليها السلام: "ما رأيتُ إلا جميلا! هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم يا ابن زياد، فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذٍ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة!".

فغضب ابن زياد واستشاط.

فقال عمرو بن حريث: "أيّها الأمير! إنها امرأة، والمرأة لا تؤخذ بشي‏ء من منطقها، ولا تُذم على خطابها".

فقال ابن زياد: "لقد شفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك!!".

فبكت عليها السلام وقالت: "لعمري لقد قتلتَ كهلي، وأبرت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت!".

فقال عبيد الله: "هذه سجاعة! قد لعمري كان أبوك شاعراً سجاعاً".

فأجابت عليها السلام: "ما للمرأة والسجاعة! إن لي عن السجاعة لشغلا...".

الإمام السجاد في مواجهة ابن زياد:

وعُرض عليه الإمام زين العابدين عليه السلام فقال له: "من أنتَ؟".

فقال: "أنا علي بن الحسين".

فقال: "أليس قد قتل الله علي بن الحسين؟!".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

21

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

  

فقال له عليه السلام: " قد كان لي أخ يُسمى علياً قتله الناس".

فقال له ابن زياد: "بل الله قتله".

فقال الإمام زين العابدين عليه السلام: "الله يتوفى الأنفس حين موتها".

فغضب ابن زياد، وقال: "وبكَ جرأة لجوابي؟ وفيك بقيّة للرد علي؟ إذهبوا فاضربوا عنقه!".

فتعلقت به السيدة زينب عليها السلام: "يا ابن زياد حسبك من دمائنا!".

واعتنقته وقالت: "والله لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه!".

فنظر ابن زياد إليها ثم قال: "عجباً للرحم! والله إني لأظنها ودّت أني قتلتها معه! دعوه!".

وطلب ابن زياد بعد ذلك إنزالهم إلى جانب المسجد الأعظم.

الرباب زوج الإمام عليه السلام مع رأسه المقدس:

ودعا بهم ابن زياد مرة أخرى فلما أدخلوا عليه رأين النسوة رأس الإمام الحسين عليه السلام بين يديه والأنوار الإلهية تتصاعد من أساريره إلى عنان السماء فلم تتمالك الرباب زوجة الإمام الحسين عليه السلام نفسها فوقعت عليه تقبله.

موقف السيدة أم كلثوم في مجلس ابن زياد:

وخاطب اللعين السيدة أم كلثوم بنت علي عليه السلام فقال:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

22

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 "الحمد لله الذي قتل رجالكم! فكيف ترون ما فعل بكم؟".


فقالت: "أي ابن زياد! لئن قرّت عينك بقتل الحسين عليه السلام فطالما قرّت عين جده به، وكان يقبله ويلثم شفتيه ويضعه على عاتقه! يا ابن زياد أعدّ لجده جواباً فإنه خصمك غداً!".

إشارات في مواقف أهل البيت عليهم السلام‏

1 الشجاعة العُليا التي يتمتع بها أهل البيت عليهم السلام في مجموعة من الردود التي صدرت عنهم في أقوالهم، منها على لسان السيدة زينب عليها السلام: "وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر.."، ".. ما رأيت إلا جميلا.."، وفي قول السيدة أم كلثوم: "... يا ابن زياد أعد لجده جواباً فإنه خصمك غداً ...".

2 عمق توحيد الله وحبه تعالى، في موقف مولاتنا السيدة زينب عليها السلام وردها على ابن زياد: "ما رأيتُ إلا جميلا.." ولم تقل ما رأيت في كربلاء إلا جميلا! بل صرّحت بإطلاق رؤية الجميل! أي أنها منذ أن رأت لم ترَ من الله إلا جميلا!! في كربلاء وقبلها وبعدها، وفي هذا غاية الرضا بقضاء الله، وغاية الشكر له، والنظر إلى عواقب الأمور دون الغرق في تفاصيل الراهن.

أما فداؤها وتضحيتها عليها السلام فقد تجسدت في مواصلتها إلقاء نفسها إلى الموت والقتل مراراً دفاعاً عن حجة الله على عباده الإمام زين العابدين عليه السلام.

3 تبيان أن قربان الله وقتيله في كربلاء هو ريحانة رسول الله
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

23

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 صلى الله عليه واله، فقاتله قاتل لرسول الله صلى الله عليه واله وهو خصمه يوم القيامة.


صلى الله عليه واله، فقاتله قاتل لرسول الله صلى الله عليه واله وهو خصمه يوم القيامة.

4 تفنيد المنطق الجبري الذي أشاعه الأمويون وكان قد أصر ابن زياد على ترسيخه في أذهان الناس في المجلس، في قوله للسيدة زينب عليها السلام: "كيف رأيتِ فعل الله بأهل بيتك؟" وفي قوله للإمام زين العابدين عليه السلام: "أليس قد قتل الله علي بن الحسين عليه السلام؟" والمقصود بالمنطق الجبري: أن الأمويين كانوا يريدون أن يوهموا الناس بشبهة أن كل ما يجري من وقائع وأحداث وظلم وقتل هو تجسيد لإرادة الله وتحقيق لأمره فلا يحق لأحد أن يعترض على إرادته. وفي مواجهة هذا المنطق حرص أهل البيت عليهم السلام على نشر هذه العقيدة وهي أن كل ما يجري على يد الطغاة الظالمين من قتل وظلم وجور وفساد لا يمثل إرادة الله، لأن الله تعالى فيما صرّح به في كتابه الحكيم لا يريد الظلم، ولا الفساد، ولا الجور، والله تبارك وتعالى قد دعا عباده المؤمنين إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع الظالمين من أن يظلموا.

وقد ردّت زينب عليها السلام على دعوى ابن زياد أن ما جرى على أهل بيتها هو من فعل الله سبحانه بقولها: "هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل" أي على نحو الأمر الشرعي في القيام ضد الحكم الأموي، وإن أدى هذا القيام إلى استشهادهم، فبرزوا إلى مضاجعهم امتثالاً للأمر الشرعي.

5 الطغيان والتشفي من علائم الطواغيت دائماً، وقد تجلّى ذلك
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28
 

24

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 في مجلس ابن زياد في قوله مستنكراً على الإمام زين العابدين عليه السلام جرأته وشجاعته في الرد عليه قائلاً: "وبك جرأة لجوابي؟ ... لقد شفى الله نفسي من طاغتيك والعصاة من أهل بيتك!!".


الركب الحسيني في حبس ابن زياد

أمر ابن زياد بسجن السبايا في سجن على بُعدٍ من القصر ومن المسجد، فكان الحاجب الذي يسوقهم يقول: "فما مررنا بزقاق إلا وجدناه امتلأ رجالاً ونساءً يضربون وجوههم ويبكون".
وبعد وقوع المحاورات الجريئة بين السبايا وابن زياد، خشي ابن زياد انقلاب الأمر عليه، بعدما بدأ الناس يلومونه، فأمر بردهم إلى حبسٍ مطبق في دار جانب المسجد أو في القصر، وضيق عليهم بحيث لا يمكن أن يدخل عليهم داخل باختياره.

دفن الإمام الحسين عليه السلام وبقية الشهداء

إن طريقة دفن الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه المستشهدين بين يديه صلوات الله عليهم أجمعين على النحو والتوزيع المعروف من خلال قبورهم، ينفي أن يكون بني أسد من أهل الغاضرية وهم من أهل القرى الذين لم يشهدوا المعركة قد حققوا ذلك بدون مرشد عارف تماماً بهؤلاء الشهداء، خصوصاً وأن الرؤوس الشريفة كانت قد قطعت، إذاً كان لا بدّ من مرشد مطّلع يعرف صاحب كل جسد، وإلا لما كان هذا التوزيع المدروس بين القبور.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

25

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 وإذا كان "الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله"، فإن جسد الإمام الحسين عليه السلام قد واراه إمام، والإمامة من بعده قد صارت إلى ولده الإمام زين العابدين عليه السلام، وبذلك يكون هو المرشد الذي ساعد بني أسد على دفن الشهداء.


ولكن كيف حصل ذلك وقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام محبوساً في الكوفة؟

كان خروج الإمام زين العابدين عليه السلام من محبسه بمعجزة أوصلته إلى كربلاء فدفن جسد أبيه و"السلطة لا تعلم"، ولكن خروجه لم يكن في اليوم الحادي عشر حتماً، لأنه لم يدخل إلى الحبس إلا في اليوم الثاني عشر، إذ أن عمر بن سعد لم يدخل الكوفة بالسبايا إلا صبيحة اليوم الثاني عشر، وإذا علمنا ان جل نهار الثاني عشر قد انقضى على بقية أهل البيت عليهم السلام في عرضهم على الناس، وعلى ابن زياد، فإنه يتضح لنا أن ابن زياد أمر بحبسهم عصر أو أواخر نهار اليوم الثاني عشر، ثم استدعاهم ثم أعادهم إلى الحبس مرة أخرى، وبذلك تكون أول ليلة لهم في السجن حيث بقوا فيه إلى اليوم الذي أرسلهم ابن زياد فيه إلى يزيد.

وإذا كان قد خرج من حبسه "دون أن ينتبهوا إليه" نستنج أن خروجه كان من الحبس في وقتٍ كان قد فرغ الطاغية من التحقيق معهم فلا يعود إلى استدعائهم، أي في وقت كان الإمام زين العابدين عليه السلام قد اطمأن إلى انه إذا غاب عن الأنظار فإنه لا يفتقد في الفترة التي يشتغل فيها بدفن أبيه عليه السلام وأنصاره رضوان الله تعالى عليهم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

26

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 وعليه فالمرجح أنه عليه السلام كان قد خرج إلى كربلاء بالأمر المعجز في يوم الثالث عشر لدفن الأجساد.


وبالعودة إلى كربلاء ومصارع ال بيت البنوة عليهم السلام، فقد خرجت نساء بني أسد إلى حيث الجثث، باكيات ناحبات، وقلن لأزواجهن: "بماذا تعتذرون من رسول الله صلى الله عليه و اله، وأمير المؤمنين عليه السلام، وفاطمة الزهراء عليها السلام، إذا أوردتم عليهم حيث إنكم لم تنصروا أولاده ولا دافعتم عنهم بضربة سيف ولا بطعنة رمح ولا برمية سهم؟!".

فقالوا لهن: "إنا نخاف من بني أميّة!".

فبقيت النسوة يجلن حولهم ويقلن لهم: "إن فاتتكم نصرة تلك العصابة النبوية، فقوموا الان إلى أجسادهم الزكية فواروها..".

قالوا: "نفعل ذلك..".

وصار همهم أولاً أن يواروا جثة الإمام الحسين عليه السلام ثم الباقين، فجعلوا ينظرون الجثث في المعركة، فلم يعرفوا جثة الإمام الحسين عليه السلام من بين تلك الجثث لأنها بلا رؤوس وقد غيرت الشمس لونها، فبينما هم كذلك وإذا بفارس أقبل إليهم حتى إذا قاربهم قال: "ما بكم؟".

قالوا: "إنا أتينا لنواري جثة الإمام الحسين عليه السلام وجثث ولده وأنصاره ولم نعرف جثة الإمام الحسين عليه السلام".

ثم قال لهم: "أنا أرشدكم..".

فنزل عن جواده، وجعل يتخطى القتلى، فوقع نظره على جسد
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

27

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 الإمام الحسين عليه السلام فاحتضنه وهو يبكي ويقول:


"يا أبتاه! بقتلك قرّت عيون الشامتين! يا أبتاه! بقتلك فرحت بنو أميّة! يا أبتاه! بعدك طال حزننا! يا أبتاه! بعدك طال كربنا!".

ثم مشى قريباً من محل جثته فأهال يسيراً من التراب، فبان قبر محفور ولحد مشقوق، فأنزل الجثة الشريفة وواراها في ذلك المرقد الشريف، فبسط يديه تحت جسد الإمام الحسين عليه السلام: "بسم الله، وفي سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله، صدق الله ورسوله، ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم..".

وأنزله لحده، ولم يشاركه بنو أسد فيه، وقال لهم: "إن معي من يعينني.." ولما أقره في لحده، وضع خدّه على منحره الشريف قائلاً: "طوبى لأرض تضمنّت جسدك الطاهر، فإن الدنيا بعدك مظلمة، والاخرة بنورك مشرقة، أما الليل فمُسهد! والحزن سرمد! او يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم! وعليك مني السلام يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته".

ثم كتب على القبر: "هذا قبر الحسين بن عليّ‏ِ بن أبي طالب الذي قتلوه عطشاناً غريباً".

ثم مشى إلى عمّه العباس عليه السلام فراه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين أطباق السماء! وأبكت الحور في غرف الجنان! ووقع عليه يلثم نحره المقدس قائلاً: "على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك مني السلام من شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته..".

وشق له ضريحاً، وأنزله وحده كما فعل بأبيه، وقال لبني
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

28

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 أسد: "إن معي من يُعينني!".


ثم عطف على جثث الأنصار وحفر حفيرة واحدة ووارهم فيها، إلا حبيب بن مظاهر حيث أبى بعض بني عمِّه ذلك، ودفنوه ناحية عن الشهداء.

فلمّا فرغ الأسديون من موارتهم قال لهم: "هلّموا لنوارِ جثة الحرّ الرياحي".

فمشوا معه حتى وقف عليه فقال: "أما أنت فقد قبل الله توبتك وزاد في سعادتك ببذلك نفسك أمام ابن رسول الله صلى الله عليه واله".

وأراد الأسديون حمله إلى محل الشهداء فقال عليه السلام: "لا، بل في مكانه واروه".

فلما فرغوا من مواراته، ركب الإمام زين العابدين عليه السلام جواده، فتعلق به الأسديون قائلين: "بحق من واريته بيدك؟ من أنت؟".

فقال عليه السلام: "أنا حجة الله عليكم، أنا علي بن الحسين عليه السلام، جئت لأوراي جثّة أبي ومن معه من إخواني وأعمامي وأولاد عمومتي وأنصارهم الذين بذلوا مهجهم دونه، وأنا الان راجع إلى سجن بن زياد لعنه الله، وأما انتم فهنيئاً لكم، لا تجزعوا ولا تضاموا فينا". 

انتفاضة عبد الله بن عفيف الأزدي رضوان الله عليه‏

نصب رأس الإمام الحسين عليه السلام على باب دار الإمارة، ثم إن ابن زياد نادى في الناس فجمعهم في المسجد الأعظم، ثم خرج
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

29

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 ودخل المسجد، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، فكان من بعض كلامه: "الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله! ونصر أمير المؤمنين وأشياعه! وقتل الكذّاب ابن الكذّاب!".


قال فما زاد على هذا شيئاً حتى وثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي، وهو من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، وكان من رؤساء الشيعة وخيارهم، وكان قد ذهبت عينه اليسرى يوم الجمل، والأخرى يوم صفين، وكان لا يكاد يفارق المسجد الأعظم، يصلي فيه إلى الليل ثم ينصرف إلى منزله.

فلما سمع مقالة ابن زياد وثب إليه وقال: "يا ابن مرجانة! إن الكذاب وابن الكذاب أنتَ وأبوك! ومن استعملك وأبوه! يا عدو الله ورسوله! أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بهذا الكلام على منابر المسلمين؟!".

فغضب ابن عبيد الله بن زياد وقال: "من المتكلم!".

فقال: "أنا المتكلم يا عدو الله! أتقتل الذرية الطاهرة الذين أذهب الله عنهم الرجس في كتابه وتزعم أنك على دين الإسلام؟ واغوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار لينتقموا من هذا الطاغية اللعين بن اللعين على لسان رسول الله ورب العالمين؟!".

فازداد غضب ابن زياد حتى انتفخت أوداجه، فقال: "عليّ به!".

فوثب إليه الجلاوزة فأخذوه، فنادى بشعار الأزد: "يا مبرور".

وكان عبد الرحمن ابن مخنف الأزدي في المسجد، فقال: "ويح نفسك! أهلكتها وأهلكت قومك!".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

30

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 وحضر إلى الكوفة يومئذٍ سبعمائة مقاتل من الأزد، فوثبت إليه فتية من الأزد فانتزعوه منهم وانطلقوا به إلى منزله!


ودعا ابن زياد بعد عودته إلى القصر عمرو بن الحجاج الزبيدي، ومحمد بن الأشعث، وشبث بن ربعي، وجماعة من أصحابه، فقال لهم: "اذهبوا إلى هذا الأعمى الذي أعمى الله قلبه كما أعمى عينيه، فأتوني به!".

فانطلقوا يريدون عبد الله بن عفيف، وبلغ الأزد ذلك، فاجتمعوا وانضمت إليهم قبائل من اليمن ليمنعوا صاحبهم.

فبلغ ذلك ابن زياد، فجمع قبائل مضر وضمهم إلى محمد بن الأشعث، وأمره أن يُقاتل القوم!.

فأقبلت قبائل مضر، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى قتلت جماعة من العرب، ووصل القوم إلى دار عبد الله بن عفيف، فكسروا الباب واقتحموا عليه!

فصاحت ابنته: "يا أبت أتاك القوم من حيث تحذر!".

فقال: "لا عليكِ يا بُنية ! ناوليني السيف!".

فناولته السيف، فجعل يذب عن نفسه، فقالت له ابنته: "ليتني كنتُ رجلاً فأقاتل بين يديك هؤلاء الفجرة".

وجعل القوم يدورون عليه من يمينه وشمائله وورائه، وهو يذب عن نفسه بسيفه وهو يرتجز:

أقسم لو يفسح لي عن بصري‏
                                ضاق عليكم موردي ومصدري‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

31

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 فلم يقدر عليه أحد، وكلما جاءوه من جهة قالت ابنته: "جاؤوك يا أبت من جهة كذا!" حتى تكاثروا عليه من كل ناحية، وأحاطوا به، فقالت ابنته: "واذلاه! يُحاط بأبي وليس له ناصر يستعين به!".


وأخذوه إلى عبيد الله بن زياد، فلما أُدخل عليه، قال له: "الحمد الذي أخزاك!".

فقال ابن عفيف: "يا عدو الله! بماذا أخزاني! والله لو يكشف عن بصري..".

فقال له: "ماذا تقول في عثمان؟".

فقال: "يا ابن مرجانة! يا ابن سميه! يا عبد بني علاج! ما أنت وعثمان؟! أحسن أم أساء؟ أصلح أم أفسد؟ الله ولي خلقه يقضي بينهم بالعدل والحق، ولكن سلني عنك وعن أبيك! وعن يزيد وأبيه!".

فقال ابن زياد: "لا سألتك عن شي‏ء أو تذوق الموت!".

فقال ابن عفيف: "الحمد لله رب العالمين، كنت أسأل الله أن يرزقني الشهادة قبل أن تلدك أمك مرجانة، وسألته أن يجعل الشهادة على يدي ألعن خلقه وأشرّهم وأبغضهم إليه، ولما ذهب بصري ايست من الشهادة، أما الان فالحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس منها، وعرّفني الاستجابة منه لي في قديم دعائي!".

فقال عبيد الله: "اضربوا عنقه! فضربت، وصلب!".

وقد حاول ابن زياد كسب مودّة الأزد وبعض العشائر ذات الثقل الإجتماعي في الكوفة، وعدم إثارتها ضده بعدم مقتل بعض وجوههم الموالية لال البيت عليهم السلام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

32

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 ابن زياد يطالب ابن سعد بكتاب الأمر بقتل الإمام الحسين عليه السلام‏


بعد عودة عمر بن سعد من واقعة قتل الإمام الحسين عليه السلام، طالبه ابن زياد بالكتاب الذي أرسله إليه ويأمره فيه قتل الإمام الحسين عليه السلام.

فقال ابن سعد: "مضيتُ لأمرك وضاعَ الكتاب!".

قال: "لتجئني به".

قال ابن سعد : "ضاع!".

قال: "لتجئني به!".

قال ابن سعد: "تُرك والله يُقرأ على عجائز قريش بالمدينة اعتذاراً إليهن! أما والله لقد نصحتك في الحسين نصيحة لو نصحتها أبي سعد بن أبي وقّاص لكنتُ قد أديّت حقه!".

فقال عثمان بن زياد أخو عبيد الله: "صدق! والله لوددت أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة وأنّ الحسين لم يُقتل!" فما أنكر ذلك عبيد الله بن زياد!.

المختار الثقفي يعلم باستشهاد الإمام الحسين عليه السلام‏

لم يستطع عبيد الله بن زياد قتل المختار الثقفي لقرابة الأخير من عبد الله بن عمر بن الخطاب وعمر بن سعد، وقد استخرج ابن زياد المختار من الحبس، بعد أن كان زجه فيه بعد قتل مسلم وهانى، فبعد وصول كتاب يزيد الذي أمر فيه ابن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

33

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 زياد بالقتل والحبس على الظنة، حبس جماعة من الشيعة منهم المختار، فبقي في السجن حتى جي‏ء برأس الإمام الحسين عليه السلام ووضع بين يديه فغطاه بمنديل، واستخرج المختار من الحبس، فلّما نظر المختار إلى الرأس الشريف صاح صيحة مدوية. وقد أطلق سراح المختار في ما بعد، بعد أن جرح اللعين ابن زياد عينه.


كيف حمل بقية أهل البيت عليهم السلام إلى يزيد

لمّا وصل كتاب ابن زياد إلى يزيد بن معاوية، يأمره فيه بحمل رأس الإمام الحسين عليه السلام إليه وروؤس من قُتل معه، وبحمل أثقاله ونسائه وعياله.

ولما فرغ القوم من التطوف بالرأس المقدس، دفعه ابن زياد إلى زحر بن قيس، ودفع إليه رؤوس أصحابه، وسرحه إلى يزيد بن معاوية، وانفذ معه أبا بردة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظبيان، في جماعة من أهل الكوفة حتى وردوا بها على يزيد بدمشق.
وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: قال لي أبي محمد بن علي: "سألتُ أبي علي بن الحسين عن حمل يزيد له، فقال : حملني على بعير بغير وطاء! ورأس الحسين عليه السلام على عَلم! ونسوتنا خلفي على بغال ... إن دمعت من أحدنا عين قُرع رأسه بالرمح! حتى إذا دخلنا دمشق صاح صائح: يا أهل الشام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

34

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 هؤلاء سبايا أهل البيت المعلون!".

 
وبذلك تكون مدة بقاء الركب الحسيني في الكوفة إثني عشر يوماً  1.
 
منازل الطريق من الكوفة إلى دمشق‏
 
هناك طريقان يصلان بين الكوفة ودمشق:
 
1 الطريق السلطاني: وهذا الطريق مع طوله وكثرة منازلة لا يمكن لسالك ان يجدّ السير فيه ولا يلوي على أحد ولا يتوقف في منزل أن يسلكه في أقل من عشرة أيام، ولو أردنا أن نقبل بأن مسير الركب الحسيني كان على هذا الطريق، ونقبل جميع ما حدث لهم في منازله لاستغرق ذلك سنة من الزمان على قول بعض المحققين، اهم منازل هذه الطريق: حران، حصاصة، تكريت، وادي النخلة، برصاباد، الموصل، عين الوردة، قنسرين، معرّة النعمان، كفر طاب، الشيرز، الحمى حماة ، حمص، بعلبك.
 
2 الطريق المستقيم طريق عرب عقيل : وهو طريق يمكن قطعه في مدة أسبوع لكونه مستقيماً، وهي الطريق التي يسلكها البريد.
 
ولعل أعداء الله ورسوله صلى الله عليه واله كانوا قد سلكوا ببقية الركب الحسيني في سفرهم من الكوفة إلى الشام أقصر الطرق
 
 
 

1- يبدو في ضوء النصوص أن هناك طريقاً مستقيماً بين الشام والعراق يمكن ان يقطعه المسافر عادة خلال مدة اسبوع، وكان عرب عقيل يسلكون هذا الطريق، كما أن عرب صليب يذهبون من حوران للنجف في نحو ثمانية أيام. وإذا افترضنا ان ابن زياد كتب إلى يزيد بخبر واقعة الطف مباشرة بعد انتهائها، وان البريد تحرك برسالته في ليلة الحادي عشر او في اليوم الحادي عشر، فإنه يمكن الاحتمال، على فرض ان مدة البريد اسبوع، ان البريد وصل إلى دمشق حوالي اليوم السابع عشر من المحرم.
وإذا افترضنا أيضاً أن البريد تحرك من دمشق إلى الكوفة بجواب يزيد في نفس اليوم، فإنه من المحتمل أيضاً أنه يصلها حوالي اليوم الرابع والعشرين من المحرم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

35

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 مسافة، ذلك لأن من الطبيعي يومذاك أن يحرص كل من يزيد وابن زياد واتباعهما الموكلين ببقية الركب الحسيني على وصول الركب في أسرع وقت ممكن، فيزيد يتلهف ليروي ظمأه إلى التشفي من أهل البيت عليهم السلام، اما ابن زياد فرغبة منه ليري يزيد كيف نفذ أوامره كما يحب ويرضى! اما من رافق الركب الحسيني فهم أشد لهفة للوصول إلى الشام لينالوا الجوائز.


وتجدر الإشارة أن جلاوزة ابن زياد حينما خرجوا برأس الحسين عليه السلام من الكوفة كانوا يخافون من قبائل العرب أن تثور فيهم الغيرة والحميّة، فكانوا يشيعون بين القبائل انهم يحملون رأس خارجي.

وهناك رأي اخر يفيد بأن من الأرجح أنهم تعمدوا سلوك الطريق الذي يمر بأكبر عدد ممكن من المدن والقبائل، لأن النظام في مثل هذه الحالة يستعمل الترهيب وسيلة لفرض هيبته، وهو مايؤيده أصل الإقدام على حمل الرؤوس من بلد إلى بلد.

على مقربة من دمشق‏

لما وصل الركب الحسيني المأسور إلى مقربة من دمشق، دنت السيدة أم كلثوم من شمر فقالت: "لي إليك حاجة!".

فقال: "ما حاجتك؟".

قالت: "إذا دخلت بنا البلد، فاحملنا بدرب قليل النظارة، وتقدم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل، وينحونا عنها فقد خُزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال!".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

36

الفصل الثاني: في حاضرة الغدر

 فأمر اللعين في جواب سؤالها أن تجعل الرؤوس التي كانت على الرماح في وسط المحامل! وسلك بهم بين النظارة على تلك الصفة حتى أتى بهم باب دمشق.


وكان اليوم الذي أدخل فيه رأس الإمام الحسين عليه السلام مدينة دمشق الأول من شهر صفر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

37

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 
بلاد الشام‏

الشام اسم يشمل عامة الأقاليم الداخلة اليوم في سورية ولبنان وفلسطين، وكانت الشام من أول الأقطار التي فكّر الرسول صلى الله عليه واله في أمرها لنشر كلمة التوحيد وبثّ الدعوة إلى الإسلام، وقد جهّز الرسول العديد من السرايا والغزوات لهذا الغرض، وفي أواخر أيامه جهزّ جيشاً أمّر عليه أسامة بن زيد، وقال: "لعن الله من تخلف عن جيش أسامة".. وما كان هدف الرسول صلى الله عليه واله توسيع رقعة حكمه جغرافياً، بل كان ذلك أمراً عرضياً تابعاً لبسط كلمة التوحيد والتفاف الناس حول راية الإسلام، وهداية الناس إلى الله تبارك وتعالى، ولكن الأمور تغيرت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه واله، وانقلبت الموازين، وغرّت الدنيا كثيراً من الناس، وأصبحت الغنيمة والحصول على المناصب الدنيوية وبسط السلطة والنفوذ من أهم الدواعي لفتوح البلدان.

وبعد أن فتحها المسلمون استعمل عليها عمر يزيد بن أبي سفيان، ومن بعده أخاه معاوية بن أبي سفيان، وفي سنة 41 بايعه أهل الشام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

38

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 بالخلافة، فهو مؤسس الدولة الأموية التي جعلت من دمشق قاعدة الحواضر الإسلامية، وظلت كذلك حتى سنة 132 هجرية، وقد ورّث معاوية ابنه يزيد الخلافة سنة 60 للهجرة.


الركب الحسيني إلى الشام‏

لما وصل كتاب ابن زياد إلى يزيد بن معاوية ووقف عليه، أعاد الجواب إليه يأمره فيه بحمل رأس الحسين ورؤوس من استشهد معه وبحمل أثقاله ونسائه وعياله.

فلمّا فرغ القوم من التطواف بالرأس الشريف في الكوفة ردوه الى القصر فدفعه ابن زياد إلى زحر بن قيس ودفع إليه رؤوس أصحابه وسرّحه إلى يزيد بن معاوية، وأنفذ معه أبا بردة بن عوف الأزدي وطارق بن أبي ظبيان مع جماعة من أهل الكوفة، حتى وردوا بها على يزيد.

وقد ساقوا الأسارى من أهل البيت عليهم السلام من النساء والأطفال راكبين أقتاباً يابسة، وحولهم الجنود بالرماح، إن دمعت عين أحدهم قُرعَ رأسه بالرمح، وساقوا بهم من منزل الى منزل كما تساق أسارى الترك والديلم، وكان على رأسهم سيد العابدين علي بن الحسين عليهم السلام وقد جًعل الغلّ في عنقه ويده، يحمله بعير يظلع بغير وطاء.

وروي عن السيدة زينب عليها السلام أنها قالت: "قد علم الله ما صار إلينا، قتل خيرنا، وانسقنا كما تساق الأنعام، وحُملنا على الأقتاب".

وسار القوم برأس الإمام الحسين عليه السلام ولأسارى فلمّا قربوا من دمشق، دنت السيدة أم كلثوم من الشمر، فقالت: "لي إليك حاجة؟".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

39

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

  فقال: "وما حاجتك؟" . قالت عليها السلام: "إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظارة، وتقدم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحّونا عنها، فقد خزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال". فأمر لعنه الله في جواب سؤالها أن تُجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل، وسلك بهم بين النظارة على تلك الصفة، حتى أتى بهم إلى باب دمشق، فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يُقام السبي.


وكان دخول الركب الحسيني إلى دمشق نهاراً وأهلها قد علّقوا الستور والحجب والديباج، فرحين مستبشرين، ونساؤهم يلعبن بالدفوف، ويضربن على الطبول، كأنه العيد الأكبر عندهم.

وروي عن سهل بن سعد الساعدي الصحابي أنه قال: "خرجت إلى بيت المقدس حتى توسطت الشام فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار قد علقوا الستور والحجب والديباج وهم فرحون مستبشرون وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلتُ في نفسي: لعل لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن. فرأيت قوماً يتحدثون، فقلت: يا هؤلاء ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن؟ قالوا: يا شيخ نراك غريباً! فقلتُ: أنا سهل بن سعد قد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه واله وحملتُ حديثه، فقالوا: يا سهل ما أعجبكَ السماء لا تمطر دماً والأرض لا تخسف بأهلها. قلتُ: ولمَ ذلك؟ فقالوا: هذا رأس الحسين عترة رسول الله صلى الله عليه واله يهدى من أرض العراق إلى الشام وسيأتي الان. قلت: وا عجباه! يهدى رأس الحسين والناس يفرحون؟!".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

40

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 الإمام زين العابدين عليه السلام مع الشيخ الشامي‏

 
بعد أن أقيم السبي على درج باب المسجد، إذا بشيخ قد أقبل حتّى دنا منهم، وقال: "الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم، وأراح الرجال من سطوتكم، وأمكن أمير المؤمنين منكم!".
 
قال له الإمام زين العابدين عليه السلام: "يا شيخ هل قرأت القران؟".
 
فقال: "نعم قرأته".
 
قال عليه السلام: "فعرفت هذه الاية: "قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القُربى" 1 ؟".
 
قال الشيخ: "قرأت ذلك..".
 
فقال عليه السلام: "فنحن القربى يا شيخ! فهل قرأت في "بني إسرائيل" "واتِ ذا القربى حقه "2 ؟".
 
فقال الشيخ: "قد قرأت ذلك..".
 
قال عليه السلام: "نحن القربى يا شيخ! ولكن هل قرأت هذه الاية: "واعلموا أنما غنمتم من شي‏ء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى 3 ؟ فنحن ذو القربى يا شيخ، ولكن هل قرأت هذه الاية: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا 4" ؟".
 
فقال الشيخ: "قد قرأت ذلك".
 
فقال عليه السلام: "فنحن أهل البيت الذين خُصِصنا باية الطهارة..".
 
 

1- سورة الشورى، الاية: 23.
2- سورة الإسراء، الاية: 26.
3- سورة الإسراء، الاية: 26.
4- سورة الأحزاب، الاية: 33.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

41

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 فبكى الشيخ ورمى عمامته، ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: "اللهم إني أبرأ إليك من عدو ال محمد صلى الله عليه واله، من الجن والانس، ثم قال: هل لي من توبة؟".


فقال عليه السلام: "نعم، إن تبت تاب الله عليك وأنت معنا..".

فقال: "أنا تائب.."

فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ فأمر بقتله.

ونستنتج من هذا الخبر عدة أمور:

1- إن هذا أول موقف تكلم به الإمام زين العابدين عليه السلام بعد تحمّله شدة السفر، لأن الرواية تقول: إن الإمام عليه السلام بقي طول طريق السفر بين الكوفة والشام ساكتاً لا يكلم أحداً.

2- يقوم الإمام بأداء الرسالة في أول فرصة وأول نقطة يجد بها الطينة الطيبة، فمع أن ذاك الشيخ الشامي لم يكن إلا رجلاً عاش في حكم الأمويين، ولم يرَ الإمام علياً عليه السلام ولا أحداً من أبنائه، ولكن فطرته سليمة، بينما الذين قاموا بقتل الإمام الحسين عليه السلام وسبي أهل بيته فقد كان كثير منهم ممن رأى علياً والحسن والحسين عليهم السلام وصلى خلفهم!

3- سيطرة الجو الإعلامي المسموم على المجتمع، فلقد أذاعوا أن المقتول هو رجل خارجي خرج على "أمير المؤمنين"، وكان يريد بث الفتنة والفرقة في المجتمع، لذا نرى أن الرجل الشامي بادر بالتعبير عن حمده لله على قتل الخارجي وإهلاك أهله.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

42

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 رأس الإمام الحسين عليه السلام وبقية الركب الحسيني بين يدي يزيد بن معاوية


لقد غمرت الأفراح والمسرات يزيد، وأمر بترتيب مجلس حاشد بالأشراف والأعيان والشخصيات من أهل الشام وممثلي بعض الدول والأديان انذاك مثل رأس الجالوت، فكان مجلساً في غاية الأهمية سياسياً واجتماعياً، داخلياً وخارجياً، وقد أراد أن يظهر نفسه بأنه انتصر على عدوه. فلما أُدخل عليه موكب الأسارى من أهل البيت عليهم السلام، هنأه القوم بالفتح.

وعن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: " قُدِم بنا على يزيد بن معاوية لعنه الله بعدما قتل الحسين ونحن اثنا عشر غلاماً ليس منا أحد إلا مجموعة يداه إلى عنقه وفينا علي بن الحسين عليه السلام..".

وأدخل رأس الإمام الحسين عليه السلام على يزيد ووضع بين يديه، فاستبشر الشقي بقتله، وجعل ينكتُ رأسه بالخيزران.

وأقبل قاتل الإمام الحسين عليه السلام على يزيد يقول:

أوقر ركابي فضة وذهبا
                                      فقد قتلت الملك المحجبا
قتلتُ خير الناس أماً وأباً
                                      وخيرهم إذ ينسبون نسبا

فقال له اللعين: "إذا علمتَ أنه خير الناس فلمَ قتلته؟".

فأجابه: "رجوت الجائزة!".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

43

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 فأجابه يزيد: "اخرج من بين يديّ فلا جائزة لك".


وقد كان هذا المجلس العام الوحيد الذي جمع فيه يزيد الأشراف، ذلك أن المجالس الخاصة التي كان يحضر فيه رأس الإمام الحسين عليه السلام وأهل البيت تكرّرت، فكان يزيد يتخذ مجالس الشرب واللهو والقيان والطرب، ويحضر رأس الإمام الحسين عليه السلام بين يديه.

يزيد ينكث ثانيا الإمام الحسين عليه السلام‏

وضع يزيد رأس الإمام الحسين عليه السلام بين يديه وأجلس النساء خلفه لئلا ينظرن إليه، وكانت ابنتا الإمام تتطاولان لتنظرا إلى الرأس وجعل يزيد يتطاول ليستره عنهما، وهو ينكت ثناياه بقضيبٍ في بيديه متمثلاً ببيت شعر للحصين بن الحمام المري:

نفلق هاماً من رجال أعزة
                                   علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما

ثم قال: "ما رأيتُ وجهاً قط أحسن منه!".

فقيل له: "إنه كان يشبه رسول الله صلى الله عليه واله".

فسكت، ولم يبقَ أحد في مجلسه إلا عابه وتركه، وكان عنده أبو برزة الأسلمي، وهو صحابي من سكان المدينة ثم البصرة، فقال له: "ويحك يا يزيد، أتنكت بقضيبك ثغر الحسين عليه السلام ابن فاطمة عليها السلام؟! اشهد، لقد رأيت النبي صلى الله عليه واله يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن عليه السلام ويقول: أنتما سيدا شباب أهل الجنة، قتل الله قاتلكما ولعنه، وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً".

فغضب يزيد وأمر بإخراجه من المجلس فأُخرج سحباً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

44

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 وكان موقف هذا الصحابي في أهم زمان وأخطر مكان، ولأجل ذلك لم يتحمل يزيد هذا الموقف.

 
ثم إن عبد الرحمن بن الحكم أخا مروان بن الحكم، كان ممن حضر المجلس العام، فلمّا رأى ما فعل يزيد برأس الإمام الحسين عليه السلام وتمثله بالأبيات قال:
 
سمية 1 أمسى نسلها عدد الحصى‏
                                                   وبنت رسول الله ليس لها نسل‏
 
فعندئذٍ، وخشية انقلاب الأمور ضده، بادر يزيد إلى القول: " نعم، فلعن الله ابن مرجانة، إذ أقدم على قتل الحسين بن فاطمة، لو كنت صاحبه لما سألني خصلة إلا أعطيته إياها ولدفعت عنه الحتف بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن قضى الله أمراً فلم يكن له مرد".
 
ثم إنه قال لعبد الرحمن: "سبحان الله! أما يسعك السكوت يا ابن الحمقاء! ما لك ولهذا؟!".
 
وقد أظهر يزيد في بعض كلماته ندمه كذباً ونفاقاً، ملقياً بمسؤولية قتل الإمام الحسين عليه السلام على عاتق ابن زياد، وكان ذلك الندم يرجع إلى كذبه وخوفه على زوال ملكه وتمشياً مع الوضع العام واستنكار الناس لذلك، والدليل على كذب يزيد أنه لم يعاقب عبيد الله بن زياد، ولم يعزله عن الإمارة، بل شكره واستدعاه وشرب معه الخمر وأعطاه جائزة كبيرة.
 
 
 

1- أو أمية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

45

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 يزيد والتضليل المكشوف‏

 
تبدلت لهجة يزيد أثناء وجود الموكب النبوي في الشام، فبعد أن كان يظهر الفرح بقتل الإمام الحسين عليه السلام، اضطر أمام شدة النكير المكتوم والذي تم التعبير عنه غالباً بتعابير ضعيفة.
 
وفي سياق إظهاره الفرح قال في مجلسه: :"أتدرون من أين دهي أبو عبد الله؟". فقالوا: "لا، فأجابهم: من الفقه والتأويل! هذا يفخر علي". ويقول: "أبي خير من أبي يزيد، وأمي خير من أمه، وجدي خير من جد يزيد، وأنا خير من يزيد"، فهذا الذي قتله! فأما قوله "إن أبي خير من أبي يزيد" فقد حاج أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه! وأما قوله "إن أمي خير من أم يزيد" فلعمري إنه صادق، إن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه واله خير من أمي، وأما قوله "إن جدي خير من جد يزيد" فليس أحد يؤمن بالله واليوم الاخر يقول إنه خير من محمد صلى الله عليه واله، وأما قوله "أنا" خير مني فلعمري لم يقرأ هذه الاية: (قُلِ اللَّهُمّ‏َ مَالِكَ الْمُلْك)1 .
 
لقد التجأ يزيد إلى هذا الموقف ليوهم الأمة بأنه وإن قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه واله إلا أنه لم يخرج من الإسلام، خاتماً كلامه بذكر مشيئة الله وقضائه وقدره ليعطي لجريمته النكراء بعداً دينياً! من خلال تثبيت مسلك الجبرالذي تشبث به الطواغيت ليُسكتوا به أصوات مخالفيهم والسذج من الناس.
 
 
 

1- سورة ال عمران، الاية: 26.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

46

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 تمثل يزيد بأبيات ابن الزبعرى‏



تؤكد مجمل الروايات على تمثل يزيد بن معاوية بأبيات ابن الزبعرى في مجلسه العام. والزبعرى شاعر قريش في الجاهلية، كان شديداً على المسلمين:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
                                     جزع الخزرج من وقع الأسل‏
لأهلّوا واستهلوا فرحاً
                                     ثم قالوا يا يزيد لا تُشل‏
لستُ من خندف إن لم أنتقم‏
                                     من بني أحمد ما كان فعل‏
لعبت هاشم بالملك فلا
                                     خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل‏

وقد زاد يزيد على هذه الأبيات ما يدل على كفره وخبث باطنه، ويكشف عما في قلبه من الإلحاد والحقد على رسول الله صلى الله عليه واله وأهل بيته عليه السلام:

لستُ من عتبة إن لم أنتقم‏
                                     من بني أحمد ما كان فعل‏

وقد استندت السيدة زينب عليها السلام إلى إنشاد يزيد لهذه الأبيات في المجلس بقولها: "فلا يستبطأ في بغضنا أهل البيت... وهو يقول فرحاً بقتل ولده وسبي ذريته غير متحوب
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

47

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 ولا مستعظم: ليت أشياخي...".


ثم إن أحد الصحابة قال ليزيد بعد تمثله بهذه الأبيات: "ارتددت عن الإسلام يا أمير المؤمنين!".

قال يزيد: "بلى.. نستغفر الله..".

فأجابه الصحابي: "والله لا ساكنتك أرضاً أبدا". وخرج عنه.

وهذا اعتراف من يزيد على نفسه بأن قوله يوجب الكفر والارتداد عن الدين، غير أنه بعد أن نكث يزيد ثنايا الإمام الحسين عليه السلام بقضيبه، أمر بصلبه، فصُلب ثلاثة أيام بدمشق على باب المسجد.

محاورات الإمام زين العابدين عليه السلام مع يزيد

لقد بلغت الحرب النفسية الذروة بعد واقعة الطف الأليمة، ولم تكن بأقل من الحرب في ظل السيوف، وأراد يزيد أن يظهر بمظهر الغالب الظافر في جميع المجالات، وأن يرى انتهاء الأمر بتمامه، لكي يتم بذلك كل شي‏ء له! وهو يعلم أنه لا يصل إليه إلا بظفره في هذه الحرب.

في المقابل نرى جبهة الحق تسير في خطى قائدها، وتتحرك نحو تحقق أهدافها، فنرى السيدة زينب عليها السلام تقف خلف الإمام زين العابدين عليه السلام في جميع المواقف، وكيف لا وهو الحجة على الأرض بعد أبيه عليه السلام.

روي أن يزيد قال للسيدة زينب عليها السلام: "تكلمي؟!" فأجابت عليها السلام: "هو المتكلم ". أي الإمام زين العابدين عليه السلام وقد أرادت بذلك أن تعرّف قائد المسيرة المظفرة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

48

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 كان الإمام زين العابدين عليه السلام يواجه مشاكل عديدة ينبغي له أن يتغلب عليها:


1- طاغوتاً متغطرساً يعيش نشوة النصر المزعوم، لابد أن يواجه بكلمة الحق على رؤوس الأشهاد، ليكشف الغطاء عن واقعه الملحد، ويظهر على حقيقته خصوصاً أمام أتباعه ومواليه.

2- نظاماً قمعياً أقامه معاوية على الترغيب والترهيب والجماجم والأشلاء، وأراد له الشيطان أن يكون التأسيس للامبراطورية الأموية التي تتخذها "الشجرة الملعونة في القران" وسيلة لطمس معالم الدين وتحريف شريعة سيد المرسلين".

وكان لابد من هز أركان هذه الإمبراطورية التي تتخذ مال الله دولاً وعباد الله خولاً باسم الإسلام وخلافة رسول الله صلى الله عليه واله.

3- إعلاماً مضللاً وبيئة مسمومة، عرفت الإسلام من خلال يزيد بن أبي سفيان ثم معاوية، وها هم يسمعون أن هؤلاء السبايا جي‏ء بهم من معركة مع خارجي خرج على "أمير المؤمنين"!

كان على الإمام زين العابدين عليه السلام أن يواجه ذلك ليمزق غيوم الجهل التي تلبدت منذ حوالي أربعة عقود.

عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: "لما أدخل رأس الحسين بن علي عليه السلام على يزيد لعنه الله وأدخل عليه علي بن الحسين وبنات أمير المؤمنين عليه السلام، وكان علي بن الحسين عليه السلام مقيداً مغلولاً".

قال يزيد: "يا علي بن الحسين، الحمد الله الذي قتل أباك!".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

49

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

فقال علي بن الحسين عليه السلام: "لعن الله من قتل أبي".
 
فغضب يزيد وأمر بضرب عنقه.
 
فقال علي بن الحسين: "فإذا قتلتني فبنات رسول الله صلى الله عليه واله من يردهم إلى منازلهم وليس لهم محرم غيري؟".
 
فقال يزيد: "أنتَ تردهم إلى منازلهم!".
 
ثم دعا بمبرد فأقبل يبرد الجامعة من عنقه بيده، ثم قال له: "يا علي بن الحسين، أتدري ما الذي أريد بذلك ؟".
 
قال عليه السلام: "بلى، تريد أن لا تكون لأحد عليّ منّة غيرك".
 
فقال يزيد: "هذا والله ما أردت فعله... يا علي بن الحسين "(وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم)1".
 
فقال علي بن الحسين عليه السلام: "كلا، ما هذه فينا نزلت،إنما نزلت فينا: "(مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)"2 فنحن الذين لا نأسى على ما فاتنا، ولا نفرح بما اتانا منها".
 
وبهذا هدم الإمام زين العابدين عليه السلام أصل استناد يزيد من الأساس، وبيّن عدم فقهه بمعنى الاية الشريفة، فوثب رجل من أهل الشام وقال دعني أقتله، فألقت السيدة زينب عليه السلام بنفسها عليه.
 
وجعل الإمام زين العابدين عليه السلام يقول:
 
 
 

1- سورة الشورى، الاية:30.
2- سورة الحديد، الايتان: 22 23.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

50

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم‏

                                 وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
فالله يعلم أنّا لا نحبكم‏
                                 ولا نلومكم إن لم تحبونا

فقال يزيد: "صدقت، ولكن أراد أبوك وجدك أن يكونا أميرين، فالحمد لله الذي أذلهما وسفك دماءهما!".

فوقف الإمام عليه السلام ليُذكر يزيد بن معاوية بابائه وأجداده، ويُعرفه بأبيه وجده: "يا ابن معاوية وهند وصخر، لم يزل ابائي وأجدادي فيهم الإمرة من قبل أن تولد، ولقد كان جدّي علي بن أبي طالب عليه السلام يوم بدر وأحد والأحزاب في يده راية رسول الله صلى الله عليه واله، وأبوك وجدك في أيديهما رايات الكفر".

ثم قال عليه السلام: "ويلك يا يزيد، إنك لو تدري ما صنعتَ وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي إذاً لهربت في الجبال وافترشت الرمال ودعوت بالويل والثبور، أن يكون رأس الحسين بن فاطمة وعلي عليهما السلام منصوباً على باب المدينة وهو وديعة رسول الله صلى الله عليه واله فيكم، فأبشر بالخزي والندامة غداً، إذا جمع الناس ليومٍ لا ريب فيه".

ثم دعا يزيد بالنساء والصبيان، فأُجسلوا بين يديه، فراهم بهيئة مؤلمة فقال: "قبّح الله ابن مرجانة، لو كانت بينكم وبينه قرابة ورحم ما فعل هذا بكم ولا بعث بكم هكذا".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

51

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 وكانت هذه الكلمات وأمثالها من يزيد في المرحلة الثانية التي تلت تعبيره عن غاية البهجة والسرور، إلا أنه فوجي‏ء بردة فعل من الناس لم يكن يحسب لها أدنى حساب، مما اضطره إلى أن يتخلى عن المسؤولية ويرميها على عاتق ابن زياد.


وتبرز من مواقف الإمام علي بن الحسين عليه السلام عدة نقاط للبحث والتأمل:

1- صلابة موقف الإمام عليه السلام وصموده في المقام.

2- جعل الإمام عليه السلام مسؤولية قتل الإمام الحسين عليه السلام وما جرى في وقعة الطف وبعده على عاتق يزيد وتنبيهه لعمق الفاجعة الكبرى ووعيده بنار جهنم.

3- تبيين حقيقة يزيد بأنه وأباه وجده كانوا في خط الباطل، معلنين الحرب على رسول الله صلى الله عليه واله، وأهل البيت عليهم السلام، وأن النهضة الحسينية هي استمرار لتلك المواجهة والمقابلة.

يزيد يهمّ بقتل الإمام زين العابدين عليه السلام‏

وكما تقلب موقف يزيد في الحديث عما جرى في كربلاء، بين الفرح بما حصل، والتبرؤ منه، كذلم تقلبت مواقفه من الإمام السجاد عليه السلام، بين السماتة، ومحاولة القتل، ثم الإيحاء بأنه يكرمه.

حاول يزيد لعنه الله أثناء محاوراته للإمام زين العابدين عليه السلام أن يستنطقه بكلمة يوجب فيها قتله، والإمام عليه السلام يجيبه حسب ما يكلمه وفي يده سبحة صغيرة يديرها بأصابعه، وهو
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

52

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 يتكلم، فقال له يزيد: "أنا أكلمكَ وأنت تجيبني وتدير أصابعك بسبحة في يدك، كيف يجوز ذلك؟".


فقال عليه السلام حدثني أبي عن جدي صلى الله عليه واله: "إنه كان إذا صلّى الغداة وانفتل لا يتكلم حتى يأخذ سبحة بين يديه، فيقول: اللهم إني أصبحت أسبّحك وأحمدك وأُهلّلك وأُكبرك وأُمجدك بعدد ما أدير به سبحتي، ويأخذ السبحة في يده ويديرها وهو يتكلم بما يريد من غير أن يتكلّم بالتسبيح، وذكر أن ذلك محتسب له وهو حرز إلى أن يأوي إلى فراشه، فإذا أوى إلى فراشه قال مثل ذلك القول ووضع سبحته تحت رأسه فهي محسوبة له من الوقت إلى الوقت، ففعلتُ ذلك اقتداءً بجدي صلى الله عليه واله".

فقال له يزيد لعنه الله: "لستُ أكلم أحداً منكم إلا ويجيبني بما يفوز به".

وشاور يزيد جلساءه في أمر الأسارى في مجلسٍ كان في اخر أيام مقام أهل البيت عليه السلام في الشام، فأشاروا بقتله وقالوا له: "لا تتخذ من كلب سوء جرواً".

فابتدر الإمام عليه السلام بالكلام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال ليزيد: "لقد أشار عليك هؤلاء بخلاف ما أشار جلساء فرعون إليه، حيث شاورهم في موسى وهارون، فإنهم قالوا: أرجه وأخاه، وقد أشار هؤلاء عليك بقتلنا".
`
فسكت يزيد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

53

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 رأس اليهود في مجلس يزيد العام‏


بعد المحاورة التي جرت بين الإمام زين العابدين عليه السلام ويزيد، التفت إليه حبرٌ من أحبار اليهود وكان حاضراً، فقال: "من هذا الغلام يا أمير المؤمنين؟".

فقال يزيد: "صاحب الرأس هو أبوه".

قال الحبر: "ومن هو صاحب الرأس يا أمير المؤمنين؟".

قال: "الحسين بن علي بن أبي طالب".

قال: "فمن أمه؟".

قال يزيد: "فاطمة بنت محمد صلى الله عليه واله".

فقال الحبر: "يا سبحان الله! هذا ابن بنت نبيكم قتلتموه في هذه السرعة! بئس ما خلفتموه في ذريته، والله لو خلف فينا موسى بن عمران سبطاً من صلبه، لظننا أنا كنا نعبده من دون الله، وأنتم إنما فارقكم نبيكم بالأمس، فوثبتم على ابن نبيكم قتلتموه، سوأة لكم من أمة..". 
 
السيدة زينب بنت علي عليه السلام في مجلس يزيد

إنها بطلة المعركة في مجلس يزيد، تقف أمام طغيانه بكل صلابة، وتكلمه بمنتهى الشجاعة، لأنها ترى الواقع الثابت عند الله، ولأجل ذلك نرى أنها تفرغ عن منطق أبيها الذي هو نفس المصطفى الحبيب، فتجعل الشام وقصرها الأموي امتداداً ساحة كربلاء وثورة سيد الشهداء، وتجسيداً نمذجياً لقيمها الكريمة وأهدافها السامية،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

54

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 فها هي تقول له: "يا يزيد أما تخاف الله ورسوله من قتل الحسين عليه السلام؟ وماكفاك ذلك حتى تستجلب بنات رسول الله صلى الله عليه واله من العراق إلى الشام! وما كفاك حتى تسوقنا إليك كما تُساق الإماء على المطايا بغير وطاء! وما قتل أخي الحسين عليه السلام أحد غيرك يا يزيد، ولولا أمرك ما يقدر ابن مرجانة أن يقتله،لأنه كان أقلّ عدداً وأذل نفساً، أما خشيت من الله بقتله وقد قال رسول الله صلى الله عليه واله فيه وفي أخيه: "الحسن والحسين سيدا أهل الجنة من الخلق أجمعين"؟ فإن قلتَ لا فقد كذبتَ، وإن قلتَ نعم فقد خصمت نفسك واعترفت بسوء فعلك..".


فقال يزيد: "ذرية يتبع بعضها بعضاً..".

وقد ركزت السيدة زينب عليها السلام في هذا الخطاب على ثلاثة أمور:

1- الإنتساب إلى رسول الله صلى الله عليه واله.
2- تحميل مسؤولية قتل الإمام الحسين عليه السلام ليزيد لتبطل كل محاولة للتبرؤ من ذلك.
3- إثبات أن يزيد لا علاقة له بالإسلام من قريب ولا من بعيد.
 
 
السيدة زينب عليها السلام مع الرأس الشريف‏

اتخذ موقف السيدة زينب عليها السلام عند رؤية الرأس الشريف منحىً عاطفياً، فهي لما رأته نادت بصوت حزين يقرح القلوب: "وا حسيناه، يا حبيب رسول الله، يا ابن مكة ومنى، يا ابن فاطمة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

55

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 الزهراء سيدة النساء، يا ابن بنت المصطفى..".

 
فأبكت كل من كان حاضراً في المجلس.
 
خطبة السيدة زينب عليها السلام1:
 
وهي الوثيقة المحمدية العلوية الفاطمية والحسنية الحسينية التي اتخذت موقعها في سياق خطبة المصطفى الحبيب يوم الغدير، وخطبة أمها الصديقة الكبرى الشهيدة في المسجد النبوي، وخطبة أبيها أمير المؤمنين المعروفة ب"الشقشقية"، لتشكل هذه الخطب جميعاً الوثائق الأبرز لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
 
وقد ألقت عليه السلام هذه الخطبة بعد تمثّل يزيد بأبيات الزبعرى:
 
"صدق الله ورسوله يا يزيد "(ثُمّ‏َ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِايَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون)" 2، أظننت يا يزيد حين أُخذ علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا هواناً على الله، وبك عليه كرامة!! وأن هذا لعظيم خطرك فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك، جذلان فرحاً حين رأيت الدنيا مستوسقة لك، والأمور متسقة عليك، وقد أملهت ونفّست وهو قول الله تبارك وتعالى: "(وَلاَ يَحْسَبَنّ‏َ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِين)"3، أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك نساءك وإماءك وسوقك بنات



1- كما نقلها ابن طيفور ت: 280 .
2- سورة الروم، الاية: 10.
3- سورة ال عمران، الاية: 178.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

56

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 رسول اللهم صلى الله عليه واله قد هتكت ستورهن وأصحلت أصواتهن مكتئبات تحدي بهنّ الأباعر ويحدو بهن الأعادي من بلدٍ إلى بلدٍ، لا يراقبن ولا يؤوين، يتشوفهنّ القريب والبعيد، ليس معهن وليّ من رجالهن، وكيف يستطبأ في بغضنا من نظر إلينا بالشنف والشنان والإحن والأضغان، أتقول: "ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا" غير متأثم ولا مستعظم وأنت تنكت ثنايا أبي عبد الله بمخصرتك؟ ولمَ لا تكون كذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشافة بإهراقك دماء ذرية رسول الله صلى الله عليه واله ونجوم الأرض من ال عبد المطلب، ولتردن على الله وشيكاً موردهم ولتودن أنك عميت وبكمت، وأنك لم تقل: "لأهلوا وأستهلوا فرحاً". اللهم خذ بحقنا وانتقم لنا ممن ظلمنا، والله ما فريت إلا في جلدك، ولا حززت إلا في لحمك، وسترد على رسول الله صلى الله عليه واله برغمك وعترته ولحمته في حظيرة القدس، يوم يجمع الله شملهم ملمومين من الشعث، وهو قول الله تبارك وتعالى: "(وَلاَ تَحْسَبَنّ‏َ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)"1، وسيعلم من بوّأك ومكّنك من رقاب المؤمنين إذا كان الحكم الله والخصم محمد صلى الله عليه واله وجوارحك شاهدة عليك، فبئس للظالمين بدلاً، أيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً، مع أني والله يا عدوّ الله وابن عدوه أستصغر قدرك وأستعظم تقريعك، غير أن العيون عبرى والصدور حرّى وما يجري ذلك أو يغني عنّا، وقد قُتل الحسين عليه السلام، وحزب

 
 

1- سورة ال عمران، الاية: 169.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

57

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 الشيطان يقربنا إلى حزب السفهاء ليعطوهم أموال الله على انتهاك محارم الله، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، وهذا الأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الزواكي يعتامها عسلان الفلوات، فلئن اتخذتنا مغنماً لتتخذن مغرماً حين لا تجد إلا ما قدمت يداك، تستصرخ ابن مرجانة ويستصرخ بك، وتتعاوى وأتباعك عند الميزان، وقد وجدت أفضل زاد زوّدك معاوية قتلك ذرية محمد صلى الله عليه واله، فوالله ما اتقيتُ غير الله ولا شكواي إلا إلى الله، فكِدْ كيدك واسْعَ سعيك، وناصِبْ جهدك، فوالله لا يرحض عنك عار ما أتيت إلينا أبداً، والحمد لله الذي ختم بالسعادة والمغفرة لسادات شبّان الجنان، فأوجب لهم الجنة،أسأل الله أن يرفع لهم الدرجات وأن يوجب لهم المزيد من فضله، فإنه ولي قدير".


فكان هذا الخطاب كالصاعقة على رأس يزيد، فقال:

يا صيحة تحمد من صوائح‏
                                     ما أهون النوح على النوائح‏

واستبدت بيزيد الحيرة، فلم يدر مايقول فما كان منه إلا أن تمثّل بقول شاعرٍ. ولاتوجد لأدنى مناسبة بين ما سمعه الطاغية، من الصواعق التي انقضت عليه وعلى بني أمية مذكرة بكل كلمة منها بضربة من ضربات ذي الفقار بين يدي رسول الله صلى الله عليه واله وبين ما تمثل به من الشعر الذي أعلن فيه أن الصيحة تحمد من الصوائح! وأن النوح يهون على النائحات! إنها محاولة الأبكم الفاشلة للتستر بالتشفي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

58

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 نظرة سريعة في مضامين الخطبة العظيمة


1- الانطلاق من محور مركزي في المعارف الإسلامية حول إمهال الله تعالى الطغاة الظلمة والكفرة الفجرة، وأنه ليس ذلك إلا لإتمام الحجة عليهم وليزدادوا إثماً.
2- بيان جور يزيد في الحكم، مع أنه يدّعي تمثيله للخلافة.
3- التركيز على مسألة حفظ مكانة المرأة ولزوم الغيرة.
4- التركيز على أن ما فعله يزيد هو نتيجة الكفر، وأن ما ارتكبه هو انتقام لمّا فعله الرسول صلى الله عليه واله من قتل أقرباء يزيد الكفرة في يوم بدر، وهو هز السيوف في وجه رسول الله بعد مُضي خمسين سنة من وفاة الرسول صلى الله عليه واله.
5- التأكيد أن الحكم والولاية لال محمد لا لغيرهم، وذلك في قولها: "... وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا".
6- الإشارة إلى مسؤولية من مكّن الطاغية من رقاب المسلمين، وبذلك ترد على من يريد أن يحيل ذلك إلى قضاء الله وقدره.
7- التصريح بعدم تمكن يزيد ولا أذنابه من محو ذكر أهل البيت عليهم السلام، فذلك أمر لا يتمكن منه أحد.
8- بيان عظمة مقام الشهيد وسمو قيمة الشهادة في الفكر الإسلامي.
9- جعل المسؤولية الكبرى في قتل الإمام الحسين عليه السلام على عاتق يزيد مباشرة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

59

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 موقف السيدة زينب عليها السلام من طلب الرجل الشامي‏


روي عن فاطمة بنت الحسين عليه السلام أنها قالت: فلما جلسنا بين يدي يزيد، قام إليه رجل من أهل الشام، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية يعنيني فأرعدتُ وظننت أن ذلك جائز لهم، فأخذت بثياب عمتي زينب، وكانت تعلم أن ذلك لا يكون.

فقالت عمتي عليها السلام للشامي: "كذبتَ ولؤمتَ، والله ما ذلك لك ولا له!".

فغضب يزيد وقال: "كذبتِ! إن ذلك لي ولو شئت أن أفعل لفعلت!".

قالت: "والله ما جعل الله لك ذلك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغيرها".

فاستطار يزيد غضباً وقال: "إياي تستقبلين بهذا؟ إنما خرج من الدين أبوك وأخوك!".

قالت زينب عليها السلام: "بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وجدك وأبوك إن كنتَ مسلماً!".

قال : "كذبت يا عدوة الله!".

قالت عليها السلام له: "أنتَ أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك.. فكأنه استحيا وسكت..".

فعاد الشامي فقال: "هب لي هذه الجارية".

فقال له يزيد: "أعزب، وهب الله لك حتفاً قاضياً".

لقد حققت السيدة زينب عليها السلام نصراً حاسماً على الطاغي وهو في ذروة السلطة والقدرة الظاهرية، فقد أفحمته المرة بعد المرة، 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

60

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 وقد تمكنت أن تظهر جهل مدّعي الخلافة للناس،كما كشفت عن عدم فقهه في شؤون الدين، فإن نساء المسلمين لا يصح اعتبارهن سبايا في الحروب، ولا يعاملن معاملة السبي، فكيف إن كن بنات رسول الله صلى الله عليه واله؟


دور عقيلات بيت النبوة عليهم السلام في مجلس يزيد

سارت النساءُ في بقية الركب الحُسيني على خطى الإمام زين العابدين عليه السلام والسيدة زينب عليها السلام بتحقيق نفس الأهداف، وعمدن إلى فضح السلطة الظالمة، وتعريف أنفسهن بأنهن سبايا ال بيت النبوة عليهم السلام في كل موقفٍ، ما يجعل الأمور تنقلبُ على رأس يزيد بن معاوية، وهذا ما فعلته السيدة سُكينة بنت الإمام الحسين عليه السلام. في تعريف الأسارى بأنهم من ال محمد صلى الله عليه واله لكي تسيطر على الجو المسموم إعلامياً.

فعن الإمام جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عليه السلام: لما قدم يزيد بذراري الحسين أدخل بهن نهاراً مكشوفات وجوههن، فقال أهل الشام الجفاة: ما رأينا أحسن من هؤلاء، فمن أنتم؟ فقالت سكينة بنت الحسين عليه السلام: "نحن سبايا ال محمد!".

ولما وضع رأس الإمام الحسين عليه السلام بين يدي يزيد، قالت له السيدة سكينة عليه السلام: "والله ما رأيتُ أقسى قلباً من يزيد، ولا كافراً ولا مشركاً شرّاً منه ولا أجفى منه".

وكذا قامت فاطمة بنت الإمام الحسين عليه السلام وكانت أكبر
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

61

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

  من سُكينة حينما أدخلت نساء الإمام الحسين عليه السلام على يزيد، فصاحت نساء ال يزيد وبنات معاوية وأهله وولولن، فقالت فاطمة بنت الحسين عليه السلام: "أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟".

فبكى الناس وبكى أهل داره حتى علت الأصوات.

خطبة الإمام زين العابدين عليه السلام‏

أمر يزيد بمنبرٍ وخطيب ليَذكُرَ للناس مساوئ الإمام الحسين عليه السلام وأبيه الإمام علي عليه السلام، فصعد الخطيب المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وأكثر الوقيعة في علي والحسين عليه السلام، وأطنب في مدح معاوية ويزيد، فصاح به الإمام زين العابدين عليه السلام: "ويلك أيها الخاطب! اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق، فتبوّأ مقعدك من النار". ثم قال عليه السلام: "يا يزيد! ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد، فأتكلم بكلمات، فيهن لله رضا ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب..".

فأبى يزيد، فقال الناس: "يا أمير المؤمنين، ائذن له ليصعد، فلعلنا نسمع منه شيئاً". فقال لهم: "إن صعد المنبر هذا لم ينزل إلا بفضيحتي وفضيحة ال أبي سفيان..".

فقالوا: "ما قدر ما يُحسن هذا؟".

فقال: "إنه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقّا..".

ولم يزالوا به، حتى أذِن له بالصعود، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم خطب خطبة أبكى منها العيون، وأوجل منها القلوب، فقال فيها:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

62

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 "أيها الناس،أُعطينا ستاً وفُضلنا بسبع، أعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين، وفضلنا بأن منا النبي المختار محمداً صلى الله عليه واله وسلم، ومنا الصديق، ومنا الطيارعليه السلام، ومنا أسد الله و أسد الرسول صلى الله عليه واله، ومنا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول عليها السلام، ومنا سبطا هذه الأمة وسيدا شباب أهل الجنة.


فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني، أنبأته بحسبي ونسبي..

أيها الناس: أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الزكاة في أطراف الرداء، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حج ولبى، أنا ابن من حُمل على البراق في الهواء، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فسبحان من أسرى، أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا إله إلا الله، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وصلّى القبلتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين، أنا ابن صالح المؤمنين، ووراث النبيين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكائين، وأصبر الصابرين، 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

63

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 وأفضل القائمين من ال ياسين ورسول رب العالمين، أنا ابن المؤيد بجبرائيل، والمنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر من مشى من قريش أجمعين، وأول من أجاب واستجاب لله من المؤمنين، وأقدم السابقين، وقاصم المعتدين، ومبير المشركين، وسهم من مرامي الله على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، ناصر دين الله، وولي أمر الله، وبستان حكمة الله، وعيبة علم الله، سمح سخي، بهلول زكي أبطحي، رضي مرضي، مقدام همام، صابر صوام، مهذب قوام، شجاع قمقام، قاطع الأصلاب، ومفرق الأحزاب، أربطهم جناناً، وأطبقهم عناناً، وأرجأهم لساناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدهم شكيمة، أسد باسل، وغيث هاطل، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنة وقربت الأعنة، طحن الرحى، ويذروهم ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز، وصاحب الإعجاز، وكبش العراق، الإمام بالنص والاستحقاق، مكيّ مدنيّ، أبطحيّ تهامي، خيفيّ عبقيّ، بدريّ أُحديّ، شجريّ مهاجري، من العرب سيّدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرين، وأبو السبطين الحسن والحسين، مظهر العجائب، ومفرّق الكتائب، والشهاب الثاقب، والنور العاقب، أسد الله الغالب، مطلوب كل طالب، غالب كل غالب، ذاك جدي علي أبي طالب.


أنا ابن فاطمة الزهراء،أنا ابن سيدة النساء، أنا ابن الطهر البتول، أنا ابن بضعة الرسول، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن المقتول ظلماً، أنا ابن 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

64

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 المحزوز من القفا، أنا ابن العطشان حتى قضى، أنا ابن طريح كربلاء، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء، أنا ابن من ناحت عليه الجن في الأرض والطير في الهواء، أنا ابن من رأسه على السنان يُهدى، أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تسبى. أيها الناس: إن الله تعالى وله الحمد ابتلانا أهل البيت ببلاءٍ حسن حيث جعل راية الهدى والعدل والتقى فينا، وجعل راية الضلالة والردى في غيرنا..".


فضج الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أن تكون فتنة، فأمر المؤذن أن يؤذن فقطع عليه الكلام وسكت.

فلما قال المؤذن "الله أكبر"، قال علي بن الحسين عليه السلام: "كبّرت كبيراً لا يقاس ولا يدرك بالحواس، ولا شي‏ء أكبر من الله".

فلما قال "أشهد أن لا إله إلا الله"، قال الإمام عليه السلام:" شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي ومخي وعظمي".

فلما قال "أشهد أن محمداً رسول الله" التفت الإمام عليه السلام من أعلى المنبر إلى يزيد وقال: "يا يزيد، محمد هذا جدي أم جدك؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت، وإن قلتَ إنه جدي فلم قتلتَ عترته؟".

ففرغ المؤذن وقام يزيد وصلّى صلاة الظهر.

نظرة خاطفة في خطبة الإمام السجاد عليه السلام وصداها

لقد اقتصر الإمام عليه السلام في هذه الخطبة على التعريف بأسرته ونفسه ولم يتعرّض لشي‏ء اخر، ولعل السر في ذلك أنه لما كان
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

65

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 يعلم أن المجتمع الشامي لا يعرف عن أهل البيت عليه السلام ومنزلتهم الرفيعة شيئاً لكونه تربى في أحضان سلطة الطغاة من بني أمية التي أخفت عنهم الحقائق وغذتهم بالولاء لأبناء الشجرة الملعونة والحقد على ال بيت رسول الله صلى الله عليه واله اكتفى بذلك، ومن هذا المنطق نرى أنه عليه السلام يعالج المسألة عاطفياً، لأن تأثيره في هذه المرحلة أكثر من أي أداة، ومضمون الخطبة يرشدنا إلى أن المخاطبين كانوا من جمهور الناس، لا الأشراف والأعيان منهم فحسب، فجو المجلس يختلف عن جو مجلس يزيد العام، الذي كان مزدحماً بالأعيان والأشراف وكبار رجال أهل الكتاب وبعض ممثلي الدول الكبار انذاك. فلذلك نرى أن الإمام عليه السلام يعدد مزايا ال البيت عليهم السلام ويخص بالذكر رجالاً منهم ليس لهم بديل ولا نظير، فيقول إنّ منا النبي المختار، ومنا الصديق يعني علي بن أبي طالب عليه السلام ويعدد الكثير من الصفات دون أن يصرح في البداية بالمقصود ممن يذكرهم بهذه الأوصاف مثل الصدق، وسيدي شباب أهل الجنة و..، حتى يذكر أوصافاً متعددة لهم تكشف عن بعض زوايا حياتهم وفضائلهم، ليكون أوقع بالنفوس، كما كان ذلك بالفعل.


وبعد ذلك يذكر الإمام عليه السلام أصله وجذره نسباً وموطناً، حتى يعلم الجميع أنه فرع الشجرة النبوية والثمرة العلوية والجوهرة الفاطمية واللؤلؤة الحسينية، ومن قلب مكة والمدينة، فكيف شوّهت السلطة الباغية والحكومة الطاغية الواقع على الناس وأذاعت الكذب 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

66

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 وعرفتهم للأمة بأنهم الخوارج على أمير الفاسقين يزيد!


إن الإمام عليه السلام بعد تبيينه مختصات جده رسول الله صلى الله عليه واله من الوحي والمعراج، يبيّن خصائص جده أمير المؤمنين علي عليه السلام، والمجتمع الشامي يسمع أوصافاً له يسمعها أول مرة، فهو الذي ضرب بين يدي رسول الله بسيفين وطعن برمحين...

ثم يذكر بعض خصائص جدته الصديقة الكبرى الإنسية الحوراء فاطمة الزهراء عليها السلام حتى يصل إلى قمة كلامه "أنا ابن المقتول ظلماً.." يقول ذلك، والظالم يزيد جالس بين يديه في المجلس، ويشير إلى بعض مأساة كربلاء فيقول: "أنا ابن المحزوز الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتى قضى، أنا ابن طريح كربلاء، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء..".

هذا ما جرى في كربلاء، وهذا واقع مقتل الإمام الحسين عليه السلام،وأما الشي‏ء الموجود حالياً في الشام الذي لا بدّ أن يلتفت إليه هذا الجمهور الغافل الضائع فهو أن جسم الإمام الحسين عليه السلام الطاهر وإن كان في كربلاء ولكن رأسه الشريف وحرمه في الشام.

ثم إن يزيد لم يجد مفراً إلا أن يلتجى إلى المؤذن بذريعة الأذان،وقد كان يعلم في البداية أن الإمام عليه السلام لو صعد المنبر يقلب الوضع عليه، ولكنه ما كان يعلم انه يصل إلى هذه الدرجة، وإلا لما رضي بذلك أصلاً.

لقد أثر خطاب الإمام تأثيراً بالغاً في أوساط المجتمع الشامي، فقد جعل بعضهم ينظر إلى بعض، ويسر بعضهم إلى بعض بما الوا إليه 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

67

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 من الخيبة والخسران، حتى تغيرت أحوالهم مع يزيد وأخذوا ينظرون إليه نظرة احتقار وازدراء.


أهم لقاءات الإمام زين العابدين عليه السلام في الشام‏

اللقاء الأول كان عندما نزل الإمام زين العابدين عليه السلام عن المنبر، أخذ ناحية باب المسجد، فلقيه مكحول الشامي وهو إمام الشام، وصاحب رسول الله صلى الله عليه واله ومبغض لأمير المؤمنين علي عليه السلام، فقال له: "كيف أمسيتَ يا ابن رسول الله؟".

قال عليه السلام: "أمسينا بينكم مثل بني إسرائيل في ال فرعون، يذبّحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم".

أما اللقاء الثاني للإمام زين العابدين عليه السلام مع منهال بن عمر الأسدي في سوقٍ من أسواق دمشق، فقال له : "كيف أمسيتَ يا ابن رسول الله؟". قال عليه السلام: "ويحك أما ان لك أن تعلم كيف أصبحت؟ أصبحنا في قومنا مثل بني إسرائيل في ال فرعون، يذّبحون أبناءنا، ويستحيون نساءنا، وأصبح خير البرية بعد محمد يُلعن على المنابر، وأصبح عدوّنا يُعطى المال والشرف، وأصبح من يحبنا محقوراً منقوصاً حقه، وكذلك لم يزل المؤمنون، وأصبحت العجم تعرف للعرب حقها أن محمداً كان منها، وأصبحت قريش تفتخر على العرب بأن محمداً كان منها، وأصبحت العرب تعرف لقريش حقها بأن محمداً كان منها، وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأن محمداً كان منها، وأصبحنا أهل البيت لا يُعرف لنا حق، فكهذا أصبحنا يا منهال".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

68

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 ونشير إلى تكرار الحادثة والمحادثة مع مكحول ومنهال لا وحدتها، خاصة أن المروي كون محادثة مكحول عند ناحية المسجد، ومكالمة منهال في سوق دمشق، وليس بغريب أن يتكرر ويتقارب جواب في سؤال واحد.

 
الإمام زين العابدين عليه السلام يحاور الرأي العام المُضَلّل‏
 
اهتم الإمام زين العابدين عليه السلام بمسألة تنوير الأفكار وكشف الحقائق أكثر من أي شي‏ء، ولقد ذكرنا شيئاً من كلامه ومحادثاته وخطبه التي تعالج هذا الجانب، فقد أتى إليه رجل من أهل الشام، فقال له: "أنت علي بن الحسين؟".
 
قال عليه السلام: "نعم".
 
قال: "أبوك قتل المؤمنين!".
 
فبكى الإمام عليه السلام ثم مسح وجهه وقال: "ويلك! وبما قطعت على أبي أنه قتل المؤمنين؟".
 
قال: "بقوله إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم على بغيهم".
 
قال عليه السلام: "أما تقرأ القران ؟".
 
قال: "إني أقرأ".
 
  1. قال عليه السلام: "أما سمعتَ قوله (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا.. وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا.. وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًاً) 1 ".
 
قال: "بلى".
 
قال عليه السلام: "كان أخاهم في عشيرتهم أم في دينهم؟".
 
 
 

1- سورة هود، الايات: 50، 61، 84.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

69

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 قال: "في عشيرتهم".

قال عليه السلام: "فرّجت عني فرج الله عنك".

حبس بقية الركب الحسيني في الشام‏

فقد روي عن فاطمة بنت علي عليه السلام، قالت: "ثم إن يزيد لعنه الله أمر بنساء الحسين عليه السلام فحبسن مع علي بن الحسين عليه السلام في محبس لا يكنّهم من حر ولا قرّ، حتى تقشرت وجوههم".

وكان البيت خراباً بحيث كان يُخشى وقوعه عليهم، فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "أُتي بعلي بن الحسين عليه السلام إلى يزيد بن معاوية ومن معه من النساء أسرى فجعلوهم في بيت، ووكلوا بهم قوماً من العجم لا يفهمون العربية، قال بعض لبعض : إنما جعلنا في هذا البيت ليهدم علينا فيقتلنا فيه، فقال علي بن الحسين عليه السلام للحرس بالرطانة : تدرون ما يقول هؤلاء النساء؟ يقلن كيت وكيت، فقال الحرس: قد قالوا إنكم تخرجون غداً وتُقتلون، فقال علي بن الحسين عليه السلام: كلا، يأبى الله ذلك، ثم أقبل عليهم يعلّمهم بلسانهم".

إقامة عزاء الإمام الحسين عليه السلام في بيت يزيد تضليلاً وتعمية

عندما أُدخل الركب الحسيني إلى يزيد، ووُضع الرأس بين يديه، سمعت هند بنت عبد الله بنت عامر زوجة يزيد، الحديث الذي دار
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

70

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 في قاعة القصر، فتقنعت بثوبها وخرجت إليه وسألته: "يا أمير المؤمنين، أرأس الحسين ابن فاطمة بنت رسول الله؟".


فأجابها: "نعم، فاعولي عليه وحدي على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه واله وصريخة قريش، عجل عليه ابن زياد، فقتله قتله الله".

فشقت الستر وهي حاسرة فوثب إليها يزيد فغطاها.

ثم أُدخلت النساء الهاشميات إلى دار يزيد، فلم تبق امرأة من ال يزيد إلا أتتهن وأظهرن التوجع والحزن على ما أصابهن وعلى ما نزل بهن.

واستدعى يزيد سبايا البيت النبوي عليهم السلام فقال لهن: "أيّهما أحبّ إليكن، المقام عندي أم الرجوع إلى المدينة؟ ولكم الجائزة السنية!".

قالوا: "نحب أولاً أن ننوح على الحسين عليه السلام".

قال: "افعلن ما بدا لكم".

ثم أخليت لهن الحجر والبيوت في دمشق، ولم تبقَ هاشمية ولا قرشية إلا لبست السواد على الإمام عليه السلام وندبنه مدة بقائهن في الشام، وبكى أهل الشام حتى علت أصواتهم.

واضطر يزيد "لعنه الله" لأن يبكي تصنعاً أمام الناس خوفاً من سخطهم الشديد عليه، ثم خشي شق العصا وحصول الفتنة وأخذ في الاعتذار والإنكار لفعل ابن زياد وإبداء التعظيم والتكريم لعلي بن الحسين عليه السلام ونقل نساء رسول الله إلى داره الخاصة وكان لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الإمام عليه السلام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

71

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 رأس الإمام الحسين عليه السلام عند يتيمته‏


كان للإمام الحسين عليه السلام بنت صغيرة اسمها رقيّة، ولها ثلاث سنين، وكانت مع الأسراء في الشام، وكانت تبكي لفراق أبيها ليلاً ونهاراً، وكانوا يقولون لها: "هو في سفر أي سفر الاخرة ، فرأته ليلة في النوم، فلمّا انتبهت جزعت جزعاً شديدا"، وقالت: "ائتوني بوالدي وقرة عيني"، وكلما أراد أهل البيت عليهم السلام إسكاتها ازدادت حزناً وبكاءً، ولبكائها هاج حزن أهل البيت عليهم السلام، فأخذوا في البكاء، ولطموا الخدود، وحثوا على رؤوسهم التراب، وقام صياح، فسمع يزيد صيحتهم وبكاءهم، فقال: "ما الخبر؟" قيل له: "إنها بنت الحسين عليه السلام الصغيرة، رأت أباها بنومها، فانتبهت وهي تطلبه وتبكي وتصيح"، فلما سمع يزيد ذلك، قال: "ارفعوا إليها رأس أبيها، وحطوه بين يديها تتسلى"، فأتوا بالرأس في طبق مغطى بمنديل، ووضعوه بين يديها، فقالت: "يا هذا، إني طلبت أبي ولم أطلب الطعام"، فقالوا: "إن هنا أباكِ"، فرفعت المنديل ورأت رأساً، فقالت: "ما الرأس؟" قالوا: "رأس أبيك". فرفعت الرأس وضمته إلى صدرتها وهي تقول: "يا أبتاه من ذا الذي خضبك بدمائك؟ يا أبتاه من ذا الذي قطع وريدك؟ يا أبتاه، من ذا الذي أيتمني على صغر سني؟ يا أبتاه من لليتيمة حتى تكبر؟ يا أبتاه من للنساء الحاسرات؟ يا أبتاه من للأرامل المسبيات؟ يا أبتاه من للعيون الباكيات؟ يا أبتاه من للضائعات الغريبات؟ يا أبتاه من بعدك واخيبتاه، يا أبتاه من بعدك وا غربتاه، يا أبتاه ليتني لك
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

72

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 الفداء، يا أبتاه ليتني قبل هذا اليوم عمياء، يا أبتاه ليتني وسدت التراب ولا أرى شيبك مخضباً بالدماء".


ثم وضعت فمها على فم الشهيد المظلوم، وبكت حتى غشي عليها، فلمّا حركوها فإذا هي قد فارقت روحها الدنيا، فارتفعت أصوات أهل البيت عليهم السلام بالبكاء، وتجدد الحزن والعزاء، ومن سمع من أهل الشام بكاءهم، فلم يُرَ في ذلك اليوم إلا باكٍ أو باكية.

يزيد يظهر الندامة ويلعن ابن مرجانة

اضطر يزيد أن يظهر الندامة في قتله للإمام الحسين عليه السلام وأصحابه، وبادر بلعن عبيد الله بن زياد، وذلك لعدة أمور:

1 الاستنكار الشعبي العام: فقد بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبهم إياه، حيث صرّح هو بذلك: "لعن الله ابن مرجانة! لقد بغّضني المسلمين وزرع لي في قلوبهم البغضاء".

2 الاستنكار الخاص:

أ وجوه أهل الشام: فقد أنكر عليه أهل الشام فعلته وتغيرت وجوههم بعدما رأوا ما فعله برأس الإمام الحسين عليه السلام.

ب عسكر يزيد: بعد تمثله بأبيات الزبعرى ما بقي أحد من عسكره إلا تركه.

ج استنكار بيت يزيد.

ويظهر هنا أن تلك الندامة ناشئة عن بغض المسلمين وعداوتهم له، وإلا فلم الفرح والسرور والاحتفال بقتل الإمام عليه السلام قبل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

73

الفصل الثالث: أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام

 أن يعرف أهل الشام حقيقة ما جرى، ثم إن إلقاء الملامة على عاتق ابن زياد ولعنه له ما هو إلا موقف سرعان ما فضحته المكافأة الكبيرة التي صرفها يزيد لابن زياد على قتله الإمام عليه السلام، وقضاؤه ليالي معه في القصر يشربون الخمر ويحتفلون بذلك.

 

 

 

 

 

79


74

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين‏

 
تجهيز الأسرى من ال البيت عليهم السلام إلى المدينة

لقد نجح إعلام الركب الحسيني في أداء واجبهم الرسالي في الشام، وأصبحت الخطب التي ألقاها ال البيت عليهم السلام حديث الأندية والمجالس، وعرف أهل الشام لؤم يزيد وخبثه، وصار المجتمع الشامي كالحمم تغلي على الدولة الغاشمة، وخشي يزيد وقوع الفتن واضطراب الرأي العام وخروج الأمر من يده، فلم يكن أحد من الناس في جميع الافاق راضياً بفعله، ففكر بجدية في طريق للخلاص من مشكلة وجود ال البيت عليهم السلام في الشام، و عرض يزيد الأموال على السيدة أم كلثوم قائلاً : "يا أم كلثوم، خذوا هذا المال عوض ما أصابكم".

فأجابته عليها السلام: "يا يزيد،ما أقل حياءك وأصلب جهلك؟ أتقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم!".

ثم دعا بالإمام زين العابدين عليه السلام وقال له: "إن أحببت أن تقيم عندنا فنصل رحمك ونعرف لك حقك، وإن أحببت أن أردك إلى بلادك".

فقال الإمام زين العابدين عليه السلام: "بل تردني إلى بلادي..".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

75

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 فأمر يزيد النعمان بن بشير بتجهيز الأسارى بما يصلحهم، وطلب إليه أن يبعث معهم رجلاً من أهل الشام أميناً وصالحاً ليسير بهم إلى المدينة.


فسيّر معهم محرز بن حريث الكلبي، وهو من أفاضل أهل الشام، فكان يساير الركب وخيله التي معهم، فيكون الحريم قدّام بحيث إنهم لا يفوتون، فإذا نزلوا تنحى عنهم ناحية هو وأصحابه، وكانوا حولهم كهيئة الحرس، وكان يسألهم عن أحوالهم ويتلطف بهم في جميع أمورهم، ولا يشق عليهم في مسيرهم، إلى أن ادخلوا المدينة.

ومن الغريب جداً أن يقول أحد أن يقوم يزيد بإرسال هؤلاء لأجل المحافظة عليهم فحسب، وإن كان هو الظاهر المتراءى من القضية، ولكن الواقع هو المحافظة عليهم أولاً، والسيطرة على الأوضاع ثانياً، والثاني أولى بالمقصود، فمن الطبيعي أن يخاف يزيد حصول التمرّد والعصيان عليه في بعض البلدان الواقعة في المسير، وقد راعت السلطة ذلك بالبعث الى المدينة واستقدام عدة من ذوي السنّ من موالي بني هاشم وموالي بني علي من أجل مسايرتهم للركب.

وكان يوم خروج الركب الحسيني من الشام في العشرين من شهر صفر، وبذلك تكون مدة بقائهم في الشام عشرين يوماً.

بقية الركب الحسيني في كربلاء

لمّا رجعت نساء الإمام الحسين عليه السلام وعياله من الشام وبلغوا العراق، قلن للدليل: "بحق معبودك أن تدلنا على طريق
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

76

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 كربلاء"، ففعل ذلك. فأخذوا بإقامة الماتم في أرض الطف لثلاثة أيام، وبذلك صارت سُنة حسنة استمرت من ذلك الحين إلى الان.

 
وأما المجلس الذي أقاموه في كربلاء، وقد حضره جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ورجال من ال الرسول صلى الله عليه واله الذين أتوا لزيارة قبر الإمام عليه السلام، فلم يكن عند ورودهم عليه السلام من الشام، بل في فترة زمنية أخرى، حيث إنهم كانوا يداومون على الزيارة.
 
و إن أول من زار الإمام الحسين عليه السلام هو الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري 1 رضوان الله عليه الذي رحل من المدينة المنورة إلى كربلاء لأجل زيارة سيد الشهداء عليه السلام، وقد ورد إلى كربلاء في اليوم العشرين من شهر صفر أي في الأربعين الأولى للإمام الحسين عليه السلام مع عطية بن سعد بن جنادة العوفي 2 ، أي في اليوم نفسه الذي خرج فيه الركب الحُسيني من الشام، وبذلك يستحيل لقاؤهم في كربلاء في نفس الزيارة، ولم يكن رجوع الركب الحسيني إلى كربلاء في الأربعين الأولى ولا الثانية بل في الفترة الواقعة بينهما.
 
ثم إن أهل البيت عليهم السلام تركوا كربلاء قاصدين المدينة،
 


1- جابر الأنصاري هو اخر من بقي من أصحاب الرسول صلى الله عليه واله، شهد بدراً وثماني عشرة غزوة مع النبي صلى الله عليه واله، وهو من أصفياء أصحاب أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وكان منقطعاً إلى ال البيت عليهم السلام ، وكان يقعد في المسجد وهو معتم بعمامة سوداء وينادي: "يا باقر العلم"، وكان يتوكأ على عصاه ويدور في سكك المدينة ويقول: "عليّ خير البشر"، وكان شيخاً فلم يتعرض الحجاج له، وقد زار قبر الإمام الحسين عليه السلام مرات عديدة وهو شيخ طاعن في السن كفيف البصر.
2- عطية العوفي أحد رجال العلم والحديث،روي عنه أخبار كثيرة في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام .

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

77

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 بعدما أقاموا العزاء على سيد الشهداء عليه السلام.


مدينة جدنا لا تقبلينا
                     فبالحسرات والأحزان جينا

ألا فأخبر رسول الله عنا
                        بأنا قد فجعنا في أبينا

وأن رجالنا بالطف صرعى‏
                          بلا رؤوس وقد ذبحوا البنين‏

المدينة قبل وصول خبر مقتل الإمام الحسين عليه السلام

إن بعض أقرباء وأصحاب النبي صلى الله عليه واله كانوا يعلمون بمصير الإمام الحسين عليه السلام إجمالاً، وذلك عبر ما سمعوه عن الرسول صلى الله عليه واله مباشرة أو بالواسطة، فإنهم وإن فاتهم الفوز العظيم، أو قصّروا في سبيل نصرة أبن بنت نبيهم عليه السلام لم يمنعهم ذلك أن يعيشوا في حالة من الخوف والقلق وترقب الأحداث.

تربة الإمام الحسين عليه السلام

عن أم سلمة أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه واله جالساً ذات يوم في بيتي"، فقال: "لا يدخل عليّ‏َ أحد، فانتظرت فدخل الحسين عليه السلام، فسمعتُ نشيج رسول الله صلى الله عليه واله يبكي، فاطّلعت فإذا حسين في حجره، والنبي يمسح جيبنه وهو يبكي"، فقلت: "والله ما علمت حين دخل"، فقال: "إن جبرائيل عليه السلام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

78

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 كان معنا في البيت"، فقال: "تحّبه؟" قلت: "أما من الدنيا فنعم"، قال: "إن أمتك ستقتل هذا بأرض يُقال لها كربلاء، فتناول جبرائيل عليه السلام من تربتها فأراها النبي صلى الله عليه واله".


ولم تكن السيدة أم سلمة هي الوحيدة في نقل أخبار إتيان جبرائيل بتربة الإمام الحسين عليه السلام إلى جده الرسول الأعظم صلى الله عليه واله، بل هناك عدة أشخاص رووا ذلك على رأسهم أمير المؤمنين علي عليه السلام:

أ عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: دخلت على رسول الله صلى الله عليه واله ذات يوم وعيناه تفيضان، فقلت: "هل أغضبك أحد يا رسول الله صلى الله عليه واله؟ ما لي أرى عينيك مفيضتين؟" قال: "قام من عندي جبريل فأخبرني أن أمتي تقتل الحسين ابني"، ثم قال: "هل لك أن أريك من تربته"، قلت: "نعم، فمدّ يده فقبض قبضة، فلما رأيتها لم أملك عينيّ أن فاضتا".

ب أبو بكر وعمر وحذيفة وعمار وأبو ذر: خرج رسول الله صلى الله عليه واله إلى أصحابه وهو يبكي، فقالوا: "ما يبكيك يا رسول الله؟" فقال صلى الله عليه واله: "أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل من بعدي بأرض الطف وجاءني بهذه التربة وأخبرني أن فيها مضجعه".

أم سلمة تعرف باستشهاد الإمام الحسين عليه السلام‏

لقد قامت زوجة الرسول الكريم صلى الله عليه واله السيدة أم
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

79

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 سلمة التي حصلت على شرف العلم وأصبحت موضع سرّ النبي صلى الله عليه واله، بدورها العظيم تجاه هذه المأساة، إذ استودعها النبي صلى الله عليه واله تربة من تراب كربلاء قبل مقتل الإمام الحسين عليه السلام بسنوات عديدة، وقال صلى الله عليه واله لها: "اجعلي هذه التربة في قارورة، ولتكن عندك، فإذا صارت دماً عبيطاً فقد قُتل الحسين صلى الله عليه واله"، ولقد احتفظت بها، وصار احمرارها علامة تحقق المأساة.


وكانت أم سلمة تحمل قارورتين من تراب الإمام الحسين عليه السلام، إحداهما سلّمها إليها رسول الله صلى الله عليه واله، والأخرى تسلمتها من يدي الإمام الحسين عليه السلام قبيل مغادرته المدينة، وقال لها: "... فإذا فاضتا دماً فاعلمي أني قد قتلت".

ويبدو أن السيدة أم سلمة قد خلطت التربة التي أعطاها إياها الإمام الحسين عليه السلام مع التربة التي كانت عندها، ذلك أنها بعد رؤيتها رسول الله صلى الله عليه واله في منامها وعلى رأسه ولحيته التراب، فسألته: "ما لكَ يا رسول الله صلى الله عليه واله؟".

فأجابها صلى الله عليه واله: "شهدت قتل الحسين عليه السلام انفاً".

فاستيقظت من منامها فزعة وفتحت قارورة واحدة فإذا هي تفيض دماً.

وكانت أم سلمة أول صارخة صرخت في المدينة، فتوجه أهل المدينة رجالاً ونساءً نحو بيتها، وإذ بها تصيح: "واحسيناه! وا ابن رسول الله"، فتصارخت النساء من كل ناحية حتى ارتفعت المدينة بالرجّة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

80

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 التي ما سمع بمثلها قط.


عبدالله بن عباس يَعلم بإستشهاد الإمام الحسين عليه السلام‏

كان إبن عباس من الذين يعلمون بمصير الإمام عليه السلام فمن الطبيعي أن يكون ممن يترقب خبر استشهاده، وقد روى ابن عباس: "رأيت النبي صلى الله عليه واله فيما يرى النائم بنصف النهار، وهو قائم أشعث أغبر، بيده قارورة فيها دم"، فقلت: "بأبي أنتَ وأمي يا رسول الله، ما هذا؟" قال: "هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم".

وصول مبعوث ابن زياد إلى المدينة المنورة

أنفذ اللعين ابن زياد رسوله عبد الملك بن أبي الحارث السلمي إلى عمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة "مبشراً" بقتل الحسين عليه السلام.
 
فدخل على عمرو بن سعيد، فقال عمرو: "ما وراءك؟".

قال عبد الملك: "ما سرّ الأمير. قُتل الحسين بن علي".

فقال عمرو "لعنه الله": "هذه واعية بواعية عثمان بن عفان!".

فصعد عمرو بن سعيد إلى المنبر وخطب بالناس وأعلمهم ذلك، فعظمت واعية بني هاشم، وأقاموا سنن المصائب والماتم.

خطبة عمرو بن سعيد بن العاص‏

خرج عمرو بن سعيد إلى المنبر، فخطب بالناس، ثم ذكر حسيناً وما كان من أمره، وقال: "إنها لدمة بلدمة، وصدمة بصدمة، وموعظة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

81

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

  بعد موعظة "حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُر"1، والله لوددت أن رأسه في بدنه، وروحه في جسده أحيان كان يسبنا ونمدحه، ويقطعنا ونصله كعادتنا وعادته، ولم يكن من أمره ما كان، ولكن كيف نصنع بمن سلّ سيفه يريد قتلنا؟ إلا أن ندفع عن أنفسنا".

 
فقام إليه عبد الله بن السائب فقال: "أما لو كانت فاطمة حيّة فرأت رأس الحسين لبكت عليه"، فجبهه عمرو بن سعيد، وقال: "أحق بفاطمة منك! أبوها! وزوجها أخونا! وابنها ابننا! أما لو كانت فاطمة حيّة لبكت عينها، وحزن كبدها، ولكن ما لامت من قتله،ودفع عن نفسه".
 
إن المتأمل في هذه الخطبة والعارف بأجوائها لا يستغرب منها، إذ يعلم أنها ألقيت في ظل أجواء مضطربة بعد وصول الخبر إلى المدينة، ووصول الرأس الشريف إليها، ولذلك ترى هذا الحاقد الذي كان يبغض أمير المؤمنين علياً عليه السلام أشد البغض، يُظهر التراجع في كلامه ويظهر نفسه في موقف المدافع والمتأثر.
 
دور أم سلمة بعد نعي الإمام الحسين عليه السلام‏
 
 
بعد وصول خبر نعي الإمام الحسين عليه السلام، كان لأم سلمة مواقف صريحة وجريئة تجاه هذه الجريمة النكراء، فهي لما بلغها قتله، قالت: " فعلوا؟ ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً"، ثم وقعت مغشياً عليها.
 
ومع أن أم سلمة كانت تعيش في ظروف صعبة جداً، فقد وضحت أن القوم أجرموا بحق اخر من بقي من أصحاب الكساء، وهو الطاهر
 
 

1- سورة القمر، الاية: 5.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

82

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 ابن الطاهر الحسين بن علي عليه السلام، ولم تكتف هذه المرأة الجليلة بهذا الحد من إبراز الموقف، بل أعلنت الحداد ولبست السواد علناً وفي الملأ العام من الناس، وفي مسجد رسول الله.


موقف عبد الله بن جعفر بن أبي طالب‏

كان لعبد الله بن جعفر مواقف مشرفة بعد وقوع مأساة كربلاء، واستشهاد ولديه وهما عون وعبد الله في ركاب خالهما أبي عبد الله الحسين عليه السلام.

ومما يمكن أن يستند إليه في توجيه عدم حضوره في كربلاء ما جاء في زيارة الناحية المقدسة المنسوبة للإمام الحجة عج ، حيث قال في حق ولده: "السلام على محمد بن عبد الله بن جعفر الشاهد مكان أبيه"، فلعل عذراً لم نعلمه منعه من الحضور.

ولما بلغ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب مقتل ابنيه مع الحسين عليه السلام، دخل عليه بعض مواليه والناس يعزّونه، فقال له أبا اللسلاس: "هذا ما لقينا ودخل علينا من الحسين"، فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله، ثم قال: "يا ابن اللخناء، أللحسين تقول هذا؟ والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أقتل معه، والله إنه لما يسخي بنفسي عنهما ويهون عليّ المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين له صابرين معه".

ثم أقبل على جلسائه فقال: "الحمد لله عز وجل عليّ بمصرع الحسين إن لا يكن استه يدي فقد اساه ولداي".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

83

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 دور بنات عقيل‏


كان لبنات عقيل دور مهم في إثارة مشاعر الناس وإنقلابهم نفسياً بعد مقتل أبي عبد الله الحسين عليه السلام وأصحابه، فعندما أرسل يزيد بن معاوية مبعوثيه إلى المدينة ليخبرا بقتل الإمام الحسين عليه السلام سمعت بذلك أسماء بنت عقيل بن أبي طالب، فخرجت في جماعة من نسائها، حتى انتهت إلى قبر رسول الله صلى الله عليه واله فلاذت به، وشهقت عنده، ثم التفتت إلى المهاجرين والأنصار وهي تقول:

ماذا تقولون إن قال النبي لكم‏
                          يوم الحساب وصدق القول مسموع
خذلتم عترتي أو كنت غيباً
                         والحق عند ولي الأمر مجموع‏

فلم يُر باكياً ولا باكية أكثر من ذلك اليوم.

ثم خرجت زينب بنت عقيل في نساء من قومها حائرات، وهي تقول: "وا حسيناه، وا إخوتاه، وا أهلاه، وا محمداه"، ثم قالت:

ماذا تقولون إن قال النبي لكم‏
                              ماذا فعلتم وأنتم اخر الأمم‏

بأهل بيتي وأنصاري أما لكم‏
                             عهدٌ كريم أما توفون بالذمم‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

84

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 عودة بقية الركب الحسيني إلى المدينة المنورة


إنهم على مقربة من المدينة.. مدينة جدهم.. ومهاجر أبيهم.. ومأوى أمهم.. مسقط رؤوسهم، وموطن أحبتهم، ما أصعب الدخول إليها وهم على هذه الحالة. لقد خرجوا مع الإمام الحسين عليه السلام واليوم رجعوا بلا الحسين عليه السلام...

ومن الطبيعي أن تأخذ المسيرة منحىً عاطفياً أكثر من أي شي‏ء، فلقد عاش أهل المدينة مع الإمام الحسين عليه السلام وتعودوا عليه، ورأوا في وجوده وجود جده بعلمه وهيبته وخُلقه وشجاعته وغيرته وبكل مكارم الأخلاق، واليوم يسمعون بوصول أهل بيته قرب موطنه، أهل بيت خرجوا معه ورجعوا وحدهم، ولكنهم يحملون رسالته.

ومن هذا المنطلق، نرى أن المسيرة لم تكتف بالتزام الظاهر العاطفي فحسب، بل إنها عنيت بالجانب المبدئي والمنهجي أكثر، واستمرت على ذلك في أشكال مختلفة، سواء كان ذلك على شكل إقامة العزاء والمأتم، أو استمرار البكاء، أو إلقاء الخطب، أو بث الأدعية العالية المضامين أو غير ذلك. والغاية من كل ذلك هي تنوير الأفكار وإيقاظ المجتمع من السبات العميق الذي استولى على جميع أفراده، ما خلا من تمسك بالقران والعترة.

الإمام زين العابدين عليه السلام يوفد بشير بن حذلم‏

المتتبع لمسيرة الركب الطاهر من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام، يدرك أن الإمام عليه السلام كان هو المسيطر على الأوضاع،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

85

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 وكان يخرق الإعلام المشوّه ويقلب الأمر على الحكام، ويبيّن الحقائق المستورة، فكان نهجه وسلوكه نهج الفعل والتأثير، لا الانفعال والتأثر.


ومن هنا نفهم سر إيفاد الإمام زين العابدين عليه السلام لبشير بن حذلم الشاعر إلى المدينة، فلقد تمكن بصفته رسول الإمام عليه السلام، وبكونه شاعراً قوياً ومؤثراً عاطفياً،من التأثير في المجتمع حتى كاد أن يقلب الوضع في المدينة، بحيث تحرك أهل المدينة، بما فيها من الرجال والنساء والكبار والصغار، إلى خارجها لاستقبال ال بيت رسول الله صلى الله عليه واله،وقد استثمر الإمام عليه السلام هذه الفرصة.

قال بشير بن حذلم: فلما قربنا من المدينة، نزل الإمام علي بن الحسين عليه السلام، فحط رحاله وضرب فسطاطه، وأنزل نساءه، وقال: "يا بشير، رحم الله أباك، لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شي‏ء منه؟"، قلتُ: "بلى يا ابن رسول الله صلى الله عليه واله، إني لشاعر"، قال عليه السلام: "فادخل المدينة وانعَ أبا عبد الله عليه السلام".

قال بشير: فركبتُ فرسي وركضت حتى دخلتها، فلما بلغت مسجد النبي صلى الله عليه واله رفعتُ صوتي بالبكاء وأنشأتُ أقول:

يا أهلَ يثربَ لا مُقامَ لكم بها
                           قتل الحسين فأدمعي مدرارُ

الجسم منه بكربلاءَ مضرّجٌ‏
                          والرأس منه على القناة يُدارُ

هذا علي بن الحسين مع عماته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

 


86

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 بفنائكم، وأنا أعرّفكم مكانه.


فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلا برزن من خدورهن، مكشوفة شعورهن، مخشمة وجوههن، ضاربات خدودهن، يدعون بالويل والثبور، فلم يرَ باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه واله، وخرج أهل المدينة جميعهم لاستقبال بقية الركب الحسيني.

خطبة الإمام السجاد عليه السلام على مشارف مدينة جده‏

كان الإمام زين العابدين عليه السلام داخل الخيمة، فخرج ومعه خرقة يمسح بها دموعه، وخلفه خادم معه كرسي، فوضعه له، وجلس عليه، وهو لا يتمالك من العبرة، فارتفعت أصوات الناس بالبكاء وحنين الجواري والنساء، والناس من كل ناحية يعزونه، فضجت تلك البقعة ضجة شديدة، فأومأ بيده أن اسكتوا، فسكنت فورتهم، فقال عليه السلام: "الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارى الخلائق أجمعين، الذي بَعُدَ فارتفع في السماوات العلى، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور، وفجائع الدهور، وألم الفواجع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة.

أيها القوم، إن الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله وعترته، وسبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

87

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 الرزية التي لا مثلها رزية.


أيها الناس، فأي رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟ أم أية عين منكم تحبس دمعها وتضنّ عن أنهما لها؟

فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان في لجج البحار، والملائكة المقربون، وأهل السماوات أجمعون.

أيها الناس، أصبحنا مطرودين مشرّدين مذمومين شاسعين عن الأمصار، كأننا أولاد ترك أو كابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في ابائنا الأولين، إن هذا إلا اختلاق.

والله، لو أن النبي صلى الله عليه واله تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأكظّها وأفظعها وأمرّها وأفدحها، فعند الله نحتسب فيما أصابنا وأبلغ بنا، إنه عزيز ذو انتقام".

ثم قام الإمام زين العابدين عليه السلام ومشى إلى المدينة ليدخلها.

ملاحظات حول الخطبة


1 التركيز على حمد الله وثنائه المستمر وعلى كل حال وفي كل الظروف.

2 بيان ما وقع في عالم الكون، وأن العوالم بما فيها البحار
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

88

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 والسماوات والأرض والأشجار والحيتان والملائكة وأهل السماوات بكت على الحسين عليه السلام...


3 بيان عمق ما ارتكبوه من الفاجعة، بحيث لم يمكن أن يقع أبشع منها، وأنه لم يعهد في التاريخ، حتى لو أن النبي صلى الله عليه واله كان أوصاهم بذلك، فرضاً، لما زادوا على ما فعلوا بهم...

4 إيقاظ الناس وتوجيههم على ذلك بلزوم اتخاذ الموقف، في قوله عليه السلام: أي قلب لا ينصدع لقتله؟...

بقية الركب الحسيني في مدينة الرسول صلى الله عليه واله‏

لما دخل حرم الإمام الحسين عليه السلام المدينة عجّت نساء بني هاشم، وصاحت المدينة صيحةً واحدة، ودخل الإمام زين العابدين عليه السلام وجماعته دار الرسول صلى الله عليه واله، فراها مقفرة الطلول، خالية من سكانها،خالية بأحزانها.

أما السيدة زينب عليها السلام فأخذت بعضادتي باب المسجد، ونادت: "يا جداه، إني ناعية إليك أخي الحسين"، وهي مع ذلك لا تجف لها عبرة، ولا تفتر من البكاء والنحيب، وكلما نظرت إلى علي بن الحسين تجدّد حزنها وزاد وجعها.

ولبست نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكنّ لا يشتكين من حرّ ولا برد، وكان علي بن الحسين عليه السلام يعمل لهن الطعام للمأتم.
وعن الإمام جعفر بن محمد عليه السلام انه قال: "نيح على الحسين بن علي سنة كاملة كل يوم وليلة، وثلاث سنين من اليوم
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

89

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 الذي أصيب فيه..".


وهذا الخبر يدل على مدى حزن الهاشميين واهتمامهم بعزاء سيد الشهداء عليه السلام، بحيث حزنوا كأشد ما يكون الحزن واللوعة، واستمروا على ذلك، إبقاءً لذكر أبي عبد الله عليه السلام واستمراراً لنهجه.

مكافأة الحرس‏

لقد شكرت العلويات كل الذين قاموا برعايتهن من الشام حتى المدينة، وكان الرجل الحارس يسألهم عن حالهن ويتلطف بهن في جميع أمورهن، ولا يشق عليهن في مسيرهن إلى أن دخلن المدينة، فقالت فاطمة بنت علي لأختها السيدة زينب عليها السلام: "لقد أحسن هذا الرجل إلينا، فهل لك أن تصليه بشي‏ء"، فقالت عليها السلام: "والله ما معنا ما نصله به إلا ما كان من هذا الحلي". فقالت: "فافعلي".

فأخرجا له سوارين ودملجين وبعثا بهما إليه فردهما، وقال: "لو كان الذي صنعته رغبة في الدنيا لكان في هذا مقنع بزيادة كثيرة، ولكني والله ما فعلته إلا لله، ولقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه واله".

وأبى الإمام زين العابدين عليه السلام إلا مكافأته، فبعد رفضه للحلي، أخذ الإمام عليه السلام حجراً أسود أصم فطبعه بخاتمه، ثم قال: "خذه وسل كل حاجة لك منه فوالله الذي بعث محمداً بالحق، لقد كنتُ أسأله الضوء في البيت فينسرج في الظلماء، وأضعه على الأقفال فتفتح لي، واخذه بين يدي السلاطين فلا أرى إلا ما أحب".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

90

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 هدم بيوت تتعلق بأسرة الإمام الحسين عليه السلام‏


مما يكشف القناع عن سياسة القمع الأموي، ما ارتكبوه من هدم لبعض البيوت التي تتعلق بأسرة أبي عبد الله عليه السلام، وهذا تأييد اخر لما ذكرناه مراراً.
 
 
رثاء أم البنين زوجة أمير المؤمنين علي عليه السلام

أقامت أم البنين زوجة أمير المؤمنين عليه السلام العزاء على الإمام الحسين عليه السلام، واجتمع عندها نساء بني هاشم ليندبن الإمام عليه السلام وأهل بيته.

ويُستفاد قوة إيمانها، أن بشراً كلما نعى إليها بعد وروده المدينة أحداً من أولادها الأربعة قالت ما معناه أخبرني عن الإمام الحسين عليه السلام، فلما نعى إليها الأربعة قالت: "قد قطعت أنياط قلبي، أولادي ومن تحت الخضراء كلهم فداء لأبي عبد الله عليه السلام".

وكانت أم البنين تخرج إلى البقيع فتندب بنيها أشجى ندبة وأحرقها، وهي تحمل عبيدالله بن العباس عليه السلام، فيجتمع الناس إليها يسمعون منها، فكان مروان بن الحكم يجي‏ء فيمن يجي‏ء لذلك، فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي.

ومن أقولها:

لا تدعوني ويك أم البنين‏
                        تذكريني بليوث العرين‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

91

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 كانت بنون لي لا أدعى بهم‏

                           قد واصلوا الموت بقطع الوتين‏
 
حزن الرباب بنت امرى القيس وبكاؤها ورثاؤها
 
رافقت الرباب زوجة الإمام الحسين عليه السلام الركب إلى كربلاء، وهي أم سكينة وعبد الله الرضيع، وحُملت إلى الشام فيمن حملن من أهله عليه السلام، ثم عادت إلى المدينة، فخطبها الأشراف من قريش، فقالت: ما كنتُ لأتخذ حميّاً بعد رسول الله صلى الله عليه واله.
 
وبقيت بعد الإمام الحسين عليه السلام سنة لم يظلها سقف بيت حتى بليت وماتت كمداً.
 
استمرار بكاء الإمام زين العابدين عليه السلام وحزنه‏
 
عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه قال: "البكاؤون خمسة: ادم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه واله، وعلي بن الحسين عليه السلام، فأمّا ادم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية، وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره، وحتى قيل له "قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِين"1، وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن، فقالوا: إما أن تبكي بالنهار وتسكت بالليل، وإما أن تبكي بالليل وتسكت بالنهار،
 
 

1- سورة يوسف، الاية: 85.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

92

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 فصالحهم على واحد منهما، وأما فاطمة بنت محمد صلى الله عليه واله فبكت على رسول الله صلى الله عليه واله حتى تأذى بها أهل المدينة، وقالوا لها: قد اذيتنا بكثرة بكائك، فكانت تخرج إلى مقابر الشهداء، فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف، وأما علي بن الحسين عليه السلام فبكى على الحسين عليه السلام عشرين سنة أو أربعين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلا بكى، حتى قال له مولى له : جعلت فداك يا ابن رسول الله، إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إني أذكر مصرع بني فاطمة إلا وخنقتني العبرة".


وقال أبو حمزة الثمالي: سُئل الإمام زين العابدين عليه السلام عن كثرة بكائه، فقال عليه السلام: "إن يعقوب فقد سبطاً من أولاده فبكى عليه حتى ابيضّت عيناه وابنه حيّ في الدنيا ولم يعلم أنه مات، وقد نظرت إلى أبي وسبعة عشر من أهل بيتي قتلوا في ساعة واحدة، فترون حزنهم يذهب من قلبي..".

أم سلمة ترد الأمانات إلى أهلها

لمّا سار الإمام الحسين عليه السلام إلى العراق، استودع أم سلمة الكتب والوصية، ثم أحضر ولده الإمام زين العابدين عليه السلام وكان عليلاً، فأوصى إليه بالاسم الأعظم ومواريث الأنبياء وعرّفه أنه قد دفع العلوم والصحف والسلاح إلى السيدة أم سلمة وأمرها أن تدفع جميع ذلك إليه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

93

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 وهذا أيضاً مما يدل على مدى جلالة السيدة أم سلمة وعظمتها، بحيث إنها كانت مؤتمنة عند الرسول صلى الله عليه واله واله عليه السلام حتى اخر أيام حياتها، والأشياء التي حفظتها هي الأشياء التي لا بد من أن تكون عند حجة الله في الأرض في كل زمان.


وعندما رجع الإمام زين العابدين عليه السلام الى المدينة دفعت الأمانة إليه.

دور الإمام زين العابدين عليه السلام في استمرار الرسالة

إن الإمام عليه السلام قد أدى في دوره أحسن ما يمكن بالنسبة إلى استمرار الرسالة الحسينية، وتثبيت دعائهما وثمرتها وتربية النفوس عليها، وذلك بعدة أمور:

1- تثبيت أمر الإمامة: إن السلطة الغاشمة أرادت أن ترى انخماد كل شي‏ء بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام، ولكن الإمام زين العابدين عليه السلام بدوره أثبت أن الإمامة أمر خارج عن نطاق إرادة البشر، وأنها أمر الهي يلازمها لطف رباني وعناية ربانية مخصوصة.

2- تربية الناس: لقد قام الإمام بتربية الناس عبر كلماته ومواعظه، التي ربما كانت تلقى في يوم الجمعة وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه واله، ومعلوم أن حضور الناس في يوم الجمعة يختلف عمّا سواه.

3- بث المعارف الالهية: لما كان الإمام عليه السلام يعيش في ظروف سياسية شاقة جداً، فمن الطبيعي أنه ما كان يسعه أن يحضر الساحة بالنحو المطلوب، ولذلك نرى أنه قدّم ثروة علمية عظيمة في قالب الدعاء، وهو يعالج أموراً عديدة في جوانب مختلفة كالمجال التربوي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

94

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 والعرفاني والاجتماعي والسياسي...


4- الإمام عليه السلام ومسألة أخذ الثأر من قتلة الإمام الحسين عليه السلام: هناك العديد من القرائن والشواهد على قيادة الإمام عليه السلام مسألة أخذ ثأر قتلة الإمام الحسين عليه السلام، وقال القاضي نعمان: كان علي بن الحسين عليه السلام يدعو في كل يوم وليلة أن يريه الله قاتل أبيه مقتولاً، فلما قتل المختار قتلة الحسين عليه السلام بعث برأس عبيد الله بن زياد ورأس عمرو بن سعد مع رسول من قبله إلى علي بن الحسين عليه السلام، فلما رأى علي بن الحسين رأس عبيد الله خرّ ساجداً وقال: "الحمد للّه الذي أجاب دعائي وبلغني ثأري من قتلة أبي، ودعا للمختار وجزاه خيراً".

ردود فعل السلطة على دور الإمام زين العابدين‏

1- إيذاؤهم له وشتمه على المنبر: ولّي هشام بن إسماعيل المخزومي على المدينة، وكان يؤذي الإمام زين العابدين عليه السلام ويشتم الإمام علياً عليه السلام على المنبر وينال منه. وقد دأب سائر الولاة على المدينة بصب الأذى والمكروه على الإمام زين العابدين عليه السلام.

2- قصد قتل الإمام عليه السلام أو سمّه: روى الطبري: لما كانت وقعة الحرة وأغار الجيش على المدينة وأباحها ثلاثة أيام، وجه بردعة الحمار صاحب يزيد بن معاوية في طلب علي بن الحسين عليه السلام ليقتله أو يسمّه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

95

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 دور السيدة زينب عليها السلام في استمرار الرسالة


لم تترك السيدة زينب الكبرى الرسالة الحسينية إلى اخر حياتها في مواطن عديدة، ومن تلك المواطن المدينة المنورة، فقد أخذت بدورها العظيم تجاه هذه المأساة، فكانت تحرض الناس على أخذ ثأر الإمام الحسين عليه السلام، وخلع يزيد بن معاوية، وخطبت بالناس في ذلك، وأثرت بحيث لم تتمكن السلطة من أن تتحمّل وجودها في المدينة، فبلغ بذلك عمر بن سعد، فكتب إلى يزيد يعلمه بالخبر، فكتب إليه أن فرّق بينها وبينهم، فأمر أن ينادي عليها بالخروج من المدينة والإقامة حيث تشاء، فقالت: "قد علم الله ما صار إلينا، قُتل خيرنا، وانسقنا كما تساق الأنعام، وحملنا على الأقتاب، فوالله لا خرجنا وإن أُهرقت دماؤنا".

فقالت لها زينب بنت عقيل: "يا بنت عماه، قد صدقنا الله وعده، وأورثنا الأرض نتبوأ منها حيث نشاء، فطيبي نفساً، وقري عيناً، وسيجزي الله الظالمين، أتريدين بعد هذا هواناً، ارحلي إلى بلدٍ امن..".

ثم اجتمع عليها نساء بني هاشم وتلطفن معها في الكلام، وواسينها...

ويدل هذا على مدى تأثير السيدة زينب عليها السلام في المجتمع بحيث أحست الزمرة الفاسدة بالخطر وقامت بنفيها عن المدينة.

ولما خرجت السيدة زينب عليها السلام من مدينة جدها، خرج معها نساء بني هاشم، وفاطمة ابنة عمها، وأختها سكينة..
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

96

الفصل الرابع: مدينة الرسول صلى الله عليه واله في لقاء العائدين

 وهكذا كانت حركة المسيرة المظفرة، وهذا هو تاريخ الركب الحسيني الطاهر، ولم تقم لبني حرب بعدهم قائمة حتى سلبهم الله ملكهم وقطع دابرهم وأورثهم اللعنة والخزي والعار إلى اخر الأبد، وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف: "جنّبني دماء أهل البيت، فإني رأيتُ بني حرب سلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين" .

 

 

 

 

 

 

103


97
رحلة السبي