المقدمة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله الطيبين الطاهرين، وبعد.
كتب الإمام الخميني قدس سره في الأخلاق وفي تهذيب النّفس، فأفاض على طلّاب المعارف الحقّة وأصحاب الطّريقة الوسطى ما أنار به دروب سيرهم. وتوغّل قدس سره في أعماق النّفس البشريّة، فاستخرج منها ما يخلب الألباب. وارتقى قدس سره في مراتب المعنويّات، فصار قدوة السّالكين ومنار العارفين.
هكذا أضحى الإمام قدس سره في هذا الزّمان رمزًا عظيمًا للرّوحانيّة الأصيلة التي تمتزج بالجهاد والوعي وبُعد النّظر، وصار مدرسةً تأخذ بأيدي الباحثين من بداية المسير وإلى قمم المجد والعظمة.
المهتمّون ببرامج السّير والسّلوك، والعاملون على مناهج الأخلاق والتّهذيب، والمشتغلون بتربية النّفوس وتهذيبها، كلّ هؤلاء وجدوا ضالّتهم في هذه المدرسة الشّامخة التي اتّسعت لتلقي بظلالها الوارفة على جميع قضايا النّفس والرّوح، وتجيب عن جميع أسئلة الباحثين.
هذا ما يتعرّف إليه كل من يطالع كتابات الإمام ويكتشفه كل ذي دراية واهتمام، ولكن ماذا عن الذين لا عهد لهم بالمطالعة؟ أو أولئك الذين تحجزهم مصاعب المصطلح والمتابعة؟ هل يجوز أن يبقوا عن هذه المعارف السّامية بعيدين؟! ومن فيض روح الله محرومين؟!
- ألا يمكن أن تُقدَّم لهم بأسهل الطّرق وأيسر السّبل؟
- وهل يوجد مثل المنهاج التّعليميّ من وسيلة تحلّ المعضلات وتزيل المشكلات؟!
17
1
المقدمة
لأجل هذا وغيره، بادر مركز نون للتأليف والترجمة إلى نقل نصوص الإمام الرّائعة من مصادرها الأصيلة ووضعها في قوالب جديدة، تسهّل على طلّابنا الأعزّاء عمليّة التعرّف إلى المدرسة الأخلاقيّة السّلوكيّة الفريدة للإمام الخمينيّ قدس سره، وهذه القوالب هي التي تعتمد المنهجيّة التّحليلية المنطقيّة التي يقوم بها الذّهن السّليم عند تعامله مع قضايا النّفس وتهذيبها.
إنّ أي مهتمّ بتهذيب نفسه وتزكيتها لا بدّ له أن يتعرّف على أمراضها أوّلًا ليتخلّص منها، ومن ثمّ أحوالها الكاملة وفضائلها ليتحلّى بها ثانيًا، ولهذا، قمنا بوضع هذه الأبحاث الأخلاقيّة في قسمين. الأوّل ما ذكره الإمام في جميع كتاباته وكلماته حول أمراض القلب ورذائل الأخلاق وحالاتها السّلبيّة وجاء تحت عنوان "مساويء الخلق". وثانياً كلماته حول الفضائل الاخلاقية والكمالات النفسية وجاء تحت عنوان "محاسن الخلق". وبالرّغم من الغنى الملحوظ في هذا المجال، تبقى بعض الرّذائل والأمراض ممّا لم يتعرّض له الإمامقدس سره، أو اكتفى بالإشارة إليه في طيّات الأبحاث الأخرى.
ولا شكّ بأنّ السّير العلميّ في كلّ مرض يقتضي التعرّف إليه جيّدًا وقبل أيّ شيء، والسّعي لتحديده بصورة علميّة دقيقة ليعين الذّهن على التّعامل معه علميًّا وتحقيقًا، فتّتسع الفائدة وتعظم.
وإنّ من أهم طرق التعرّف إلى الأمراض معرفة عوارضها ممّا يظهر في النّفس وسلوكيّاتها وأحوالها، فيتمكّن المهتمّ بتهذيب نفسه من اكتشافها. وخصوصًا إنّ من طبيعة الأزمات الأخلاقيّة أن تخفي نفسها وتتستّر تحت أوهام الأنانيّة وحبّ النّفس.
وهذا ما يقودنا إلى دراسة آثار كلّ مرض ونتائجه على مستوى الفرد أو المجتمع، في الحياة والعمل دنيا وآخرة، ليكون أبلغ في التّوجّه إلى ضرورة القضاء عليه والتخلّص منه أو معالجته.
فيبدأ الحديث عن العلاج بذكر الأسباب والعوامل التي أدّت إلى تشكّل هذه الرّذيلة أو تلك، لأنّ أصل العلاج في الرّجوع إلى السّبب والمنشأ وسدّ بابه أو القضاء عليه. وفي كلّ علاج نجد أهميّة المعرفة والاعتقاد وندرك أنّ البداية ينبغي أن تكون في العلم النّافع، لأنّ الانتقال إلى العمل لا يمكن أن يتحقّق دون ركيزة علميّة متينة.
18
2
المقدمة
وقد اعتمدنا نفس السّير التّحليليّ في الفضائل مع فارق يرتبط بالتّعامل معها مقارنةً بالرّذائل.
ويمّيز هذا الكتاب العديد من الخصائص، منها:
- سعينا في هذا الكتاب إلى تحقيق الغرض الأساسيّ من تدوين الكتب الأخلاقيّة، وهو أن تكون فرصة مهمّة للتّأثير في النّفوس لا مجرّد وصفة طبّيّة دقيقة. ولهذا، كان علينا أن نحافظ على النّصّ الأصليّ للإمام الخميني قدس سره، دون أي تدخّل.
- توثيق نصوص الإمام بعد مزجها في موضوع كل درس، ليتسنى للأستاذ والباحث المراجعة في المصدر عند الحاجة.
- وقد قمنا باستقصاء كل ما ذكره الإمام أو كتبه فيما يرتبط بكلّ رذيلة أو فضيلة، لكنّنا لم نتمكّن من إدراجها كلّها وإلّا لاحتاج الأمر إلى كتاب أكبر حجمًا بعدّة مرّات ما يؤثّر سلباً على تدريسه واعتماده في المناهج التّعليميّة.
- قمنا بانتقاء أهمّ ما يرتبط بالمسألة المطروحة تاركين الفرصة لكلّ من يرغب في السّباحة في بحر معارف الإمام وتعاليمه.
- أدرجنا نهاية كل درس المفاهيم الرئيسة لما طرحه الإمام في الموضوع المطروح، وهي عبارة عن خلاصة وزبدة أفكار الإمام.
- أدرجنا نهاية كل درس مجموعة من الآيات الشريفة، والأحاديث في نفس موضوع الدرس، لإغناء المادة إضافة إلى ما ذكره الإمام قدس سره من آيات وروايات.
إنّ مركز نون، وإذ يقدّم لأساتذتنا الكرام وطلّابنا الأعزّاء مثل هذا المتن التّعليميّ على أمل أن يساهم بقوّة في تفعيل تناول الموضوعات الأخلاقيّة، يرحّب بكلّ ملاحظة أو انتقاد يتقدّم بهذا العمل نحو المزيد من الدّقّة العلميّة والرّوح التّعليميّة.
والحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة
19
3
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى الإيمان وعلاقته بباقي الكمالات.
2- يبيّن الفرق بين الإيمان والعلم ويميّز بينهما.
3- يشرح أهميّة معرفة درجات الإيمان في توجيه سير وسلوك الإنسان.
21
4
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
تمهيد
ليس الإيمان أحد الكمالات، بل هو أصل ومنبع جميع الكمالات. وذلك لأنّ كل كمال إنّما ينبع بحسب الرؤية التّوحيديّة من مصدرٍ واحدٍ وهو الله تعالى. ولا يمكن أن يتّصف مخلوق بأيّة صفة وجوديّة إلّا بالله عزّ وجلّ. وحيث أنّ الإيمان عبارة عن التّوجّه إلى الله والارتباط الواعي به والاتّصال بساحة قدسه، فإنّ المؤمن يكون كمن توجّه إلى نبع الماء واتّصل به. وبمقدار ما يكون الإيمان حاضرًا في حياة الإنسان وفاعلًا، فإنّ الارتواء سوف يزداد ويزداد معه مستوى الكمال.
كلّ هذا، كما سيتبيّن لنا، ينعكس على حياة الإنسان وعلى شخصيّته ومصيره وسيره وسلوكه بحيث يجعله شخصًا مختلفًا تمامًا عن الذي لا يحمل في قلبه مثل هذا الإيمان. بل إنّنا نجد التّمايز الكبير بين المؤمنين بحسب درجات الإيمان في قلوبهم.
فما هو سرّ هذا الأمر؟ وكيف نفهم الإيمان وسط كل هذا الضّجيج الذي يُثار حوله؟ وكيف نميّز الإيمان الحقيقي عن الإيمان المزّيف أو التّقليديّ؟
ما هو الإيمان؟
يقول الإمام قدس سره: "معلوم أنّ الإِيمان نورٌ إلهيّ يجعل القلب موضع تجليات الحقّ جلّ جلاله، كما جاء في الأحاديث القدسيّة: "لا يَسَعُنِي أَرْضي ولا سَمائي بل يَسَعُني قَلْبُ عبدِي الْمؤمِنِ"1.
1 روح الله الموسويّ الخمينيّ، الأربعون حديثًا، ترجمة محمد الغروي، دار التّعارف للمطبوعات، الطبعة الخامسة،1996م، ص 134.
23
5
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
لا يخلو إنسان من إيمان بشيءٍ ما، فعندما تترسّخ فكرة أو قضيّة ما في نفس الإنسان ويتولّد من هذه الحالة نوع من الالتزام العمليّ فإنّ هذا يُسمّى إيمانًا. ولهذا، نجد من يؤمن بقضيّة أو وطن أو مشروع أو أطروحة يعمل لها بتفانٍ وجدّ. إلّا أنّ الإيمان المطروح هنا، والذي ذُكر في معظم الآيات والأحاديث الشّريفة هو الإيمان بالله تعالى.
ولأنّ الله عزّ وجلّ يختلف تصوّره بين النّاس تبعًا للتّعليم والبيئة والتّلقين والتّجربة الشّخصيّة، يختلف الإيمان به بحسب اختلاف التصوّر. بل إنّ بعض المنكرين لله تعالى والذين يصرّحون بهذا الإنكار قد يكون إنكارهم لهذا الإله الذي يتصوّره البعض.
يهتمّ الإمام الخمينيّ قدس سره كثيرًا بتعريف الإيمان لأجل تمييزه عن بعض الحالات النّفسيّة التي يسمّيها النّاس إيمانًا لكي لا ينخدع الباحث عن الحقيقة، فيُحرم من التوّجّه إلى المعنى الواقعيّ ويحرم نفسه بالتّالي من تحصيل أعظم الكمالات.
فالذين يتصوّرون الله كإله يتصرّف في العالم كمستبد غير محيط بالأشياء لا يمكن أن يذوقوا حلاوة الإيمان ولا يمكن لعلاقتهم بربّهم أن تتكامل وتأخذ بأيديهم إلى الكمالات.
والذين لا يعرفون علاقة الإيمان بالإدراك والمعرفة، ربّما يخيّل إليهم أنّ الإيمان قد يسمو ويزداد بعيدًا عن العلم. وعندئذٍ، فإنّ طريقهم سينسدّ ولن يصلوا إلى نتيجة.
أمّا الذين حصروا الإيمان بالعلم والعقل، ولم يعرفوا معنى حضور الله في القلب، فقد سلكوا طريقًا لزيادة الإيمان من خلال العلم فقط، فأدّى ذلك إلى وصولهم إلى ما يعارض الإيمان!
ولنستمع إلى مجموعة من كلمات الإمام حول ماهيّة الإيمان وحقيقته.
الإيمان غير الإسلام
يقول الإمام قدس سره: "القلب وهو مقرّ نور الإيمان"1. وعَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ أَهُمَا مُخْتَلِفَانِ فَقَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ يُشَارِكُ الْإِسْلَامَ وَالْإِسْلَامَ لَا يُشَارِكُ الْإِيمَانَ. فَقُلْتُ فَصِفْهُمَا لِي. فَقَالَ: الْإِسْلَامُ
1 روح الله الموسويّ الخمينيّ، جنود العقل والجهل، دار المحجة البيضاء، الطّبعة الأولى، 2003 م، ترجمة مؤسّسة أم القرى، ص 191.
24
6
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَالتَّصْدِيقُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِهِ حُقِنَتِ الدِّمَاءُ وَعَلَيْهِ جَرَتِ الْمَنَاكِحُ وَالْمَوَارِيثُ وَعَلَى ظَاهِرِهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ وَالْإِيمَانُ الْهُدَى وَمَا يَثْبُتُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ صِفَةِ الْإِسْلَامِ وَمَا ظَهَرَ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ وَالْإِيمَانُ أَرْفَعُ مِنَ الْإِسْلَامِ بِدَرَجَةٍ إِنَّ الْإِيمَانَ يُشَارِكُ الْإِسْلَامَ فِي الظَّاهِرِ وَالْإِسْلَامَ لَا يُشَارِكُ الْإِيمَانَ فِي الْبَاطِنِ وَإِنِ اجْتَمَعَا فِي الْقَوْلِ وَالصِّفَةِ"1. يتّضح من هذا الحديث الشّريف أنّ الإسلام هو الشّهادة بالتوحيد، والتّصديق بالرّسالة الإسلاميّة، في حين أنّ الإيمان هو تجلّي نور الهداية في القلب. أي إذا استقرّت صفة الإسلام في القلب فهو الإيمان الذي يلازمه العمل. فالكثير من الأحاديث الشّريفة تصرّح بأنّ العمل بالأركان من الإيمان، وهذا ليس لأنّ للعمل بالأركان مدخليّة في حقيقة الإيمان، بل المقصود هو أنّ لازمة الإيمان العمل بالأركان"2.
الإيمان مغاير للعلم
"الإيمان غير العلم والفهم، إذ هما حظّ العقل وهو حظّ القلب، ولا يمكن وصف الإنسان بأنّه مؤمن بمجرّد حصوله على العلم بالله وملائكته وأنبيائه ويوم القيامة، فقد وصف الله تبارك وتعالى إبليس بأنّه كافرٌ رغم أنّه كان على إحاطة علميّة وإدراكيّة بهذه الأمور. وربّما كان الفيلسوف عالمًا بالبراهين الفلسفيّة قادرًا على إقامتها فيما يرتبط بإثبات التّوحيد وشعبه ومراتبه، ورغم ذلك فهو نفسه غير مؤمن بالله لأنّ علمه لم ينتقل من مرتبة العقل والكليّة والتّعقّل إلى مرتبة القلب والجزئيّة والوجدان. ولتقريب هذه الحقيقة، أضرب المثال التالي: نحن جميعًا نعرف بالبرهان والإدراك العقليّ أنّ الأموات عاجزون عن إلحاق الأذى بالإنسان، وأنّ جميع أموات العالم عاجزون عن التحرّك قيد أنملة. كما أنّنا جميعًا نعلم أنّ الحياة لا ترجع إليهم في ظلمة الليل، رغم ذلك نخاف من الموتى في ظلمة الليل فتغلب أوهامنا عقولنا، والسرّ في ذلك أنّ القلب لم يؤمن بهذه الحقيقة العقليّة، وأنّ الإدراك العقليّ لم يدخل إلى القلب، والذي يوصله إلى القلب هو تكرار البقاء عند الموتى في الليل وكثرة زيارة المقابر في الليالي المظلمة، عندها يزول الخوف من الأموات، بل ومن يفعل ذلك
1 الكافي، ج2، ص 25.
2 جنود العقل والجهل، ص 100.
25
7
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
يتّخذ منزلًا في مقابر الموتى ويأنس بواديهم المظلم. فهو يشارك الأوّل ـ الذي لم يوصل العلم إلى القلب ـ في العلم بعجز الموتى عن إلحاق الأذى بأحد، ولكنّه يختلف عنه في الإيمان القلبيّ به، ولذلك لم يؤثّر العلم على الأوّل في حين أنّ إيمان الثّاني أخرجه من أسر الخوف الخياليّ الوهميّ.
يتّضح إذًا، أنّ الإيمان غير العلم، وهذا ما يصدّقه أيضًا المعنى اللغويّ، لأنّ الإيمان في اللغة جاء بمعنى الوثوق والتّصديق والاطمئنان والانقياد والخضوع وقد تُرجم إلى الفارسيّة بمعنى "كرويدن" (الانقياد) وهذا كما هو واضح غير العلم والفهم والإدراك"1. وذكر قدس سره أن الإيمان ليس هو مجرّد العلم فقال قدس سره: و"إنّ الإيمان من الأعمال القلبية، وليس هو مجرد علم"2. أما المؤمن الحقيقي عند الإمام قدس سره فيقول عنه: "إنّ المؤمن هو الذي أدرك بقلبه حضور الحقّ تعالى، والإحاطة القيّوميّة لذاته المقدّسة بكلّ شيء، وأحسّ وجدانيًّا بعظمته وجلاله جلّت عظمته"3.
التّسليم صفة الإيمان
للإيمان آثار كثيرة، سيأتي الحديث عنها، لكن الصّفة الأساسيّة التي تلازمه وتمتزج معه هي صفة التّسليم، لأنّ الحقيقة إذا رسخت في القلب حملته طوعًا على التّسليم لكلّ ما ينسجم معها.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ التّسليم من الخصال الحميدة للمؤمنين، يتوسّلون به لطيّ المنازل المعنويّة والحصول على المعارف الإلهيّة. فالذي يتجلّى بالتّسليم للحقّ تعالى ولأوليائه، ولا يناقش لهم أمرًا، يطوي سيره الملكوتيّ بأقدامهم، ولذلك فهو يصل بسرعة إلى مقصده. من هنا قال بعض العرفاء: إنّ المؤمنين أقرب للمقصد والمقصود من الحكماء، لأنهم يضعون ويحرّكون أقدامهم تبعًا لخطى الأنبياء، في حين أنّ الحكماء يسعون للسّير على وفق فكرهم وعقولهم"4.
1 جنود العقل والجهل، ص 93.
2 الأربعون حديثًا، ص 57.
3 جنود العقل والجهل، ص 97.
4 م.ن، ص 358.
26
8
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
و"إنّ ذلك الإنسان الذي تظهر في قلبه تجلّيات نور الإيمان والمعرفة، ويطوّق رقبته الحبل المتين والعروة الوثقى للإِيمان، ويكون رهن الحقيقة والمعرفة، هو ذلك الإنسان الذي يلتزم بالقواعد الدّينيّة وتكون ذمّته مرهونة لدى القوانين العقليّة، ويتحرّك بأمرٍ من العقل والشّرع، دون أن يهزّ موقفه أيّ من عاداته وأخلاقه وما يأنس به من مألوفاته. فلا تحيد به عن الطريق المستقيم"1.
"إن الإِنسان الذي يدعي الإِسلام والإيمان هو ذلك الذي يستسلم للحقائق ويخضع لها ويرى أهدافه، مهما عظمت، فانية في أهداف وليّ نعمته، ويضحّي بنفسه وبإرادته في سبيل إرادة مولاه الحقيقيّ. ومن الواضح أنّ مثل هذا الشّخص لا يعرف العصبيّة الجاهلية، وإنّه بريءٌ منها"2.
الإيمان درجات
يقول الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾3.
اشتُهر بين النّاس أنّ الإيمان درجات، لكنّ أكثر النّاس لا يعلمون عن درجاته شيئًا، ويتصوّرون أنّ كثرة العبادة هي شدّة الإيمان. ولا شكّ أنّ الإكثار من العبادة هو من تجلّيات زيادة الإيمان، لكنّه قد يوجد في نفوس المنافقين والكفّار. وإبليس هو أبلغ مثال على الكافر الذي يكثر العبادة. فقد عُرف بين الملائكة بكثرة عبادته والله تعالى وصفه بأنّه كان من الكافرين. ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾4. وينبغي أن نعلم أنّ درجات الإيمان إنّما هي لأجل أن يعرف السّالك كيفيّة توجيه مسيرته الإيمانيّة، حيث سيتبيّن لنا أنّ التوّقف عند أيّة درجة من درجات الإيمان أو الكمال هي بمنزلة الوقوع في فخّ إبليس، وهي من أمّ أسباب الهلكة بعينها. ومن أهم درجات كمال الإيمان الحقيقي:
1 الأربعون حديثًا، ص 175.
2 م.ن، ص 175.
3 سورة المجادلة، الآية 11.
4 سورة البقرة، الآية 34.
27
9
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
1- الطّمأنينة
وفي الفصل الذي عقده الإمام للحديث عن مقامات السّالكين، وبعد ذكر الدّرجة الأولى وهي العلم، يذكر الإمام أنّ الإيمان ينتهي إلى الطّمأنينة. قال قدس سره: "مقام الاطمئنان وطمأنينة النّفس، وهو في الحقيقة المرتبة الكاملة من الإيمان. قال تعالى مخاطبًا خليله ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ ولعلّنا نشير إلى تلك المرتبة أيضاً فيما بعد"1.
ويقول قدس سره أيضاً: "كمال الإيمان هو الاطمئنان. فإذا قوي نور الإيمان تبعه حصول الاطمئنان في القلب، وجميع هذه الأمور هي غير العلم. فمن الممكن أن يدرك العقل بالدليل شيئا لكن القلب لم يسلم بعد، فيكون العلم بلا فائدة. مثلاً أنتم أدركتم بعقولكم أن الميت لا يستطيع أن يضرّ أحداً، وأن جميع الأموات في العالم ليس لهم حس ولا حركة بقدر ذبابة، وأن جميع القوى الجسمانية والنفسانية قد فارقته ولكن حيث أن القلب لم يتقبل هذا الأمر ولم يسلم أمره للعقل، فإنكم لا تقدرون على مبيت ليلة مظلمة واحدة مع ميت!!
وأما إذا سلّم القلب أمره للعقل، وتقبل هذا الحكم منه، فلن يكون في هذا العمل ـ أي المبيت مع الميت ـ أي إِشكال بالنسبة إليكم، كما أنه وبعد عدة مرات من الإقدام، يصبح القلب مسلّماً، فلن يبقى عنده بعدها بأس أو خوف من الميت"2.
2- الشهود
وتكون الطّمأنينة هي الدّرجة العليا من الإيمان التي تؤسّس لمقام الشّهود وهو أعلى ما يمكن أن يصل إليه السّالك على مستوى معرفة ربّه سبحانه. ومثل هذا المقام الأسنى لا ينتهي إلى مقام، بل هو سير في عالم الإطلاق إلى ما لا يتناهى، فـ "مقام المشاهدة. وهو نور إلهيّ وتجلٍّ رحمانيّ يظهر في سرّ السّالك تبعًا للتجلّيات الأسمائيّة والصّفاتيّة، وينوّر جميع قلبه بنورٍ شهوديّ ولهذا المقام درجات كثيرة لا تتّسع هذه الأوراق لذكرها. وفي هذا المقام يبرز أُنموذج من قرب النّوافل المعبّر عنه بـ "كنت سمعه وبصره". ويرى السّالك نفسه مستغرقًا في البحر اللامتناهي ومن ورائه بحرٌ عميق في غاية العمق تنكشف له فيه نبذة من أسرار القدر"3.
1 معراج السالكين، ص 26.
2 الأربعون حديثًا، ص 58-59.
3 معراج السالكين، ص 26-27.
28
10
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
و"أصحاب القلوب وأهل الله ينتقلون من حدّ الإيمان إلى منزل الكشف والشهود. وهو يحصل بالمجاهدة الشّديدة والخلوة مع الله والعشق بالله"1.
الحذر من الرضا بالمراتب الدنيا
يقول الإمام الخمينيقدس سره محذرا من الرضا والاكتفاء بالمراتب الدنيا للإيمان وعدم النظر والسعي نحو المراتب الأعلى والأكمل: "وبالجملة، التخلّص بهذه المرتبة الكاملة، وإن كان لا يتحقّق لغير الكمّل من الأولياء والأصفياء عليهم السلام بل المقام الكامل لهذه المرتبة من مختصّات النّبيّ الخاتم والقلب الخالص النّورانيّ الأحديّ الأحمديّ الجمعيّ المحمّديّ صلى الله عليه وآله وسلم بالأصالة وللكمّل والخلّص من أهل بيته بالتبعيّة. ولكن لا يجوز للمؤمنين والمخلصين أيضًا أن يغضّوا النّظر عن جميع مراتبه ويقنعوا بالإخلاص الصّوريّ العمليّ والخلوص الظّاهريّ الفقهيّ، لأنّ الوقوف في المنازل من الأعمال العبقريّة لإبليس، الذي قعد على صراط الإنسان والإنسانيّة، لمنعه بأيّة وسيلة ممكنة من العروج إلى الكمالات والوصول إلى المدارج. فلا بدّ من علوّ الهمّة وتقوية الإرادة، فلعلّ هذا النّور الإلهيّ واللطيفة الربّانيّة تسري من الصّورة إلى الباطن ومن الملك إلى الملكوت"2.
موعظة
"نحن جميعاً نعلم أنّ لا أحد يستطيع التصرّف بشيء في مملكة الحقّ تعالى من غير الإذن القيّوميّ والإشارة الإشراقيّة لذاته المقدّسة جلّ وعلا، ولا يمكن أن تغلب إرادة أيّ مخلوق إرادته القويمة عز وجلّ ولكنّا مع ذلك نطلب الحاجات من أهل الدّنيا وأصحاب الثّروة ونغفل عنه تعالى!
وتوكّلنا على الطّبيعة وأوضاعها وأمورها يزيد بمآت الأمثال على توكّلنا عليه تبارك وتعالى، والسرّ في ذلك هو، ولا غيره، أنّ حقيقة التّوحيد الأفعاليّ لم تدخل قلوبنا.
1 (م.ن)، ص 106.
2 (م.ن)، ص 632-633.
29
11
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
الحكيم الفلسفي يقول: "لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله" لكنّه يطلب حاجته من غيره تعالى! والمتعبّد المتنسّك يجعل ورده ذكر "لا حول لولا قوّة إلاّ بالله" و "لا إله إلا الله"، ورغم ذلك فإنّه يمدّ عينه إلى أيدي الآخرين، ولا علّة لذلك سوى أنّ برهان ذاك لم يخرج من دائرة العقل والإدراك العقليّ ولم يدخل القلب، وذكر هذا لم يتجاوز لقلقة اللسان ولم يتذوّقه القلب.
نحن جميعاً نلهج بالحديث عن التّوحيد ونخاطب الله تعالى بأنه "مقلّب القلوب والأبصار" وأنّ "الخير كلّه بيده" وأنّ "الشرّ ليس إليه" ولكّننا رغم ذلك نواصل السّعي لاستقطاب قلوب عباد الله ونتمنّى دائمًا الحصول على الخيرات من أيدي غيرنا وشرّ كلّ ذلك ليس سوى أنّنا نتعامل بهذه الحقائق العقليّة التي لم تدخل القلب، أو نردّدها لقلقة باللسان دون أن نوصلها إلى مرتبة الذّكر الحقيقيّ.
نحن جميعًا نعلم أنّ القرآن الشّريف، تنزّل من معدن الوحي الإلهيّ بهدف تكميل الإنسان وتخليصه من سجن الطّبيعة والدّنيا المظلم، وأنّ وعده ووعيده هما جميعًا حقٌّ صريح وحقيقة ثابتة، وليس فيه أيّة شائبة من الباطن وما يخالف الواقع، ولكن رغم ذلك، فإنّ تأثير هذا الكتاب الإلهيّ العظيم في قلوبنا القاسية لا يبلغ تأثير كتاب قصّة فيها فلا تتعلّق قلوبنا شوقًا بمواعيده الصّادقة لنخرج بذلك من التعلّق بهذه الدّنيا الدنيّة والنّشأة الفانية، ونتطلّع إلى تلك الدّار الخالدة، ولا يصل فيها خوف وخشية من الوعيد والإنذار القرآني، فنرتدع عن الذنوب، ونتورّع عن معصية وليّ نعمتنا. ولا علّة لكلّ ذلك سوى أنّ حقيقة وحقّانيّة القرآن لم تدخل قلوبنا، ولم تنعقد عليها أفئدتنا. والإدراك العقليّ المجرّد قليل التأثير جدًّا.
وقس على ذلك حال جميع نقائصنا وأشكال طغياننا وذنوبنا وحرماننا من جميع المعارف والأسرار، واعرف أنّ علّتها الأساسية تكمن في هذه الحقيقة"1.
1 جنود العقل والجهل، ص 94-96.
30
12
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
المفاهيم الرئيسة
1- الإيمان أصل ومنبع جميع الكمالات، وذلك لأنّ كل كمال إنّما ينبع بحسب الرؤية التّوحيديّة من مصدرٍ واحدٍ وهو الله تعالى.
2- الإيمان عبارة عن التّوجّه إلى الله والارتباط الواعي به والاتّصال بساحة قدسه، وهو نورٌ إلهيّ يجعل القلب موضع تجليّات الحقّ جلّ جلاله، لذلك فبمقدار ما يكون الإيمان حاضرًا في حياة الإنسان وفاعلًا يزداد كمالًا.
3- يختلف تصوّر الله عزّ وجلّ بين النّاس تبعًا للتّعليم والبيئة والتّلقين والتّجربة الشّخصيّة، لذا يختلف الإيمان به بحسب اختلاف التصوّر.
4- إنّ الإيمان يتحقّق عندما يستقرّ العلم الثّابت بالبرهان العقليّ في القلب. فبالإضافة إلى العلم هو شعورٌ قلبيّ وإحساس وجدانيّ. فمن حصر الإيمان بالشّعور لم يهتدِ إليه سبيلا. ومن قصره على العلم، سلك طريق الضّياع. فالإيمان تجربة تتفاعل فيها المعرفة مع العمل ويظهر في الصّفات والأخلاق.
5- للإيمان آثار كثيرة، لكن الصّفة الأساسيّة التي تلازمه وتمتزج معه هي صفة التّسليم، لأنّ الحقيقة إذا رسخت في القلب حملته طوعًا على التّسليم لكلّ ما ينسجم معها.
6- إنّ للإيمان درجات وإنّ التوقّف عند أيّة درجة من درجات الإيمان أو الكمال هي بمنزلة الوقوع في فخّ إبليس، وهي من أهمّ أسباب الهلكة.
7- الطّمأنينة هي الدّرجة العليا من الإيمان التي تؤسّس لمقام الشّهود وهو أعلى ما يمكن أن يصل إليه السّالك على مستوى معرفة ربّه سبحانه. وهو سير في عالم الإطلاق إلى ما لا يتناهى.
31
13
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ وَاجْعَلْنِي مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالإِيمَانِ بِكَ، وَالتَّصْدِيقِ بِرَسُولِكَ، وَالأَئِمَّةِ الَّذِينَ حَتَمْتَ طَاعَتَهُمْ مِمَّنْ يَجْرِي ذَلِكَ بِهِ وَعَلَى يَدَيْهِ، آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ"1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾2.
2- ﴿وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾3.
3- ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾4.
4- ﴿قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾5.
5- ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾6.
6- ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾7.
7- ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام يوم الأضحى ويوم الجمعة.
2 سورة البقرة، الآيات 3-5
3 سورة البقرة، الآية 41.
4 سورة البقرة، الآية 121.
5 سورة البقرة، الآية 136.
6 سورة الأنفال، الآية 74.
7 سورة الأنفال، الآية 2.
32
14
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾1.
8- ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾2.
الروايات الشريفة:
1- قُلْتُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "مَا الْإِيمَانُ؟ وَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: أَمَّا الْإِيمَانُ فَالْإِقْرَارُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِسْلَامُ فَمَا أَقْرَرْتَ بِهِ وَالتَّسْلِيمُ لِلْأَوْصِيَاءِ وَالطَّاعَةُ لَهُم"3.
2- عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَداً (غَيْرَكَ وَلَا) بَعْدَكَ فَقَالَ علِيٌّ عليه السلام:... تُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالْقَدَرِ (كُلِّه) خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّه"4.
3- عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: "سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السلام: مَا الْإِيمَانُ فَجَمَعَ لِي الْجَوَابَ فِي كَلِمَتَيْنِ فَقَالَ: الْإِيمَانُ بِاللهِ أَنْ لَا تَعْصِيَ اللهَ"5.
4- مِنْ سُؤَالِ الزِّنْدِيقِ الَّذِي سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللهِ عَنْ مَسَائِلَ كَثِيرَ.. ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ قَالَ: "فَبَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ مَنْزِلَةٌ؟ قَالَ عليه السلام لَا قَالَ فَمَا الْإِيمَانُ وَمَا الْكُفْرُ؟ قَالَ عليه السلام الْإِيمَانُ أَنْ يُصَدِّقَ اللهَ فِيمَا غَابَ عَنْهُ مِنْ عَظَمَةِ الله ِكَتَصْدِيقِهِ بِمَا شَاهَدَ مِنْ ذَلِكَ وَ عَايَنَ"6.
5- قَالَ أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ: "يَا رَسُولَ اللهِ مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِمَّا سِوَاهُمَا"7.
1 سورة النور، الآية 62.
2 سورة الحجرات، الآية 15.
3 بحار الأنوار، ج65, ص 287.
4 (م.ن)، ص 288.
5 مستدرك الوسائل، ج16، ص 151.
6 بحار الأنوار، ج10، ص 183.
7 مجموعة ورام، ج1، ص 223.
33
15
الدرس الثاني: الإيمان (2) - أهمّيّة الإيمان ودوره
الدرس الثاني: الإيمان (2) - أهمّيّة الإيمان ودوره
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى أهميّة الإيمان وتأثيره على مصيرنا الدّنيويّ والأخرويّ.
2- يبيّن دور الإيمان في إصلاح أنفسنا والارتداع عن الذّنوب والمعاصي.
3- يفهم دور الإيمان في التخلّص من تصرّف الشّيطان.
35
16
الدرس الثاني: الإيمان (2) - أهمّيّة الإيمان ودوره
تمهيد
تتّضح أهميّة الإيمان في المنظومة القيميّة الإسلاميّة عندما نقدر على معرفة مصدر جميع الكمالات والفضائل. وتتجلّى هذه الأهميّة بأعلى مراتبها عندما ندرك أنّ الإيمان هو السّبيل الوحيد للخلاص والنّجاة يوم القيامة. أمّا في الحياة الدّنيا، فإنّ كلّ التحرّكات الإيجابيّة التي يقوم بها النّاس لا يمكن أن تؤتي ثمارها الطيّبة إلّا إذا انطلقت من الإيمان.
ويقدّم لنا الإمام الخمينيّ قدس سره رؤية متميّزة ومتقدّمة حول موقعيّة الإيمان في الدّين وفي الحياة، تجعلنا في حالة من الإشباع والغنى إلى الدّرجة التي ندرك معها أنّه لا معنى للحياة سوى السّلوك في مراتب الإيمان. ولو قيل أنّ كل ما في الوجود، وكل ما يحدث في العالم، وكل ما يجري علينا ومن حولنا إنّما هو لأجل زراعة الإيمان وحراثته لما كان في الكلام أيّة مبالغة.
ها هي الحياة بكلّ ما فيها فرصة عظيمة لنتعرّف على ربّنا ونتوجّه إليه بقلوبنا حتّى نلقاه. وليس لنا سوى الإيمان زادًا يتجلّى في التّقوى والعمل الصّالح.
وتظهر أهميّة الإيمان من خلال معرفة موقعه ضمن دائرة التّعاليم الإسلاميّة والدّين، كما أنّ هذه الأهمّيّة تبرز عند التّأمّل في الآثار التي لا تُحصى للإيمان على صعيد النّفس والمجتمع دنيا وآخرة.
الإيمان هو الدّين
يقول الإمام الخميني قدس سره: "الإيمان بالله تعالى وبملائكته وكتبه ورسله وبيوم القيامة، هو الدّين القيّم المحكم والمستقيم والحقّ على امتداد حياة المجموعة البشريّة"1.
فالإيمان ليس جزءًا من الدّين بل هو الدّين كلّه. وكل ما في الدّين فهو مرتبط بالإيمان بدايةً ونهايةً.
1 الأربعون حديثًا، ص 212.
37
17
الدرس الثاني: الإيمان (2) - أهمّيّة الإيمان ودوره
الإيمان أصل جميع الكمالات
"من الواضح أيضًا أنّ الإيمان بالله من نوع العلم ومن الكمالات المطلقة، وحيث أنّه من الكمالات فهو أصل الوجود، وأصل حقيقة النّور والظّهور، وما لا يكون من الإيمان وتوابعه، فهو خارج عن نطاق الكمالات النّفسيّة الإنسانيّة، وملحق بظلمات الأعدام والماهيّات"1.
و"اعلم أنّ الإيمان أيضًا من الكمالات الرّوحيّة، التي قلّما يدرك أحد حقيقتها النّوريّة، حتى أنّ المؤمنين لم يعرفوا شيئًا عن نورانيّة إيمانهم، والكرامات التي تنتظرهم لدى ساحة قدسه المتعالي، ما داموا في عالم الدّنيا، وظلام الطّبيعة"2.
أساس كل صلاح
يقول الإمام قدس سره: "ولو أنّ الإيمان تغلغل في القلب، لصلُحت الأمور، لأنّ آثاره ـ الإيمان ـ تتسرّب إلى الظّاهر والباطن والسرّ والعلن"3.
ولهذا، فلا يوجد باعث على التّوبة والإنابة مثل الإيمان. فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "الإيْمانُ لا يَضُرُّ مَعَهُ عَمَلٌ وَكذلِكَ الْكُفْرُ لا يَنْفَعُ مَعَه عَمَل" وهناك روايات أخرى بهذا المضمون. وقد فسّر المحدّث الجليل المجلسي عليه الرّحمة، الضّرر المنفيّ: (ما يَصِير سَبَباً لِدُخول النّارِ أوِ الْخُلودِ فِيها). وإذا كان المقصود من الضّرر المنفيّ دخول النار، فلا منافاة بين عدم الدّخول في النّار حسب هذه الروايات، وتحقّق أنواع أخرى من العذاب في عالم البرزخ والمواقف المختلفة في يوم القيامة.
ويظنّ الكاتب4 بأنه يمكن تفسير هذه الأخبار، بأن الإيمان ينّور القلب قليلاً وفي درجة محدودة، لو اقترف الإنسان خطيئة أو ذنباً، عولج ببركة ذلك النور وملكة الإيمان الإثم وتلك الجريرة، بالتوبة والرجوع إلى الله. فإن صاحب الإيمان بالله واليوم الآخر، لا يسمح لنفسه أن يترك أعماله إلى يوم القيامة. فهذه الأخبار في الحقيقة تحفز الإنسان على التمسك بالإيمان، والمحافظة عليه"5.
1 الأربعون حديثًا، ص 558.
2 (م.ن)، ص 582.
3 (م.ن)، ص 340.
4 أي الإمام الخميني قدس سره.
5 الأربعون حديثًا، ص 604.
38
18
الدرس الثاني: الإيمان (2) - أهمّيّة الإيمان ودوره
الغنى عن النّاس
"فما لم تكتب عبارة "لا إله إلا الله" بقلم العقل على لوح القلب الصافي لن يكون الإنسان مؤمنا بوحدانية الله. وعندما ترد هذه العبارة النّورانيّة الإلهيّة على القلب، تصبح سلطة القلب لذات الحقّ تعالى، فلا يعرف الإنسان بعدها شخصًا آخر مؤثّرًا في مملكة الحقّ، ولا يتوقّع من شخصٍ آخر جاهًا ولا جلالًا، ولا يبحث عن المنزلة والشّهرة عند الآخرين"1.
"إنّ مطلق الاعتماد على غير الحقّ سبحانه والالتفات إلى المخلوق يكون من جرّاء ضعف اليقين والإيمان"2.
النّجاة من الدّنيا
"إنّ خوف وكراهة المتوسّطين، للموت، أي الذين لا يؤمنون بعالم الآخرة، فلأنّ قلوبهم انشدّت إلى تعمير الدّنيا، وغفلت عن تعمير الآخرة، ولهذا لا يرغبون في الانتقال من مكانٍ فيه العمران والازدهار إلى مكانٍ فيه الدّمار والخراب... وهذا أيضًا ناتج من نقصٍ في الإيمان والاطمئنان. وأمّا إذا كان الإيمان كاملًا، فلا يسمح الإنسان لنفسه أن يشتغل بأموره الدّنيويّة المنحطّة ويغفل عن بناء الآخرة"3.
"إنّ الإنسان ما دام يشتغل بتعمير هذا العالم، ويكون قلبه متّجهاً نحو هذه النشأة، وما دام سكر الطّبيعة ـ عالم المادة ـ قد أعماه وأفقده وعيه، والشّهوة والغضب المخدّرتان قد خدّرتاه وسلبتا لُبّه، يكون محجوبًا نهائيًّا عن صور أعماله وأخلاقه، وتكون آثار أعماله وأخلاقه مهجورة في ملكوت قلبه. ولكن عندما تغشاه سكرات الموت وتواجهه صعابها وضغوطها، ويبتعد قليلًا عن هذه النّشأة، فإذا كان من أهل الإيمان واليقين، وكان قلبه متعلّقًا بهذه العوالم المادّيّة، اتّجه قلبه في نهاية المطاف من حياته إلى ذلك العالم، والسّائقون المعنويّون، وملائكة الله الموكّلون عليه، يسوقونه جميعًا إلى ذلك العالم، وبعد هذا السّوق وذاك الانصراف ينكشف له نموذج من عالم البرزخ، وتنفتح عليه من عالم
1 الأربعون حديثًا، ص 58-59.
2 (م.ن)، ص 361.
3 (م.ن)، ص 390.
39
19
الدرس الثاني: الإيمان (2) - أهمّيّة الإيمان ودوره
الغيب كُوّةٌ ويتكشّف له حاله ومقامه قليلًا، كما نُقل عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنَّهُ قَالَ: "حَرَامٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ أن تَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيا حَتّى تَعْلَمَ أنَّهَا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ"... فإن كان من أهل الإيمان والسّعادة، يستعدّ قلبه عند معاينة البرزخ لمشاهدة النّفحات اللطيفة اللُطفيّة والجمال، وتظهر فيه آثار تجلّيات اللطف والجمال، فيأخذ القلب في الحبّ للقاء الله، وتشتعل في قلبه جذوة الاشتياق إلى جمال المحبوب، إن كان من أهل الحسنى وحبّ الله والجاذبة الرّبوبيّة، ولا يعرف أحد إلاّ الله، مقدار اللّذات والكرامات الموجودة في هذا التجلّي والاشتياق! وإن كان من أهل الإيمان والعمل الصالح، أغدقت عليه من كرامات الحقّ المتعالي بقدر إيمانه وأعماله، ويراها لدى الاحتضار، فيتوق إلى الموت ولقاء كرامات الحقّ، ويرتحل من هذا العالم مع البهجة والسّرور والرّوح والرّيحان، ولا تطيق الأعين المُلكيّة والذائقة المادّيّة، رؤية هذه الكرامات ومشاهدة هذه البهجة والفرح"1.
الخلاص من تصرّف الشّيطان
"الايمان حظّ القلب الذي يحصل من شدّة التّذكّر والتّفكّر والأنس والخلوة مع الحقّ. فإنّ الشّيطان مع أنّ له العلم بالمبدأ والمعاد بنصّ القرآن محسوب في زُمرة الكفّار، فلو كان الإيمان عبارة عن هذا العلم البرهانيّ يلزم أن يكون الواجدون لهذا العلم بعيدين عن تصرّف الشّيطان ويتلألأ فيهم نور هداية القرآن، مع أنّنا نرى أنّ هذه الآثار لا تحصل بالإيمان البرهانيّ. فإن أردنا أن نخرج من تصرّف الشّيطان ونقع تحت عوذة الحقّ لابدّ وأن نوصل الحقائق ّ إلى القلب بالارتياض القلبيّ الشّديد ودوام التّوجّه أو كثرته وشدّة المراودة والخلوة حتّى يصبح القلب إلهيًّا. فإذا صار القلب إلهيًّا يخلو من تصرّف الشّيطان كما قال الله تعالى: ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ﴾2"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 490 - 492.
2 سورة البقرة، الآية 257.
3 معراج السالكين، ص 235.
40
20
الدرس الثاني: الإيمان (2) - أهمّيّة الإيمان ودوره
الخلاص الأبدي
"معلومٌ أنّ من يؤمن بالله ويُصدِّق بيوم الجزاء ويعتقد بيوم القيامة، لا يقترف موبقة كبيرة، تفضحه في عوالم الغيب والشّهادة وفي عالم الدنيا والبرزخ والآخرة، وتقوده إلى شرّ المصائب، التي هي نار جهنم، وتخرجه عن ولاية الحق المتعالي وتدخله تحت ولاية الشيطان"1.
وفي المقابل، فإنّ كلّ الشّقاءات والمصائب والنّقائص إنّما ترجع إلى عدم الإيمان أو نقصانه أو ضعفه أو تزلزله.
يقول الإمام قدس سره: "إنّ كلّ شقائنا هذا من وراء النّقص في الإيمان بيوم القيامة ومن عدم الاطمئنان بعالم الآخرة. فلو أنّنا آمنا بعالم الآخرة والحياة الأبديّة، عُشْر اطمئناننا بالحياة الدّنيويّة وعيشها، وعُشر إيماننا بحياة هذا العالم وبقائه، لتعلّقت قلوبنا بذلك العالم أكثر ولعشقناه، ولسعينا قليلًا في إصلاح الطّريق وترميمه. ولكن المؤسف أنّ إيماننا بالآخرة قد نضب في القلب، وأنّ يقيننا متزلزل"2.
و"إنّ مصدر جميع الخطايا والمعاصي التي تصدر من الإنسان، هو النّقص في اليقين والإيمان، وإنّ مراتب اليقين والإيمان مختلفة على مستوىً لا يمكن عدّها وبيانها. وإنّ اليقين الكامل للأنبياء والاطمئنان التام الذي يحظون به، الحاصلان من المشاهدة الحضورية هو الذي يعصمهم من الآثام. إن يقين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قد أبلغه إلى مستوى يقول "وَالله لَوْ أُعْطِيتُ الأقالِيمَ السَّبْعَةِ بِما تَحْتَ أفْلاكِها عَلى أنْ أَعْصَى الله في نَمْلَةٍ أسْلُبُها جَلْبُ شَعِيرةٍ ما فَعَلتُه"3.
فــ "لا بدّ من إصلاح الينبوع، والعثور على الإيمان بالله، وبكلمات أنبيائه حتّى يتم إصلاح الأمور. إنّ كل تعاستنا من ضعف الإيمان ووهن اليقين"4.
1 الأربعون حديثًا، ص 340.
2 (م.ن)، ص 390.
3 (م.ن)، ص 581.
4 (م.ن)، ص 462.
41
21
الدرس الثاني: الإيمان (2) - أهمّيّة الإيمان ودوره
المفاهيم الرئيسة
1- سيّئات المؤمنين أفضل من حسنات الآخرين التي لا تُقبل أبدًا، لأنّ خطايا المؤمنين وذوي الدّين الحقّ، تؤول إلى المغفرة كما قال سبحانه وتعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾.
2- إنّ كلّ الشّقاءات والمصائب والنّقائص إنّما ترجع إلى عدم الإيمان أو نقصانه أو ضعفه أو تزلزله.
3- الإيمان ليس جزءًا من الدّين بل هو الدّين كلّه. وكل ما في الدّين فهو مرتبط بالإيمان بدايةً ونهايةً.
4- الإيمان بالله من نوع العلم ومن الكمالات المطلقة، وحيث أنّه من الكمالات فهو أصل الوجود، وأصل حقيقة النّور والظّهور، وما لا يكون من الإيمان وتوابعه، فهو خارج عن نطاق الكمالات النّفسيّة الإنسانيّة، وملحق بظلمات الأعدام والماهيّات.
5- لو أنّ الإيمان تغلغل في القلب، لصلُحت الأمور، لأنّ آثاره ـ الإيمان ـ تتسرّب إلى الظّاهر والباطن والسرّ والعلن. فللإيمان ظهور في القلب على صعيد العقائد والمعارف والمشاعر، وفي النّشأة البرزخيّة على مستوى الأخلاق والملكات، وفي النّشأة الملكيّة الظّاهرة على صعيد الأعمال.
6- إنّ مطلق الاعتماد على غير الحقّ سبحانه والالتفات إلى المخلوق يكون من جرّاء ضعف اليقين والإيمان.
7- اإذا كان الإيمان كاملًا، لا يسمح الإنسان لنفسه أن يشتغل بأموره الدّنيويّة المنحطّة ويغفل عن بناء الآخرة.
8- إذا أردنا أن نخرج من تصرّف الشّيطان ونقع تحت عوذة الحقّ لابدّ وأن نوصل الحقائق ّ إلى القلب بالارتياض القلبيّ الشّديد ودوام التّوجّه أو كثرته وشدّة المراودة والخلوة حتّى يصبح القلب إلهيًّا.
42
22
الدرس الثاني: الإيمان (2) - أهمّيّة الإيمان ودوره
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ وَأَنْتَ جَعَلْتَ مِنْ صَفَايَا تِلْكَ الْوَظَائِفِ، وَخَصَائِصِ تِلْكَ الْفُرُوضِ شَهْرَ رَمَضَانَ الَّذِي اخْتَصَصْتَهُ مِنْ سَائِرِ الشُّهُورِ، وَتَخَيَّرْتَهُ مِنْ جَمِيعِ الأَزْمِنَةِ وَ الدُّهُورِ، وَآثَرْتَهُ عَلَى كُلِّ أَوْقَاتِ السَّنَةِ بِمَا أَنْزَلْتَ فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالنُّورِ، وضَاعَفْتَ فِيهِ مِنَ الإِيمَانِ، وَفَرَضْتَ فِيهِ مِنَ الصِّيَامِ، وَرَغَّبْتَ فِيهِ مِنَ الْقِيَامِ"1.
الروايات الشريفة:
1- قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ كُلُّهُ فِي قَرَنٍ وَاحِدٍ فَإِذَا سُلِبَ أَحَدُهُمَا اتَّبَعَهُ الْآخَرُ"2.
2- عن الرّضا عليه السلام: "إِيَّاكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ فَإِنَّهُ مِنَ الْإِيمَان"3.
3- فِقْهُ الرِّضَا عليه السلام: "إياكم والبُخْلَ فَإِنَّهَا عَاهَةٌ لَا تَكُونُ فِي حُرٍّ وَلَا مُؤْمِنٍ إِنَّهَا حَلَّاقَةُ الْإِيمَانِ"4.
4- عن أبي عبد الله عليه السلام: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَزْهَرُ نُورُهُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا يَزْهَرُ نُجُومُ السَّمَاءِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَالَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ وَلِيُّ اللهِ يُعِينُهُ وَيَنْصُرُهُ وَيَصْنَعُ لَهُ وَلَا يَقُولُ عَلَيْهِ إِلَّا الْحَقَّ ولَا يَخَافُ غَيْرَهُ"5.
5- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "إِنَّ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ عليه السلام أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلَاءً النَّبِيُّونَ ثُمَّ الْوَصِيُّونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ وَإِنَّمَا يُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ فَمَنْ صَحَّ دِينُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لَمْ يَجْعَلِ الدُّنْيَا ثَوَاباً لِمُؤْمِنٍ وَلَا عُقُوبَةً لِكَافِرٍ وَمَنْ سَخُفَ دِينُهُ وَضَعُفَ عَمَلُهُ قَلَّ بَلَاؤُهُ وَأَنَّ الْبَلَاءَ أَسْرَعُ إِلَى الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ مِنَ الْمَطَرِ إِلَى قَرَارِ الْأَرْضِ"6.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام في وداع شهر رمضان.
2 وسائل الشّيعة، ج12، ص 168.
3 مستدرك الوسائل، ج1، ص 376.
4 (م.ن)، ج7، ص 32.
5 الكافي، ج2، ص 170.
6 (م.ن)، ص 259.
43
23
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى علائم الإيمان لاكتشافه في نفسه.
2- يبيّن العلاقة بين الإيمان والخشوع في الصّلاة.
3- يشرح العلاقة بين الإيمان واكتساب الكمالات.
45
24
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
تمهيد
"لقد ذكر الله تبارك وتعالى في قرآنه الكريم خصائص المؤمنين، كما بيّن أهل بيت العصمة والطّهارة عليهم السلام صفاتهم في الأحاديث الشّريفة، لكنّنا لا نتحلّى بأيٍّ منها، رغم أنّنا نعتقد جميعًا (نظريًّا) بالله تبارك وتعالى وتوحيد ذاته المقدّسة وسائر أركان الإيمان استنادًا إلى البراهين العقليّة وأمثالها.
والسرّ في ذلك يكمن فيما ذكرناه من أنّ الإيمان غير الإدراك العقليّ، يقول تبارك وتعالى في الآية الثانية من سورة الأنفال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾1 إلى أن يقول: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾. فهو تبارك وتعالى يصرّح، وعلى نحو الحصر، بأنّ المؤمنين هم الذين يتحلّون بهذه الصّفات، أي أنّ غيرهم ليسوا بمؤمنين، ثمّ يختم هذا الوصف بتأكيد الأمر والتّصريح بأنّ الذين تتوفّر فيهم هذه الصّفات هم وحدهم المؤمنون حقًّا.
1 سورة الأنفال، الآية 2.
47
25
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
وصفاتهم المذكورة في الآية قد لاحظتموها، وأنتم تدّعون الإيمان، وقد أدركتم عقليًّا جميع أركانه ولديكم دليل عقليّ وأوجدتم دليلًا لكلّ منها، فارجعوا إلى أنفسكم وتدبّروا فيها ولاحظوا أيّ تلك الصّفات موجودة في قلوبكم؟ تسمعون أو تردّدون كلّ هذا الذّكر لله تعالى ولكن أين "وجل القلوب" الذي يظهر على المؤمن عند ذكر الله؟ لا ريب في أنّ القلب الذي يدرك وجدانيًّا عظمة الحقّ تعالى وجلاله، ولم يتجلّ فيه كبرياؤه تعالى وعلوّه، لا يوجل من ذكره عزّ وجلّ"1.
كيف نعرف إذا كنّا من أهل الإيمان؟
طالما أنّ الإيمان ليس بالادّعاء، كما أنّه ليس مجرّد علم أو شعور، فكيف يمكن لنا أن نعرف الإيمان في قلوبنا؟ وما هي الدّرجة من الإيمان التي ينبغي أن نبحث عنها؟
حقيقة الإيمان ترتبط بتركيبة الإنسان وتشريحه المعنويّ. ويدلّنا الإمام الخمينيّ قدس سره وهو العارف بتشريح الوجود الإنسانيّ وعلاقة الأعضاء والأقاليم والنّشآت والمراتب ببعضها البعض. فيعتبر أنّ القلب هو الهويّة الحقيقيّة التي تتجلّى في الصّفات النّفسانيّة والملكات الأخلاقيّة، والتي بدورها تتجلّى في سلوكيّات الإنسان.
يقول الإمام قدس سره: "لو أنّ شخصًا قام بالوظائف العبوديّة والمناسك الظّاهريّة ـ حسب ما هو لازم ومطابق لتوجيهات الأنبياء ـ لانعكست من جرّاء أدائه لمسؤوليّاته العبوديّة آثار على قلبه وروحه، حيث يحسن خلقه وتتكامل عقائده. وهكذا فإنّ من يواظب على تهذيب خُلُقه وتحسين باطنه، يترك آثارًا على النّشأتين الأخرويّتين البرزخ والقيامة. كما أنّ كمال الإيمان ومتانة العقائد يؤثّران في النّشأتين التاليتين. ويكون كلّ ذلك نتيجة شدّة الارتباط بين المقامات الثّلاثة، بل التّعبير بالارتباط بين العوالم الثّلاثة من جهة ضيق الخناق لعدم وجود كلمة أخرى تعبّر عن مدى تداخل كلّ منها في الآخر. إذ لابدّ وأن نقول إنّها ـ العوالم الثّلاثة ـ حقيقة واحدة، ذات مظاهر ثلاثة. وهكذا كمالات المقامات الثّلاثة مرتبطة بكمالات كلّ واحد منها. من دون أن يظنّ أحد أنّه يستطيع أن يكون ذا إيمانٍ كاملٍ أو خُلُقٍ مهذّب من دون الأعمال الظّاهريّة، والعبادات الصّوريّة. أو يستطيع أن يجعل إيمانه كاملًا وأعماله تامّة، رغم نقصانٍ في خُلُقه وعدم تهذيبه، أو يمكن أن يتمّ أعماله الظّاهريّة ويكمّل محاسن أخلاقه من دون الإيمان القلبيّ"2.
وعلى هذا الأساس، فللإيمان ظهور في القلب على صعيد العقائد والمعارف والمشاعر، وفي النّشأة البرزخيّة على مستوى الأخلاق والملكات، وفي النّشأة الملكيّة الظّاهرة على صعيد الأعمال.
1 جنود العقل والجهل، ص 96-97.
2 الأربعون حديثًا، ص 419-420.
48
26
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
علائم الإيمان
وعلى هذا الأساس لكلّ ظهور بحسب النّشأة علامات، بحيث إذا لم تكن هذه العلامات فهذا يدلّ على عدم الإيمان. يقول الإمامقدس سره "وإذا فُقدت علائم الإيمان في شخص ما فالإيمان نفسه يكون مفقودًا فيه أيضًا"1.
ويقول قدس سره: "إنّ ما ذُكر في الأخبار الشّريفة من أنّ الإقرار باللسان والعمل بالأركان من دعائم الإيمان، فهو بيان لسرّ طبيعي، ولسنة الله الجارية، لأن حقيقة الإيمان، تلازم العمل والتنفيذ. إنّ العاشق في جوهر طبيعته، يظهر العشق تجاه المعشوق ويتغزّل به، وإنّ المؤمن إذا لم يعمل بمتطلّبات الإيمان وما تستدعيه محبّة الله وأوليائه، لما كان مؤمنًا ومحبًّا. وإنّ هذا الإيمان الشّكليّ والمحبّة الجوفاء، من دون جوهر ومضمون، ينتفي ويزول أمام حوادث بسيطة وضغوط يسيرة، وينتقل هذا المحبّ إلى دار جزاء الأعمال، صفر اليدين"2.
ولنتوقّف عند مجموعة مهمّة من علامات الإيمان كما جاء في كلمات الإمام قدس سره.
1- الخشوع في الصّلاة
"قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾3 فجعل الخشوع في الصّلاة من حدود الإيمان وعلائمه. فمن لم يكن خاشعًا في الصّلاة فهو خارج زمرة أهل الإيمان طبقًا لما قاله ذات الحقّ المقدّس تعالى شأنه. قال الصادق عليه السلام: "إذا دخلت في صلاتك فعليك بالتخشّع والإقبال على صلاتك فإنّ الله تعالى يقول: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾. وبما أنّ صلواتنا ليست مشفوعة بالخشوع، فإنّ ذلك ناجم إمّا عن نقص الإيمان أو فقدانه... وأمّا قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾4 فلعلّ المراد منه هو الإيمان الصّوريّ أي الإيمان بما جاء به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وإلّا فالإيمان الحقيقيّ يتلازم مع مرتبة من الخشوع لا محالة. أو أنّ المراد من الخشوع في هذه الآية، هو الخشوع بمراتبه الكاملة، كما أنّ العالِم ربّما يطلق على من انتقل من حدّ العلم
1 جنود العقل والجهل، ص 99.
2 الأربعون حديثًا، ص 608.
3 سورة المؤمنون، الآيات 1-2.
4 سورة الحديد، الآية 16.
49
27
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
إلى حدّ الإيمان، ويُحتمل أن تكون الآية الشّريفة ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾1 إشارة إلى هؤلاء"2.
2- الجدّ والاجتهاد
"إنّ هذه البرودة الموجودة فينا إنّما هي من برودة أشعّة الايمان، وهذا الوهن الذي نجده إنّما هو من وهن أساس الإيمان. ولو أحدثت أخبار الأنبياء والأولياء عليهم السلام وبراهين الحكماء والعرفاء عليهم الرّضوان في أنفسنا مجرّد الاحتمال، لكان اللازم علينا أن نقوم بالأمر ونجتهد في تحصيله بأحسن ممّا نحن فيه"3.
3- الخوف والخشية
"يقول الله تعالى في سورة الأنفال في الآية الشّريفة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾4، فلا بدّ للسّالك من أن يلاحظ هل أنّ هذه الأوصاف الثّلاثة تنطبق عليه؟ وهل أنّ قلبه يوجِلُ إذا ذُكر الله ويخاف؟ وإذا تُليت عليه الآيات الشّريفة الإلهيّة هل يزداد نور الإيمان في قلبه؟ وكذلك اعتماده وتوكّله على الحقّ تعالى؟ أم أنّه عن كلّ هذه المراتب متأخّر، ومن كلّ هذه الخصائص محروم؟ فإن أراد أن يفهم أنّه من الحقّ تعالى خائف وقلبه من خوف الله وجل فلينظر إلى أعماله"5.
4- الشدّة على الكفّار
من صفات المؤمنين الأساسية أنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم: "وأهل المعرفة يعلمون بأنّ الشدّة على الكفّار ـ وهي من صفات المؤمنين ـ وقتالهم أيضًا (هي) رحمة ولطف من الألطاف الخفيّة للحقّ تعالى"6.
1 سورة فاطر، الآية 28.
2 معراج السالكين، ص 29.
3 (م.ن)، ص 59.
4 سورة الأنفال، الآية 2.
5 معراج السالكين، ص 217.
6 وصايا عرفانيّة، ص 23.
50
28
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
5- التّواضع
"إعلم أنّ للتواضع درجات يقابلها التكبر في كل درجة:... الرابعة، تواضع المؤمنين الذين حصلوا بنور الإيمان على العلم بالله، وعرفوا أنفسهم بمقدر ما أضاءهُ لهم هذا النّور الإيمانيّ، فصاروا متواضعين للحقّ تعالى ولخلقه"1.
6- إيجاد الكثير من الكمالات
"الإيمان بأنّ المتصرّف في مملكة الوجود وعوالم الغيب والشّهود هو الحقّ تعالى وليس لسائر الموجودات فيها تصرّف إلا التّصرّف الإذنيّ الظلّيّ يؤدّي إلى الكثير من الكمالات النّفسانيّة والأخلاق الإنسانيّة الفاضلة، مثل التّوكّل والاعتماد على الحقّ وقطع الطّمع بالمخلوق الذي هو أمّ الكمالات، ويوجب كثيرًا من الأعمال الصّالحة والأفعال الحسنة وترك الكثير من القبائح... وهكذا مثلًا خُلُق الرّضا فإنّه من الأخلاق الإنسانيّة الكماليّة، وله تأثيرات كبيرة في تصفية النّفس وتجليتها، ويجعل القلب موردًا للتّجليات الإلهيّة الخاصّة، ويوصل الإيمان إلى كماله، وكمال الإيمان إلى الطّمأنينة"2.
"عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "كان أبي يقول: إنّه ليس من عبدٍ مؤمنٍ إلّا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وُزن هذا لم يزد على هذا"3، وفيه في حديث آخر: "لا يكون المؤمن مؤمنًا حتّى يكون خائفًا راجيًا، ولا يكون خائفًا راجيًا حتّى يكون عاملًا لما يخاف ويرجو"4.
وقد ذكرت الأحاديث الشّريفة للمؤمنين مجموعة من الأوصاف والصّفات يتحلّون بها، مثل التّوكّل والتّسليم والرّضا والخوف والرّجاء ونظائرها. ولا ريب في أنّ من لا يتحلّى بها لن يكون من أهل الإيمان، والعلّة في عدم التحلّي بها هو أنّ العلم والإدراك لم يتحوّلا فينا إلى الإيمان وإلّا لظهرت فينا تلك الأوصاف النّبيلة والأعمال الصالحة. والله العالم"5.
1 جنود العقل والجهل، ص 303.
2 معراج السالكين، ص 96.
3 جنود العقل والجهل، ص 142-143.
4 الكافي، ج2، ص 71.
5 جنود العقل والجهل، ص 101.
51
29
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
7- الغنى عن النّاس
"عليك بالمجاهدة لتودع القلب عند الله، ولا ترى مؤثّرًا غيره.. أوليس عامّة المسلمين المتعبّدين يصلّون في اليوم والليلة عدّة مرات ـ والصّلاة زاخرة بالتّوحيد والمعارف الإلهيّة ويقولون عدّة مرات في اليوم والليلة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾. ويتلفّظون أنّ العبادة والإعانة مختصّتان بالله.. إلاّ أنّهم بتذلّلون ويتزلّفون لكلّ عالِمٍ وقويّ وثريّ، إلاّ المؤمنون بحقّ وخواصّ الحقّ سبحانه"1.
وفي موضعٍ آخر يقول الإمام قدس سره: "﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾، إلى أن قال ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾. يصرّح الله تعالى في هذه الآيات وعلى نحو الحصر بأنّ المؤمنين هم الذين تتوفّر فيهم الصّفات المذكورة في هذه الآيات، أي أنّ من لم تتوفّر فيهم ليسوا بمؤمنين، ومن هذه الصّفات أنّهم يثقون بربّهم، ويتوكّلون عليه في أعمالهم، وتتعلّق قلوبهم. وعليه يتّضح أنّ الذين تتوجّه قلوبهم إلى غيره ويعتمدون على غير ذاته المقدّسة جلّ وعلا، ويتطلّعون في أمورهم إلى سواه، ويطلبون الفرج من غيره تعالى، هم فاقدون لحقيقة الإيمان، محرومون من نور الإيمان"2.
8- زيادة الإيمان والبصيرة
"إن مَثَلَ الإيمان وتوفير بواعث التوفيق، مَثَلُ إنسان قد حمل مصباحًا وسلك طريقًا مظلمًا، فكلّما تقدّم خطوة، أضاء أمامه واهتدى للخطوة اللاحقة. فكلّما رفع الإنسان قدمًا نحو عالم الآخرة، اتّضح السّبيل أكثر، وغمرته عنايات الحقّ بصورة أكبر، وتوفّرت عوامل التّوجّه إلى عالم القرب ـ الآخرة ـ والانزعاج عن عالم البعد ـ الدنيا. والعنايات الأزليّة للحقّ المتعالي إنّما تسع الأنبياء والأولياء لعلمه ـ سبحانه ـ الأزليّ بطاعتهم أيّام التّكليف"3.
و"إنّ من السّلوك الفطريّ في الإنسان أن يستشعر الضّعة والخشية في محضر السّلطان
1 وصايا عرفانيّة، ص 50.
2 جنود العقل والجهل، ص 205-206.
3 الأربعون حديثًا، ص 277.
52
30
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
العظيم حتى لو لم يجد في نفسه تقصيرًا، بل وحتى عندما يراها في خدمة السلطان، وإن كان جميع الخلائق عاجزين عن القيام بحقّ المعرفة والعبادة والخدمة للذات الإلهيّة المقدّسة، وكيف لا يكونون كذلك وأشرف الممكنات وأعرف خلق الله بالله وأقربهم منه تعالى، الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم يصرّح بالقول: "ما عبدناك حقّ عبادتك وما عرفناك حقّ معرفتك"، و(ماذا يمكن للبعوضة الضعيفة أن تفعله في الوادي الذي يتناثر فيه ريش الصقور).
إذن فالخاصّيّة الأولى من علامات المؤمن مفقودة فينا، وهكذا حال الخاصّيّة الثّانية وهي زيادة الإيمان عند تلاوة الآيات الكريمة على المؤمن، فكلّ هذه الآيات التّدوينيّة والتّكوينيّة تُتلى وتُعرض علينا لكنّها تزيد من احتجابنا بدلًا من زيادة إيماننا! فما أكثر ما نتلوه ونسمعه من آي القرآن الحكيم في أيّام عمرنا دون أن يظهر منه قلوبنا نور الإيمان، ودون أن نتذكّر أو نتنبّه لتأثير هذه الآيات الكريمة"1.
9- شفاء الأمراض
"وهنا تدبّر بصدق ولاحظ هل أنّ صدر الآية الكريمة الرابعة والأربعين من سورة فُصّلت المباركة ينطبق علينا أم ذيلها، وهي: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾2.
1 جنود العقل والجهل، ص 97-98.
2 سورة فصلت، الآية 44.
53
31
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
فأين نجد فينا ذلك الهدى والشّفاء من الأمراض الباطنيّة الذي يثمره القرآن الشّريف للمؤمنين؟ لماذا لا تنفذ هذه الآيات الكريمة إلى أسماعنا؟ ولماذا تصير لنا حجابًا فوق حجاب؟ لا علّة لذلك سوى أنّ نور الإيمان لم يدخل قلوبنا، وعلومنا لم تتجاوز حدّ الإطار النّظريّ، ولم تكتب على لوح القلب. وفي القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تمكّننا أن نعرف جيّدًا حالنا بواسطتها وذلك بتطبيق ما تذكره على صفاتنا"1.
موعظة للإمام
"إنّ النّفوس المنكبّة على الدّنيا، والملتهية بتعميرها والمنصرفة عن الحقّ، تكون منكوسة، رغم أنّها تعتنق الإيمان بالمبدأ والمعاد، لأنّ المقياس في انتكاس القلوب، هو الغفلة عن الحقّ والانشغال بالدّنيا وتعميرها. وهذا الإيمان بالمبدأ والمعاد إمّا لا يُعدّ إيمانًا وعقيدة كما ذُكر في شرح بعض الأحاديث السابقة، أو أنّ الإيمان يكون ناقصًا وبسيطًا جدًّا، وعليه لا يتنافى مع انتكاس القلب، بل إنّ من يظهر الإيمان بالغيب والحشر والنشر، ولا يخشى من ذلك، وأنّ إيمانه لا يدفع به إلى عمل الجوارح والأركان، يكون مثل هذا الإنسان منافقًا ولا يكون مؤمنًا. ويمكن أن يكون مَثَل هؤلاء المؤمنين الشّكليّين، مَثَلَ قوم كانوا بالطّائف ـ كما ورد في الحديث إن أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك وإن أدركه على إيمانه نجا"2.
1 جنود العقل والجهل، ص 98.
2 الأربعون حديثًا، ص 564.
54
32
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
المفاهيم الرئيسة
1- إذا فُقدت علائم الإيمان في شخص ما فالإيمان نفسه يكون مفقودًا فيه أيضًا.
2- من لم يكن خاشعًا في الصّلاة فهو خارج زمرة أهل الإيمان طبقًا لما قاله ذات الحقّ المقدّس تعالى شأنه.
3- إنّ هذه البرودة الموجودة فينا إنّما هي من برودة أشعّة الايمان، وهذا الوهن الذي نجده إنّما هو من وهن أساس الإيمان.
4- ذكرت الأحاديث الشّريفة للمؤمنين مجموعة من الأوصاف والصّفات يتحلّون بها، مثل التّوكّل والتّسليم والرّضا والخوف والرّجاء ونظائرها. ولا ريب في أنّ من لا يتحلّى بها لن يكون من أهل الإيمان.
5- الذين تتوجّه قلوبهم إلى غيره ويعتمدون على غير ذاته المقدّسة جلّ وعلا، ويتطلّعون في أمورهم إلى سواه، ويطلبون الفرج من غيره تعالى، هم فاقدون لحقيقة الإيمان.
6- إن مَثَلَ الإيمان وتوفير بواعث التوفيق، مَثَلُ إنسان قد حمل مصباحًا وسلك طريقًا مظلمًا، فكلّما تقدّم خطوة، أضاء أمامه واهتدى للخطوة اللاحقة.
7- من علائم الإيمان الشّفاء من الأمراض قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾.
8- إنّ من يظهر الإيمان بالغيب والحشر والنشر، وإيمانه لا يدفع به إلى عمل الجوارح والأركان يكون منافقًا ولا يكون مؤمنًا.
55
33
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَبَلِّغْ بِإِيمَانِي أَكْمَلَ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْ يَقِينِي أَفْضَلَ الْيَقِينِ، وَانْتَهِ بِنِيَّتِي إِلَى أَحْسَنِ النِّيَّاتِ، وَبِعَمَلِي إِلَى أَحْسَنِ الأَعْمَالِ اللَّهُمَّ وَفِّرْ بِلُطْفِكَ نِيَّتِي، وَصَحِّحْ بِمَا عِنْدَكَ يَقِينِي، وَاسْتَصْلِحْ بِقُدْرَتِكَ مَا فَسَدَ مِنِّي"1.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "عَلَامَةُ الْإِيمَانِ أنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ وَأَلَّا يَكُونَ فِي حَدِيثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِك"2.
2- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "الْمُؤْمِنُ لَا يَغُشُّ الْمُؤْمِنَ وَلَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخُونُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَكْذِبُهُ وَلَا يَغْتَابُهُ وَلَا يَقُولُ لَهُ أُفٍّ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ لَهُ أُفٍّ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا وَلَايَةٌ فَإِذَا اتَّهَمَهُ انْمَاثَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ - كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ"3.
3- قَالَ الصَّادِقُ عليه السلام: "السَّخَاءُ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ عِمَادُ الْإِيمَانِ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِناً إِلَّا سَخيّ"4.
4- عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنِ الصَّادِقِ عليه السلام قَالَ: "خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ فِيمَا يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا قَلْبُ اللهِ الْوَاعِي وَلِسَانُهُ النَّاطِقُ وَأَمِينُهُ عَلَى سِرِّهِ وَحُجَّتُهُ عَلَى خَلْقِهِ وَخَلِيفَتُهُ عَلَى عِبَادِهِ وَعَيْنُهُ النَّاظِرَةُ فِي بَرِيَّتِهِ وَيَدُهُ الْمَبْسُوطَةُ بِالرَّأْفَةِ والرَّحْمَةِ وَدِينُهُ الَّذِي لَا يُصَدِّقُنِي إِلَّا مَنْ مَحَضَ الْإِيمَانَ مَحْضاً وَلَا يُكَذِّبُنِي إِلَّا مَنْ مَحَضَ الْكُفْرَ مَحْضاً"5.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام في مكارم الأخلاق.
2 نهج البلاغة، ص 556.
3 مشكاة النور، ص 104.
4 مستدرك الوسائل، ج7، ص 17.
5 بحار الأنوار، ج26، ص 257.
56
34
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
5- عن الصادق عليه السلام: "قِيلَ مَا عَلَامَاتُ الْمُؤْمِنِ، قَالَ عليه السلام: أَرْبَعَةٌ نَوْمُهُ كَنَوْمِ الْغَرْقَى وَأَكْلُهُ كَأَكْلِ الْمَرْضَى وَبُكَاؤُهُ كَبُكَاءِ الثَّكْلَى وَقُعُودُهُ كَقُعُودِ المواثب"1.
6- عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عليه السلام قَالَ: "قِيلَ لَهُ مَا بَالُ الْمُؤْمِنِ أَحَدَّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ عِزَّ الْقُرْآنِ فِي قَلْبِهِ وَمَحْضَ الْإِيمَانِ فِي صَدْرِهِ وَهُوَ عَبْدٌ مُطِيعٌ لِلهِ وَلِرَسُولِهِ مُصَدِّقٌ، قِيلَ لَهُ: فَمَا بَالُ الْمُؤْمِنِ قَدْ يَكُونُ أَشَحَّ شَيْءٍ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يَكْسِبُ الرِّزْقَ مِنْ حِلِّهِ وَمَطْلَبُ الْحَلَالِ عَزِيزٌ فَلَا يُحِبُّ أَنْ يُفَارِقَهُ شَيْئُهُ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عِزِّ مَطْلَبِهِ وَ ِنْ هُوَ سَخَتْ نَفْسُهُ لَمْ يَضَعْهُ إِلَّا فِي مَوْضِعِهِ، قِيلَ فَمَا بَالُ الْمُؤْمِنِ قَدْ يَكُونُ أَنْكَحَ شَيْءٍ؟ قَالَ: لِحِفْظِهِ فَرْجَهُ عَن فُرُوجٍ لَا تَحِلُّ لَهُ وَلِكَيْلَا تَمِيلَ بِهِ شَهْوَتُهُ هَكَذَا وَلَا هَكَذَا فَإِذَا ظَفِرَ بِالْحَلَالِ اكْتَفَى بِهِ وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَ قَالَ عليه السلام: إِنَّ قُوَّةَ الْمُؤْمِنِ فِي قَلْبِهِ أَلَا تَرَوْنَ أَنَّكُمْ تَجِدُونَهُ ضَعِيفَ الْبَدَنِ نَحِيفَ الْجِسْمِ وَهُوَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ النَّهَارَ"2.
7- قَالَ الصَّادِقُ عليه السلام: "لَا يُعَظِّمُ حُرْمَةَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا مَنْ قَدْ عَظَّمَ اللهُ حُرْمَتَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ كَانَ أَبْلَغَ حُرْمَةً لِلهِ وَرَسُولِهِ كَانَ أَشَدَّ تَعْظِيماً لِحُرْمَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنِ اسْتَهَانَ لِحُرْمَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ هَتَكَ سِتْرَ إِيمَانِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ إِعْظَامَ ذَوِي الْقُرْبَى فِي الْإِيمَان"3.
1 مستدرك الوسائل، ج 8، ص 401.
2 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص 560.
3 مصباح الشريعة، ص 69.
57
35
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى السّبيل لتحصيل الإيمان.
2- يبيّن شروط استقرار الإيمان في القلب.
3- يتعرّف إلى العوامل التي تساهم في إضعاف الإيمان.
59
36
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
تمهيد
بعد أن تعرّفنا على الإيمان وأهميّته وكيفيّة تشخيصه في العقائد والمشاعر والأخلاق والأعمال. يأتي الحديث إلى كيفيّة تحصيله وتقويته. فقد ذكر الإمام أنّ الإيمان فيض إلهيّ وخلعة ربّانيّة غيبيّة يفيض بها على المخلصين من عباده والخاصّة في محفل أنسه. فهل يعني هذا أنّ طريقه الوحيد هو الإخلاص؟! وما هو حال إيمان كلّ من لم يكن مخلصًا؟ هل يُعدّ إيمانه عارية غير مستقرّ كما جاء في تفسير الإمام الصّادق عليه السلام لقوله تعالى ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾1، وإذا كان الإيمان هبة إلهيّة، فهل يعني هذا أنّه لا دور للتكسّب فيه؟ أسئلة عديدة تنتظر إجابات واضحة من تعاليم الإمام الخمينيّ قدس سره ومدرسته الأخلاقيّة العميقة.
يقول الإمام قدس سره: "إن أصول الإيمان وأركانه ــ التي هي عبارة عن معرفة الله والتّوحيد والولاية، والإيمان بالرّسل وبيوم المعاد والملائكة والكتب السّماويّة: هي من الأمور الفطريّة غير أنّ بعضها أصليّ مثل معرفة الله والتوحيد، وبعضها الآخر فرعيّ"2. وفيما يلي نذكر أهم الأصول والقواعد التي يذكرها الإمام الخميني قدس سره لبناء إيمان قوي في النفس لا يتزلزل ولا يعتوره الشك والشبهات، ثم نتحدث عن العوامل السلبية التي تحبط الإيمان وتؤدي إلى إضعافه في النفس.
1 سورة الأنعام، الآية 98.
2 جنود العقل والجهل، ص 102.
61
37
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
عوامل قوة الإيمان
1- التفكّر والرياضة العقلية
إنّ كون الإيمان فيضًا غيبيًّا لا يعني أنّه سيستقرّ بمجرّد نزوله في قلب الإنسان. فبعض القلوب تكون متزلزلة مهتزّة إلى الدّرجة التي تمنع استقرار أيّ خير فيها. والبعض الآخر يكون منكوسًا بحيث يكون أعلاه أسفله وأسفله أعلاه (كالوعاء المقلوب) لا يستقبل شيئًا من فيوضات الملكوت الأعلى. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ القلب إمّا أن يكون مؤمنًا بكلّ ما جاء به النّبيّصلى الله عليه وآله وسلم أو لا! وإمّا أن يظهر إيمانه أو لا! وعلى الأوّل، إمّا أن يستقرّ فيه الإيمان من دون تزلزل أو يؤمن حينًا ويتراجع حينًا آخر رغم إفصاحه عن الإيمان أيضًا"1.
ولهذا، فإنّ قضيّة تحصيل الإيمان ترتبط بالدّرجة الأولى في أحوال القلب من حيث التّوجّه والثّبات وقوّة التّحمّل. وذلك لأنّ المزيد من الإيمان يحتاج إلى قلب قويّ. وعلينا أن نعرف أنّ قوّة القلب ترتبط كذلك بقوّة النّفس، لأنّ النّفس بمنزلة القواعد والأسس التي يرتكز عليها القلب.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم، أنّ الإيمان بالمعارف الإلهيّة وأصول العقائد الحقّة لا يتحقّق إلاّ بما يلي: أن يفهم المرء أوّلاً تلك الحقائق بوسيلة التفكّر والرياضات العقليّة، والآيات والبيانات والبراهين العقليّة، وهذه المرحلة هي بمثابة مقدّمة الإيمان.
وبعد أن يستوفي العقل نصيبه منها، لا ينبغي أن يقنع بها، لأنّ هذا المقدار من المعارف محدودٌ جدًّا، وقلّما تحصل منه النورانية، لذا يجب أن يشتغل السّالك إلى الله بالرّياضات القلبيّة لكي يوصل هذه الحقائق ـ بأيّ رياضة مناسبة ـ إلى القلب فينعقد عليها. وهنا تتمايز مراتب الإيمان، ولعلّ هذا هو معنى الحديث الشّريف: "العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء"، لأنّ العلم بالله هو نورٌ ما دام في دائرة القلب، وبعد الرّياضات القلبيّة يقذفه الله تعالى في القلوب المناسبة فتنعقد عليه القلوب. فمثلًا إنّ حقيقة التّوحيد ـ وهي أصل أصول المعارف ومنها تتفرّع معظم الفروع الإيمانيّة، والمعارف الإلهيّة، والصّفات الرّوحيّة الكاملة، والصّفات القلبيّة النورانيّة ـ لا تثمر أيًّا من هذه الفروع، ولا توصل الإنسان إلى أيٍّ من تلك
1 الأربعون حديثًا، ص 557.
62
38
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
الحقائق ما دامت في دائرة الإدراك العقليّ المجرّد. فالتّوكّل على الله تعالى هو أحد فروع التّوحيد والإيمان، وأركان (النّظرية) كاملة عند أغلبنا يوجدها فينا البرهان العقليّ أو ما يشبهه، لكنّ حقيقة التّوحيد (في التوكّل) مفقودة عندنا رغم ذلك"1.
وهذا دستورٌ جامعٌ من الإمام قدس سره يبيّن كيفيّة استجلاب نور الإيمان بالتّوجّه إلى آيات الله في العالم وانتزاع الحقائق منها بقوّة التفكّر. وبالتفكّر يزدهر العلم في القلب وتحصل اليقظة، وبالتّلقين تتبدّل الحقائق المكتسبة إلى ذكر، فيعمر القلب بالإيمان.
لقد ذكر الإمام أنّ جميع موجودات العالم هي من أجل دفع الإنسان نحو الإيمان والكمال: "فجميع موجودات عوالم الغيب والشّهادة مخلوقة لإيصال هذا الموجود الشّريف إلى مقامه، وقد ورد في الأحاديث القدسيّة: "يا بن آدم! خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي"، نقول: إذا عرف المؤمن ذلك، وعرف كيف يستفيد من المخلوقات في إصلاح نفسه وإيصالها إلى الكمال اللائق بها، وأدرك أنّ الحقّ جلّ وعلا هو العالم بكيفيّة تسخير المخلوقات في إصلاحه... وإذا بلغ الإيمان بذلك مرتبة الطّمأنينة والاطمئنان، زال التّزلزل والاضطراب بصورة كاملة، وسكن القلب إلى الحقّ تعالى وإلى تصرّفه وإلى تصرّفه فيه ما دام الإنسان في هذه الحدود فهو واقع في مقام الكثرة، يرى لغير الحقّ تعالى تأثيراً في الأمور، إذا عبر هذا المقام شاهد بنور المعرفة قبسٌ من تجلّيات التّوحيد في الأفعال، وأسقط تأثير الموجودات الأخرى، وعميت عينه بالكامل عنها وتنوّرت بالتوكّل على الحق جلّ علا"2.
ويقول قدس سره أيضًا: "فالإيمان بأمثال هذه الحقائق لا يحرز إلّا بالمجاهدة والتفكّر والتّلقين"3.
فالمجاهدة تشير إلى ضرورة بذل الجهد الكبير، والتّفكّر عبارة عن وسيلة تبديل المعطيات الخارجيّة التي يصطدم بها الإنسان نتيجة توجّهه إلى حقائق ثابتة قابلة للتّرسيخ، أمّا التّلقين فهو وسيلة التذكّر.
1 جنود العقل والجهل، ص 93-94.
2 (م.ن)، ص 200-201.
3 وصايا عرفانيّة، ص 26.
63
39
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
ويقول قدس سره: "إنّ البرهان يقول لنا "لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله" وهذا أحد معاني لا إله إلا الله، وببركة هذا البرهان نقطع يد تصرّف الموجودات عن ساحة كبرياء الوجود ونرجع ملكوت العوالم ومُلكها إلى صاحبها، ونظهر حقيقة ﴿لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾، و﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾. ولكن ما لم يصل هذا المطلب البرهانيّ إلى القلب ويصبح صورة باطنيّة للقلب، فلا ننتقل من حدّ العلم إلى حدّ الايمان، ولا يكون لنا من نور الإيمان الذي ينوّر مملكة الباطن والظّاهر سهم ونصيب. فلهذا، مع وجود البرهان على هذا المطلب الإلهيّ الشّامخ، فنحن واقعون في التّكثير وليس عندنا خبر من التّوحيد الذي هو قرّة عين أهل الله، ندقّ طبل لا مؤثّر في الوجود إلّا الله، ومع ذلك نمدّ عين الطّمع ويد الطّلب إلى من هو أهل وغير أهل"1.
وفي شرحه لحديث جنود العقل والجهل يشير الإمام قدس سره إلى دور المعارف الإلهيّة في الإيمان قائلًا: "وفي ذلك فتح لأبواب المعارف الإلهيّة التي هي مصدر الإيمان"2. فالإيمان لا ينمو ولا يتغّذّى إلّا بماء العلم النّافع. ولا علم أنفع للإنسان وآخرته سوى معرفة الله وشؤونه وتجلّياته.
2- إخلاص النيّة
وفي كلّ مجاهدة ما لم تكن النيّة حاضرة في صفائها وخلوصها، فلن يحصل التّوفيق. فكيف إذا كان الأمر مرتبطًا بالإيمان. ولهذا، يقول الإمامقدس سره: "إنّ إيماننا ناقصٌ، ولم تخرج أدلّتنا العقليّة من نطاق العقل لتصل إلى حدود القلب. ليس الإيمان بالقول والسّماع والمطالعة والمباحثة والنّقاش فحسب وإنّما يتطلّب أيضًا خلوص النيّة. إنّ الباحث عن اللّه يجده لا محالة، والذي يطلب المعارف يبحث عنها، ﴿وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾3. ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾4"5.
1 معراج السالكين، ص 104-105.
2 جنود العقل والجهل، ص 292.
3 سورة الإسراء، الآية 72.
4 سورة النور، الآية 40.
5 الأربعون حديثًا، ص 139-140.
64
40
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
3- حبّ عليّ والولاية
"إنّ حبّ الإمام عليّ عليه السلام يبعث على نورٍ وإيمان يجنّبان صاحبهما عن الآثام، ويدفعانه إلى التّوبة والإنابة إذا ابتُلي بالمعصية من دون أن يفسح المجال أمامه للتمادي في الغيّ والعصيان"1.
"لأنّ الإيمان لا يحصل إلاّ بواسطة ولاية عليّ وأوصيائه من المعصومين الطاهرين عليهم السلام، بل لا يُقبل الإيمان بالله ورسوله من دون الولاية"2.
و"بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام: قال "ذِرْوَةُ الأَمْرِ وَسَنامُهُ وَمِفْتاحُهُ وَبابُ الأشْياءِ وَرِضَى الرَّحْمنِ الطّاعَةُ لِلإمامِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ... أما لَوْ أنِّ رَجُلاً قامَ لَيْلَهُ وَصامَ نَهارَهُ وَتَصَدَّقَ بِجَمِيعَ مالِهِ وَحَجَّ جَميعَ دَهْرِهِ وَلَمْ يَعْرِفْ وِلايَةَ وَلِيِّ اللهِ فَيُوالِيَهُ وَتَكُونُ جَميعُ أعْمالِهِ بِدَلالَتِهِ إلَيْهِ، ما كانَ له عَلَى اللهِ حقٌّ في ثَوابِهِ وَلا كانَ مِنْ أهْلِ الإيْمانِ". ولاية أهل البيت عليهم السلام شرط في قبول الأعمال عند الله سبحانه، بل هو شرط في قبول الإيمان بالله والنبي الأكرم"3.
4- محاسبة النّفسك
"إذا خصّص (الإنسان) عدّة دقائق في اليوم والليلة ـ بحسب إقبال قلبه وتوجّهه، أي بحسب مقدار حضور قلبه ـ لمحاسبة النّفس على مقدار سعيها في اكتساب نور الإيمان، ومطالبتها بهذا النور والبحث عن آثار الإيمان فيها، فإنّ ذلك سيؤثّر في حصوله على النتائج بصورة أسرع إن شاء الله"4.
5- الزّهد في الدّنيا
"بإستناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "سمعته يقول: جُعل الخير كلّه في بيت، وجُعل مفتاحه الزّهد في الدنيا. ثمّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجد الرّجل حلاوة الإيمان حتّى لا يبالي من أكل الدنيا. ثم قال أبو عبد الله عليه لاسلام: حرامٌ على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتّى تزهد في الدّنيا"5.
1 الأربعون حديثًا، ص 605.
2 (م.ن)، ص 607.
3 (م.ن)، ص 608-609.
4 جنود العقل والجهل، ص 110.
5 (م.ن)، ص 282.
65
41
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
6- كظم الغيظ
عن الباقر عليه السلام قال: "من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه، حشا الله قلبهُ أمناً وإيماناً يوم القيامة"1.
ولا شكّ بأنّ هذه التّوصيات هي غيض من فيض مجموعة كبيرة من الأمور التي تساهم في توسعة القلب وتوجيهه لينال فيض الإيمان، مثلما أنّها تساهم في تثبيته ومنع تزلزله بواسطة ثقل الحقائق. كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الحقّ ثقيلٌ مريء والباطل خفيف وبيء"2.
في الخلاصة يقول الإمام قدس سره: "بعد أن اتّضح أنّ الإيمان غير العلم، وأنّ ما لدينا من المعارف وحقائق توحيد الله وأسمائه وصفاته هو من العلم الذي يدخل قلوبنا، ما لم يدخل العلم بها إلى القلب فيؤمن بها، يبقى أثرها ضعيفاً. بعد اتّضاح ذلك يجب على الإنسان أن يجتهد في السّعي لاكتساب الإيمان، فلو خرجنا من هذا العالم ـ وهو دار التغيّر والتبدّل، الذي يمكن فيه تغيير جميع الملكات والأوصاف والأحوال القلبيّة ـ دون أن نكتسب الإيمان، فسيورثنا ذلك خسارات شديدة، بل سنقع في الخسران العظيم وسيكون نصيبنا النّدم الذي لا حدّ له، إذ أنّ من المحال في العالم الآخر تغيير أيّ حال من أحوال النّفس، فلا يمكن هناك اكتساب الإيمان الذي لم يكتسبه هنا"3.
عوامل إضعاف الإيمان
تبيّن لنا من الكثير من الشّواهد السّابقة أنّ العامل الأساس لضعف الإيمان واضمحلال نوره في القلب هو الابتعاد عن أسبابه الموجبة لتحصيله أو حصوله كالعلم والتفكّر والتذكّر. وفي المقابل هناك أسباب تؤدّي إلى محقّ الإيمان وإضعافه وتزلزله نقتبس من كلمات الإمام قدس سره بعض ما يشير إليها:
1 جنود العقل والجهل، ص 379.
2 نهج البلاغة، ص 542.
3 جنود العقل والجهل، ص 107
66
42
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
1- عشرة السّوء
"يجب على الشّباب حتّى إذا كانت قلوبهم مطمئنّة بالإيمان، أن ينتبهوا إلى كيفيّة تفاعلهم وعِشرتهم مع الآخرين، ويتورّعوا عن الاختلاط مع السيّئين. بل إنّ الصّداقة والاختلاط مع العصاة وذوي الخُلُق الفاسد والسّلوك المنحرف مسيء لجميع الناس من أيّ طبقة كانوا، ويجب أن لا يكون أحدٌ مطمئناً بنفسه ومغروراً بإيمانه أو أخلاقه وأعماله. كما ورد في الأحاديث الشريفة الأمر بالابتعاد عن معاشرة أهل المعصية"1.
2- المعاصي
"جاء في حديث آخر في الكافي الشريف: "فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغار المعاصي التي نهى الله عزّ وجل عنها، كان خارجًا من الإيمان ساقطًا عنه اسم الإيمان وثابتًا عليه اسم الإسلام، فإن تاب واستغفر عاد إلى دار الإيمان"2.
3- الغفلة
"مسكين هو الإنسان الغافل! إنّه يولي الأمور الدّنيوية الفانية كل هذا الاهتمام... وهو يرى كلّ يوم أنّ أهلها يتركونها ويرحلون، ولا يأخذون معهم سوى الحسرات، لكنّه رغم ذلك يتهاون إلى هذه الدّرجة في اكتساب الإيمان الذي يتكفّل بتحقيق السّعادة الأبدية له، فيبقى على تهاونه وتساهله في هذا الأمر رغم كلّ مواعظ الأنبياء والأولياء والكتب السّماويّة، فلا يفكّر في يوم مصابه وذلّته وعذابه، ولا تؤثّر في قلبه القاسي كلّ مواعظ القرآن ووعده ووعيده التي تليّن الصخرة الصماء، وتخشع لها جبال العالم، أجل، يقول تعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾3"4.
1 الأربعون حديثًا، ص 535.
2 جنود العقل والجهل، ص 100-101.
3 سورة الحشر، الآية 21.
4 جنود العقل والجهل، ص 111-112.
67
43
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
4- الغضب
"في الوسائل عن الكافي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل". وفي المستدرك عن الجعفريّات بإسناده عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل وكما يفسد الخل العسل". وينبغي أن نعرف نحن المساكين المبتلين بغلاف الطّبيعة وبالحجب الظّلمانيّة للحياة الدنيويّة الوضيعة، المحجوبين والجاهلين بالغيب وبملكوت النّفس وما يضرّها ويفسدها وما يصلحها وما يهلكها أنّنا لا ندرك كيف يزيل الغضب نور الإيمان ويفسد حقيقته، ولا نرى بنور البصيرة هذا التضادّ بين حقيقة الإيمان والغضب في غير موارده المطلوبة، وقد بعث الحقّ تعالى أطبّاء النّفوس والقلوب، العارفين بالعلم الإلهيّ المحيط وبنور البصيرة النافذة في بواطن الملك والملكوت بالأمراض القلبيّة وأدويتها ومصلحات القلوب ومفسداتها، بعثهم من أجل إيقاظنا بكشف الحقائق وإظهار البواطن، فهم يخبروننا بما في بواطن قلوبنا ويكشفون لنا ملكوت نفوسنا، وهم يعرفون أنّ نار الغضب وثائرته تطفئ نور الإيمان وتفسده مثلما يفسد الخل والصبر العسل بسرعة، وتحول حلاوته اللطيفة إلى مرارة وحموضة لا تُستساغ"1.
5- اتّباع الشّهوات
"إذا جاء ملك الموت ونحن لا نزال عبيد الشّهوات وأسارى قيود أهواء النّفس المتشعّبة ـ والعياذ بالله ـ لكان من الممكن للشّيطان أن يسرق إيماننا الذي هو غايته القصوى وأن يحتال ويتراءى أمام قلبنا بصورة نخرج من الدّنيا ونحن أعداء الحقّ المتعالي والأنبياء والأولياء"2.
6- الحسد
"الحسد، آفة الإيمان التي تأكله، كما تأكل النار الحطب. ويكفي في شناعة هذه الرّذيلة هو أنّ الحسد يقضي على الإيمان الذي يعدّ وسيلة النّجاة في الآخرة، وباعثًا لحياة القلوب، ويجعل الإنسان مفلسًا ومسكينًا"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 228-229.
2 الأربعون حديثًا، ص 293.
3 (م.ن)، ص 135.
68
44
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
7. الغيبة
"اعلم أنّ حرمة الغيبة محلّ اتفاق إجمالاً، بل تُعدّ من ضروريّات الفقه ومن المعاصي الكبيرة والموبقات المهلكة... واللازم في هذا المقام التّنبيه على فساد هذه السيّئة الموبقة وعلى مضاعفاتها، حتّى نبتعد عنها ولا نُبتلى بها إن شاء الله أو إذا ابتُلينا ـ لا سمح الله ـ لتراجعنا وتُبنا، واستأصلنا مادّة الفساد، ولا نفسح المجال للرّحيل من هذا العالم مع هذا الدّنس والابتلاء بهذه المعصية الكبيرة الماحقة للإيمان"1.
8- المفاسد الأخلاقية
"ويستفاد من الأحاديث أنّ ضعف الإيمان وعدم خلوصه كما يسبّب فسادًا في الأخلاق وانحرافًا في الأعمال، كذلك توجب المفاسد الأخلاقيّة نقصًا في الإيمان بل زواله"2.
9- المراء والجدال
"فلمّا علمنا أنّ لهذه الصفة ـ المراء والجدال ـ مساوئ عظيمة، وأنّ كلّ واحدة منها توجب الموبقات والمهلكات، وجب إنقاذ أنفسنا بالتّرويض والجهد، من هذه الخصلة المشينة، والرذيلة المفسدة للقلب، المدمّرة للإيمان"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 336.
2 (م.ن)، ص 340.
3 (م.ن)، ص 408.
69
45
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
المفاهيم الرئيسة
1- الإيمان فيض إلهيّ وخلعة ربّانيّة غيبيّة يفيض بها على المخلصين من عباده والخاصّة في محفل أنسه. وكون الإيمان فيضًا غيبيًّا لا يعني أنّه سيستقرّ بمجرّد نزوله في قلب الإنسان. فبعض القلوب تكون متزلزلة مهتزّة. والبعض الآخر يكون منكوسًا.
2- إنّ قضيّة تحصيل الإيمان ترتبط بالدّرجة الأولى في أحوال القلب من حيث التّوجّه والثّبات وقوّة التّحمّل، وذلك لأنّ المزيد من الإيمان يحتاج إلى قلبٍ قويّ. وقوّة القلب ترتبط كذلك بقوّة النّفس.
3- الإيمان لا ينمو ولا يتغّذّى إلّا بماء العلم النّافع. ولا علم أنفع للإنسان وآخرته سوى معرفة الله وشؤونه وتجلّياته.
4- بالتفكّر يزدهر العلم في القلب وتحصل اليقظة، وبالتّلقين تتبدّل الحقائق المكتسبة إلى ذكر، فيعمر القلب بالإيمان.
5- يُستجلب نور الإيمان بالتّوجّه إلى آيات الله في العالم وانتزاع الحقائق منها بقوّة التفكّر، فجميع موجودات العالم هي من أجل دفع الإنسان نحو الإيمان والكمال.
6- من العوامل التي تساعد على اكتساب الإيمان أيضًا: حبّ الإمام عليّ عليه السلام ومحاسبة النفس وكظم الغيظ والزهد في الدنيا. وإخلاص النيّة.
7- العامل الأساس لضعف الإيمان واضمحلال نوره في القلب هو الابتعاد عن أسبابه الموجبة لتحصيله أو حصوله كالعلم والتفكّر والتذكّر.
8- ما يؤدّي إلى محق الإيمان وتزلزله: عشرة السّوء، المعاصي، الغفلة، الغضب، اتّباع الشّهوات، الحسد، الغيبة، المفاسد الأخلاقية، والمراء والجدال.
9- يجب الحرص على تعميق الإيمان في الظاهر والباطن والسّر والعلن، حتى يتجذّر الإيمان في القلب ولا يزول أمام أي عائق ومانع أو أي تغيير وتبديل.
70
46
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِلَهِي أَتُرَاكَ بَعْدَ الإِيمَانِ بِكَ تُعَذِّبُنِي أَمْ بَعْدَ حُبِّي إِيَّاكَ تُبَعِّدُنِي أَمْ مَعَ رَجَائِي لِرَحْمَتِكَ وَصَفْحِكَ تَحْرِمُنِي أَمْ مَعَ اسْتِجَارَتِي بِعَفْوِكَ تُسْلِمُنِي حَاشَا لِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ أَنْ تُخَيِّبَنِي لَيْتَ شِعْرِي أَلِلشَّقَاءِ وَلَدَتْنِي أُمِّي أَمْ لِلْعَنَاءِ رَبَّتْنِي فَلَيْتَهَا لَمْ تَلِدْنِي وَلَمْ تُرَبِّنِي وَلَيْتَنِي عَلِمْتُ أَمِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ جَعَلْتَنِي وَبِقُرْبِكَ وَجِوَارِكَ خَصَصْتَنِي فَتَقَّرُ بِذَلِكَ عَيْنِي وتَطْمَئِّنُ لَهُ نَفْسِي"1.
الروايات الشريفة:
1- قَالَ الصَّادِقُ عليه السلام: "الْخَشْيَةُ مِيرَاثُ الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ شُعَاعُ الْمَعْرِفَةِ وَقَلْبُ الْإِيمَانِ"2.
2- و قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "نحن معاشر الأنبياء والأمناء والأتقياء برآء من التكلف، فاتق الله واستقم يغنك عن التكلف ويطبعك بطباع الايمان، ولا تشتغل بلباس آخره البلاء وطعام آخره الخلاء ودار آخرها الخراب ومال آخره الميراث وإخوان آخرهم الفراق وعز آخره الذلّ ووقار آخره الجفاء وعيش آخره الحسرة"3.
3- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: يَا بُنَيَّ اعْرِفْ مَنَازِلَ الشِّيعَةِ عَلَى قَدْرِ رِوَايَتِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ هِيَ الدِّرَايَةُ لِلرِّوَايَةِ وَبِالدِّرَايَاتِ لِلرِّوَايَاتِ يَعْلُو الْمُؤْمِنُ إِلَى أَقْصَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ، إِنِّي نَظَرْتُ فِي كِتَابٍ لِعَلِيٍّ عليه السلام فَوَجَدْتُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ قِيمَةَ كُلِّ امْرِئٍ وَقَدْرَهُ مَعْرِفَتُهُ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحَاسِبُ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ مَا آتَاهُمْ مِنَ الْعُقُولِ فِي دَارِ الدُّنْيَا"4.
4- قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ أَوْثَقُ؟ فَقَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ: قُولُوا، فَقَالُوا: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ الصَّلَاةُ، فَقَالَ: إِنَّ لِلصَّلَاةِ فَضْلًا وَلَكِنْ لَيْسَ بِالصَّلَاةِ، قَالُوا: الزَّكَاةُ، قَالَ: إِنَّ لِلزَّكَاةِ فَضْلًا وَلَيْسَ بِالزَّكَاةِ، فَقَالُوا: صَوْمُ شَهْرِ
1 الصحيفة السجادية، مناجاة الخائفين.
2 مصباح الشريعة، ص 20.
3 (م.ن)، ص 140.
4 بحار الأنوار، ج1، ص 106.
71
47
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
رَمَضَانَ، فَقَالَ: إِنَّ لِرَمَضَانَ فَضْلًا وَلَيْسَ بِرَمَضَانَ، قَالُوا: فَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، قَالَ: إِنَّ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَضْلًا وَلَيْسَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، قَالُوا: فَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَالَ: إِنَّ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ فَضْلًا وَلَيْسَ بِالْجِهَاد،ِ قَالُوا: فَاللهُ وَرَسُولُهُ وابْنُ رَسُولِهِ أَعْلَمُ، فَقَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللهِ وَالْبُغْضُ فِي اللهِ تَوَالِي وَلِيِّ اللهِ وَتَعَادِي عَدُوِّ اللَّهِ"1.
5- أَقْبَلَ عَلِيٌّ عليه السلام عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الصَّحَابَةِ! وَاللهِ مَا تَقَدَّمْتُ عَلَى أَمْرٍ إِلَّا مَا عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَطُوبَى لِمَنْ رَسَخَ حُبُّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فِي قَلْبِهِ لِيَكُونَ الْإِيمَانُ أَثْبَتَ فِي قَلْبِهِ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ فِي مَكَانِه"2.
6- وَرُوِيَ أَنَّ جَبْرَائِيلَ نَزَلَ إِلَى آدَمَ عليه السلام بِالْحَيَاءِ وَالْعَقْلِ وَالْإِيمَانِ فَقَالَ: "رَبُّكَ يَقُولُ لَكَ تَخَيَّرْ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ وَاحِداً فَاخْتَارَ الْعَقْلَ، فَقَالَ جَبْرَائِيلُ لِلْإِيمَانِ وَالْحَيَاءِ ارْحَلَا، فَقَالا أُمِرْنَا أَنْ لَا نُفَارِقَ الْعَقْلَ"3.
7- قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "تَفَضَّلْ عَلَى مَنْ شِئْتَ فَأَنْتَ أَمِيرُهُ وَاسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ فَأَنْتَ نَظِيرُهُ وَافْتَقِرْ إِلَى مَنْ شِئْتَ فَأَنْتَ أَسِيرُهُ، وَالطَّامِعُ مَنْزُوعٌ عَنْهُ الْإِيمَانُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَحْجُزُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الطَّمَعِ فِي الْخَلْقِ فَيَقُولُ يَا صَاحِبِي خَزَائِنُ اللهِ تَعَالَى مَمْلُوَّةٌ مِنَ الْكَرَامَاتِ وَهُوَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا وَمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ مَشُوبٌ بِالْعِلَلِ وَيَرُدُّهُ إِلَى التَّوَكُّلِ وَالْقَنَاعَةِ وَقَصْرِ الْأَمَلِ وَلُزُومِ الطَّاعَةِ وَالْيَأْسِ مِنَ الْخَلْقِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَزِمَهُ فَقَدْ صَلَحَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ تَرَكَهُ مَعَ شُؤْمِ الطَّبْعِ وَفَارَقَه"4.
8- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لاَ يَصْدُقُ إِيمَانُ عَبْد، حَتّى يَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللهِ سُبْحَانَهُ أَوْثَقَ مِنهُ بِمَا فِي يَدِهِ"5.
1 الكافي، ج2، ص 125.
2 بحار الأنوار، ج39، ص 352.
3 إرشاد القلوب، ص 111.
4 مصباح الشريعة، ص 105.
5 نهج البلاغة، ص 529.
72
48
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن ماهيّة العلم الحقيقيّ الذي تعشقه الفطرة.
2- يتعرّف إلى أهميّة العلم ودوره في نيل المقامات المعنويّة.
3- يبيّن دور الإخلاص وتطهير النّفس في نيل العلم.
73
49
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
تمهيد
قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾1.
إنّ علاقة الإنسان بالعلم تكشف عن حاله وموقعه على طريق التّكامل والتّسافل. فإذا كان التّكامل تعبيرًا عن حبّ الله تعالى يكون حاله كما جاء في الحديث: "إِذَا أَراد اللهُ بعَبْد خيراً فَقَّهَهُ فِي الدِّين وألهمه اليقين"2، والفقه هو الفهم والتعلّم الواعي. وإذا كان سالكًا سبيل التّسافل، فإنّه يكون من المطرودين وهو الذي ينطبق عليه قول الإمام عليّ عليه السلام: "إِذَا أَرْذَلَ اللهُ عَبْداً حَظَرَ عَلَيْهِ الْعِلْمَ"3.
فحبّ العلم والتعلّم مؤشّرٌ واضحٌ على الحياة المعنويّة الحقيقيّة. وفي المقابل، إنّ النّفور من العلم أو الحرمان منه أو الإعراض عنه لغيره (مهما كان هذا الغير) هو من علائم الشّقاء.
بدايةً لا بدّ أن نميّز بين العلم كمصطلح ورد في النّصوص الدّينيّة والعلم الذي يُستخدم اليوم بمعنى منهجيّة البحث عن الواقع والحقيقة والذي يُجمع تحت العلوم. فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق: "العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء"4. والإمام الخمينيّ قدس سره يقدّم لنا مجموعة من الملاحظات المهمّة حول حقيقة العلم وماهيّته تساعدنا في تلمّس درب الهداية وسط صخب وضوضاء العلوم.
1 سورة فاطر، الآية 28.
2 مستدرك الوسائل، ج11، ص 200.
3 نهج البلاغة، ص 526.
4 مصباح الشّريعة، ص 16.
75
50
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
حقيقة العلم
1- العلم من جنود العقل
"اعلم، أنّ العلم والجهل اللذين عُدّا في هذا الموضع من الحديث الشّريف من جنود العقل والجهل، وهما غير العقل والجهل نفسيهما... فشأن العقل العلمُ، لأنّ العقل حقيقةُ مجرّدةٌ غير محجوبة، وهي متّصلة بالبرهان، لذا فهي حقيقةٌ عاقلة عالمة"1.
ولكي لا نحصر العقل بالبرهان، يقول الإمام قدس سره: "ويجدر التنبُّه إلى أنّ المقصود الأصليّ ليس العلم بالله برهانيًّا، بل المعيار في الكمال هو معرفة الله التي تكون أعلى مراتبها مرتبة الفناء المطلق فيه، وهي المرتبة التي تعني رفض التّعيّنات ونفض غبار الأنانيّة والإنيّة. رزقنا الله وجميع المؤمنين ذلك"2.
2- العلم الحقيقي آية
"اعلم أنّ كثيرًا من العلوم تندرج على تقدير في قسم من الأقسام الثلاثة التي ذكرها رسول الله3، وعلى تقدير آخر في قسم آخر. مثلاً: إنّ علم الطّبّ والتّشريح والنّجوم والأفلاك وما يضاهيها، إذا جعلناها آية وعلامة، وكذلك علم التاريخ وأمثاله، إذا ألقينا عليه نظرة اعتبار واتّعاظ، اندرج جميعها في (الآية المحكمة)، لأنّه يحصل بواسطتها العلم بالله أو بالمعاد، أو يتأكّد العلم بالله وبالمعاد وقد يندرج تحصيلها في (الفريضة العادلة) وقد يندرج تحت (السنّة القائمة). وأمّا إذا كانت دراسة هذه العلوم، لأجل ذاتها أو لأجل أهداف أخرى، فلو شغلتنا عن علوم الآخرة، لأصبحت مذمومة بالعرض، لأنّها صرفت النّاس عن الآخرة، وإن لم تشغلنا عن علوم الآخرة فليس فيها ضررٌ أو نفع، كما قال رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم. فالعلوم بصورة كليّة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 جنود العقل والجهل، ص 238-239.
2 (م.ن)، ص 242.
3 عن أبي الحسنِ موسى عليه السلام قالَ: "دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم الْمَسْجِدَ فَإِذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أَطَافُوا بِرَجُلٍ، فَقَالَ: مَا هذَا؟ فَقيلَ: عَلاَّمَةٌ، فَقَالَ: وَمَا الْعَلاَّمَةُ؟ فَقَالُوا لَهُ: أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَنْسَابِ العَرَبِ وَوَقَائِعِهَا وَأَيّامِ الجَاهِلِيَّةِ وَالأَشْعَارِ العَرَبِيَّةِ، قَالِ: فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: ذاكَ عِلْمٌ لاَ يَضُرُّ مَنْ جَهِلَهُ وَلاَ يَنْفَعُ مَنْ عَلِمَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: إنَّما العِلْمُ ثَلاَثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، وَمَا خَلاهُنَّ فَهُو فَضْلٌ" الكافي، ج1، ص32.
76
51
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
الأوّل: ما كان نافعًا للإنسان حسب أحواله في النّشآت الأخرى التي يعتبر الوصول إليها غاية التّكوين والكائنات. وهذا القسم هو الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علمًا، وقسّمه إلى الأقسام الثّلاثة التي وردت في الحديث الشّريف.
الثّاني: ما يضرّ بالإنسان ويصرفه عن وظائفه اللازمة. ويكون هذا القسم من العلوم المذمومة التي يجب على الإنسان أن لا يقترب منها مثل علم السّحر، والشّعوذة وأمثالهما...
الثالث: ما لا يوجد فيها ضرر ولا نفع، فيهدر الإنسان وقته عليها للتسلّي والتلهّي، مثل علم الموسيقى وعلم الأنساب والحساب والهندسة والأفلاك وأمثال ذلك. ولو استطاع الإنسان أن يُدخل هذا النّوع من العلم تحت واحد من العلوم الثّلاثة لكان أفضل. وإن لم يتمكّن من ذلك، فعدم الاشتغال يكون حسنًا. لأن الإنسان العاقل عندما عرف بأنّه مع هذا العمر القصير، والوقت القليل، والحوادث الكثيرة، لا يستطيع أن يكون جامعًا لكلّ العلوم وحائزًا على جميع الفضائل، فلابدّ له من التّفكير والتأمّل في العلوم، واختيار ما يكون له أنفع، والانصراف إليه، وتكميله. ومن العلوم ما هو أنفع من كلّ العلوم وأهمّها بالنّسّبة إلى حياته الأبديّة الخالدة هو العلم الذي أمر به الأنبياء عليهم السلام والأولياء، وحثّوا النّاس على تعلّمه، وهو هذه العلوم الثلاثة التي ذكرناها"1.
3- العلم الذي تعشقه الفطرة
"هناك اختلاف بين بني الإنسان في تشخيص مصاديق العلم، وهذا الاختلاف ناتجٌ من احتجاب الفطرة التي تحبُّ في الواقع العلم المطلق، ولكن يجب التنبُّه إلى أنّ العلم الذي تعشقه الفطرة ليس هو العلم المعروف عند العامّة والذي يعني العلم بالمفاهيم والعناوين والعلم الارتسامي، فهذه العلوم ناقصة من جهات عدّة وإن كان فيها ـ في أحد أبعادها ـ العلم الحقيقيّ، وكل ما فيه نقص هو خارج عن دائرة العشق الفطريّ، من هنا فإنّ جميع العلوم الجزئيّة والعلوم الكلّية المفهوميّة حتّى العلم (المفهوميّ) بالله وشؤونه الذاتيّة والصّفاتيّة
1 الأربعون حديثًا، ص 429-430.
77
52
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
والأفعاليّة، ليست هي العلم الذي تعشقه الفطرة السّليمة، بل إنّ ما تعشقه هو المعرفة على نحو المشاهدة الحضوريّة، وهذه المعرفة تحصل برفع الحجب، والحجب كافّة من النّقص والعدم، ولا تصل الفطرة إلى معشوقها ومطلوبها إلّا بعد إزاحة هذه الحجب كافّة، الظّلمانيّة منها والنّورانيّة، وعندها يتحقّق للفطرة شهود "كلّ الكمال" وتصل الفطرة إلى محبوبها: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، ﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾، وإليه المرجع والمآب"1.
و"يتَّضح من الرّجوع إلى الفطرة الإنسانيّة أنّ كلّ إنسان عاشقٌ للكمال المطلق... وأنّ الجميع متنفّرون من النّقص، ولأن العلم قرينٌ مساوق للكمال المطلق، فإنّ العشق للكمال عشقٌ للعلم أيضاً، كما أنّ الجهل قرين النّقص ومساوق له، لذا فالجميع متنفّرون منه. يُضاف إلى ذلك أنّ الفطرة تعشقُ العلم بذاته وتكره الجهل بذاته كما هو واضحٌ من الرّجوع إلى الفطرة الإنسانيّة.
... من هنا، ومن الإيضاحات السّابقة أيضًا، يتَّضح أنّ العلم من لوازم الفطرة أي أنّ الفطرة التي لم تحتجب ولم تنغمر في غلاف الطّبيعة متوجّهة إلى المعرفة المطلقة أمّا إذا احتجبت فإنّها تبتعد عن هذه المعرفة بمقدار احتجابها حتّى تصل إلى مرتبة الجهالة المطلقة"2.
4- العلم نور
"اعلم أنّ حقيقة العلم والإيمان الذي يتقوّم بالعلم، عبارة عن النّور، وهذا الموضوع مضافًا إلى أنّه مطابق مع البرهان والعرفان، موافق لنصوص وأخبار أهل العصمة والطّهارة عليهم السلام أيضًا. لأنّ حقيقة النّور التي هي عبارة عن الظّاهر والمكشوف بالذّات، المظهر والكاشف للغير، ثابتة للعلم وصادقة عليه، بل صدق هذه الحقيقة على العلم يكون حقيقيًّا، وعلى الأنوار الحسّيّة، مجازيًّا، لأنّ النّور الحسّيّ، لا ظهور ذاتيّ له في الحقيقة وإنّه من تعيّنات ـ مصاديق ـ تلك الحقيقة، وتكون لها الماهيّة، وأمّا حقيقة العلم، فهي عين الوجود ذاتًا، وغيره مفهومًا، فهو في حاقّ الحقيقة، وعالم الخارج موافق للوجود ومتّحد معه، وتكون حقيقة الوجود عين
1 جنود العقل والجهل، ص 243-244.
2 (م.ن)، ص 243-244.
78
53
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
النّور، وعين العلم ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾1. فالعلم عين النور. وقد عُبّر في الآيات الشّريفة عن الإيمان والعلم بالنور ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾2.
وقد فُسّر (النور) حسب تفسير أهل بيت العصمة عليهم السلام في آية النّور المباركة بالعلم، فَعَنْ الصادِق ـ عليه السلام: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال: كَذلِكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَثَلُ نورِهِ قالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم، كَمِشْكوةِ قالَ: صَدْرُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، فيها مِصْباحٌ، قالَ: فيهِ نورُ الْعِلْم يَعْني النُّبُوَّةَ، الْمِصْبَاحُ في زُجاجَةٍ قالَ: عِلْمُ رَسولِ الله صَدَرَ إلى قَلْبِ عَلِيٍّ ـ وورد في الحديث المعروف: "الْعِلْمُ نورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ في قَلْبِ مَنْ يَشاءُ". ولهذا النور مراتب، حسب مراتب إيمان وعلم ذوي النور"3.
5- العلم مناقض للأهواء
"اعلمْ، أنّ العلم الإلهيّ النّافع أو العمل الصّالح المطلوب هو كلّ علمٍ أو عمل يُبعد الإنسان عن الأهواء النّفسانيّة والصّفات الشّيطانيّة، ويحدّ من طغيان النّفس، والعكس صحيح، فكلّ علمٍ أو عمل يبعث في الإنسان العُجب بالنّفس والطّغيان، أو على الأقل لا يطهرِّه من الصّفات النّفسانيّة والرّذائل الشّيطانيّة، فهو علم أو عمل مصدره الشّيطان والنّفس الأمّارة بالسّوء، فليس مثل هذا العلم علمًا إلهيًّا نافعًا وإن كان يُصنّف اصطلاحًا من المعارف الإلهيّة، وليس مثل هذا العمل صالحًا نافعًا للرّوح وإن كانت الشّروط (الظاهرية) للعمل الصّالح مجتمعةً فيه"4.
6- العلم فيض إلهيّ غيبيّ
"إنّ إلقاء العلوم والمعارف من العوالم الغيبية، ومن نتائج ارتباط النّفس بها ـ وتقبّلها للعلوم ـ كما ورد في الحديث الشريف: "لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ التَّعْلِيمِ بَلْ هُوَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ فِي قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ"، فكلّ نفس ذات ارتباط مع الملكوت الأعلى وعالم الملائكة المقرّبين، تكون الإلقاءات إليها من نوع الفيوضات الملكيّة، والعلوم التي تُفاض عليها هي من العلوم الحقيقيّة ومن عالم الملائكة.
1 سورة النور، الآية 35.
2 سورة النّور، الآية 40.
3 الأربعون حديثًا، ص 453-454.
4 جنود العقل والجهل، ص 306.
79
54
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
وكلّ نفس منشدّة إلى عالم الملكوت السّفليّ، وعالم الجنّ والشّيطان والنّفوس الخبيثة، كانت الإلقاءات إليها شيطانيّة ومن قبيل الجهل المركّب، والحُجب المظلمة.
ومن هذا المنطلق يرى أرباب المعارف ـ العرفاء ـ وأصحاب العلوم الحقيقية أنّ تطهير النّفوس، وإخلاص النيّة، وتصحيح الغايات والأهداف في تحصيل العلم وخاصّة في دراسة المعارف الحقّة والعلوم الشّرعيّة، هو الشّرط الأوّل في ذلك، ويؤكّدونه على المتعلّمين، لأنّه مع تصفية النّفس، وتجليتها، يشتدّ ارتباطها بالمبادئ العالية. وعندما يقول الرّبّ جلّ جلاله في الآية الكريمة ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ﴾ فلأجل أنّ التّقوى تزكّي النّفس وتربطها بعالم الغيب المقدّس ثمّ يكون التّعليم الإلهيّ والإلقاء الرّحمانيّ، لأنّ البخل في المبادئ العالية، محال، وإنّ فيضها يكون واجبًا، إذ إنّ واجب الوجود بالذّات، واجب من جميع الجهات والحيثيّات"1.
فالعلم لا ينحصر في إطار المفاهيم، بل هو كشف الحقيقة بحسب الإدراك الحقيقيّ الذي هو إدراك القلوب بالشّهود. وعلى ضوء هذا التّعريف، ينبغي تمييز مراتب العلم، بعد أن اتّضح الفارق بينه وبين العلم الاصطلاحيّ المرتبط بالعلوم.
أهميّة العلم
ذكر الإمام قدس سره أنّ العلم هو من أعظم الفضائل، وأنّه طريق إلى الجنّة وأنّ لحملته ولادة روحانيّة تنبثق من أبوّة الأنبياء عليهم السلام، وأنّ فضل العالِم على العابد كفضل القمر على النّجوم ليلة البدر، وأنّه من أهم علامات القرب من الحقّ المتعال، وأنّه أهم عنصر في الزّهد والإعراض عن الدّنيا الدنيّة الغرور، ولا يمكن لأحد أن يبلغ المقامات الكماليّة والدّرجات الأخرويّة إلّا به.
وقد استفاد الإمام قدس سره هذه الحقائق من فهمه وغوره في الأحاديث الشّريفة لأهل بيت العصمة عليهم السلام فنهض شارحًا ومفسّرًا لها ليقدّم لنا تراثًا عظيمًا من المعارف الإلهيّة.
1 الأربعون حديثًا، ص 403-404.
80
55
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
1- نورانيّة كلّ إنسان في الآخرة بحسب علمه
"لا بد من معرفة أن هذا النور الحقيقي الموجود في قلوب أهل الإيمان والعلم، لمّا كان من أنوار عالم الآخرة، (فهو) ينير في عالم الآخرة حسب فعالية النفس بالنور الحسّي. وحيث أن هذا النور هو الذي ينير الصراط، يكون نور طائفة مثل نور الشمس وأخرى مثل نور القمر حتى ينتهي الأمر إلى نور يضيء أمام قدميه فقط"1.
2- محل عناية ملائكة الله
"إن طلبة العلم والمعارف، والمتوجّهين إلى الحقّ والحقيقة، والسّالكين لسبيل رضا الله من الأبناء الرّوحانيين لآدم صفيّ الله عليه السلام الذين يكونون مسجودًا للملائكة ومطاعًا لتمام دائرة الوجود، هؤلاء يكونون محل عناية ملائكة الله، ورعايتهم وتأييدهم وإنّ مثل هذا المُلكيّ الذي تحوّل إلى وجوديّ ملكوتيّ، وهذا الأرضيّ الذي أصبح سماويًّا قد وطأت أقدامهم أجنحة الملائكة، فإذا انفتحت عين بصيرته الملكوتيّة والمثاليّة لرأى بأنّه مستقرّ على أجنحة الملائكة، وأنّه يطوي المسافات بفضل تأييداتهم. هذا بالنسبة إلى الذين هاجروا من المُلك إلى الملكوت، وإن كانوا لا يزالوا في الطّريق. وأمّا الذين، لا يزالون يعيشون في عالم الملك، ولم يطرقوا عالم الملكوت، فمن الممكن أن يكونوا محلّ تأييد ولطف الملكوتيين، حيث يفترشون أجنحتهم تواضعًا لهم وابتهاجاً بهم وبأعمالهم. كما أشير إلى ذلك في هذا الحديث الشّريف وفي حديث (غوالي اللئالئ). عن المقداد ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال: "سَمِعْتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: إن الْمَلائِكَة لَتَضَعُ أَجْنِحَتَها لِطالِبِ الْعِلْمِ حَتى يَطَأ عَلَيْها رِضاً بِهِ"... فلمّا لم يكن هذا الكلام معارضاً للبرهان، بل يوافقه، فلا داعي إلى تأويله"2.
3- أفضل عبادة ومقام
"لابدّ وأن نعرف بأنّ العبادة لا تتحقّق من دون علم أيضًا، ومن هنا يكون للعابد نور مخصوص به، بل إنّ نفس الإيمان وعبادة الحقّ المتعالي من سنخ النّور ولكن نور العابد،
1 الأربعون حديثًا، ص 454.
2 (م.ن)، ص 449 - 450.
81
56
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
يضيء لنفسه، وينير تحت أقدامه، ولا ينير للآخرين ولهذا يكون مثلهم مثل النّجوم ليلة البدر، حيث تختفي أنوارها أمام نور القمر ليلة البدر، وإنّما تضيء لنفسها من دون أن تنفع الآخرين وتسطع لهم. فمثل العابد أمام العالم، لا يكون مثل النّجمة في الليل المظلم حتّى ينير قدرًا من المساحة المحيطة بالنّجمة وإنّما يضيء بمثل إضاءة النّجمة ليلة البدر حيث تكون ظاهرة وغير مظهرة لشيءٍ آخر"1.
4- علامة القرب
"اعلمْ، أنّ العلم من أفضل الكمالات وأعظم الفضائل، فهو من أشرف الأسماء الإلهيّة ومن صفات الموجود بما هو موجود، وببركته انتظم نظام الوجود وطراز الغيب والشّهود، وكلّ موجود يكون تحقّقه بحقيقة العلم الشّريفة أقوى، فهو أقربُ إلى المقام المقدّس للحقّ تعالى وإلى المرتبة القدسيّة للواجب جلّ وعلا: بل إنّ العلم مساوقٌ للوجود، فحيثما سطع شعاع الوجود كان معه، وبمقداره شعاع نور العلم، ولذلك، فإنّ الخلوّ التامّ من حقيقة العلم يعني الخلوّ التامّ أيضًا من حقيقة الوجود، والفاقد لهذه الحقيقة هو العدم المطلق. وهذا الأمر قائمٌ على برهان عقليّ رصين، هو برهان "دار الوجود هي دار العلم"، فلا تخلو أيّ ذرّة من الموجودات ـ حتّى الجمادات والنّباتات ـ من العلم، بل إنّ لها نصيبًا من العلم يتناسب مع مقدار نصيبها من حقيقة الوجود"2.
5- الإعراض عن الدّنيا
"قال تعالى شأنه في وصف قارون: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾3. فالذين أنِست قلوبهم بالدّنيا وجعلوها وزينتها مطلوبهم، تفجّرت أمانيّهم وتأسّفوا حسرةً على عدم امتلاكهم لما عند قارون، لمّا رأوه خارجًا في زينته، أمّا الذين أوتوا العلم وتفضّل الله عليهم بالعلم بغيب هذا الظّاهر، لم تؤثّر فيهم زينة الدنيا وقارون، لأنّهم كانوا يطلبون
1 الأربعون حديثًا، ص 455.
2 جنود العقل والجهل، ص 240-241.
3 سورة القصص، الآيات 79 – 80.
82
57
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
ثواب الله، وقد عرفوا أنّ سبيلهم إليه الصّبر عن الزّخارف الدنيويّة"1.
و"لعلّه ما اهتُمّ بشيء في كتاب الله ووصايا الأنبياء والأولياء عليهم السلام وخصوصًا أمير المؤمنين عليه السلام مثلما اهتُمّ بترك الدّنيا والزّهد فيها والإعراض عنها الذي هو من حقائق التّقوى. ولا تحصل هذه المرتبة من التّطهير إلّا بالعلم النّافع والرّياضات القلبيّة القويّة وصرف الهمّة في التفكّر في المبدأ والمعاد وإشغال القلب بالاعتبار في أفول الدّنيا وخرابها وكرامة العوالم الغيبيّة وسعادتها: "رحم الله امرءاً علم من أين وفي أين وإلى أين"2.
6- شرط لبلوغ المقامات المعنويّة
"من دون معرفة الحقّ سبحانه وعبوديّته لا يمكن لأحد من عباده أن يبلغ المقامات الكماليّة والمدارج الأخرويّة ... ولمّا كان كذلك فقد فتح الله تعالى بلطفه الشّامل ورحمته الواسعة بابًا من الرّحمة والرّعاية بالعباد عن طريق تعليمات الوحي الغيبيّة والإلهام، وبوساطة الملائكة والأنبياء. ذلكم هو باب العبادة والمعرفة. فعلّم العباد طرق عبادته، وفتح لهم سبيلًا إلى المعارف لكي يخفّفوا من نقائصهم قدر الإمكان، ويسعوا لنيل الكمالات الممكنة، ويهتدوا بأشعّة نور العبوديّة للوصول إلى عالم كرامة الحقّ، وإلى الرّوح والرّيحان وجنّات النّعيم، بل إلى رضوان الله الأكبر"3.
7- طريق الجنّة
"العلوم في أيّ مستوى كانت: سواء كان علم المعارف أو غيره فهي السّبيل للوصول إلى الجنّة التي تتناسب مع ذلك العلم، وسالك سبيل كلّ علمٍ، سالك لطريق من طرق الجنّة... العلوم بصورة عامّة، طريق إلى العمل، حتّى علوم المعارف إلاّ أنّ الأعمال التي تنجم من علم المعارف، هي أعمال قلبيّة، وجذبات باطنيّة، وتكون نتيجة تلك الأعمال والجذبات وصورها الباطنيّة، صورة جنّة الذّات واللقاء"4.
1 جنود العقل والجهل، ص 279-280.
2 معراج السالكين، ص 103-104.
3 الأربعون حديثًا، ص 260.
4 (م.ن)، ص 446-447.
83
58
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
موعظة
"فويلٌ لك أيّها المسكين المبتلى بحفنة من المفاهيم، والمتشاغل بمجموعة من الاصطلاحات، لقد قضيت عمرك في الانحدار إلى أعماق مستنقع الطبيعة، فابتعدت ــ بوسيلة العلوم والمعارف الحقّة عن الحقّ تعالى! لقد خنتَ المعارفَ إذ اتّخذت الحقّ تعالى والعلم الإلهيّ أداةً لعملك الشّيطانيّ، فاستيقظ قليلًا من نومة الغفلة ولا تثلج صدرك بهذه المفاهيم، ولا تنخدع بمكائد إبليس اللعين، فهو يسوقك إلى الهلكة ويبعدك عن منزل الكرامة الإنسانية وعن قرب الحق تعالى"1.
1 جنود العقل والجهل، ص 308.
84
59
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
المفاهيم الرئيسة
1- إنّ علاقة الإنسان بالعلم تكشف عن حاله وموقعه على طريق التّكامل والتّسافل. فحبّ العلم والتعلّم هو مؤشّرٌ واضحٌ على الحياة المعنويّة الحقيقيّة، وهو شرط لبلوغ المقامات. وفي المقابل، إنّ النّفور من العلم أو الحرمان منه أو الإعراض عنه لغيره (مهما كان هذا الغير) هو من علائم الشّقاء.
2- طالب العلم الحقيقيّ يحدّد قيمة كلّ علم من العلوم وموقفه منه على أساس دوره في إيصاله إلى المطلوب الحقيقيّ والمقصد الواقعيّ.
3- العلم من جنود العقل والجهل، وهو نورٌ كاشفٌ عن الحقيقة، وفيضٌ إلهيّ غيبيّ.
4- إنّ العلم من لوازم الفطرة ومعشوقها، إلا أنّ العلم الذي تعشقه الفطرة هو المعرفة على نحو المشاهدة الحضوريّة، والتي تحصل برفع الحجب الظّلمانيّة والنّورانيّة.
5- إنّ العلم الإلهيّ النّافع أو العمل الصّالح المطلوب هو كلّ علمٍ أو عمل يُبعد الإنسان عن الأهواء النّفسانيّة والصّفات الشّيطانيّة، ويحدّ من طغيان النّفس.
6- الشّرط الأوّل لتحصيل العلم والارتباط بالمبادئ العالية هو تطهير النّفوس وإخلاص النيّة.
7- من شأن العلم أن يورّث نورانيّة لكلّ إنسان في الآخرة بحسب علمه وهو من أهم علامات القرب، وبه تحصل الولادة الملكوتيّة والنبوّة الرّوحانيّة والإعراض عن الدّنيا.
8- العلم هو أفضل عبادة ومقام، والعبادة بحدّ ذاتها لا تتحقّق من دون علم، ومن هنا يكون للعابد نورٌ مخصوصٌ به.
85
60
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَقِنَا مِنْكَ، وَاحْفَظْنَا بِكَ، وَاهْدِنَا إِلَيْكَ، وَلاَ تُبَاعِدْنَا عَنْكَ إِنَّ مَنْ تَقِهِ يَسْلَمْ وَمَنْ تَهْدِهِ يَعْلَمْ، وَمَنْ تُقَرِّبْهُ إِلَيْكَ يَغْنَم"1.
الروايات الشريفة:
1- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "قَالَ قَرَأْتُ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ عليه السلام إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْخُذْ عَلَى الْجُهَّالِ عَهْداً بِطَلَبِ الْعِلْمِ حَتَّى أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ عَهْداً بِبَذْلِ الْعِلْمِ لِلْجُهَّالِ لِأَنَّ الْعِلْمَ كَانَ قَبْلَ الْجَهْلِ"2.
2- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام فِي هَذِهِ الْآيَةِ ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾، قَالَ: "لِيَكُنِ النَّاسُ عِنْدَكَ فِي الْعِلْمِ سَوَاءً"3.
3- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام عَنْ آبَائِهِ عليه السلام قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الْعِلْمُ؟ قَالَ: الْإِنْصَاتُ، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: الِاسْتِمَاعُ، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: الْحِفْظُ، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: الْعَمَلُ بِهِ، قَالَ: ثُمَّ مَهْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: نَشْرُه"4.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "اللَّهُمَّ وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَأْرِزُ كُلُّهُ وَلَا يَنْقَطِعُ مَوَادُّهُ"5.
5- عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: "الْعِلْمُ عِلْمَانِ عِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ فَذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ آدَمَ وَعِلْمٌ فِي الْقَلْبِ فَذَلِكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ"6.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام لنفسه وأهل ولايته.
2 الكافي، ج1، ص 41.
3 (م.ن).
4 (م.ن)، ص 48.
5 (م.ن)، ص 335.
6 بحار الأنوار، ج2، ص 33.
86
61
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
6- عن أبي عبد الله عليه السلام: "قَلِيلُ الْعَمَلِ مِنَ الْعَالِمِ مَقْبُولٌ مُضَاعَفٌ وَكَثِيرُ الْعَمَلِ مِنْ أَهْلِ الْهَوَى وَالْجَهْلِ مَرْدُودٌ"1.
7- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "الْعِلْمُ جُنَّةٌ وَالصِّدْقُ عِزٌّ وَالْجَهْلُ ذُلٌّ وَالْفَهْمُ مَجْدٌ وَالْجُودُ نُجْحٌ وَحُسْنُ الْخُلُقِ مَجْلَبَةٌ لِلْمَوَدَّةِ وَالْعَالِمُ بِزَمَانِهِ لَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ اللَّوَابِسُ وَالْحَزْمُ مَسَاءَةُ الظَّنِّ وَبَيْنَ الْمَرْءِ والْحِكْمَةِ نِعْمَةُ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلُ شَقِيٌّ بَيْنَهُمَا وَاللهُ وَلِيُّ مَنْ عَرَفَهُ وَعَدُوُّ مَنْ تَكَلَّفَهُ"2.
8- عَنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "أَيُّهَا النَّاسُ اعْلَمُوا أَنَّ كَمَالَ الدِّينِ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلُ بِهِ أَلَا وَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ أَوْجَبُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلَبِ الْمَالِ إِنَّ الْمَالَ مَقْسُومٌ مَضْمُونٌ لَكُمْ قَدْ قَسَمَهُ عَادِلٌ بَيْنَكُمْ وَضَمِنَهُ وَسَيَفِي لَكُمْ وَالْعِلْمُ مَخْزُونٌ عِنْدَ أَهْلِهِ وَقَدْ أُمِرْتُمْ بِطَلَبِهِ مِنْ أَهْلِهِ فَاطْلُبُوهُ"3.
9- عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ قَالَ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "اغْدُ عَالِماً أَوْ مُتَعَلِّماً أَوْ أَحِبَّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَلَا تَكُنْ رَابِعاً فَتَهْلِكَ بِبُغْضِهِم"4.
10- عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليه السلام قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لَطَلَبُوهُ وَلَوْ بِسَفْكِ الْمُهَجِ وَخَوْضِ اللُّجَجِ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْحَى إِلَى دَانِيَالَ أَنَّ أَمْقَتَ عَبِيدِي إِلَيَّ الْجَاهِلُ الْمُسْتَخِفُّ بِحَقِّ أَهْلِ الْعِلْمِ التَّارِكُ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَأَنَّ أَحَبَّ عَبِيدِي إِلَيَّ التَّقِيُّ الطَّالِبُ لِلثَّوَابِ الْجَزِيلِ اللَّازِمُ لِلْعُلَمَاءِ التَّابِعُ لِلْحُلَمَاءِ الْقَابِلُ عَنِ الْحُكَمَاءِ"5.
1 الكافي، ج1، ص 17.
2 (م.ن)، ص 26.
3 (م.ن).
4 (م.ن)، ص 34.
5 (م.ن)، ص 35.
87
62
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشرح أهميّة إخلاص النيّة في طلب العلم.
2- يتعرّف إلى غاية العلم وأهدافه.
3- يفهم علامات العلم والعالِم الحقيقيّ.
89
63
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
تمهيد
لا يكفي أن يحبّ الإنسان الفضائل، بل ينبغي أن يسعى لتحصيلها وتحقيقها. ولا شك بأنّ لحبّ العلم تأثيرًا واضحًا في جذب المحبّ إلى هذه الفضيلة الكبرى، لكن غالبًا ما يحدث أن يضيع محبّو العلم في متاهات العلم الفضوليّ الذي لا تأثير له على سعادة الإنسان وكماله. وكثيرًا ما ينتهي هؤلاء إلى فقدان تلك الجاذبة المهمّة ويتحوّل طلبهم للعلم إلى تحصيل الاعتبارات والأمور الدّنيويّة.
لهذا يحتاج طالب العلم إلى تحديد دقيق للعلم المطلوب ومعرفة دوره على مستوى الكمال والتّوظيف الصّحيح للمعارف التي ينالها.
وكل ذلك موقوف على صدق النيّة في الطلب وتحقّق الإخلاص الذي يتوّج بالعبوديّة، كما قال الإمام الصادق عليه السلام في وصيّته لعنوان البصري: "اطلب العلم واطلب معه العبوديّة".
إنّه العلم الذي يتبع التّكليف مثلما أنّه يساهم في كشفه. إنّه العلم الذي يبتعد عن الدّنيا وجاهها واعتباراتها. إنّه العلم الذي يسلك بصاحبه طريق الجنّة.
العلم بأيّ معلوم
انقسم النّاس فيما يتعلّق بأشرف معلوم إلى طوائف وفئات، حتّى وصل الأمر ببعضهم إلى حدّ العلم باللغة أشرف علم. وبمعزل عن المبرّرات التي يقدّمها هؤلاء، فإنّ الإجابة عن هذا السّؤال: "ما هو أشرف معلوم يتعلّق به علم الإنسان؟" ترجع إلى رؤية الإنسان الكونيّة وكيفيّة ترتيبه لنظام الوجود. ولا شكّ بأنّ العلم ـ وخصوصًا العلم بالله وأسماء ذاته المقدّسة وصفاتها وآياتها وكل ما يرتبط بها ـ هو من أعظم الفضائل، كما قال الإمام آنفًا.
91
64
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
وبناءً عليه، فإنّ كل ما يرتبط بذات الله يكون العلم به شريفًا بشرط أنّ يكون دليلًا عليه وطريقًا إلى العلم به. ويقول الإمام قدس سره: "إنّ لجميع الموجودات الممكنة الوجود جهتين ووجهتين: الجهة الأولى هي النّورانيّة والوجود والإطلاق والكمال وهذه هي الوجهة الغيبية الإلهيّة. والجهة الثّانيّة هي الظّلمة والتعيّن والماهيّة والنّقص: وهذه هي الوجهة النّفسانيّة للأشياء. والأشياء في الوجهة الأولى من الشّؤون الإلهيّة والآيات الربّانيّة، ولعلّ المراد من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "آية محكمة" في الحديث المرويّ عنه في الكافي الشّريف: "إنّما العلم ثلاثة: آية محكمة.."1 ، هو العلم بالوجهة النورانيّة للأشياء، وهو علم ملازم لمعرفة الله. وشأن العقل إدراك تلك الجهة النّورانيّة التي هي من الآيات الإلهيّة، في حين أنّ شأن الوهم والجهل إدراك تعيّنات الأشياء، وهي جهالة مركّبة وسراب باطل لا حقيقة له: "ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل"2.
ويطرح الإمام رؤية شاملة حول المعلوم المطلوب الذي يكون العلم به نافعًا فيقول: "للإنسان ـ إجمالاً وبصورة كلية ـ نشآت ومقامات وعوالم ثلاث:
الأولى: نشأة الآخرة، وعالم الغيب، ومقام الروحانية والعقل.
الثانية: نشأة البرزخ وعالم متوسط بين العالمين، ومقام الخيال.
الثالثة: نشأة الدّنيا ومقام المُلك وعالم الشّهادة. ولكلٍّ منها كمال خاصّ وتربية خاصّة وعمل يتناسب مع نشأته ومقامه، وإنّ الأنبياء عليهم السلام يتولّون بيان تلك الأعمال.
فجميع العلوم النافعة تنقسم إلى هذه العلوم الثلاثة:
علم راجع إلى الكمالات العقلية والوظائف الروحية. وعلم راجع إلى الأعمال القلبية ووظائفها. وعلم راجع إلى الأعمال القالبية الخارجيّة، ووظائف النّشأة الظاهرة للنفس.
أمّا العلوم التي تقوّي العالم الرّوحانيّ، والعقل المجرّد وتربيتهما فهي: العلم بالذّات المقدّس الحقّ جلّ وعلا، ومعرفة أوصافه الجماليّة والجلاليّة، والعلم بالعوالم الغيبيّة المجرّدة... والعلم بالأنبياء والأولياء ومقاماتهم ومدارجهم، والعلم بالكتب المنزليّة،
1 عن النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنَّما العِلْمُ ثَلاَثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، وَمَا خَلاهُنَّ فَهُو فَضْلٌ" الكافي، ج1، ص32.
2 جنود العقل والجهل، ص 239-240.
92
65
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
وكيفيّة نزول الوحي، وتنزّل الملائكة والرّوح. والعلم بنشأة الآخرة وكيفيّة عودة الموجودات إلى عالم الغيب، وحقيقة عالم البرزخ والقيامة، وتفاصيل ذلك...
وملخّص الكلام أنّ العلم الذي يرتبط بالعالم الرّوحانيّ والعقل المجرّد، هو العلم بمبدأ الوجود وحقيقته ومراتبه وبسطه وقبضه وظهوره ورجوعه. ويتكفّل بيان هذا العلم بعد الأنبياء والأولياء، الفلاسفة والعظام من الحكماء وأصحاب المعرفة والعرفان.
أمّا العلوم التي ترتبط بتربية القلب وترويضه والأعمال القلبية فهي: العلم بالمُنجيات الخُلقُيّة والمهلكات الخُلقية، أي العلم بمحاسن الأخلاق مثل الصبر، والشّكر... والعلم بكيفيّة تحصيلها وأسباب حصولها ومبادئها وشرائطها. والعلم بقبائح الأخلاق مثل الحسد والكبر... وغير ذلك، والعلم بمبادئها التي تمنحها الوجود، والعلم بكيفيّة التنزّه عنها. والذي يتولىّ بيان هذه الأمور أيضًا الأنبياء والأوصياء عليهم السلام ثمّ علماء الأخلاق وأصحاب الرّياضة الرّوحيّة وذوي المعارف.
والعلوم التي تُناط بها تربية الظّاهر وترويضه، علم الفقه ومبادئه، وعلم آداب المعاشرة وتدبير المنزل، وسياسة المُدُن ويتكفّل بشرحها الأنبياء ثمّ الأولياء عليهم السلام ثمّ علماء الظّاهر من الفقهاء والمحدّثين.
ولابدّ من معرفة أنّ كلّ واحد من هذه المراتب الثّلاث الإنسانيّة المذكورة مترابطة بدرجة تنعكس آثار كل مرتبة على المرتبة الأخرى من دون فرق في ذلك بين الأمور الكماليّة، أو الأمور القبيحة المعيبة.."1.
"إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قسمّ في هذا الحديث الشّريف2 العلوم إلى ثلاثة أقسام. ولاشكّ أنّ هذه العلوم الثلاثة، مرتبطة بهذه المراتب الثلاث كما تشهد بذلك العلوم السائدة في الكتب الإلهيّة وسنن الأنبياء وأحاديث المعصومين عليهم السلام، حيث تكون العلوم لديهم مقسّمة إلى هذه الأقسام الثلاثة"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 418-419.
2 عن النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنَّما العِلْمُ ثَلاَثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، وَمَا خَلاهُنَّ فَهُو فَضْلٌ" الكافي، ج1، ص32.
3 الأربعون حديثًا، ص 421.
93
66
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
أهداف العلم
بمعرفة الهدف من العلم يحقّق الطّالب الشّرط الأوّل في إخلاص النيّة الذي يهيّئ القلب للتوجّه إلى ملكوت العلم والمعارف. ولا شكّ بأنّ للنيّة مدخليّة في تنوير العلم أو ظلمانيّته. لهذا، يقول الإمام قدس سره: "لا بدّ من معرفة أنّ العلوم بصورة كليّة تنقسم إلى قسمين: أحدهما: العلوم الدّنيويّة التي هدفها الوصول إلى المآرب الدنيويّة. على أساس أنّ النيّة قد تكون الأنانيّة وقد تكون إلهيّة. والآخر: العلوم الأخرويّة التي يُقصد منها البلوغ إلى المقامات والدّرجات الملكوتيّة والوصول إلى المراتب الأخرويّة... "1. إنّ الإخلاص في طلب العلم يقتضي أن يحافظ الطّالب والعالِم على التوجّه القلبيّ نحو المقصد النّهائيّ. كما أنّ التوجّه الصّادق يحفظ مسيرة التعلّم ومساره الصّحيح، فلا ينحرف الطّالب ويتّجه نحو المقاصد الشّيطانيّة التي فيها الهلاك المبين والعاقبة الوخيمة. وفيما يلي نذكر بعض ما بيّنه الإمام من أهداف العلم:
1- مقدّمة للإيمان
"إنّني أيضاً لا أعتقد كثيراً بالعلم فقط، إنّ العلم الذي لا يفضي إلى الإيمان أراه الحجاب الأكبر، ولكن لو لم نرد الحجاب ولم نتعلّم لما تمكنّا من خرقه. إنّ العلوم بذور المشاهدات. وإنّه لمن الممكن أن يبلغ الإنسان إلى مقامات شامخة من دون تعلّم حجاب المصطلحات والعلوم، ولكن هذا خلاف العادة، وخلاف طبيعة السّنن، وإنه نادرًا ما يحصل. فالطّريق الطّبيعيّ لمعرفة الله وطلبه هو أنّ الإنسان يبتدئ أوّلًا بإنفاق وقت في التفكّر بالحقّ سبحانه، ويحصل على العلم بالله وأسماء ذاته المقدّس وصفاته حسب الأساليب المتّبعة من التّلمذة على يد رجال ذلك العلم، ثمّ يتزوّد من العارف بواسطة الرّياضة العلميّة والعمليّة وينتهي بذلك حتمًا إلى النّتيجة المنشودة"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 445.
2 (م.ن)، ص 489.
94
67
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
2- مقدّمة للعمل
"ذكرنا سابقًا بأنّ العلوم بأسرها تكون للعمل، حتى علوم المعارف الإلهيّة حيث لها انعكاسات عمليّة أيضًا. ونقول هنا بأنّ علم أحوال القلوب وكيفيّة صحّتها ومرضها وصلاحها وفسادها، من العلوم التي تُعدّ مقدمة للعمل، وأداة لعلاج القلب وإصلاحه. وأمّا الإحاطة بهذه الأمور واستيعابها لا يعتبر من الكمالات الإنسانيّة"1.
فعلى طالب العلم أن يطلب من وراء العلم والتعلّم رفع الحجب عن صفحة القلب ليتحقّق التّوجّه التّامّ إلى منابع العلم ومصادره. وعندها تتنزّل فيوضات الإيمان فيتّسع القلب ويصبح مستعدًّا لشهود الحقائق التي أدركها سابقًا على نحوٍ كلّيّ واستقرّ في قلبه نور الإيمان. ولا شكّ بأنّ من أراد ذلك كلّه، عليه أن يبحث في كلّ علم عن العمل به وعن الجانب التّطبيقيّ فيه لأنّه السّبيل إلى كلّ هذه التّوفيقات جميعًا.
3- رفع الحجب
"المقياس في العلم ليس تجميع المفاهيم الكليّة والاصطلاحات العلميّة، بل المقصود منه رفع الحجب عن عين البصيرة للنّفس وفتح باب معرفة الله، حيث يكون العلم الحقيقيّ هو مصباح هداية الملكوت، والصّراط المستقيم للتقرّب إلى الحقّ ودار كرامته. وكل ما عدا ذلك، وإن كان في عالم المُلك وقبل إزاحة حجب الطبيعة ـ الدّنيا ـ فهو في شكل العلم وصورته، وإنّ أصحابه لدى أهل الحوار والجدال، يُعدّون من العلماء والعرفاء والفقهاء. ولكنّه بعد تساقط الحجب عن وجه القلب، وكشف ستار الملكوت، والاستفاقة من السّبات العميق في عالم المُلك والطّبيعة ـ الدّنيا ـ يتبيّن بأنّ سُمك هذا الحجاب وغلظته أكثر من كلّ الحجب، وإنّ هذه العلوم المقرّرة بأسرها من الحجب الغليظة الملكوتيّة التي تكون بين حجاب وآخر مسافة أميال وفراسخ وقد كنا من الغافلين عنه "النّاسُ نِيامٌ فَإِذا ماتُوا انْتَبَهُوا" ويتبيّن لنا جميعًا كيف سنكون"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 554 -555.
2 (م.ن)، ص 404-405.
95
68
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
4- العلم مقدّمة للمكاشفات
"إنّ الحقّ يستدعي أن نقول بأنّ العلم هو الذي يشتمل على التدبّر والتمعّن والبرهان والاستدلال، بينما قد تكون المكاشفات والمشاهدات نتيجة العلوم الحقيقيّة، وقد تكون من جرّاء الأعمال القلبيّة. وعلى أيّ حال إنّ المشاهدات والمكاشفات، والتحقّق بحقائق الأسماء والصّفات، يجب أن لا تندرج في تقسيمات العلوم، لأنّ العلوم في واد والمكاشفات في واد آخر"1. وعليه فما لم ينتهِ العلم إلى الشّهود، يكون الطّالب في خطرٍ عظيم. أمّا الإحجام والإعراض عن هذا المقصد السنيّ فهو الطّرد والوقوع في فخ إبليس الأكبر.
يقول الإمام قدس سره: "هناك فرق واضح بين العرفان والعلم، بين التعرّف على شيء وبين العلم به. يُقال أنّ العلم في اللغة يختصّ بالكليّات، والمعرفة خاصّة بالجزئيّات والتّشخّص، ويُقال أنّ العارف بالله هو الذي يتعرّف على الحقّ سبحانه بالمشاهدة الحضوريّة، وإنّ العالم بالله هو الذي ينتهي إلى الحقّ سبحانه من خلال البراهين الفلسفية. وذهب البعض إلى أنّ الفارق بين العلم والعرفان من وجهين: الأوّل من ناحية متعلّق كلّ منهما كما ذكرنا متعلّق العلم كلّيّ ومتعلّق المعرفه جزئيّ. والثّاني أنّه أخذ في المعرفة نسيان الشّيء المعلوم سابقًا. في حين أنّ العلم هو ما يدركه الإنسان ابتداءً. وأمّا الشّيء الذي كان معلومًا فغفل عنه ونسيه ثمّ أدركه ثانيًا يُقال له أنّه قد عرفه"2.
علامات العلم الحقيقيّ
بالرّغم من اشتراكهما في بعض الخصائص إلّا أنّ العلم الحقيقيّ الذي هو أعظم نور يهدي إلى الله يختلف كثيرًا عن العلم المزيّف الذي هو حجاب سميك بين الإنسان والمقصد النّهائي.
ويذكر لنا الإمام الخمينيّ قدس سره مجموعة من العلامات المؤكّدة للعلم النّورانيّ، منها:
1- التّواضع
"فقد رُوي في الكافي مسندًا عن مولى الموحّدين عليه السلام أنّه قال: "يا طالب العلم، إنّ العلم ذو فضائل كثيرة، فرأسه التّواضع وعينه البراءة من الحسد".، وعلى العالِم
1 الأربعون حديثًا، ص 429.
2 (م.ن)، ص 661.
96
69
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
العامل أن يتفكّر في نفسه وأحوالها وملكاتها، ويمعن النّظر بدقّة في صفاتها، ليعرف طبيعة الملكات التي أوجدها فيه علمه من أي فرع كان. إذا كان من أهل المعارف فلينظر في نفسه ليعرف هل نوَّرَ نورُ معرفة الله قلبه وجعله محبًّا وبالتّالي متواضعًا للحقّ تعالى ومظاهر جماله وجلاله؟! أم أنّ تمرّسه لمدّة في مجموعة من الاصطلاحات المعرفيّة، جعله ينظر بعين الاحتقار ـ وهي نظرة إبليس إلى العالم برمّته والعلماء جميعًا ـ فيسمّي الحكماء "قشريين من أهل الظاهر" ولا يرى سائر العلماء بالمرة، وينظر إلى سائر الناس نظرته إلى البهائم!"1.
ويقول قدس سره أيضا: "إذا رأيت أنّ هذه العلوم أوجدت فيك العُجب بالنّفس وعبوديّتها وحبّها، فاعلم أنّك قد صرت طعمة لإبليس، وابتعد عن طريق السّعادة، وانظر حينئذٍ إلى ما حصلت عليه، هل تجد عندك سوى حفنة من الاصطلاحات الجوفاء؟! وهل يمكنك الإجابة بهذه المصطلاحات عن أسئلة ملائكة الله الغلاظ الشّداد؟ وهل يمكن مخادعة ربّ العالمين من قبيل الهيولى والصّورة، والمعاني الحرفيّة؟!"2.
2- البعد عن الشّهرة والتّعالي
"كم هو جهولٌ ذاك الذي يتوّهم أنّه قد وصل ـ بهذه المفاهيم الجوفاء ـ إلى مقام "العلماء بالله، وأنّ الملائكة تفرش أجنحتها تحت قدميه، ثم يتوقّع ـ بسبب هذه الأوهام ـ أن يحوطه عباد الله بالتّبجيل والاحترام فيضيِّقُ عليهم الطّريق في الأزقّة، ويزاحمهم على أماكنهم في المجالس؟! كلّ هذه من مظاهر الغرور المذموم والجهالة والشّيطنة، وهي مواريث إبليس وظلمات بعضها فوق بعض، فالعلم نور، والنّور ينوِّرُ القلب ويوسّعه، ويشرح الصّدر، ويضيء طريق الهداية والسّلوك،، فكيف أوجدت فينا هذه العلوم الرّسميّة ظلمة القبر وضيق الصّدر والتّعالي والتّكبّر؟ هل يمكن والحال هذه أن نعتبر هذه الألفاظ علومًا ونتفاخر بها في العالم؟!"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 306-307.
2 (م.ن)، ص 309.
3 (م.ن)، ص 310.
97
70
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
3- تلاشي الأنانيّة
"فالمقياس في العلم أن يكون آية وعلامة، ولا تكون له إنّية ولا أنانيّة، بل تضمحلّ لدى حصول العلم الإنّية، وتتلاشى الأنانية ولا يغدو العلم باعثًا على النّخوة والأنانيّة والتّظاهر والترفّع".1
4- الحكمة
"فأنت عندما بذلت الجهد أربعين عامًا أو أكثر في سبيل تجميع المصطلحات والمفاهيم العلمية، واعتبرت نفسك علامة ومن جنود الله، ولكن لم تجد أثرًا للحكمة في قلبك، ولا طعمًا لها على لسانك فاعلم بأنّ دراستك وتعبك لم يقترنا بالإخلاص بل إنّما اجتهدت للشّيطان والرّغبات النّفسيّة"2.
5- الحزن والهمّ الخاصّ
"لأصحاب الفقه والعقل - الذين يقصدون التّفقّه في الدّين وإدراك الحقائق ـ أيضًا علامات وآثار، عمدتها ما ذكره الإمام عليه السلام، منها: أنّه ينجم عن هذا العلم في قلبه الحزن والهمّ والانكسار، ومن الواضح أنّ هذا الانكسار والفزع لا يكون لأجل الأمور الدنيويّة الدنيّة الزائلة، بل إنّه ناجم عن الخوف من المعاد، والتّقصير في وظائف العبوديّة... ومن علامات هذا العالم الربّانيّ أنّه رغم قيامه الكامل بوظائف العبوديّة يعيش حالة الفزع، لأنّ نور العلم يهديه إلى أنّه كلما أدّى وظائفه، يشعر بأنّه قاصر أو مقصّر، وأنّه لا يستطيع أن يخرج من مسؤوليّة شكر نعمه وحقيقة عبادته. فيكون قلبه مملوءًا من الخوف والخشية. وقد قال الحقّ جلّ جلاله فيهم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾. إنّ نور العلم يبعث على الخشية والحزن، وصاحبه رغم إقباله على إصلاح نفسه لا يقرّ له قرار من جرّاء خوفه من يوم القيامة، ويدفعه نحو الطلب من الله في أن يصلحه، ويحذره من الانشغال بغير الحقّ، ويبعده عن أهل زمانه، ويجعل هاجسه الخوف من أنّ أهل الدنيا قد يمنعونه من السّير إلى الله، والسّفر إلى عالم الآخرة، ويزيّنون الدّنيا ولذائذها في عينه. والحقّ سبحانه يؤيّد مثل هذا الإنسان، ويقوّي وجوده وينعم عليه بالأمان يوم القيامة. فَيَا لَيْتَنَا كُنَّا مَعَهُمْ فَنَفُوزَ فَوْزاً عَظيماً"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 426-427.
2 (م.ن)، ص 427.
3 (م.ن)، ص 412-413.
98
71
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
6- الخدمة للنّاس
وروي في الكافي الشريف أيضاً: "قال عيسى ابن مريم عليها السلام: يا معشر الحواريين لي إليكم حاجة اقضوها لي. قالوا: قُضيتْ حاجتُك يا روح الله، فقام فغسل أقدامهم. فقالوا: كنّا نحن أحقَّ بهذا يا روح الله. فقال: إنّ أحقَّ النّاس بالخدمة العالِمْ. إنّما تواضعتُ هكذا لكم لكي تتواضعوا بعدي في النّاس كتواضعي لكم!، ثمّ قال عيسى عليه السلام: بالتّواضع تعمرُ الحكمةُ لا بالتكبّرِ، وكذلك في السّهل ينبُتُ الزرعُ لا في الجبل". إنّ ذكر أحوال العظماء والأولياء والأنبياء، في القرآن الكريم والأحاديث الشّريفة ليس بهدف التّسجيل التاريخيّ، بل لتكميل بني الإنسان من خلال الاعتبار بسيرةِ عظماء العالم، والاتّصاف بصفاتهم الكريمة وأخلاقهم الفاضلة. وهذا الحديث الشّريف ينبغي للعلماء والأجلّاء بالدّرجة الأولى أن يضعوه نصب أعينهم ويتّخذوه وصيّة أخلاقيّة دينيّة مستفادة من سيرة العلماء بالله وزعماء الدّين، فيعلِّموا المتعلّمين منهم العمل بهذه السّيرة النبويّة، ويتخلّقوا هم أنفسهم بهذه الأخلاق الإلهيّة العظيمة، ويتفكّروا في معنى اعتبار عيسى عليه السلام غسل أقدام الحواريّين حاجةً له يطلبها، وهذا ما يعبِّر عن غاية التذلّل (للمؤمنين) ومنتهى التواضع"1.
1 جنود العقل والجهل، ص 314-315.
99
72
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
المفاهيم الرئيسة
1- انقسم النّاس فيما يتعلّق بأشرف معلوم إلى طوائف وفئات، وذلك بحسب رؤية الإنسان الكونيّة وكيفيّة ترتيبه لنظام الوجود.
2- كل ما يرتبط بذات الله يكون العلم به شريفًا بشرط أن يكون دليلًا عليه وطريقًا إلى العلم به، وهو من أعظم الفضائل.
3- للإنسان إجمالا نشآت ومقامات وعوالم ثلاث: نشأة الآخرة ومقام الرّوحانيّة والعقل، نشأة البرزخ، ونشأة الدّنيا. ولكلٍّ منها كمال خاصّ وتربية خاصّة وعمل يتناسب مع نشأته ومقامه، وجميع العلوم النّافعة تنقسم إلى هذه العلوم الثلاثة: علم راجع إلى الكمالات العقليّة، وعلم راجع إلى الأعمال القلبيّة، وعلم راجع إلى الأعمال القالبيّة الخارجيّة. وتنعكس آثار كلّ مرتبة على المرتبة الأخرى.
4- إنّ العلم الذي يرتبط بالعالم الرّوحانيّ والعقل المجرّد هو العلم بمبدأ الوجود وحقيقته ومراتبه وبسطه وقبضه وظهوره ورجوعه.
5- العلوم التي ترتبط بتربية القلب وترويضه والأعمال القلبيّة هي العلم بالمُنجيات والمهلكات الخُلُقية.
6- العلوم التي تُناط بها تربية الظّاهر وترويضه هي علم الفقه ومبادئه، وعلم آداب المعاشرة وتدبير المنزل، وسياسة المُدُن.
7- ينقسم طلّاب العلم بصورة كليّة أوليّة إلى طائفتين بما يتعلّق بهدفهم من وراء طلب العلم، فإمّا أن يكون إلهيًّا أو لأمور نفسيّة.
8- بمعرفة الهدف من العلم يحقّق الطّالب الشّرط الأوّل في إخلاص النيّة الذي يهيّئ القلب للتوجّه إلى ملكوت العلم والمعارف.
9- العلم مقدّمة للإيمان وللعمل ولرفع الحجب، "العلوم بذور المشاهدات".
10- أهم علامات العلم الحقيقيّ: التّواضع، البعد عن الشّهرة والتّعالي، تلاشي الأنانيّة، الحكمة، خدمة النّاس، الحزن والهم نتيجة الشعور بالتقصير.
11- إذا أوجدت العلوم في الانسان العُجب بالنّفس وعبوديّتها وحبّها، فقد صار الانسان طعمة لإبليس وابتعد عن طريق السّعادة.
100
73
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَارْزُقْنِي صِحَّةً فِي عِبَادَةٍ، وَفَرَاغاً فِي زَهَادَةٍ، وَعِلْماً فِي اسْتِعْمَالٍ، وَوَرَعاً فِي إِجْمَالٍ"1.
الروايات الشريفة:
1- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ: يَا طَالِبَ الْعِلْمِ إِنَّ لِلْعَالِمِ ثَلَاثَ عَلَامَاتٍ: الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ وَالصَّمْتَ، وَلِلْمُتَكَلِّفِ ثَلَاثَ عَلَامَاتٍ: يُنَازِعُ مَنْ فَوْقَهُ بِالْمَعْصِيَةِ وَيَظْلِمُ مَنْ دُونَهُ بِالْغَلَبَةِ وَيُظَاهِرُ الظَّلَمَةَ"2.
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لَا يَضِلَّ أَوْلِيَاؤُكَ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَهُمْ بَلْ أَيْنَ هُمْ وَكَمْ أُولَئِكَ الْأَقَلُّونَ عَدَداً وَالْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ قَدْراً الْمُتَّبِعُونَ لِقَادَةِ الدِّينِ الْأَئِمَّةِ الْهَادِينَ الَّذِينَ يَتَأَدَّبُونَ بِآدَابِهِمْ ويَنْهَجُونَ نَهْجَهُمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَهْجُمُ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ فَتَسْتَجِيبُ أَرْوَاحُهُمْ لِقَادَةِ الْعِلْمِ وَيَسْتَلِينُونَ مِنْ حَدِيثِهِمْ مَا اسْتَوْعَرَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَيَأْنَسُونَ بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْمُكَذِّبُونَ وَأَبَاهُ الْمُسْرِفُونَ أُولَئِكَ أَتْبَاعُ الْعُلَمَاءِ صَحِبُوا أَهْلَ الدُّنْيَا بِطَاعَةِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَوْلِيَائِهِ وَدَانُوا بِالتَّقِيَّةِ عَنْ دِينِهِمْ وَالْخَوْفِ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَأَرْوَاحُهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى فَعُلَمَاؤُهُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ خُرْسٌ صُمْتٌ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ مُنْتَظِرُونَ لِدَوْلَةِ الْحَقِّ وَ سَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَمْحَقُ الْبَاطِلَ"3.
3- قال لقمان لابنه: "لِلْعَالِمِ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ الْعِلْمُ بِاللهِ وَ بِمَا يُحِبُّ وَ مَا يَكْرَهُ"4.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام في مكارم الأخلاق.
2 الكافي، ج1، ص 37.
3 (م.ن)، ص 335.
4 بحار الأنوار، ج13، ص 415.
101
74
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "يَا كُمَيْلُ إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا احْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِالْعِلْمِ فَيَهْتَدُوا وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ فَيَنْجُوا، يَا كُمَيْلُ الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ، يَا كُمَيْلُ مَحَبَّةُ الْعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ (بِهِ) الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ وَجَمِيلَ الْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَصَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ يَا كُمَيْلُ هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ"1.
5- عن عليّ بن الحسين عليه السلام: "كَانَ إِذَا جَاءَهُ طَالِبُ عِلْمٍ قَالَ مَرْحَباً بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ لَمْ يَضَعْ رِجْلَهُ عَلَى رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا سَبَّحَتْ لَهُ إِلَى الْأَرَضِينَ السَّابِعَة"2.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "شرّ العلم علم لا يعمل به"3.
7- عنه عليه السلام: "الزم العلم بك (لك) ما دلك على صلاح دينك و أبان لك عن فساده"4.
8- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "العلم ما أصلحت به رشادك و شره ما أفسدت به معادك"5.
9- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "قول لا أعلم نصف العلم"6.
1 بحار الأنوار، ج23، ص 44.
2 (م.ن)، ج1، 168.
3 تصنيف غرر الحكم، ص 45.
4 (م.ن)، ص 46.
5 (م.ن).
6 (م.ن)، ص 48.
102
75
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى الشّروط اللازمة للعلم والتعلّم والتّعليم.
2- يبيّن خطورة طلب العلم من دون تهذيب النّفس.
3- يشرح أهم موانع تحصيل العلم.
103
76
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
تمهيد
شُبّه العلم النافع المفيد بالمطر الطاهر العذب. بيد أن النفوس والقلوب تتفاوت في استعدادها وتقبلها لهذا المطر كما تتفاوت الأراضي الزراعية. بل إن بعضها يتحول إلى صخرة صماء لا يستقر عليها حبة ماء قط. وبعض القلوب تتلوث إلى درجة تصبح كالقمامة بحيث إذا هطل عليها المطر اشمأزت قلوب الناس من نتانة ريحها.
وإن ما يلوث القلوب ليس سوى التعلقات الدنيوية التي تظهر بصورة رذائل الأخلاق كالكبر والعجب وحب الظهور. وما لم يعمل طالب العلم على تهذيب نفسه من أرجاس الأخلاق ومذام الصفات، فإنه يوشك أن يتبدل إلى موجود شيطاني إبليسي، كما كان حال إبليس في علمه الكثير الذي لم يورثه سوى الخسران المبين والطرد والرجم من ساحة عز الربوبية إلى أسفل سافلين باستكباره وطلبه للعلو والمنزلة.
شروط العلم
لكي ينال الطّالب من العلم نوره، ولكي يقدّم العالم في التّعليم نوره، يجب عليهما رعاية مجموعة من الشّروط والآداب المعنويّة. وقد ذكر الإمام قدس سره شطرًا مهمًّ من هذه الشّروط، نذكر منها:
1- تهذيب النّفس أوّلًا
"يجب على طلّاب العلوم الدّينيّة، والسّالكين لهذا السّبيل المحفوف بالمخاطر، أن يكون أوّل ما يضعونه بعين الاعتبار، إصلاح أنفسهم أثناء الدّراسة ويفضّلونه مهما أمكن على كلّ شيء، لأنّه أوجب كلّ الواجبات العقليّة والفرائض الشّرعيّة وأصعبها"1.
1 الأربعون حديثًا، ص 411.
105
77
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
1- مجاهدة النّفس بالتّقوى
"نفس العلم حجاب غليظ، فإذا لم يُخرق هذا الحجاب بتوفيقٍ من الله سبحانه في ظلّ التّقوى الكاملة والتّرويض المجهد للنّفس، والانقطاع التامّ لله والمناجاة الصّادقة معه، لم تُشرق في قلب السّالك أنوار الجمال والجلال، ولم يشهد قلب المهاجر إلى الله، المشاهدات الغيبيّة، ولم يتمتّع بالحضور العينيّ لتجلّيات الأسماء والصّفات، فضلًا عن الحظوة بالتجلّيات الذاتيّة. وهذا المعنى يجب أن لا يُحجم الإنسان عن البحث والطّلب الذي هو تذكّر للحقّ سبحانه. إذ أنّه من النّادر جدًّا غرس الشّجرة الطّيّبة للمعرفة في القلب أو إنعاشها ونضارتها من دون بذر علوم حقّة مع كافّة شرائطها المعهودة، فالإنسان لا بدّ وأن يواظب في بدء الأمر على الرّياضة العلميّة مع النّهوض بجميع شرائطها ومتمّماتها، ولا يسحب يده منها حيث قالوا: "العلوم بذر المشاهدات". وإن لم تنتج العلوم في هذا العالم لأجل العوائق، نتيجة مجدية وتامة، لأثمرت في عوالم أخرى ثمرات طيّبة، ولكنّ المهمّ هو النّهوض بشرائطها ومقدّماتها"1.
2- التشدّد في مراقبة النّفس
"يجب على علماء الدّين وطلبة علومه أن يتشدّدوا للغاية في مراقبة أنفسهم وتصرّفاتهم، لكي يضمنوا سعادة الناس إضافة إلى سعادتهم هم، فالفساد والقبيح منهم أشدّ إفسادًا وقبحًا بكثيرٍ ممّا يصدر من غيرهم، والحجّة عليهم أتم"2.
3- الإخلاص
"إذا انحرف العالم - لا سمح الله - عن طريق الإخلاص، وسلك طريق الباطل، اعتُبر من علماء السّوء الذين هم أسوأ خلق الله وقد وردت فيهم أحاديث شديدة، وتعبيرات قاسية"3.
"أيّها العزيز إنّ العلاج كلّ العلاج فيما إذا أراد الإنسان أن يكون علمه إلهيَّا أن يبادر إلى مجاهدة النّفس عندما يدرس أيّ علم شاء، ويسعى بواسطة الرّياضة الرّوحانيّة في
1 الأربعون حديثًا، ص 571.
2 جنود العقل والجهل، ص 316.
3 الأربعون حديثًا، ص 411.
106
78
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
سبيل تخليص نيّته. فإنّ المنقذ الأساسيّ ومصدر الفيض تخليص النيّة، والنيّة الخالصة "مَنْ أَخْلَصَ لِلّهِ أرْبَعينَ صَبَاحاً جَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ" فهذه فوائد وآثار الإخلاص في أربعين يوم"1.
4- العمل بما يعلم
"إنّ من يعرّف نفسه على أنّه شمع محفل العرفان، والهادي إلى السّعادة، ومعرّف طرق الآخرة، ثمّ لا يعمل ـ لا سمح الله ـ بما يقول، ويختلف باطنه عن ظاهره، يكون في زمرة أهل الرّياء والنّفاق، ويُحسب من علماء السّوء، ويكون عالمًا بلا عمل. وهذا عقابه أكبر وعذابه أشدّ. وقد أشار الله سبحانه إلى أمثال هذا في القرآن بقوله: ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾"2.
"هؤلاء من النّاس الذين ورد فيهم الحديث قائلًا "يَطْلَعُ قَوْمٌ مِنْ أَهلِ الجَنَّةِ إلى قَومٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيَقُولُونَ ما أَدْخَلَكُمُ النَّارَ وإنَمَا دَخَلْنَا الجَنّةَ بِفَضْلِ تَعلِيمِكُمْ وَتَأَدِيِبكُمْ فَيَقُولونَ إِنَا كُنَا نَأَمُركُمْ بِالخَيرِ وَلاَ نَفْعَلَهُ"3.
5- عدم التوقّف عند أي حدّ
"فموسى الكليم مع ما له من المقام العظيم في النبوّة لم يقتنع بذلك المقام وما توقّف عند مقام علمه الشّامخ، وبمجرّد أن لاقى شخصًا كاملًا كالخضر قال له بكلّ تواضعٍ وخضوع: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾4 وصار ملازمًا لخدمته حتّى أخذ منه العلوم التي احتاج إليها"5.
و"ابراهيم عليه السلام لم يقتنع بمقام شامخ الايمان والعلم الخاصّ للأنبياء فقال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى﴾. فأراد أن يرتقي من الإيمان القلبيّ إلى مقام الاطمئنان الشّهوديّ. وأعظم من ذلك إنّ الله تبارك وتعالى يأمر نبيّه الخاتم ـ وهو أعرف خلق الله مطلقًا ـ في
1 الأربعون حديثًا، ص 427.
2 (م.ن)، ص 179.
3 (م.ن)، ص 410.
4 سورة الكهف، الآية 66.
5 معراج السالكين، ص 206.
107
79
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
الكريمة الشّريفة ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾1. فهذه الأوامر في الكتاب الإلهيّ ونقل قصص الأنبياء لأجل أن نتنبّه ونستيقظ من نوم الغفلة"2.
6- التّركيز على العمق الفكريّ والمعنويّ
"يجب على متعلّمي علوم أولئك العظماء والمفسّرين من إفادات القرآن الشّريف وأحاديث أهل العصمة أن يشكروا هذه النّعمة ويجازوا على هذه العطية، بأن يتعاملوا بالمثل، وذلك بأن يرجعوا الصّورة (الظاهرية) إلى الباطن، والقشر إلى اللب، والدّنيا إلى الآخرة، فإنّ الوقوف عند الحدود اقتحام للهلكات، والقناعة بالصّورة تخلّف عن قافلة السّالكين، وهذه الحقيقة واللطيفة الإلهيّة ـ أي العلم بالتأويل ـ تحصل بالمجاهدات العلميّة والرّياضات العقلية، مقرونة بالرّياضات العلميّة، وتطهير النّفوس، وتنزيه القلوب، وتقديس الأرواح، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ و"المطّهرون" على نحو الإطلاق هم الأنبياء والأولياء المعصومون، ولذلك كان علم التّأويل بجميع المراتب مختصًّا بهم. ولكن لعلماء الأمّة أيضًا حظٌّ وافرٌ من ذلك العلم يتناسب مع مرتبتهم في العلم والطّهارة، ولهذا نُقل عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنّه كان يقول بأنّه من الرّاسخين في العلم"3.
7- إيقاظ الفطرة وتفعيلها
"ما دام الإنسان على فطرته الأصليّة السّليمة النّازلة من عالم النّور والطّهارة والمتناسبة بالتالي مع العلوم الحقيقيّة والمعارف الإلهيّة والحقائق الرّوحانيّة والعوالم الغيبيّة فإنّه يقبل جيّدًا تلك العلوم والمعارف الحقّة"4.
8- إخراج النّاس من الاحتجاب
"وبالجملة، فصاحب كلّ مقصد يرى مقصده كمالًا وصاحبه كاملًا ويعشقه، ويتنفّر من غيره. فالأنبياء عليهم السلام، والعلماء بالله وأصحاب المعرفة قد جاؤوا ليخرجوا النّاس
1 سورة طه، الآية 114.
2 معراج السالكين، ص 206.
3 جنود العقل والجهل، ص 68-69.
4 (م.ن)، ص 116.
108
80
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
من الاحتجاب، ويخلّصوا نور فطرتهم من ظلمات الجهل، ويعرّفوهم على الكامل والكمال. فإنهم إذا شخّصوا الكمال والكامل، لن يحتاجوا إلى دعوة للتوجه إليه وترك ما سواه، بل نور الفطرة هو أعظم هاد الهي وهو موجود في جميع سلالة البشر"1.
9- المداراة ورعاية القابليّات
"النّاس متمايزون في تحمّل العلوم والمعارف وكذلك في تحمّل الطّاعات القلبيّة والبدنيّة، فلا يمكن الإفصاح لكلّ شخص عن كلّ علم خاصّة في باب المعارف، بل إنّ سرائر التّوحيد وحقائق المعارف هي من الأسرار التي يجب كتمانها وحفظها عند أهلها. ومعظم الضّلالات وأنواع الإضلال وأشكال التّكفير ناتجةٌ من عدم التزام هذه الوصية، بل إنّ اجتناب الناس، حتى علماء الظاهر منهم للعلوم الإلهيّة وابتعادهم عن المعارف والحقائق ناتجٌ من "تهتّك" بعض أرباب الاصطلاحات الذوقيّة أو أصحاب العلوم العرفانيّة الرّسميّة الذين أفصحوا عن القرآن والحديث الشّريف وإصلاحاتها، رغم أنّ هذه الحقائق المعرفيّة موجودة - في أكمل صورها من البيان ـ في كتاب الله وأحاديث أئمّة الهدى عليهم السلام، ولكن هؤلاء أظهورها بصورة سيّئة جعلت أهل الظّاهر ينفرون منها، بعد أن عجزوا هم أيضًا عن فصل اللبِّ عن القشر، والحقيقة عن الصّورة الظّاهريّة، والمعنى عن اللفظ، فنفوا أصل تلك الحقائق المعرفيّة الشّريفة"2.
10- النّهوض بمهمّة التّربية
"نرى أنّ أهل العلم ينبغي أن يكونوا هم المربّين لأبناء البشر، باعتبارهم فروع شجرة النبوّة والولاية، وعارفين بوخامة الأمور وعواقب فساد الأخلاق"3.
11- استخدام الأساليب المناسبة
"إنّ من يريد أن يربّي ويعلِّم وينذر ويبشّر فلا بدّ له أن يضمّن مقصده بالعبارات المختلفة والبيانات المتنوّعة، فتارةً في ضمن قصّة وحكاية وأخرى في ضمن تاريخ ونقل، وحينًا
1 معراج السالكين، ص 130.
2 جنود العقل والجهل، ص 293.
3 الأربعون حديثًا، ص 179.
109
81
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
بصراحة اللهجة، وحينًا بالكناية والأمثال والرّموز حتّى يتمكّن كلّ من النّفوس المختلفة والقلوب المتشتّتة من الاستفادة منها"1.
12- الصمت
"هذا المنهاج عام يشمل الصّمت والسّكوت والكلام والإرشاد، فعلى الإنسان أن يشتغل في بداية أمره ـ حيث يكون متعلّماً ـ بالبحث والدّرس والتّعلّم، فيجتنب فقط الكلمات والأقوال اللغويّة الباطلة. فإذا كَمُلَ فعليه أن يشتغل بالتّفكّر والتّدبُّر، فيمنع لسانهُ عن النّطق بغير ذكر الله وما يرتبط به لكي تفيض على قلبه الإفاضات الملكوتيّة"2.
13- المودّة للنّاس
"ولا يمكن للعالم والمرشد أن ينهض بمهمّة إرشاد الناس وتعليمهم وبذر بذور المعارف والحكم في قلوبهم ما لم يكن قلبه هو منوّرًا صافيًا تملؤه المودّة والتّواضع"3.
موانع العلم
يوجد الكثير من الموانع التي تقف أمام طالب العلم فتحرفه أو تمنعه من سلوك طريق العلم. يتصوّر بعض النّاس أنّهم على خير لأنّه لم يصبهم ما أصاب بعض أهل العلم من الغرور والعجب والتّفاخر وحبّ الشّهرة والجاه، وهم لا يعلمون بأنّهم في الفتنة قد سقطوا. لأنّ احتمال نجاتهم بعد ذلك من جميع هذه المهلكات يكاد يكون صفرًا. وقد جاء في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "...الْعَالِمَ تَأْتِيهِ الْفِتْنَةُ فَيَخْرُجُ مِنْهَا بِعِلْمِهِ... "4. لذا يجب على الطّالب العالِم أن يتعرّف على العواقب الوخيمة والآثار المدمّرة للانحراف بسبب عدم تجاوز الموانع وخرق الحجب. وقد ذكر الإمام مجموعة كبيرة من الموانع في هذا المجال، ونحن نبيّن بعضها على سبيل الاختصار:
1 معراج السالكين، ص 197.
2 جنود العقل والجهل، ص 347.
3 (م.ن)، ص 316.
4 بحار الأنوار، ج1، ص208.
110
82
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
1- سوء الخُلُق
"إذا صار العالِمُ جبّارًا متكبّرًا بطلت خاصيّة علمه وتأثيره، وهذه أعظم خيانة للعلم والمعارف، لأنها تُبعد النّاس عن الحقّ والحقيقة. فإذا لم يتعامل العالم مع النّاس بمقتضى العلم أي الأخلاق الحسنة، أدّى ذلك إلى إسقاط الدّين والعلم من أعين النّاس، وإضعاف عقائدهم، وتنفير قلوبهم من علماء الحقّ، وهذه أشدّ ضربةٍ تُوَجَّه للدّين والحقيقة بأيدي العلماء غير المسؤولين، وقلّما تجد ضربة تماثلها في هذا التّأثير. إنّ تصرّفًا أو عملًا واحدًا يخالف الأخلاق أو الأعمال السّليمة يصدر من عالم أو أحد طلبة علوم الدّين يُؤثّرُ في إفساد أخلاق النّاس وأعمالهم بمقدارٍ قَلّما نجد مثيلًا له في آثار الأعمال الإفساديّة الأُخَر (الصادرة من غيرهم)"1.
2- المباهاة والتّفاخر
"العلم التّوحيديّ الذي يكون تعلّمه من أجل التشدّق به في مجالس العوالم أو العلماء يكون فاقدًا للنّورانيّة، بل هو طعام أعدّته يد الشّيطان لتغذية النّفس الأمّارة بالسّوء، لذلك فهو يخرج صاحبه من التّوحيد ويقرّبه إلى الشّرك"2.
3- التكبّر
"لقد طُرِد إبليس عن مقام القرب بسبب تكبّره على آدم، فكيف تريدُ أن تجدَ لنفسك سبيلاً بهذا التكبّر على بني آدم إلى المعارف الحقّة؟!"3.
"أمّا قوله عليه السلام: "بالتّواضع تعمرُ الحكمة"4، فالمقصود فيه هو: إمّا أنّ بذور الحكمة لا تنمو في القلب الفاقد للتّواضع مثلما أنّ النبتة لا تنمو في الأرض الصّلدة، وإمّا أن يكون المقصود هو أنّ العلماء لا يستطيعون بذر بذور الحكمة وتنميتها في قلوب النّاس ما لم يكن العلماء أنفسهم متواضعين، فينبغي تليين القلوب القاسية بالتّواضع، ثمّ بذر بذور الحكمة
1 جنود العقل والجهل، ص 316.
2 (م.ن)، ص 108.
3 جنود العقل والجهل، ص 307.
4 الكافي، ج1، ص37.
111
83
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
فيها وتوقّع الثّمار منها. وكلا هذين الاحتمالين صحيحان، فالأول يرتبط بإصلاح النّفس، والآخر بإصلاح الآخرين"1.
4- التّوقّف عند المشاهدات
"رغم أنّ العلوم بذور المشاهدات إلّا أنّ الوقوف عندها - عند المشاهدات وعدم تجاوزها - هو الحجاب عينه، وما لم تتفسخ تلك البذور في أرض القلب فلن تظهر شجرة حصول المشاهدات، وما دامت مكدّسة في مخزن القلب ينظر إليها كقيمة مستقلّة بحدّ ذاتها فإنّها لن تعطي ثمارها"2.
5- طلب الدنيا
"أقسم بروح الحبيب، أنّ العلوم الإلهيّة والدّينيّة إذا لم تهدينا إلى طريق الصّلاح والاستقامة، ولم تهذّب بواطننا وظواهرنا، فإنّ أحقر الحِرَف الدنيويّة أفضل منها، لأنّ نتائج الحِرَف الدنيويّة عاجلة ومفاسدها أقل، في حين أنّ العلوم الدينيّة إذا اتّخذت وسيلة لإعمار الدّنيا كانت بيعًا للدّين، ووزر بيع الدّين ووباله أشدُّ وأفظعُ من كلّ شيء"3.
6- أن يُطلب العلم لذاته
"الحديث الشّريف4 قد عبّر عن علم العقائد والمعارف بالآية وهي بمعنى العلامة، والسرّ في التّعبير هذا هو أنّ العلوم العقليّة، والحقائق الاعتقاديّة إذا تمّ تحصيلها لأجل نفس هذه العلوم والحقائق ولأجل تجميع المفاهيم والمصطلحات وزخرفة العبارات وتزيين تركيب الكلمات بعضها مع بعض ومن ثمّ نقلها إلى العقول الضّعيفة، للحصول على المقامات الدنيويّة، لا تكون مثل هذه العلوم من الآيات المحكمة، وإنّما هي حجب غليظة وأوهام واهية، لأنّ الإنسان إذا لم يبتغِ من وراء طلب العلم الوصول إلى الحقّ، والتّحقّق بأسماء الله وصفاته، والتّخلّق بأخلاق الله، سيتحوّل كلّ واحدٍ من إدراكاته إلى دركات وحجب مظلمة، تسوّد قلبه
1 جنود العقل والجهل، ص 315.
2 (م.ن)، ص 67.
3 (م.ن)، ص 309-310.
4 عن النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنَّما العِلْمُ ثَلاَثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، وَمَا خَلاهُنَّ فَهُو فَضْلٌ" الكافي، ج1، ص32.
112
84
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
وتعمي بصيرته، ويصبح من مصاديق الآية المباركة التي تقول: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾1"2.
7- طلب الكثرة العلميّة
"فعلى السّالك ألاّ يغتّر بمكايد الشّيطان في هذا المقام، فيحتجب بكثرة العلم وغزارته وقوّة البرهان عن الحقّ والحقيقة ويتأخّر عن السّير في الطّلب. بل يشمّر ذيل همّته، ولا يغفل عن الجدّ في طلب المطلوب الحقيقيّ حتّى ينال المقام الثاني"3.
"فجمع المفاهيم والإكثار من المصطلحات لا تجدي نفعاً، وإنّما تُشغل القلب بغير الحقّ سبحانه، وتثنيه عن الذّات المقدّس، فيغفله"4.
و"لا بدّ أن يُعلم أنّ مجرّد العلم البرهانيّ والسّير التفكّريّ في باب التّوحيد الفعليّ لا ينتج النتيجة المطلوبة، بل ربّما تكون كثرة الاشتغال بالعلوم البرهانيّة سببًا لظلمة القلب وكدورته، وتمنع الإنسان من المقصد الأعلى. وفي هذا المقام قيل "العلم هو الحجاب الأكبر". وفي عقيدة الكاتب إنّ جميع العلوم عمليّة حتى علم التوحيد"5.
8- طلب التفوّق على الغير
"إنّ الإنسان يرغب أن يتفرّد في استيعاب معضلة علميّة وحلّها لدى محضر العلماء والرّؤساء والفضلاء ويبتهج أكثر كلّما كان توضيحه للمسألة العلميّة أحسن، ولفت انتباه الحاضرين أكثر. لأنّه يحبّ أن ينتصر على كلّ من يناظره. إنّه يشعر بنوعٍ من الدّلال العلميّ والتفوّق، وإذا اقترن ذلك بتصديق من إحدى الشّخصيّات لكان نور على نور. إنّ هذا المسكين غافلٌ عن أنّه أحرز هنا موقعًا لدى الفضلاء والعلماء ولكنّه سقط من عين ربّهم ومالك ملوك العالم، وأنّ عمله قد ترك بأمر الحقّ المتعال في سجّين... فإذا رجعتم
1 سورة طه، الآيات 124 - 126.
2 الأربعون حديثًا، ص 425.
3 معراج السالكين، ص 26.
4 الأربعون حديثًا، ص 427.
5 معراج السالكين، ص 104.
113
85
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
إلى باطنكم ورأيتم أنّكم ما زلتم تميلون للغلبة والاشتهار بين العلماء بالعلم والفضل وأنّ بحثكم العلميّ كان لأجل الحصول على المكانة في قلوب أولئك، إذًا، فاعلموا أنّكم مراؤون في هذا البحث العلميّ الذي هو من أفضل الطّاعات والعبادات وأنّ عملكم هذا ـ بحسب الرّواية الشّريفة في كتاب (الكافي) هو في "سجّين"، وأنّكم مشركون بالله"1.
9- العصبيّة
"قباحة هذه السّجيّة (العصبيّة) لدى أهل العلم هو جانب العلم نفسه، إذا إنّ هذه العصبيّة خيانة للعلم وتجاهل لحقّه إذ أنّ من يتحمّل عبء هذه الأمانة ويلبس لبوسها، فعليه أن يرعى حرمتها واحترامها، وأن يعيدها إلى صاحبها صحيحة سليمة. فإذا ما تعصّب، تعصّب الجاهلية يكون قد خان الأمانة وارتكب الظّلم والعدوان، وهذه بذاتها خطيئة كبرى. والنّاحية الثّانية من جرّاء هذه السّجيّة القبيحة إهانة أهل العلم فيما إذا كان التّعصّب في المباحث العلميّة، مع العلم بأنّ أهل العلم من الودائع الإلهيّة الواجب احترامهم. بينما يكون هتكهم هتكًا لحرمات الله ومن الموبقات الكبيرة. وقد تؤدّي العصبيّة التي لا تكون في محلّها، إلى هتك حرمة أهل العلم. أعوذ بالله من هذه الخطيئة الكبيرة!"2.
10- إنكار المقامات المعنويّة
"لعمر الحبيب ليس لي غاية من هذا الكلام إلّا أن ينتبه الأخوة الإيمانيّون وخصوصًا أهل العلم فلا ينكروا على الأقل مقامات أهل الله لأنّ هذا الانكار منشأ جميع الشّقاوات، وليس مقصودنا أن نبيّن من هم أهل الله بل مقصودنا ألاّ ننكر المقامات، وأمّا من هو صاحب هذه المقامات؟ فالله يعلم، وهذا أمر لا يطّلع عليه أحد"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 70-71.
2 (م.ن)، ص 180.
3 معراج السالكين، ص 178.
114
86
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
المفاهيم الرئيسة
1- لكي ينال الطّالب من العلم نوره، ولكي يقدّم العالم في التّعليم نوره، يجب عليهما رعاية مجموعة من الشّروط والآداب المعنويّة، وهي: مراقبة النّفس وإصلاحها، المداراة ورعاية القابليّات وتفعيلها، النّهوض بمهمّة التّربية، العمل بما يعلم، الإخلاص، استخدام الأساليب المناسبة، إخراج النّاس من الاحتجاب، التّركيز على العمق الفكريّ والمعنويّ، مجالسة العلماء مع حفظ آداب العشرة، الصمت، التّوسّع وعدم الانحصار بأحد العلوم، عدم التوقّف عند أي حدّ في طلب العلم، مودّة النّاس.
2- نفس العلم حجاب غليظ، فإذا لم يُخرق هذا الحجاب بتوفيقٍ من الله سبحانه في ظلّ التّقوى الكاملة وترويض النّفس والانقطاع التامّ لله، لم تُشرق في قلب السّالك أنوار الجمال والجلال، ولم يشهد قلب المهاجر إلى الله المشاهدات الغيبيّة.
3- يتصوّر بعض النّاس أنّهم على خير لأنّه لم يصبهم ما أصاب بعض أهل العلم من الغرور والعجب وحبّ الشّهرة والجاه، وهم لا يعلمون بأنّهم في الفتنة قد سقطوا.
4- يجب على الطّالب العالِم أن يتعرّف على العواقب الوخيمة والآثار المدمّرة للانحراف بسبب عدم تجاوز الموانع وخرق الحجب.
5- من الموانع التي تقف أمام طالب العلم وتمنعه من سلوك طريق العلم هي: سوء الخُلُق، المباهاة والتّفاخر والتكبّر، التّوقّف عن الازدياد العلميّ، طلب الدنيا، طلب العلم لذاته فيصبح حجب غليظة وأوهام واهية، طلب الكثرة العلميّة، طلب التفوّق على الغير، العصبيّة، إنكار المقامات المعنويّة.
6- إذا صار العالِمُ جبّارًا متكبّرًا بطلت خاصيّة علمه وتأثيره، وهذه أعظم خيانة للعلم والمعارف، لأنها تُبعد النّاس عن الحقّ والحقيقة.
7- إذا لم يبتغِ الإنسان من وراء طلب العلم الوصول إلى الحقّ، والتّحقّق بأسماء الله وصفاته، والتّخلّق بأخلاق الله، سيتحوّل كلّ واحدٍ من إدراكاته إلى دركات وحجب مظلمة، تسوّد قلبه وتعمي بصيرته.
8- العصبيّة خيانة للعلم وتجاهل لحقّه، كما أنها إهانة لأهل العلم وهتك لحرمتهم.
115
87
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ يَا مَنْ خَصَّ مُحَمَّدَاً وَآَلَهُ بِالْكَرَامَةِ وَحَبَاهُمْ بِالرِّسَالَةِ وَخَصَّصَهُمْ بِالْوَسِيلَةِ وَجَعَلَهُمْ وَرَثَةَ الأَنْبِيَاءِ وَخَتَمَ بِهِمُ الأَوْصِيَاءَ وَالأَئِمَّةَ وَعَلَّمَهُمْ عِلْمَ مَا كَانَ وَعِلْمَ مَا بَقِيَ وَجَعَلَ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآَلِهِ وَافْعَلْ بِنَا مَا أَنْتَ أَهْلُهُ فِي الدِّينِ وَالدَّنْيَا وَالآَخِرَةِ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ1.
الروايات الشريفة:
1- عن الإمام الصادق عليه السلام: "نَصْبُ الْحَقِّ لِطَاعَةِ اللهِ وَلَا نَجَاةَ إِلَّا بِالطَّاعَةِ وَالطَّاعَةُ بِالْعِلْمِ وَالْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعَلُّمُ بِالْعَقْلِ يُعْتَقَدُ وَلَا عِلْمَ إِلَّا مِنْ عَالِمٍ رَبَّانِيٍّ وَمَعْرِفَةُ الْعِلْمِ بِالْعَقْلِ"2.
2- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: "إِذَا سَمِعْتُمُ الْعِلْمَ فَاسْتَعْمِلُوهُ وَلْتَتَّسِعْ قُلُوبُكُمْ، فَإِنَّ الْعِلْمَ إِذَا كَثُرَ فِي قَلْبِ رَجُلٍ لَا يَحْتَمِلُهُ قَدَرَ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ فَإِذَا خَاصَمَكُمُ الشَّيْطَانُ فَأَقْبِلُوا عَلَيْهِ بِمَا تَعْرِفُونَ فَإِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً، فَقُلْتُ وَمَا الَّذِي نَعْرِفُهُ؟ قَالَ: خَاصِمُوهُ بِمَا ظَهَرَ لَكُمْ مِنْ قُدْرَةِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ"3.
3- عَنْ أَبِي الْجَارُودِ قَالَ: "سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: رَحِمَ اللهُ عَبْدًا أَحْيَا الْعِلْمَ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا إِحْيَاؤُهُ؟ قَالَ: أَنْ يُذَاكِرَ بِهِ أَهْلَ الدِّينِ وَأَهْلَ الْوَرَعِ"4.
5- عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: "قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ عليه السلام: يَا هِشَامُ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَشَّرَ أَهْلَ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾...
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام في ذكر محمد وآل محمد.
2 الكافي، ج1، ص 17.
3 (م.ن)، ص 45.
4 (م.ن)، ص 41.
116
88
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
يَا هِشَامُ إِنَّ الْعَقْلَ مَعَ الْعِلْمِ، فقَالَ: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾"1.
6. عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ عَلَيْهِ قُفْلٌ وَ مِفْتَاحُهُ الْمَسْأَلَةُ"2.
7. عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "الْعِلْمُ مَقْرُونٌ إِلَى الْعَمَلِ فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ وَمَنْ عَمِلَ عَلِمَ وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ عَنْه"3.
8. عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ يُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ الرِّئَاسَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِأَهْلِهَا"4.
9. عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: "إِذَا جَلَسْتُمْ إِلَى الْمُعَلِّمِ أَوْ جَلَسْتُمْ فِي مَجَالِسِ الْعِلْمِ فَادْنُوا وَلْيَجْلِسْ بَعْضُكُمْ خَلْفَ بَعْضٍ وَلَا تَجْلِسُوا مُتَفَرِّقِينَ كَمَا يَجْلِسُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ"5.
10- عَنِ الصَّادِقِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ: "يَا ابْنَ النُّعْمَانِ لَا تَطْلُبِ الْعِلْمَ لِثَلَاثٍ لِتُرَائِيَ بِهِ وَلَا لِتُبَاهِيَ بِهِ وَلَا لِتُمَارِيَ وَلَا تَدَعْهُ لِثَلَاثٍ رَغْبَةٍ فِي الْجَهْلِ وَزَهَادَةٍ فِي الْعِلْمِ وَاسْتِحْيَاءٍ مِنَ النَّاسِ"6.
11- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لو أنّ أهل العلم حملوه بحقّه لأحبّهم الله وملائكته ولكنّهم حملوه لطلب الدّنيا فمقتهم الله تعالى وهانوا عليه"7.
1 الكافي، ج1 ص 13.
2 (م.ن)، ص 40.
3 (م.ن)، ص 44.
4 (م.ن)، ص 47.
5 مستدرك الوسائل، ج8، ص 403.
6 (م.ن)، ج8، ص 467.
7 غرر الحكم، ص 48.
117
89
الدرس الثامن: العزم
الدرس الثامن: العزم
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى ماهيّة العزم وأهمّيته وموقعه في السّير والسّلوك.
2- يبيّن كيف يمكن أن يصبح الإنسان من أصحاب عزيمة.
3- يحلِّل أسباب ضعف العزيمة فينا.
119
90
الدرس الثامن: العزم
تمهيد
نحن نعلم أنّ قدر المرء على قدر عزيمته، وأنّه لا يُنال شيءٌ من المجد والسّؤدد إلّا بالعزم، لكنّنا عندما نسبر أغوار هذه الصّفة نتفاجأ كم تحمل من أسرار.
كم نتمنّى أن نصبح من أصحاب العزائم، وخصوصًا إذا عرفنا طول المسير وبُعد السّفر وقلّة الزّاد ووحشة الطّريق وكثرة الآفات وشدّة الصّعوبات.
فنسمع عن أصحاب المقامات المعنويّة ونقرأ عن أحوال العارفين ونتعرّف على رجالٍ أشدّاء في الله، ونرى العزم فيهم جميعًا كصفة مشتركة. ثمّ نتساءل هل يأتي العزم مع الوراثة والطّباع أم أنّه يحصل بالسّعي والتكسّب؟ وهل هو موهبة إلهيّة محضة أم فضيلة مكتسبة؟ هذا ما ستسعى الصّفحات التالية إلى الإجابة عنه.
ما هو العزم؟
بالرّغم من كون العزم من الأمور الوجدانيّة لأنّه قلّ من لم يجرّبه في حياته، إلّا أنّ التّفكّر فيه وفي أسراره يفتح علينا أبواب المعارف الإنسانيّة. كيف لا! وهو كما وصفه الإمام الخمينيّ قدس سره: "جوهر الإنسانيّة ومعيار ميزة الإنسان، ويكون اختلاف درجات الإنسانيّة باختلاف درجات العزم"1.
كلّ واحدٍ منّا كان له في حياته عزم على أمرٍ ما. وأكثر ما عزمنا عليه يرتبط بدنيانا وحاجاتنا المادّيّة. لكنّ العزم المقصود هنا هو ما يرتبط بأمور عظيمة يراها أهل الدّنيا في المستحيلات، كما يقول الإمام قدس سره في هذا المجال: "العزم... هو أن يوطّن الإنسان نفسه على ترك المعاصي وأداء الواجبات، ويتّخذ قراراً بذلك، ويتدارك ما فاته في أيّام حياته،
1 الأربعون حديثًا، ص 30.
121
91
الدرس الثامن: العزم
وبالتّالي يسعى على أن يجعل من ظاهره إنسانًا عاقلًا وشرعيًّا، بحيث يحكم الشرع والعقل حسب الظاّهر بأنّ هذا الشخص إنسان. والإنسان الشّرعيّ هو الذي ينظّم سلوكه وفق ما يتطلّبه الشّرع، يكون ظاهره كظاهر الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، يقتدي بالنّبيّ العظيم صلى الله عليه وآله وسلم، ويتأسّى به في جميع حركاته وسكناته، وفي جميع ما يفعل وما يترك. وهذا أمرٌ ممكنٌ، لأنّ جعل الظّاهر مثل هذا القائد أمرٌ مقدورٌ لأيّ فرد من عباد الله"1.
فما رآه أهل الدّنيا مستحيلًا يعدّه الإمام الخمينيّ ممكنًا لأنّه الخبير بهذا العالم وما فيه من أسرار.
وللوهلة الأولى إذا عرف الإنسان ظاهر رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم يدرك أنّ مطابقة ظاهره لظاهر الرّسول في حركاته وسكناته أمرٌ بعيد المنال، وهو غاية في الصّعوبة. لكنّ الإمام يدعونا إلى امتلاك عزم يرتبط بهذا المقام. وبالتّاكيد لا يطلب منّا أن نمتلك عزمًا يوصلنا إلى باطن الرّسولصلى الله عليه وآله وسلم لأنّه فوق قدرة جميع البشر وطاقاتهم، فهو أعظم أولي العزم من المرسلين قاطبةً.
أهميّة العزم ودوره
يذكر الإمام مجموعة من أبعاد العزم وأدواره، منها:
1- أوّل شرط للسّلوك
"فقوّ عزمك واحكم إرادتك، فإنّ أوّل شرط للسّلوك هو العزم، وبدونه لا يمكن أن يُسلك أيّ طريق أو يُنال أيّ كمال. والشّيخ الأجلّ الشّاه آبادي (روحي فداه) كان يعبّر عنه بلبّ الإنسانيّة. بل يمكن أن يُقال أنّ من إحدى الجهات المهمّة للّتقوى والتّجنّب عن المشتهيات النفسانيّة وترك أهوائها والرياضات الشرعية والعبادات والمناسك الإلهيّة تقوية العزم وانقهار القوى الملكيّة تحت ملكوت النفس"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 30.
2 معراج السالكين، ص 64.
122
92
الدرس الثامن: العزم
2- قطع جذور حبّ الدّنيا
"إنّ قطع جذور حبّ الدّنيا أمرٌ صعب ـ خصوصًا في بداية الأمر وابتداء السّلوك ـ ولكن كلّ صعب يتيسّر بالعزم وقوة الإرادة، فقوّة الإرادة والعزم الرّاسخ حاكمان على كل أمر صعب وأقوى منه، وهما ييسران كل طريق طويل شائك"1.
3- امتلاك وسيلة السّير إلى الله
"إن المرحلة الأولى من مراحل الإنسانية هي "اليقظة" وهي الاستيقاظ من نوم الغفلة، والصّحوة من سكر الطّبيعة، والإدراك بأنّ الإنسان مسافر، وأنّه لا بُدَّ للمسافر من زاد وراحلة. وزاد الإنسان خصاله، وراحلته في هذه المرحلة الخطيرة المخيفة، وفي هذه الطّريق الضيّقة، على الصّراط الذي هو أحدَّ من السّيف وأدقّ من الشّعرة2، هي همّة الرجال وعزمهم"3.
4- عبور مراتب الكمال
ينقل الإمام الخمينيّ قدس سره عن أحد المشايخ: "إنَّ العزم هو جوهر الإنسانية، ومعيار ميزة الإنسان، وأن اختلاف درجات الإنسان باختلاف درجات عزمه"4. ويضيف: "إذا لم يُعمّر مقام الغيب للنفس بالمعارف الإلهية، والجذبات الغيبية الذاتية، لم تحصل للإنسان جَنَّة الذاتَ وَاللِّقاءِ. وإن لم يهذّب الباطن، ولم يتحلَّ الداخل، ولم تقوَ الإرادة والعزم ولم يكن القلب محلّ تجلٍّ للأسماء والصّفات، لم تكن جَنَّةُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفات التي هي الجنّة المتوسّطة للإنسان"5.
5- التحقّق بمقام الكمال الأخرويّ
يقول الإمام قدس سره: "اجتهد لتصبح ذا عزم وإرادة، فإنّك إذا رحلت من هذه الدنيا دون أن يتحقّق فيك العزم (على ترك المحرمات) فأنت إنسانٌ صوريّ، بلا لبّ، ولن تُحشر في
1 جنود العقل والجهل، ص 235.
2 كما جاء في الحديث النبوي صلى الله عليه وآله وسلم: "الصراط أدق من الشعر وأحدّ من السيف وأظلم من الليل" الكافي، ج8، ص313. "المقصد الرابع في معنى الصراط" وبنفس هذا المعنى جاء في الرواية المروية عن الإمام الصادق عليه السلام في آمالي الصدوق, ص177 وكذلك في بحار الأنوار, ج8، ص65.
3 الأربعون حديثًا، ص 125.
4 (م.ن)، ص 30.
5 (م.ن)، ص 446.
123
93
الدرس الثامن: العزم
ذلك العالم (عالم الآخرة) على هيئة إنسان، لأنّ ذلك العالم هو محلّ كشف الباطن وظهور السّريرة"1.
و"اعلم، يا عزيزي، أنّ العزم والإرادة القويّة لذلك العالم ضروريّان وذات فعاليّة. إنّ البلوغ لأحد مراتب الجنّة والذي يُعدّ من أفضلها هو العزم والإرادة. فالإنسان الذي ليست له إرادة نافذة ولا عزم قويّ لا ينال تلك الجنّة ولا ذلك المقام الرّفيع"2.
6- انقهار جميع قوى النّفس للحقّ
"إنّ من الفضائل والأسرار الشاقّة والصّعبة للعبادات تحقّق هذا الهدف ـ تسخير مُلك الجسم للملكوت ـ أكثر حيث يصير الإنسان بذلك ذا عزم، ويتغلّب على الطبيعة والملك. فإذا اكتملت الإرادة وقوي العزم واشتد، أصبح كمَثَل الجسم وقواه الظاهرة والباطنة مَثَل ملائكة اللّه الذين لا يعصون الله وإنّما يطيعونه في كلّ ما يأمرهم به وينهاهم عنه، من دون أن يعانوا في ذلك عنتًا ولا مشقّة. كذلك إذا أصبحت قوى الإِنسان مسخّرة للرّوح، زال كلّ تكلّف وتعب وتحوّل إلى الرّاحة واليسر، واستسلمت أقاليم الملك السّبعة للملكوت وأصبحت جميع القوى عمّالاً له"3.
7- شرط لنيل المحبّة والتّوبة
"تترك كل معصية في الروح أثراً عُبّر عنه في الأحاديث الشّريفة بالنّقطة السّوداء وهي ظلام ظهر في القلب والرّوح ثم تتوسّع هذه النقطة حتى تسوق الإنسان إلى الكفر والزندقة والشقاوة الأبدية... فالإنسان العاقل لو انتبه لهذه المعاني واعتنى بكلام الأنبياء والأولياء ـ عليهم السلام ـ والعرفاء والحكماء والعلماء ـ رضوان الله عليهم ـ بقدر اعتنائه بقول طبيب معالج، لابتعد لا محالة عن المعاصي ولم يقترب منها أبداً. وإذا ابتلي بالمعصية لا سمح الله أبدى بسرعة تبرّمه وانزعاجه منها وندم عليها وظهرت صورة ندمه في قلبه وتكون نتيجة هذه النّدامة عظيمة جداً، وآثارها حسنة وكثيرة ثم يحصل من جرّاء ندمه العزم على ترك
1 الأربعون حديثًا، ص 30.
2 (م.ن)، ص 152.
3 (م.ن)، ص 151-152.
124
94
الدرس الثامن: العزم
المعصية وترك مخالفة ربّ العالمين. وعندما يتوفّر هذان الركنان ـ النّدم على اقتراف المعصية والعزم على عدم العودة إليها ـ يتيسّر أمر سالك طريق الآخرة، وتغمره التوفيقات الإلهيّة ليصبح حسب النّص القرآنيّ ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾1"2.
ما الذي يحقّق العزم؟
يبيّن الإمام مجموعة من الشّروط والمقدّمات التي تحقّق العزم، فيقول:
1- اليقظة
"اعلم أنّ المنزل الأوّل من منازل الإنسانيّة هو منزل اليقظة كما يقوله كبار أهل السّلوك في بيانهم لمنازل السالكين، ولهذا المنزل كما يقول الشيخ العظيم الشأن الشاه آبادي ـ دام ظله ـ بيوت عشرة، لسنا الآن بصدد تعدادها. ولكن ما يجب قوله هو أنّ الإنسان ما لم ينتبه إلى أنّه مسافر، ولا بُدَّ من السير، وأنّ له هدف وتجب الحركة نحوه، وأنّ البلوغ إلى المقصد ممكن، لما حصل له العزم والإرادة للتحرّك"3.
2- الصّبر
"إنّ الصبر مفتاح أبواب السعادات، وباعث للنجاة من المهالك بل الصبر يهوّن المصائب، ويخفف الصّعاب، ويقوّي العزم والإرادة، ويبعث على استقلالية مملكة الروح"4. فاتّضح أنّ المعرفة بالدّور والهدف والصّبر عليه هو الذي يولّد العزم في وجود الإنسان لبلوغ مراتب الكمال.
برنامج تحصيل العزم
بالإضافة إلى ما تقدّم يذكر الإمام قدس سره مجموعة من الوصايا العمليّة التي تساعد على تقوية العزم اللازم للسّير إلى الله، منها:
1- عدم اليأس
"كما أنّ إرادة الإنسان في شبابه، شابّة وقويّة، وعزمه شابّ وقويّ، لذلك فالإصلاح أيسر عليه يومئذٍ، أمّا في مرحلة الشيخوخة فالإرادة تضعف، والعزم يشيخ، لذا تكون السيطرة على
1 الأربعون حديثًا، ص 309.
2 سورة البقرة، الآية 222.
3 (م.ن)، ص 202.
4 (م.ن)، ص 297.
125
95
الدرس الثامن: العزم
القوى أصعب على الإنسان، ولكن ـ مع ذلك ـ لا ينبغي للشيوخ أن يغفلوا عن السّعي لإصلاح نفوسهم وتزكيتها، فلا ينبغي لهم أن ييأسوا، لأنّ الإنسان ـ رغم كلّ ذلك ـ يستطيع أن يصلح نفسه ما دام في هذا العالم ـ وهو دار التبدّل والتغيّر، ومنزل الهيولى والاستعداد، ويمكنه بالجهد والاجتهاد أن يقتلع جذور الأمراض النفسانيّة المزمنة مهما بلغت درجة رسوخها"1.
2- الابتعاد عن الملذّات
"كلّما كانت العبادات أشق كانت أرغب: "أَفْضَلُ الأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا"2. فالتنازل عن النوم اللذيذ في ليل الشتاء البارد، والانصراف إلى عبادة الحقّ المتعال، يزيد من قوّة الرّوح وتغلّبها على قوى الجسم، ويقوّي الإرادة. وإذا كان هذا في أوّل الأمر على شيءٍ من المشقّة والعناء، فإنّ ذلك يخفّ تدريجيًّا كلّما واصل العبادة، وازدادت طاعة الجسم للنفس. إذ أننا نلاحظ أنّ أهل العبادة يقومون بالأعمال دون مشقّة وتكلّف. أمّا نحن فشعورنا بالكسل وبالمشقّة ناشئ من أنّنا لا نبدأ بالعمل. فلو أنّنا بدأنا العمل وكرّرناه عدّة مرات، لتبدّلت مشقّته إلى راحة، بل إنّ أهلها يلتذّون بها أكثر مما نلتذّ نحن بمشتهيات الدّنيا. إذًا، الأمر يصبح عاديًّا بالتّكرار. والخير عادة"3.
3- العبادة
"للعبادة ثمرات، منها: أنّ صورة العمل نفسه تصبح على قدر من الجمال في ذلك العالم لا يكون له نظير في هذا العالم، ونكون عاجزين عن تصوّر مثلها. ومنها: أنّ النّفس تصبح ذات عزم واقتدار، فتكون لها نتائج كثيرة"4.
4- الرّياضات الشّرعيّة
"وكما يقوى عزم الإِنسان بالرياضات الشرعية والعبادات والمناسك وترك الرغبات ويصبح الإنسان ذا عزم وإرادة، فكذلك في المعاصي تتغلب الطبيعة لدى الإنسان وتضعف إرادته وعزمه"5.
1 جنود العقل والجهل، ص 154.
2 بحار الأنوار، ج67، ص191.
3 الأربعون حديثًا، ص 153.
4 (م.ن)، ص 153.
5 (م.ن)، ص 153.
126
96
الدرس الثامن: العزم
5- ترك التّسويف
"إنّ طريق الحقّ سهلٌ بسيط، ولكنّه يحتاج إلى انتباهٍ يسير، فيجب العمل، لأنّ التّباطؤ والتّسويف، ومضاعفة المعاصي في كلّ يوم، تبعث على صعوبة الأمر، وأمّا الإقبال على العمل، والعزم على إصلاح السّلوك والنّفس، يقرّب الطّريق ويسهّل العمل"1.
أسباب ضعف العزيمة
إنّ الالتفات إلى العوامل التي تؤدّي إلى إضعاف العزم، بل زواله، أمر ضروريّ لكلّ مجاهد في سبيل الله، ويذكر الإمام مجموعة من موانع العزم، فيقول:
1- التجرّؤ على المعاصي
"وإنّ التجرّؤ على المعاصي يفقد الإنسان تدريجيًّا، العزم ويختطف منه هذا الجوهر الشريف"2.
2- استماع الغناء
"يقول الأستاذ المعظم دام ظلّه: إنَّ أكثر ما يسبّب على فقد الإنسان العزم والإرادة هو الاستماع للغناء"3.
3- حبّ الدّنيا
"ومن المفاسد الكبيرة لحبّ الدّنيا أنّه يمنع الإنسان من الرّياضات الشّرعيّة والعبادات والمناسك، ويُقوّيّ جانب الطّبيعة في الإنسان بحيث يجعلها تعصي الرّوح وتتمرّد عليها ويوهن عزم الإنسان وإرادته"4.
4- التّسويف
"ويجب أن نعرف أن من أهم أسباب عدم التيقظ الذي يؤدي إلى نسيان المقصد ونسيان لزوم المسير، وإلى إماتة العزم والإرادة، هو أن يظنّ الإنسان أنّ في الوقت متّسعًا للبدء
1 الأربعون حديثًا، ص 313.
2 (م.ن)، ص 30-31.
3 (م.ن)، ص 31.
4 (م.ن)، ص 151.
127
97
الدرس الثامن: العزم
بالسّير، وأنّه إذا لم يبدأ بالتحرّك نحو المقصد اليوم، فسوف يبدأه غداً، وإذا لم يكن في هذا الشهر، فسيكون في الشهر المقبل"1.
5- تحريف وجهة العزم
"القلب بمثابة مرآة لها وجهان، وجهٌ منها نحو عالم الغيب، وتنعكس فيه الصّور الغيبيّة، ووجه آخر نحو عالم الشّهادة وتنعكس فيه الصّور المُلكيّة الدّنيويّة. ويتمّ انعكاس الصّور الدنيويّة من خلال القوى الحسّية الظّاهريّة وبعض القوى الباطنيّة مثل الخيال والوهم. وتنتقش الصّور الأخرويّة فيها من باطن العقل وسرّ القلب. فإذا قويت الوجهة الدنيويّة، والتفتت كلّيًّا إلى تعمير الدّنيا، وانحصرت همّته في هذا العالم واستغرق في ملاذ البطن والفرج، وكافّة المشتهيات والمتع الدّنيويّة، انعطف باطن الخيال نحو الملكوت السّفليّ، الذي يكون بمثابة الظلّ المظلم لعالم المُلك والطّبيعة، وعالم الجنّ والشياطين والنّفوس الخبيثة، وتكون الالقاءات شيطانيّة، وباعثة على تخيّلات باطلة وأوهام خبيثة. وحيث أنّ النّفس تنتبه إلى الدّنيا، اشتاقت إلى تلك التخيّلات الباطلة، وتبعها أيضًا العزم والإرادة، وتتحوّل كلّ الأعمال القلبية والقالبية إلى سنخ الأعمال الشيطانية من قبيل الوسوسة"2.
موعظة للإمام
"إذاً، تجنّب يا أخي المعاصي، واعزم على الهجرة إلى الحقّ تعالى، واجعل ظاهرك ظاهرًا إنسانيًّا، وادخل في سلك أرباب الشّرائع، واطلب من الله تعالى في الخلوات العون على بلوغ هذا الهدف واستشفع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام حتى يوفّقك الله على ذلك، ويعصمك من المزالق التي تعترضك، لأنّ هناك مزالق كثيرة تعترض الإنسان أيام حياته، ومن الممكن أنّه في لحظة واحدة يسقط في مزلق مهلك، يعجز من السّعي لإنقاذ نفسه، بل قد لا يهتم بإنقاذ نفسه، بل ربّما لا تشمله حتى شفاعة الشافعين. نعوذ بالله منها"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 202.
2 (م.ن)، ص 433.
3 (م.ن)، ص 31.
128
98
الدرس الثامن: العزم
المفاهيم الرئيسة
1- العزم هو أن يوطّن الإنسان نفسه على ترك المعاصي وأداء الواجبات، ويتّخذ قراراً بذلك، ويتدارك ما فاته في أيّام حياته.
2- من أبعاد العزم وأدواره أنّه: أوّل شرط للسّلوك, يقطع جذور حبّ الدّنيا, زاد الإنسان في سيره وسلوكه, السّبيل لنيل الجنّة, يجعل جميع قوى النّفس منقهرة للحقّ, شرط لنيل المحبّة والتّوبة.
3- شروط تحقّق العزم:
- اليقظة: فما لم ينتبه إلى أنّه مسافر، ولا بُدَّ من السير، وأنّ له هدف وتجب الحركة نحوه، وأنّ البلوغ إلى المقصد ممكن، لما حصل له العزم والإرادة للتحرّك.
- الصّبر: فالصبر يهوّن المصائب، ويخفف الصّعاب، ويبعث على استقلالية مملكة الروح، وبالتالي يقوّي العزم.
4- يحصل العزم من خلال:
- عدم اليأس: فما دام الإنسان في هذا العالم ــ دار التبدّل والتغيّر، ومنزل الهيولى والاستعداد ـ يمكنه بالجهد والاجتهاد أن يقتلع جذور الأمراض النفسانيّة المزمنة مهما بلغت درجة رسوخها.
- الابتعاد عن الملذّات: فالتنازل عن النوم اللذيذ في ليل الشتاء البارد، والانصراف إلى عبادة الحقّ المتعال، يزيد من قوّة الرّوح وتغلّبها على قوى الجسم، ويقوّي الإرادة.
- ترك التّسويف، لأنّ التّباطؤ والتّسويف، ومضاعفة المعاصي في كلّ يوم، تبعث على صعوبة الأمر.
5- أسباب ضعف العزيمة:
التجرّؤ على المعاصي، استماع الغناء، حبّ الدّنيا، التّسويف، تحريف وجهة العزم نحو الملذّات الدنيويّة والخيالات الباطلة.
129
99
الدرس الثامن: العزم
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"وقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ زَادَ الرَّاحِلِ إِلَيْكَ عَزْمُ إِرَادَةٍ يَخْتَارُكَ بِهَا وَيَصِيرُ بِهَا إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَيْكَ اللَّهُمَّ وقَدْ نَادَاكَ بِعَزْمِ الْإِرَادَةِ قَلْبِي واسْتَبَقَنِي (اسْتَبْقَى) نِعْمَتَكَ بِفَهْمِ حُجَّتِكَ لِسَانِي وَمَا تَيَسَّرَ لِي مِنْ إِرَادَتِكَ اللَّهُمَّ فَلَا أُخْتَزَلَنَّ عَنْكَ وَأَنَا أَؤُمُّكَ وَلَا أُخْتَلَجَنَّ عَنْكَ وأَنَا أَتَحَرَّاكَ اللَّهُمَّ وأَيِّدْنَا بِمَا تَسْتَخْرِجُ بِهِ فَاقَةَ الدُّنْيَا مِنْ قُلُوبِنَا وَتَنْعَشُنَا مِنْ مَصَارِعِ هَوَانِهَا وتَهْدِمُ بِهِ عَنَّا مَا شُيِّدَ مِنْ بُنْيَانِهَا وَسْقِينَا بِكَأْسِ السَّلْوَةِ عَنْهَا حَتَّى تُخْلِصَنَا لِعِبَادَتِكَ وتُورِثَنَا مِيرَاثَ أَوْلِيَائِكَ"1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾2.
2- ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾3.
الروايات الشريفة:
1- عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْجَهْمِ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ عليه السلام: "إِنَّ عِنْدَنَا قَوْماً لَهُمْ مَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْعَزِيمَةُ، يَقُولُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ، فَقَالَ: لَيْسَ أُولَئِكَ مِمَّنْ عَاتَبَ اللهُ إِنَّمَا قَالَ اللهُ ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾"4.
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً مُمْتَحَناً إِخْلَاصُهَا مُعْتَقَداً مُصَاصُهَا نَتَمَسَّكُ بِهَا أَبَداً مَا أَبْقَانَا وَنَدَّخِرُهَا لِأَهَاوِيلِ مَا يَلْقَانَا فَإِنَّهَا عَزِيمَةُ الْإِيمَانِ وَفَاتِحَةُ الْإِحْسَانِ وَمَرْضَاةُ الرَّحْمَنِ وَمَدْحَرَةُ الشَّيْطَانِ"5.
1 الشيخ عبّاس القمّيّ، مفاتيح الجنان، من أدعية يوم المبعث.
2 سورة آل عمران، الآية 186.
3 سورة الشورى، الآية 43.
4 الكافي، ج1، ص 11.
5 نهج البلاغة، ص 46.
130
100
الدرس الثامن: العزم
3- عَنْ هِشَامٍ عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: "سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السلام يَقُولُ: سَادَةُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ خَمْسَةٌ وَهُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَعَلَيْهِمْ دَارَتِ الرَّحَى نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ"1.
4- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "قَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ هَمَّامٌ وَكَانَ عَابِداً نَاسِكاً مُجْتَهِداً إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صِفْ لَنَا صِفَةَ الْمُؤْمِنِ كَأَنَّنَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا هَمَّامُ الْمُؤْمِنُ... يُحِبُّ فِي اللهِ بِفِقْهٍ وَعِلْمٍ وَيَقْطَعُ فِي اللهِ بِحَزْمٍ وَعَزْمٍ"2.
5- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إذا عقدتم على عزائم خير فأمضوها"3.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لَا تَجْتَمِعُ عَزِيمَةٌ وَوَلِيمَةٌ، مَا أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ، وَأَمْحَى الظُّلَمَ لِتَذَاكِيرِ الْهِمَمِ"4.
7- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "عزيمة الكيس وجدّه لإصلاح المعاد والاستكثار من الزاد"5.
1 الكافي، ج1، ص 175.
2 (م.ن)، ج2، ص 226.
3 تصنيف غرر الحكم، ص 476.
4 نهج البلاغة، خ 239.
5 تصنيف غرر الحكم، ص 149.
131
101
الدّرس التاسع: التفكّر
الدّرس التاسع: التفكّر
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى ماهيّة التفكّر ودوره في تكامل الإنسان.
2- يشرح أهم المسائل التي ينبغي التفكّر بها.
3- يبيّن أهم موانع التفكّر والعوامل التي تساعد على تحصيل هذه الفضيلة.
133
102
الدّرس التاسع: التفكّر
تمهيد
إذا كان تهذيب النّفس أساس الحياة المعنويّة ونيل الفيوضات الرّبّانيّة، فإنّ التفكّر هو الخطوة الأولى على هذا الطّريق. وليس المقصود أن يكون للإنسان بعض الأوقات يتفكّر فيها، بل أن يصبح التّفكّر في شخصيّته سمة بارزة وملكة راسخة.
إنّ التفكّر يعبّر عن تفاعل الإنسان الإيجابيّ مع كلّ ما هو إلهيّ ورحمانيّ. فقد خلق الله الوجود ودبّره بحكمته وأرسل من يهدي إليه وحمّلهم كتبه من أجل أن يتفاعل البشر مع كلّ المظاهر ويستفيدوا منها، فينالوا بذلك كمالهم ويسيروا باتّجاه غاية خلقهم. ولا يمكن أن يحصل هذا التّفاعل إلّا إذا سعى الإنسان لمعرفة أسرار الخلق ومعانيه، وهذا الذي يحصل بالتّفكّر.
ما هو التّفكّر؟
لا بدّ أوّلًا من أن نعرف ما هو التفكّر. فالكثير من النّاس يظنّون أنّ التفكّر عبارة عن استحضار صور القضايا في الذّهن والخيال والتجوّل فيها. لكنّ التفكّر أمرٌ أبعد من ذلك لأنّه يرتبط بالتوّجه إلى المقصد واستحضار الغايات من القضايا، كما يقول الإمام الخميني قدس سره: "والعمدة في هذا الباب أن يفهم الإنسان ما هو التّفكّر الممدوح، لأنّه لا شكّ في أنّ التّفكّر ممدوحٌ في القرآن والحديث، فأحسن التّعبير فيه ما قاله الخواجة عبدالله الانصاري قدس سره: "اعلم أنّ التّفكّر تلمّس البصيرة لاستدراك البغية"، يعني أنّ التفكر هو تجسّس البصيرة (وهي بصر القلب) للوصول إلى المقصود والنّتيجة التي هي غاية الكمال. ومن المعلوم أنّ المقصد هو السّعادة المطلقة التي تحصل بالكمال العلميّ والعمليّ"1.
1 معراج السالكين، ص 214.
135
103
الدّرس التاسع: التفكّر
ولهذا فإنّ التّفكّر المطلوب في آيات القرآن الكريم هو السّعي للوصول إلى المقصد كما قال الإمام الخمينيّ قدس سره: "من آداب قراءة القرآن حضور القلب... ومن آدابه المهمّة: التّفكّر، والمقصود من التّفكّر أن يبحث في الآيات الشّريفة عن المقصد والمقصود"1.
أهميّته
من خلال التّأمّل في أحوال البشر يتبيّن لنا أنّ الإنسان لا يمكن أن يخلو من حالة التّفكّر، فما دام مستيقظًا فهو دائم التّجوال في الأفكار، بل قد يلحقه التفكّر إلى النّوم أحيانًا!
التّفكّر ـ إذًا ـ هو أمرٌ قهريّ. ويكون الحثّ عليه عندها من باب تحصيل الحاصل! لكن لو تأمّلنا جيّدًا، لوجدنا أنّ أكثر النّاس لا يعرفون كيفيّة التّفكّر الصّحيح، ولا يتفكّرون فيما ينبغي لهم، بل يغلب عليهم التّفكّر في أمور لا طائل وراءها. لهذا، فإنّ جُلّ ما ورد في باب التّفكّر إنّما كان لأجل توجيهنا نحو المواد التي ينبغي أن نتفكّر فيها. وقد أشارت بعض النّصوص إلى شروطه وكيفيّته. وشاهدنا بعضها يدلّنا على موانعه وعواقب تركه وإهماله.
أكثر ما نحتاج إليه ليصبح التّفكّر ملكة راسخة فينا، فنتقدّم على طريق الكمال، هو إدراك أهميّته واستشعار عظمة تأثيره ودوره على جميع الصّعد. لهذا، لم يكن أمامنا أجمل ممّا قاله الإمام الخمينيّ قدس سره شارحًا مفسّرًا للنّصوص الشّريفة:
1- غاية إنزال الكتاب
"قد كثرت الدّعوة إلى التّفكر وتمجيده وتحسينه في القرآن الشّريف قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾2. وفي هذه الآية مدحٌ عظيم للتّفكّر، لأنّها جعلت غاية إنزال الكتاب السّماويّ العظيم والصّحيفة النّورانيّة المجيدة احتمال التّفكّر، وهذا من شدّة الاعتناء به حيث أنّ مجرّد احتماله صار موجبًا لهذه الكرامة العظيمة، وقال تعالى في الآية الأخرى: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾3. والآيات من هذا القبيل أو ما يقرب منه كثيرة والروايات أيضًا في التّفكّر كثيرة. فقد نُقل عن الرّسول
1 معراج السالكين، ص 213.
2 سورة النحل، الآية 44.
3 سورة الأعراف، الآية 176.
136
104
الدّرس التاسع: التفكّر
الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لمّا نزلت الآية الشّريفة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ﴾ إلى آخرها.. قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها"1.
2- باب معرفة الله
"فالطّريق الطبيعيّ لمعرفة الله وطلبه هو أنّ يبتدئ الإنسان أوّلاً بإنفاق وقت في التّفكّر بالحقّ سبحانه، ويحصل على العلم بالله وأسماء ذاته المقدّس وصفاته حسب الأساليب المتّبعة من التّلمذة على يد رجال ذلك العلم، ثم يتزوّد من المعارف بواسطة الرياضة العلميّة والعمليّة وينتهي بذلك حتمًا إلى النّتيجة المنشودة"2.
3- مقدّمة للتذكّر
"إنّ قوّة التّذكّر وكماله، يرتبطان بقوّة التّفكر وكماله. والتّفكّر الذي يفضي إلى التّذكّر التامّ للمعبود، لا يساوي الأعمال الأخرى ولا يقاس في الفضيلة بها. ففي الأحاديث الشّريفة أن تفكّر ساعة أفضل من عبادة سنة واحدة أو ستين عاماً أو سبعين عاماً. ومن الواضح أنّ الغاية من العبادات وثمرتها المهمّة، حصول المعرفة والتّذكّر للمعبود الحقّ. والحصول على هذه الخاصيّة من التفكّر الصّحيح، أحسن من الحصول عليها عن طريق العبادة. إذ لعلّ تفكر ساعة واحدة، يفتح أبوابًا من المعارف على السّالك، لا تفتحها عبادة سبعين سنة، أو إنّ في تفكّر ساعة واحدة تذكّر للإنسان بحبيبه سبحانه، ما لا يحصل من المشاق والمساعي المجهدة فترة سنين عديدة مثل هذا التذكّر. واعلم أيّها العزيز أنّ تذكر الحبيب، والتّفكّر فيه دائماً، يثمر نتائج كثيرة لكافّة الطّبقات"3.
4- مقدّمة الإيمان
"اعلم، أنّ الإيمان بالمعارف الإلهيّة وأصول العقائد الحقّة لا يتحقّق إلاّ بما يلي: أن يفهم المرء أوّلًا تلك الحقائق بوسيلة التّفكّر والرّياضات العقليّة، والآيات والبيانات والبراهين العقليّة، وهذه المرحلة هي بمثابة مقدّمة الإيمان"4.
1 معراج السالكين، ص 213-214.
2 الأربعون حديثًا، ص 489.
3 (م.ن)، ص 325.
4 جنود العقل والجهل، ص 93-94.
137
105
الدّرس التاسع: التفكّر
5- مفتاح أبواب المعارف
"فالتّفكّر هو مفتاح أبواب المعارف وخزائن الكمالات والعلوم، وهو مقدّمة لازمة وحتمية للسّلوك الإنساني"1.
6- مقدّمة لازمة للسّلوك
"اعلم أنّ أوّل شرط مجاهدة النّفس والّسير باتّجاه الحقّ تعالى هو "التّفكّر""2.
7- باب جعل القلب إلهيًّا
"من الأمور الهامّة، إذًا، السّعي في سبيل تطوير حالة القلب، وجعلها إلهيّة، وتوجيهها نحو الحقّ المتعالى وأوليائه ودار كرامته، ويتمّ هذا قطعاً بواسطة التّفكّر في آلاء الذّات المقدّس، ونعمائه والمحافظة على طاعته وعبادته"3.
8- أفضل الأعمال القلبيّة والعباديّة
"إنّ التفكّر في لطائف الصّنعة ودقائقها وفي إتقان نظام الخليقة، من العلوم النّافعة، ومن أفضل الأعمال القلبيّة، وخيرٌ من جميع العبادات، لأنّ نتيجته أشرف نتيجة. وعلى الرّغم من أنّ النّتيجة الأصلية لجميع العبادات والسرّ الحقيقي لها هو الحصول على المعرفة، فإنّ كشف هذا السرّ والحصول على تلك النّتيجة ليسا متيسّرين للجميع، بل إنّ لذلك أهلًا تكون لهم في كلّ عبادة بذرة لمشاهدة أو لمشاهدات"4.
بماذا نتفكّر؟
وإذا عرفنا أهميّة التّفكّر ومالت قلوبنا إليه احتجنا إلى تطبيقه ووضعه ضمن إطارٍ عمليّ. والتّفكّر كالنّار يزداد لهيبًا واشتعالًا كلّما قدّمنا له مادّة صالحة كما أنّه يخمد أو ينحرف إذا حرمناه من هذه المواد وقدّمنا له بدلًا من ذلك ما لا يوصل إلى نتيجة تتناسب مع المقصد النّهائيّ للخلقة. ويعرض لنا الإمام الخمينيّ قدس سره بعض نماذج التّفكّر المحمود:
1 الأربعون حديثًا، ص 222.
2 (م.ن)، ص 28.
3 (م.ن)، ص 494.
4 (م.ن)، ص 228.
138
106
الدّرس التاسع: التفكّر
1- نظام الكون
"أيّها العزيز، انظر وتأمّل في العلاقة التي بين هذه الشّمس والأرض. وفي المسافة المعيّنة بين الأرض والشّمس، وحركة الأرض حول نفسها وحول الشّمس. تلك الحركة التي تكون على مدارٍ محدّد فيحصل منها الليل والنهار والفصول. فما أتقنه من صنع وما أكملها من حكمة! ولولا هذا التّنظيم، أي لو كانت الشّمس أقرب أو أبعد، لما تكوّن في الأرض، في الحالة الأولى من الحرّ، وفي الحالة الثانية من البرد، معدن، ونبات، وحيوان. وكذلك لو توقّفت الأرض عن الحركة، على ما هي عليه من البعد عن الشمس لما كان الليل أو النّهار، ولما كانت الفصول، ولما تكوّنت الأرض نهائيًّا أو القسم الأكبر منها. ولا يقتصر على هذا أيضًا، فإنّ الأوج، أو أقصى نقطة للأرض عن الشّمس، يقع في جهة الشّمال لكي لا تزداد الحرارة فتُصاب الكائنات بالضّرر. وكذلك الحضيض، أو أقرب نقطة بين الشّمس والأرض، يقع في جهة الجنوب، لكي لا يُصاب أهل الأرض بضرر. ولا يكتفي بهذا أيضًا، فالقمر المؤثّر في تربية موجودات الأرض، يعاكس الأرض في سيرها، بحيث عندما تكون الشّمس في شمال الأرض، يكون القمر في جنوبها، والعكس بالعكس، إذا كان هذا في الشمال، كانت تلك في الجنوب، وذلك لانتفاع سكّان الأرض منهما. هذه كلّها من الأمور الضّرورية المحسوسة. غير أنّ الإحاطة ببدائع النّظام ودقائقه لا تكون إلاّ للخالق الذي يحيط علمه بكلّ شيء"1.
2- خلق الإنسان
"لِمَ ابتعدنا كلّ هذا البعد؟ فليفكّر المرء في خلقه هو، على قدر طاقته وسعة علمه: أوّلًا في الحواس الظّاهرة التي صُنعت وفق المدركات والمحسوسات، إذ إنّ لكلّ مجموعة من المدركات، التي توجد في هذا العالم، قوّة مدركة بأدقّ ما تكون من الدّقّة والتّرتيب المحيّرين للعقول. والأمور المعنويّة، التي لا تُدرك بالحواس الظّاهرة، تُدرك على ضوء الحواس الباطنيّة.
دع عنك علم الرّوح والقوى الرّوحيّة للنّفس، ممّا تقصر مدارك الإِنسان عن فهمها، واتّجه بنظرك إلى علم الأبدان وتشريحها وبنائها الطّبيعيّ، وخصائص كلّ عضو من
1 الأربعون حديثًا، ص 229.
139
107
الدّرس التاسع: التفكّر
الأعضاء الظّاهرية والباطنيّة. انظر ما أغرب هذا النّظام وما أعجب هذا التّرتيب؟! على الرّغم من أنّ علم البشر لم يبلغ حتى الآن، ولن يبلغ حتّى بعد مائة قرن، إلى معرفة واحد بالألف منه، حسب الاعتراف الصّريح بأفصح لسان من جميع العلماء بعجزهم، مع أنّ جسم الإنسان بالنسبة إلى كائنات الأرض الأخرى، لا يزيد على مجرّد ذرّة تافهة، وأنّ الأرض وجميع كائناتها، لا تعدل شيئًا إزاء المنظومة الشّمسيّة، وإنّ كلّ منظومتنا الشّمسيّة لا وزن لها إزاء المنظومات الشّمسيّة الأخرى، وإنّ كل هذه المنظومات، الكبيرة منها والصّغيرة، مبنيّة وفق ترتيب منظّم، ونظام مرتّب، بحيث أنّ أيّ نقد لا يمكن أن يوجّه إلى أتفه ذرّة فيها، وأنّ عقول البشر كافّة عاجزة عن فهم دقيقة من دقائقها.
فهل بعد هذا التّفكّر يحتاج عقلك إلى دليل آخر ليذعن بأنّ كائنًا عالمًا، حكيمًا، لا يشبه الكائنات الأخرى، هو الذي أوجد هذه الكائنات بكلّ حكمةٍ ونظامٍ وترتيبٍ واتقان؟ ﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾1. إنّ كل هذا الخلق المتقن الذي يعجز عقل الإنسان عن فهمه، لم يظهر عبثًا وتلقائيًّا!"2.
3- التفكر في تجرد النفس الإنسانية
"من درجات التفكر أيضاً التفكر في أحوال النفس يؤدي إلى نتائج كثيرة ومعارف عديدة... إن من حالات النفس هو تجرّدها، وهي حالة لم يُولِ الحكماء العظام أهمية لأية مسألة حكمية فلسفية أخرى مثلما أَوْلُوا هذه المسألة وأثبتوها بالأدلة والبراهين. ولكننا لسنا الآن في صدد إثبات تجرد النفس بصورة مفصلة، وإنما نكتفي ببعض الأدلة التي لا تستعصي مبادئها على الفهم، للوصول إلى المقصود.
فنقول: يجمع الأطباء وعلماء الأبدان، وفي ظل التجارب، على أن جميع أعضاء الجسم، من أم الدماغ التي هي مركز الإدراكات ومحل ظهور قوى النفس، وحتى آخر أجزائه الصلبة، تبدأ، من سن الخامسة والثلاثين، أو الثلاثين فما فوق، بالانحدار نحو الانحطاط والنقصان، والاقتراب من الضعف والانحلال. ولقد جربنا بأنفسنا أيضاً كيف يبدو الضعف في القوى
1 سورة إبراهيم، الآية 10.
2 الأربعون حديثًا، ص 229-231.
140
108
الدّرس التاسع: التفكّر
كلها. ولكن في هذه الفترة نفسها، أي من سن الثلاثين أو الأربعين فما فوق، تزداد القوى الروحية والإدراكات العقلية كمالاً ورقياً وسداداً. ويتضح من هذا أن القوى العقلية ليست جسمانية، إذ لو كانت جسمانية لانحدرت، مثل سائر قوى الجسم، نحو الضعف والوهن. كما لا يمكن القول بأن القوى العقلية تزداد قوة بكثرة أعمال القوة الفكرية وحصول التجربة، إذ أن القوى الجسمانية ينتابها التعب والانحلال، لا القوة والكمال، نتيجة لكثرة العمل وبذل الجهد. وهذا بذاته دليل على أن القوى العقلية ليست جسمية ولا من آثار الجسم"1.
4- التفكّر في النعم من حولنا
"التفكر في هذا المقام هو أن يفكّر الإنسان بعض الوقت في أنّ مولاه الذي خلقه في هذه الدّنيا، ووفّر له كل أسباب الدعة والراحة، ووهبه جسمًا سليمًا وقوى سالمة ذات منافع تحيِّر ألباب الجميع، والذي رعاه وهيَّأ له كل هذه السّعة وأسباب النّعمة والرحمة من جهة، وأرسل جميع هؤلاء الأنبياء، وأنزل كلّ هذه الكتب "الرسالات"، وأرشد ودعا إلى الهدى من جهة أخرى... هذا المولى ماذا يستحقّ منّا؟ وما هو واجبنا تجاه مالك الملوك هذا؟! هل أنّ وجود جميع هذه النّعم، هو فقط لأجل هذه الحياة الحيوانيّة وإشباع الشّهوات التي نشترك فيها مع الحيوانات أو أن هناك هدفاً وغاية أخرى؟ هل أنّ للأنبياء الكرام، والأولياء العظام، والحكماء الكبار، وعلماء كلّ أمّة الذين يدعون النّاس إلى حكم العقل والشّرع ويحذّرونهم من الشّهوات الحيوانية ومن هذه الدنيا البالية، عداءً ضدّ النّاس أم أنّهم كانوا مثلنا لا يعلمون طريق صلاحنا نحن المساكين المنغمسين في الشهوات؟! إنّ الإنسان إذا فكَّر لحظةً واحدة، عرف أنّ الهدف من هذه النّعم هو شيءٌ آخر، وأنّ الغاية من هذا الخلق أسمى وأعظم، وأنّ هذه الحياة الحيوانية ليست هي الغاية بحدَّ ذاتها..."2.
الذنوب تمنع من التفكر
قد علمنا أنّ التّفكّر المحمود هو الذي يوصل إلى المقصد والمقصود، ويكون أفضل معين على التّذكّر الذي هو عبارة عن الحضور والقرب. ولهذا، فإنّ كلّ ما يمنع من تحقيق هذا الغرض
1 الأربعون حديثًا، ص 229-231.
2 (م.ن)، ص 28-29.
141
109
الدّرس التاسع: التفكّر
فهو من موانع التّفكّر الذي يجب اجتنابه والتخلّص منه. وأبرز هذه الموانع الذنوب والمعاصي فيشير الإمام الخمينيّ قدس سره إلى تأثير الأعمال السيّئة على التّفكّر فيقول: "وليُعلم كما أنّ لكلّ عمل من الأعمال الصّالحة أو السّيّئة صورة في عالم الملكوت تتناسب معه، فله صورة أيضًا في ملكوت النّفس، وتحصل بواسطتها في ملكوت النّفس: إمّا النّورانيّة... وإمّا أن يصير ملكوت النّفس بها ظلمانيًّا وخبيثًا، وفي هذه الصّورة يكون القلب كالمرآة المريّنة والمدنّسة، لا تنعكس فيها المعارف الإلهيّة ولا الحقائق الغيبيّة، وحيث أنّ القلب في هذه الحالة يقع بالتّدريج تحت سلطة الشّيطان ويكون إبليس هو المتصرّف في مملكة الرّوح، فيقع السّمع والبصر وسائر القوى أيضًا تحت تصرّف ذاك الخبيث، وينسدّ السمع بالكلّيّة عن المعارف والمواعظ الإلهيّة، ولا ترى العين الآيات الباهرة الإلهيّة وتعمى عن الحقّ وآثاره وآياته ولا يتفقّه القلب في الدّين، ويُحرم من التّفكّر في الآيات والبيّنات وتذكّر الحقّ والأسماء والصّفات، كما قال الحقّ تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾1. فيكون نظرهم إلى العالم كنظر الأنعام والحيوانات الخالية من الاعتبار والتّدبّر، وقلوبهم كقلوب الحيوانات لا نصيب لها من التّفكّر والتّذكّر، بل تزداد حالة الغفلة والاستكبار فيهم يومًا بعد يوم من جرّاء النّظر في الآيات وسماع المواعظ، فهم أرذل وأضّل من الحيوان"2.
عوامل مساعدة على تقوية التفكّر
ذكر الإمام الخمينيّ قدس سره مجموعة من الأمور التي تساهم في جعل التّفكّر عادة أو ملكة ثابتة في النّفس.
1- الجذبة الإلهية
بعض هذه الأمور تندرج ضمن التّوفيق الخاصّ الذي يجب أن نطلبه من الله تعالى كالجذبة الرّبوبيّة. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "لو حصلت الجاذبيّة الرّبوبيّة والحال الخاصّة، لأمكن إدراك حقيقة العبادة والسرّ الحقيقي للتذكّر والتفكّر"3.
1 سورة الأعراف، الآية 179.
2 معراج السالكين، ص 211.
3 الأربعون حديثًا، ص 153.
142
110
الدّرس التاسع: التفكّر
2- معرفة الغاية
ومنها ما يرتبط بعالمه الفكريّ ومعارفه كإدراك غاية وجوده، لأنّه عندئذٍ سيقبل على كتاب الله تعالى كمسافر يرتقي سلّم العروج إلى هدفه. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "فإذا أدرك القارئ المقصد، صار بصيرًا في تحصيله، وانفتح له طريق الاستفادة من القرآن الشّريف، وفُتحت له أبواب رحمة الحقّ، ولم يصرف عمره القصير العزيز ورأسمال تحصيل سعادته على أمور ليست مقصودة لرسالة الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكفّ عن فضول البحث والكلام، في مثل هذا الأمر المهمّ. فإذا أشخص بصيرته مدّة إلى هذا المقصود وصرف نظره عن سائر الأمور تتبصّر عين قلبه ويكون بصره حديدًا ويكون التّفكّر في القرآن للنّفس أمرًا عاديًّا، وتنفتّح طرق الاستفادة، وتفتّح له أبواب لم تكن مفتوحة لحينها، ويستفيد مطالب ومعارف من القرآن ما كان لينالها بأيّ شكل، فحينها يفهم كون القرآن شفاء للأمراض القلبية"1.
3- صلاة الليل
ومنها صلاة الليل، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "لو أنّ يقظة الليل تكشف للإنسان حقيقة الصّلاة وسرّها، لأنس بذكر الله والتّفكّر في الله، ولجعل الليالي مركوبه للعروج إلى قربه تعالى، ولمّا كان ثمّة ثواب له إلا جمال الحقّ الجميل وحده"2.
4- الصمت
ومنها الصّمت، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وحيث إن الصمت عن الباطل واللغو، واجتناب الهذيان والهذر، يُعين الإنسان على التفكر والاشتغال بباطنه وتطهيره من الرجس، وتخليته وتصفيته، وبالتالي تقريبه من مبدأ الكمال الذي تعشقه الفطرة، وإزالة الأشواك من طريقه إليه، لذا فإنّه من لوازم الفطرة السليمة المخمّرة إلهياً ومن جنود العقل والرحمان"3.
1 معراج السالكين، ص 214-215.
2 الأربعون حديثًا، ص 238-239.
3 جنود العقل والجهل، ص 354.
143
111
الدّرس التاسع: التفكّر
المفاهيم الرئيسة
1- التفكّر هو الخطوة الأولى على طريق تهذيب النفس ونيل الفيوضات الرّبانيّة.
2- يعبّر التفكّر عن تفاعل الإنسان الإيجابيّ مع كلّ ما هو إلهيّ ورحمانيّ، فينال بذلك كماله ويسير باتّجاه غاية خلقه.
3- التفكّر هو تلمّس البصيرة للوصول إلى المقصود والنّتيجة التي هي غاية الكمال، لا استحضار صور القضايا في الذّهن والخيال والتجوّل فيها كما يظنّ البعض.
4- ما ينبغي التفكّر فيه هو: نظام الكون، خلق الإنسان، أحوال النّفس ومآلها، وماذا يستحقّ منّا المولى الواهب للنعم، التفكّر بالحقّ وأسمائه وصفاته، والتفكّر بعالم الملك.
5- من أدوار التفكر وآثاره أنّه:
- مفتاح أبواب المعارف ومقدّمة لازمة للسّلوك.
- باب معرفة الله.
- حياة الروح وجعل القلب إلهيًّا وأفضل الأعمال القلبيّة والعباديّة.
- مقدّمة للتذكّر.
- مقدّمة التّحقّق بالاسم الأعظم.
- مقدّمة الإيمان وقطع الطّمع بالمخلوق.
- الحصول على مقام القرب.
6- الأعمال السيّئة من موانع التفكّر، حيث يصير ملكوت النّفس بها ظلمانيًّا وخبيثًا.
7- من الأمور التي تساهم في جعل التّفكّر عادة أو ملكة ثابتة في النّفس:
- إدارك الإنسان لغاية وجوده لأنّه عندئذٍ سيقبل الى المقصد وهو بصير في تحصيله.
- صلاة الليل.
- الصّمت عن الباطل واللغو.
144
112
الدّرس التاسع: التفكّر
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِي رُوعِي مِنَ التَّمَنِّي وَالتَّظَنِّي وَالْحَسَدِ ذِكْراً لِعَظَمَتِكَ، وَتَفَكُّراً فِي قُدْرَتِكَ، وتَدْبِيراً عَلَى عَدُوِّكَ1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾2.
2- ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾3.
3- ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾4.
4- ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾5.
1 الصحيفة السجّادية، دعاؤه عليه السلام في الاستعاذة من الشيطان الرجيم.
2 سورة البقرة، الآية 266.
3 سورة آل عمران، الآية 191
4 سورة الأعراف، الآية 176.
5 سورة يونس، الآية 24.
145
113
الدّرس التاسع: التفكّر
5- ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾1.
6- ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾2.
الروايات الشريفة:
1- عن الإمام الصادق عليه السلام: "يَا هِشَامُ إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ دَلِيلًا وَدَلِيلُ الْعَقْلِ التَّفَكُّر،ُ وَدَلِيلُ التَّفَكُّرِ الصَّمْتُ"3.
2- عن الإمام الرِّضَا عليه السلام يَقُولُ: "لَيْسَ الْعِبَادَةُ كَثْرَةَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ إِنَّمَا الْعِبَادَةُ التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ"4.
3- قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "فِكْرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ وَلَا يَنَالُ مَنْزِلَةَ التَّفَكُّرِ إِلَّا مَنْ خَصَّهُ اللهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ"5.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "التَّفَكُّرُ حَيَاةُ قَلْبِ الْبَصِيرِ كَمَا يَمْشِي الْمَاشِي فِي الظُّلُمَاتِ بِالنُّورِ بِحُسْنِ التَّخَلُّصِ وَقِلَّةِ التَّرَبُّصِ"6.
5- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ إِدْمَانُ التَّفَكُّرِ فِي اللهِ وَفِي قُدْرَتِهِ"7.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "فَاتَّقُوا اللهَ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ"8.
7- قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام: "عَجَبٌ لِمَنْ يَتَفَكَّرُ فِي مَأْكُولِهِ كَيْفَ لَا يَتَفَكَّرُ فِي مَعْقُولِهِ فَيُجَنِّبُ بَطْنَهُ مَا يُؤْذِيهِ وَ يُودِعُ صَدْرَهُ مَا يُرْدِيهِ"9.
1 سورة الروم، الآية 21.
2 سورة سبأ، الآية 46.
3 الكافي، ج1، ص 15.
4 (م.ن)، ص 55.
5 مستدرك الوسائل، ج11، ص 184
6 الكافي، ج1، ص 28.
7 (م.ن)، ص 54.
8 نهج البلاغة، ص 111.
9 بحار الأنوار، ج1، ص 218.
146
114
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى ماهيّة الذّكر الحقيقيّ وكيفيّته.
2- يتعرّف إلى دور القرآن الكريم والأولياء في الذّكر.
3- يبيّن دور الصّلاة ومنزلتها في الذّكر.
147
115
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
تمهيد
تطالعنا الشّواهد الكثيرة من كلمات الإمام الخمينيقدس سره حول الذّكر. وهي إنّ دلّت على شيء فإنّها تدلّ أوّلًا على أهمّيّة هذا المقام المعنويّ الذي يحكي عن عمق ارتباط الذّاكر بالواقع والحقيقة.
وسوف نتعرّف في هذا البحث على دور الذّكر في حياة الإنسان ومصيره وبناء شخصيّته وتكميله، الّا أنّ ذلك موقوفٌ على فهم حقيقة الذّكر أوّلًا لأنّ أكثر النّاس يخلطون بينه وبين الوِرد. كما أنّه يعتمد على معرفة ما ينبغي أن يذكره الإنسان ثانيًا.
ولكي تحصل الفائدة المرجوّة من هذا البحث فنُقبل على الذّكر ونراه شرطًا أساسيًّا للسّعادة نحتاج إلى التّوجّه والإدراك العميق لأهميّة الذّكر في حياتنا.
ما هو الذّكر؟
عند الحديث عن ملكات النّفس ومقاماتها المعنويّة وكمالاتها يكون الذّكر بمعنى حضور الحقائق في القلب. أمّا إذا كان الحديث عن الأعمال والعبادات الذكريّة فإنّ الذّكر يشير إلى ما ينبغي أن نقوم به من أجل الوصول إلى هذا المقام الشّامخ.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "وبالجملة، فحقيقة الذكر والتذكّر هي الذّكر القلبي. أمّا الذّكر اللساني بدونه فهو بلا لبّ وساقط عن درجة الاعتبار تمامًا. كما أشير إلى ذلك في الأحاديث الشّريفة في غير مرّة، فعن الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لأبي ذرّ: "يا أبا ذرّ ركعتان مقتصدتان في تفكّر، خيرٌ من قيام ليلة والقلب لاه (ساه)1 "2.
1 وسائل الشّيعة، ج4، ص 74.
2 معراج السالكين، ص 44.
149
116
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
وعليه، فإنّ الذّكر من أحوال القلوب وصفاتها وإن ظهر على اللسان، بل على الجوارح والأعضاء حتّى قيل خير الذّكر العمل. والمقصود بذلك أنّ الذّكر القلبيّ إذا وصل إلى نصابه وبلغ حدّه المطلوب سرى من القلب إلى جميع مراتب النّفس. لهذا قال الإمامقدس سره: "إنّ ذكر الحقّ والتّذكّر لذاته المقدّس من صفات القلب، وإنّ القلب إذا تذكّر ترتّبت عليه ـ القلب ـ جميع الفوائد المذكورة للذّكر، ولكنّ الأفضل أن يعقب الذّكر القلبي، الذّكر اللساني. وإنّ أفضل وأكمل مراتب الذّكر كافّة هو الذّكر السّاري في نشآت مراتب الإنسانيّة، والجاري على ظاهر الإنسان وباطنه، سرّه وعلنه. فيكون الحقّ سبحانه مشهودًا في سرّ الوجود، وتكون الصّورة الباطنيّة للقلب والروح، صورة تذكّر المحبوب. ويطغى على الأعمال القلبية والقالبية ـ الظاهرية ـ التذكّر لله سبحانه. وتنفتح الأقاليم السّبع الظاهرية، والممالك الباطنية، على ذكر الحقّ، وتتسخّر لتذكّر الجميل المطلق"1.
وإذا كان الفكر عبارة عن حضور الحقائق في مرتبة الذّهن، فإنّ الذّكر هو اشتداد هذا الحضور وقوّته ودخوله إلى باطن النّفس ولبّها المسمّى بالقلب. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "يقول العارف عبد الله الأنصاري "التَّذَكُّر فَوْقَ التَّفَكُرِ، فَإِنَّ التَّفَكُّر طَلَبٌ وَالتَّذَكُّر وُجُودٌ" إذ إنّ التّفكّر طلب للمحبوب والتّذكّر حصول للمطلوب. فما دام الإنسان يطلب ويبحث يكون محجوبًا عن مطلوبه وعندما يصل إلى محبوبة يتحرّر من عناء البحث والتّفتيش"2.
ويقول قدس سره: "اعلم أن التّذكّر من نتائج التفكّر، ولهذا يعتبرون مقام التّفكّر مقدّمًا على مقام التذكّر"3. إذن التّفكّر مقدّمة أساسيّة للتّذكّر: "إنّ قوّة التذكّر وكماله يرتبطان بقوّة التّفكّر وكماله"4.
ماذا نذكر؟
طالما أنّ الذّكر عبارة عن شدّة حضور الحقائق في القلب، ينبغي أن نتعرّف على هذه الحقائق التي يؤدّي تذكّرها إلى تلك الآثار العظيمة في النّفس حاضرًا ومستقبلًا.
1 الأربعون حديثًا، ص 326-327.
2 (م.ن)، ص 325.
3 (م.ن).
4 (م.ن).
150
117
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
لا شكّ بأنّ الحقيقة الوحيدة التي تحقّق هذا الفرض هي حقيقة الألوهيّة. فيكون الذّكر الوحيد ذكر الله تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾1 وحقيقة الألوهيّة هي التي تقف وراء كلّ ظواهر الوجود والعالم المعبّر عنها بالآيات. قال الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾2. وإنّما كانت هذه الحقيقة هي النّافع الوحيد لأجل انحصار كلّ خير وكمال بها. فيكون الإعراض عنها إعراضًا عن مصدر السّعادة الأوحد. قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾3، وإنّ القول الجامع لهذه الحقيقة هو لا إله إلا الله. ولهذا، قال الإمام الخمينيّ قدس سره في شرحه لجنود العقل والجهل "فليعمد إلى ذكر "لا إله إلّا الله" الشّريف الذي هو أفضل الأذكار وأجمعها"4. ويقول قدس سره: "إذا استحكم في القلب أصل التّوحيد الفعليّ للحقّ وسُقي بماء العلم التوأم للعمل اللطيف الذي يقرع باب القلب تكون نتيجته تذكّر مقام الألوهيّة، ويصفو القلب بالتّدريج للتجلّي الفعليّ للحقّ"5.
ويكون هدف الذّكر ربط الإنسان بمصدر الكمال والسّعادة الأوحد، ويكون تذكّر ما سواه نافعًا ومفيدًا في هذا المجال إذا نظر إليه بمنظار الإسميّة والمظهريّة، كما قال الإمامقدس سره: "لا بدّ للسّالك أن يفهم قلبه أنّ جميع الموجودات الظّاهرة والباطنة وجميع عوالم الغيب والشّهادة تحت تربية أسماء الله، بل هي ظاهرة بظهور أسماء الله وجميع حركاته وسكناته وجميع العالم بقيومية الاسم الله الأعظم، فمحامده للحقّ وعبادته وإطاعته وتوحيده وإخلاصه كلّ ذلك بقيوميّة الاسم الله، فإذا أحكم واستقرّ هذا المقام وهذه اللطيفة الإلهيّة في قلبه بواسطة التّذكّر الشّديد الذي هو غاية العبادات، كما قال تعالى في خلوة الأنس ومحفل القدس لكليمه موسى بن عمران: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
1 سورة الرعد، الآية 28.
2 سورة فصّلت، الآية 53.
3 سورة طه، الآية 124.
4 جنود العقل والجهل، ص 110.
5 معراج السالكين، ص 234.
151
118
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
لِذِكْرِي﴾1. فجعل غاية إقامة الصّلاة ذكره، فبعد التّذكّر الشّديد يُفتح لقلب العارف طريق آخر من المعارف ويُجذب الى عالم الوحدة حتى يكون لسان حاله وقلبه بالله، الحمد لله، وأنت كما أثنيت على نفسك، وأعوذ بك منك"2.
البرنامج العام للذكر
ولأجل تعميق هذا الذّكر والتّوجّه في القلب، جعل الله تعالى أُطُرًا عامّة للذّكر كالقرآن الكريم وأحوال الأولياء ومقاماتهم والصّلاة والعوالم. ولا شكّ بأنّ أعظم الذّكر هو القرآن بل هو الذّكر. وهو المقصد الأعلى للذّكر أيضًا. وقد بلغ أهل بيت العصمة والطّهارة عليهم السلام مرتبة صاروا فيها أهل الذّكر. وهم المعنيّون بقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾3.
وداخل هذه الأًطُر العامّة يوجد مجموعة من الحقائق المرتبطة بأحوال السّالكين ومراتبهم وحاجاتهم المعنويّة والسّلوكيّة. وسوف نتعرّض إلى الشّواهد العديدة من كلمات الإمام الخمينيّ قدس سره في هذا المجال.
1- القرآن الكريم
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا﴾4، وقال عزّ من قائل: ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾5.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "من عوّد نفسه على قراءة الآيات والأسماء الإلهيّة من كتاب التّكوين والتّدوين الإلهيّين يصير قلبه بالتّدريج على صورة الذكرى والآية ويتحقّق باطن الذّات بذكر الله واسم الله وآية الله"6.
1 سورة طه، الآية 14.
2 معراج السالكين، ص 251.
3 سورة النحل، الآية 43.
4 سورة الإسراء، الآية 41.
5 سورة الأعراف، الآية 2.
6 معراج السالكين، ص 226.
152
119
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
2- أولياء الله
"نرى ذكر الأولياء ومقاماتهم دخيلًا في تصفية القلوب وتخليصها وتعميرها. لأنّ ذكر خير أصحاب الولاية والمعرفة يوجب المحبّة والتّواصل والتّناسب، وهذا التّناسب يوجب التّجاذب، وهذا التّجاذب يؤدّي إلى التّشافع الذي ظاهره الإخراج من ظلمات الجهل إلى أنوار الهداية والعلم، وباطنه الظّهور بالشّفاعة في عالم الآخرة، لأنّ شفاعة الشّافعين لا تكون من دون تناسب وتجاذب باطنيّ ولا تكون من الجزاف والباطل"1.
وفي الكافي الشّريف: "عَنْ العَرْقُوفي قالَ: سَمِعْتُ أبا عَبْدِاللهِ عليه السلام يقول لأصْحابه: "اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا إِخْوَةً بَرَرَةً فِي اللهِ مُتَواصِلينَ مُتَراحِمينَ. تَزاوَرُوا وَتَلاقَوْا وَتَذاكَرُوا أمْرَنا وَأحْيُوهُ""2.
3- الصّلاة
قال الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾3 يقول الإمام قدس سره: "لو أن يقظة الليل تكشف للإنسان حقيقة الصّلاة وسرّها، لأنِس بذكر الله والتفكّر في الله، ولجعل الليالي مركوبه للعروج إلى قربه تعالى، ولما كان ثمّة ثواب له إلا جمال الحقّ الجميل وحده"4.
و"اعلم أنّ المصلّي اذا تحقّق بمقام الذكر ورأى جميع ذرّات الكائنات، من أعلى الموجودات إلى أدناها أسماء إلهيّة، وأخرج عن قلبه جهة الاستقلال، ونظر إلى موجودات عوالم الغيب والشهود بعين الاستظلال، تحصل له مرتبة التّحميد ويعترف قلبه أنّ جميع المحامد من مختصّات الذّات الأحديّة وليس لسائر الموجودات فيها شركة لأنّه ليس لها كمال من أنفسها حتّى يقع الحمد والثّناء لها"5.
4- العالم التّكوينيّ
يصبح العالم وسيلة لذكر الله ووحدانيّته عندما ننظر إليه كمرآة وآيات. لهذا، قال
1 معراج السالكين، ص 232.
2 الأربعون حديثًا، ص 343.
3 سورة طه، الآية 14.
4 الأربعون حديثاً، ص 238-239.
5 معراج السالكين، ص 227.
153
120
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
الإمام قدس سره: "من عوّد نفسه على قراءة الآيات والأسماء الالهيّة من كتاب التّكوين والتّدوين الإلهيّين يصير قلبه بالتّدريج على صورة الذكرى والآية ويتحقّق باطن الذّات بذكر الله واسم الله وآية الله"1.
كانت هذه برامج عامّة للذّكر، وفيها الكثير من التّفاصيل، نذكر منها على سبيل النّماذج والمصاديق لا الحصر:
5- نعماء الله تعالى
"من الأمور التي تُعين الإنسان ـ وبصورة كاملة ـ في مجاهدته للنّفس والشّيطان، والتي ينبغي للإنسان السّالك المجاهد الانتباه إليها جيّدًا هو "التذكّر". والذّكرى في هذا المقام، هي عبارة عن ذكر الله تعالى ونعمائه التي تلطّف بها على الإنسان"2.
6- فقر الكائنات
"فإذا صار فقر الممكن وذلّته وعظمة الحقّ وكبرياؤه جلّت قدرته نصب عين السّالك ووصل التفكّر والذّكر إلى حدّ النّصاب، وحصل للقلب الأنس والسّكينة، فيشاهد بعين البصيرة آثار جلال الحقّ وكبريائه في جميع الموجودات"3. فـ "لا بدّ للسالك أن يذكّر قلبه وقواه بعجز نفسه وكبرياء الحقّ"4.
7- الآيات الأواخر من سورة الحشر
"إذا عمد في وقت الفراغ من المشاغل النّفسيّة والخواطر، والواردات الدنيويّة مثل أواخر الليل أو ما بين الطّلوعين، إلى تلاوة الآيات الأواخر من سورة الحشر المباركة من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ﴾ وهي الآية 18 من السورة إلى آخرها ـ وهي آيات تشتمل على التذكير ومحاسبة النّفس، وتتضمّن الإشارة إلى مراتب توحيد الله وأسمائه وصفاته ـ نقول إذا عمد على تلاوتها مع التّوجّه القلبيّ والتّدبّر فيها، فإنّ المرجوّ إن شاء الله أن يحصل نتائج طيبة"5.
1 معراج السالكين، ص 226.
2 الأربعون حديثًا، ص 32-33.
3 معراج السالكين، ص 141-142.
4 (م.ن)، ص 140.
5 جنود العقل والجهل، ص 110.
154
121
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
8- رحمة الله المطلقة
"(على السّالك) أن يدخل إلى قلبه بالطّريقة نفسها العلم بسعة رحمة الحقّ تعالى ولطفه وشفقته ورأفته بعباده، وذلك بالتذكّر الشّديد والتفكّر في رحمات الحقّ تعالى المحيطة به منذ ما قبل ولادته وإلى آخر الأبد، فيدرك قلبه، تدريجيًّا، نموذجًا من المحبّة الإلهيّة، وكلّما كان التذكّر أشدّ ـ خصوصًا في أوقات تفرّغ القلب ـ ازدادت هذه المحبّة، حتّى يرى الحقّ تعالى أرحم به وأرأف من كلّ موجود، ويشاهد بنور البصيرة القلبيّة حقيقة "أرحم الراحمين". ويدخل بهذه الكيفيّة، أيضًا أركان التوكّل الآخر إلى قلبه، أي بشدّة التذكّر ورياضة القلب، حتّى يأنس القلب ويألف تلك الحقائق، وعندها تتجلّى مقتضيات ولوازم هذه المعارف في باطن قلبه"1.
9- يا حيّ يا قيّوم
"إجمالاً فإنّ ذكر الله بالخصوص، كما قيل، اسمه المبارك "يا حيّ يا قيّوم "بحضور القلب وتوجّهه، مفيد في إحياء القلب"2.
10- لا إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين
"يُنقل عن بعض أهل الذّكر والمعرفة والإكثار من القول: "لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين" في سجدة واحدة مرّة كلّ يوم وليلة مفيدة في الرّقيّ الرّوحيّ. ونُقل عن بعض سالكي طريق الآخرة أنّه لمّا سمع قول أستاذه الشّيخ الجليل بشأن فائدة هذا العمل كان يسجد مرّة في اليوم والليلة ويكرّر هذا الذّكر ألف مرّة، ونُقل عن آخر أنّه كان يكرره ثلاثة آلاف مرّة"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 193.
2 (م.ن)، ص 124.
3 (م.ن).
155
122
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
بعض خصائص الذكر
يقول الإمام قدس سره: "ويكون التذكّر للآيات والأسماء والصّفات وتذكّر الحقّ وجماله وجلاله باعثًا على حدّة في البصيرة وإزاحة الحجب"1.
و"عَنْ أَبي جَعْفَرَ عليه السلام قالَ: "مَكْتُوبٌ فِي التَّوراةِ الَّتي لَمْ تُغَيَّر أَنَّ مُوسى عليه السلام سَأَل رَبَّهُ فَقالَ: يا رَبِّ أَقَريبٌ أنْتَ مِنّي فَأُناجيك، أمْ بَعيدٌ فَأُناديكَ؟ فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ: يا مُوسى أَنَا جَليسُ مَنْ ذَكَرَنِي. فَقالَ مُوسى: فَمَنْ في سِتْرِك يَوْمَ لا سِتْرَ إِلاّ سِتْرُكَ. فَقالَ: الَّذينَ يَذْكُرُونَني فَأَذْكُرُهُمْ وَيَتحابُّونَ فِيَّ فَأُحِبُّهُمْ فَاؤُلئِكَ الَّذينَ إِذا أرَدْتُ أنْ أُصيبَ أهْلَ الأرْضِ بِسُوءٍ ذَكَرْتُهُمْ فَدَفَعْتُ عَنْهُمْ بِهِم". يُستفاد من هذا الحديث الشّريف، أنّ لذكر الله والتّحابّ بين الأشخاص في سبيل الله، خصائص: إحداها ـ وهي الأهم ـ أنّ ذكر العبد لله، يبعث على ذكر الله لعبده، كما نطقت بهذا المضمون أحاديث أخرى أيضًا. ويقابل هذا الذّكر النّسيان، قد قال سبحانه وتعالى عن النّاسي في القرآن ﴿كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾2. فكما أنّ نسيان الآيات والعمى الباطنيّ عن رؤية مظاهر جمال الحقّ وجلاله يسبّب عمىً في العالم الآخر، يكون التّذكّر للآيات والأسماء والصّفات وتذكّر الحقّ سبحانه وجماله وجلاله باعثًا على حِدّة في البصيرة، وإزاحة للحجب، بقدر قوّة التّذكّر ونورانيّته. هذا وإنّ تذكّر آيات الحقّ سبحانه، وصيرورته ـ هذا التّذكّر ـ ملكة ـ راسخة ـ في الإنسان يجعل لبصيرته قوّة، فيرى من خلال الآيات، جمال الحقّ. وإنّ تذكّر الأسماء والصّفات يبعث على مشاهدة الحقّ في تجلّيات أسمائه وصفاته. وإنّ تذكّر الذّات عزّ شأنه من دون حجاب الآيات والأسماء والصّفات، يوجب رفع الحجب بأسرها ومشاهدة الحبيب من دون غشاء وحجاب. ويعتبر هذا ـ التفسير ـ واحدًا من التّوجيهات والتّفسيرات للفتوحات الثّلاثة التي هي قرّة عين العرفاء والأولياء وهي: الفتح القريب. الفتح المبين. الفتح المطلق. الذي هو فتح الفتوح"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 323.
2 سورة طه، الآية 126.
3 الأربعون حديثًا، ص 323-324.
156
123
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
المفاهيم الرئيسة
1- عندما يكون الحديث عن الأعمال والعبادات الذكريّة فإنّ الذّكر يشير إلى ما ينبغي أن نقوم به من أجل الوصول إلى هذا المقام الشّامخ.
2- حقيقة الذكر والتذكّر هي الذّكر القلبي. أمّا الذّكر اللساني بدون الذكر القلبي فهو بلا لبّ وساقط عن درجة الاعتبار تمامًا.
3- إنَّ الذّكر القلبيّ إذا وصل إلى نصابه وبلغ حدّه المطلوب سرى من القلب إلى جميع مراتب النّفس.
4- الحقيقة الوحيدة التي يؤدّي تذكّرها إلى تلك الآثار العظيمة في النّفس حاضرًا ومستقبلًا هي حقيقة الألوهيّة. فيكون الذّكر الوحيد هو ذكر الله تعالى.
5- هدف الذّكر ربط الإنسان بمصدر الكمال والسّعادة الأوحد، ويكون تذكّر ما سواه نافعًا ومفيدًا في هذا المجال إذا نُظر إليه بمنظار الإسميّة والمظهريّة.
6- غاية إقامة الصّلاة هي ذكر الله، وبعد التّذكّر الشّديد يُفتح لقلب العارف طريق آخر من المعارف ويُجذب الى عالم الوحدة.
7- لا شكّ بأنّ أعظم الذّكر هو القرآن بل القرآن هو الذّكر، وهو المقصد الأعلى للذّكر أيضًا. وقد بلغ أهل بيت العصمة والطّهارة مرتبة صاروا فيها أهل الذّكر.
8- أمور أخرى تساهم في تصفية القلب وأن يكون الإنسان من الذّاكرين:
• النّظر إلى العالم التكويني.
• تذكّر العبودية.
• تذكّر نعماء الله وأسمائه وصفاته.
• تذكّر عجز نفسه وفقر الكائنات وكبرياء الحقّ.
• تلاوة الآيات الأواخر من سورة الحشر مع تدّبر.
• تذكّر أحوال النفس وما ينفعها من أعمال صالحة لتغييرها.
• وذكر اسم "يا حيّ يا قيوم" والإكثار من قول "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين".
157
124
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، إِلَهِي لَوْلاَ الْوَاجِبُ مِنْ قُبُولِ أَمْرِكَ لَنَزَّهْتُكَ مِنْ ذِكْرِي إِيَّاكَ عَلَى أَنَّ ذِكْرِي لَكَ بِقَدْرِي لاَ بِقَدْرِكَ وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَ مِقْدَارِي حَتَّى أُجْعَلَ مَحَلاًّ لِتَقْدِيسِكَ وَمِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَيْنَا جَرَياَنُ ذِكْرِكَ عَلَى أَلْسِنَتِنَا وَإِذْنُكَ لَنَا بِدُعَائِكَ وَتَنْزِيهِكَ وَتَسْبِيحِكَ إِلَهِي فَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ فِي الْخَلاَءِ وَالْمَلاَءِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالإِعْلاَنِ وَالإِسْرَارِ وَفِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَآَنِسْنَا بِالذِّكْرِ الْخَفِيِّ وَاسْتَعْمِلْنَا بِالْعَمَلِ الزَّكِيِّ وَالسَّعْيِ الْمَرْضِيِّ وَجَازِنَا بِالْمِيزَانِ الْوَفِيِّ، إِلَهِي بِكَ هَامَتِ الْقُلُوبُ الْوَالِهَةُ وَعَلَى مَعْرِفَتِكَ جُمِعَتِ الْعُقُولُ الْمُتَبَايِنَةُ فَلاَ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ إِلاَّ بِذِكْرَاكَ وَلاَ تَسْكُنُ النُّفُوسُ إِلاَّ عِنْدَ رُؤْيَاكَ... إِلَهِي أَنْتَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، وَقُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ فَأَمَرْتَنَا بِذِكْرِكَ وَوِعَدْتَنَا عَلَيْهِ أَنْ تَذْكُرَنَا تَشْرِيفاً لَنَا وَتَفْخِيماً وَإِعْظَاماً وَهَا نَحْنُ ذَاكِرُوكَ كَمَا أَمَرْتَنَا فَأَنْجِزْ لَنَا مَا وَعَدْتَنَا يَا ذَاكِرَ الذَّاكِرِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ1.
الروايات الشريفة:
1- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "مِنْ أَشَدِّ مَا فَرَضَ اللهُ عَلَى خَلْقِهِ ذِكْرُ اللهِ كَثِيراً، ثُمَّ قَالَ: لَا أَعْنِي سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ وَإِنْ كَانَ مِنْهُ، وَلَكِنْ ذِكْرَ اللهِ عِنْدَ مَا أَحَلَّ وَحَرَّمَ فَإِنْ كَانَ طَاعَةً عَمِلَ بِهَا وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً تَرَكَهَا"2.
2- عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: "سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السلام يَقُولُ: شِيعَتُنَا الرُّحَمَاءُ بَيْنَهُمُ الَّذِينَ إِذَا خَلَوْا ذَكَرُوا اللهَ إِنَّ ذِكْرَنَا مِنْ ذِكْرِ اللهِ إِنَّا إِذَا ذُكِرْنَا ذُكِرَ اللهُ وَإِذَا ذُكِرَ عَدُوُّنَا ذُكِرَ الشَّيْطَانُ"3.
1 الصحيفة السجّاديّة، مناجاة الذّاكرين.
2 الكافي، ج2، ص 80.
3 (م.ن)، ص 186.
158
125
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
3- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثٍ يَقُولُ فِي آخِرِهِ تَسْبِيحُ فَاطِمَةَ عليها السلام: "مِنْ ذِكْرِ اللهِ الْكَثِيرِ الَّذِي قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ"1.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ للذكر أهلا أخذوه من الدنيا بدلا فلم تشغلهم تجارة و لا بيع عن ذكر يقطعون به أيام الحياة و يهتفون به في آذان الغافلين"2.
5- عَنْهُ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: "مَنْ أَطَاعَ اللهَ فَقَدْ ذَكَرَ اللهَ وَإِنْ قَلَّتْ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ وَتِلَاوَتُهُ لِلْقُرْآنِ، وَمَنْ عَصَى اللهَ فَقَدْ نَسِيَ اللهَ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ وَتِلَاوَتُهُ لِلْقُرْآنِ"3.
6- قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "مَنْ ذَكَرَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي السِّرِّ فَقَدْ ذَكَرَ اللهَ كَثِيراً إِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَذْكُرُونَ اللهَ عَلَانِيَةً وَلَا يَذْكُرُونَهُ فِي السِّرِّ فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾"4.
7- عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: "إِنَّ إِبْلِيسَ عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللهِ يَبُثُّ جُنُودَ اللَّيْلِ مِنْ حَيْثُ تَغِيبُ الشَّمْسُ وَتَطْلُعُ فَأَكْثِرُوا ذِكْرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَاتَيْنِ السَّاعَتَيْنِ وَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ شَرِّ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ وَعَوِّذُوا صِغَارَكُمْ فِي تِلْكَ السَّاعَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا سَاعَتَا غَفْلَةٍ"5.
8. عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ عليه السلام قَالَ: "لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ قَائِماً كَانَ أَوْ جَالِساً أَوْ مُضْطَجِعاً إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ﴾6.
9. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ: "يَا مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمٍ لَا تَدَعَنَّ ذِكْرَ اللهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ولَوْ سَمِعْتَ الْمُنَادِيَ يُنَادِي بِالْأَذَانِ وَأَنْتَ عَلَى الْخَلَاءِ فَاذْكُرِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَقُلْ كَمَا يَقُولُ الْمُؤَذِّن"7.
1 وسائل الشّيعة، ج6، 442.
2 غرر الحكم، 188.
3 مستدرك الوسائل، ج5، ص 403.
4 الكافي، ج2، ص 501.
5 (م.ن)، ص 255.
6 وسائل الشّيعة، ج7، ص 150.
7 من لا يحضره الفقيه، ج1، ص 288.
159
126
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى أهميّة الذّكر وتأثيره على حياتنا ومصيرنا.
2- يشرح دور الذّكر في إصلاح النّفس وتهذيبها والخروج من الحجب.
3- يفهم دور الذّكر في الوصول إلى الغاية التي خُلقنا لأجلها.
161
127
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
تمهيد
عندما نتأمل في التأثيرات العظيمة للذكر على مستوى بناء الشخصية ومصيرها، ندرك أننا أمام كنز عظيم لا شبيه له. بل نتعرف إلى البعد الجوهري في برنامج الإسلام في صناعة الإنسان الكامل. كيف لا! والذكر عبارة عن الحضور في محضر الحق المتعال. وهل يمكن لمثل هذا الحضور إلا أن يبدّل هوية الإنسان الطبيعية إلى الهوية الربّانية. أليس الذكر تلك الصبغة التي تصبغ وجود الإنسان فتحوله إلى مخلوق ملكوتي.
فما أحوجنا إلى التأمل والتفكر في هذه الآثار التي يجعل كل واحد منها الإنسان أمام مشهد عظيم للنعم الإلهية بحيث لا يستبدل به شيئا.
أهميّة الذّكر وعظمته
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "في الكافي بِسَنَدٍ صَحيح عَنِ الفُضَيْلِ بْنِ يَسارِ قالَ: قالَ أبُوعَبْدِاللهِ عليه السلام: "ما مِنْ مَجْلِسٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ أبْرارٌ وَفُجّارٌ فَيَقُومُونَ عَلى غَيْرِ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وجلَّ إِلاّ كانَ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ"1. من الواضح أنّ الإنسان عندما تنكشف عليه يوم القيامة النتائج العظيمة لذكر الله، ويرى نفسه بعيداً عنها، ويعلم بأنّه قد حُرم من نعمٍ كثيرة، ولا يستطيع تداركها، تستولي عليه الحسرة والنّدامة. فيجب على الإنسان أن يغتنم الفرصة ولا يُخلي مجالسه ومحافله من ذكر الله"2.
إنّ عظمة الذّكر وأهميّته تُعرف من خلال التأمّل في آثاره الكثيرة والعميقة وفي أدواره العديدة ومساهمته في تهذيب النّفس وتكميلها. وقد نقلنا عن الإمام الخمينيّ قدس سره مجموعة مهمّة من الشّواهد التي تدلّ على هذا المطلب، ندرجها ضمن العناوين التالية:
1 الكافي، ج2، ص 496.
2 الأربعون حديثًا، ص 328-329.
163
128
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
الوصول إلى الكمال المطلق
"لو أنّ حقيقة الذّكر تحوّلت إلى صورة باطنيّة للقلب، وانفتحت مملكة القلب على يديه ـ الذّكر ـ لجرى حكمه في كلّ الممالك والأقاليم ـ القوى الجسميّة الظّاهريّة والباطنيّة ـ ولكانت حركة وسكون العين واللسان واليد والرجل، وأفعال كلّ القوى والجوارح مع ذكر الحقّ. ولم تقم ـ القوى الظاهريّة والباطنيّة في جسم الإنسان ـ بإنجاز ما يخالف الوظائف الشّرعيّة المقرّرة. فتكون حركاتها وسكناتها مبدوّة ومختومة بذكر الحقّ، وتَنْفُذُ ﴿بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾1 في جميع أطراف المملكة ـ جسم الإنسان بما فيه القوى الظّاهريّة والباطنيّة.
وفي النّتيجة يتحوّل الإنسان إلى حقيقة الأسماء والصّفات، بل إلى صورة اسم الله الأعظم، ومظهره. وهذه هي الغاية القصوى لكمال الإنسان ومنتهى رجاء أهل الله. وكلّما حصل انخفاض عن هذا المستوى الرّفيع، وقلّ نفوذ الذكر ـ في الإنسان ـ انتقص وبنفس النسبة من كمال الإنسان، وأثّر نقصان كل من الظّاهر والباطن، في الآخر، لأنّ نشآت وجود الإنسان مترابطة ومتأثرّة بعضها ببعض"2.
و"من عوّد نفسه على قراءة الآيات والاسماء الالهية من كتاب التكوين والتدوين الالهيين يصير قلبه بالتدريج على صورة الذكرى والآية ويتحقق باطن الذات بذكر الله واسم الله وآية الله"3.
زيادة الإيمان
"يقول تبارك وتعالى في الآية الثانية من سورة الأنفال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾4 إلى أن يقول: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾. فهو تبارك وتعالى يصرّح ـ وعلى نحو الحصر ـ بأنّ المؤمنين هم الذين يتحلّون بهذه الصّفات، أي أنّ غيرهم ليسوا بمؤمنين: ثمّ يختم هذا الوصف بتأكيد الأمر والتّصريح بأنّ الذين تتوفّر فيهم هذه الصّفات هم وحدهم المؤمنون حقاً. وصفاتهم
1 سورة هود، الآية 41.
2 الأربعون حديثًا، ص 327.
3 معراج السالكين، ص 226.
4 سورة الأنفال، الآية 2.
164
129
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
المذكورة في الآية قد لاحظتموها، وأنتم تدّعون الإيمان، وقد أدركتم عقليًّا جميع أركانه ولديكم دليل عقلي وأوجدتم دليلًا لكلّ منها، فارجعوا إلى أنفسكم وتدبّروا فيها ولاحظوا أي من تلك الصّفات موجودة في قلوبكم! تسمعون أو تردّدون كل هذا الذّكر لله تعالى ولكن أين "وجل القلوب" الذي يظهر على المؤمن عند ذكر الله؟ لا ريب في أنّ القلب الذي يدرك وجدانيًّا عظمة الحقّ تعالى وجلاله، ولم يتجلَّ فيه كبرياؤه تعالى وعلوّه، لا يوجل من ذكره عزّ وجلّ"1.
إصلاح النّفوس وتهذيبها
"إنّ الارتباط المذكور بين الرّوح والقوى الظّاهرة، يؤدِّي إلى تأثير الأعمال والأحوال الظاهريّة على الرّوح وترك آثار واضحة عليها، فالأعمال الصّالحة الحسنة، والأعمال السيّئة والقبيحة، تؤدّي إلى ظهور الملكات الحسنة والفاضلة والملكات السيّئة والخبيثة، وبالتّالي تتشكّل بها حقيقة الباطن، وتتهيّأ أرضيّة النّسخ الملكوتيّ. من هنا يتّضح سرّ النّدب إلى تكرار الأذكار والأعمال الصّالحة، فهذا التّكرار يؤدّي إلى ظهور الملكات الفاضلة في الرّوح والملكوت. أمّا الأعمال القبيحة والسيّئة فهي شديدة التّأثير في النّفس لأنّها تتلائم عادةً مع اللذات والشّهوات النفسيّة، لذلك فإنّ القيام بها يكون بتوجّهٍ قلبيّ ونفسيّ فيشتدّ تأثيرها، من هنا فقد شدّدت الشّرائع الإلهيّة في النّهي عنها ومنعها، ودعت إلى الإعراض عن جميع شؤون الطّبيعة، في حين أنّها دعت إلى عدم القناعة بالقيام بالأعمال الحسنة وصالحات الأذكار والأفعال مرّةً واحدة أو بضع مرّاتٍ"2.
فتح أبواب الملكوت
"بالذّكر الحقيقيّ تُخرق الحجب بين العبد والحقّ تعالى، وتُزال موانع الحضور، وقسوة القلب وغفلته، وتُفتح في وجه السّالك أبواب الملكوت الأعلى والألطاف والرّحمة الإلهيّة"3. "فإذا آنست القلب بالتذكّر، تشملك العنايات الأزليّة بالتّدريج ويفتح على قلبك أبواب الملكوت"4.
1 جنود العقل والجهل، ص 96-97.
2 (م.ن)، ص 349 -350.
3 (م.ن)، ص 123-124.
4 معراج السالكين، ص 229.
165
130
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
غاية آمال العارفين
"إنّ تذكّر الحقّ جل وعلا والخلوة والمناجاة مع المحبوب وإظهار العبودية والذلّ أمام عظمة الكامل المطلق، غاية آمال العارفين وثمرة سلوك السالكين"1. "أمّا الكُمّل والأولياء والعرفاء فإنّ تذكّر الحبيب في نفسه، غاية آمالهم وفي ظلّه يبلغون جمال حبيبهم. هَنِيئاً لَهُمْ"2.
الإعانة التامّة على الجهاد الأكبر
"ومن الأمور التي تُعين الإنسان ـ وبصورة كاملة ـ في مجاهدته للنّفس والشّيطان، والتي ينبغي للإنسان السّالك المجاهد الانتباه إليها جيّدًا هو "التذكّر". والذكرى في هذا المقام، هي عبارة عن ذكر الله تعالى ونعمائه التي تلطّف بها على الإنسان"3.
ذكر الله له
"مقام الذّكر من المقامات العالية الجليلة التي لا يسع المجال لبيانها وهو فوق حدود التّقرير والتّحرير، وتكفي لأهل المعرفة والجذبة الإلهيّة وأصحاب المحبّة والعشق الآية الشّريفة الإلهيّة ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾. وقال الله تعالى لموسى: "يا موسى أنا جليس من ذكرني".. وفي رواية الكافي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "من اكثر ذكر الله أحبّه الله". وفي الوسائل بإسناده إلى الصّادق عليه السلام قال: قال الله عزّ وجلّ: "يا بن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، يا بن آدم اذكرني في خلاء أذكرك في خلاء، يابن آدم اذكرني في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملئك". وقال: "ما من عبد ذكر الله في ملأ من النّاس إلّا ذكره الله في ملأ من الملائكة"4.
معالجة الأمراض القلبيّة
"إذا صار فقر الممكن وذلّته وعظمة الحقّ وكبرياؤه جلّت قدرته نصب عين السّالك ووصل التّفكّر والذّكر إلى حدّ النّصاب، وحصل للقلب الأنس والسّكينة، فيشاهد بعين البصيرة آثار جلال الحقّ وكبريائه في جميع الموجودات، وتعالج العلل والأمراض القلبيّة، فيجد لذّة
1 الأربعون حديثًا، ص 296.
2 (م.ن)، ص 325-326.
3 (م.ن)، ص 32-33.
4 معراج السالكين، ص 227.
166
131
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
المناجاة وحلاوة ذكر الله، ويصير القلب مقرًّا لسلطان كبرياء الحقّ جلّ جلاله وتظهر آثار الكبرياء في ظاهر المملكة وباطنها ويوافق القلب اللسان والسرّ العلن، فتكبّر جميع قوى الباطن والظّاهر والملك والملكوت، ويرتفع أحد الحجب الغليظة، ويتقدم مرحلةً إلى حقيقة الصلاة التي هي معراج القرب"1.
ترك المعاصي
"إذا عاش الإنسان مع الحقّ سبحانه وتعالى في جميع الأحوال وكافّة المستجدّات، وشاهد نفسه أمام الذّات المقدّس عزّ شأنه، لأحجم عن الأمور التي تسخط الله، وردع نفسه عن الطّغيان. إنّ المشاكل والمصائب المنبثقة من النّفس الأمّارة والشّيطان الرّجيم قد نشأت عن الغفلة عن ذكر الحقّ وعذابه وعقابه. إنّ الغفلة عن الحقّ تضاعف كدورة القلب، وتمكّن النّفس والشّيطان من التحكّم في الإنسان وتسبّب زيادة المفاسد على مرّ الأيام. وإنّ التّذكّر للحقّ جلّ شأنه يبعث على صفاء النّفس وصقلها، ويجعلها مظهرًا للمحبوب ويوجب صفاء الرّوح ونقائها، ويحرّر الإنسان من أغلال الأسر، ويُخرج حبّ الدنيا الذي هو رأس الخطايا ومصدر السيّئات من القلب، ويجعل الهموم همًّا واحدًا، والقلب نظيفًا وطاهرًا"2.
فتح العين الباطنيّة
"التذكّر التامّ لحضرة الحقّ والتوجّه المطلق بباطن القلب إلى تلك الذات المقدّسة موجب لفتح العين الباطنيّة للقلب الذي به يحصل لقاء الله وهو قرّة عين الأولياء ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾3"4.
إزالة الحجب وقسوة القلب
"بالذّكر الحقيقيّ تخرق الحجب بين العبد والحقّ تعالى، وتزال موانع الحضور، وقسوة القلب وغفلته، وتفتح في وجه السّالك أبواب الملكوت الأعلى الألطاف والرّحمة الإلهيّة"5.
1 معراج السالكين، ص 141-142.
2 (م.ن)، ص351.
3 سورة العنكبوت، الآية 69.
4 معراج السالكين، ص 351.
5 جنود العقل والجهل، ص 123-124.
167
132
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
الإعراض عن الدّنيا
"ذكر الله تعالى يجعل القلب مُعرِضًا عن جميع منازل الطّبيعة ومناظرها، بل ويجعل كلّ العالم بكلّ ما فيه عدمًا لا قيمة له في عينه، فلا يتعلّق بشيءٍ منه، بل ينحصر تعلّقه بالحقّ تعالى وحده، حتّى تبلغ همّته مرتبةً من العلّو لا يقيم معها وزنًا لجميع عوالم الوجود، وعندها لا تضعف همّته بسبب الواردات القلبيّة مهما كانت، فلا يستشعر الكِبَر في نفسه بسبب هذه الواردات بل إنّه يستصغر كلّ شيء غير الحقّ تعالى وآثار جماله وجلاله"1.
عمارة الآخرة
"إنّ لكلّ من الأعمال الحسنة والأفعال العباديّة صورة باطنيّة ملكوتيّة، وأثر في قلب العابد، أمّا الصّورة الباطنيّة فهي التي تعمّر العوالم البرزخيّة والجنّة الجسمانيّة، لأنّ أرض الجنّة قاع خالية من كلّ شيء كما ورد في الحديث، وإنّ الأذكار والأعمال موادّ إنشاء وبناء لها"2.
التخلّص من الغضب
"الغضب أشبه بالنّار، فهو يزداد شيئًا فشيئًا ويشتدّ، حتى يتعالى لهيبه، وترتفع حرارته ويفلت العنان من يد الإنسان، ويخمد نور العقل والإيمان، ويطفئ سراج الهداية، فيصبح الإنسان ذليلًا مسكينًا. فعلى الإنسان أن يأخذ حذره قبل أن يزداد اشتعاله ويرتفع سعيره... فإذا كان جالسًا فلينهض واقفًا، وإذا كان واقفًا فليجلس، أو أن يشغل نفسه بذكر الله تعالى. بل هناك من يرى وجوب ذكر الله في حال الغضب"3.
نيل الشّفاعة
"نرى ذكر الأولياء ومقاماتهم دخيلًا في تصفية القلوب وتخليصها وتعميرها. لأنّ ذكر خير أصحاب الولاية والمعرفة يوجب المحبّة والتّواصل والتّناسب، وهذا التّناسب يوجب التّجاذب وهذا التّجاذب يؤدّي إلى التّشافع الذي ظاهره الإخراج من ظلمات الجهل إلى أنوار الهداية والعلم، وباطنه الظّهور بالشّفاعة في عالم الآخرة، لأنّ شفاعة الشّافعين لا تكون من دون تناسب وتجاذب باطني ولا تكون من الجزاف والباطل"4.
1 جنود العقل والجهل، ص 304.
2 الأربعون حديثًا، ص 471.
3 (م.ن)، ص 166.
4 معراج السالكين، ص 232.
168
133
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
المفاهيم الرئيسة
1- عندما تنكشف على الإنسان يوم القيامة النتائج العظيمة لذكر الله، ويرى نفسه بعيداً عنها، ويعلم بأنّه قد حُرم من نعمٍ كثيرة، ولا يستطيع تداركها، تستولي عليه الحسرة والنّدامة. فيجب على الإنسان أن يغتنم الفرصة ولا يُخلي مجالسه ومحافله من ذكر الله.
2- إنّ عظمة الذّكر وأهميّته تُعرف من خلال التأمّل في آثاره الكثيرة والعميقة وفي أدواره العديدة ومساهمته في تهذيب النّفس وتكميلها.
3- بعض الشواهد على آثار الذكر وأدواره: الوصول الى غاية آمال العارفين، إصلاح النّفوس وتهذيبها، فتح أبواب الملكوت، الوصول الى الكمال المطلق، زيادة الايمان، الإعانة التامّة على الجهاد الأكبر، عمارة الآخرة، ذكر الله له، فتح العين الباطنيّة، إزالة الحجب وقسوة القلب، الإعراض عن الدّنيا، معالجة الأمراض القلبيّة، ترك المعاصي، التخلّص من الغضب، إحياء القلب، ونيل الشّفاعة.
4- تكرار الأذكار والأعمال الصّالحة يؤدّي إلى ظهور الملكات الفاضلة في الرّوح والملكوت.
5- بالذّكر الحقيقيّ تُخرق الحجب بين العبد والحقّ تعالى، وتُزال موانع الحضور، وقسوة القلب وغفلته، وتُفتح في وجه السّالك أبواب الملكوت الأعلى والألطاف والرّحمة الإلهيّة.
6- الغاية القصوى لكمال الإنسان ومنتهى رجاء أهل الله هي أن يتحوّل الإنسان إلى حقيقة الأسماء والصّفات بل إلى صورة اسم الله الأعظم ومظهره.
7- لا ريب في أنّ القلب الذي يدرك وجدانيًّا عظمة الحقّ تعالى وجلاله، ولم يتجلَّ فيه كبرياؤه تعالى وعلوّه، لا يوجل من ذكره عزّ وجلّ.
8- التذكّر - بإحدى مقاماته - عبارة عن ذكر الله تعالى ونعمائه التي تلطّف بها على الإنسان.
9- إنّ التّذكّر للحقّ جلّ يجعل النّفس مظهرًا للمحبوب ويحرّر الإنسان من أغلال الأسر، ويجعل الهموم همًّا واحدًا والقلب نظيفًا وطاهرًا لورود صاحبه ـ الحقّ جلّ وعلا.
169
134
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
يَا مَنْ ذِكْرُهُ شَرَفٌ لِلذَّاكِرِينَ، وَيَا مَنْ شُكْرُهُ فَوْزٌ لِلشَّاكِرِينَ، وَيَا مَنْ طَاعَتُهُ نَجَاةٌ لِلْمُطِيعِينَ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَاشْغَلْ قُلُوبَنَا بِذِكْرِكَ عَنْ كُلِّ ذِكْرٍ، وَأَلْسِنَتَنَا بِشُكْرِكَ عَنْ كُلِّ شُكْرٍ، وَجَوَارِحَنَا بِطَاعَتِكَ عَنْ كُلِّ طَاعَةٍ فَإِنْ قَدَّرْتَ لَنَا فَرَاغاً مِنْ شُغْلٍ فَاجْعَلْهُ فَرَاغَ سَلاَمَةٍ لاَ تُدْرِكُنَا فِيهِ تَبِعَةٌ، وَلاَ تَلْحَقُنَا فِيهِ سَأْمَةٌ، حَتَّى يَنْصَرِفَ عَنَّا كُتَّابُ السَّيِّئَاتِ بِصَحِيفَةٍ خَالِيَةٍ مِنْ ذِكْرِ سَيِّئَاتِنَا، وَيَتَوَلَّى كُتَّابُ الْحَسَنَاتِ عَنَّا مَسْرُورِينَ بِمَا كَتَبُوا مِنْ حَسَنَاتِنَا1.
الروايات الشريفة:
1- عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام: "أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ يَقُولُ: طُوبَى لِمَنْ أَخْلَصَ لِلهِ الْعِبَادَةَ وَالدُّعَاءَ وَلَمْ يَشْغَلْ قَلْبَهُ بِمَا تَرَى عَيْنَاهُ وَلَمْ يَنْسَ ذِكْرَ اللهِ بِمَا تَسْمَعُ أُذُنَاهُ وَلَمْ يَحْزُنْ صَدْرَهُ بِمَا أُعْطِيَ غَيْرُهُ"2.
2- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "مِثْلَهُ وَ قَالَ مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ اللهِ أَظَلَّهُ اللهُ فِي جَنَّتِهِ"3.
3- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَلَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ إِلَّا الذِّكْرَ فَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْفَرَائِضَ فَمَنْ أَدَّاهُنَّ فَهُوَ حَدُّهُنَّ وَشَهْرَ رَمَضَانَ فَمَنْ صَامَهُ فَهُوَ حَدُّهُ وَالْحَجَّ فَمَنْ حَجَّ فَهُوَ حَدُّهُ، إِلَّا الذِّكْرَ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَرْضَ مِنْهُ بِالْقَلِيلِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَدّاً يَنْتَهِي إِلَيْهِ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾، فَقَالَ: لَمْ يَجْعَلِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ حَدّاً يَنْتَهِي إِلَيْهِ"4.
4- عن أبي عبد الله عليه السلام قَالَ: "كَانَ أَبِي عليه السلام كَثِيرَ الذِّكْرِ لَقَدْ كُنْتُ أَمْشِي مَعَهُ وَإِنَّهُ لَيَذْكُرُ اللهَ وَآكُلُ مَعَهُ الطَّعَامَ وَإِنَّهُ لَيَذْكُرُ اللهَ وَلَقَدْ كَانَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ وَمَا يَشْغَلُهُ ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وَكُنْتُ أَرَى لِسَانَهُ لَازِقًا بِحَنَكِهِ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَانَ يَجْمَعُنَا فَيَأْمُرُنَا بِالذِّكْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيَأْمُرُ بِالْقِرَاءَةِ مَنْ كَانَ يَقْرَأُ مِنَّا وَمَنْ كَانَ لَا يَقْرَأُ مِنَّا أَمَرَهُ بِالذِّكْرِ"5.
5- عن أبي عبد الله عليه السلام: "الْبَيْتُ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ وَيُذْكَرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ تَكْثُرُ بَرَكَتُهُ وَتَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ وَتَهْجُرُهُ الشَّيَاطِينُ وَيُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا يُضِيءُ الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ لِأَهْلِ الْأَرْضِ وَالْبَيْتُ الَّذِي لَا يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ وَلَا يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ تَقِلُّ بَرَكَتُهُ وَتَهْجُرُهُ الْمَلَائِكَةُ وَتَحْضُرُهُ الشَّيَاطِينُ"6.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام بخواتيم الخير.
2 الكافي، ج2، ص 16.
3 (م.ن)، ص 122.
4 (م.ن)، ص 498.
5 (م.ن) الكافي، ج2، ص 498.
6 (م.ن).
170
135
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
6- عن أبي عبد الله عليه السلام: "عن رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ لَكُمْ أَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَقْتُلُوهُمْ وَيَقْتُلُوكُمْ؟ فَقَالُوا: بَلَى، فَقَالَ: ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ كَثِيراً"1.
7- عن أبي عبد الله عليه السلام قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: مَنْ خَيْرُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِلهِ ذِكْراً، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ أُعْطِيَ لِسَاناً ذَاكِراً فَقَدْ أُعْطِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"2.
8- قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "أَنَا الرَّاعِي رَاعِي الْأَنَامِ أَ فَتَرَى الرَّاعِيَ لَا يَعْرِفُ غَنَمَهُ (فَقِيلَ لَهُ) مَنْ غَنَمُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ صُفْرُ الْوُجُوهِ ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنْ ذِكْرِ الله"3.
9- عَنْهُ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: "لِكُلِّ شَيْءٍ صَقَّالَةٌ وَصَقَّالَةُ الْقُلُوبِ ذِكْرُ اللهِ"4.
10- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أَكْثِرْ ذِكْرَ اللهِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ وَالْخَوْفَ مِنْهُ يَكْفِكَ مَا أَهَمَّكَ وَيُعِنْكَ عَلَى مَا وَلَّاكَ"5.
1 (م.ن).
2 (م.ن).
3 وسائل الشّيعة، ج7، ص 157.
4 مستدرك الوسائل، ج5، ص 285.
5 بحار الأنوار، ج33، ص 556.
171
136
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشرح الكيفيّة التي نصبح فيها من الذّاكرين.
2- يبيّن دور التفكّر في تحصيل حالة الذّكر.
3- يتعرّف إلى أهم موانع الذّكر وكيفيّة إزالتها.
173
137
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
تمهيد
يتصور الكثيرون أن الذكر عبارة عن جريان الألفاظ الجميلة على اللسان. وقد درج العديد من الناس على التوقف عند الذكر اللساني باعتبار أنه يحقق الغرض من الذكر. لكن أدنى تأمل في معنى الذكر كفيل بإيقاظ الإنسان وفتح أبواب عظيمة للحقائق الكبرى.
ومن هنا يدرك من عرف المعنى الواقعي للذكر أن الوصول إلى هذا المقام وتحصيل هذه الفضيلة الكبرى ليس بالأمر القليل. إن أولياء الله تعالى جعلوا ذكر الله تعالى هدفًا ساميًا لحياتهم، وعرفوا أن غاية العبادة التحقق بهذه المنزلة الرفيعة. فما هي الطرق التي سلكوها لجعل قلوبهم وبواطنهم وسرائرهم ذاكرة ومستغرقة في ذكر الله الأعز الأجل؟
كيف نصبح من الذّاكرين
يذكر الإمام الخمينيّ قدس سره مجموعة من الوصايا التي هي بمنزلة الشّروط اللازمة والأعمال المفيدة للوصول إلى مقام الذّكر الحقيقيّ. منها:
1- التفكّر
إنّ خزائن الأفكار هي منابع الأذكار. فكلّما اشتدّ الفكر في النّفس وقوي، اشتدّ الذكّر في القلب وتفعّل. ولا يمكن تحقيق حالة الذّكر الدّائم إلّا بعد استكمال شروط الفكر.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "فلا بدّ للسّالك أن يُحكم أوّلًا بالبرهان الحِكميّ حقيقة لا مؤثّر في الوجود إلّا الله ولا يفرّ من المعارف الإلهيّة التي هي غاية بعثة الأنبياء ولا يعرض عن تذكّر الحقّ والشّؤون الذّاتيّة والصّفاتيّة. فإنّ منبع جميع السّعادات هو تذكّر الحقّ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾1.. وإذا وصل بقدم التّفكّر والبرهان إلى
1 سورة طه، الآية 124.
175
138
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
حقيقة هذه اللطيفة الإلهيّة التي هي منبع المعارف الإلهيّة وباب أبواب الحقائق الغيبيّة، عليه أن يؤنس القلب بها بالتذكّر والرّياضة حتّى يؤمن بها. وهذا هو أوّل مرتبة لصدق مقالته، وعلامته الانقطاع إلى الحقّ وغضّ بصر الطّمع والرّجاء عن جميع الموجودات. ونتيجته التّوحيد الفعليّ الذي هو من أجلّ مقامات أهل المعرفة"1.
2- التّفهيم
وهو حاصل التّفكّر. ويأتي بعده ويشبه التّلقين. يقول الإمام قدس سره: "ومن الآداب القلبية للعبادات ـ وخصوصا العبادات الذكرية ـ التّفهيم، وكيفيّته: أن يعتبر الإنسان قلبه في أوّل الأمر كطفلٍ ما انفتح لسانه، وهو يريد أن يعلّمه كلًّا من الأذكار والأوراد والحقائق وأسرار العبادات بكمال الدقّة والعناية، ويفهّمه الحقيقة التي أدركها في أيّ مرتبة كان فيها.
فإذا لم يكن من أهل فهم معاني القرآن والأذكار وليس له نصيب من أسرار العبادات، فيفهّم القلب المعنى الإجماليّ وهو أنّ القرآن كلام الله والأذكار مذكِّرات بالحقّ تعالى والعبادات إطاعة لأمر الربّ. ويفهم القلب هذه المعاني الإجمالية. وإن كان أهل فهم المعاني الصورية للقرآن والأذكار، فيفهّم القلب المعاني الصورية من الوعد والوعيد والأمر والنّهي وعلم المبدأ والمعاد بالمقدار الذي أدركه. وان كُشفت له حقيقة من حقائق المعارف، أو كُشف له سرّ من أسرار العبادات، فيعلّم القلب ذاك المكشوف بجدٍّ واجتهاد.
ونتيجة هذا التّفهيم هو أنّه بعد مدّة من المواظبة، ينفتح لسان القلب ويصبح القلب ذاكرًا ومتذّكرًا. ففي أوّل الأمر كان القلب متعلّمًا واللسان معلّما، وكان القلب ذاكرًا بذكر اللسان وتابعًا له في الذّكر. وأمّا بعدما انفتح لسان القلب يصبح الأمر معكوسًا، فيكون القلب ذاكرًا أوّلا ويتبعه اللسان في الذّكر والحركة...
وبالجملة، ففي أوّل الأمر لابدّ أن يلاحظ الإنسان هذا الأدب: أي التّفهيم، حتّى ينفتح لسان القلب الذي هو المطلوب الحقيقيّ. وعلامة انطلاق لسان القلب أن يرتفع تعب الذّكر ومشقّته ويحصل النّشاط والفرح، ويرتفع الملل والألم، كشأن الإنسان إذا أراد أن يعلّم طفلًا لم يشرع في التكلّم، فما دام الطّفل لم يتعلّم النّطق، فإنّ المعلّم يكون في تعب وملالة، فإذا انفتح لسان الطّفل وأدّى الكلمة التي علّمه إيّاها ارتفعت ملالة المعلّم. بل نجد المعلّم يؤدّي
1 معراج السالكين، ص 144-145.
176
139
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
الكلمة تبعًا لأداء الطّفل من دون ألم وتعب.
فالقلب أيضًا في أوّل الأمر طفل ما انفتح لسانه بالكلام، ولابدّ له من التعلّم وتلقّن الأذكار والأوراد. فإذا انفتح لسان القلب، يكون تابعًا له وترتفع مشقّة الذّكر وتعب التّعليم وملالة الذّكر. وهذا الأدب بالنّسبة إلى المبتدئين ضروريّ جدًّا"1.
3- العزم
"وحيث أنّ بلوغ المقامات وتحصيل الكمالات مبنيّ على الاختيار والسّعي والاستقبال والمحافظة فإنّ للعزم دورًا أساسيًّا في تحقيق مقام الذّكر. ولهذا، يقول الإمامقدس سره: "ينبغي التّنبّه إلى أنّ على السّالك أنّ يعقد العزم على إدخال حقائق أركان التوكّل إلى قلبه بعد أن أدركها عقله استناداً إلى العلم البرهانيّ، ولا يتحقّق ذلك إلّا بأن ينتخب المجاهد لنفسه ساعةً من ليله ونهاره، يقلّ فيها اشتغال النّفس بعالم الطّبيعة والكثرة، ويكون قلبه فيها فارغ البال، فيشتغل فيها بذكر الحقّ تعالى مقروناً بحضور القلب وتوجّهه وبالتفكّر في الأذكار والأوراد المأثورة"2.
4- طهارة القلب من الرّجس
"فإذا تطهّر القلب من الرّجس استعدّ لذكر الله وتلاوة كتابه، ولكن ما دامت فيه قذارة ورجس عالم الطّبيعة فلن تتيسّر له الاستفادة من ذكر الله وتلاوة القرآن الكريم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في سورة الواقعة المباركة: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾، وقوله تعالى في سورة المؤمن: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ﴾3"4.
5- الذّكر اللسانيّ
صحيح أنّ الذّكر اللسانيّ ليس بالذّكر أصلًا لكنّه قد يكون نافعًا جدًّا ومفيدًا لتحقيقه. بل يمكن عدّه بالنّسبة للمحجوبين طريقًا أساسيًّا. ويقدّم الإمام الخميني قدس سره طريقة
1 معراج السالكين، ص 43-44.
2 جنود العقل والجهل، ص 192.
3 سورة غافر، الآية 13.
4 جنود العقل والجهل، ص 109.
177
140
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
الذّكر اللسانيّ، فيقول: "إنّ ذكر الحقّ بالنطق واللسان الذي يُعدّ من أقلّ مراتب الذّكر، يكون مجديًا ونافعًا أيضًا لأنّسه:
أوّلًا: قام اللسان بوظيفته بواسطة ذكره وإن كان هذا الذّكر قالبًا لا روح له.
وثانيًا: يمكن أن يصير هذا الذّكر باللسان سببًا لتفتّح لسان القلب أيضًا بعد فترة من المواظبة على ذكر اللسان والاستمرار عليه بشروطه.
قال شيخنا الكامل العارف الشّاه آبادي ـ روحي فداه ـ يجب أن يكون الإنسان الذّاكر مثل المعلّم الذي يريد أن يعلّم الطّفل الصّغير الذي لم ينطق بعد الكلمات، حيث يكرّر الكلمة، حتّى ينفتح لسان الطّفل وينطق الكلمة، ثمّ نرى المعلّم يداعب الطّفل ويردّد الكلمة بمثل ما سمعها من الطّفل فيزول تعب المعلّم وكأنّ مددًا يبلغه من الطّفل. كذلك الذّاكر يجب أن يعلّم قلبه الذّكر إذا لم ينفتح لسانه ـ القلب ـ على الذّكر. وسبب تكرار الذّكر هو انفتاح لسان القلب على الذّكر. وآية انفتاحه ـ لسان القلب ـ أنّ لسان الفم يتبع القلب، فيزول نصب تكرار الذّكر وعنائه. في البدء كان اللسان ذاكرًا والقلب استمدّ الذّكر منه، وبعد انفتاح لسان القلب بالذّكر، يتبعه لسان الفم، ويستمدّ اللسان منه ـ القلب ـ الذّكر، أو من الغيب"1.
6- التّكرار
لا شكّ بأنّ المطلوب هو مقام الذّكر لا حالته. لأنّ الأحوال تزول ولا تبقى. والمقامات هي كمالات النّفس التي تبقى. ولأجل تحقيق هذا الأمر ينبغي تكرار الرّياضات الرّوحيّة والمعنويّة. يقول الإمامقدس سره: "يُستحب تكرار الأذكار والأوراد والعبادات والمناسك. والسّبب الرئيسيّ هو تعويد النّفس وترويضها. فلا تضجر عزيزي من التّسكرار. واعلم أنّه ما دام الإنسان يرزح في قيود النّفس والشّهوات، وما دامت سلاسل الشّهوة والغضب الطّويلة على رقبته لا يستطيع أن يبلغ المقامات المعنويّة والروحانيّة، ولا تظهر فيه السّلطة الباطنيّة للنّفس وإرادتها الثّاقبة، ولا يحصل له مقام استقلال النّفس وعزّتها، الذي هو أرقى مقام لكمال الرّوح، بل إنّ هذا الأسر والرقّ يقيّده ولا يسمح له بالتّمرّد على النّفس في جميع الأحوال"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 327-328.
2 (م.ن)، ص 292.
178
141
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
7- التّلقين
"وبعد أن يجعل القلب مؤهّلاً لذكر الله وتلاوة كتابه، عليه أن يلقّنه آيات التّوحيد والتّنزيه (والتّسبيح) الشّريفة مع حفظ حضور القلب وحال طهارته، على النّحو التالي: أن يفرض أنّ حال قلبه كطفلٍ لم يتعلّم النّطق بعد، ويريد أن يعلّمه الكلام، فيلقّنه الكلمة الواحدة ويكرّرها له حتّى يتعلّمها، وبهذا النّحو يلقّن قلبه كلمة التّوحيد بطمأنينة وتوجّه، ويكرّرها له حتّى ينفتح لسانه القلبيّ بالنّطق بها، ولو خصّص أواخر الليل أو ما بين الطّلوعين بعد فريضة الفجر لهذا العمل فهو أفضل للغاية، فيعمد في هذا الوقت إلى توجيه القلب بطهارة شطر القرآن الكريم وذكر الله، ويتلو قلبه، على نحو التّلقين والتّذكير، الآيات القرآنية الكريمة مشتملة على التّذكير والتّوحيد"1.
8- الطّمأنينة
وهي عبارة عن تأمين وضعيّة الثّبات النّفسيّ حتّى تحقّق العبادات الذكريّة هدفها. لهذا، يقول الإمام قدس سره: "من الآداب القلبيّة المهمّة للعبادات ـ وخصوصًا العبادات الذّكريّة ـ الطّمأنينة... وهي عبارة عن أن يأتي السّالك بالعبادة مع سكون القلب واطمئنان الخاطر، لأنّ العبادة إذا أُتي بها حال اضطراب القلب وتزلزله، فلا ينفعل القلب بها، ولا يحصل أثر منها في ملكوت القلب ولا تصير حقيقة العبادة صورة باطنيّة له. في حين أنّ من إحدى نكات تكرار العبادات وتكثير الأذكار والأوراد أن يتأثّر القلب بها وينفعل حتى يتشكّل باطن السّالك شيئَا فشيئًا من حقيقة الذّكر والعبادة، ويتّحد قلبه بروح العبادة. وطالما لم يكن للقلب اطمئنان وسكون وطمأنينة ووقار، لا يكون للأذكار والنّسك فيه تأثير، ولا يسري أثر العبادة من ظاهر البدن وملكه إلى ملكوته وباطنه ولا يؤدّي إلى القلب حظوظه من العبادة... فمثلًا، إذا قال أحد الذّكر الشّريف: "لا إله إلا الله محمّد رسول الله" بسكينة القلب واطمئنانه، وراح يعلّم القلب هذا الذّكر الشريف، فإنّ لسان القلب ينطق بالتدريج، حتى يصبح لسان الظاهر تابعًا للسان القلب. ففي البداية يكون القلب ذاكراً ثم يتبعه اللسان، وإلى هذا المعنى أشار الإمام الصادق عليه السلام، على ما في رواية مصباح الشريعة قال: "فاجعل قلبك قبلة للسانك لا تحرّكه إلا بإشارة القلب وموافقة العقل ورضى الإيمان"2.
1 جنود العقل والجهل، ص 109.
2 معراج السالكين، ص 32.
179
142
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
9- النّشاط والبهجة
"إنّ من أسرار العبادات والرّياضات ونتائجهما أن تكون إرادة النّفس في ملك البدن نافذة... وتُساق جنود النّفس من الإيمان إلى التّسليم ومن التّسليم إلى الرّضا ومن الرّضا إلى الفناء. وفي هذه الحالة تجد النّفس رائحة من أسرار العبادة، ويحصل لها شيء من التجلّيات الفعليّة. وما ذكرنا لا يتحقّق إلا بأن تؤدّى العبادات عن نشاطٍ وبهجة ويحترز فيها من التكلّف والتعسّف والكسل احترازًا تامًّا، كي تحصل للعابد حالة المحبّة والعشق لذكر الحقّ ولمقام العبوديّة، ويحصل له الأنس والتّمكّن"1.
10- اختيار الأوقات المناسبة
"إذا عمد في وقت الفراغ من المشاغل النّفسيّة والخواطر، والواردات الدّنيويّة مثل أواخر الليل أو ما بين الطّلوعين، إلى تلاوة الآيات الأواخر من سورة الحشر المباركة من قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ﴾ وهي الآية 18 من السورة إلى آخرها ـ وهي آيات تشتمل على التّذكير ومحاسبة النفس، وتتضمّن الإشارة إلى مراتب توحيد الله وأسمائه وصفاته ـ نقول إذا عمد على تلاوتها مع التوجّه القلبي والتدبر فيها، فإنّ المرجوّ إن شاء الله أن يحصل نتائج طيّبة، وكذلك الحال مع الأذكار الشّريفة بحضورٍ قلبيّ، فليعمد إلى الذّكر الشّريف "لا إله إلّا الله"، هو أفضل الأذكار وأجمعها، فالمرجوّ أن يأخذ الله تعالى بيده، (ببركة هذا الذكر المبارك)"2.
موانع الذّكر
1- الإعراض عن الحق
قد يدخل الإنسان في أجواء الفكر، ويعيش في قلب الحقائق والمعارف الإلهيّة العظيمة، ولكنّه لا يصبح من الذّاكرين ولا تتبدّل تلك الأفكار الرّائعة إلى أذكار للقلب، وذلك لأنّه لم يصدق النيّة في عمله ذلك. بل كان همّه مثلًا أن يكون من المعروفين بالعلم والمشهورين بالعرفان. يقول الإمام قدس سره: "الإنسان إذا لم يبتغِ من وراء طلب العلم، الوصول إلى الحقّ،
1 معراج السالكين، ص 38.
2 جنود العقل والجهل، ص 110.
180
143
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
والتحقّق بأسماء الله وصفاته، والتخلّق بأخلاق الله، سيتحوّل كلّ واحدٍ من إدراكاته إلى دركات، وحجب مظلمة، تسوّد قلبه وتعمي بصيرته، ويصبح من مصاديق الآية المباركة التي تقول: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾"1.
2- الاغترار بوعود إبليس
"إنّ ذلك الملعون هو الذي يسعى دائمًا إلى تهوين أمور الآخرة في أعيننا، وبتذكيرنا لرحمة الله ولشفاعة الشّافعين يريد أن ينسينا ذكر الله وطاعته"2. "فلا بدّ أن نعلم بأنّ تأخّرنا عن هذا السّير الملكوتيّ والسّلوك الإلهيّ بسبب إغواء الشّيطان والوقوع تحت السّلطنة الشّيطانيّة من قصورنا أو من تقصيرنا، حيث لم نقم بآدابه المعنويّة وشرائطه القلبيّة، كما أنّ عدم نيلنا في جميع الأذكار والأوراد والعبادات نتائجها الرّوحيّة والآثار الظاهريّة والباطنيّة فهو بسبب هذه المسألة الدّقيقة"3.
3- اللغو
"فيما يرتبط بخصوص آثار اللغو والكلام القبيح فينبغي الالتفات إلى شدّة إضراره على الرّوح، فهو يسلب النّفس الصّلاح والصّفاء والسّلامة والوقار والطّمأنينة والسّكينة، ويلوّثها بالجلافة والكدر والقسوة والغفلة والإدبار عن ذكر الله، ويسلب الرّوح حلاوة عبادة الله وذكره، ويضعف الايمان ويوهنه، ويميت القلب4. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوُ القلبِ، إنّ أبعد الناس من الله القلبُ القاسي"5"6.
1 الأربعون حديثًا، ص 425.
2 (م.ن)، ص 178.
3 معراج السالكين، ص 230.
4 جنود العقل والجهل، ص 350.
5 وسائل الشّيعة، ج12، ص 194.
6 جنود العقل والجهل، ص 352-353.
181
144
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
4- الإخلاد إلى الأرض
"إنّ حرمان قلوبنا المسكينة من حلاوة ذكر الحقّ تعالى، وإنّ عدم وصول لذّة مناجاة تلك الذّات المقدّسة إلى ذائقة أرواحنا ونحن محتجبون عن الوصول إلى قرب الجناب ومحرومون من تجلّيات الجمال والجلال، لأنّ قلوبنا عليلة ومريضة، وقد حجبنا الإخلاد إلى الأرض والاحتجاب بالحجب المظلمة للطّبيعة عن معرفة كبرياء الحقّ وأنوار الجمال والجلال"1.
ويقولقدس سره في مكانٍ آخر: "من الحجب الغليظة التي هي ستر سميك بيننا وبين معارف القرآن ومواعظه: حجاب حبّ الدنيا، فيصرف القلب بواسطة تمام همّته في الدنيا وتكون وجهة القلب تمامًا إلى الدّنيا ويغفل القلب بواسطة هذه المحبّة عن ذكر الله، ويعرض عن الذّكر والمذكور، وكلّما ازداد التعلّق بالدّنيا وأوضاعها ازداد حجاب القلب وساتره ضخامة، وربّما تغلب هذه العلاقة على القلب ويتسلّط سلطان حبّ الجاه والشّرف على القلب بحيث يطفىء نور فطرة الله تمامًا، وتغلق أبواب السّعادة على الإنسان"2.
5- السّقوط في مستنقع العقائد الباطلة
"الذي أوجب أن تكون استفادتنا من هذا الكتاب العظيم (القرآن) قليلة جدًّا هو هذا الفهم. فإمّا ألّا ننظر إليه نظر التّعليم والتّعلّم كما هو الغالب علينا، ونقرأه للثّواب والأجر فقط، فينصبّ جهدنا على تجويده فقط والقراءة الصّحيحة حتى ننال الثّواب، ونحن واقفون عند هذا الحدّ وقانعون بهذا.. ها قد قرأنا القرآن لأكثر من أربعين سنة ولم تحصل الاستفادة منه بوجه إلّا الأجر وثواب القراءة. وإمّا أن نشتغل ـ إن كان هدفنا التّعليم والتّعلّم ـ بالنّكات البديعيّة والبيانيّة ووجوه إعجازها، أو أعلى من هذا بقليل، بالجهات التّاريخيّة وسبب نزول الآيات وأوقات النّزول، وكون الآيات والسّور مكّيّة أو مدنيّة، واختلاف القراءات واختلاف المفسّرين من العامّة والخاصّة وسائر الأمور العرضيّة الخارجة عن المقصد حتّى صارت هذه الأمور بنفسها سببًا للاحتجاب عن القرآن والغفلة عن الذّكر الإلهيّ"3.
1 معراج السالكين, ص 141.
2 (م.ن)، ص 147.
3 (م.ن)، ص 202-203.
182
145
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
المفاهيم الرئيسة
1- إنّ ما تعشقه الفطرة السّليمة هو المعرفة على نحو المشاهدة الحضوريّة، لذا فإنّ أوّل عمل ينبغي أن نلتفت إليه إذا أردنا أن نصبح من الذّاكرين هو إزالة الحجب عن القلب لاستقبال أنوار الفطرة الإلهيّة وللسّماح لها بالسّريان في كلّ مملكة وجودنا.
2- من الشّروط اللازمة والأعمال المفيدة للوصول إلى مقام الذّكر الحقيقيّ: التفكّر، العزم، الذكر اللساني، التّكرار وتلقين القلب، طهارة القلب من الرّجس، الطّمأنينة.
3- الفكر هو مقدّمة للذّكر، فكلّما اشتدّ الفكر في النّفس وقوي، اشتدّ الذكّر في القلب وتفعّل. ولا يمكن تحقيق حالة الذّكر الدّائم إلّا بعد استكمال شروط الفكر.
4- أوّل مرتبة لصدق مقالة السّالك هي تذكّر الحقّ، وعلامته الانقطاع إلى الحقّ وغضّ بصر الطّمع والرّجاء عن جميع الموجودات.
5- يمكن أن يصير الذّكر باللسان سببًا لتفتّح لسان القلب وسبب تكرار الذّكر هو انفتاح لسان القلب على الذّكر وآية انفتاحه أنّ لسان الفم يتبع القلب، فيزول نصب تكرار الذّكر وعنائه.
6- لا شكّ بأنّ المطلوب هو مقام الذّكر لا حالته. لأنّ الأحوال تزول ولا تبقى. ولأجل تحقيق هذا الأمر ينبغي تكرار الرّياضات الرّوحيّة والمعنويّة.
7- حتّى يؤثّر الذّكر في ملكوت القلب وتصير حقيقة العبادة صورة باطنيّة للقلب ينبغي أن يؤّدى في حال من الطّمأنينة.
8- أهم موانع الذّكر هي: عدم صدق النيّة، الاغترار بوعود إبليس، اللغو، احتجاب الفطرة بعالم الطّبيعة، الإدّعاء، الإخلاد إلى الأرض وجعل وجهة القلب تمامًا إلى الدنيا، السّقوط في مستنقع العقائد الباطلة، ومدح أهل الدّنيا.
9- ما لم يبتغِ الإنسان الوصول إلى الحقّ من وراء طلب العلم، والتحقّق بأسماء الله وصفاته، والتخلّق بأخلاق الله، سيتحوّل كلّ واحدٍ من إدراكاته إلى دركات وحجب مظلمة.
183
146
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَنَبِّهْنِي لِذِكْرِكَ فِي أَوْقَاتِ الْغَفْلَةِ، وَاسْتَعْمِلْنِي بِطَاعَتِكَ فِي أَيَّامِ الْمُهْلَةِ، وَانْهَجْ لِي إِلَى مَحَبَّتِكَ سَبِيلاً سَهْلَةً، أَكْمِلْ لِي بِهَا خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ1.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَلاَ تَجْعَلْنِي نَاسِياً لِذِكْرِكَ فِيمَا أَوْلَيْتَنِي، وَلاَ غَافِلاً لإِحْسَانِكَ فِيمَا أَبْلَيْتَنِي، وَلاَ آيِساً مِنْ إِجَابَتِكَ لِي وَإِنْ أَبْطَأَتْ عَنِّي، فِي سَرَّاءَ كُنْتُ أَوْ ضَرَّاءَ، أَوْ شِدَّةٍ أَوْ رَخَاءٍ، أَوْ عَافِيَةٍ أَوْ بَلاَءٍ، أَوْ بُؤْسٍ أَوْ نَعْمَاءَ، أَوْ جِدَةٍ أَوْ لأْوَاءَ، أَوْ فَقْرٍ أَوْ غِنًى... اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَفَرِّغْ قَلْبِي لِمَحَبَّتِكَ، وَاشْغَلْهُ بِذِكْرِكَ، وَانْعَشْهُ بِخَوْفِكَ وَبِالْوَجَلِ مِنْكَ، وَقَوِّهِ بِالرَّغْبَةِ إِلَيْكَ، وَأَمِلْهُ إِلَى طَاعَتِكَ، وَأَجْرِ بِهِ فِي أَحَبِّ السُّبُلِ إِلَيْكَ، وَذَلِّلْهُ بِالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَكَ أَيَّامَ حَيَاتِي كُلِّهَا2.
الآيات الكريمة:
1- ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾3.
2- ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾4.
الروايات الشريفة:
1- قَالَ الصَّادِقُ عليه السلام: "لَا يَتَمَكَّنُ الشَّيْطَانُ بِالْوَسْوَسَةِ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا وَقَدْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَاسْتَهَانَ بِأَمْرِهِ وَسَكَنَ إِلَى نَهْيِهِ وَنَسِيَ اطِّلَاعَهُ عَلَى سِرِّهِ... إِذَا أَتَاكَ الشَّيْطَانُ مُوَسْوِساً لِيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ وَيُنْسِيَكَ ذِكْرَ اللهِ فَاسْتَعِذْ مِنْهُ بِرَبِّكَ وَرَبِّهِ فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُ الْحَقَّ عَلَى الْبَاطِلِ وَيَنْصُرُ الْمَظْلُومَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾"5.
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من ذكر الله سبحانه أحيا الله قلبه ونوّر عقله ولبّه"6.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "سامع ذكر الله ذاكر"7.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام في مكارم الأخلاق.
2 (م.ن)، دعاؤه عليه السلام إذا أحزنه أمر واهمّته الخطايا.
3 سورة النحل، الآية 43.
4 سورة الكهف، الآية 28.
5 مستدرك الوسائل، ج1، ص 178 ـ 179.
6 تصنيف غرر الحكم، ص189.
7 (م.ن)، ص 188.
184
147
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
4- عَنْ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ: "زَامَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: فَقَالَ لِي اقْرَأْ فَافْتَتَحْتُ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ فَقَرَأْتُهَا فَرَقَّ وَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا أُسَامَةَ ارْعَوْا قُلُوبَكُمْ ذِكْرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاحْذَرُوا النَّكْتَ فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَى الْقَلْبِ تَارَاتٌ أَوْ سَاعَاتٌ الشَّكُّ مِنْ صَبَّاحٍ لَيْسَ فِيهِ إِيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ شِبْهَ الْخِرْقَةِ الْبَالِيَةِ أَوِ الْعَظْمِ النَّخِرِ، يَا أَبَا أُسَامَةَ أَلَسْتَ رُبَّمَا تَفَقَّدْتَ قَلْبَكَ فَلَا تَذْكُرُ بِهِ خَيْرًا وَ لَا شَرًّا وَلَا تَدْرِي أَيْنَ هُوَ، قَالَ: قُلْتُ بَلَى، إِنَّهُ لَيُصِيبُنِي وَأَرَاهُ يُصِيبُ النَّاسَ، قَالَ: أَجَلْ، لَيْسَ يَعْرَى مِنْهُ أَحَدٌ، قَالَ: فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَاحْذَرُوا النَّكْتَ فَإِنَّهُ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً نَكَتَ إِيمَاناً وَإِذَا أَرَادَ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ نَكَتَ غَيْرَ ذَلِكَ"1.
5- عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ وَ اللهِ إِنَّ ذِكْرَ اللهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ أَسْرَعُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ مِنَ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ"2.
6- مِصْبَاحُ الشَّرِيعَةِ، قَالَ الصَّادِقُ عليه السلام: "وَ اقْطَعْ عَمَّنْ يُنْسِيكَ وَصْلُهُ ذِكْرَ اللهِ وَتَشْغَلُكَ أُلْفَتُهُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَ أَعْوَانِهِ وَ لَا يَحْمِلْنَكَ رُؤْيَتُهُمْ إِلَى الْمُدَاهَنَةِ عِنْدَ الْحَقِّ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ خُسْرَاناً عَظِيماً نَعُوذُ بِاللهِ"3.
7- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ليس في المعاصي أشدّ من اتّباع الشهوة فلا تطيعوها فيشغلكم عن ذكر الله"4.
1 وسائل الشّيعة، ج7، ص 166.
2 مستدرك الوسائل، ج5، ص 58.
3 (م.ن)، ج 8، ص 352.
4 تصنيف غرر الحكم، ص 190.
185
148
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يتعرّف إلى المعنى الدّقيق للطمأنينة وأهم علامتها في النفس.
2. يتعرّف إلى أهميّة الطّمأنينة ودورها في ترسيخ الفضائل الأخلاقيّة في النفس.
3. يبيّن كيفيّة تحصيل الطّمأنينة وأهم الموانع التي تحول دون ذلك.
187
149
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
تمهيد
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾1.
كثيرة هي مواقف الحياة ومواردها وفرصها التي تزلزل الإنسان، فتمنعه من الاستفادة الصّحيحة والتّوجّه المركّز والثّبات واتّخاذ الموقف المناسب، لهذا احتاج العاقل إلى الطّمأنينة لكي يثبت وعاء وجوده أمام نزول الفيوضات الرّحمانيّة، فتستقرّ في قلبه ثمّ تتّحد مع نفسه فتصبح عنوان هويّته وسِمة شخصيّته.
ما أحوج المجاهد إلى الطّمأنينة في ساحات الوغى. والأحوج منه ذاك الذي تحيط به مغريات الدّنيا فتسلبه لبّه من شدّة هزاهزها. وفي مجالس العلم وفي العبادة وفي كلّ عمل نقوم به، تكون الطّمأنينة عاملًا أساسيًّا في تحصيل الفوائد والوصول إلى النّتائج. فما هي الطّمأنينة؟ ومن أين تنشأ؟ وكيف يمكننا تحصيلها؟
ما هي الطّمأنينة؟
لا تحتاج الطّمأنينة إلى تعريفٍ علميّ لأنّها من الأمور التي يدركها الوجدان نظرًا لتحقّقها في عالم الأبدان. فالجسد المطمئنّ شرط في الصّلاة، ويقابلها الاضطراب والتّزلزل والحركة العشوائيّة التي لا تعرف وجهةً، وما ينبغي أن نعرفه أنّ الطّمأنينة هي ثبات الإيمان واستقراره في القلب، وتمركز التّوجّه والتّخيّل في الخيال. ولها حضور وتجلٍّ في جميع مراتب النّفس.
1 سورة الفجر، الآيات 27 – 30.
189
150
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
لكنّ الأصل في بحثنا هذا هو طمأنينة القلب وسكونه التي ينبغي أن تنعكس في عالم المثال بصورة اطمئنان الخاطر، يقول الإمامقدس سره: "من الآداب القلبية المهمّة للعبادات ـ وخصوصًا العبادات الذكرية ـ الطمأنينة. وهي غير الطمأنينة التي اعتبرها الفقهاء رضوان الله عليهم في خصوص الصلاة. وهي عبارة عن أن يأتي السالك بالعبادة مع سكون القلب واطمئنان الخاطر، لأنّ العبادة إذا أُتي بها حال اضطراب القلب وتزلزله، فلا ينفعل القلب بها، ولا يحصل أثر منها في ملكوت القلب ولا تصير حقيقة العبادة صورة باطنيّة له"1.
وبهذا البيان يُعلم أنّ طمأنينة الخاطر من أعظم أسباب استقرار الفضائل ورسوخها في النّفس.
وإذا انعكست الطّمأنينة القلبيّة في عالم الخيال والمثال ظهرت في عالم الملك والظّاهر وتجلّت في حركة الأعضاء والجوارح، فلا يزيغ البصر ولا تتذبذب الأذن ولا تتحرّك الأيدي ولا ترجف الأرجل ما دامت مطمئنّة.
إنّ الطّمأنينة في المراتب المختلفة علامة ودليل على استقرار الفيض الإلهيّ وقرب اتّحاده بالنّفس الذي يُعدّ عنوان الكمال الحقيقيّ. إنّ أكثر النّاس يتمتّعون من حينٍ لآخر بفيوضات رحمانيّة قد تصل إلى حدّ المكاشفات والمشاهدات. لكنّ الكمال الحقيقيّ في صيرورة هذه الكمالات أو الأنوار والفيوضات حالة راسخة وهيئة ثابتة في النّفس، الأمر الذي يحصل بفضل الطّمأنينة.
فلو أراد الله بعبدٍ خيرًا، منحه الطّمأنينة قبل أن يفيض عليه بأنوار الكمالات المختلفة. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "الطمأنينة واليقين والثبات والإخلاص وأمثالها من الإفاضات الرّحمانيّة والإلقاءات المُلكية"2.
ويقول قدس سره: "مقام الاطمئنان وطمأنينة النّفس، وهو في الحقيقة المرتبة الكاملة من الإيمان. قال تعالى مخاطبًا خليله: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾3"4.
1 معراج السالكين، ص 31.
2 الأربعون حديثًا، ص 433.
3 سورة البقرة، الآية 260.
4 معراج السالكين، ص 26.
190
151
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
والطّمأنينة علامة إلهيّة على التّكامل حيث يقول الإمام قدس سره: "أمّا أهل الآخرة، فإنهم كلّما ازدادوا قرباً من دار كرم الله، ازدادت قلوبهم سرورًا واطمئنانًا"1.
آثار الطّمأنينة
للطّمأنينة آثار لا عدّ لها ولا حصر، ونحن ننقل منها أهم ما جاء في كلمات الإمام الخمينيّ قدس سره.
1- العصمة
"إنّ نفي الشكّ يستلزم نفي العيوب القلبيّة والقالبيّة، بل يستلزم العصمة، لأنّها ـ العصمة ـ أمر على خلاف الإرادة والاختيار، وإنها لا تكون من الأمور الطبيعية والجبلّية، بل هي حالة نفسية، وأنوار باطنية تتفجّر من نور اليقين الكامل والاطمئنان التام"2.
2- سبب لتأثير العبادة والذّكر
"من إحدى نكات تكرار العبادات وتكثير الأذكار والأوراد أن يتأثّر القلب بها وينفعل حتى يتشكّل باطن السالك شيئا فشيئا من حقيقة الذكر والعبادة، ويتّحد قلبه بروح العبادة. وطالما لم يكن للقلب اطمئنان وسكون وطمأنينة ووقار، لا يكون للأذكار والنسك فيه تأثير، ولا يسري أثر العبادة من ظاهر البدن وملكه إلى ملكوته وباطنه ولا يؤدي إلى القلب حظوظه من العبادة. وهذا من الأمور الواضحة التي لا تحتاج إلى بيان، ويعلم بأدنى تأمّل"3.
3- التغلّب على جنود الشّيطان
"إنّ طمأنينة النّفس واستقامتها هي التي تجعل الغلبة للإنسان في مواجهة جنود الجهل، وتحفظه في مجابهة حزب الشيطان، وتجعله يسيطر على قوّتي الغضب والشهوة، فلا يستسلم لهما، بل هي التي تُسخّر لطاعته جميع قواه الباطنية والظاهرية"4.
1 الأربعون حديثًا، ص 156.
2 (م.ن)، ص 581.
3 معراج السالكين، ص 31-33.
4 جنود العقل والجهل، ص 324.
191
152
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
4. التّقوى التّامّة
"إن الإنسان يستطيع القيام بجميع الواجبات الفردية والاجتماعية، فلا ينحرف ولا يسقط في المعاصي في أيّ مرحلة من مراحل حياته الماديّة والروحيّة، وذلك ببركة التحلّي بهذه القوّة الروحانية العظيمة، أي ملكة الاستقامة والطمأنينة"1.
5- عدم الخوف من الأعداء
"فبها (أي الطمأنينة) قام زعماء الدّين في وجه الملايين من الجاهلين دون أن يسمحوا لكثرة هؤلاء بأن توجد فيهم أدنى وهن، وهذه الرّوح العظيمة هي التي جعلت الأنبياء العظام ينهضون فرادى لمواجهة العقائد الجاهلية الباطلة التي سيطرت على العالم، دون أن يدخلهم أدنى خوف أو رهبةٌ بسبب وحدتهم وكثرة مخالفيهم، وبها تغلّبوا على تلك العقائد الجاهليّة وغيّروا العادات التي أوجدتها في الناس، واستبدلوها بصبغتهم التّوحيديّة"2.
6- سبب للقوّة العظيمة
"لَمَّا سَأَلَ عُمَرُ (أمير المؤمنين عليه السلام) فَقَالَ: "يَا أَبَا الْحَسَنِ لَقَدِ اقْتَلَعْتَ مَنِيعاً وَأَنْتَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ خَمِيصاً، فَهَلْ قَلَعْتَهَا بِقُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ؟ فَقَالَ: مَا قَلَعْتُهَا بِقُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ وَلَكِنْ قَلَعْتُهَا بِقُوَّةٍ إِلَهِيَّةٍ وَنَفْسٍ بِلِقَاءِ رَبِّهَا مُطْمَئِنَّةٍ رَضِيَّةٍ"3.
أسباب الطّمأنينة
إنّ جميع الكمالات والكرامات إفاضات إلهيّة ومِنن ربّانيّة. لكن على الإنسان أن يحفظ لها في نفسه الوعاء والاستعداد. ومن جملة الأسباب التي تمهّد لحصول الطّمأنينة في النّفس حسبما جاء في كلمات الإمام الخمينيّ قدس سره:
1- ترك حبّ الجاه والمقام
"إنّ هدوء النفس والطمأنينة الحاصلة من ترك حبّ الجاه والمقام وسائر تفرّعاته، تمنع النفس من أن تخطو خطوات تخالف العدالة والرويّة. إنّ الإِنسان البسيط غير المتكلّف
1 جنود العقل والجهل، ص 325.
2 (م.ن)، ص 325.
3 بحار الأنوار، ج21، ص 40.
192
153
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
يتحمّل المنغّصات ولا تتقطع حبال صبره، فلا يستولي عليه الغضب المفرط في غير وقته. أمّا إذا اقتلع جذور حبّ الدنيا من قلبه اقتلاعًا، فإنّ جميع المفاسد تهجر قلبه وتحلّ محلّها الفضائل الأخلاقيّة السّامية"1.
2- التوجّه إلى تعمير الآخرة وعالم الغيب
"إذا كانت وجهة القلب نحو تعمير الآخرة، والمعارف الحقّة، وعالم الغيب، لحصل له وئام مع الملكوت الأعلى، الذي هو عالم الملائكة وعالم النفوس الطيّبة السّعيدة، والذي يكون هذا العالم بمثابة الظل النّورانيّ لعالم الطّبيعة، واعتبر العلوم التي تفاض عليه من العلوم الرّحمانيّة الملكيّة والعقائد الحقّة وغدت الخواطر من الإلقاءات والخواطر الإلهيّة، ويتطهّر من الشكّ والشرك ويتنزّه منهما، وحصلت الاستقامة والطّمأنينة في النّفس، وصارت أشواقها أيضًا على ضوء تلك العلوم، وإرادتها على ضوء تلك الأشواق"2.
3- شرح الصدر
"فالمتحلي بشرح الصدر لا يولي أهميّةً لما يراه في نفسه من كمال وجمال ومال ونفوذ وحشمة ولا يستعظمه، لأنّ سعته الوجودية كبيرة إلى درجة تجعله يتغلّب على جميع الورادات القلبية، فلا يضيق وعاؤُهُ الوجودي بشيءٍ. وهذه السّعة في الصدر وليدة معرفة الحقّ تعالى، وهي التي توصل قلوب المتألهين للأنس بالله إلى مقام الاطمئنان والسكينة والطمأنينة"3.
4- إشراقة نور التّوحيد
"إنّ القلب الذي أشرق فيه نور التّوحيد ومعرفة الكمال المطلق يتحلّى بالطّمأنينة والثبات والتأني والاستقرار، وإنّ القلب الذي تنوَّر بمعرفة الحقّ جلَّ وعلا يرى عيانًا أنّ مجاري الأمور بيد قدرته تعالى، ويرى نفسه واجتهاده وحركته وسكونه هو، وكذلك حركات وسكنات جميع الموجودات صادرة منه تبارك وتعالى، لأنّ زمام أمورها ليس بيدها بل بيده عزَّ وجلّ، مثل هذا القلب لا يعتريه اضطراب أو تسرّع أو تذبذب"4.
1 الأربعون حديثًا، ص167-168.
2 (م.ن)، ص 434.
3 جنود العقل والجهل، ص 304.
4 (م.ن)، ص 326.
193
154
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
5- الحلم
"الحلم من شُعَبِ اعتدال القوّة الغضبية، وهو ملكةٌ تؤدّي إلى حصول الطمأنينة في النفس، فلا تهيج فيها القوّة الغضبية بسرعة أو في غير الموارد المناسبة، ولا تفقد زمام أمرها إذا واجهت ما لا ترغب فيه أو ما تكرهه أو ما لا يلائمها"1.
كيفيّة تحصيل الطّمأنينة
إنّ الاتّصال بالأسباب المذكورة هو العنصر المحوريّ في تحصيل الطّمأنينة وجعلها ملكة نفسانيّة راسخة. ويذكر الإمام الخمينيّ قدس سره مجموعة من النّصائح المفيدة في هذا المجال، يمكن أن تشكّل برنامجًا مهمًّا.
1- مخالفة الشّيطان
"من الوضوح بمكان أنّك إذا خالفت الشّيطان فترة من الزّمان، ولم تلقَ بالاً لوساوسه، لانقطع طمعه عنك، وعادت الطمأنينة والسكون إلى نفسك"2.
2- العلم الصّحيح
"عبّر الإمام عليه السلام عن العلم بـ (المُحكمة)3 لأجل أنّ العلم الصحيح لنورانيته وضيائه في القلب، يوجب الاطمئنان، ويدحض الريب والشك"4.
3- إزالة حبّ الدّنيا
"وبصورة عامة، فإنّ العلاج الجذريّ لمعظم المفاسد إنما يتحقّق بمعالجة حبّ الدنيا وحبّ النفس، وبذلك تتحلّى النفس بالسكينة والطمأنينة، فيهدأ القلب حينئذٍ ويصبح الاطمئنان قوّة وملكة فيه، فيتساهل بشأن الأمور الدنيوية ولا يهتم بأيِّ مأكل ومشرب،
1 جنود العقل والجهل، ص 329.
2 الأربعون حديثًا، ص 441.
3 قال المؤمنين عليه السلام يقول: "يا طالب العلم إن العلم ذو فَضَائِلَ كَثِيرةٍ، فَرَأسُهُ التَّواضُعُ، وَعَيْنُهُ البَرَاءَةُ مِنَ الحَسَدِ، وأذُنُهُ الفَهْمُ، وَلِسَانُهُ الصِّدقُ، وحِفْظُهُ الفَحْصُ، وَقَلْبُهُ حُسْنُ النِّيَّةِ، وَعَقْلُهُ مَعْرِفَةُ الأشْيَاءِ وَالأُمُورِ، وَيَدُهُ الرَّحْمَةُ، وَرِجْلُهُ زِيَارَةُ العُلَمَاءِ، وَهِمَّتُهُ السَّلاَمَةُ، وَحِكْمَتُهُ الوَرَعُ، وَمُسْتَقَرُّهُ النَّجَاةُ، وَقَائدُهُ العَافِيَةُ، وَمَرْكَبُهُ الوَفَاءُ، وَسِلاحُهُ لِينُ الكَلِمَةِ، وَسَيْفُهُ الرِّضَا، وَقَوْسُهُ المُدَارَاةُ، وَجَيْشُهُ مُحَاوَرَةُ العُلَمَاءِ، وَمَالُهُ الأدَبُ، وَذَخِيرَتُهُ اجْتِنَابُ الذُّنوبِ، وَزَادُهُ المَعْرُوفُ، وَمَاؤُهُ المُوادَعَةُ، وَدَليلُهُ الهُدَى، وَرَفِيقُهُ مَحَبَّةُ الأخْيَارِ" الكافي، ج1، ص 48.
4 الأربعون حديثًا، ص 427.
194
155
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
ويتعامل بهدوءٍ وتساهل مع من يزاحمه في أيّ أمر من أمور الدنيا، لأنّ محبوبه ليس طعمة أهل الدنيا لكي يهيج من أجلها"1.
و"إنّ أهل الدنيا دائمًا في تعب ونصب، وإنّهم لم يتمتّعوا باطمئنان في الروح واستقرار في الجسم، وإذا حلّت بهم مصيبة، خارت قواهم وحيويّتهم وزال جَلَدهم وصبرهم أمام الحوادث التي تداهمهم. وهذا لا يكون إلاّ نتيجة شكّهم وعدم إيمانهم بالقضاء الإلهيّ وعدله، فتكون هذه الأمور من الحزن والهمّ والتّعب. نتيجة لهذا التزلزل"2.
موانع الاطمئنان
1- طلب الشهوات
"حال القلب المحتجب، المحروم من معرفة الله، الواقع في حجب التوجّه للنفس والشهوات واللذات الحيوانية، فهو مضطربٌ لخوفه فوات اللذات الحيوانية، فصاحبه فاقد للطمأنينة يقوم بأعماله بعجلةٍ وتسرُّع"3.
2- اللغو والكلام القبيح
"فيما يرتبط بخصوص آثار اللغو والكلام القبيح ينبغي الالتفات إلى شدّة اضراره على الرّوح، فهو يسلب النّفس الصّلاح والصّفاء والسّلامة والوقار والطّمأنينة والسّكينة"4.
3- الرّكون إلى الأسباب وعدم إرجاعها إلى الله
"إن المحتجب عن الحقّ تعالى، والمتوجّه إلى الأسباب العاديّة ويراها مستقلّة في فاعليّتها، يتشبّث بها ـ عملياً وقلبيّاً ـ فينقطع عن الحقّ، وتزول الطمأنينة والثقة بالله من نفسه، ويحل محلّها الاضطراب والتزلزل: ولأنّ الأسباب العاديّة لا تحقّق له ما يطمح إليه ولا تطفئ نار حاجته، لذا فإنّ حال الاضطراب والتوقان، والتمسّك والتشبّث بالدنيا وأهلها تشتد فيه كل يوم حتّى تغرقه بالكامل في بحر الدنيا"5.
1 جنود العقل والجهل، ص 235.
2 الأربعون حديثًا، ص 594-595.
3 جنود العقل والجهل، ص 326.
4 (م.ن)، ص 350.
5 (م.ن)، ص 205.
195
156
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
المفاهيم الرئيسة
1- الطّمأنينة هي ثبات الإيمان واستقراره في القلب. ولها حضور وتجلٍّ في جميع مراتب النّفس.
2- إنّ طمأنينة الخاطر من أعظم أسباب استقرار الفضائل ورسوخها في النّفس.
3- إنّ الطّمأنينة في المراتب المختلفة علامة ودليل على استقرار الفيض الإلهيّ وقرب اتّحاده بالنّفس الذي يُعدّ عنوان الكمال الحقيقيّ.
4- آثار الطّمأنينة: العصمة، سبب لتأثير العبادة والذّكر، التغلّب على جنود الشّيطان، التّقوى التّامّة، عدم الخوف من الأعداء، سبب للقوّة العظيمة.
5- أسباب الطّمأنينة: ترك حبّ الجاه والمقام، التوجّه إلى تعمير الآخرة وعالم الغيب، شرح الصدر، إشراقة نور التّوحيد، الحلم.
6- كيفيّة تحصيل الطّمأنينة: مخالفة الشّيطان، العلم الصّحيح، إزالة حبّ الدّنيا.
7- موانع الاطمئنان: طلب الشّهوات، اللغو والكلام القبيح، الرّكون إلى الأسباب العاديّة وعدم إرجاعها إلى السبب الأوحد.
196
157
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وارْزُقْنِي الْحَقَّ عِنْدَ تَقْصِيرِي فِي الشُّكْرِ لَكَ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فِي الْيُسْرِ والْعُسْرِ والصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، حَتَّى أَتَعَرَّفَ مِنْ نَفْسِي رَوْحَ الرِّضَا وَطُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ مِنِّي بِمَا يَجِبُ لَكَ فِيمَا يَحْدُثُ فِي حَالِ الْخَوْفِ وَالأَمْنِ وَالرِّضَا وَالسُّخْطِ وَالضَّرِّ وَالنَّفْع1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾2.
2- ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾3.
الروايات الشريفة:
1- قالَ الإمام الْبَاقِرُ عليه السلام: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَى الْمُؤْمِنَ الْبَدَنَ الصَّحِيحَ وَاللِّسَانَ الْفَصِيحَ وَالْقَلْبَ الصَّرِيحَ وَكَلَّفَ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهَا طَاعَةً لِذَاتِهِ وَلِنَبِيِّهِ وَلِخُلَفَائِهِ فَمِنَ الْبَدَنِ الْخِدْمَةُ لَهُ وَلَهُمْ ومِنَ اللِّسَانِ الشَّهَادَةُ بِهِ وبِهِمْ وَمِنَ الْقَلْبِ الطُّمَأْنِينَةُ بِذِكْرِهِ وَبِذِكْرِهِمْ فَمَنْ شَهِدَ بِاللِّسَانِ وَاطْمَأَنَّ بِالْجَنَانِ وَخَدَمَ بِالْأَرْكَانِ أَنْزَلَهُ اللهُ الْجِنَانَ"4.
2- منْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: إِنَّ الْقَلْبَ لَيَتَجَلْجَلُ فِي الْجَوْفِ يَطْلُبُ الْحَقَّ فَإِذَا أَصَابَهُ اطْمَأَنَّ وقَرَّ ثُمَّ تَلَا أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السلام هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾ سره"5.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام في يوم عرفة.
2 سورة الأنفال، الآيات 9-10.
3 سورة الحج، الآية 11.
4 بحار الأنوار، ج64، ص 303.
5 الكافي، ج2، ص 421.
197
158
الدرس الرابع عشر: اليقين
الدرس الرابع عشر: اليقين
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن المعنى الدّقيق لليقين.
2- يشرح أهميّة اليقين ودوره في سعادة الإنسان.
3- يتعرّف إلى أهم مظاهر اليقين وعلاماته موانع تحقّقه.
199
159
الدرس الرابع عشر: اليقين
تمهيد
إنّ اليقين وإن كان من درجات الإدراك ومراتبه إلّا أنّه خلقٌ فاضلٌ وملكة نفسانيّة محمودة كما جاء في الحديث الذي نقله الإمام الخمينيّ قدس سره في "الأربعون حديثًا" عن كتاب من لا يحضره الفقيه: "بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قالَ: "إنَّ الله خَصَّ رَسولَهُ صلى الله عليه وآله وسلمبِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ فَامْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنْ كَانَتْ فِيكُمْ فَاحْمَدُوا اللهَ وَارْغَبُوا إِلَيْهِ فِي الزَّيَادَةِ مِنْهَا، فَذَكَرَهَا عَشْرَةً: اليَقينُ وَالقَنَاعَةُ وَالصَّبْرُ وَالشُّكْرُ وَالحِلْمُ وَحُسْنُ الخُلْقِ وَالسَّخَاء وَالغِيرَةُ وَالشَّجَاعَةُ وَالمُرُوَّةُ"1. وإنّ بعض الأخلاق يكون أُفقها إلى المجاهدة أقرب. وبعضها الآخر يكون أُفقها إلى الثّمار والنّتائج أقرب. واليقين هو من الصّنف الثّاني، ولهذا، قال الإمام قدس سره: "إنّ الطّمأنينة واليقين والثبات والإخلاص وأمثالها من الإفاضات الرّحمانية والإلقاءات الملكية"2.
فما هي حقيقة اليقين وموقعه في عالم المعنويّات؟ وما هو دوره في بناء الإنسان وتكميله؟
التعريف العلميّ
يعلم من جعل الشكّ ضدًّا لليقين في حديث جنود العقل والجهل أنّ اليقين عبارة عن رسوخ المعرفة في النّفس بحيث يزول معه أيّ احتمال مخالف مهما كان ضئيلًا.
ولا شكّ بأنّ هذه المعرفة التي لا تزلزلها الشّكوك عبارة عن إدراك الواقع كما هو. وليس الواقع في حقيقة الأمر سوى ظهور التّوحيد الذي ملأت آياته أركان السّماوات والأرض. ولهذا، قال الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ اليقين في الحقيقة هو ثمرة التّوحيد ومحفوفٌ ومحدودٌ به"3.
1 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص 554.
2 الأربعون حديثًا، ص 433.
3 جنود العقل والجهل، ص 210.
201
160
الدرس الرابع عشر: اليقين
إنّ تحديد الملكات النّفسانيّة بآثارها أو ظهوراتها أمرٌ شائعٌ في الأخلاق، ولهذا أشار الإمام الخمينيّ قدس سره عند نقل حديث الإمام الصّادق عليه السلام: "ليس شيء إلّا وله حدّ. فقلت: وما حدّ التوكّل؟ قال: اليقين. قلت: فما حدّ اليقين؟ قال: أن لا تخاف مع الله شيئًا"1. وحدّ الشّيء هو منتهاه، ولعلّ المقصود هنا هو أنّ التوكّل ينتهي إلى اليقين، فيصير المتوكّل صاحب مقام اليقين، كما أنّ اليقين ينتهي إلى التّوحيد الفعليّ فلا يرى الإنسان حينئذٍ ضارًّا ولا نافعًا ولا مؤثّرًا ولا مقدّرًا سوى الحقّ تعالى. أو لعلّ المقصود أنّ التوكّل محفوفٌ ومحدودٌ باليقين"2.
علامات اليقين
لليقين علامات كثيرة في الحياة والسّلوك نذكر منها بعضها بحسب ما ورد في كلمات الإمام الخمينيّ قدس سره:
1- الأنس بذكر الله
"نحن الضّعفاء في الإيمان لسنا من أصحاب اليقين، وإلاّ لما كنّا نستمرّ في غفلتنا، ونعانق النّوم حتّى الصباح. لو أنّ يقظة الليل تكشف للإنسان حقيقة الصّلاة وسرّها، لأنس بذكر الله والتفكّر في الله، ولجعل الليالي مركوبه للعروج إلى قربه تعالى، ولما كان ثمّة ثواب له إلا جمال الحقّ الجميل وحده"3.
2- مجانبة رضا الناس ولومهم
"عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "مِنْ صِحَّةِ يَقينِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أنْ لا يُرْضِيَ النّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، وَلا يَلومَهُمْ عَلى ما لَمْ يؤته اللهُ، فَإنَّ الرِّزْقَ لا يَسوقُهُ حِرْصُ حَريصٍ، وَلا يَرُدُّهُ كَراهِيَةُ كارهٍ، وَلَوْ أَنَّ أحَدَكُمْ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَما يَفِرُّ مِنَ الْمَوْتِ لأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَما يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ. ثُمَّ قالَ: إنَّ اللهَ بِعَدْلِهِ وَقِسْطِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالرّاحَةَ فِي الْيَقينِ وَالرِّضا، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَطِ"... فالإنسان الذي يتمتّع بيقينٍ صحيح، والذي يكون واقفًا
1 الكافي، ج2، ص 57.
2 جنود العقل والجهل، ص 210.
3 الأربعون حديثًا، ص 238.
202
161
الدرس الرابع عشر: اليقين
على مجاري الأمور، يجب عليه في اللحظة التي لا يفتر فيها عن طلب الرّزق، بل ينهض بوظائفه العقليّة والشّرعيّة في الاكتساب، ولا يوصد أبواب الطّلب على نفسه، يعرف أنّ كلّ شيء من الذّات المقدّس الحقّ المتعالي، وأنّه لا يؤثّر موجودٌ آخر في الوجود ولا في كمالات الوجود. إنّ الطالب والطلب والمطلوب، منه سبحانه... جعل الإمام الصادق عليه السلام في هذا الحديث الشريف، علامتين على صحّة اليقين وسلامته، أحدهما: لا يُرضي الناس بسخط الله. والآخر: "لا يلوم الناس على ما لم يؤته الله. وهاتان العلامتان من نتائج كمال اليقين. كما أنّ ما يقابلهما يكون من آثار ضعف اليقين وسقم الإيمان ومرضه"1.
3- الرضا بحكم الله وقضائه
"النّاس ينقسمون في هذه الدّنيا إلى هاتين الطبقتين: إمّا يقودهم يقينهم إلى الاعتقاد بأنّ الأسباب الظاهريّة، والمؤثّرات الشّكليّة مسخّرة تحت الإرادة الإلهيّة الكاملة الوجوبيّة، فلا يجدون دورًا لغير الحقّ، ولا يلتمسون من غيره شيئًا. فهم آمنوا بأنّه المالك والمؤثّر في الدّنيا والآخرة، واعتنقوا بكلّ إيمان ويقين غير مشوب بالنّقص والتّرديد، آية من الآيات المباركة القرآنية وهي: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء﴾2. حيث يرون بأنّ الله سبحانه هو مالك ملك الوجود، وأنّ جميع العطايا من ذاته المقدّس، وأنّ القبض والبسط في الوجود وكمالاته منه سبحانه حسب ترتيب النّظام والمصالح الكامنة. ومن البديهي أنّ أبواب المعارف تنفتح على هؤلاء الأشخاص، وتتحوّل قلوبهم إلى قلوب إلهيّة، لا يعبؤون برضا النّاس ولا بسخطهم، ولا يرومون إلاّ رضا الحقّ المتعالي، ولا يطمعون إلاّ فيه ولا يطلبون إلاّ منه، ولا تترنّم قلوبهم إلاّ بهذا الكلام: إلهي إنْ أعْطَيْتَني فَمَن ذا الَّذِي يَمْنَعُني؟ وَإنْ مَنَعْتَنِي فَمَن ذَا الَّذِي يُعْطِينِي. إنّهم يغمضون أعينهم عن النّاس وعطاياهم ودنياهم، ويحدّقَون في الحقّ جلّ جلاله بكلّ حاجة وفقر، وهؤلاء الأشخاص لا يبيعون رضا العالم بأسره، بسخط الحقّ المتعالي. كما قال أمير المؤمنين عليه السلام. وفي نفس الوقت الذي لا يعبؤون بأحد غير الحقّ المتعالي، ويرون أنّ الكائنات بأسرها فقيرة إلى
1 الأربعون حديثًا، ص 589 - 590.
2 سورة آل عمران، الآية 26.
203
162
الدرس الرابع عشر: اليقين
الله، ينظرون إلى كلّ شيء بعين ملؤها العظمة والرّحمة والحنان، ولا يلومون أحدًا على شيء إلاّ من أجل إصلاح وضعه وتربيته. كما أنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا كذلك، لأنّهم يعتبرون النّاس من المرتبطين بالحقّ ومن مظاهر جماله وجلاله، ولا يسمحون لأنفسهم إلاّ بالنّظر إلى عباد الله بكلّ لطف ومحبّة. ولا يؤنّبون في قلوبهم أحدًا على نقصه أو فتوره، وإذا لاموا أحدًا بألسنتهم فلأجل المحافظة على المصالح العامّة وإصلاح أحوال العائلة البشرية. وهذا من نتائج وثمرات الشجرة الطيبة لليقين والإيمان، والمعرفة بالحدود والشريعة الإلهية"1.
4- الروح والراحة في الدنيا
"الحقّ المتعالي قد جعل الرَوْحَ والرّاحة في اليقين والرّضا، والهمّ والحزن في الشكّ والسّخط، وذلك على أساس القسط والعدل. ولا بدّ أن نعرف أن الرَوْحَ والراحة وكذلك الهمّ والحزن تعود إلى الأمور الدنيويّة وكسب العيش، وطلب الرزق، نتيجة وقوعها إثر تقدير الأرزاق وتقسيمها. وإن كان إرجاعهما إلى الأمور الأخروية على أساس بيان آخر، أيضًا صحيحًا... وعليه اعلم أنّ الإنسان الذي يعتقد بالحقّ وتقديره اعتقادًا يقينيًّا، ويعتمد على الرّكن الرّكين الذي يتمتّع بالقدرة المطلقة، والذي يقرّر الأمور بأسرها على ضوء المصالح الغيبيّة، والذي له الرّحمة الكاملة المطلقة والجود المطلق، من المعلوم أنّ بمثل هذا اليقين تتذلّل الصّعاب عنده وتهون أمامه المصائب، ويختلف كثيًرا في طلبه لمعيشته عن أهل الدّنيا وأهل الشكّ والشّرك.
إنّ الذين يعتمدون على الأسباب الظّاهرية، يعيشون دائمًا عند طلب الرّزق في حالة من القلق والاضطراب، ولو اصطدموا بمشكلة، لعظمت عندهم وضاقت الحياة في أعينهم لأنّهم لا يجدونها محفوفة بالمصالح الغيبيّة التي يعلمها الله ويجهلها الإنسان. وخلاصة الكلام إنّ من يرى سعادته، في تحصيل هذه الدّنيا، يواجه في طلبها هذا الآلام والعَناء، وتُسلب عنه الرّاحة والبهجة، وتستنزف قواه وطاقاته في هذا الطّلب. كما نرى أنّ أهل الدنيا دائمًا في تعب ونصب، وأنّهم لم يتمتّعوا باطمئنان في الرّوح واستقرار في الجسم، وإذا حلّت بهم مصيبة، خارت قواهم وحيويّتهم وزال جلدهم وصبرهم أمام الحوادث التي تداهمهم. وهذا
1 الأربعون حديثًا، ص 591-592.
204
163
الدرس الرابع عشر: اليقين
لا يكون إلاّ نتيجة شكّهم وعدم إيمانهم بالقضاء الإلهيّ وعدله، فتكون هذه الأمور من الحزن والهمّ والتّعب. نتيجة لهذا التّزلزل"1.
كمال اليقين
إنّ اليقين كغيره من الكمالات المعنويّة ذو مراتب ودرجات. وقد أشار الإمامقدس سره إلى أعلى درجاته، وهي المتحقّقة في الأنبياء: "إنّ مراتب اليقين والإيمان مختلفة على مستوىً لا يمكن عدّها وبيانها. وإنّ اليقين الكامل للأنبياء والاطمئنان التامّ الذي يحظون به، الحاصلان من المشاهدة الحضوريّة هو الذي يعصمهم من الآثام. إنّ يقين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام قد أبلغه إلى مستوى يقول "وَالله لَوْ أُعْطِيتُ الأقالِيمَ السَّبْعَةِ بِما تَحْتَ أفْلاكِها عَلى أنْ أَعْصَى الله في نَمْلَةٍ أسْلُبُها جَلْبُ شَعِيرةٍ ما فَعَلتُهُ"2"3. و"إنّ مصدر جميع الخطايا والمعاصي التي تصدر من الإنسان، هو النقص في اليقين والإيمان"4.
وفي شرحه لحديث الإمام الصّادق عليه السلام الوارد في مصباح الشّريعة يقول قدس سره "وكمال اليقين مشاهدة حضور المحبوب"5.
1 الأربعون حديثًا، ص 594.
2 نهج البلاغة، ص 347.
3 الأربعون حديثًا، ص 581.
4 (م.ن).
5 معراج السالكين، ص 75.
205
164
الدرس الرابع عشر: اليقين
المفاهيم الرئيسة
1- اليقين عبارة عن رسوخ المعرفة في النّفس بحيث يزول معه أيّ احتمال مخالف مهما كان ضئيلًا، وهو عبارة عن إدراك الواقع كما هو، والذي هو ظهور التّوحيد الذي ملأت آياته أركان السّماوات والأرض.
2- من مظاهر اليقين التفكّر بالله والأنس بذكره، وعدم الاستمرار بالغفلة، وإصلاح نمط العيش.
3- من نتائج كمال اليقين أن لا يُرضي الناس بسخط الله ولا يلوم الناس على ما لم يؤته الله، فالإنسان الذي يتمتّع بيقينٍ صحيح يعرف أنّ كلّ شيء من الذّات المقدّس الحقّ المتعالي، وأنّه لا يؤثّر موجودٌ آخر في الوجود ولا في كمالات الوجود.
4- اليقين أساس الطّمأنينة والعصمة والسّعادة والرّاحة والسّرور، وفي المقابل فإنّ التّزلزل وارتكاب الذّنوب والتّعاسة تنشأ من ضعف الإيمان ووهن اليقين والذي يتجلّى بالاعتماد على غير الحقّ سبحانه والالتفات إلى المخلوق.
5- تتذلّل الصّعاب للشخصية الموقنة وتهون عليها المصائب لأنّها قد اعتمدت على الرّكن الرّكين الذي يتمتّع بالقدرة والرّحمة الكاملة المطلقة، واعتقدت بأنّ الحقّ هو الذي يقرّر الأمور بأسرها على ضوء المصالح الغيبيّة.
6- لليقين درجات ومراتب، وكمال اليقين هو مشاهدة حضور المحبوب، وهي الدرجة المتحقّقة المتحقّقة في الأنبياء وهي التي تعصمهم عن الآثام.
206
165
الدرس الرابع عشر: اليقين
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ إِنَّكَ ابْتَلَيْتَنَا فِي أَرْزَاقِنَا بِسُوءِ الظَّنِّ، وَفِي آجَالِنَا بِطُولِ الأَمَلِ حَتَّى الْتَمَسْنَا أَرْزَاقَكَ مِنْ عِنْدِ الْمَرْزُوقِينَ، وَطَمِعْنَا بِآمَالِنَا فِي أَعْمَارِ الْمُعَمَّرِينَ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَهَبْ لَنَا يَقِيناً صَادِقاً تَكْفِينَا بِهِ مِنْ مَئُونَةِ الطَّلَبِ، وَأَلْهِمْنَا ثِقَةً خَالِصَةً تُعْفِينَا بِهَا مِنْ شِدَّةِ النَّصَبِ وَاجْعَلْ مَا صَرَّحْتَ بِهِ مِنْ عِدَتِكَ فِي وَحْيِكَ، وَأَتْبَعْتَهُ مِنْ قَسَمِكَ فِي كِتَابِكَ، قَاطِعاً لاِهْتِمَامِنَا بِالرِّزْقِ الَّذِي تَكَفَّلْتَ بِهِ، وَحَسْماً لِلاِشْتِغَالِ بِمَا ضَمِنْتَ الْكِفَايَةَ لَهُ فَقُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ الأَصْدَقُ، وَأَقْسَمْتَ وَقَسَمُكَ الأَبَرُّ الأَوْفَى وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ثُمَّ قُلْتَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ1.
الآيات الشريفة:
1- ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾2.
2- ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾3.
3- ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾4.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الإيمَانُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ: عَلَى الصَّبْرِ، والْيَقِينِ، وَالْعَدْلِ، وَالْجَهَادِ... والْيَقِينُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب: عَلَى تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ، وَتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ، وَمَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ، وَسُنَّةِ الاْوَّلِينَ: فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ، وَمَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ عَرَفَ الْعِبْرَةَ، وَمَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ فَكَأَنَّمَا كَانَ فِي الاْوَّلِينَ"5.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام إذا قتر عليه رزقه.
2 سورة السجدة، الآية 24.
3 سورة الجاثية، الآية 4.
4 سورة التكاثر، الآيات 5-7.
5 نهج البلاغة، 473.
207
166
الدرس الرابع عشر: اليقين
2- وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "لأنْسُبَنَّ الاْسْلاَمَ نِسْبَةً لَمْ يَنسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي: الاْسْلاَمُ هُوَ التَّسْلِيمُ، وَالتَّسْلِيمُ هُوَ الْيَقِينُ، وَالْيَقِينُ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالتَّصْدِيقُ هُوَ الاْقْرَارُ، وَالإقْرَارُ هُوَ الأدَاءُ، وَالأدَاءُ هَوَ الْعَمَلُ"1.
3- عن الوشاء عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام قَالَ: "سَمِعْتُهُ يَقُولُ: الْإِيمَانُ فَوْقَ الْإِسْلَامِ بِدَرَجَةٍ وَالتَّقْوَى فَوْقَ الْإِيمَانِ بِدَرَجَةٍ وَ الْيَقِينُ فَوْقَ التَّقْوَى بِدَرَجَةٍ وَ مَا قُسِمَ فِي النَّاسِ شَيْءٌ أَقَلُّ مِنَ الْيَقِينِ"2.
4- عن الإمام الصّادق عليه السلام: "الْمُؤْمِنُونَ أَيْضاً مُتَفَاوِتُونَ فِي قُوَّةِ الْيَقِينِ وَضَعْفِهِ فَمَنْ قَوِيَ مِنْهُمْ يَقِينُهُ فَعَلَامَتُهُ التَّبَرِّي مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إِلَّا بِاللهِ وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى أَمْرِ اللهِ وَعِبَادَتُهُ ظَاهِراً وَبَاطِناً قَدِ اسْتَوَتْ عِنْدَهُ حَالَةُ الْعَدَمِ وَالْوُجُودِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالْعِزِّ وَالذُّلِّ لِأَنَّهُ يَرَى كُلَّهَا مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ وَمَنْ ضَعُفَ يَقِينُهُ تَعَلَّقَ بِالْأَسْبَابِ وَرَخَّصَ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ وَاتَّبَعَ الْعَادَاتِ وَأَقَاوِيلَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقِيقَةٍ وَالسَّعْيِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَجَمْعِهَا وَإِمْسَاكِهَا مُقِرّاً بِاللِّسَانِ أَنَّهُ لَا مَانِعَ وَلَا مُعْطِيَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُصِيبُ إِلَّا مَا رُزِقَ وَقُسِمَ لَهُ وَالْجَهْدَ لَا يَزِيدُ فِي الرِّزْقِ وَيُنْكِرُ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ وَقَلْبِهِ قَالَ اللهُ تَعَالَى ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾"3.
5- قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّ صَلَاحَ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ وَهَلَاكَ آخِرِهَا بِالشُّحِّ والْأَمَلِ"4.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "عَلَيْكُمْ بِلُزُومِ الْيَقِينِ وَالتَّقْوَى فَإِنَّهُمَا يُبَلَّغَانِكُمْ جَنَّةَ الْمَأْوَى"5.
1 نهج البلاغة، ص 491.
2 الكافي، ج2، ص 51.
3 مستدرك الوسائل، ج11، ص 198.
4 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص 413.
5 مستدرك الوسائل، ج11، ص 200.
208
167
الدرس الخامس عشر: الشكر
الدرس الخامس عشر: الشكر
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى المعنى الحقيقيّ للشّكر وكيف يصبح الإنسان شكورا.
2- يبيّن أهميّة الشّكر وارتباطه بالعبوديّة والحياة المعنويّة للإنسان.
3- يشرح علامات الشّكر التي تساعد على اكتشافها في أنفسنا.
209
168
الدرس الخامس عشر: الشكر
تمهيد
ليس الشّكر سوى تعبير عن المعرفة والإيمان. وإنّه خلقٌ كريم لكنّه في حقيقته عبارة عن انفعال النّفس تجاه حضور الله تعالى بإنعامه، أو كما يقول أهل الله "بالاسم المنعم". يستحيل أن يعيش الإنسان في هذه الحياة الدّنيا ولا يكون محاطًا بنعمة الله التي لا تُحصى. ولهذا، كان الشّكر أمرًا بديهيًّا وضروريًّا. فلماذا نجد أكثر النّاس غير شاكرين؟ ولماذا قال الله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾1؟ وهل يمكن أن يكون أحدنا من أولئك؟ وما الذي يمكن أن نفعله لكي نصبح من الشّاكرين؟
أهميّة الشّكر
قبل الخوض في تحديد المعنى للشّكر ينبغي أن نلتفت إلى أهميّته ودوره على صعيد مصير الإنسان.
1- من المسؤوليّات الأساسيّة للعبوديّة
"اعلم أنّ شكر نعم الحقّ المتعال الظاهريّة والباطنيّة من المسؤوليّات الأساسيّة للعبوديّة، حيث يجب على كلّ إنسان أن يشكر ربّه على حسب قدرته المتاحة، رغم أنّ لا أحد من المخلوقين يستطيع أن يؤدّي حقّ شكره"2.
2- من العلامات الأساسيّة للإيمان
وبالإضافة إلى كونه من مسؤوليّات العبوديّة، فإنّ الشّكر يُعدّ من العلائم الأساسيّة للإيمان. عن سَعْدٍ، عن أبي جعفرٍ عليه السلام قالَ: "إنَّ القُلوبَ أرْبَعَةٌ: قَلْبٌ فيه نَفاقٌ وَإيمانٌ
1 سورة سبأ، الآية 13.
2 الأربعون حديثًا، ص 379.
211
169
الدرس الخامس عشر: الشكر
وَقَلْبٌ مَنْكوسٌ، وَقَلْبٌ مَطْبُوعٌ، وَقَلْبٌ أزْهَرُ أجْرَدُ. فَقُلْتُ مَا الأزْهَرُ؟ قَالَ: فِيهِ كَهَيْئَةِ السِّرَاجِ، فَأَمَّا الْمَطْبُوعُ فَقَلْبُ المُنَافِقِ، وَأمَّا الأزْهَرُ فَقَلْبُ المُؤْمِنِ، إنْ أعطاهُ شَكَرَ وَإنْ ابتُلاَهُ صَبَرَ.."1.
"تعرّض الحديث لخصوص صفتين من صفات المؤمن "إنْ أَعْطاهُ شَكَرَ وَإن ابْتَلاهُ صَبَرَ" من أجل أنّ لهاتين الصّفتين من صفات المؤمنين خصائص ومزايا لا تتواجد في غيرها من الصّفات، فإنّهما من أمّهات الصّفات الجميلة، وتتفرّع منهما صفات جميلة أخرى... ومن أجل أنّ هاتين الصّفتين ـ أيضًا ـ من صفات الجلال والجمال، القهر واللطف، المتجلّيتان بالعطاء والابتلاء. فإنّ الابتلاء - وإن كان من صفات اللطف والجمال، ولكنّه حيث يكون ظاهرًا بالقهر، جعل منه. كما ذكرنا في بحث أسماء الحقّ وصفاته. والمؤمن ينهض دائمًا بالعبوديّة بين هذين التجلّيين"2.
3- دليل الحياة المعنويّة
"روى الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العامليّ في الوسائل عن محمّد بن ادريس، نقلاً عن العيون والمحاسن للمفيد ـ رحمه الله ـ قال: قال الباقر عليه السلام: "ما أنعم الله على عبد نعمة فشكرها بقلبه إلّا استوجب المزيد قبل أن يظهر شكره على لسانه"3. ويتّضح من هذا الحديث الشّريف أنّ الشّكر من واجبات القلب قبل أن يجري على اللسان، وفي الأحاديث الشّريفة إشارات كثيرة لهذا المعنى"4.
4- دليل بقاء الفطرة الإلهيّة
وكما سيتّضح لاحقًا فإنّ الشّكر يدلّ على وجود تلك الوصلة بيننا وبين الله وهي الفطرة. فمن لم يكن شاكرًا كان كمن قطع ارتباطه بالله تعالى. ولهذا، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم أنّ من الأمور الفطريّة التي نقشها قلم القدرة الإلهيّة في فطرة كلّ إنسان، فكان جميع أفراد العائلة البشريّة متّفقين عليها، هو تعظيم المنعم وحمده، وكلّ من يرجع إلى فطرته الأصيلة
1 الكافي، ج2، ص422.
2 الأربعون حديثًا، ص 563-564.
3 وسائل الشيعة، ج16، ص311.
4 جنود العقل والجهل، ص 182.
212
170
الدرس الخامس عشر: الشكر
يجد أنّ من الثابت المستقرّ في كتاب ذاته تعظيم المنعم وحبّه. وهذا الأمر الفطريّ هو منشأ كل حمد وثناء، وكل تعظيم يظهره أهل الدنيا لأولياء نعمهم الدنيويّة، وهو أيضاً منشأ الاحترام والثناء الذي يبديه المتعلّمون تجاه العلماء والمعلّمين. وإذا كفر أحدٌ بنعمة أو أحجم عن حمد المنعم عليه، فقد تكلّف ما يخالف الفطرة الإلهيّة، وخرج عن الغريزة والطّبيعة الإنسانيّة، ولهذا فإنّ عموم البشر ينتقدون وينتقصون فعل الكافرين بالنّعمة، ويرونهم خارجين عن الغريزة الذاتيّة الإنسانيّة. وما تقدّم على شكر المنعم بصورة عامّة، سواء أكان حقيقيًّا أو مجازيًّا، ولكن ينبغي التنبّه إلى أنّ ممّا تقرّه الفطرة السّليمة وتقتضيه الفطرة المخمّرة غير المحتجبة، هو الشّكر والحمد للذّات المقدّسة، أي للمنعم على الإطلاق الذي بسط بساط رحمته في أرجاء دار التّحقّق، فجميع ذرّات الكائنات تتنعّم بمائدة نعم ظلّ رزّاقية ذاته المقدّسة.
وباختصار، فإنّ الفطرة السليمة التي لم تحتجب بأستار التعيّنات الخلقيّة، والتي تردّ الأمانة إلى صاحبها سالمة، تشكر الحقّ تعالى على كلّ نعمة، بل إنّ الفطرة غير المحجوبة ترى أنّ شكر كلّ شاكر وحمد كل حامد ــ بأي عنوان كان، ولأيّ شخصٍ وقع، وعلى أيّ نعمةٍ كان ــ لا يرجع لغير الذّات المقدّسة للحقّ جلّ وعلا، وإن كان المحجوبون يتصوّرون أنّهم يمدحون غيره ويحمدون سواه عزّ وجل. أجل، إنّ شكر المخلوق من الواجبات التي لا شكّ فيها، كما قالوا: "من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق"، ولكن هذا الشكر ينبغي أن يكون بعنوان أنّ هذا المخلوق هو وسيلة اتّخذها الله لبسط نعمه ورحمته، لا أن يكون شكرك للمخلوق سببًا لحجب نفسك عن الخالق والرّازق الحقيقيّ، فهذا هو عين الكفر بنعمة وليّ النّعم. وملخّص الكلام أنّه قد اتّضح أنّ الشكر من متقضيات الفطرة"1.
تعريف الشّكر
"الشّكر بحسب موارد استخدامه عبارة عن إظهار نعمة المنعم، أو هو الأمر الذي يُظهر به الشّكر"2. وفي موضع آخر يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "الشكر عبارة عن التّقدير لنعم المنعم، وهذا الأمر يظهر في القلب على نحو، وفي اللسان على نحوٍ ثانٍ، وعلى الجوارح بنحو
1 جنود العقل والجهل، ص 178-180.
2 (م.ن)، ص 173-174.
213
171
الدرس الخامس عشر: الشكر
ثالث. وهذا التقدير متقوّم بمعرفة المنعم ومعرفة النّعمة"1.
ويلاحَظ أنّ أكثر الأذهان تنصرّف عند الحديث عن الشّكر إلى نتائجه التي تظهر في الأعمال القلبيّة والقالبيّة، ولهذا، قال الإمام قدس سره مصحّحًا: "إنّ ما ذكره المحقّقون في الشّكر مبنيّ على المجاز والمسامحة، لأنّ الشّكر لا يكون نفس المعرفة بالقلب، والإظهار باللسان، والعمل بالأعضاء والجوارح، بل هو حالة نفسيّة ناجمة عن معرفة المنعم والنّعمة وأنّ هذه النّعمة من المنعم، وتُنتج من هذه الحال الأعمال القلبية القالبية ـ العمل بالجوارح. كما ذكر بعض المحققين معنىً للشّكر يقترب من هذا المعنى، رغم أنّ كلامهم أيضًا لا يخلو من المسامحة"2.
فالشّكر إذًا هو عرفان وتقدير ممتزج بشعور إنسانيّ بنوع من الفرح والامتنان. وهو لا يكون إلّا في قلب المؤمن بالله. لأنّ المقصود فيه هو شكر المنعم الحقيقيّ.
غاية الشّكر
لا شكّ بأنّ هذه الصّفة النّفسانيّة العظيمة تابعة لمستوى الإنسانيّة وقوّة حضور الفطرة في النّفس والقلب. ولهذا، يكون الشّكر درجات.
وأعلى درجات الشّكر كما يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ منتهى الشّكر في معرفة الإنسان عجزه عن النّهوض بحقّ شكره سبحانه. كما أنّ غاية العبوديّة تكون في معرفة الإنسان عجزه عن القيام بحقّ العبوديّة له تعالى. ومن هذا المنطلق اعترف الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالعجز، مع أنّ شخصًا لم يشكر ربّه ولم يعبده، بمثل شكر ذلك الوجود المقدّس وعبوديّته، لأنّ كمال الشّكر ونقصه يتبعان التعرّف الكامل على المنعم وإحسانه، والتعرّف النّاقص على المنعم وجميله. ولهذا لم يستطع أحد النّهوض بحقّ شكره. لأنّ أحدًا لم يعرفه حقّ معرفته. إنّما العبد يكون شكورًا، إذا علم ارتباط الخلق بالحقّ، وعلم انبساط رحمة الحقّ من أوّل ظهوره إلى ختامه، وعلم ارتباط النّعم بعضها مع بعض وعلم بداية الوجود ونهايته على ما هو عليه. ومثل هذه المعرفة لا تحصل إلاّ للخُلّص من أولياء
1 جنود العقل والجهل، ص 174-175.
2 الأربعون حديثًا، ص 378.
214
172
الدرس الخامس عشر: الشكر
الله الذين كان أشرفهم وأفضلهم، الذّات المقدّس خاتم الأنبياء صلّى الله عليه آله وسلّم، وإنّ كافة النّاس محجوبون عن بعض مراتب هذه المعرفة بل عن أكثر مراتبها وأعظمها. بل ما دامت حقيقة سريان ألوهيّة الحقّ لم تنتقش في قلب العبد بعد ولم يؤمن بأنّه "لاَ مُؤَثِّرَ فِي الوُجُودِ إلاَّ الله" ولا تزال غبرة الشّرك والشكّ عالقة في قلبه، لا يستطيع أن يؤدّي شكر الحقّ المتعالي كما يجب أن يكون. ومن هنا يُعلم أنّ النّهوض بحقّ شكره لا يكون في مستطاع أيّ شخص، كما يقول الحقّ المتعالي جلّ جلاله ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾1. فإنّ القليل من العباد يعرفون كما ينبغي نعم الحقّ. ولهذا فإنّ القليل من العباد يؤدّون الشّكر للحقّ جلّ جلاله كما يستحقّ"2.
مراتب الشكر
وإذا عرفنا غاية الشّكر ومنتهاه أدركنا الطّريق الموصل إليه، وعلمنا أنّ الله تعالى قضى أن يواتر علينا نعمه ويتدرّج بنا في آلائه حتّى نرتقي بذلك في مراتب الشّاكرين لنبلغ أعلى درجات الإنسانيّة. ولهذا، يقول الإمام الخيمنيّ قدس سره: "ولا بدّ من معرفة أنّه كما تختلف مستويات معرفة العباد، كذلك تختلف مراتب شكرهم. وأيضًا إنّ مراتب الشّكر مختلفة، لأنّ الشّكر هو الثّناء على النّعم التي وهبها المنعم. فإذا كانت النّعم من قبيل النّعم الظاهريّة كانت له مرتبة من الشّكر، وإذا كانت من نوع العلوم والمعارف كان شكرها من نوعٍ آخر، وإن كانت من تجلّيات الأسماء كان لها شكرٌ، وإن كانت من قبيل التجلّيات الذاتيّة الأحديّة كان هناك شكرٌ آخر. وحيث أنّ جميع مراتب النّعم متوفّرة لقليلٍ من العباد، كان النّهوض بأداء الشّكر على جميع المستويات لقليل من العباد، وهم الخُلّص من الأولياء الجامعين لجميع الحضرات، والذين هم برزخ البرازخ، والحافظين لكلّ المراتب الظّاهرة والباطنة، ولهذا يكون شكرهم مع جميع الألسنة الظّاهرة والباطنة والسّرّية"3.
1 سورة سبأ، الآية 13.
2 الأربعون حديثًا، ص 379-380.
3 (م.ن)، ص 381.
215
173
الدرس الخامس عشر: الشكر
التّواصل الإيجابيّ مع النّاس
إنّ من أهم أسرار جريان نعم الله على أيدي النّاس ووصولها إلينا عبرهم هو أن يتراحم النّاس فيما بينهم وتشتدّ أواصر المحبّة بينهم. فإنّ الله تعالى لا يعجزه أن يرسل إلينا نعمه دون وسيلة. لكنّه شاء أن تكون عبر المخلوقين. وفي الحديث قال أبو عبد الله عليه السلام: "من قصُرت يده بالمكافأة فليُطل لسانه بالشّكر"1، وقال: "من حقّ الشكر لله، أن تشكر من أجرى تلك النّعمة على يده"2. ويتّضح من هذا الحديث الشّريف ما تقدّمت إليه الإشارة في الفصل السّابق من أنّ شكر المخلوق هو لكونه مجريًا للنّعمة الإلهيّة، وإلّا فإنّ الذي يغفل عن وليّ نعمته الحقيقيّ، ويشكر المخلوق بعنوان كونه مستقلّاً بالإنعام، هو من الكافرين بالنّعمة الإلهيّة، وهذا ممّا لا يحتاج إلى مزيد توضيح واستشهاد، بل هو واضح بنفسه ومبرهنٌ بذاته"3.
وفي الوسائل، عن مجالس الشيخ بإسناده عن النبيّصلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "يؤتى العبد يوم القيامة، فيوقف بين يدي الله عزّ وجل، فيأمر به إلى النّار، فيقول: أي رب أمرت بي إلى النار وقد قرأت القرآن؟ فيقول الله: أي عبدي قد أنعمت عليك ولم تشكر نعمتي. فيقول: أي ربّ أنعمت عليّ بكذا، وشكرتك بكذا، وأنعمت عليّ بكذا وشكرتك بكذا، فلا يزال يحصي النعمة ويعدّد الشكر. فيقول الله تعالى: صدقت عبدي إلّا أنّك لم تشكر من أجريت لك النّعمة على يديه. وإنّي قد آليت على نفسي أن لا أقبل شكر عبد لنعمة أنعمتها عليه حتّى يشكر من ساقها من خلقي إليه"4.
كيفيّة تحصيل فضيلة الشكر
قد علمنا أنّ الأصل في هذه المكرمة السّامية هو وجود الفطرة واستواء الإنسانيّة في القلب. وبهذه الطّريقة لو قلنا بأنّ وظيفة الإنسان قبال هذه الصّفة المحمودة ليست سوى الحفاظ على إنسانيّته والعودة إلى فطرته التي فطره الله عليها لما كنّا مبالغين. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "من الفِطَر الإلهية التي فطر جميع الخلق عليها، الثناء على الكامل وشكر المنعم وحمده"5.
1 وسائل الشّيعة، ج16، ص 311.
2 (م.ن).
3 جنود العقل والجهل، ص 183.
4 وسائل الشّيعة، ج16، ص 312.
5 معراج السالكين، ص 258-259.
216
174
الدرس الخامس عشر: الشكر
فإذا كان الشّكر عرفانًا، فإنّ تحصيله يعتمد على المعرفة وعلى المزيد من الخضوع والعبودية للذات الإلهية، وما علينا سوى أن نتوجّه بفكرنا إلى مظاهر النّعمة الإلهيّة في كلّ الوجود حتّى ندرك بالدّليل والبرهان، بل بالعيان والوجدان كم أنّ عظمة الحقّ المنعم قد ملأت أركان السّماوات والأرض. بل نفذت فينا حتّى تخلّلت كلّ ذرّات وجودنا. فإذا رسخت هذه المعرفة وأبطلت ما كان فينا من جهل أو سوء ظنّ بربّنا، صار لزامًا أن ننقلها إلى مرحلة العمل من خلال ترسيخ العبودية في القلب حتّى يستقرّ معها الشّكر فيه ويصبح من خصائص شخصيّتنا. لأن المطلوب في باب الفضائل هو أن تصبح ملكة راسخة متّحدة بالنّفس.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "كما أنّك تعبد الله في الظاهر وتدّعي العبودية فاعبده في السرّ أيضًا حتّى تسري العبوديّة السريّة القلبيّة إلى الأعمال الجوارحية أيضًا ويكون العمل والقول نقشًا على الباطن والسرّ، وتسري حقيقة العبوديّة إلى جميع أجزاء الوجود الظاهريّ منها والباطنيّ، ويحظى كلّ من الأعضاء بحظّ من التّوحيد ويوصل اللسان الذّاكر الذّكر إلى القلب وينقل القلب الموحّد المخلص التّوحيدَ والإخلاصَ إلى اللسان ويطلب العبد الرّبوبيّة من حقيقة العبوديّة ويخرج من عبادة النّفس ويوصل ألوهية الحقّ إلى القلب.
وليعلم أنّ ناصية العباد بيد الحقّ تعالى ولا يقدرون على التنفّس والنّظر إلا بقدرة الحقّ تعالى ومشيئته وهم عاجزون عن التصرّف في مملكة الحقّ بجميع أنواع التصرّفات وإن كان تصرّفًا تافهًا إلا بإذن وإرادة ذاته المقدّسة كما قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾1. فإذا أوصلت هذه اللطيفة إلى القلب يكون شكرك للحقّ على الحقيقة ويسري الشّكر إلى أعضائك وأعمالك، فكما أنّ اللسان والقلب لا بدّ أن يكونا مترافقين في طريق العبوديّة، ففي هذا التّوحيد الفعليّ أيضًا لا بدّ أن يكون صدق اللسان موصولًا بصفاء سرّ القلب لأنّ الحقّ جلّ وعلا هو الخالق ولا مؤثّر غيره. وجميع الإرادات والمشيئات ظلّ إرادته ومشيئته الأزليّة السّابقة"2.
1 سورة القصص، الآية 68.
2 معراج السالكين، ص 362.
217
175
الدرس الخامس عشر: الشكر
المفاهيم الرئيسة
1- الشكر عبارة عن انفعال النّفس تجاه حضور الله تعالى بإنعامه، وهو تعبير عن المعرفة والإيمان ـ معرفة المنعم والنّعمة وأنّ هذه النّعمة هي من المنعم ــ وينتج عن هذه الحالة الأعمال القلبية والقالبية وحالة من التقدير الممتزج بنوع من الفرح والامتنان.
2- لا يكون الشّكر إلّا في قلب المؤمن بالله، لأنّ المقصود فيه هو شكر المنعم الحقيقيّ. أمّا من لم يشكر الله أو شكر المخلوق لا بعنوان أنّه وسيلة اتّخذها الله لبسط نعمه ورحمته، فهو الكفور.
3- من علامات الشّكر: استعمال النّعم في موردها، اجتناب المحارم، الحديث عن النّعم، القول باللسان الحمد لله ربّ العالمين.
4- أهميّة الشّكر هو أنّه من المسؤوليّات الأساسيّة للعبوديّة، ومن العلامات الأساسيّة للإيمان، ودليل الحياة المعنويّة، فهو يدلّ على وجود تلك الصّلة بيننا وبين الله وهي الفطرة، فمن لم يكن شاكرًا كان كمن قطع ارتباطه بالله تعالى.
5- الشّكر درجات، وأعلى درجاته معرفة الإنسان عجزه عن النّهوض بحقّ شكره سبحانه وتعالى.
6- تختلف مراتب الشّكر باختلاف مراتب المعرفة بنعم الحقّ، وبما أنّ الذين يعرفون نعم الحقّ كما ينبغي قلّة، فإنّ ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾.
7.- الذين ينهضون بأداء الشّكر على جميع المستويات هم الخُلّص من الأولياء الجامعين لجميع الحضرات.
8- وظيفة الإنسان تجاه الشّكر هي الحفاظ على إنسانيّته والعودة إلى فطرته التي فطره الله عليها.
9- إنّ إدراك عظمة الحقّ المنعم التي ملأت أركان السّماوات والأرض يحصل بالتوجّه إلى مظاهر النّعمة الإلهيّة في كلّ الوجود، وهذا ما يؤدّي إلى الخضوع والعبادة.
10- إنّ من أهم أسرار جريان نعم الله على أيدي النّاس ووصولها إلينا عبرهم هو أن يتراحم النّاس فيما بينهم وتشتدّ أواصر المحبّة بينهم.
218
176
الدرس الخامس عشر: الشكر
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ إِنَّ أَحَداً لاَ يَبْلُغُ مِنْ شُكْرِكَ غَايَةً إلاَّ حَصَلَ عَلَيْهِ مِنْ إِحْسَانِكَ مَا يُلْزِمُهُ شُكْراً وَلاَ يَبْلُغُ مَبْلَغاً مِنْ طَاعَتِكَ وَإِنِ اجْتَهَدَ إلاَّ كَانَ مُقَصِّراً دُونَ اسْتِحْقَاقِكَ بِفَضْلِكَ، فَأَشْكَرُ عِبَادِكَ عَاجِزٌ عَنْ شُكْرِكَ، وَأَعْبَدُهُمْ مُقَصِّرٌ عَنْ طَاعَتِكَ لاَ يَجِبُ لأَحَدٍ أَنْ تَغْفِرَ لَهُ بِاسْتِحْقَاقِهِ، وَلاَ أَنْ تَرْضَى عَنْهُ بِاسْتِيجَابِهِ فَمَنْ غَفَرْتَ لَهُ فَبِطَوْلِكَ، وَمَنْ رَضِيتَ عَنْهُ فَبِفَضْلِكَ تَشْكُرُ يَسِيرَ مَا شَكَرْتَهُ، وَتُثِيبُ عَلَى قَلِيلِ مَا تُطَاعُ فِيهِ حَتَّى كَأَنَّ شُكْرَ عِبَادِكَ الَّذِي أَوْجَبْتَ عَلَيْهِ ثَوَابَهُمْ وَأَعْظَمْتَ عَنْهُ جَزَاءَهُمْ أَمْرٌ مَلَكُوا اسْتِطَاعَةَ الاِمْتِنَاعِ مِنْهُ دُونَكَ فَكَافَيْتَهُمْ، أَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ بِيَدِكَ فَجَازَيْتَهُمْ بَلْ مَلَكْتَ يَا إِلَهِي أَمْرَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكُوا عِبَادَتَكَ، وَأَعْدَدْتَ ثَوَابَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُفِيضُوا فِي طَاعَتِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ سُنَّتَكَ الإِفْضَالُ، وَعَادَتَكَ الإِحْسَانُ، وَسَبِيلَكَ الْعَفْوُ1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾2.
2- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾3.
3- ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾4.
4- ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾5.
5- ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾6.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: قال: "إذا قدرت على عدوّك فأجعل العفو شكراً للقدرة عليه"7.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه إذا اعترف بالتقصير عن تأدية الشكر.
2 سورة البقرة،الآية 152.
3 سورة المائدة، الآية 6.
4 سورة الأعراف، الآية 58.
5 سورة الإسراء، الآية 19.
6 سورة المؤمنون، الآية 78.
7 نهج البلاغة، ص 470.
219
177
الدرس الخامس عشر: الشكر
2- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "فِيمَا أَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى عليه السلام يَا مُوسَى اشْكُرْنِي حَقَّ شُكْرِي، فَقَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أَشْكُرُكَ حَقَّ شُكْرِكَ وَلَيْسَ مِنْ شُكْرٍ أَشْكُرُكَ بِهِ إِلَّا وأَنْتَ أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ، قَالَ: يَا مُوسَى الْآنَ شَكَرْتَنِي حِينَ عَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مِنِّي"1.
3- قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "إِذَا أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ فَقُلْ عَشْرَ مَرَّاتٍ: "اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَتْ بِي مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ عَافِيَةٍ مِنْ دِينٍ أَوْ دُنْيَا فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ بِهَا عَلَيَّ يَا رَبِّ حَتَّى تَرْضَى وَبَعْدَ الرِّضَا"، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ كُنْتَ قَدْ أَدَّيْتَ شُكْرَ مَا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَة"2.
4- عن الرسول الأكرمصلى الله عليه وآله وسلم: "أَنَّهُ إِذَا رَأَى مِنْ أَصْحَابِهِ الْمُبْتَلَى قَالَ: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاهُ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا"، وَقَالَ: مَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ الْعَافِيَة"3.
5- قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "شُكْرُ الْعَالِمِ عَلَى عِلْمِهِ أَنْ يَبْذُلَهُ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ"4.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "شكر من دونك بسيب (بسبب) العطاء"5.
7- وعنه عليه السلام: "شكر من فوقك بصدق الولاء"6.
1 الكافي، ج 2، ص 98.
2 (م.ن)، ص 99.
3 مستدرك الوسائل، ج 5، ص 315.
4 بحار الأنوار، ج 2، ص 81.
5 غرر الحكم، ص 279.
6 (م.ن).
220
178
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى الصّبر وحقيقته.
2- يشرح العلاقة الحاكمة بين الصّبر بالإيمان.
3- يعدِّد أنواع الصّبر ودرجاته.
221
179
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
تمهيد
لا يخفى ما للصّبر في الثّقافة الإسلاميّة من منزلة رفيعة وقيمة عظيمة. فهو من أحبّ السّبل إلى الله ومن أرقى الكمالات النّفسيّة ومن أهم علائم الإيمان. به يبلغ المؤمن مقامات المقرّبين ومراتب الصّدّيقين. ومع ذلك فقد تمّ تفسيره في أحيانٍ كثيرة بطرقٍ جعلته من عوامل الخمول والنّكوص، فحُرم الكثيرون من معرفة عظمته ودوره المحوريّ في بناء النّفس وتكميلها.
فما هو الصّبر؟ وكيف نكون من الصّابرين الذين يوفون أجرهم بغير حساب؟
تعريف الصّبر
يذكر الإمام الخمينيّ قدس سره أنّ للصّبر تعاريف عديدة. وعند التّأمّل فيها جميعًا يتبيّن لنا أنّ المكاره على جميع أنواعها هي المطروحة في القضيّة. وهي عبارة عن الأمور التي تخالف طبع النّفس وما تهواه أو تطلبه سواء كانت النّفس طبيعيّة أو مجرّدة، نورانيّة أو ظلمانيّة. وفي هذا المجال، فالصّبور هو الذي يتحمّل هذه المكاره من أجل التّقدّم على طريق الله طريق الكمال.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "للصّبر تعاريف عدّة، نكتفي بذكر بعضها، قال المحقّق العارف الأنصاري: "الصّبر: حبسُ النّفس على جزع كامنٍ عن الشّكوى". وبناءً على هذا التّعريف فإنّ الصّبر هو الامتناع عن إظهار الجزع الباطنيّ وعن الشّكوى من الأمور غير الملائمة. وقد عرّف الصّبر بما يقارب هذا المضمون الحكيم الجليل الخواجة الطّوسيّ قدس سره. فالصّبر، إذًا، يشتمل على أمرين يتقوّم بهما:
الأوّل: وجود كراهيّة باطنيّة لما يرد على الإنسان من أمورٍ لا يرغب فيها.
الثاني: الامتناع عن الشّكوى وإظهار الجزع بسبب تلك الأمور.
223
180
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
وقد قال الشّيخ العارف عبد الرزّاق الكاشاني: "المراد بالشّكوى، الشّكاية إلى غير الحقّ، لأنّ الشّكوى إلى الله في باب الصّبر محمودة، ألا ترى أيوب عليه السلام كيف شكا إلى ربّه بقوله: ﴿...أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾، مع أنّ الله تعالى مدحه بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾"1.
وبهذا المعنى، يذكر الإمام قدس سره: "أنّ الصّبر يُعتبر من مقامات المتوّسّطين، لأنّ النّفس ما دامت تكره المصائب والبليّات، وتجزع منها، يكون مقام معرفته ناقصًا، كما أنّ مقام الرّضا بالقضاء، والابتهاج من إقبال المصائب عليه، مقام أرقى من مقام الصّبر، رغم كون مقام الرّضا من مقامات المتوسّطين أيضًا. وهكذا يكون الصّبر على المعصية والطّاعة، من جرّاء نقص المعرفة بأسرار العبادة وصور المعاصي والطّاعات. فإنّ الإنسان إذا أدرك حقيقة العبادة وآمن بصورها البهيّة البرزخيّة، وكذلك آمن بالصّور البرزخيّة الموحشة للمعاصي لما كان للصّبر على الطّاعة أو المعصية وقعٌ. بل الأمر يغدو معكوسًا"2.
صبر الأنبياء
"وما ورد في أئمّة الهدى أو الأنبياء العظام من نعتهم بالصّبر، فمن المحتمل أنّه من الصّبر على الآلام الجسديّة التي تسبّب الانفعال والتّأثّر ـ حسب طبيعة الإنسان ـ أو من الصّبر على فراق الأحبّة وهو حينئذٍ من المقامات الكبيرة للمحبّين فيصحّ الحديث عنه في تراجم حياتهم. وأمّا الصّبر على الطّاعات أو المعاصي أو النّوائب عدا ما ذكرنا ـ الآلام الجسمية ـ فلا معنى لها في حقّهم ولا في حقّ شيعتهم"3.
صبر الأولياء
"إنّ فراق الحقّ الذي يكون بالنّسبة للكمّل من أولياء الله عبارة عن مفارقة مقامات القرب فهو مكروه جدًّا لأنفسهم المطهّرة الشّريفة، فيكون تحمّله شاقًّا وصعبًا عليهم ويستلزم الصّبر، فالمولى أمير المؤمنين يقول في دعاء: كميل: "فهبني صبرت على
1 جنود العقل والجهل، ص 363.
2 الأربعون حديثًا، ص 294.
3 (م.ن).
224
181
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
عذابك فكيف أصبر على فراقك". ويدنا عن الوصول إليه قاصرة. فمن حصل له هذا المقام فهو عبد الله على الحقيقة ويقع تحت قباب الرّبوبيّة ويكون الحقّ تعالى متصرّفًا في مملكته ويخرج من ولاية الطّاغوت. وهذا المقام من أعزّ مقامات الأولياء وأخصّ مدارج الأصفياء وليس لسائر النّاس منه حظ، بل لعلّ القلوب القاسية للجاحدين والنّفوس الصّلبة للمجادلين البعيدة عن هذه المرحلة بمراحل، تنكر هذه المقامات ويحسبون الكلام في أطرافها باطلًا، بل ينسبون ـ والعياذ بالله ـ هذه الأمور، التي هي قرّة عين الأولياء والكتاب والسنّة مشحونة بها، إلى اختراعات الصّوفيّة وأراجيف الحشويّة"1.
"أولئك الأولياء حتى لو طلبوا شيئاً فهم يطلبون أمثال النظر إلى كرامة الحبيب، تأمّل فيما يقوله المحبّ الحقيقي، والمجذوب المطلق، علي بن أبي طالب عليه السلام في دعاء: كميل: "فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي صبرتُ على عذابك، فكيف أصبرُ على فراقك؟ وهبني يا إلهي صبرتُ على حرَّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك"2.
علاقة الصّبر بالإيمان
إنّ من علامات فقدان التّحمّل انبعاث الشّكاية من النّفس تجاه المكاره. فيكون الصّبر ها هنا في الحقيقة عبارة عن "الامتناع عن الشّكوى على الجزع الكامن"3.
عندما يشكو الإنسان ما تعرّضت له نفسه من مكروه فكأنّه في هذه الحالة يعترض على تدبير الله تعالى وهو يعلم أنّ كلّ شيء من عند الله ﴿قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ﴾4. ومن كان مؤمنًا حقًّا يؤمن بأنّ الله تعالى هو الحكيم اللطيف، وإنّ كلّ تدبيراته هي لمصلحة العبد وغبطته، فكيف يعترض حينها؟!
1 معراج السالكين، ص 232.
2 جنود العقل والجهل، ص 327-328.
3 الأربعون حديثًا، ص 295.
4 سورة النساء، الآية 78.
225
182
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
ولهذا، تمّ، في الكثير من الأحاديث، ربط الصّبر بالإيمان، كما جاء في الكافي، عن الإمام الصّادق عليه السلام: قالَ: "الصَّبْرُ مِنَ الإيْمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الجَسَدِ فَإِذَا ذَهَبَ الرَّأْسُ، ذَهَبَ الجَسَدُ، وَكَذلِكَ إذَا ذَهَبَ الصَّبْرُ، ذَهَبَ الإِيْمَانُ"1.
وفي حديثٍ آخر عن الإمام السّجّاد علي بن الحسين عليهما السلام، قالَ: "الصَّبْرُ مِنَ الإِيْمَان بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الجَسَدِ وَلاَ إِيْمَانَ لِمَنْ لاَ صَبْرَ لَهُ"2.
وعن أبي جعفرٍ عليه السلام قالَ: "إنَّ القُلوبَ أرْبَعَةٌ: قَلْبٌ فيه نَفاقٌ وَإيمانٌ وَقَلْبٌ مَنْكوسٌ، وَقَلْبٌ مَطْبُوعٌ، وَقَلْبٌ أزْهَرُ أجْرَدُ. فَقُلْتُ مَا الأزْهَرُ؟ قَالَ: فِيهِ كَهَيْئَةِ السِّرَاجِ، فَأَمَّا الْمَطْبُوعُ فَقَلْبُ المُنَافِقِ، وَأمَّا الأزْهَرُ فَقَلْبُ المُؤْمِنِ، إنْ أعطاهُ شَكَرَ وَإنْ ابتُلاَهُ صَبَرَ.."3. "ثمّ إنّ تعرّض الحديث لخصوص صفتين من صفات المؤمن (إنْ أَعْطاهُ شَكَرَ وَإن ابْتَلاهُ صَبَرَ) من أجل أنّ لهاتين الصّفتين من صفات المؤمنين خصائص ومزايا لا تتواجد في غيرها من الصّفات، فإنّهما من أمّهات الصّفات الجميلة، وتتفرّع منهما صفات جميلة أخرى"4.
أمّا الشّكاية إلى الله، فإنّها تعبّر عن استجابة إيمانيّة للمكروه الذي نزل به من عند الله تعالى. فالعبد هنا فهِم أنّ الله تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾5، وعلم أنّ الله تعالى يريد منه أن يجأر إليه ويشكو عنده قائلًا: "قَدْ نَزَلَ بِي يَا رَبِّ مَا قَدْ تَكَأَّدَنِي ثِقْلُهُ، وَأَلَمَّ بِي مَا قَدْ بَهَظَنِي حَمْلُهُ"6.
"وقد قال الشّيخ العارف عبد الرزاق الكاشاني: "المراد بالشّكوى، الشّكاية إلى غير الحقّ، لأنّ الشّكوى إلى الله في باب الصّبر محمودة، ألا ترى أيوب عليه السلام كيف شكا إلى ربّه بقوله: ﴿...أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾، مع أنّ الله تعالى مدحه بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾.. "انتهى. وينبغي التنبّه إلى أن الصبر ــ بهذه المرتبة المذكورة ــ هو من مقامات المتوسّطين، لأنّ نفس الإنسان ما دامت تكره ما يردها من الحقّ تعالى، وما
1 الكافي، ج 2، ص87.
2 (م.ن)، ص 89.
3 (م.ن)، ص422.
4 الأربعون حديثًا، ص 563.
5 سورة الأنعام، الآية 42.
6 الصحيفة السجّادية، دعاؤه عليه السلام إذا عرضت له مهمّة أو نزلب به ملمّة وعند الكرب.
226
183
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
دام الإنسان يجد في باطنه جزعًا من تلك الواردات، فإنّ مقام معارفه وكمالاته ناقص، والمقام الأعلى من هذا المقام من الصّبر، مرتبة الرّضا بالقضاء، حيث يكون الصّابر راضيًا مستبشرًا بما ينزل عليه من بليّات وضرّاء، فيستقبلها بكلّ وجوده لأنّها تنزل عليه من حبيبه سبحانه وتعالى"1.
فاتّضح من هذا الكلام أنّ حسن الصّبر يرجع بالدّرجة الأولى إلى الإيمان. فمن كان مؤمنًا صبر على كلّ ما يرده من الله، سواء كان تكليفًا شاقًّا، أو نهيًا مانعًا من رغبة، أو مصيبة نازلة. وعندما نستحضر معنى الإيمان بالله وتجلّيات حضوره تعالى في حياتنا فلن نجد صعوبة في إدراك أهمّيّة الصّبر وعلاقته بالإيمان.
مراتب الصّبر
إذا كان الصّبر تحمّل المكاره، فإنّ درجاته ومراتبه ستكون بحسب درجات المكاره وشدّتها. وكلّما اشتدّ المكروه عظُم عنده الصّبر وارتفع. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في شرحه لحديث رسول الله: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الصبر ثلاثة: صبرٌ عند المصيبة، وصبرٌ على الطاعة، وصبرٌ عن المعصية. فمن صبر على المصيبة حتى يردّها بحسن عزائها، كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدّرجة إلى الدّرجة كما بين السماء إلى الأرض، ومن صبر على الطاعة، كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر على المعصية، كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش"2. يتّضح من هذا الحديث الشّريف ثلاث مراتب للصّبر هي مبادىء وأمّهات صبر المتوسّطين:
المرتبة الأولى: الصبر على البليّات والمصائب
"بمعنى أن لا يشكو ولا يجزع بسببها، ولكنّ الجزع منها في محضر الخالق جلّ وعلا ليس نقصًا، بل إنّ تركه عيبٌ عند أهل المعرفة، لأنّه من التجلّد في محضر الحبيب، وهذا عيبٌ كبيرٌ في مذهب العشق والمحبّة، فالمطلوب هو إظهار العجز والفقر في هذا المحضر المقدّس:
1 جنود العقل والجهل، ص 364.
2 الكافي، ج2، ص 91.
227
184
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
ويحسن إظهارُ التجلُّد للعدى ويقبح إلّا العجز عند الأحبّة
كما أنّ التّجلّد إثباتٌ للنّفس، وإظهارٌ لوجودها، وهذا من أقبح المنكرات والجنايات عند أهل المعرفة. ويذكر الحديث الشّريف للصّبر على المصائب ثلاثمائة درجة من الثّواب ما بين كلّ درجتين كما بين السّماء والأرض"1.
المرتبة الثانية: الصّبر على الطّاعة
"أي أن يتحلّى الإنسان بالتحمّل في العمل بالأوامر الإلهيّة، ولا يسمح للنّفس الأمّارة بالسّوء أن تصدّه عن ذلك وأن تطغى، وهذا الطّغيان يقع في مقامين يكون الصّبر في أحدهما أصعب بكثير من الآخر.أمّا المقام الأول الذي يسهل فيه الصبرُ، فهو الصبر على طغيان النفس في نزوعها لترك الطّاعات... والمقام الثّاني: وهو الذي يصعب فيه الصّبر، فهو الصّبرُ على طغيان النّفس بعد قيامها بالطّاعة، وذلك بأن يحفظ الإنسان نفسه من أن يؤدّي القيام بالطّاعة بآدابها الظاهريّة والباطنيّة إلى وقوعها في العُجب والكبر ونظائرهما من الآفات. فربّما دعا الشّيطان والنّفس الأمّارة بالسّوء الإنسان سنين طويلة للقيام بالأعمال الصّالحة والأخلاق الحميدة واتّباع الشّريعة المطهّرة على أمل أن يوقعاه بعد ذلك في العُجب بنفسه، فيسقط بعد كل ما تحمّله من مشاق ورياضات، إذ إنّ الغرور العلميّ والعمليّ وحبّ النفس والإعجاب بها من المهلكات التي تسوق الإنسان إلى الشّقاء... ويذكر الحديث الشّريف للصّبر على الطّاعات ستمائة درجة بين كلّ درجة ودرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، فهذه المرتبة من الصّبر تزيد على سابقتها في عدد الدّرجات، وفي سعةِ كلّ درجة كما بين تخوم كلٍّ منها. إنّ للصّبر على الطّاعات مقامات أخرى لعلّ الحديث لم يتعرّض لها، ويمكن التعرّف إليها عندما ننظر إلى الطّاعة بمعناها الواسع الذي يشمل أيضًا حقائق التّوحيد وأسراره، وحينئذٍ لا يمكن حصر ثواب وأجر صاحب هذه المقامات بأيّ معيار وميزان"2.
1 جنود العقل والجهل، ص 365-366.
2 (م.ن)، ص 366-367.
228
185
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
المرتبة الثالثة: الصّبر عن المعصية
"أي الصّبر على صعاب مجاهدة النّفس وجنود الشيطان، بالصّبر والاستقامة طريق الانتصار عليهم. ولهذه المرتبة مقامات وحقائق كثيرة، والصّبر في كلّ درجة منها أصعب وأدقّ من الصّبر على الطّاعات، بل إنّ الموفّق في الصّبر في هذه المرتبة يسهل عليه الصّبر على الطاعات. لذا فالصّبر عن المعصية أهم من كل شيءٍ، بالنسبة للسّالك إلى الله"1.
ثمّ يذكر الإمام مراتب أخرى للصّبر نوكل الحديث عنها إلى الكتاب الثّالث لأنّها ترتبط بمعرفة مقامات السّالكين. والملفت فيما ذكره الإمام في المقام الثّاني الذي يصعب فيه الصّبر هو أنّ النّفس تكره أن تُحبس عن الاشتهار ممّا يستدعي صبرًا خاصًّا يمنعها من أن تتظاهر بالطّاعات والحسنات. ويبدو أنّ هذا الحبس أو الحفظ سيكون شديدًا جدًّا ممّا يستدعي درجة عالية من الصّبر.
1 جنود العقل والجهل، ص 368-369.
229
186
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
المفاهيم الرئيسة
1- الصّبور هو الذي يتحمّل المكاره من أجل التّقدّم على طريق الله طريق الكمال.
2- صبر الأنبياء من المحتمل أنّه من الصّبر على الآلام الجسديّة التي تسبّب الانفعال والتّأثّر ـ حسب طبيعة الإنسان ـ أو من الصّبر على فراق الأحبّة وهو حينئذٍ من المقامات الكبيرة للمحبّين.
3- صبر الأولياء هو الصّبر على فراق الحقّ الذي يكون بالنّسبة للكمّل من أولياء الله عبارة عن مفارقة مقامات القرب فهو مكروه جدًّا لأنفسهم المطهّرة الشّريفة، فيكون تحمّله شاقًّا وصعبًا عليهم ويستلزم الصّبر.
4- إنّ حسن الصّبر يرجع بالدّرجة الأولى إلى الإيمان. فمن كان مؤمنًا صبر على كلّ ما يرده من الله، سواء كان تكليفًا شاقًّا، أو نهيًا مانعًا من رغبة، أو مصيبة نازلة، لإيمانه بأنّ الله تعالى هو الحكيم اللطيف، وإنّ كلّ تدبيراته هي لمصلحة العبد وغبطته.
5- تختلف درجات الصّبر ومراتبه باختلاف درجات المكاره وشدّتها. فكلّما اشتدّ المكروه عظُم عنده الصّبر وارتفع.
6- من مراتب الصّبر:
- الصبر على البليّات والمصائب: بمعنى أن لا يشكو ولا يجزع بسببها، ولكنّ الجزع منها في محضر الخالق جلّ وعلا ليس نقصًا، بل إنّ تركه عيبٌ عند أهل المعرفة، لأنّه من التجلّد في محضر الحبيب، فالمطلوب هو إظهار العجز والفقر في هذا المحضر المقدّس.
- الصّبر على الطّاعة: أي أن يتحلّى الإنسان بالتحمّل في العمل بالأوامر الإلهيّة، ولا يسمح للنّفس الأمّارة بالسّوء أن تصدّه عن ذلك وأن تطغى.
- الصّبر عن المعصية: الموفّق في الصّبر في هذه المرتبة يسهل عليه الصّبر على الطاعات. لذا فالصّبر عن المعصية أهم من كل شيءٍ، بالنسبة للسّالك إلى الله.
230
187
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأَيِّدْنِي مِنْكَ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ وَصَبْرٍ دَائِمٍ وَأَعِذْنِي مِنْ سُوءِ الرَّغْبَةِ وَهَلَعِ أَهْلِ الْحِرْصِ، وَصَوِّرْ فِي قَلْبِي مِثَالَ مَا ادَّخَرْتَ لِي مِنْ ثَوَابِكَ، وَأَعْدَدْتَ لِخَصْمِي مِنْ جَزَائِكَ وَعِقَابِكَ، وَاجْعَلْ ذَلِكَ سَبَباً لِقَنَاعَتِي بِمَا قَضَيْتَ، وَثِقَتِي بِمَا تَخَيَّرْتَ آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَ أَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ1.
الروايات الشريفة:
1- "عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "قَالَ رَأْسُ طَاعَةِ اللهِ الصَّبْرُ وَالرِّضَا عَنِ اللهِ فِيمَا أَحَبَّ الْعَبْدُ أَوْ كَرِهَ وَلَا يَرْضَى عَبْدٌ عَنِ اللهِ فِيمَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ إِلَّا كَانَ خَيْراً لَهُ فِيمَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ"2.
2- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: إِنِّي جَعَلْتُ الدُّنْيَا بَيْنَ عِبَادِي قَرْضاً فَمَنْ أَقْرَضَنِي مِنْهَا قَرْضاً أَعْطَيْتُهُ. بِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَشْراً إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَ مَا شِئْتُ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ لَمْ يُقْرِضْنِي مِنْهَا قَرْضاً فَأَخَذْتُ مِنْهُ شَيْئاً قَسْراً فَصَبَرَ أَعْطَيْتُهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ لَوْ أَعْطَيْتُ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ مَلَائِكَتِي لَرَضُوا بِهَا مِنِّي، قَالَ: ثُمَّ تَلَا أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾، ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ﴾ فَهَذِهِ وَاحِدَةٌ مِنْ ثَلَاثِ خِصَالٍ، ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ اثْنَتَانِ، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ ثَلَاثٌ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السلام: هَذَا لِمَنْ أَخَذَ اللهُ مِنْهُ شَيْئاً قَسْراً"3.
3- عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: "مُرُوَّةُ الصَّبْرِ فِي حَالِ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ وَالتَّعَفُّفِ وَالْغِنَى أَكْثَرُ مِنْ مُرُوَّةِ الْإِعْطَاءِ"4.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام إذا اعتدي عليه ورأى من الظالمين ما لا يحب.
2 الكافي، ج2، ص 60.
3 (م.ن)، ص 93.
4 (م.ن).
231
188
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
4- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام يَرْحَمُكَ اللهُ مَا الصَّبْرُ الْجَمِيلُ؟ قَالَ: "ذَلِكَ صَبْرٌ لَيْسَ فِيهِ شَكْوَى إِلَى النَّاسِ"1.
5- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "إِنَّا صُبُرٌ وَشِيعَتُنَا أَصْبَرُ مِنَّا، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ كَيْفَ صَارَ شِيعَتُكُمْ أَصْبَرَ مِنْكُمْ؟ قَالَ: لِأَنَّا نَصْبِرُ عَلَى مَا نَعْلَمُ وَشِيعَتُنَا يَصْبِرُونَ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُونَ"2.
6- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "إِنَّ الْخُلُقَ مَنِيحَةٌ يَمْنَحُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ خَلْقَهُ فَمِنْهُ سَجِيَّةٌ وَمِنْهُ نِيَّةٌ، فَقُلْتُ: فَأَيَّتُهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: صَاحِبُ السَّجِيَّةِ هُوَ مَجْبُولٌ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرَهُ، وَصَاحِبُ النِّيَّةِ يَصْبِرُ عَلَى الطَّاعَةِ تَصَبُّراً فَهُوَ أَفْضَلُهُمَا"3.
7- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الصبر أن يحتمل الرجل ما ينوبه و يكظم ما يغضبه"4.
1 الكافي، ج2، ص 93.
2 (م.ن).
3 (م.ن)، ص 101. تصنيف غرر الحكم، ص 281.
4 تصنيف غرر الحكم، ص 281.
232
189
الدرس السابع عشر: الصبر (2) - آثار الصبر وكيفية تحصيله
الدرس السابع عشر: الصبر (2) - آثار الصبر وكيفية تحصيله
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى أهم آثار الصّبر وثماره.
2- يشرح من أين ينشأ الصّبر.
3- يبيّن السّبيل لتقوية الصّبر لدينا وكيفيّة تحصيل هذه الفضيلة.
233
190
الدرس السابع عشر: الصبر (2) - آثار الصبر وكيفية تحصيله
تمهيد
لا يمكن للإنسان أن يسعى نحو أيّة فضيلة أو يتّجه لتحصيل أي كمال ما لم يؤمن بأهميّته وضرورته. ولأنّ الصّبر مخالف لطبيعة النّفوس ولما اعتادت عليه ونشأت، فإنّ تحصيله غير ممكن إلّا لمن جعله أولويّة في حياته.
ما يعين النّفوس الضّعيفة على تحصيل الصّبر والرّغبة به هو أنّ تطّلع على بعض آثاره وثماره التي لا تُعدّ ولا تُحصى. وكيف يكون لهذه الفضيلة من حدّ وهي ميزة الكاملين وصفة الواصلين وعلاقة المقرّبين، بل هي صفة ربّ العالمين.
فعلى طريق التخلّق بهذا الخلق الربّانيّ يحتاج السّالك إلى استحضار عظمته ليُقبل على طيّ طريقه ومجاهدة نفسه.
آثار الصّبر
يذكر الإمام الخمينيّ قدس سره مجموعة من الآثار الطيّبة للصّبر على مستوى الذّات في الدّنيا والآخرة. منها:
1- يهون الصعاب
أنّ الصّبر يروّض النّفس ويمنحها قوّة إضافيّة، ومنها أنّه من أهمّ مفاتيح السّعادة والغبطة، فيقول الإمام قدس سره: "إنّ الصّبر مفتاح أبواب السّعادات، وباعث للنّجاة من المهالك بل الصّبر يهوّن المصائب، ويخفّف الصّعاب، ويقوّي العزم والإرادة، ويبعث على استقلاليّة مملكة الرّوح"1.
1 الأربعون حديثًا، ص 297.
235
191
الدرس السابع عشر: الصبر (2) - آثار الصبر وكيفية تحصيله
- ترويض النّفس وتربيتها
"اعلم أنّ للصّبر نتائج كثيرة التي منها ترويض النّفس وتربيتها: إذا صبر الإنسان حينًا من الوقت على المفاجآت المزعجة ونوائب الدّهر، وعلى مشّاق العبادات والمناسك وعلى مرارة ترك الملذّات النّفسيّة امتثالًا لأوامر وليّ النّعم، وتَحَمّل الصّعاب مهما كانت شديدة ومؤلمة، تروّضت النّفس شيئًا فشيئًا، واعتادت وتخلّت عن طغيانها، وتذلَّلت صعوبة تحمّل المشاق عليها، وحصلت للنّفس ملكة راسخة نوريّة، بها يتجاوز الإنسان مقام الصّبر ليبلغ المقامات الأخرى الشّامخة. بل إنّ الصبر على المعصية يبعث على تقوى النّفس، والصّبر على الطّاعة يسبّب الاستيناس بالحقّ عزّ وجل، والصّبر على البلايا يوجب الرّضا بالقضاء الإلهيّ، وكلّ ذلك من المقامات الشّامخة لأهل الإيمان، بل لأهل العرفان"1.
3- السّعادة والغبطة
عَنْ أَبِي الحَسَنِ ـ عليه السلام ـ قالَ: قَالَ لِي: "مَا حَبَسَكَ عَنِ الحَجِّ؟ قَالَ: قُلْتُ: جْعِلْتُ فِدَاكَ، وَقَعَ عَلَيَّ دَيْنٌ كَثِيرٌ وَذَهَبَ مَالِي، وَدَيْنِي الَّذي قَدّ لَزَمَنِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَهَابِ مَالِي، فَلَوْلاَ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِنَا أَخْرَجَنِي مَا قَدَرْتُ أَنْ أَخْرُجَ، فَقَالَ لِي: إِنْ تَصْبِرْ تُغْتَبَطْ وإلاّ تَصْبِرْ يُنْفِذِ اللهُ مَقَادِيرَهُ رَاضِياً كُنْتَ أَمْ كَارِهاً"2.
4- بلوغ مقام الصّدّيقين
في الكافي الشريف مستندًا إلى الإمام الصّادق عليه السلام قال: "قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُنَالُ فِيهِ المُلْكُ إلاّ بِالقَتْلِ وَالتَّجَبِّرِ، وَلاَ الغِنَى إلاّ بِالغَضْبِ وَالبُخْلِ، وَلاَ المَحَبَّةُ إلاّ بِاسْتِخْرَاجِ الدَّينِ وَاتِّبَاعِ الهَوى، فَمَنْ أَدْرَكَ ذلِكَ الزَّمَانَ فَصَبَرَ عَلَى الفَقْرِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الغِنَى وَصَبَر عَلَى البِغْضَةِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى المَحَبَّةِ وَصَبَرَ عَلَى الذُّلِّ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى العِزِّ أَتَاهُ اللهُ ثَوَابَ خَمْسِينَ صِدِّيقاً مِمَّنْ صَدَّقَ بِي"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 296.
2 الكافي، ج2، ص 90.
3 (م.ن)، ص 91.
236
192
الدرس السابع عشر: الصبر (2) - آثار الصبر وكيفية تحصيله
"وقال الله تعالى: عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلّا جعلته خيراً له، فليرضَ بقضائي وليصبر على بلائي وليشكر نعمائي أكتبه ـ يا محمد ـ من الصدّيقين عندي". من هذا الحديث يتّضح أنّ مقام الصديّقين ـ وهو من أعلى مراتب المقامات الإنسانية ـ يحصل بالرّضا والصّبر والشكر، ولا يخفى أنّ مقام الرّضا أعلى من مقامي الصبر والشكر"1.
5- الوصول إلى الله
"فالذين أنست قلوبهم بالدّنيا وجعلوها وزينتها مطلوبهم، تفجّرت أمانيهم وتأسّفوا حسرةً على عدم امتلاكهم لما عند قارون، لمّا رأوه خارجًا في زينته، أمّا الذين أوتوا العلم وتفضّل الله عليهم بالعلم بغيب هذا الظاهر، فلم تؤثّر فيهم زينة الدّنيا وقارون، لأنّهم كانوا يطلبون ثواب الله، وقد عرفوا أنّ سبيلهم إليه الصّبر عن الزّخارف الدّنيويّة"2.
"والأحاديث الشّريفة في مدح العفو عن الظّالم وكظم الغيظ كثيرة منها ما رُوي في مدح كظم الغيظ في الكافي الشريف مسندًا إلى الإمام السجّاد عليه السلام أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحبّ السبيل إلى الله عزّ وجلّ جرعتان: جرعةُ غيظ تردّها بحلم، وجرعة مصيبة تردّها بصبر"3.
6- الشّفاعة
"عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إذا دخل المؤمن في قبره كانت الصّلاة عن يمينه والزّكاة عن يساره والبرّ مظلٌّ عليه ويتنحّى الصّبر ناحية، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته، قال الصبر للصلاة والزكاة والبر دونكم صاحبكم فإن عجزتم عنه فأنا دونه". وهذا الحديث الشّريف رواه في الكافي الشّريف بطريقين ورواه الشيخ الصدوق رحمه الله في ثواب الأعمال"4.
1 جنود العقل والجهل، ص 170-171.
2 (م.ن)، ص 280.
3 (م.ن)، ص 378 - 379.
4 معراج السالكين، ص 17.
237
193
الدرس السابع عشر: الصبر (2) - آثار الصبر وكيفية تحصيله
7. الحياة البرزخيّة البهيّة
"وأمّا الصبر والجلادة فلهما الثّواب الجزيل والأجر الجميل والصّورة البهيّة البرزخيّة الشّريفة، كما ورد في ذيلَ الحديث الشّريف الذي نحن بصدد شرحه حيث يقول: "وَكَذلِكَ الصَّبْرُ يُعَقِّبُ خَيْراً فَاصْبِرُوا وَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الصَّبْرِ تُؤجَرُوا"1. فعاقبة الصبر إلى الخير في هذه الدنيا كما يُستفاد من التّمثيل بالنبيّ يوسف عليه السلام ـ في الحديث المذكور ـ يبعث على الأجر والثّواب في يوم الآخرة. وفي الحديث الشّريف المنقول في الكافي بسنده إلى أبي حمزة الثمالي ـ رحمه الله ـ قال: "مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِبَلاءٍ فَصَبَرَ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ أَلْفِ شَهيدٍ". وأما أنّ للصبر صورة بهيّة برزخية، فمضافًا إلى أنّها تتطابق مع بعض الأدلّة نجد الأحاديث الشّريفة أيضًا تتحدّث عنها. كما في الكافي الشّريف عن الإمام الصّادق عليه السلام قال: "إِذَا دَخَلَ المُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ كَانَتِ الصَّلاَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَالزَّكَاةُ عَنْ يَسَارِهِ والبِرُّ مُطلٌّ عَلَيْهِ وَيَتَنَحَّى الصَّبْرُ نَاحِيةً، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ المَلَكَانَ اللَّذَانِ يَلِيَانِ مُسَاءَلَتَهُ قَالَ الصَّبْرُ لِلصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالبِرِّ: دُونَكُمْ صَاحِبَكُمْ فَإِنْ عَجَزْتُمْ مِنْهُ فَأَنَا دُونَهُ"2"3.
8- الإعفاء من الحساب
روي في الكافي الشريف مسنداً عن الصادق عليه السلام قال: "إذا كان يوم القيامة يقومُ عنقٌ من الناس فيأتون باب الجنة فيضربونهُ. فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهلُ الصبر.
فيُقال لهم: على ما صبرتم؟ فيقولون: كنّا نصبر على طاعة الله، ونصبر عن معاصي الله. فيقول الله عزّ وجلّ صدقوا، أدخلوهم الجنة، وهو قول الله عزَّ وجلّ: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾4"5.
كانت هذه بعض الآثار الجميلة للصّبر، ولو أردنا أن نستقصي كلّ الآثار لاحتاج الأمر إلى كتاب مفصّل.
1 الكافي، ج2، ص89.
2 (م.ن)، ص90.
3 الأربعون حديثًا، ص 301.
4 سورة الزمر، الآية 10.
5 الكافي، ج2، ص 75.
238
194
الدرس السابع عشر: الصبر (2) - آثار الصبر وكيفية تحصيله
عوامل تقوية الصّبر
لا شكّ بأنّ فطرة الله التي فطر النّاس جميعًا عليها هي منشأ جميع الخيرات والبركات وأصل كلّ الفضائل والكمالات، فالصّبر وإن كان في مواجهة النّفس فيما تحبّ إلّا أنّ ذلك فيما يتعلّق بالنّفس لا الفطرة، وبعبارةٍ أخرى، فالنّفس تشير إلى التوجّه إلى عالم الدّنيا والكثرات، والفطرة هي التّوجّه والانجذاب إلى الحقّ تعالى والوحدة التامّة.
1- الفطرة الصّافية
"إنّ الرجل الرّوحانيّ الحافظ لسلامة فطرته الإلهيّة الأصليّة يصبرُ على كلّ حالٍ ولا يفقد السّيطرة على نفسه، فتتغلّب قوّةُ روحه على ما تطلبه طبيعته، ولا ينهار في الحوادث ولا يهتزّ لفقدان الدّنيا والطّموحات النفسيّة لأنّه متحرّرٌ من حبّ الدّنيا والنّفس، وهذا الحبّ هو منشأ كلّ انحراف وخطيئة، والاحتجاب بحجبه منشأ كلّ احتجاب، فالحجب الظلمانية المذكورة في الحديث الشّريف ما هي إلّا حجب حبّ الدّنيا والنّفس. إذًا، إذا احتجبت الفطرة المجبولة على حبِّ الكمال المطلق بحجب الطّبيعة والنفس، توهّمت أنّ الكمال في ما تطلبه الطّبيعة والنّفس، ولذلك فهي تجزع لفقدان المطلوبات الطبيعيّة والنفسانيّة. فإذا خرجت من هذه الحال من الاحتجاب، لم تتأذَّ إلّا لفقدانها وصال محبوبها الأصلي، فلا تجزع إلّا على فراق حبيبها الحقيقيّ، فيكون الصّبر عن الله أصعب الأمور عليها. والله الهادي"1.
2- استقامة القوّة الغضبيّة
"من لا تكون فيه هذه القوّة الشّريفة (القوة الغضبية) ـ التي هي تجلّي الغضب والانتقام الإلهيّ في جانب التفريط، يكون ناقصًا، لأنّ التفريط فيها يوقعه في الكثير من الملكات الخبيثة والأخلاق الذّميمة، مثل الخوف والجبن، والضّعف والكسل، وجموح النّفس، وقلّة الصبر"2.
3- الانعتاق والتّحرّر من الشّهوات
"من النتائج الكبيرة والثّمار العظيمة لتحرّر الإنسان من عبوديّة النّفس، الصبر في البلايا والنوائب"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 374.
2 (م.ن)، ص 225.
3 الأربعون حديثًا، ص 294.
239
195
الدرس السابع عشر: الصبر (2) - آثار الصبر وكيفية تحصيله
كيفيّة تحصيل فضيلة الصبر
للإمام الخمينيّ قدس سره بعد ذكر العوامل المساعدة على تقوية الصّبر مجموعة من التّوصيات العمليّة المهمّة التي تؤدّي إلى وصول النّفس إلى امتلاك هذه الفضيلة الرّائعة. منها:
1- الإقبال على الالتزام بالتقوى
"المقام الأول الذي يسهل فيه الصبرُ، فهو الصبر على طغيان النفس في نزوعها لترك الطاعات، والصبر هنا يتحقّق بمقاومة النّفس والشّيطان والعمل بالأوامر الإلهيّة وفق حدودها الشرعية وشروطها وآدابها القلبية، والإلتزام بهذه الآداب والشروط من الأمور الصعبة"1.
2- المراقبة الكاملة الدّقيقة
"المقام الثاني: وهو الذي يصعب فيه الصّبر، فهو الصبرُ على طغيان النفس بعد قيامها بالطّاعة، وذلك بأن يحفظ الإنسان نفسه من أن يؤدّي القيام بالطّاعة بآدابها الظاهرية والباطنية إلى وقوعها في العُجب والكبر ونظائرهما من الآفات... لذلك فبدون المراقبة الكاملة الدقيقة، وبدون التعامل مع النفس تعامل الطبيب الحاذق والممرّض المخلص الذي يحفظ الإنسان من نفسه ويحذّره باستمرار من عيوبها، تسوقُ هذه الأعمال الصالحة والعبادات الظاهرية الإنسان إلى التّهلكة وتصير سببًا لسقوطه. ولا يخفى أنّ هذه المراقبة الكاملة للنّفس وحفظها من أيّ تزلزل وانحراف من أصعب الأمور، لذلك يجب على الإنسان أن يستعيذ بالله ويستعين به، جلّت قدرته، على ذلك، فإنّ مكائد النفس والشيطان تكون أحيانًا دقيقةً وخفيّة إلى درجة يستحيل كشفها من غير توفيق الله وعونه، مهما كانت درجة التدقيق"2.
3- الإعراض عن طلب حظوظ النّفس دنيا وآخرة
"مثلما أنّ الصبر في مجاهدة قوى الشهوة والغضب والشيطنة ـ وهذه هي منشأ المعاصي الظاهرية ــ هو من أشقّ الأمور على الإنسان، وأصعب من القيام بالطّاعات الظاهرية، كذلك
1 جنود العقل والجهل، ص366.
2 (م.ن).
240
196
الدرس السابع عشر: الصبر (2) - آثار الصبر وكيفية تحصيله
الحال في مجاهدة الشيطان الأكبر والنفس - وهما منشأ المعاصي القلبية والباطنية، فالصبر فيها من أصعب المجاهدات، إذ الواجب فيها على السالك الإعراض عن الكونين ورفض النشأتين، وسحق النفس وتحطيم وثن عبادتها العظيم واسقاطه عن كعبة القلب بيد التّمسّك بالولاية، لكي يصل السّالك بذلك إلى حقائق الإخلاص ويجد سرائر الخلوص. وهذا ما لا يمكن الفوز به إلّا بالمعونة الإلهية والتوفيقات الربّانية"1.
4- التّرويض النّفسيّ المشروط
"إنّ الابتعاد عن المحرّمات الإلهيّة، لا يستدعي جهدًا جبّارًا، بل الإنسان مع قليلٍ من التّرويض النّفسيّ والعمل، يستطيع أن يترك جميع المحرّمات، شريطة إرادته على أن يكون من أهل السّعادة والنجاة، ومن أهل الولاية للأئمّة الأطهار وكرامة الحقّ المتعال. وإذا لم يكن له صبر على المعصية، بهذا المقدار، لما تحقّق له البعد عن المعصية. إنّه يجب أن يتمتّع بقدر من الجلادة والإصرار والترويض النفسي"2.
موعظة للإمام
"فيا أيها العزيز إنّ الموضوع خطير، والطّريق محفوف بالمخاطر، فابذل من كلّ وجودك الجهد واجعل الصّبر والثبات من طبيعتك، أمام حوادث الأيّام، وانهض أمام النكبات والرزايا، ولقّن النّفس بأنّ الجزع والفزع مضافًا إلى أنّهما عيبان فادحان، لا جدوى من ورائهما للقضاء على المصائب والبليات، ولا فائدة من الشّكوى على القضاء الإلهيّ وعلى إرادة الحقّ عزّ وجل أمام المخلوق الضّعيف الذي لا حول له ولا قوّة"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 369.
2 الأربعون حديثًا، ص 507.
3 (م.ن)، ص 298.
241
197
الدرس السابع عشر: الصبر (2) - آثار الصبر وكيفية تحصيله
المفاهيم الرئيسة
1- إذا صبر الإنسان حينًا من الوقت على المفاجآت ونوائب الدّهر، وعلى مشّاق العبادات والمناسك وعلى مرارة ترك الملذّات النّفسيّة امتثالًا لأوامر وليّ النّعم, تروّضت النّفس شيئًا فشيئًا، وحصلت للنّفس ملكة راسخة نوريّة، بها يتجاوز الإنسان مقام الصّبر ليبلغ المقامات الأخرى الشّامخة.
2- من آثار الصبر: السّعادة والغبطة، بلوغ مقام الصّدّيقين، الوصول إلى الله، الشّفاعة، الحياة البرزخيّة البهيّة، الإعفاء من الحساب.
3- من عوامل تقوية الصّبر:
- الحفاظ على الفطرة الصّافية: الرجل الرّوحانيّ الحافظ لسلامة فطرته الإلهيّة الأصليّة يصبرُ على كلّ حالٍ ولا يفقد السّيطرة على نفسه.
- استقامة القوّة الغضبيّة: التفريط بهذه القوّة يوقع الإنسان في الكثير من الملكات الخبيثة والأخلاق الذّميمة ومنها قلّة الصبر.
- الانعتاق والتّحرّر من الشّهوات.
4- تحصيل الصّبر يكون بـ:
- بالعمل بالأوامر الإلهيّة وفق حدودها الشرعية وشروطها وآدابها القلبية.
- بالمراقبة الكاملة والدّقيقة للنّفس: فبدون المراقبة الكاملة الدقيقة، تسوقُ هذه الأعمال الصالحة والعبادات الظاهرية الإنسان إلى التّهلكة وتصير سببًا لسقوطه.
- بالإعراض عن الكونين ورفض النشأتين، وسحق النفس وتحطيم وثن عبادتها العظيم واسقاطه عن كعبة القلب بيد التّمسّك بالولاية، لكي يصل السّالك بذلك إلى حقائق الإخلاص ويجد سرائر الخلوص.
- الترويض النفسي المشروط: الإنسان مع قليلٍ من التّرويض النّفسيّ والعمل، يستطيع أن يترك جميع المحرّمات، شريطة إرادته على أن يكون من أهل السّعادة والنجاة، ومن أهل الولاية للأئمّة الأطهار وكرامة الحقّ المتعال.
242
198
الدرس السابع عشر: الصبر (2) - آثار الصبر وكيفية تحصيله
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ إِنَّكَ كَلَّفْتَنِي مِنْ نَفْسِي مَا أَنْتَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي، وَقُدْرَتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَيَّ أَغْلَبُ مِنْ قُدْرَتِي، فَأَعْطِنِي مِنْ نَفْسِي مَا يُرْضِيكَ عَنِّي، وَخُذْ لِنَفْسِكَ رِضَاهَا مِنْ نَفْسِي فِي عَافِيَةٍ اللَّهُمَّ لاَ طَاقَةَ لِي بِالْجَهْدِ، وَلاَ صَبْرَ لِي عَلَى الْبَلاَءِ، وَلاَ قُوَّةَ لِي عَلَى الْفَقْرِ، فَلاَ تَحْظُرْ عَلَيَّ رِزْقِي، وَلاَ تَكِلْنِي إِلَى خَلْقِكَ، بَلْ تَفَرَّدْ بِحَاجَتِي، وَتَوَلَّ كِفَايَتِي وَانْظُرْ إِلَيَّ وَانْظُرْ لِي فِي جَمِيعِ أُمُورِي، فَإِنَّكَ إِنْ وَكَلْتَنِي إِلَى نَفْسِي عَجَزْتُ عَنْهَا وَلَمْ أُقِمْ مَا فِيهِ مَصْلَحَتُهَا، وَإِنْ وَكَلْتَنِي إِلَى خَلْقِكَ تَجَهَّمُونِي، وَإِنْ أَلْجَأْتَنِي إِلَى قَرَابَتِي حَرَمُونِي، وإِنْ أَعْطَوْا أَعْطَوْا قَلِيلاً نَكِداً، وَمَنُّوا عَلَيَّ طَوِيلاً، وذَمُّوا كَثِيراً فَبِفَضْلِكَ، اللَّهُمَّ، فَأَغْنِنِي، وَبِعَظَمَتِكَ فَانْعَشْنِي، وبِسَعَتِكَ، فَابْسُطْ يَدِي، وَبِمَا عِنْدَكَ فَاكْفِنِي"1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾2.
2- ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾3.
3- ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾4.
4- ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾5.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عند الشدّة والجهد وتعسّر الأمور.
2 سورة البقرة، الآية 153.
3 سورة البقرة، الآية 155.
4 سورة آل عمران، الآية 120.
5 سورة السجدة، الآية 24.
243
199
الدرس السابع عشر: الصبر (2) - آثار الصبر وكيفية تحصيله
5- ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾1.
6- ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾2.
الروايات الشريفة:
1- قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "أُمِرَ النَّاسُ بِخَصْلَتَيْنِ فَضَيَّعُوهُمَا فَصَارُوا مِنْهُمَا عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ الصَّبْرِ وَالْكِتْمَانِ"3.
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "عليكم بدوام الشكر ولزوم الصبر فإنهما يزيدان النعمة ويزيلان المحنة"4.
1 سورة آل عمران، الآية 146.
2 سورة فصلت، الآية 35.
3 الكافي، ج2، ص 222.
4 تصنيف غرر الحكم، ص 278.
244
200
الدرس الثامن عشر: الرهبة من الله (1) - معنى الرهبة، درجاتها وعلاماتها
الدرس الثامن عشر: الرهبة من الله (1) - معنى الرهبة، درجاتها وعلاماتها
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن الفهم الصحيح للرّهبة.
2- يميّز بين الرّهبانيّة المذمومة والخلوة الممدوحة مع الحقّ تعالى.
3- يتعرّف إلى درجات الرّهبة وعلاماتها.
246
201
الدرس الثامن عشر: الرهبة من الله (1) - معنى الرهبة، درجاتها وعلاماتها
تمهيد
عند مطالعة أحاديث الفضائل والكمالات نتوقّف عند مصطلح الرّهبة، ونجد أنّ أهل بيت العصمة يعدّونها من الصّفات المحمودة. لكن ما نحمله من أفكار حول الرّهبنة والرّهبانيّة لا يساعدنا في فهم القضيّة أو في التعرّف على ما تستبطنه من خيرٍ وكمال. فتارة نقول أنّه لا رهبانيّة في الإسلام، وأنّ الرّهبنة بدعة مصطنعة من قبل بعض أهل الملل، وأخرى نقول أنّ الله تعالى رؤوفٌ بعباده وعطوفٌ، فما معنى أن نخاف منه ونرهبه؟!
وفي لجّة هذه الأفكار نضيّع على أنفسنا فرصة معرفة كمالٍ معنويّ عظيم هو منشأ لخيرٍ كثير. فكيف سيتجاوز الإمام الخمينيّ قدس سره بنا هذا الضّياع ويرشدنا إلى الحقيقة مفسّرًا هذه الفضيلة وأهمّ أسرارها، هذا ما سنتعرّف عليه عبر الصّفحات التّالية.
ما هي الرّهبة؟
قبل تقديم المعنى الدّقيق لمقام الرّهبة وأهميّة صيرورة السّالك راهبًا، يتعرّض الإمامقدس سره إلى المعنى اللغويّ الذي ينقله إلى مصطلح آخر ويسمح له بتقديم تفسير واسع وشامل لهذه الفضيلة. وأثناء كلّ ذلك يمرّ على بعض الأفكار الخاطئة ويعالجها من أجل إيصالنا إلى نقاء المعنى وحقيقته.
يقول الإمام قدس سره: "الرّهبةُ تعني الخوف، يُقال: رَهِبَ ـ بكسر عين الفعل (الهاء) وفتحها ـ رهبةً ورُهْباً ورَهَبا ورُهباناً ورهباناً: أي خاف. ورَهبان ـ بفتح الراء ـ مثل خَشيان، من المبالغة في الخوف، ورُهبان جمع راهب، وجمعها رهابين. والرهبانية: العزلة عن الخلق واعتزال اللذات الدّنيويّة من أجل الاشتغال بالعبادة، وقد نهى عنها الإسلام، وفي الحديث: "لا
248
202
الدرس الثامن عشر: الرهبة من الله (1) - معنى الرهبة، درجاتها وعلاماتها
رهبانيّة في الإسلام"1، وفي الحديث أيضًا أنّ رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أريد أن أترهّب. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تفعل! وإن تَرَهُّبَ أمّتي القعودُ في المساجد"2.
فالرّهبانيّة بمعنى العزلة عن النّاس واعتزال النّساء وتعطيل القوى الإلهيّة الكريمة التي أنعم الله بها على الإنسان، تُعبّر عن غاية الجهل، وتولّد الكثير من المفاسد، لذا لا يمكن أن تكون نتيجة للخوف من الحقّ تعالى، فهذا الخوف من جنود العقل ومن عوامل إصلاح النّفوس، وهو يقابل الجرأة على الحقّ تعالى، بل إنّ "الخلوة" التي يذكرها أهل المعرفة لا تعني العزلة واعتزال النّاس في الأصل، بل إنّ المراد منها هو عزل القلب عن الانشغال بغير الحقّ تعالى، أجل قد لا يتحقّق ذلك أحيانًا إلّا بمرتبة من الاعتزال وترك الاختلاط، ولكن هذا أيضًا ليس من الرّهبانيّة، بل هو أمرٌ راجح عقلًا وشرعًا. وملخّص القول هو أنّ الرّهبة التي هي من جنود العقل، تعني الخوف من الحقّ تعالى، وهذا الخوف لا ينافي الرّجاء والأمل برحمة الله، فالرّجاء هو أيضًا من جنود العقل يقابل القنوط. وقد تقدّم توضيح ذلك"3.
الرهبة غير مختصرة بالدنيا
إنّ عمق هذه الفضيلة وأصلها وأسّها هو فيما يعود إلى رابطة العبد بالرّبّ المتعال ونظرته إليه وإيمانه به، بالإضافة إلى أحواله القلبيّة.
ولأنّ حقيقة الألوهيّة المتجلّية بأسماء الجمال والجلال لا تزول ولا تفنى ولا تنحصر بهذه الحياة الدّنيا، فإنّ كل انفعال صادق بها لن يكون محصورًا بهذه الحياة أيضًا. وإذا كانت الرّهبة والخوف من الله تعالى ناشئة من ملاحظة الجلال، فهي مقام سنيّ وكمال معنويّ وليس مجرّد عمل مرتبط بهذه النّشأة:
لهذا يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ولا انقطاع للخوف والرّجاء وهما من التجلّيات الأسمائيّة ـ فلا يزولان بزوال دار الطّبيعة ورحيل النّفوس الشّريفة لأصحاب تلك القلوب عن هذا العالم، أجل إنّ ظهورهما وآثارهما في كلّ نشأة تكون على نحو معيّن خاص بتلك
1 مستدرك الوسائل، ج14، ص 155.
2 التهذيب، ج4، ص 191.
3 جنود العقل والجهل، ص 295.
249
203
الدرس الثامن عشر: الرهبة من الله (1) - معنى الرهبة، درجاتها وعلاماتها
رهبانيّة في الإسلام"1، وفي الحديث أيضًا أنّ رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أريد أن أترهّب. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تفعل! وإن تَرَهُّبَ أمّتي القعودُ في المساجد"2.
فالرّهبانيّة بمعنى العزلة عن النّاس واعتزال النّساء وتعطيل القوى الإلهيّة الكريمة التي أنعم الله بها على الإنسان، تُعبّر عن غاية الجهل، وتولّد الكثير من المفاسد، لذا لا يمكن أن تكون نتيجة للخوف من الحقّ تعالى، فهذا الخوف من جنود العقل ومن عوامل إصلاح النّفوس، وهو يقابل الجرأة على الحقّ تعالى، بل إنّ "الخلوة" التي يذكرها أهل المعرفة لا تعني العزلة واعتزال النّاس في الأصل، بل إنّ المراد منها هو عزل القلب عن الانشغال بغير الحقّ تعالى، أجل قد لا يتحقّق ذلك أحيانًا إلّا بمرتبة من الاعتزال وترك الاختلاط، ولكن هذا أيضًا ليس من الرّهبانيّة، بل هو أمرٌ راجح عقلًا وشرعًا. وملخّص القول هو أنّ الرّهبة التي هي من جنود العقل، تعني الخوف من الحقّ تعالى، وهذا الخوف لا ينافي الرّجاء والأمل برحمة الله، فالرّجاء هو أيضًا من جنود العقل يقابل القنوط. وقد تقدّم توضيح ذلك"3.
الرهبة غير مختصرة بالدنيا
إنّ عمق هذه الفضيلة وأصلها وأسّها هو فيما يعود إلى رابطة العبد بالرّبّ المتعال ونظرته إليه وإيمانه به، بالإضافة إلى أحواله القلبيّة.
ولأنّ حقيقة الألوهيّة المتجلّية بأسماء الجمال والجلال لا تزول ولا تفنى ولا تنحصر بهذه الحياة الدّنيا، فإنّ كل انفعال صادق بها لن يكون محصورًا بهذه الحياة أيضًا. وإذا كانت الرّهبة والخوف من الله تعالى ناشئة من ملاحظة الجلال، فهي مقام سنيّ وكمال معنويّ وليس مجرّد عمل مرتبط بهذه النّشأة:
لهذا يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ولا انقطاع للخوف والرّجاء وهما من التجلّيات الأسمائيّة ـ فلا يزولان بزوال دار الطّبيعة ورحيل النّفوس الشّريفة لأصحاب تلك القلوب عن هذا العالم، أجل إنّ ظهورهما وآثارهما في كلّ نشأة تكون على نحو معيّن خاص بتلك
1 مستدرك الوسائل، ج14، ص 155.
2 التهذيب، ج4، ص 191.
3 جنود العقل والجهل، ص 295.
249
204
الدرس الثامن عشر: الرهبة من الله (1) - معنى الرهبة، درجاتها وعلاماتها
النّشأة... لذا فإنّ ما ذكره الفيلسوف الإسلاميّ العظيم، والحكيم الإيمانيّ الجليل1 ـ رضوان الله عليه ـ في شرحه لأصول الكافي في ذيل هذه الفقرة من الحديث الشّريف من أنّ الخوف ليس من الفضائل والكمالات العقليّة الباقية في النّشأة الآخرة، وأنّه يزول بزوال دار العمل، لا يرتبط بهذا النّوع من الخوف الذي هو من تجلّيات الجلال، وذلك لأنّ التجلّيات تكون أسمى وأكمل بعد ارتفاع الاشتغال بعالم الطبيعة، ولأنّ النّفوس والأرواح كلّما توغّلت في غلاف الطبيعة اشتدّ حرمانها من هذه التجلّيات. كما أنّ هذا الخوف ليس من سنخ العذاب وجنس العقاب ليتعارض مع النّشأة الآخرة. أجل، من المحتمل أن يتغلّب التجلّي باللطف والرّحمة على التجلّي بالجلال والرّحمة لجميع النّفوس والأرواح الكاملة في عالم الآخرة فيزول عنها الخوف حينئذٍ، ولكن تحقيق الأمر هو أنّ من الثابت عند أولي القلوب الحيّة وأهل المعرفة أنّ في باطن كل اسم من أسماء الجمال جلالاً، وفي باطن كل اسم من أسماء الجلال جمالاً. لذلك فإنّ الأنس يحصل بعد التجلّيات الجلالية، وبالتالي فإنّ الخوف الحاصل من تجلّي العظمة يتبدّل إلى طمأنينة وسكينة، أي أنّ الخوف ـ وهو من التجلّيات الابتدائيّة لأسماء الجلال ـ ينقطع ويزول ويحل محلّه الأنس والطمأنينة والمحبّة. والله العالم. (ولكن) ينبغي الالتفات إلى أنّ انقطاع الخوف المذكور هنا يختلف عن انقطاع الخوف الذي ذكره الفيلسوف المذكور وبعض الشرّاح والمحدّثين الأجلّاء، لأنّ الانقطاع هنا ليس على نحو الانقطاع الحقيقيّ، بل هو رجوع الظاهر إلى الباطن والصورة إلى المعنى، وتفصيل ذلك خارج عن مهمّة هذه الرّسالة"2.
درجات الرّهبة
وبعد أن اتّضح معنى الخوف والرّهبة من الله، وحيث أنّ الأمر يرتبط بالمعرفة، فإنّ الخوف سيكون على درجات بحسب درجات المعرفة وشدّة حضورها في القلب، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ينبغي إجمالًا معرفة أنّ اختلاف درجات الخوف ناتج من اختلاف درجات العبّاد والسّالكين إلى الله. ومن اختلاف درجات المعرفة"3.
1 هو الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر الدين الشيرازي، المعروف بالملا صدرا.
2 جنود العقل والجهل، ص 140-141.
3 (م.ن)، ص 296.
250
205
الدرس الثامن عشر: الرهبة من الله (1) - معنى الرهبة، درجاتها وعلاماتها
الدرجة الأولى: خوف العقاب والعذاب
"وهذا خوف العامّة، وأكثر الخائفين هم من أهل هذه الدّرجة. ويُلحق بها الخوف من فقدان الثّواب واللذات المحبوبة، فلا ينبغي اعتبار هذه المرتبة خوفًا من الله تعالى، مثلما أنّ العبادة بدافع هذه المرتبة من الخوف ليست خالصة، وقد وصفتها الأحاديث الشّريفة بأنّها عبادة العبيد، وعبادة الأُجراء.
وما دام الإنسان في أسر النّفس وشهواتها وحبّها والعجب بها، أي ما دامت صبغته نفسانية، وهذه هي صبغة الشيطان، فلن تكون طاعته وعبادته عبادةً لله، ولن تكون رهبته رهبةً من الله ولا رغبته رغبة في الحقّ تعالى، بل تكون جميع أعماله الشّكليّة والمعنويّة والظاهريّة والقلبيّة، أعمالًا للنّفس مصطبغةً بالصّبغة النّفسانيّة الشّيطانيّة"1.
الدرجة الثانية: خوف الخاصّة
"وهو الخوف من العتاب فأصحابه يخافون الابتعاد عن ساحة المولى القدسية فيُعاتبون على ذلك ويُحرمون اللطف الإلهيّ بسببه. لقد تنزّه هؤلاء عن اللذات الحيوانيّة والشّهوات الطّبيعيّة لكن أرواحهم ما تزال تتطلّع إلى اللذات المعنويّة، فهم يطلبون قرب المنزلة والمقام، وما دام هذا الطّلب من أجل أنفسهم، فهو لا يخلص من دين الله الذي ينبغي أن يكون خالصًا من الشّوائب: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾2"3.
الدّرجة الثّالثة: خوف أخصّ الخواص
"وهو الخوف من الاحتجاب، وأصحابه لا يتطلّعون إلى العطايا، فالشّوق للحضور الإلهيّ ولذته، قطعهم عن كلا العالمين، ولكن ما تزال للصّبغة النفسانيّة وللأنانيّة باقية فيهم، لأنّهم يريدون المشاهدة والحضور من أجل أنفسهم، لذلك لا يمكن اعتبار طلبهم هذا معبّرًا عن حبّ الله الحقيقيّ والإخلاص الحقيقيّ، ولكن ذلك مقام سامٍ عظيم لا يتيسّر الوصول إليه إلّا للخُلَّص من أهل المعرفة، فلا سبيل أمامنا ــ نحن المحجوبين وأمثالنا ــ للطّمع في هذه الدّرجة بل وفيما دونها"4.
1 جنود العقل والجهل، ص 297.
2 سورة الزّمر، الآية 3.
3 جنود العقل والجهل، ص 297.
4 (م.ن)، ص 297-298.
251
206
الدرس الثامن عشر: الرهبة من الله (1) - معنى الرهبة، درجاتها وعلاماتها
الدرجة الرابعة: خوف الأولياء
"الذين تطهّروا من صبغة الإنّية والأنانية، واصطبغوا بصبغة الله ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً﴾1، فالرهبةُ في هؤلاء نتيجة تجلّيات الجمال والجلال، التي تسطع على قلوبهم الصّافية. ويجدر التنبُّه هنا إلى أنّ في كلّ جمالٍ يكمن جلالٌ وعظمة، لذلك فإنّ التجلّي الجماليّ يولّد الرّهبة والخوف، وهذا الخوف من العظمة ينقسم بصورة عامّة إلى ثلاث مراتب لأنّه يتولّد من التجلّيات الأفعاليّة والأسمائيّة والذاتيّة... والرّهبة الحقيقيّة والخوف الحقيقيّ، عبارة عن هذه الدّرجة الخالصة من شوائب النّفسانيّة والأنانيّة"2.
"وتقابل كلّ درجة من درجات الرّهبة، درجة من درجات الجرأة، فتقابل الدّرجة الأولى درجة الجرأة على المعاصي، وتقابل الثانية درجة الجرأة على الزلّات والأخطاء، وتقابل الثالثة الجرأة على الدّخول في الحجب طواعية، وتقابل الرابعة الجرأة على رؤية النفس والصبغة النفسانية الشيطانية ذاتاً وصفة وفعلاً"3.
علامات الخوف والرّهبة
لا شكّ بأنّ الرّهبة أمرٌ يدركه الوجدان، ولا يحتاج إلى دليل أو برهان. وأشهر علامات الرّهبة هي ما ذُكر في الأحاديث الشّريفة الصّادرة من معادن العلم والعرفان، وما بيّنه الإمام قدس سره:
1- ارتعاد القلوب من نور عظمة الله
"إنّ الذين خرقوا هذه الحجب وظهرت لقلوبهم تجلّيات عظمة الحقّ ــ عَظُمَ شأنه ـ ترتعد قلوبهم ويُغشى عليهم من نور عظمته وسطوته وجلاله دونما التفات إلى النّفع والضّرر، ولا إلى جهنّم والجنة، وتصفرّ ألوان هؤلاء الأولياء عليهم السلام عند الصّلاة التي هي ميعاد حضورهم ومعراج قربهم فيرتعدون ويذهلون عن كلّ شيءٍ"4.
1 سورة البقرة، الآية 138.
2 جنود العقل والجهل، ص 298.
3 (م.ن).
4 (م.ن)، ص 299.
252
207
الدرس الثامن عشر: الرهبة من الله (1) - معنى الرهبة، درجاتها وعلاماتها
2- قيام الليل
ينقل الإمام الخميني قدس سره في كتاب الأربعون حديثًا، حديث عَنْ عَلِيٍّ بْنِ إبْرَاهيمَ: "بِإسْنادِهِ عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قالَ: "ما مِنْ عَمَلِ حَسَنٍ يَعْمَلَه العَبْدُ إلاّ وَلَهُ ثَوابٌ فِي القُرْآنِ إلاّ صَلاةَ اللَّيْلِ فَإنَّ الله لَمْ يُبّيِّنْ ثَوابَها لِعَظِيم خَطَرِهَا عِنْدَهُ"، فَقال: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾"1.
3- وجل القلوب
ويقول الإمام قدس سره: "مثلا يقول الله تعالى في سورة الانفال في الآية الشريفة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾2، فلا بد للسالك من أن يلاحظ هل هذه الاوصاف الثلاثة تنطبق عليه؟ وهل أن قلبه يوجِلُ اذا ذكر الله ويخاف؟ واذا تليت عليه الآيات الشريفة الالهية هل يزداد نور الايمان في قلبه؟ وكذلك اعتماده وتوكله على الحق تعالى؟ أم أنه عن كل هذه المراتب متأخر، ومن كل هذه الخصائص محروم؟ فإن أراد أن يفهم أنه من الحق تعالى خائف وقلبه من خوف الله وجل فلينظر إلى أعماله"3.
4- عدم التّجاسر في محضر الحقّ
"الانسان الخائف لا يتجاسر في محضر الكبرياء على مقامه المقدّس ولا يهتك الحرمات الإلهيّة في حضور الحقّ، واذا قوي الايمان بتلاوة الآيات الالهيّة يسري نور الايمان إلى المملكة الظّاهريّة أيضًا، فمن غير الممكن أن يكون القلب نورانيًّا ولا يكون اللسان والكلام والعين والنظر والأذن والاستماع نورانيًّا"4.
فاتّضح من هذه الشّواهد أنّ للرّهبة علامات تظهر في الأعضاء والجوارح وفي التّقوى والورع وفي صلاة الليل وغيرها.
1 وسائل الشّيعة، ج8، ص 163.
2 سورة الأنفال، الآية 2.
3 معراج السالكين، ص 217.
4 (م.ن)، ص 217.
253
208
الدرس الثامن عشر: الرهبة من الله (1) - معنى الرهبة، درجاتها وعلاماتها
المفاهيم الرئيسة
1- إنّ الرّهبة من جنود العقل ومن عوامل إصلاح النّفوس، وهي تعني الخوف من الحقّ تعالى، وهي بذلك تقابل الجرأة على الحقّ تعالى، إلّا أنّها لا تنافي الرّجاء والأمل بالله تعالى.
2- لا تعُدّ الرّهبانيّة ـ بمعنى العزلة عن النّاس وتعطيل القوى الإلهيّة الكريمة التي أنعم الله بها على الإنسان ــ من مظاهر الخوف من الحقّ تعالى، لأنّها تُعبّر عن غاية الجهل، وتولّد الكثير من المفاسد. أمّا "الخلوة" التي يذكرها أهل المعرفة فهي تعني عزل القلب عن الانشغال بغير الحقّ تعالى، لا اعتزال النّاس.
3- إنّ عمق هذه الفضيلة وأصلها هو فيما يعود إلى رابطة العبد بالرّبّ المتعال ونظرته إليه وإيمانه به، بالإضافة إلى أحواله القلبيّة، فهي ناشئة من ملاحظة الجلال، وهو مقامٌ سنيّ وكمالٌ معنويّ وليس مجرّد عمل مرتبط بهذه النّشأة، لأنّ حقيقة الألوهيّة المتجلّية بأسماء الجمال والجلال لا تزول ولا تفنى ولا تنحصر بهذه الحياة الدّنيا.
4- تختلف درجات الرّهبة باختلاف عمق المعرفة القلبيّة بالله تعالى، ومن هذه الدّرجات:
- خوف العقاب والعذاب.
- خوف الخاصّة وهو الخوف من الابتعاد عن ساحة المولى القدسية فيُعاتبون على ذلك.
- خوف أخصّ الخواص وهو الخوف من الاحتجاب.
- خوف الأولياء وهو الخوف نتيجة تجلّيات الجمال والجلال التي تسطع على قلوبهم الصّافية.
5- للرّهبة علامات منها: وجل القلب في محضر الحقّ واصفرار الوجه، قيام الليل، ازدياد الإيمان عند تلاوة الآيات الإلهيّة، التوكّل على الله، عدم التّجاسر في محضر الحقّ وهتك حرماته.
254
209
الدرس الثامن عشر: الرهبة من الله (1) - معنى الرهبة، درجاتها وعلاماتها
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ إِنَّكَ خَلَقْتَنِي سَوِيّاً، وَرَبَّيْتَنِي صَغِيراً، وَرَزَقْتَنِي مَكْفِيّاً اللَّهُمَّ إِنِّي وَجَدْتُ فِيمَا أَنْزَلْتَ مِنْ كِتَابِكَ، وَبَشَّرْتَ بِهِ عِبَادَكَ أَنْ قُلْتَ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنِّي مَا قَدْ عَلِمْتَ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، فَيَا سَوْأَتَا مِمَّا أَحْصَاهُ عَلَيَّ كِتَابُكَ فَلَوْلاَ الْمَوَاقِفُ الَّتِي أُؤَمِّلُ مِنْ عَفْوِكَ الَّذِي شَمِلَ كُلَّ شَيْءٍ لأَلْقَيْتُ بِيَدِي، وَلَوْ أَنَّ أَحَداً اسْتَطَاعَ الْهَرَبَ مِنْ رَبِّهِ لَكُنْتُ أَنَا أَحَقَّ بِالْهَرَبِ مِنْكَ، وَأَنْتَ لاَ تَخْفَى عَلَيْكَ خَافِيَةٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ إلاَّ أَتَيْتَ بِهَا، وَكَفَى بِكَ جَازِياً، وَكَفَى بِكَ حَسِيباً. اللَّهُمَّ إِنَّكَ طَالِبِي إِنْ أَنَا هَرَبْتُ، و مُدْرِكِي إِنْ أَنَا فَرَرْتُ، فَهَا أَنَا ذَا بَيْنَ يَدَيْكَ خَاضِعٌ ذَلِيلٌ رَاغِمٌ، إِنْ تُعَذِّبْنِي فَإِنِّي لِذَلِكَ أَهْلٌ، وَهُوَ يَا رَبِّ مِنْكَ عَدْلٌ، وَإِنْ تَعْفُ عَنِّي فَقَدِيماً شَمَلَنِي عَفْوُكَ، وَأَلْبَسْتَنِي عَافِيَتَكَ فَأَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ بِالْمَخْزُونِ مِنْ أَسْمَائِكَ، وَبِمَا وَارَتْهُ الْحُجُبُ مِنْ بَهَائِكَ، إلاَّ رَحِمْتَ هَذِهِ النَّفْسَ الْجَزُوعَةَ، وَهَذِهِ الرِّمَّةَ الْهَلُوعَةَ، الَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ حَرَّ شَمْسِكَ، فَكَيْفَ تَسْتَطِيعُ حَرَّ نَارِكَ، وَالَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ صَوْتَ رَعْدِكَ، فَكَيْفَ تَسْتَطِيعُ صَوْتَ غَضَبِكَ فَارْحَمْنِيَ اللَّهُمَّ فَإِنِّي امْرُؤٌ حَقِيرٌ، وَخَطَرِي يَسِيرٌ، وَلَيْسَ عَذَابِي مِمَّا يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَوْ أَنَّ عَذَابِي مِمَّا يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ لَسَأَلْتُكَ الصَّبْرَ عَلَيْهِ، وَ أَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَكَ، وَ لَكِنْ سُلْطَانُكَ اللَّهُمَّ أَعْظَمُ، وَ مُلْكُكَ أَدْوَمُ مِنْ أَنْ تَزِيدَ فِيهِ طَاعَةُ الْمُطِيعِينَ، أَوْ تَنْقُصَ مِنْهُ مَعْصِيَةُ الْمُذْنِبِينَ فَارْحَمْنِي يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَ تَجَاوَزْ عَنِّي يَا ذَا الْجَلاَلِ وَ الإِكْرَامِ، وَ تُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾2.
2- ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾3.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ"4.
1 الإمام السجّاد، الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام في الرّهبة.
2 سورة البقرة، الآية 40.
3 سورة الأعراف، الآية 154.
4 وسائل الشّيعة، ج1، ص 63.
255
210
الدرس الثامن عشر: الرهبة من الله (1) - معنى الرهبة، درجاتها وعلاماتها
2- وَقَالَ الإمام الصَّادِقُ عليه السلام: "لَا تَجْتَمِعُ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ فِي قَلْبٍ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَإِذَا صَلَّيْتَ فَأَقْبِلْ بِقَلْبِكَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يُقْبِلُ بِقَلْبِهِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي صَلَاتِهِ وَدُعَائِهِ إِلَّا أَقْبَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ بِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ وَأَيَّدَهُ مَعَ مَوَدَّتِهِمْ إِيَّاهُ بِالْجَنَّةِ"1.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وَبِاللَّهِ لَوِ انْمَاثَتْ قُلُوبُكُمُ انْمِيَاثاً وَسَالَتْ عُيُونُكُمْ مِنْ رَغْبَةٍ إِلَيْهِ وَرَهْبَةٍ مِنْهُ دَماً ثُمَّ عُمِّرْتُمْ فِي الدُّنْيَا مَا كَانَتِ الدُّنْيَا بَاقِيَةً مَا جَزَتْ أَعْمَالُكُمْ وَلَوْ لَمْ تُبْقُوا شَيْئاً مِنْ جُهْدِكُمْ لِنِعَمِهِ الْعِظَامِ عَلَيْكُمْ وَهُدَاهُ إِيَّاكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ مَا كُنْتُمْ لِتَسْتَحِقُّوا أَبَدَ الدَّهْرِ مَا الدَّهْرُ قَائِمٌ بِأَعْمَالِكُمْ جَنَّتَهُ وَلَا رَحْمَتَهُ وَلَكِنْ بِرَحْمَتِهِ تُرْحَمُونَ وَبِهُدَاهُ تَهْتَدُونَ وَبِهِمَا إِلَى جَنَّتِهِ تَصِيرُون"2.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا أَدْبَرَتْ وَآذَنَتْ بِوَدَاعٍ وإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَ أَشْرَفَتْ بِاطِّلَاعٍ أَلَا وَإِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارَ وَغَداً السِّبَاقَ وَالسَّبَقَةُ الْجَنَّةُ وَالْغَايَةُ النَّارُ... أَلَا فَاعْمَلُوا فِي الرَّغْبَةِ كَمَا تَعْمَلُونَ فِي الرَّهْبَةِ"3.
1 من لا يحضره الفقيه، ج1، ص 209.
2 (م.ن)، ص 518.
3 (م.ن)، ص 71.
256
211
الدّرس التاسع عشر: الرهبة من الله (2) - آثار الرهبة وكيفية تحصيلها
الدّرس التاسع عشر: الرهبة من الله (2) - آثار الرهبة وكيفية تحصيلها
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن علاقة الرّهبة في إصلاح النّفس والجدّ في العمل.
2- يتعرّف إلى بعض نماذج الرّاهبين القدوة.
3- يشرح السّبيل لكيفيّة امتلاك هذه الفضيلة.
257
212
الدّرس التاسع عشر: الرهبة من الله (2) - آثار الرهبة وكيفية تحصيلها
تمهيد
الشخصيّة الرّاهبة تدرك مظاهر جلال الله وقاهريّته في الحياة. فيمنعها ذلك من الغفلة والتوجّه إلى سفاسف الأمور وسخائف الدّنيا.
ففي قلب الرّاهب الحقيقيّ تفور بحار الخوف من الله تعالى. هذا الخوف لا ينشأ من إدراك نقمة الله وشدّته، بل في سطوة جلاله وهيبة جماله.
فكيف لا يرهب إلى الله من عرف شيئًا من الفرق بين الخالق والمخلوق. وهل يمكن لقلب أن يستقرّ ويركن إلى هذه الدّنيا وهو يعلم ما ينتظره في الحياة الآخرة.
ثمار الرّهبة
1- الاجتهاد
"ثمرة الخوف من الله الاجتهاد في القيام بأمر الله والمواظبة على طاعته"1. فلو لم يكن من ثمرة سوى هذه لكانت كافية لبلوغ أعلى مراتب القرب. "وقال بعض أنّ الخوف في بعض الأحيان أنفع للإنسان مثل أيّام الصحّة والعافية، حتى يجهد الإنسان نفسه في كسب الكمال والعمل الصالح"2.
2- الجنّة
يروي الإمام الخميني قدس سره حديثًا عن الإمام الصّادق عليه السلام في كتاب معراج السّالكين حيث يقول: "لا تجتمع الرّغبة والرّهبة في قلب إلا وجبت له الجنّة، فإذا صلّيت فأقبل بقلبك إلى الله عزّ وجلّ فإنه ليس من عبدٍ يقبل بقلبه على الله عزّوجلّ في صلاته ودعائه إلا أقبل الله عليه بقلوب المؤمنين وأيّده مع مودّتهم إيّاه بالجنة"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 135.
2 الأربعون حديثًا، ص 266.
3 من لا يحضره الفقيه، ج1، ص 209.
259
213
الدّرس التاسع عشر: الرهبة من الله (2) - آثار الرهبة وكيفية تحصيلها
3- إصلاح النّفس وعلاجها
"إنّ الانكسار والحزن مضافًا إلى أنّهما ينيران القلب ويجلّيانه، يكونان مبدءًا لإصلاح النّفس، ومنشأً للنّهوض بوظائف العبوديّة. ومن علامات هذا العالم الرّبّاني أنّه رغم قيامه الكامل بوظائف العبوديّة يعيش حالة الفزع، لأنّ نور العلم يهديه إلى أنّه كلّما أدّى وظائفه، يشعر بأنّه قاصر أو مقصّر، وأنه لا يستطيع أن يخرج من مسؤولية شكر نعمه وحقيقة عبادته. فيكون قلبه مملوءًا من الخوف والخشية. وقد قال الحقّ جلّ جلاله فيهم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾1"2.
"الخوف من الحقّ جلّ وعلا من المنازل التي قلّما نستطيع أن نجد للعوام من النّاس منزلة وفضيلة في مستوى منزلة الخوف من الحقّ سبحانه. وهذا الخوف مضافًا إلى أنّه يكون من الكمالات المعنويّة، يُعتبر منشأً لكثيرٍ من الفضائل النّفسيّة، وعاملًا هامًّا لإصلاح النّفس، بل مصدر جميع الإصلاحات للنّفس، ومبدأ لعلاج جميع الأمراض الرّوحيّة. ويجب على الإنسان المؤمن بالله، السّالك والمهاجر إلى الله، أن يهتم كثيرًا بهذه المنزلة، وأن يُقبل بوجهه أكثر فأكثر على ما يبعث الخشية من الله في القلب، ويعمّق جذوره فيه، مثل التفكّر في العذاب والعقاب وشدّة أهوال الموت وبعد الموت من عالم البرزخ والقيامة، والصراط والميزان والحساب وألوان عذاب جهنّم، ومثل التذكّر لعظمة الحقّ المتعالي وجلاله وقهره وسلطانه ومكره وسوء العاقبة وأمثال ذلك"3.
4- التّقوى
"الخوف من الحقّ المتعالي يوجب خشية النّفس وتقواها وهي بدورها تؤدّي إلى قبول الأعمال"4.
1 سورة فاطر، الآية 28.
2 الأربعون حديثًا، ص 412.
3 (م.ن)، ص 513.
4 (م.ن)، ص 358.
260
214
الدّرس التاسع عشر: الرهبة من الله (2) - آثار الرهبة وكيفية تحصيلها
نماذج للرّاهبين
لقد طرح البعض فكرة "محبّة الله" لينفي بذلك أن يكون هناك معنًى للخوف من الله تعالى. لكن هناك من يتمسّك بأفكار أخرى لكي يجعل الرّهبة فاقدة للأهميّة في النّفوس. وبعض هذه الأفكار ناشئ من التّفسير الخاطئ أو النّاقص للشّفاعة، ويرون أنّ الشّفاعة كفيلة بإنقاذ الإنسان من تبعات آثامه طالما أنّه محبّ لأهل البيت عليهم السلام. ثمّ نجدهم يسترسلون إلى ما هو أبعد من ذلك قائلين: إذا كان الشّفيع منقذًا فلا شكّ بانّه أعظم الآمنين من سطوة الله وعقابه. وإنّما نشأت مثل هذه الفكرة بسبب الجهل بمقام الربّ المتعال وعظيم شأنه من جهة، وحصر الخوف بمعانٍ محدودة ضيّقة. وإليكم بعض النّماذج أو الشّواهد حول مقامات خوف الكاملين ورهبة الواصلين. يقول الإمام الخميني قدس سره: "في ليلة المعراج كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يُغشى عليه عند مشاهدة كل جلوة من جلوات العظمة، ثمّ يفيق بجلوةٍ من جلوات الأنس والرّحمة في كلّ مرة. ولا سبب للخوف في ذلك المقام سوى مشاهدة العظمة فلا اسم ولا صورة للخوف من العذاب والعقاب، بل إنّ الحاكم على وجوده صلى الله عليه وآله وسلم كان فطرة العشق والمحبّة بتمام حقيقتها، وفطرة الرّهبة والرّغبة بكلّ معناها خالية بالكامل من شوائب الاحتجاب، وحكم الفطرة لا يفترق عن حكم الحقّ جلّ وعلا"1.
"إن أولياء الله لم يخلدوا إلى الرّاحة أبدًا، وكانوا دائمي الخوف من هذه الرّحلة المحفوفة بالمخاطر. إنّ حالات عليّ بن الحسين عليه السلام، الإمام المعصوم، تثير الحيرة. وأنين أمير المؤمنين علي عليه السلام، الوليّ المطلق، تبعث على الدّهشة. ما الذي جرى لنكون على هذا القدر من الغفلة؟ من الذي جعلنا نطمئن؟ إنّه لا يغرينا أحد بتأجيل عمل اليوم إلى الغد إلّا الشّيطان. إنّه يريد أن يزيد من أعداد أنصاره وأعوانه، وأن يجعلنا نتخلّق بأخلاقه حتى نُحشر مع أتباعه"2.
1 جنود العقل والجهل، ص 299-300.
2 الأربعون حديثًا، ترجمة محمد الغروي، دار التّعارف للمطبوعات، الطبعة الخامسة، 1996م، ص 178.
261
215
الدّرس التاسع عشر: الرهبة من الله (2) - آثار الرهبة وكيفية تحصيلها
"تفكّر في حالات عليّ بن الحسين ومناجاته مع الحقّ تعالى وأدعيته اللطيفة التي تعلّم عباد الله آداب العبودية. لا أقول أنّ مناجاتهم عليهم السلام كانت لتعليم العباد، فإنّ هذا الكلام الأجوف الباطل يصدر من الجهل بمقام الرّبوبيّة ومعارف أهل البيت، فإنّ خوفهم وخشيتهم كانت أكثر من جميع الناس، وقد تجلّت عظمة الحقّ وجلاله في قلوبهم أكثر من الكلّ، ولكنّي أقول: لابدّ أن يتعلّم عباد الله منهم كيفيّة العبوديّة والسّلوك إلى الله تعالى. فإذا قرؤوا أدعيتهم ومناجاتهم فلا تكون القراءة لقلقة لسان، بل يتفكّروا في كيفيّة تعاملهم مع الحقّ وإظهارهم التذلّل والعجز والحاجة للذّات المقدّسة"1.
"ماذا حدث لنا لكي نبقى إلى هذا الحدّ في نوم الغفلة والجهالة؟! أنزلت علينا مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجبرائيل الملائكة أعطتنا الأمان من عذاب الله؟! في حين أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ّ وأولياء الله، لم يقرّ لهم قرار إلى آخر أعمارهم من خوف الله، لم يكن لهم نومٌ ولا طعام؟ عليّ بن الحسين وهو إمام معصوم، يقطع القلوب بنحيبه وتضرعه ومناجاته وعجزه وبكائه، فماذا دهانا وصرنا لا نستحي أبدا فنهتك في محضر الربوبية كل هذه المحرمات والنواميس الإلهية؟ فويل لنا من غفلتنا، وويل لنا من شدة سكرات الموت، وويل لحالنا في البرزخ وشدائده، وفي القيامة وظلماتها ويا ويل لحالنا في جهنم وعذابها وعقابها. إذا كانت أعمال الإنسان لأجل رضا الله فقط أو لإستحصال رحمته أو خوفا من النار وشوقًا إلى الجنة، فلماذا يرغب في أن يمدحه الناس على كلّ عمل من أعماله؟"2.
كيفيّة تحصيل مقام الرّهبة
قد علمنا أنّ الخوف من الله ينشأ من إدراك عظمة الحقّ تعالى وجلاله بشرط وجود الاستعداد القلبيّ، وإنّ الله تعالى قد ملأ أركان الوجود بآيات عظمته وجلاله، وما على الإنسان سوى أن يتفكّر فيها عسى أن يقذف الله في قلبه أنوار معرفته.
1 معراج السالكين، ص 163.
2 الأربعون حديثًا، ص 48.
262
216
الدّرس التاسع عشر: الرهبة من الله (2) - آثار الرهبة وكيفية تحصيلها
1- تصفية الفطرة
إذا كانت الجرأة ضدّ الرّهبة، وكانت "الجرأة على الله لا تحدث في أيّ مرتبة من مراتبها إلّا بسبب احتجاب الفطرة"1، فإنّ الرّهبة تُنال بتصفية النّفس لتصبح مستعدّة لتلقّي أنوار الفطرة، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم، أنّ التعظيم والرّهبة منه (من الله)، من الأمور الفطريّة المخمّرة في جبلّة جميع أفراد العائلة البشريّة، ولو فُتشتْ قلوبهم جميعًا لما وُجِدَ مَنْ شذّ عنها فهم ــ وإن اختلفوا في تشخيص الموارد والمصاديق ــ إلّا أنهم متّفقون على أصل هذه الحقيقة الفطريّة. وتحصل الرّهبة والخوف من المقتدرين والسّلاطين والجبابرة حتّى عند الأمن من الضّرر، وهذه الحالُ ناشئة من فطرة تعظيم العظيم، ولذلك يستولي على من يحضر مجلس السّلطان العادل الشّعور بالصّغر والرّهبة والخوف حتّى لو لم تصدر منه أيّة معصية، بل إنّ الذين يشعرون بعظمةِ أحد العلماء تسيطر عليهم فطريًّا الرّهبة والخوف عند حضوره، رغم أنّهم يأمنون بالكامل الضّرر منه"2.
ويقول قدس سره: "أمّا ما نراه في قلوبنا نحن المحجوبين من انعدام الخوف والرّهبة من الحقّ ــ جلّت عظمته، فهو نتيجة عدم إدراكنا لعظمته، ونحن نتجرّأ على المولى جلّ وعلا لأنّ الفطرة فينا محجوبة بحجب الطّبيعة الغليظة"3.
2- امتلاك الاستعداد القلبيّ
"القلوب الخوفيّة (إشارة إلى الاستعداد القلبيّ) يتجلّى لها سلطان العظمة وتغلب عليها جذبة القهّاريّة وتجعلها في حالة الصّعق ويذوّبها الخوف والخشية، ويمنعها عن كلّ شيء القصور الذاتيّ واستشعار ذلّة نفسها وعجزها"4.
1 جنود العقل والجهل، ص 300.
2 (م.ن)، ص 298-299.
3 (م.ن)، ص 300.
4 معراج السالكين، ص 136.
263
217
الدّرس التاسع عشر: الرهبة من الله (2) - آثار الرهبة وكيفية تحصيلها
3- طلب العلم
"إنّ نور العلم يبعث على الخشية والحزن، وصاحبه رغم إقباله على إصلاح نفسه لا يقرّ له قرار من جرّاء خوفه من يوم القيامة، ويدفعه نحو الطّلب من الله في أن يصلحه، ويحذّره من الانشغال بغير الحقّ، ويبعده عن أهل زمانه، ويجعل هاجسه الخوف من أنّ أهل الدنيا قد يمنعونه من السّير إلى الله، والسّفر إلى عالم الآخرة، ويزيّنون الدنيا ولذائذها في عينه. والحقّ سبحانه يؤيّد مثل هذا الإنسان، ويقوّي وجوده وينعم عليه بالأمان يوم القيامة"1.
4. مشاهدة القصور والتّقصير الذاتيّ
"إذا رأينا الضّعف والفتور والمسكنة والفقر والذلّة في أنفسنا، والعظمة والأبّهة والجلال والكبرياء في الذات المقدسة، فنقع في الخوف والخشية من خطر هذا المقام، واذا وجدنا الرّحمة والعطوفة والألطاف غير المتناهية والكرامات اللانهائية نكون راجين وآملين"2.
"والسالك لابدّ له أن يفهّم قلبه في جميع فصول الأذان والاقامة عظمة المحضر والحضور والحاضر ويجعل ذلّ نفسه وعجزها وقصورها نصب عينيه حتى يحصل الخوف والخشية، ومن الجانب الآخر لابدّ أن يريه الرّحمة الواسعة والألطاف الكريمة حتّى يحصل له الرّجاء والشّوق"3.
5- التفرّغ لله
ينقل الإمام قدس سره في كتاب الأربعون حديثًا، حديث عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "فِي التَّوراةِ مَكْتوبٌ يَا بْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعبَاَدتِي أملأُ قَلْبَكَ غِنىً، وَلاَ أكِلُكَ إلى طَلَبكَ، وَعَلَيَّ أَنْ أَسُدَّ فَاقَتَكَ وَأمْلأَ قَلْبَكَ خَوْفاً منِّي. وَإِنْ لا تَفَرَّغْ لِعِبادَتِي أَمْلأ قَلْبَكَ شُغْلاً بِالدُّنْيَا ثُمَّ لا أسُدُّ فَاقَتَكَ وَأَكِلُكَ إِلَى طَلَبِكَ"4.
1 الأربعون حديثًا، ص 413.
2 معراج السالكين، ص 132.
3 (م.ن)، ص 136.
4 الكافي، ج2، ص 83.
264
218
الدّرس التاسع عشر: الرهبة من الله (2) - آثار الرهبة وكيفية تحصيلها
6- إدخال حقّانيّة القرآن إلى القلب
"نحن جميعًا نعلم أنّ القرآن الشّريف، تنزّل من معدن الوحي الإلهيّ بهدف تكميل الإنسان وتخليصه من سجن الطّبيعة والدّنيا المظلم، وأنّ وعده ووعيده هما جميعًا حقٌّ صريح وحقيقة ثابتة، وليس فيه أيّة شائبة من الباطن وما يخالف الواقع، ولكن رغم ذلك، فإنّ تأثير هذا الكتاب الإلهيّ العظيم في قلوبنا القاسية لا يبلغ تأثير كتاب قصّة فيها، فلا تتعلّق قلوبنا شوقًا بمواعيده الصّادقة لنخرج بذلك من التعلّق بهذه الدّنيا الدنيّة والنشأة الفانية، ونتطلّع إلى تلك الدّار الخالدة، ولا يصل فيها خوف وخشية من الوعيد والإنذار القرآنيّ، فنرتدع عن الذّنوب، ونتورّع عن معصية وليّ نعمتنا. ولا علّة لكلّ ذلك سوى أنّ حقيقة وحقّانيّة القرآن لم تدخل قلوبنا، ولم تنعقد عليها أفئدتنا. والإدراك العقليّ المجرّد قليل التّأثير جدًّا"1.
موعظة للإمام
"فيا أيّها الإِنسان المسكين، الذي لم تجنِ من عبادتك ومناسكك إلاّ البعد عن ساحة الله المقدّسة، والاستحقاق للعتاب والعقاب، علامَ اعتمادك؟ ولماذا لا يقلقك ولا يزعجك الخوف من شدّة بأس الحقّ؟ أعندك متّكأ تتّكئ عليه؟ أتثق بعملك وتطمئن إليه؟ إذا كان الأمر كذلك فالويل لك من معرفتك بحالك وحال مالك الملوك!"2.
1 جنود العقل والجهل، ص 95.
2 الأربعون حديثًا، ص 261.
265
219
الدّرس التاسع عشر: الرهبة من الله (2) - آثار الرهبة وكيفية تحصيلها
المفاهيم الرئيسة
1- ثمار الرّهبة:
- الاجتهاد في القيام بأمر الله.
- دخول الجنّة.
- إصلاح النّفس: فالخوف من الله مبدأ لعلاج جميع الأمراض الرّوحيّة.
- التّقوى وقبول الأعمال.
2- هناك من يتمسّك بأفكار لكي يجعل الرّهبة فاقدة للأهميّة في النّفوس، كالتّفسير الخاطئ أو النّاقص للشّفاعة والاعتقاد بأنّ الله محبة، وقد نشأت هذه الأفكار بسبب الجهل بمقام الربّ المتعال وعظيم شأنه من جهة، وحصر الخوف بمعانٍ محدودة ضيّقة.
3- نماذج الرّاهبين: الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام.
4- كيفيّة تحصيل مقام الرّهبة:
- التّفكّر بآيات عظمة الله وجلاله.
- امتلاك الاستعداد القلبيّ: غلبة الجذبة القهّارية على القلب التي تجعل الإنسان يستشعر القصور وذلّة النّفس.
- طلب العلم: الذي يبعث على الخوف والخشية ويدفع بالإنسان لإصلاح نفسه.
- مشاهدة القصور والتّقصير الذاتيّ.
- التفرّغ لله: تفريغ القلب للعبادة.
- تصفية الفطرة: الرّهبة من العظيم أمر فطريّ، فإذا صفت الفطرة وأدركت العظمة فإنّ الإنسان تلقائيًّا سوف يستشعر الرّهبة.
- إدخال حقّانيّة القرآن إلى القلب.
266
220
الدّرس التاسع عشر: الرهبة من الله (2) - آثار الرهبة وكيفية تحصيلها
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ وَصَلِّ عَلَى التَّابِعِينَ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَعَلَى أَزْوَاجِهِمْ وَعَلَى ذُرِّيَّاتِهِمْ وَعَلَى مَنْ أَطَاعَكَ مِنْهُمْ صَلاَةً تَعْصِمُهُمْ بِهَا مِنْ مَعْصِيَتِكَ، وَتَفْسَحُ لَهُمْ فِي رِيَاضِ جَنَّتِكَ، وَتَمْنَعُهُمْ بِهَا مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ، وَتُعِينُهُمْ بِهَا عَلَى مَا اسْتَعَانُوكَ عَلَيْهِ مِنْ بِرٍّ، وَتَقِيهِمْ طَوَارِقَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إلاَّ طَارِقاً يَطْرُقُ بِخَيْرٍ وَتَبْعَثُهُمْ بِهَا عَلَى اعْتِقَادِ حُسْنِ الرَّجَاءِ لَكَ، وَالطَّمَعِ فِيمَا عِنْدَكَ وَتَرْكِ التُّهَمَةِ فِيمَا تَحْوِيهِ أَيْدِي الْعِبَادِ لِتَرُدَّهُمْ إِلَى الرَّغْبَةِ إِلَيْكَ وَالرَّهْبَةِ مِنْكَ1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾2.
2- ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾3.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إِنِ اسْتَطَعْتُمْ عِبَادَ اللهِ أَنْ يَشْتَدَّ خَوْفُكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَيَحْسُنَ بِهِ ظَنُّكُمْ فَافْعَلُوهُ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا تَكُونُ طَاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ وَإِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ لِلهِ طَاعَةً أَشَدُّهُمْ لَهُ خَوْف"4.
2- قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "ثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ خَوْفُ اللهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَالْعَدْلُ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ وَثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ هَوًى مُتَّبَعٌ وَشُحٌّ مُطَاعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ"5.
1 الإمام السجّاد، الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام في الصّلاة على أتباع الرّسل.
2 سورة النحل، الآية 51.
3 سورة الأنبياء، الآية 90.
4 بحار الأنوار، ج33، ص 547.
5 وسائل الشّيعة، ج1، ص 105.
267
221
الدّرس التاسع عشر: الرهبة من الله (2) - آثار الرهبة وكيفية تحصيلها
3- قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "مَنْ عَرَفَ اللهَ خَافَ اللهَ وَمَنْ خَافَ اللهَ سَخَتْ نَفْسُهُ عَنِ الدُّنْيَا"1.
4- عن الإمام الصّادق عليه السلام: "نَجْوَى الْعَارِفِينَ تَدُورُ عَلَى ثَلَاثَةِ أُصُولٍ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ والْحُبِّ فَالْخَوْفُ فَرْعُ الْعِلْمِ وَالرَّجَاءُ فَرْعُ الْيَقِينِ وَالْحُبُّ فَرْعُ الْمَعْرِفَةِ فَدَلِيلُ الْخَوْفِ الْهَرْبُ وَدَلِيلُ الرَّجَاءِ الطَّلَبُ وَدَلِيلُ الْحُبِّ إِيْثَارُ الْمَحْبُوبِ عَلَى مَا سِوَاهُ فَإِذَا تَحَقَّقَ الْعِلْمُ فِي الصَّدْرِ خَافَ وَإِذَا خَافَ هَرَبَ وَإِذَا هَرَبَ نَجَا"2.
1 الكافي، ج2، ص 68.
2 مستدرك الوسائل، ج12، ص 168.
268
222
الدرس العشرون: الرجاء (1) - معنى الرجاء والفرق بينه وبين الغرور والطمع
الدرس العشرون: الرجاء (1) - معنى الرجاء والفرق بينه وبين الغرور والطمع
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يوضّح المعنى الدّقيق للرّجاء.
2- يشرح كيفيّة الجمع بين الخوف والرّجاء.
3- يبيّن الفرق بين الرّجاء والغرور والرّجاء والطّمع.
269
223
الدرس العشرون: الرجاء (1) - معنى الرجاء والفرق بينه وبين الغرور والطمع
تمهيد
قال الله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾1.
يعلم المؤمن الفقيه أنّ غاية الخلق معرفة الله. كيف لا وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾2، ويدرك المؤمن المتين أنّ كلّ الكمالات تحصل في ظلّ معرفة الله بالقلب والرّوح. لأنّ هذه المعرفة هي عين الاتّصال بمنبع الفضائل والخيرات.
ومن كان له نصيب من معرفة تجلّيات الحقّ وأسمائه يُدرك أنّ رحمة الله وسعت كلّ شيء ولا يسعها شيء. فهي أوسع الأشياء وأعظمها قدرًا. ومثل هذه الرّحمة مطلقة. فمهما بلغنا من إدراك مظاهرها نبقى عاجزين عن الإحاطة بها أو تحديدها.
ولا شكّ بأنّ لكلّ معرفة أثر في النّفس. فأعظم آثار معرفة الرّحمة وتجلّياتها في قلب العبد حصول حالة الرّجاء. فما هو الرّجاء؟ وما هو دوره في تهذيب النّفوس وتكميلها؟
ما هو الرّجاء؟
يقدّم الإمام الخمينيّ قدس سره، ومن أجل تعميق المفهوم وتمتينه، وصفًا دقيقًا لموقعيّة الرّجاء في حركة الإنسان المعنويّة وعلاقته بالأسباب التي ينبغي أن تنتهي إلى السّبب الأوّل سبحانه. وبهذه الطّريقة يميّز بين الرّجاء الحقيقيّ والرّجاء الكاذب. ولتثبيت المفهوم الدّقيق يقارن الرّجاء بما يُعرف بين النّاس بالخوف، ولا شكّ بأنّ الرّجاء أمرٌ مستحسن إذا تعلّق بالله مثلما أنّ الخوف من الله هو الممدوح والنّافع. أما تعلّق الرّجاء بما سوى الله فهو
1 سورة الكهف، الآية 110.
2 سورة الطلاق، الآية 12.
271
224
الدرس العشرون: الرجاء (1) - معنى الرجاء والفرق بينه وبين الغرور والطمع
أمرٌ مذموم ويدلّ على فساد العقيدة وعدم وجود التّوحيد الحقيقيّ في القلب.
يقول الإمام قدس سره: "قال بعضهم: إنّ مَثَلَ من لا يعمل وينتظر رحمة ربّه ويرجو رضوانه مَثَلُ من يرجو المسبِّب دون أن يُعِدَّ الأسباب، وَمَثَلُ الفلاّح الذي ينتظر الزّرع من دون أن يبذر الأرض أو يهتمّ بها وبإروائها أو يقضي على موانع الزرع. إن مثل هذا الانتظار لا يُسمّى بالرّجاء، بل هو بلهٌ وحماقة. وإن مَثَلُ من لم يُصلح أخلاقه أو لم يبتعد عن المعاصي فينهض بأعمال راجيًا تزكية نفسه، مَثَلُ من يودع البذر في أراضي سبخة، ومن الواضح أنّ هذا الزّرع لا يثمر النتيجة المتوخاة. فالرّجاء المستحسن والمحبوب هو تهيئة كافّة الأسباب التي يمتلكها الإنسان كما أمر الله بها واستغلالها حسب القدرة التي زوّده بها الحقّ المتعال بعنايته الكاملة، وحسب هدايته ـ عز وجل ـ إيّاه إلى طرق الصّلاح والفساد، ثمّ ينتظر ويرجو الحقّ المتعال أن يتمّ عنايته السّابقة تجاه الأسباب التي وفّرها من قبل، ويحقّق الأسباب التي لا تدخل تحت إرادته واختياره من بعد، ويزيل الموانع والمفاسد"1.
"فإذا نظّف العبد قلبه من أشواك الأخلاق الفاسدة وأحجار الموبقات وسباختها، وبذر فيها بذور الأعمال، وسقاها بماء العلم الصافي النّافع والإيمان الخالص، وخلّصها من المفسدات والموانع مثل العجب والرّياء وأمثالها التي تُعدّ بمثابة الأعشاب الضارة العائقة لنموّ الزّرع، ثمّ انتظر ربّه المتعالي ورجاه أن يثبّته على الحقّ، ويجعل عاقبة أمره إلى خير، كان هذا الرّجاء مستحسنًا.
كما يقول الحقّ المتعالي: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾2"3.
مقارنة الرّجاء بالخوف
يظنّ أكثر النّاس أنّ الرّجاء إذا وُجد في القلب منع الخوف من الدّخول إليه، وإنّ الخوف من الله يمنع حصول الرّجاء به. لكنّ الذي يعرف حقيقة الكيان الإنسانيّ من جهة، وأصل عالم الوجود من جهة أخرى، يدرك أنّ اجتماعهما هو الأمر السّليم. يقول الإمام قدس سره: "لا بدّ من تعادل الخوف والرّجاء وعدم تفوّق أحدهما على الآخر، كما ورد هذا المضمون في
1 الأربعون حديثًا، ص 264.
2 سورة البقرة، الآية 218.
3 الأربعون حديثًا، ص 264-265.
272
225
الدرس العشرون: الرجاء (1) - معنى الرجاء والفرق بينه وبين الغرور والطمع
مرسلة ابن أبي عمير عن الإمام الصادق عليه السلام أيضًا. إنّ الإنسان عندما يدرك منتهى قصوره في النّهوض بالعبوديّة، ويرى صعوبة وضيق طريق الآخرة، يتولّد فيه الخوف بأعلى درجة، وعندما يجد ذنوبه ويفكّر في أناس كانت عاقبة أمرهم الموت من دون إيمان وعمل صالح، رغم حسن أحوالهم في بدء الأمر ولكنّهم انتهوا إلى سوء العاقبة، يشتدّ فيه الخوف. ففي الحديث الشريف في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام: قال: "المُؤْمِنُ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ ذَنْبِ قَدْ مَضَى لاَ يَدْرِي مَا صَنَعَ اللهُ فِيهِ وَعُمْرٍ قَدْ بَقِيَ لاَ يَدْرِي مَا يَكْتَسِبُ فِيهِ مِنَ المَهَالِكِ فَهُوَ لاَ يُصْبحُ إلاّ خَائِفاً وَلاَ يُصْلِحُهُ إلاّ الخَوْفُ"1.
وعلى أي حال يرى الإنسان نفسه في منتهى النقص والتقصير، ويرى الحق في منتهى العظمة والجلال، وسعة الرحمة والعطاء، ويعيش العبد بين هاتين النظرتين دائماً في حال متوازية بين الخوف والرجاء. وحيث أن الأسماء الجلالية والجمالية تتجليان في قلب السالك متعادلة لا يترجح كل من الخوف والرجاء على الآخر"2.
وللإمام قدس سره في شرح حديث جنود العقل والجهل كلام مشابه ننقله من باب تقوية المعنى: "وأمّا النحو الثّاني للجمع بين الخوف والرّجاء ـ ولعلّه هو المقصود غالبًا في الأحاديث الشّريفة والأدعية المأثورة ـ فهو أنّ على الإنسان أن يجمع دائمًا بين رؤيتين، الأولى رؤيته لنقصه وقصوره وفقره وفاقته، ليعرف ـ من خلال هذه الرؤية ـ أنّه ناقص محض النّقص، وقاصر صرف القصور، فليس له من ذاته أيّ قدرة أو قوّة أو عزّة، بل إنّ كل كمال وجمال وحسن وبهاء هو من الحقّ تعالى، وإلى ذاته المقدّسة ترجع كلّ المحامد والثّناء، بل وإنّ النّقص والقصور يعرض (عند تجلّيه وانعكاسه) في مرآة "الممكن" على الكمال والحسن الأزليّ، مثلما أنّ المرآة المحدودة الكدرة تحدّد وتكدّر نور الشّمس. وبهذه الرّؤية يحصل الخوف في العبادات والطاعات فضلًا عن الذنوب والمعاصي، بل إنّ معظم عباداتنا هي ـ عند أهل المعرفة ـ عبادة للنّفس والشّهوات، لأنّها من أجل المقاصد النفسانيّة، لذلك تظهر منها كدورة وظلمة، ومع هذه الرّؤية يحصل في القلب منتهى الخوف. ولكن ينبغي أن تُضمّ هذه الرّؤية إلى الرّؤية الثّانية وهي: رؤية سعة رحمة الحقّ تبارك وتعالى، وسعة نور
1 الكافي، ج2، ص 71.
2 الأربعون حديثًا، ص 265-266.
273
226
الدرس العشرون: الرجاء (1) - معنى الرجاء والفرق بينه وبين الغرور والطمع
رحمانيّته ورحيميّته ونعمه غير المتناهية وكراماته الدائمة، وهذه الرؤية تولّد الرجاء.
والإنسان يجب أن يجمع دائمًا بين هاتين الرّؤيتين، رؤية ذلّه وفقره الإمكانيّ، ورؤية رحمة الواجب تعالى ونعمه، فبذلك يجمع بين الخوف والرّجاء الكاملين، كما يشير إلى ذلك الحديث الشّريف المرويّ في كتاب الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول بشأن وصيّة لقمان الحكيم: "... وكان فيها الأعاجيب، وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خف الله عزّ وجل خفيةً لو جئته ببرّ الثّقلين لعذّبك، وارجُ الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك. ثمّ قال أبو عبد الله عليه السلام: "كان أبي يقول: إنّه ليس من عبدٍ مؤمنٍ إلّا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا"1،2
ما الفرق بين الرّجاء والطّمع؟
قد علمنا أنّ الطّمع بالدّنيا من جنود الشّيطان ومن الخصال المذمومة. بيد أنّ هناك طمعٌ آخر يرتبط بوعود الله ورحماته، فما هو الفرق بين الرّجاء والطّمع؟ وماذا يكشف لنا هذا التّمييز فيما يتعلّق بالرّجاء. يجيب الإمام الخمينيّ قدس سره على هذا السّؤال قائلًا: "يُحتمل أن يكون الحديث (جنود العقل والجهل) قد ميّز بين الرّجاء والطّمع، بكون الرّجاء هو الأمل بالرّحمة مع العمل في حين أنّ الطمع هو الأمل مع فقدان العمل أو عدم رؤيته. ولكن من البعيد أن يُعدّ الطّمع بدون العمل من جنود العقل لما ورد في الأحاديث الشّريفة من التّكذيب والذمّ له، لذا فلعلّ المقصود هو الأمل مع عدم رؤية العمل وعدم الاتّكال عليه، وهذا من مقامات العارفين بالله الذين تركوا أنفسهم وأعمالهم وهاجروا من منزل كيانهم وبين الأنا والأنانيّة، وداسوا على رأس مملكة وجودهم، وتحرّروا من كلا النّشأتين فتطلّعت عيونهم للحبيب وعميت عن نفوسهم وأعمالهم، فأحيت تجلّيات الرّحمة الإلهيّة قلوبهم، فكسروا قدم السّير والسّلوك، ومدّوا أيدي طمعهم إلى الحقّ تعالى ورحمته، وانقطعوا عن كلّ ما سواه وتعلّقوا به.... ويُحتمل وجود فرق آخر بين الرّجاء والطّمع، وهو أن يكون المراد بالطّمع الأمل بغفران المعاصي أو غفران وجبران عموم النّقائص، نظير ما يحكيه الله تعالى من قول خليل
1 الكافي، ج2، ص 67.
2 جنود العقل والجهل، ص 142-143.
274
227
الدرس العشرون: الرجاء (1) - معنى الرجاء والفرق بينه وبين الغرور والطمع
الرّحمان، في الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾1، في حين يكون معنى الرجاء الأمل في ثواب الله والتطلّع إلى رحمته الواسعة. ويُحتمل أن يكون الأمر على العكس ويتمايز ضدّاهما بحسب المقابلة"2.
ما الفرق بين الرّجاء والغرور؟
ومن جملة الأمور التي تساهم في معرفة الرّجاء تمييزه عن الغرور الذي هو شكل من أشكال الرّجاء. وقد يغفل الإنسان عن الفارق بينهما ويوقعه جهله في أخطاء كبرى، لهذا يقول الإمام قدس سره: "اعلم، أنّ الإنسان يغفل عن حقيقة نفسه بسبب الوقوع في حبّها والعجب بها والتّوجه إليها، وربّما وقع في الخلط فاعتبر نقائصها وعيوبها كمالًا ومحاسن. ومثل هذا الخلط في صفات النّفس كثير جدًّا، ويندر وجود من يقدر على التّمييز الصحيح. وهذا من مراتب نسيان النّفس النّاتج من نسيان الحقّ جل وعلا المشار إليه في الآية 19 من سورة الحشر: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.. ومن الأمور التي يقع الخلط بشأنها ويُخدع فيها الإنسان بسبب محجوبيّته، هي التّمييز بين الغرور والأماني، وبين الرّجاء والثّقة بالحقّ تعالى، ومن الواضح للغاية أنّ الغرور هو من أكبر جنود إبليس، في حين أنّ الرّجاء من جنود الرّحمان والعقل، فهما متمايزان، إذًا، في المبدأ وفي الآثار. إذ أنّ مبدأ الرّجاء هو العلم بسعة الرّحمة الإلهيّة والإيمان ببسط الفيض والكمال وتجليات الأسماء والصّفات الإلهيّة. في حين أنّ من منبع الغرور هو التّهاون في الأمر الإلهيّ، والجهل بعوالم الغيب والصّورة الغيبيّة لأفعال النّفس، واللوازم الملكوتيّة لصفاتها: ولذلك فإنّ آثارهما متمايزة أيضًا، لأنّ العارف بسعة الرّحمة الإلهيّة وشموليّة النّعم الربّانيّة والمؤمن بها تحصل عنده حال الرّجاء، وتدعوه هذه المعرفة والإيمان إلى تزكية الأعمال وتصفية الأخلاق، والجدّ في طاعة أوامر المولى ووليّ النّعم. أمّا الغرور فهو واقعٌ في شباك الشّيطان والنّفس الأمّارة بالسّوء، لذلك فهو متخلّف عن كسب المعارف واكتساب الأخلاق
1 سورة الشعراء، الآية 82.
2 جنود العقل والجهل، ص 184-185.
275
228
الدرس العشرون: الرجاء (1) - معنى الرجاء والفرق بينه وبين الغرور والطمع
الكريمة والمبادرة للأعمال الصّالحة"1.
"ولكن أيّها العزيز كن على حذر، لئلّا تخلط بين الرّجاء والغرور. فقد تكون مغترًّا وتحسب نفسك من أهل الرّجاء. إنّ من السّهل التّمييز بين الحالين في مباديهما. انظر إلى هذه الحال التي فيك والتي تظنّ نفسك بها بأنّك من أهل الرّجاء. فهي إمّا أن تكون ناشئة من التّهاون في أوامر الحقّ سبحانه والتّقليل منها، وإمّا أن تكون ناجمة عن الاعتقاد بسعة رحمة الله وعظمة ذاته المقدّسة. وإذا عسر عليك التّمييز بينهما أيضًا، أمكنك التّمييز من خلال الآثار. فإذا كان الإحساس بعظمة الله في القلب، وكان قلب المؤمن محاطًا برحمة ذاته المقدّسة وعطاياه، لقام القلب بواجب العبوديّة والطّاعة. لأنّ تعظيم العظيم المُنعم وعبادته من الأمور الفطريّة التي لا خلاف فيها. وإذا لم تكن في أداء واجبات العبوديّة، وفي بذل الجُهد والجدّ في الطّاعة والعبادة، معتمدًا على أعمالك، ولم تحسب لها حسابًا، وكنت آملًا رحمة الله وفضله وعطائه، ووجدت نفسك مستحقًّا للّوم والذمّ والسّخط والغضب بسبب أعمالك، ولم تعتمد إلاّ على رحمة الجواد المطلق، فأنت من أهل الرّجاء. فاشكر الله تبارك وتعالى، واطلب من ذاته المقدّسة أن يثبّت ذلك في قلبك، ويمنحك أعلى منه مقامًا. أمّا إذا كنت ـ لا سمح الله ـ متهاونًا في أوامر الحقّ تعالى ومستحقرًا ومستهينًا لتعاليمه، فاعلم أنّه الغرور الحاصل في قلبك وأنّه من مكائد الشّيطان، ومن نفسك الأمّارة بالسّوء. فلو آمنت بسعة الله ورحمته وعظمته. لظهر أثر ذلك فيك. إنّ المدّعي الذي يخالف عمله دعواه، يكذّب نفسه بنفسه. والشواهد على هذا في الأحاديث المعتبرة كثيرة"2.
1 جنود العقل والجهل، ص 130.
2 الأربعون حديثًا، ص 263-264.
276
229
الدرس العشرون: الرجاء (1) - معنى الرجاء والفرق بينه وبين الغرور والطمع
المفاهيم الرئيسة
1- إنّ النّفوس الرّاجية هي التي تطيع الأوامر الإلهيّة، لكنّها في الوقت نفسه لا تتّكل على طاعاتها وأحوالها، لأنّها أدركت عظمة الحقّ جل وعلا، وعرفت أنّ كلّ شيء صغير، وكلّ كمال حقير في قبال هذه العظمة.
2- أعظم آثار معرفة الرّحمة وتجلّياتها في قلب العبد حصول حالة الرّجاء فيه.
3- إنّ نور الرّجاء هو الذي يوصل الإنسان إلى كمال سعادته.
4- إذا تعلّق الرّجاء بما سوى الله فهو أمرٌ مذموم ويدلّ على فساد العقيدة وعدم وجود التّوحيد الحقيقيّ في القلب.
5- لا بدّ من تعادل الخوف والرّجاء عند الإنسان فلا يتفوّق أحدهما على الآخر، ويتحقّق ذلك عندما يرى الشّخص نفسه في منتهى النّقص والتّقصير من جهة، ويرى الحقّ في منتهى العظمة والجلال وسعة الرّحمة والعطاء من جهة أخرى.
6- الفرق بين الرجاء والطّمع هو أنّ الرّجاء هو الأمل بالرّحمة مع العمل في حين أنّ الطمع هو الأمل مع فقدان العمل أو عدم رؤيته.
7- الفرق بين الرّجاء والغرور هو أنّ مبدأ الرّجاء هو العلم بسعة الرّحمة الإلهيّة والإيمان ببسط الفيض والكمال وتجلّيات الأسماء والصّفات الإلهيّة، في حين أنّ منبع الغرور هو التّهاون في الأمر الإلهيّ، والجهل بعوالم الغيب والصّورة الغيبيّة لأفعال النّفس، واللوازم الملكوتيّة لصفاتها.
277
230
الدرس العشرون: الرجاء (1) - معنى الرجاء والفرق بينه وبين الغرور والطمع
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ مَنْ تَهَيَّأَ وَتَعَبَّأَ وَأَعَدَّ وَاسْتَعَدَّ لِوِفَادَةٍ إِلَى مَخْلُوقٍ رَجَاءَ رِفْدِهِ وَنَوَافِلِهِ وَطَلَبَ نَيْلِهِ وَجَائِزَتِهِ، فَإِلَيْكَ يَا مَوْلاَيَ كَانَتِ الْيَوْمَ تَهْيِئَتِي وَتَعْبِئَتِي وإِعْدَادِي وَاسْتِعْدَادِي رَجَاءَ عَفْوِكَ وَرِفْدِكَ وَطَلَبَ نَيْلِكَ وَجَائِزَتِكَ1.
الروايات الشريفة:
1- عن عليّ بن الحسين عليه السلام: "إِيَّاكَ وَالرَّجَاءَ الْكَاذِبَ فَإِنَّهُ يُوقِعُكَ فِي الْخَوْفِ الصَّادِقِ"2.
2- عن أَبي عَبْدِ اللهِ عليه السلام يَقُولُ: "حُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ أَنْ لَا تَرْجُوَ إِلَّا اللهَ وَلَا تَخَافَ إِلَّا ذَنْبَكَ"3.
3- وَقَالَ عليه السلام: "حُسْنُ الظَّنِّ أَنْ تُخْلِصَ الْعَمَلَ وَتَرْجُو مِنَ اللهِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الزَّلَل"4.
4- عن أبي عبد الله عليه السلام: "يَا ابْنَ جُنْدَبٍ يَهْلِكُ الْمُتَّكِلُ عَلَى عَمَلِهِ وَ لَا يَنْجُو الْمُجْتَرِئُ عَلَى الذُّنُوبِ الْوَاثِقُ بِرَحْمَةِ اللهِ قُلْتُ فَمَنْ يَنْجُو قَالَ الَّذِينَ هُمْ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَ الْخَوْفِ كَأَنَّ قُلُوبَهُمْ فِي مِخْلَبِ طَائِرٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَ خَوْفاً مِنَ الْعَذَابِ"5.
5- عن الإمام الصادق عليه السلام: "دَلِيلُ الرَّجَاءِ الطَّلَبُ"6.
6- عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام: "قَالَ وَجَدْنَا فِي كِتَابِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ وَهُوَ عَلَى مِنْبَرِهِ: وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا أُعْطِيَ مُؤْمِنٌ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا بِحُسْنِ ظَنِّهِ بِاللهِ وَرَجَائِهِ لَهُ وَحُسْنِ خُلُقِهِ وَالْكَفِّ عَنِ اغْتِيَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَا يُعَذِّبُ اللهُ مُؤْمِناً بَعْدَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ إِلَّا بِسُوءِ ظَنِّهِ
1 الصحيفة السجاديه، دعاؤه يوم الأضحى ويوم الجمعة.
2 بحار الأنوار، ج75، ص 162.
3 الكافي، ج2، ص 72.
4 مستدرك الوسائل، ج11، ص 252.
5 بحار الأنوار، ج75، ص 279.
6 مستدرك الوسائل، ج12، ص 70.
278
231
الدرس العشرون: الرجاء (1) - معنى الرجاء والفرق بينه وبين الغرور والطمع
بِاللهِ وَ تَقْصِيرٍ مِنْ رَجَائِهِ اللهَ وَ سُوءِ خُلُقِهِ واغْتِيَابِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَا يَحْسُنُ ظَنُّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ بِاللهِ إِلَّا كَانَ اللهُ عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ لِأَنَّ اللهَ كَرِيمٌ بِيَدِهِ الْخَيْرَاتُ يَسْتَحْيِي أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ الْمُؤْمِنُ قَدْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ وَ الرَّجَاءَ ثُمَّ يُخْلِفُ ظَنَّهُ وَ رَجَاءَهُ فَأَحْسِنُوا بِاللهِ الظَّنَّ وَ ارْغَبُوا إِلَيْهِ"1.
1 مستدرك الوسائل، ج12، ص 168.
279
232
الدرس الواحد والعشرون: الرجاء (2) - منشأ الرجاء وكيفية تحصيله
الدرس الواحد والعشرون: الرجاء (2) - منشأ الرجاء وكيفية تحصيله
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن العلاقة الحاكمة بين الرّجاء والعمل وبين التوحيد والرجاء.
2- يشرح دور العقل والفطرة في ترسيخ فضيلة الرّجاء في النفس.
3- يبيّن كيف أنّ حبّ الدّنيا والاتّكال على الأعمال يوقع الإنسان في اليأس والقنوط.
281
233
الدرس الواحد والعشرون: الرجاء (2) - منشأ الرجاء وكيفية تحصيله
تمهيد
إنّ رجاء رحمة الله وترقّبها دومًا يُعدّ من صفات المؤمنين الذين عرفوا الله وأدركوا أنّ رحمته وسعت كلّ شيء، وأحاطت بجميع الموجودات والكائنات والحوادث.
ومن كان كذلك علم أنّ كلّ ما سيحدث في حياته يندرج ضمن هذه التّربية الإلهيّة والتّدبير الربّانيّ الذي يأخذ بيد كلّ موجود إلى غايته.
هناك سيتوجّه الإنسان نحو المستقبل المشرق المليء بالفرص التي تساهم في تكامله ووصوله إلى سعادته الأبديّة. وكلّ ذلك لا يمكن أن يحصل إلّا بالعقل المنوّر والنّفس الطّاهرة من أدناس التعلّق بهذه الدّنيا الدنيّة.
علاقة الرّجاء بالعمل
ينقل الإمام الخمينيّ قدس سره في كتاب الأربعون حديثًا، حديث عن الكافي: "عَنْ أَبِي عَبْدِاللهِ عليه السلام قالَ: "قُلْتُ لَهُ: قَوْمٌ يَعْمَلُونَ بِالمَعَاصِي وَيَقولُونَ نَرْجُو فَلاَ يَزَالونَ كَذلِكَ حَتّى يَأْتِيَهُمُ المَوْتُ. فقَالَ: هؤُلاَءِ قَوْمٌ يَتَرَجَّحُونَ فِي الأَمَانِي. كَذَّبُوا لَيْسُوا بِراجينَ، إِنَّ مَنْ رَجَا شَيْئاً طَلَبَهُ وَمَنْ خَافَ مِنْ شَيْءٍ هَرَبَ مِنْهُ"1. وبهذا المضمون رواية أخرى في كتاب الكافي الشريف: وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي سَارَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْد اللهِ عليه السلام يَقُولُ: "لاَ يَكُونُ المُؤْمِنُ مُؤْمِناً َحَتّى يَكُونَ خَائِفاً راجياً وَلاَ يَكُونَ خَائِفاً راجياً حَتّى يَكُونَ عَامِلاً لِمَا يَخَافُ وَيرجو"2.
1 الكافي، ج2، ص68.
2 (م.ن)، ص 71.
283
234
الدرس الواحد والعشرون: الرجاء (2) - منشأ الرجاء وكيفية تحصيله
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ النّفوس الرّاجية هي التي تطيع الأوامر الإلهيّة، لكنّها في الوقت نفسه لا تتّكل على طاعاتها وأحوالها، لأنّها أدركت عظمة الحقّ جل وعلا، وعرفت أنّ كلّ شيء صغير، وكلّ كمال حقير في قبال هذه العظمة، لذا فهي لا ترى لجميع أعمالها الصّالحة أيّ قيمة في حضرة جلالة كبريائه تعالى، فيكون اتّكالها على رحمة ذاته المقدّسة ونزول فيضها القدسيّ. أمّا النّفوس المغرورة فقد تخلّفت عن جميع الكمالات، ودخلت في صفّ أراذل الحيوانات، وأعرضت غافلةً عن الحقّ تعالى ورحمته، لكنّها تقول بلقلقة اللسان وحده إنّ الله أرحم الرّاحمين وإنّه كريم عظيم"1.
"إنّ الرّاجين لا يتهاونون عن العمل بل هم أكثر جدّية من غيرهم فيه، ولكنّهم ـ في الوقت نفسه ـ لا يتّكلون على عملهم، بل يتّكلون على الحقّ تعالى وهم يعملون، لأنّهم يرون قصورهم وسعة الرّحمة الإلهيّة معًا. في حين أنّ حال المغرورين كحال الذين ينشغلون باللهو واللعب في أيّام بذر البذور والحرث والزراعة، ويقضون هذه الأيّام بالكسل والدّعة، ثمّ يقولون: الله كريم عظيم وهو يعطي المحصول حتّى دون بذر البذور، أمّا الرّاجون فحالهم حال المزارع الذي يقوم جادًّا بعمل الزراعة في أيّامه المناسبة فيحرث ويبذر البذور ويسقي لكنّه يطلب نموّ البذور وظهور الثّمار والمحصول من الحقّ تعالى ويراها منه عزّ وجل"2.
من أين ينشأ الرّجاء؟
لطالما تحدّث الإمام قدس سره عن الفطرة أو العقل الفطريّ، وقد شرحنا في العديد من الفصول ما يتعلّق بمعانيها المتناسبة مع الأبحاث الأخلاقيّة. ومع كلّ خُلقٍ جديد أو فضيلة محمودة تتجلّى لنا الفطرة أكثر، وكأنّ كلّ كمال معنويّ ليس سوى بُعد من أبعاد الفطرة. كما أنّ العقل الذي يميّز بين الكمال والنّقص من لوازم الفطرة. وبدونها تغدو التّوجّهات الفطريّة عمياء لا تهتدي إلى مصاديق الكمال أبدًا.
1 جنود العقل والجهل، ص 130-131.
2 (م.ن)، ص 131-132.
284
235
الدرس الواحد والعشرون: الرجاء (2) - منشأ الرجاء وكيفية تحصيله
1- الإيمان
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ثلاث من كنّ فيه فقد أكمل الإيمان العدل في الغضب والرّضا والقصد في الفقر والغنى واعتدال الخوف والرّجاء"1.
2- العقل المنوّر
"اعلم أنّ الرجاء الوثيق والأمل الكامل بالحقّ تعالى ورحمته الواسعة نتيجة حتميّة لإدراك العقل - بنور فطرته وصفاء طينته ومعرفته الذوقية المعنوية العرفانية ـ حقيقة أنّ الحقّ جلّ وعلا كامل مطلق، فلا سبيل للتّحديد والتقييد ـ وهي من النقائص الإمكانيّة ـ إلى ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله، لذا فإنّ مجاري تجلّيات رحمة ذاته المقدّسة لا يحدّها حدّ، ولا يقيّدها قيد"2.
3- الفطرة الصّافية
"لأنّ الفطرة تدعو العقل إلى الكامل المطلق والرّحمة الواسعة على الإطلاق، فإنّها توصله إلى الرّجاء الكامل، وإذا احتجبت الفطرة عن نورانيّتها الأصلية، حجبت عن الحقّ تعالى وكمالاته الذاتيّة والصّفاتيّة وسعة رحمة ذاته المقدّسة، وقد يصل الاحتجاب أحيانًا درجة اليأس من رحمة الحقّ تعالى. إذن اتّضح أنّ الرّجاء من الأمور الفطريّة في حين أنّ القنوط ناتج من الاحتجاب عن الفطرة المخمّرة، فهو خلاف ما تقضيه هذه الفطرة. ومبدأ الرّجاء حسن الظنّ بالله تعالى. في حين أنّ مصدر القنوط من رحمة الله هو سوء الظنّ بذاته المقدّسة جلّ وعلا. وإن كان مصدر حسن الظنّ العلم بسعة الرّحمة الإلهيّة، والإيمان بالكمال الأسمائي والصّفاتي الفعليّ. ومصدر سوء الظنّ والجهل بذلك، فهما يرجعان بالتّالي إلى معرفة الذّات المقدّسة، والجهل بها"3.
إذًا،"فإنّ الرّجاء والطّمع بالذّات المقدّسة والانقطاع عن الخلق والتعلّق بالحقّ تعالى، من لوازم الفطرة المخمّرة السليمة، وقد مدحهما الله والمعصومون عليهم السلام: قال الله
1 تصنيف غرر الحكم، 88.
2 جنود العقل والجهل، ص128.
3 (م.ن)، ص 128-129.
285
236
الدرس الواحد والعشرون: الرجاء (2) - منشأ الرجاء وكيفية تحصيله
تعالى: ﴿خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾1. وقال في وصف المؤمنين: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾2"3.
4- معرفة الله وتوحيده
"إنّ الرّجاء بالحقّ تعالى والطّمع برحمته الواسعة والتطلّع إلى ينابيع فيض ذاته المقدّسة، هي من شعب التّوحيد، ومن مقتضيات الفطرة المخمّرة إلهيًّا"4. فالتّوحيد، الذي هو حصن الله الأكبر، يتجلّى بالرّجاء.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ الرّجاء بالحقّ تعالى والطمع برحمته الواسعة والتطلّع إلى ينابيع فيض ذاته المقدّسة، هي من شعب التوحيد، ومن مقتضيات الفطرة المخمّرة إلهيّاً"5.
أهم موانع الرّجاء
1- التوجّه إلى الدّنيا
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "أمّا إذا توجّه (الإنسان) إلى الشّجرة الخبيثة المنهيّ عنها، حصل عنده بمقدار هذا التوجّه تقييد وتحديد في الأسماء والصّفات والأفعال الإلهيّة، وبالتّالي أصابه الجهل بسعة الرّحمة الإلهيّة، إلى أن يصل به الحال (مع اشتداد التّوجّه هذا) إلى الخروج بالكامل عن الفطرة، وغلبة أحكام الحجاب عليه، فتستولي الكدورات والظلمة، على مرآة قلبه إلى حدّ حرمانه من عوالم الغيب وتجليات الأسماء والأفعال الإلهيّة، فيحتجب عن انعكاس التجليات الرّحمانيّة، ويغلب عليه حكم اليأس والقنوط إلى درجة يعزل نفسه معها عن رحمة الحقّ تعالى الواسعة، وهذه هي غاية الخذلان ـ نعوذ بالله منه"6.
2- الاعتماد على الأعمال لنيل الثّواب
يقول الإمام قدس سره: "وفي الكافي الشّريف: أيضًا مستندًا عن الإمام الباقر عليه السلام
1 سورة الأعراف، الآية 56.
2 سورة السجدة، الآية 16.
3 جنود العقل والجهل، ص 185-186.
4 (م.ن)، ص186.
5 (م.ن)، ص 186.
6 جنود العقل والجهل، ص 129.
286
237
الدرس الواحد والعشرون: الرجاء (2) - منشأ الرجاء وكيفية تحصيله
قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله تبارك وتعالى: لا يتّكل العاملون على أعمالهم التي يعملونها لثوابي، فإنّهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم أعمارهم في عبادتي كانوا مقصّرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي والنعيم في جناتي ورفيع الدرجات العلى في جواري، ولكن برحمتي فليثقوا وفضلي فليرجوا وإلى حسن الظنّ بي فليطمئنوا فإنّ رحمتي عند ذلك تدركهم ومني يبلغهم رضواني ومغفرتي تلبسهم عفوي فإني أنا الله الرحمن الرحيم وبذلك تسمّيت1"2.
في كيفيّة تحصيل الرّجاء
1- الاستنان بسنّة رسول الله
يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾3، فالأسوة حسنة هي لمن كان يرجو الله لا لكل إنسان.
2- الاطّلاع على الآيات والأخبار
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ملاحظة الآيات والأخبار التي تنبئ عمّا وعد الله تعالى عباده، ممّا يُحيي كامل الأمل والرّجاء"4.
"فتفكّر الآن في الآية الشريفة: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾5 فإنها تشقّ طرقًا من المعرفة وأبوابًا من الرّجاء والأمل لقلب الانسان"6.
3- التّوجّه إلى الله تعالى
"إذا لم يحجب الإنسان نفسه عن الحقّ تعالى بالتّوجّه إلى شجرة الطّبيعة الخبيثة، تجلّت فيه بهذا الصّفاء الباطنيّ انعكاسة حضرات الأسماء دون تحديد أو تقييد، وهذا التّجلّي يثمر التعلّق القلبي والأنس والأمل، وهذا هو في الواقع الرّجاء الوثيق والأمل المستقرّ"7.
1 الكافي، ج2، ص71.
2 جنود العقل والجهل، ص 133.
3 سورة الأحزاب، الآية 21.
4 الأربعون حديثًا، ص 262.
5 سورة طه، الآيات 43 – 44.
6 معراج السالكين، ص 246.
7 جنود العقل والجهل، ص129.
287
238
الدرس الواحد والعشرون: الرجاء (2) - منشأ الرجاء وكيفية تحصيله
4- الاطّلاع على مظاهر الرّحمة
"والسالك لابدّ له أن يفهم قلبه في جميع فصول الأذان والإقامة عظمة المحضر والحضور والحاضر ويجعل ذلّ نفسه وعجزها وقصورها نصب عينيه حتّى يحصل الخوف والخشية، ومن الجانب الآخر لابدّ أن يريه الرّحمة الواسعة والألطاف الكريمة حتّى يحصل له الرّجاء والشّوق"1.
موعظة
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام أَنَّهُ قَرَأَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: "وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَمَجْدِي وَارْتِفَاعِي عَلَى عَرْشِي لَأُقَطِّعَنَّ أَمَلَ كُلَّ مُؤَمِّلٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرِي بِالْيَأْسِ وَلَأَكْسُوَنَّهُ ثَوْبَ الْمَذَلَّةِ عِنْدَ النَّاسِ وَلَأُنَحِّيَنَّهُ مِنْ قُرْبِي وَلَأُبَعِّدَنَّهُ مِنْ فَضْلِي أَيُؤَمِّلُ غَيْرِي فِي الشَّدَائِدِ وَالشَّدَائِدُ بِيَدِي وَيَرْجُو غَيْرِي وَيَقْرَعُ بِالْفِكْرِ بَابَ غَيْرِي وبِيَدِي مَفَاتِيحُ الْأَبْوَابِ وَهِيَ مُغْلَقَةٌ وَبَابِي مَفْتُوحٌ لِمَنْ دَعَانِي فَمَنْ ذَا الَّذِي أَمَّلَنِي لِنَائِبَةٍ فَقَطَعْتُهُ دُونَهَا؟! وَمَنِ الَّذِي رَجَانِي لِعَظِيمَةٍ فَقَطَعْتُ رَجَاءَهُ مِنِّي؟! جَعَلْتُ آمَالَ عِبَادِي عِنْدِي مَحْفُوظَةً فَلَمْ يَرْضَوْا بِحِفْظِي، وَمَلَأْتُ سَمَاوَاتِي مِمَّنْ لَا يَمَلُّ مِنْ تَسْبِيحِي وأَمَرْتُهُمْ أَنْ لَا يُغْلِقُوا الْأَبْوَابَ بَيْنِي وَبَيْنَ عِبَادِي فَلَمْ يَثِقُوا بِقَوْلِي، أَلَمْ يَعْلَمْ مَنْ طَرَقَتْهُ نَائِبَةٌ مِنْ نَوَائِبِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَشْفَهَا أَحَدٌ غَيْرِي إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِي فَمَا لِي أَرَاهُ لَاهِيًا عَنِّي؟! أَعْطَيْتُهُ بِجُودِي مَا لَمْ يَسْأَلْنِي ثُمَّ انْتَزَعْتُهُ عَنْهُ فَلَمْ يَسْأَلْنِي رَدَّهُ وسَأَلَ غَيْرِي، أَفَتَرَانِي أَبْدَأُ بِالْعَطَاءِ قَبْلَ الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ أُسْأَلُ فَلَا أُجِيبُ سَائِلِي؟! أَبَخِيلٌ أَنَا فَيُبَخِّلُنِي عَبْدِي؟! أَوَلَيْسَ الْجُودُ وَالْكَرَمُ لِي؟ أَوَلَيْسَ الْعَفْوُ وَالرَّحْمَةُ بِيَدِي؟ أَوَلَيْسَ أَنَا مَحَلَّ الْآمَال؟ِ فَمَنْ يَقْطَعُهَا دُونِي أَفَلَا يَخْشَى الْمُؤَمِّلُونَ أَنْ يُؤَمِّلُوا غَيْرِي فَلَوْ أَنَّ أَهْلَ سَمَاوَاتِي وَأَهْلَ أَرْضِي أَمَّلُوا جَمِيعاً ثُمَّ أَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلَ مَا أَمَّلَ الْجَمِيعُ مَا انْتَقَصَ مِنْ مُلْكِي عُضْوُ ذَرَّةٍ وَكَيْفَ يَنْقُصُ مُلْكٌ أَنَا قَيِّمُهُ فَيَا بُؤْساً لِلْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِي وَيَا بُؤْساً لِمَنْ عَصَانِي وَلَمْ يُرَاقِبْنِي!"2.
1 معراج السالكين، ص 136.
2 الكافي، ج2، ص66، وسائلالشيعة ج 15، ص 215.
288
239
الدرس الواحد والعشرون: الرجاء (2) - منشأ الرجاء وكيفية تحصيله
المفاهيم الرئيسة
1- إنّ أهميّة الرّجاء تكمن في أنّه أهم سلاح لمواجهة الشّيطان، فغاية ما يريده الشّيطان من غواية الإنسان وتزيين المعاصي له هو إيصاله إلى اليأس من رحمة الله، لهذا يُعدّ الحفاظ على رجاء الله وتقويته في النّفس من أقوى أسلحة مواجهة الشّيطان.
2- يوجد علاقة حقيقية بين الرجاء والعمل الصالح، فالنفوس الراجية حقّاً هي التي تطيع الله حقّاً.
3- التّوحيد، الذي هو حصن الله الأكبر، يتجلّى بالرّجاء.
4- ينشأ الرّجاء من:
- معرفة الله وتوحيده والإيمان به.
- العقل: الرجاء الوثيق والأمل الكامل بالحقّ تعالى ورحمته الواسعة نتيجة حتميّة لإدراك العقل حقيقة أنّ الحقّ جلّ وعلا كامل مطلق.
- الفطرة: لأنّ الفطرة تدعو العقل إلى الكامل المطلق والرّحمة الواسعة على الإطلاق، فإنّها توصله إلى الرّجاء الكامل.
5- إنّ السّبيل لتحصيل الرّجاء يكون بـ:
- الاستنان بسنّة رسول الله.
- الاطّلاع على الآيات والأخبار: التي تنبئ بما وعد الله عباده.
- التوجّه إلى الله تعالى: إذا لم يحجب الإنسان نفسه عن الحقّ تعالى، تجلّت فيه بهذا الصّفاء الباطنيّ انعكاسة حضرات الأسماء دون تحديد أو تقييد، وهذا التّجلّي يثمر التعلّق القلبي والأنس والأمل، وهذا هو الرّجاء الوثيق والأمل المستقر.
- الاطّلاع على مظاهر رحمته.
6- أهم موانع الرّجاء:
- التوجّه إلى الدّنيا: حيث يحصل عند الإنسان بمقدار هذا التوجّه تقييد وتحديد في الأسماء والصّفات والأفعال الإلهيّة، وبالتّالي الجهل بسعة الرّحمة الإلهيّة الذي يوقع الإنسان في اليأس والقنوط.
- الاعتماد على الأعمال.
289
240
الدرس الواحد والعشرون: الرجاء (2) - منشأ الرجاء وكيفية تحصيله
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا مَنْ إِذَا سَأَلَهُ عَبْدٌ أَعْطَاهُ وَإِذَا أَمَّلَ مَا عِنْدَهُ بَلَّغَهُ مُنَاهُ وإِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ قَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ وإِذَا جَاهَرَهُ بِالْعِصْيَانِ سَتَرَ عَلَيْهِ وغَطَّاهُ وَإِذَا تَوَكَّلَ عَلَيْهِ أَحْسَبَهُ وَكَفَاهُ، إِلَهِي مَنِ الَّذِي نَزَلَ بِكَ مُلْتَمِساً قِرَاكَ فَمَا قَرَيْتَهُ ومَنِ الَّذِي أَنَاخَ بِبَابِكَ مُرْتَجِياً نَدَاكَ فَمَا أَوْلَيْتَهُ أَيَحْسُنُ أَنْ أَرْجِعَ عَنْ بَابِكَ بِالْخَيْبَةِ مَصْرُوفاً ولَسْتُ أَعْرِفُ سِوَاكَ مَوْلىً بِالإِحْسَانِ مَوْصُوفاً كَيْفَ أَرْجُو غَيْرَكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدِكَ وَكَيْفَ أُؤَمِّلُ سِوَاكَ وَالْخَلْقُ وَالأَمْرُ لَكَ أَأَقْطَعُ رَجَائِي مِنْكَ وَقَدْ أَوْلَيْتَنِي مَا لَمْ أَسْأَلْهُ مِنْ فَضْلِكَ أَمْ تُفْقِرُنِي إِلَى مِثْلِي وَأَنَا أَعْتَصِمُ بِحَبْلِكَ، يَا مَنْ سَعِدَ بِرَحْمَتِهِ الْقَاصِدُونَ وَلَمْ يَشْقَ بِنِقْمَتِهِ الْمُسْتَغْفِرُونَ كَيْفَ أَنْسَاكَ ولَمْ تَزَلْ ذَاكِرِي وكَيْفَ أَلْهُو عَنْكَ وَأَنْتَ مُرَاقِبِي، إِلَهِي بِذَيْلِ كَرَمِكَ أَعْلَقْتُ يَدِي وَلِنَيْلِ عَطَايَاكَ بَسَطْتُ أَمَلِي فَأَخْلِصْنِي بِخَالِصَةِ تَوْحِيدِكَ وَاجْعَلْنِي مِنْ صَفْوَةِ عَبِيدِكَ يَا مَنْ كُلًّ هَارِبٍ إِلَيْهِ يَلْتَجِئُ وَكُلُّ طَالِبٍ إِيَّاهُ يَرْتَجِي يَا خَيْرَ مَرْجُوٍّ وَيَا أَكْرَمَ مَدْعُوٍّ وَيَا مَنْ لاَ يُرَدُّ سَائِلُهُ وَلاَ يُخَيَّبُ آَمِلُهُ يَا مَنْ بَابُهُ مَفْتُوحٌ لِدَاعِيهِ وَحِجَابُهُ مَرْفُوعٌ لِرَاجِيهِ أَسْأَلُكَ بِكَرَمِكَ أَنْ تَمُنَّ عَلَيَّ مِنْ عَطَائِكَ بِمَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنِي وَمِنْ رَجَائِكَ بِمَا تَطْمَئِنُّ بِهِ نَفْسِي وَمِنَ الْيَقِينِ بِمَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيَّ مُصِيبِاتِ الدُّنْيِا وَتَجْلُو بِهِ عَنْ بَصِيرَتِي غَشَاوَاتِ الْعَمَى بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾2.
2- ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾3.
1 الإمام السجّاد، الصحيفة السجّاديّة، مناجاة الراجين.
2 سورة النساء، الآية 104.
3 سورة يونس، الآية 11.
290
241
الدرس الواحد والعشرون: الرجاء (2) - منشأ الرجاء وكيفية تحصيله
3- ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾1.
4- ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾2.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أعظم البلاء انقطاع الرجاء"3.
2- عن أبي عَبْدِ اللهِ عليه السلام يَقُولُ: "كُنْ لِمَا لَا تَرْجُو أَرْجَى مِنْكَ لِمَا تَرْجُو فَإِنَّ مُوسَى عليه السلام ذَهَبَ لِيَقْتَبِسَ لِأَهْلِهِ نَاراً فَانْصَرَفَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ"4.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من يكن الله أمله يدرك غاية الأمل والرجاء (ونهاية الرجاء)"5.
1 سورة يونس، الآية 15.
2 سورة الإسراء، الآية 57.
3 تصنيف غرر الحكم، ص 83.
4 الكافي، ج5، ص 83.
5 تصنيف غرر الحكم، ص 83.
291
242
الدرس الثاني والعشرون: التوكّل (1) - حقيقة التوكّل وأركانه
الدرس الثاني والعشرون: التوكّل (1) - حقيقة التوكّل وأركانه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى المعنى الدّقيق للتوكّل.
2- يميّز التوكّل عن الرّضا والثّقة والتّفويض.
3- يشرح أركان التوكّل.
293
243
الدرس الثاني والعشرون: التوكّل (1) - حقيقة التوكّل وأركانه
تمهيد
لمّا كان الإيمان بالله تعالى روح الارتباط السّليم به وأساس كلّ الخيرات فذلك لأنّه بالإضافة إلى قيامه على المعرفة التي تُعدّ هدفًا لسلوك الإنسان فإنّه مصحّح لعمل الإنسان وسعيه أيضًا.
إنّ الوسيلة الوحيدة التي يحتاج إليها المخلوق في هذه الحياة الدّنيا هي ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾1. فهنا أرض العمل، ولا يمكن نيل أيّ كرامة إلّا به.
الكثير من النّاس يحبط عملهم ولا يصلون إلى أيّ نتيجة لأنّهم لم يعرفوا الأعمال المطلوبة، فـ ﴿ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾2.
إنّ الإيمان هو الذي يدلّ الإنسان على الأعمال التي يحتاج إليها للوصول إلى الغاية المنشودة وهي السّعادة الأبديّة والكمال الحقيقيّ. وإنّ من أركان الإيمان وعلائمه المؤكّدة والتي لها صلة وثيقة بتصحيح مساره: التوكّل على الله. فما هو التوكّل؟ وكيف نصبح من المتوكّلين.
ما هو التوكّل؟
إنّ كلّ من يتدبّر النصوص الإسلامية في الكتاب والسنّة يلتفت إلى عظمة التوكّل وشدّة الاهتمام به، وكفاه أهميّة أنّه جُعل من علامات الإيمان الذي لا قبول للأعمال إلّا به. بيد أنّ التوكّل قد تعرّض للكثير من التّحريف لأسباب عديدة:
1 سورة النّجم، الآية 39.
2 سورة الكهف، الآية 104.
295
244
الدرس الثاني والعشرون: التوكّل (1) - حقيقة التوكّل وأركانه
منها: رغبة الظّالمين وحكومات الجور بإخماد النّشاط الإنسانيّ البنّاء لكي لا يصطدم مع مآربها وأهدافها المشؤومة. فسعى هؤلاء من خلال عملائهم من وعّاظ السّلاطين إلى تفسير التوكّل بطريقة تنتهي إلى القعود والجمود والاكتفاء بالحدّ الأدنى من السّعي والنّشاط.
ومنها: دقّة أمر التّوكّل وابتنائه على المعرفة العميقة والأصيلة، الأمر الذي لا يتوفّر إلّا في ظلّ الارتباط بالمفسّرين الحقيقيّين للإسلام.
وقد منّ الله علينا في هذا الزّمان بشخصيّة ورثت علوم الأولياء وقدّمتها لنا بصورة رائعة استطاعت أن تخترق حواجز التّعقيد والغربة والتّسطيح الفكريّ، وامتلكت الشّجاعة الكافية لعرض المفاهيم العميقة بأسلوبٍ مبسّط وسهل، وكان منها قضيّة التّوكّل التي سنستمع إلى أهمّ أبعادها على لسان وبيان الإمام الخمينيّ قدس سره.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم أنّ التعاريف المذكورة للتوكّل في كتب اللغة وأخبار العلماء وآثارهم وكلماتهم، متقاربة المعاني، فلا حاجة لصرف الوقت في تتبّع الكثير منها، لذا نكتفي بالإشارة إلى بعضها. والظاهر أنّ معناه ـ كما تدلّ عليه مشتقّاته ـ تولية الأمر لمن يعتمد عليه المرء لأنّه يرى عجزه عن القيام به، ومنه الوكالة والتوكيل. من هنا فلعلّ ما ذكره علماء اللغة مثل الجوهريّ في الصحاح وغيره من أنّ "التّوكّل إظهار العجز والاعتماد على غيرك"، هو من باب تفسير الأمر بمقتضاه، ويمكن أن يكون أصله بمعنى العجز، مثل قولهم: "رجلٌ وكِلٌ ـ بالتحريك ـ وُكلةٌ مثل همزة: أي عاجز يكل أمره إلى غيره"، وإيكال الأمر إلى الغير مقتضى العجز عنه. ويقول بعض أهل المعرفة: "التوكل كلة الأمر كلّه إلى مالكه والتعويل على وكالته"، وقال بعضهم "التوكل على الله: انقطاع العبد إليه في جميع ما يأمله من المخلوقين"، وقال بعض العرفاء: "التوكّل طرح البدن في العبوديّة وتعلّق القلب بالربوبيّة"1.
الفرق بين التوكّل والرّضا
ولأجل توضيح معنى التّوكّل أكثر يقارنه الإمام قدس سره مع غيره من المفاهيم المتقاربة كالرّضا والتّفويض والثّقة، فيقول: "اعلم أنّ مقام "الرضا" غير مقام "التوكّل"، وهو أسمى
1 جنود العقل والجهل، ص 188-189.
296
245
الدرس الثاني والعشرون: التوكّل (1) - حقيقة التوكّل وأركانه
منه وأرفع. وذلك لأنّ المتوكّل يطلب الخير والصلاح لنفسه، فيوكل الحقّ تعالى، بصفته فاعل الخير، للحصول على الخير والصّلاح. أمّا الشّخص "الراضي" فيكون قد أفنى إرادته في إرادة الله، فلا يختار لنفسه شيئاً"1.
الفرق بين التّوكّل والتّفويض
"اعلم أنّ "التفويض" أيضًا غير التوكّل، وأنّ "الثقة" غيرهما. ولذلك فقد أشير إليهما في مقامات السّالكين بصورة منفصلة. يقول الخواجة عبد الله الأنصاري: "التَّفْويضُ ألْطَفُ إشَارةُ وَأَوْسَعُ مَعْنىً مِنَ التوكّل ثُمَّ قَالَ: التوكّل شُعْبَةٌ مِنْهُ".
وذلك لأنّ التفويض هو أن لا يرى العبد في نفسه حولا ولا قوّة، ولا يجد أنّ له التصرّف في شيء، ويرى الحقّ تعالى هو المتصرّف في كلّ الأمور.
أمّا في التوكّل فليس الأمر كذلك، لأنّ المتوكّل يجعل الحقّ سبحانه قائمًا مقامه في التصرّف واجتلاب الخير والصّلاح. وأمّا أنّ التفويض أوسع، لأنّ التوكّل فرعٌ منه، لأنّ التوكّل يكون في المصالح والتفويض يكون في الأمور كافّة. ولأنّ التوكّل لا يكون إلاّ بعد وقوع سبب يستوجبه، أي عند وجود أمر يتوكّل فيه العبد على الله، مثل توكّل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الله في أن يحفظهم من المشركين، حينما قيل لهم: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾.
وأمّا التفويض فيكون قبل وقوع السبب، كما جاء في الدعاء: المرويّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيكَ"، وقد يكون بعد وقوع السبب، مثل تمثيل مؤمن آل فرعون. إنّ ما ذكرناه يكون حاصل ترجمة شرح العارف المعروف "عبد الرزّاق الكاشاني" للتوكّل والتفويض مأخوذًا من كلام العارف الكامل "الخواجة عبد الله" مع شيء من الاختصار وفي كلام الخواجة ما يدلّ على ذلك. ولكن في اعتبار التوكّل شعبة من التّفويض يستدعي النّظر. كما أنّ في جعل التّفويض من التوكّل مسامحة واضحة. وكذلك ليس ثَمّة دليل على أنّ التوكّل يقع بعد وقوع السبب. إذ في كِلتا الحالتين قبل وبعد وقوع السبب يصحّ معنى التوكل"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 251.
2 (م.ن)، ص 251-252.
297
246
الدرس الثاني والعشرون: التوكّل (1) - حقيقة التوكّل وأركانه
الفرق بين التوكّل والثّقة
"أما "الثقة" فهي غير "التوكّل" و"التّفويض"، كما يقول الخواجة: "الثِقَةُ سَوَادُ عَيْنِ التوكّل، وَنُقْطَةُ دَائِرَةِ التَّفْوِيضِ، وَسُوَيْداءُ قَلْبِ التَّسْلِيمِ". أي أنّ المقامات الثلاثة لا تحصل من دون "ثقة"، بل إنّ روح تلك المقامات هي الثّقة بالله تعالى. فما لم يثق العبد بالحقّ تعالى، لا يمكن أن ينالها. فتبين السرّ في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بعد التوكل والتفويض، "ثِقْ بِهِ فِيْهَا وفِي غَيْرِهَا"1"2.
أركان التوكّل
وسوف يتعمّق معنى التّوكّل ويزداد تبلوره عند الحديث عن أركانه ودرجاته ويذكر الإمام للتوكّل أركانًا منها:
"1- أنّ الحقّ تعالى عالمٌ بحاجات العباد.
2- وأنّه قادر على تلبية تلك الحاجات.
3- وأنّه ليس في ذاته المقدّسة بخل.
4- وأنه رحيم بالعباد ورؤوف بهم"3.
"إذًا، فالتوكّل قائمٌ على هذه الأركان الأربعة. ولا يكفي هنا مجرّد الاعتقاد والعلم بها، بل المطلوب هو الإيمان بها ولذلك قلنا: إنّ الإيمان ـ (وليس العلم) ـ بهذه الأركان الأربعة هو باب التوكّل"4.
"ورُوي عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، قال الراوي: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾5، فقال: "التوكّل على الله درجات، منها أن تتوكّل على الله في أمورك كلّها، فما فُعل بك كنت عنه راضيًا، تعلم أنّه لا يألوك خيرًا وفضلًا، وتعلم أنّ الحكم في ذلك له، فتوكّل على الله بتفويض ذلك إليه، وثق به فيها وفي غيرها"6.
1 الكافي، ج2، ص65.
2 الأربعون حديثًا، ص 253.
3 (م.ن)، ص 250.
4 جنود العقل والجهل، ص 190.
5 سورة الطلاق، الآية 3.
6 الكافي، ج2، ص65.
298
247
الدرس الثاني والعشرون: التوكّل (1) - حقيقة التوكّل وأركانه
ذكر عليه السلام في هذا الحديث الشّريف ركنين من أركان التوكّل يصعب الاعتقاد بهما:
الأوّل: أن يعرف الإنسان أنّ الله تعالى لا يقصّر في إيصال الفضل والخير إليه.
الثاني: أن يفوّض زمام أموره جميعًا إلى الحقّ تعالى إيمانًا منه بأنّه جلّ وعلا صاحب القدرة الكاملة المحيطة وبيده مجاري جميع الأمور.
بل ولعلّه عليه السلام قد أشار بذلك، بل صرّح بجميع أركان التوكّل، لأنّ مقتضى الإيمان بأنّ مجاري الأمور جميعًا بيده جلّ وعلا، هو الإيمان بأنّه عالم بها جميعًا، ومقتضى الإيمان بأنّه لا يقصّر في حقّ عبده، الإيمان بأنّه تبارك وتعالى منزّه عن البخل والمنع"1.
"ولا يتحقّق التوكّل والاعتماد على الوكيل، إذا اختلّ الإيمان بأحد هذه الأمور كأن يحتمل الموكل الجهل في الوكيل وعدم معرفته بما يحتاجه، أو أن يطمئنّ إلى علمه بذلك لكنّه يحتمل عجزه عن تلبية حاجاته، أو أن يطمئن إلى علمه وقدرته لكنّه يحتمل فيه البخل، أو أن يطمئن إلى علمه وقدرته وعدم بخله ولكن لا يطمئن إلى شفقته ورحمته ومحبّته له، فلا يعتمد عليه حينئذٍ أيضًا"2.
التّوكّل والسّعي
تظهر الثّمرة الكبرى للتوكّل في السّعي والتكسّب. هذا وبالرّغم من أنّ التوكّل قد جُعل على أيدي الجاهلين والمغرضين سببًا للتّقصير والتّكاسل. وقد سمّاه البعض هنا بالتّواكل لا التّوكّل، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ المقولة القائلة بأنّ التوكّل لا يتنافى مع العمل والتكسّب، صحيحة، بل هي مطابقة للبرهان وللنقل، ولكنّ الاحتجاب عن ربوبيّة الحقّ وتصريفه للأمور واعتبار الأسباب مستقلّة، يتنافى والتوكّل"3.
"ينبغي التنبّه إلى أنّ التوكّل لا ينافي الكسب، بل إنّ ترك الكسب والتصرّف بعلّة التوكّل هو من النّقصان والجهل، لأنّ التوكّل ترك الاعتماد على الأسباب وإرجاعها إلى مسبّبها، لذلك فهو لا ينافي الوقوع في الأسباب. وما ذكره بعضهم من أنّ إحدى درجات التوكّل التي
1 جنود العقل والجهل، ص 208.
2 (م.ن)، ص 209.
3 الأربعون حديثًا، ص 249.
299
248
الدرس الثاني والعشرون: التوكّل (1) - حقيقة التوكّل وأركانه
هي درجة توكّل الخاصّة، هي أن يسيح الإنسان في البراري دون زاد ولا راحلة معتمدًا على الله لكي يصحّح مقام التوكّل، وما نقلوه من أنّ الحسين بن منصور لقي إبراهيم الخواص وهو في بعض طرق البوادي فسأله عن حاله فقال: "أدور في الصحاري وأطوف في البراري حيث لا ماء ولا شجر ولا روض ولا مطر، هل يصحّ حالي في التوكّل أم لا؟ فقال الحسين: إذا أفنيت عمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد؟ نقول إنّ هذا القول يكشف عن جهل هذين الرجلين بمقامي التوحيد والتوكّل، لأنّهما خلطا بين السياحة في البوادي والدروشة، ومقام التوكّل وعلّلا ترك السّعي وتعطيل القوى التي حبا الحقّ تعالى الإنسان بها، زعم أنّ التوحيد والتوكل يقتضيان ذلك. وهذا ناشئ من الجهل بمقامي التوحيد والتوكّل، لأنّ حقيقة التوحيد هي الإدراك الشهوديّ لكون جميع التصرّفات الخلقيّة هي من الحقّ جلّ وعلا، ومشاهدة جماله الجميل جلّ وعلا، في مرآة الكثرة، أجل الاحتجاب بالكثرة مخالف للتوحيد، وهذا لا يؤثّر عليه الطواف في البراري أو عدم الطواف"1.
علاقة النّاس بالتّوكّل
1- مدّعو التّوكّل
يقول الإمام قدس سره: "إنّ الناس في معرفة الرّبوبيّة مختلفون متباينون إلى حدٍّ كبير: فالموحّدون عموماً يعرفون أنّ الحقّ تعالى هو خالق مبادئ الأمور، وكلّيات الجواهر، وعناصر الأشياء، ويرون بأنّ تصرفه محدود، ولا يقولون بإحاطته بالرّبوبية. فهؤلاء تراهم تارة يقولون: مقدِّر الأمور حقّ؟ وهو المتصرّف في كلّ شيء، فما من كائن يكون إلاّ بإرادته المقدّسة. ولكنّهم ليسوا أصحاب هذا المقام، لا علمًا، ولا إيمانًا، ولا شهودًا، ولا وجدانًا.
إنّ هذا الفريق من النّاس ـ والظّاهر أنّنا منهم ـ ليس لهم علمٌ كامل بربوبيّة الله بل يكون توحيدهم ناقصًا، حيث حجبت عنهم ربوبيّة الحقّ وسلطنته لعللٍ وأسباب ظاهرة، وليس لهم مقام التوكّل وهو ما يدور كلامنا عليه إلاّ لفظًا وادّعاءً. لهذا، فإنّهم في الأمور الدنيوية لا يعتمدون على الحقّ سبحانه بأيّ شكل من الأشكال، ولا يتشبّثون إلّا بالأسباب
1 جنود العقل والجهل، ص 201-202.
300
249
الدرس الثاني والعشرون: التوكّل (1) - حقيقة التوكّل وأركانه
الظاهريّة والمؤثّرات الكونيّة، وإذا ما اتّفق أحيانًا أن توجّهوا إلى الحقّ تعالى وطلبوا منه حاجة أو رجوا منه رجاءً، فذلك من باب التّقليد أو من باب الاحتياط، لأنّهم لا يرون في ذلك ضررًا عليهم، بل ربّما يحتملون فيه الفائدة. وفي هذه الحال توجد رائحة التوكّل. ولكنّهم إذا رأوا الأسباب الظّاهرة ملائمة ومطابقة لأهوائهم، غفلوا كليًّا عن الله تعالى وعن تصريفه للأمور.
إنّ هؤلاء الذين لا يتمسّكون حتّى بأدنى درجات التوكّل في أعمالهم الدّنيوية، يتحدّثون فيما يتعلّق بالأمور الأخرويّة عن التوكّل بزهوٍ ومباهاة، وإذا ما ظهر منهم أيّ تهاون وضعف وكسل في العلم أو في تهذيب النفس والعبادات والطّاعات، بادروا إلى إظهار اعتمادهم وتوكّلهم على الحقّ تعالى وفضله، وكأنّهم يريدون بمجرّد تلفّظهم بأنّ "الله عظيم" و"إنّنا متوكّلون على فضل الله" أن ينالوا الدّرجات الأخروية! فإنّهم يقولون في الشّؤون الدنيوية: إنّ السّعي والعمل لا يتنافيان مع التوكّل على الله، وفي الأمور الأخرويّة يرون السّعي والعمل ينافيان الاعتماد والتوكّل عليه. وما هذا إلاّ من مكائد النفس والشيطان. فهؤلاء ليسوا متوكّلين على الله، لا في الأمور الدنيوية ولا في الأمور الأخروية، ولا هم يعتمدون عليه في أيّ أمر من الأمور. ولكنّهم، لاهتمامهم بالأمور الدنيوية يتشبّثون بالأسباب، دون الاعتماد على الحقّ تعالى وتصريفه للشؤون في العالم. وعلى العكس من ذلك، فهم، لعدم اهتمامهم بأمور الآخرة، وعدم إيمانهم إيمانًا صادقًا بيوم المعاد وتفاصيله، يصطنعون لذلك الأعذار. فمرّة يقولون: "الله عظيم" ومرّة يظهرون الاعتماد على الله وعلى شفاعة الشّفعاء، مع أنّ هذا كلّه ليس سوى لقلقة لسان لا أساس لها من الحقيقة في شيء1.
2- المعتقدون عقليًّا بالتوكّل
"وثمّة فريق آخر من النّاس اقتنعوا، إمّا بالبرهان وإمّا بالنّقل، وصدّقوا بأنّ الحقّ تعالى هو مقدِّر الأمور، ومسبّب الأسباب، والمؤثّر في الوجود، ولا حدود لقدرته وتصرّفه. هؤلاء يتوكّلون على الله سبحانه عن طريق العقل، أي أنّ أركان التوكّل تامّة عندهم، بحسب الأدلة العقليّة والنقليّة ولهذا فهم يرون أنفسهم من المتوكّلين، ويقيمون الدليل أيضًا على لزوم
1 الأربعون حديثًا، ص 248-249.
301
250
الدرس الثاني والعشرون: التوكّل (1) - حقيقة التوكّل وأركانه
التوكّل، لأنّهم أثبتوا أركان التوكّل... إذاً، يجب التوكّل على عالمٍ قديرٍ كريمٍ رحيمٍ بالعباد قائم بمصالحهم، لا يفوّت عليهم شيئاً فيها، حتى وإن لم يميّزوا هم بين ما ينفعهم وما يضرّهم. هؤلاء وإن كانوا من المتوكّلين عمليًّا، إلاّ أنهم لم يبلغوا مرتبة الإيمان. فهم لهذا مضطربون في اتّخاذ أمر من أمورهم، وعقولهم مغلوبة في الصّراع مع قلوبهم، لأنّها بالأسباب متعلّقة، وعن تصرّف الحقّ سبحانه في الأشياء محجوبة"1.
3- المعتقدون قلبيًّا بالتوكّل
"أمّا الطّائفة الثالثة، فهم الذين توصّلوا بقلوبهم إلى معرفة تصرّف الحقّ تعالى في الكائنات، فآمنت تلك القلوب بأن مقدّر الأمور، والسّلطان ومالك الأشياء، هو الحقّ تعالى، وكتبوا بقلم العقل على ألواح القلوب أركان التوكّل. هؤلاء هم أصحاب مقام التوكّل. غير أنّ هؤلاء أيضًا يختلفون من حيث مراتب الإيمان ودرجاته اختلافًا كبيرًا، قبل أن يصلوا إلى درجة الاطمئنان الكامل. وعند ذاك تظهر في قلوبهم درجة التوكّل الكاملة، ولا تتعلّق بالأسباب، بل تتشبّث بمقام الربوبيّة، فتطمئنّ إليه وتعتمد عليه، وكلّ ما قلناه يعود إلى ما إذا كان القلب في مقام الكثرة الأفعاليّة، وإلاّ فإنّه يتجاوز مقام التوكّل ويخرج عن المقصود"2.
1الأربعون حديثًا، ص 249-250.
2 (م.ن)، ص 250.
302
251
الدرس الثاني والعشرون: التوكّل (1) - حقيقة التوكّل وأركانه
المفاهيم الرئيسة
1- التّوكّل من علامات الإيمان الذي لا قبول للأعمال إلّا به.
2- الفرق بين الرّاضي والمتوكّل هو أنّ المتوكّل يطلب الخير والصّلاح لنفسه فيوكّل الحقّ تعالى بصفته فاعل الخير للحصول على الخير والصّلاح. أمّا الشّخص "الراضي" فيكون قد أفنى إرادته في إرادة الله، فلا يختار لنفسه شيئًا.
3- الفرق بين التّفويض والتوكّل هو أنّ في التّفويض لا يرى العبد في نفسه حولًا ولا قوّة، ولا يجد أنّ له التّصرّف في شيء، ويرى الحقّ تعالى هو المتصرّف في كلّ الأمور، في حين أنّ في التوكّل الأمر ليس كذلك. والتوكّل يكون في المصالح والتفويض يكون في الأمور كافّة.
4- إنّ التوكّل والتفويض والتسليم مقامات لا تحصل من دون "ثقة"، بل إنّ روح تلك المقامات هي الثّقة بالله تعالى.
5- الإيمان بالأركان الأربعة التالية هو باب التوكّل: 1. أنّ الحقّ تعالى عالمٌ بحاجات العباد، 2. وأنّه قادر على تلبية تلك الحاجات، 3. وأنّه ليس في ذاته المقدّسة بخل، 4. وأنّه رحيم ورؤوف بالعباد.
6- ما يتنافى مع التوكّل هو الاحتجاب عن ربوبيّة الحقّ وتصريفه للأمور واعتبار الأسباب مستقلّة، لا العمل والتكسّب.
7- النّاس ثلاثة أصناف: 1. مدّعو التّوكّل وهم الذين لا علم كامل لهم بربوبيّة الله، فتوحيدهم ناقص وليس لهم مقام التوكّل. 2. المعتقدون بالتوكّل هؤلاء هم الذين اعتقدوا إمّا بالبرهان وإمّا بالنّقل، وصدّقوا بأنّ الحقّ تعالى هو مقدِّر الأمور. 3. أصحاب مقام التوكّل وهم الذين توصّلوا بقلوبهم إلى معرفة تصرّف الحقّ تعالى في الكائنات.
303
252
الدرس الثاني والعشرون: التوكّل (1) - حقيقة التوكّل وأركانه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
يَا مَنْ إِذَا سَأَلَهُ عَبْدٌ أَعْطَاهُ وَإِذَا أَمَّلَ مَا عِنْدَهُ بَلَّغَهُ مُنَاهُ وَإِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ قَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ وَإِذَا جَاهَرَهُ بِالْعِصْيَانِ سَتَرَ عَلَيْهِ وَغَطَّاهُ وَإِذَا تَوَكَّلَ عَلَيْهِ أَحْسَبَهُ وَكَفَاهُ1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾2.
2- ﴿قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾3.
3. ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾4.
الروايات الشريفة:
1- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "لَيْسَ شَيْءٌ إِلَّا ولَهُ حَدّ،ٌ قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ فَمَا حَدُّ التَّوَكُّلِ؟ قَالَ: الْيَقِينُ؟ قُلْتُ: فَمَا حَدُّ الْيَقِين؟ِ قَالَ: أَلَّا تَخَافَ مَعَ اللهِ شَيْئاً"5.
2- سَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم جَبْرَئِيلَ عَنْ تَفْسِيرِ التَّوَكُّلِ، فَقَالَ: "الْيَأْسُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ"6.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "التوكّل التبرّي من الحول والقوّة وانتظار ما يأتي به القدر"7.
4- عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: "حُسْنُ ظَنِّ الْعَبْدِ بِاللهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ رَجَائِهِ لَهُ حُسْنُ تَوَكُّلِ الْعَبْدِ عَلَى اللهِ عَلَى قَدْرِ ثِقَتِهِ"8.
1 الصحيفة السجادية، مناجاة الراجين.
2 سورة آل عمران، الآية 173.
3 سورة الأعراف، الآية 89.
4 سورة الأنفال، الآية 2.
5 الكافي، ج2، ص 57.
6 مستدرك الوسائل، ج11، ص 218.
7 غرر الحكم، ص 196.
8 مستدرك الوسائل، ج11، ص 252.
304
253
الدرس الثالث والعشرون: التوكّل (2) - منشأ التوكل، آثاره وكيفية تحصيله
الدرس الثالث والعشرون: التوكّل (2) - منشأ التوكل، آثاره وكيفية تحصيله
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن منشأ التوكلّ.
2- يشرح العلاقة الحاكمة بين التوكّل والإيمان.
3- يتعرّف إلى بعض السبل لتحصيل التوكّل.
305
254
الدرس الثالث والعشرون: التوكّل (2) - منشأ التوكل، آثاره وكيفية تحصيله
تمهيد
بالرّغم من كلّ ما يُقال عن التوكّل، فإنّ قارئ القرآن الكريم لا يشكّ لحظ بأنّه من أهم علامات المؤمنين وصفاتهم. وبالرّغم من التّفسيرات المغلوطة للتوكّل في الفكر وفي العمل، فإنّ نوره لم ينطمس في قلب سماء الفضائل والقيم الإسلاميّة.
ولهذا يسعى المؤمن لمعرفة حقيقة التوكّل من خلال إدراك منشئه، فيميّزه عن التواكل والتّكاسل والغفلة والبلادة. ويعلم أنّ التوكّل من أهم صفات أهل الفهم والعقل.
هناك سيدرك أعظم ما فيه من راحة النّفوس وطمأنينة القلب والعزّ الذي يناله بإدراك فقر المخلوقين وعجزهم.
من أين ينشأ التّوكّل؟
1- الفطرة
"اعلم أنّ إحدى الحقائق اللطيفة المسجّلة بقلم القدرة الأزليّة في فطرة كلّ إنسان أي أنّها من مقتضيات الفطرة المخمّرة السليمة هي فطرة الافتقار، ومعناها أنّ كل إنسان ـ دون استثناء، ودون مخالفة أي صاحب رأي من الآراء بهذا الخصوص ـ يرى نفسه محتاجًا ومفتقرًا، ويرى حقيقته الوجوديّة متعلّقة ومرتبطة بغيره، وكلّ ذلك بحسب الهويّة الذاتيّة وبحسب أصل الوجود وكمال الوجود... ولو فصّلنا الحديث في هذه الحقيقة الفطريّة وبيّنّا أحكامها ومقتضياتها، لاتّضح ثبوت جميع الأسماء والصّفات الموجودة في دار التحقّق ـ والتي هي من الكمالات المطلقة للذّات المقدّسة ـ للغنيّ المطلق عزّ وجل، فيتّضح حينئذٍ أنّ من مقتضيات هذه الحقيقة الفطريّة الرّجاء والخوف، والتوكّل والتسليم، والثقة بهذه الذات المقدّسة، ونظائر هذه المقامات: إذًا، اتّضح أنّ توجّه الناقص للكامل المطلق بهدف رفع
307
255
الدرس الثالث والعشرون: التوكّل (2) - منشأ التوكل، آثاره وكيفية تحصيله
النّقص وسدّ الاحتياج هو من الأمور الفطريّة والجبلّيّة، وعليه فإنّ التّوكّل من جنود العقل ومقتضيات الفطرة المخمّرة"1.
2- الإيمان
"قال تعالى في سورة الأنفال في صفة المؤمنين: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾، (إلى أن قال) ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾. يصرّح الله تعالى في هذه الآيات وعلى نحو الحصر بأنّ المؤمنين هم الذين تتوفّر فيهم الصّفات المذكورة في هذه الآيات، أي أنّ من لم تتوفّر فيهم ليسوا بمؤمنين، ومن هذه الصّفات أنّهم يثقون بربّهم، ويتوكّلون عليه في أعمالهم، وتتعلّق به قلوبهم. وعليه يتّضح أنّ الذين تتوجّه قلوبهم إلى غيره ويعتمدون على غير ذاته المقدّسة جلّ وعلا، ويتطلّعون في أمورهم إلى سواه، ويطلبون الفرج من غيره تعالى، هم فاقدون لحقيقة الإيمان، محرومون من نور الإيمان. فهذه الآية الكريمة والآيات الأخرى المشتملة على المضمون نفسه، تشهد بصحّة ما قلناه من أنّ الإنسان لا يصل إلى مقام التوكّل وحقيقته إذا لم يصل إلى مرتبة الإيمان"2.
3- العلم والمعرفة
يقول الإمام قدس سره: "اعلم أنّ اختلاف درجات التّوكّل ناشئ من اختلاف مراتب المعرفة بأركانه، فإذا عرفها الإنسان بوسيلة العلم حكم ـ علمًا وبرهانًا ـ بوجوب التّوكّل، وقد اتّضح سابقًا أنّ هذه المرتبة لا يمكن أن يصدق عليها معنى التّوكّل، ولكن إذا آمن بالأركان المذكورة فاز بمقام التوكّل في مرتبته الأولى"3.
و"إذا عرف المؤمن أنّ جميع الأشياء مخلوقة له، وهو مخلوق للحقّ تعالى، وهذا ما يشهد له مقام جامعيّة الإنسان نفسه الذي تدلّ عليه الآية الكريمة: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾4، وكذلك الآية الكريمة ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾5،
1 جنود العقل والجهل، ص 203-204.
2 (م.ن)، ص 205-206.
3 (م.ن)، ص 200.
4 سورة التين، الآيتان 4 و 5.
5 سورة البقرة، الآية 31.
308
256
الدرس الثالث والعشرون: التوكّل (2) - منشأ التوكل، آثاره وكيفية تحصيله
وكذلك قول الإمام عليّ عليه السلام في الأشعار المنسوبة إليه: أتزعم أنّك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر ـ فجميع موجودات عوالم الغيب والشّهادة مخلوقة لإيصال هذا الموجود الشّريف إلى مقامه، وقد ورد في الأحاديث القدسيّة: "يا بن آدم! خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي"1، نقول: إذا عرف المؤمن ذلك، وعرف كيف يستفيد من المخلوقات في إصلاح نفسه وإيصالها إلى الكمال اللائق بها، وأدرك أنّ الحقّ جلّ وعلا هو العالم بكيفيّة تسخير المخلوقات في إصلاحه، وعرف بقيّة أركان التوكّل بنور الإيمان، حينئذٍ يتوكّل على الحقّ تعالى ويتّخذه وكيلًا عنه للوصول إلى هذه الغاية السامية"2.
ثمار التوكّل
1- الإيمان
مثلما أنّ التوكّل ينشأ من الإيمان، فإنّه يزيد الإيمان أيضًا، يقول الإمامقدس سره: "وفي مستدرك الوسائل عن كتاب الجعفريات مسنداً لأمير المؤمنين عليه السلام، أنّه قال: "الإيمان له أركان أربعة: التوكل على الله، تفويض الأمر إلى الله، والرّضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله تعالى"3. ينبغي التنبّه إلى أنّ الإيمان هو من جهة ركنٌ لمثل هذه الملكات النفسانيّة والأحوال القلبيّة الفاضلة، كما تقدّم توضيح ذلك، كما أنّ هذه الملكات والأحوال هي من جهة أخرى أركان للإيمان الذي تبقى حقيقته محفوظة بها، أي أنّ الإيمان ـ في إحدى مراتبه ـ يثمر هذه الملكات والفضائل، فإذا ظهرت في النّفس وترسّخت فيها، نقلته إلى مرتبة إيمانيّة أكمل، تثمر بدورها مرتبة أكمل من تلك الملكات والفضائل، وهكذا فإنّ كل مرتبة تستند إلى المرتبة الأخرى"4.
1 راجع الجواهر السنيّة في الأحاديث القدسيّة، الحر العامليّ، ص710.
2 جنود العقل والجهل، ص 200-201.
3 الكافي، ج2، ص47.
4 جنود العقل والجهل، ص 209.
309
257
الدرس الثالث والعشرون: التوكّل (2) - منشأ التوكل، آثاره وكيفية تحصيله
2- الغنى والعزّة
"ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إِنَّ الْغِنَى وَالْعِزَّ يَجُولَانِ فَإِذَا ظَفِرَا بِمَوْضِعِ التَّوَكُّلِ أَوْطَنَا"1. أجل، إنّ الغنى والاستغناء وعزّة النّفس وكمالها إنّما يتحقّقان بالتوكّل على الحقّ تعالى والثّقة به. فالذي يتوجّه إلى باب الغنيّ المطلق لسدّ فقره، ويتعلّق قلبه به تعالى، ويقطع طمعه عن المخلوق الفقير، يحلُ الاستغناء والغنى عن المخلوق في قلبه ويستوطنان فيه. في حين أنّ كل فقر وذلّة وعجز ومنّة ناتجة من الحرص والطّمع بما في أيدي المخلوق الضعيف، قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾، أي يقطعه عن الطّمع بما عند المخلوق، وفي ذلك منتهى عزّة النّفس وعظمتها وغناها عن الآخرين. ورُوى أيضًا بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "من أُعطي الشّكر أُعطي الزيادة، ومن أُعطي التوكّل أُعطي الكفاية". ثمّ قال عليه السلام: "أتلوت كتاب الله عز وجل: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾، وقال: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾، وقال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾2"3.
"إذا توكّل أحد على الله تعالى واعتمد عليه فيقطع الطّمع عمّا في أيدي الآخرين ويحطّ رحل حاجته وفقره عند باب الغنيّ المطلق، ولا يرى سائر الذين هم مثله - فقراء ومساكين - حلاّلين لمشاكله"4. وقد علمت أنّ أهم ثمار التّوكّل تصحيح المنهج العلميّ للإنسان في الحياة وتصويب مساره.
3- الشّهود
"يقول تعالى في سورة التغابن المباركة: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، ونلاحظ هنا أنّ الآية الكريمة قد ذكرت أوّلاً كلمة التّوحيد الشّريفة، ثمّ أمرت وبصورة مؤكّدة بأن يتوكّل المؤمنون على الله تعالى. ويمكن أن تكون في ذلك إشارة إلى مرتبة أسمى من المقام الأوّل، ولهذا فالآية السّابقة ذكرت أنّ من صفات المؤمنين التوكّل على الله، في حين أمرت هذه الآية بالتوكّل، فلعلّ في تقديم ذكر كلمة التّوحيد إشارة
1 الكافي، ج2، ص 65.
2 الكافي, ج2, ص65.
3 جنود العقل والجهل، ص 207-208.
4 معراج السالكين، ص 217.
310
258
الدرس الثالث والعشرون: التوكّل (2) - منشأ التوكل، آثاره وكيفية تحصيله
إلى ما ذكرناه سابقًا من أنّه ـ وبعد تحقّق مرتبة الإيمان وكمال الإيمان ـ يظهر في قلب السّالك التّجلّي التّوحيديّ الفعليّ فيدرك به السّالك أن لا ألوهيّة ولا تأثير لأيّ موجود من الموجودات في مملكة الحقّ تعالى، فهو عزّ وجل المتصرّف والمؤثّر الوحيد فيها وفي الأمور جميعًا، فلا يوجد ضارّ أو نافع في العالم غيره تعالى، وبذلك يصل السّالك إلى مرتبة أعلى من التوكّل"1.
و"عندها تتجلّى مقتضيات ولوازم هذه المعارف في باطن قلبه، ويشعّ في ملكوت النّفس نور التوكل والتفويض والثّقة بالله تعالى ونظائرها، فينفطم الطفل القلبيّ الفتيّ، وينفصل عن ثدي الطبيعة وهي أمّه الرضاعيّة، ويتأهّل لتناول الأطعمة الرّوحيّة المعنويّة غير الطبيعيّة، ثمّ يترقّى من منزل المعاملات ـ والتوكّل منها ـ إلى منازل أخر، ويقوى كل يوم انفصاله عن الطبيعة ومنزل الدنيا واتّصاله بالحقيقة ومنزل الأنس والقدس والعقبى، ويتجلّى في قلبه أوّلاً نور التوحيد الأفعالي ثمّ يتجلّى قبسٌ من التّوحيد الأسمائيّ والصّفاتيّ، وكلّما اشتدّت تجلّيات هذا النّور اشتدّ أيضًا اندكاك وانهيار جبل حبّ النّفس والعجب والأنانيّة والإنيّة، إلى أن يندك وينهار هذا الجبل بالكامل، ويتحقّق الصّعق الكلّيّ وذلك بالتجلّي التام لربّ الإنسان: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا﴾2.
في كيفيّة تحصيل التّوكّل
1.- إدخال أركان التوكّل إلى القلب
"إذن فعلى طالب الوصول إلى مقامات التّوكّل والتّفويض والثّقة والتّسليم وغيرها من قسم المعاملات -حسب اصطلاح أهل المعرفة ـ أن يتجاوز مرتبة العلم إلى مرتبة الإيمان، ولا يقنع بالعلوم الرّسميّة الصّرفة، بل عليه أن يدخل إلى قلبه أركان ومقدّمات حصول تلك الحقائق لكي تحصل له تلك المقامات والحالات، وقد بيّنا سابقًا سبيل اكتساب تلك المعارف وإيصالها إلى لوح القلب على نحو الإجمال، ونكرّر هنا ذكره مجملًا: (فتقول): ينبغي التنبّه إلى أنّ على السّالك أن يعقد العزم على إدخال حقائق أركان التوكل إلى قلبه بعد أن أدركها
1 جنود العقل والجهل, ص 206.
2 (م.ن)، ص 193.
311
259
الدرس الثالث والعشرون: التوكّل (2) - منشأ التوكل، آثاره وكيفية تحصيله
عقله استنادًا إلى العلم البرهانيّ، ولا يتحقّق ذلك إلّا بأن ينتخب المجاهد لنفسه ساعةً من ليله ونهاره، يقلّ فيها اشتغال النّفس بعالم الطّبيعة والكثرة، ويكون قلبه فيها فارغ البال، فيتشغل فيها بذكر الحقّ تعالى مقرونًا بحضور القلب وتوجّهه وبالتفكّر في الأذكار والأوراد المأثورة. فيتلو ـ مثلاً بإقبال قلبيّ تامّ في تلك السّاعة التي يتفرّغ فيها القلب ـ الذّكر الشّريف "لا إله إلّا الله" وهو أعظم الأذكار وأشرف الأوراد ويكون هدفه أن يعلّم القلب حقيقة هذا الذّكر الشّريف، فيكرّره عليه بطمأنينة وتفكّر، ويوقظه به حتّى يوجد فيه حال التذكّر والرقّة، عندئذٍ ينطق القلب ـ بوسيلة المدد الغيبي ـ بهذا الذكر الشّريف ويتبعه اللسان. وما أكثر ما تؤدّي المداومة على هذا العمل الّشريف ـ مع التزام شروطه وآدابه الظاهريّة والباطنيّة ـ في أوقات تفرّغ النّفس، إلى تذكّر القلب ـ مبادرة دون تذكير ـ فيتبعه اللسان فيلهج بهذا الذّكر الشّريف حتّى والإنسان نائم أحيانًا، بل ويبلغ مرتبة تذكّر النّفس التّوحيد والتّفريد في حال انشغالها بالكثرة والطّبيعة، بل وما أكثر ما تؤدّي شدّة الاشتغال بهذا العمل مع طهارة النّفس وإخلاص النيّة إلى أن يبلغ العبد مرتبة لا يمنعه أيّ شاغل معها عن الذّكر، فتغلب نورانيّة التّوحيد على جميع أموره"1.
2- إدخال العلم بسعة رحمة الحقّ ولطفه إلى القلب
"ثمّ عليه أن يدخل إلى قلبه بالطّريقة نفسها العلم بسعة رحمة الحقّ تعالى ولطفه وشفقته ورأفته بعباده، وذلك بالتذكّر الشّديد والتفكّر في رحمات الحقّ تعالى المحيطة به منذ ما قبل ولادته وإلى آخر الأبد، فيدرك قلبه، تدريجيًّا، نموذجًا من المحبّة الإلهيّة، وكلّما كان التذكّر أشدّ ـ خصوصاً في أوقات تفرّغ القلب ـ ازدادت هذه المحبّة، حتّى يرى الحقّ تعالى أرحم به وأرأف من كلّ موجود، ويشاهد بنور البصيرة القلبيّة حقيقة "أرحم الراحمين".
ويدخل بهذه الكيفيّة، أيضًا، أركان التوكل الآخر إلى قلبه، أي بشدّة التذكّر ورياضة القلب، حتّى يأنس القلب ويألف تلك الحقائق""2.
1 جنود العقل والجهل, ص 206.
2 (م.ن)، ص 193.
312
260
الدرس الثالث والعشرون: التوكّل (2) - منشأ التوكل، آثاره وكيفية تحصيله
3- ترك الاعتماد على الأسباب الظاهريّة
"فعلى السالك إلى الله ـ ومن أجل تصحيح التوكّل- أن ينقطع ـ بنور المعرفة- عن الأسباب الظاهريّة فلا يطلب منها حاجة، لا أن يترك العمل أصلاً! بل ويمكن القول: إنّ هذا هو مراد الخواجة العارف الأنصاري من قوله: "والدرجة الثانية: التوكّل مع إسقاط الطلب وغضّ العين عن السبب اجتهادًا في تصحيح التوكل1.
أهم موارد التّوكّل
وبعد التّأمّل فيما ذكره الإمام من كلمات نورانيّة توقظ القلب الغافل وتحرّض الطّالب النّاكل، يتّضح لنا أنّ الحاجة إلى التّوكّل تبرز بصورة أساسيّة في حياتنا العمليّة وخصوصًا عندما نعيش القلق تجاه الرّزق. ففي أكثر الأحيان يُعرض علينا عمل ما يمكن أن يكون وسيلة لكسب بعض المال، لكنّ هذا العمل قد يكون مخلًّا بأعمال أخرى واجبة ترتبط بجهادنا ومقاومتنا. هنا بالذّات سيكون للتوكّل أعظم الأثر في صدّنا عن سلوك طريق ينتهي بنا إلى الخسران المبين، كما قال عليّ أمير المؤمنين عليه السلام: "لاَ يَتْرُكُ النَّاسُ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ لاِسْتِصْلاَحِ دُنْيَاهُمْ إلاَّ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُ"2.
فبالتّوكّل على الله نمضي في جهادنا بالرّغم من القلق الذي نعيشه تجاه الرّزق ونكل أمره كلّه لله. ولا شكّ بأنّ الذي يتوكّل على الله سوف يكفيه الله تعالى كما جاء في الحديث: "من أُعطي التوكّل أُعطي الكفاية"3، ويجب أن نعلم أنّ طريق الكفاية وكيفيّتها أمرٌ يحدّده الله تعالى لا نحن. فإذا كنّا نحصر كفاية أمورنا بشيء محدّد ربّما لن ندرك الكفاية أبدًا.
أمّا إذا كان هذا السّبب المفتوح غير متعارض مع جهادنا وتكليفنا ولا يؤدّي إلى إرهاق الجسد إلى حدّ التّلف ولا يصرفنا عن مهمّة تربية أبنائنا والاعتناء بهم وفق ضوابط التّربية ومستلزماتها، فإنّ تركه عندئذٍ لا دخل له بالتّوكّل، بل هو نوع من الحماقة المدعومة بالكسل. والله الموفّق.
1 (م.ن)، ص 202.
2 نهج البلاغة, ص 487.
3 الكافي, ج2, ص 65.
313
261
الدرس الثالث والعشرون: التوكّل (2) - منشأ التوكل، آثاره وكيفية تحصيله
موعظة للإمام
"نحن جميعًا نعلم أنّ لا أحد يستطيع التصرّف بشيء في مملكة الحقّ تعالى من غير الإذن القيّوميّ والإشارة الإشراقيّة لذاته المقدّسة جلّ وعلا، ولا يمكن أن تغلب إرادة أيّ مخلوق إرادته القويمة عزّ وجلّ ولكننّا مع ذلك نطلب الحاجات من أهل الدّنيا وأصحاب الثّروة ونغفل عنه تعالى! وتوكّلنا على الطّبيعة وأوضاعها وأمورها يزيد بمئات الأمثال على توكّلنا عليه تبارك وتعالى، والسرّ في ذلك هو - ولا غيره - أنّ حقيقة التوحيد الأفعاليّ لم تدخل قلوبنا. الحكيم الفلسفيّ يقول: "لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله"، لكنّه يطلب حاجته من غيره تعالى! والمتعبّد المتنسّك يجعل ورده ذكر: "لا حول ولا قوّة إلاّ بالله" و: "لا إله إلا الله"، ورغم ذلك فإنّه يمدّ عينه إلى أيدي الآخرين، ولا علّة لذلك سوى أنّ برهان ذاك لم يخرج من دائرة العقل والإدراك العقلي ولم يدخل القلب، وذكر هذا لم يتجاوز لقلقة اللسان ولم يتذوّقه القلب"1.
و"لقد عرفنا أركان التوكّل بالعلم الاستدلاليّ والبراهين المقنعة، ولم يبقَ لدينا شكّ ولا ريب بشأنها، ورغم ذلك لم يشرق في قلوبنا من نور التوكّل شعاع، ولم يظهر فينا أثر لصفاء الانقطاع عن الخلق، والانقطاع إلى الحقّ جلّ وعلا، فهذه الخصوصيّة الإيمانيّة أيضًا مسلوبة منّا، وإذ فقدت علائم الإيمان في شخص فالإيمان نفسه مفقود فيه أيضًا"2.
1 جنود العقل والجهل، ص 94-95.
2 (م.ن), ص 99.
314
262
الدرس الثالث والعشرون: التوكّل (2) - منشأ التوكل، آثاره وكيفية تحصيله
المفاهيم الرئيسة
1- مناشئ التوكّل:
- الفطرة: كل إنسان يرى نفسه محتاجًا ومفتقرًا، ويرى حقيقته الوجوديّة متعلّقة ومرتبطة بغيره، من مقتضيات هذه الحقيقة الفطريّة الرّجاء والخوف، والتوكّل والتسليم، والثقة بهذه الذات المقدّسة.
- العلم والمعرفة: إذا عرف المؤمن أنّ جميع الأشياء مخلوقة له، وهو مخلوق للحقّ تعالى، وأدرك أنّ الحقّ جلّ وعلا هو العالم بكيفيّة تسخير المخلوقات في إصلاحه، وعرف بقيّة أركان التوكّل بنور الإيمان، حينئذٍ يتوكّل على الحقّ.
2- ثمار التوكل:
- الإيمان: الإيمان هو ركنٌ لمثل هذه الملكات النفسانيّة الفاضلة (كالتوكّل والتفويض والتسليم).
- الغنى والعزة: فالذي يتوجّه إلى باب الغنيّ المطلق لسدّ فقره، ويتعلّق قلبه به تعالى، ويقطع طمعه عن المخلوق الفقير، يحلُ الاستغناء والغنى عن المخلوق في قلبه.
3- كيف يحصل التوكل:
- إدخال أركان التوكل إلى القلب: ولا يتحقّق ذلك إلّا بأن ينتخب المجاهد لنفسه ساعةً من ليله ونهاره، يقلّ فيها اشتغال النّفس بعالم الطّبيعة والكثرة، ويكون قلبه فيها فارغ البال، فيتشغل فيها بذكر الحقّ تعالى مقرونًا بحضور القلب وتوجّهه وبالتفكّر في الأذكار والأوراد المأثورة.
- إدخال العلم بسعة رحمة الحقّ ولطفه إلى القلب: وذلك بالتذكّر الشّديد والتفكّر في رحمات الحقّ تعالى المحيطة به منذ ما قبل ولادته وإلى آخر الأبد، فيدرك قلبه، تدريجيًّا، نموذجًا من المحبّة الإلهيّة.
- ترك الاعتماد على الأسباب الظاهريّة (لا ترك العمل).
4- بالتّوكّل على الله نمضي في جهادنا بالرّغم من القلق الذي نعيشه تجاه الرّزق ونكل أمره كلّه لله.
315
263
الدرس الثالث والعشرون: التوكّل (2) - منشأ التوكل، آثاره وكيفية تحصيله
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاقْبِضْ عَلَى الصِّدْقِ نَفْسِي، وَاقْطَعْ مِنَ الدُّنْيَا حَاجَتِي، وَاجْعَلْ فِيمَا عِنْدَكَ رَغْبَتِي شَوْقاً إِلَى لِقَائِكَ، وَهَبْ لِي صِدْقَ التَّوَكُّلِ عَلَيْكَ أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ كِتَابٍ قَدْ خَلاَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كِتَابٍ قَدْ خَلاَ، أَسْأَلُكَ خَوْفَ الْعَابِدِينَ لَكَ، وَعِبَادَةَ الْخَاشِعِينَ لَكَ، وَيَقِينَ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْكَ، وَتَوَكُّلَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْكَ1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾2.
2- ﴿وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾3.
3- ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾4.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "مَنْ قَنِعَ لَمْ يَغْتَمَّ مَنْ تَوَكَّلَ لَمْ يَهْتَمَّ"5.
2- عَنِ الْبَاقِرِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ لَا يُغْلَبُ"6.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من توكل على الله أضاءت له الشبهات وكفي المؤنات وأمن التبعات"7.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام في استكشاف الهموم.
2 سورة إبراهيم، الآية 12.
3 سورة هود، الآية 123.
4 سورة النحل، الآيات 98 – 99.
5 مستدرك الوسائل، ج15، ص 233.
6 (م.ن)، ج11، ص 217.
7 تصنيف غرر الحكم، ص 197.
316
264
الدرس الثالث والعشرون: التوكّل (2) - منشأ التوكل، آثاره وكيفية تحصيله
4- عن الإمام الصادق عليه السلام: "فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ مُتَوَكِّلًا لَا مُتَعَلِّلًا فَكَبِّرْ عَلَى رُوحِكَ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ وَوَدِّعْ أَمَانِيَّكَ كُلَّهَا تَوْدِيعَ الْمَوْتِ لِلْحَيَاةِ، وَأَدْنَى حَدِّ التَّوَكُّلِ أَنْ لَا تُسَابِقَ مَقْدُورَكَ بِالْهِمَّةِ وَلَا تُطَالِعَ مَقْسُومَكَ وَلَا تَسْتَشْرِفَ مَعْدُومَكَ فَيَنْتَقِضَ بِأَحَدِهَا عَقْدُ إِيمَانِكَ وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ"1.
5- عن رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ أَرَادَ التَّوَكُّلَ عَلَى اللهِ فَلْيُحِبَّ أَهْلَ بَيْتِي، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَلْيُحِبَّ أَهْلَ بَيْتِي، وَمَنْ أَرَادَ الْحِكْمَةَ فَلْيُحِبَّ أَهْلَ بَيْتِي، وَمَنْ أَرَادَ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَلْيُحِبَّ أَهْلَ بَيْتِي فَوَاللهِ مَا أَحَبَّهُمْ أَحَدٌ إِلَّا رَبِحَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"2.
1 مستدرك الوسائل، ج11، ص 218.
2 بحار الأنوار، ج27، ص 116.
317
265
الدرس الرابع والعشرون: التسليم
ولا شكّ بأنّ العلم بحقيقة الوجود ومعرفة نظام الخلقة تؤدّي بالنّفوس الطّاهرة إلى حالة الانقياد والتّسليم التامّ لأصل الأشياء ومبدئها ومدبّرها. ومثل هذه المعرفة إنّما هي حصيلة إعمال العقل واستعماله في التفكّر في آيات الله السّارية في كلّ العوالم.
كيفيّة تحصيل التّسليم
نستفيد ممّا ذكره الإمام في العديد من المناسبات ـ وخصوصًا مناسبة الحديث عن التّسليم ـ أنّ تحصيل هذه الملكة الفاضلة، بل المقام المنيع إنّما يكون برعاية الأمور التالية:
1- الانتقال من العلم إلى الإيمان
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "فعلى طالب الوصول إلى مقامات التوكّل والتفويض والثّقة والتسليم وغيرها من قسم المعاملات ـ حسب اصطلاح أهل المعرفة ـ أن يتجاوز مرتبة العلم إلى مرتبة الإيمان، ولا يقنع بالعلوم الرّسميّة الصّرفة، بل عليه أن يدخل إلى قلبه أركان ومقدّمات حصول تلك الحقائق لكي تحصل له تلك المقامات والحالات"1.
1 جنود العقل والجهل، ص 192.
324
266
الدرس الرابع والعشرون: التسليم
الدرس الرابع والعشرون: التسليم
أهداف الدرس:
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن معنى التّسليم وموقعه في سير وسلوك الإنسان.
2- يتعرّف إلى أهم مظاهر التّسليم وآثاره.
3- يشرح كيفيّة تحقّق التّسليم في القلب.
318
267
الدرس الرابع والعشرون: التسليم
تمهيد
"إنّ التّسليم من الخصال الحميدة للمؤمنين، يتوسّلون به لطيّ المنازل المعنويّة والحصول على المعارف الإلهيّة. فالذي يتجلّى بالتّسليم للحقّ تعالى ولأوليائه، ولا يناقش لهم أمرًا، يطوي سيره الملكوتيّ بأقدامهم، ولذلك فهو يصل بسرعةٍ، إلى مقصده. من هنا قال بعض العرفاء: إنّ المؤمنين أقرب للمقصد والمقصود من الحكماء، لأنّهم يضعون ويحرّكون أقدامهم تبعًا لخطى الأنبياء، في حين أنّ الحكماء يسعون للسّير على وفق فكرهم وعقولهم"1.
عندما نسمع أمير المؤمنين عليًّا عليه السلام يقول: "لأنسبنّ الإسلام نسبةً لم ينسبها أحد قبلي الإسلام هو التّسليم"2، فإنّنا نتوقّف عند عظمة التّسليم باعتباره أفضل نسبة وتعريف للدّين الذي ارتضاه الله لنا وجعله طريقًا إليه. فلو قيل عندئذٍ أنّ الطّريق إلى الله وأنّ صراط الله المستقيم هو التّسليم لما كان في الكلام أيّة مبالغة. فالتّسليم عنوان سيرنا إلى الله، وعلى أساسه نفهم برنامج الإسلام في بناء الإنسان وتكميله.
التعريف الدّقيق للتّسليم
التّسليم معنًى وجدانيّ يفهمه كلّ إنسان. فعندما يحاصر المرء ولا يجد أي مقرّ أو حلّ نجده يلجأ إلى الاستسلام ويسلّم قياده للّذين حاصروه. فهو التّعبير عن إسقاط ما في اليد والتخلّي عن التّدبير الذاتيّ وترك القياد للغير. فالتّسليم كما يشرحه الإمام قدس سره: "التسليم عبارة عن الانقياد الباطنيّ والاعتقاد القلبيّ في
1 جنود العقل والجهل، ص 358.
2 نهج البلاغة، ص 491.
319
268
الدرس الرابع والعشرون: التسليم
مقابل الحقّ، وهو ثمرة سلامة النّفس من العيوب، وخلوّها من الملكات الخبيثة"1، وحقيقته انعدام إرادة العبد أمام إرادة الخالق: "إذا كان المقصود انعدام إرادة العبد في مقابل إرادة الحقّ تعالى، فهذا هو مقام التسليم"2.
ولأجل أن نتعرّف على هذه الملكة النّفسانيّة العظيمة أكثر يعرّفنا الإمام على ما يضادّها لأنّ الأشياء تُعرف بأضدادها أيضًا. فيقول قدس سره: "ويقابل التسليم "الشك" وعدم الخضوع للحقّ، وعدم القبول. والاعتقاد والتسليم للحقّ تعالى نتيجةٌ لاحتجاب النفس والثمرة الخبيثة لعيوب الباطن ومرض القلب... جعل الشكّ ضدًّا للتسليم يرجعُ إلى كون عدم التّسليم للحقّ مقترنًا عادة بالشكّ. ولعلّ المراد من الشكّ هنا هو نقيض اليقين كما صرّح بذلك أئمّة اللغة، والمقصود بنقيض اليقين، هو أعمّ من المعنى المتعارف للشكّ الذي يعني حالة التّرديد"3.
ولمّا كان الاعتقاد والتّسليم للحقّ من أهمّ أركان التّسليم قال الإمام الخمينيّ قدس سره: "ويُقابل التّسليم المطلق، الشكّ والتّزلزل، وله مراتب عدّة، تصنّف بعضها ضمن مراتب الشكّ الجليّ، وبعضها الآخر ضمن مراتب الشّرك الخفيّ والشّرك الأخفى. فالشّرك الجليُّ هو التّزلزل في العقائد الظاهرة الجليّة، والشّرك الخفيّ هو التّزلزل في المعارف وأسرار التّوحيد والتّجريد والتّفريد. والشّرك الأخفى، هو حالُ "التّلوين" وعدم التّمكين في المقامات المذكورة"4.
أهميّة التّسليم وآثاره
تُعرف أهميّة التّسليم وموقعيّته في نظام الكمال الإنسانيّ من خلال آثاره العظيمة التي تفوق أي تصوّر. وسنذكر ها هنا بعضًا من هذه الآثار التي ذكرها الإمام الخميني قدس سره.
1 جنود العقل والجهل، ص 357.
2 (م.ن)، ص 158.
3 (م.ن)، ص 357-358.
4 (م.ن)، ص 362.
320
269
الدرس الرابع والعشرون: التسليم
1- تذوّق حلاوة الإيمان
يقول الإمام الخميني قدس سره في شرحه لحديث جنود العقل والجهل: "في الآية 65 من سورة النساء: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾1. أجل، إنّ روح الإنسان لا تذوق طعم الإيمان إلّا بالتّسليم لأحكام الله تعالى بدرجةٍ لا يجد معها أيّ حرج في نفسه أو أذى في قلبه من القضاء الإلهيّ بل يستقبله برحابة صدر واستبشار. وقد رُوي في الكافي الشّريف عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "الإيمان له أربعةُ أركان: التّوكّل على الله، وتفويض الأمر إلى الله، والرّضا بقضاء الله، والتّسليم لأمر الله عزّ وجل"2. فلا إيمان لمن لم تتوفّر فيه هذه الأركان الأربعة، بل هو محرومٌ من حقيقة الإيمان بالله عزّ وجلّ"3.
2- يعالج أمراض الرّوح
"إنّ هذا التسليم للحضرة الإلهيّة القدسيّة هو بحدّ ذاته أحد العلاجات لأمراض الرّوح، وهو الذي يضفي على النّفس الصّفاء ويزيد نورانية الباطن"4.
3- بلوغ مقام الولاية
"إنّ جميع أشكال الشّرك والشكّ هي نتيجةٌ لعدم تسليم الإنسان روحهُ للوليّ المطلق وهو الحقّ تبارك وتعالى، فإذا أسلم روحهُ له أسلمت معها ممالكه الوجوديّة الأخرى. فأسلمت أعضاؤه الظاهريّة وقواه المُلكيّة، ومعنى تسليمها أن لا تكون أيٌّ من حركاتها وسكناتها بدافع من النّفس والأنانيّة، بل إنّ قبضها وبسطها بيد الإرادة الإلهيّة، أي يحصل فيه نموذجٌ التقرّب بالنوافل: "كنتُ سمعه الذي يسمع به وبصرهُ الذي يُبصرُ به...إلى نهاية الحديث"5.
ولا شكّ بأنّ مقام الولاية هو المقام الذي يستبدل فيه العبد إرادة نفسه بإرادة ربّه، فيصبح مظهرًا لأولئك الذين قيل فيهم أنّ لله عبادًا إذا أردوا أراد. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره:
1 سورة النساء، الآية 65.
2 الكافي، ج2، ص47.
3 جنود العقل والجهل، ص 359-360.
4 (م.ن)، ص 359.
5 (م.ن)، ص 362.
321
270
الدرس الرابع والعشرون: التسليم
"لا تكن محبًّا لنفسك، سلّم إرادتك للحقّ تعالى، فإنّ الذات المقدّس يتفضّل عليك بجعلك مظهرًا لإرادته، ويجعلك متصرّفًا في كافّة الأمور. ويخضع لقدرتك مملكة الإيجاد. وهذا هو غير التفويض الباطل، كما هو معلوم في محله"1.
4- نورانيّة القلب
يقول الإمام قدس سره: "والمرتبة الثالثة هي الطهور القلبيّ الذي هو عبارة عن تسليم القلب للحقّ. وبعد هذا التّسليم يصبح القلب نورانيًّا، بل يكون بذاته من عالم النّور ودرجات النّور الإلهيّ. وتسري نورانيّة القلب إلى سائر الأعضاء والجوارح والقوى الباطنة وتصبح كلّ المملكة نور، ونور على نور حتّى يصل الأمر إلى حيث يصبح القلب إلهيًّا لاهوتيًّا وتتجلّى حضرة اللاهوت في جميع مراتب الباطن والظاهر"2.
5- استئصال جذور الشّرك والكفر والنّفاق
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "واعلم أنّ إرادة الله تعالى قاهرة لجميع الإرادات، وإذا اطمأنّ قلبك بهذه الكلمة المباركة وسلّم لهذه العقيدة، فالأمل أن يُنجز عملك، وتستأصل جذور الشرك والرياء والكفر والنفاق من قلبك"3.
6- الوصول إلى الكمال الإنساني
كانت هذه بعض آثار التّسليم التي تشير إلى عظمته. وتكتمل مشهديّة العظمة عندما نتعرّف على دور التّسليم في هداية الإنسان إلى المقصد النّهائيّ. لهذا، قال الإمامقدس سره: "ولا شك في أنّ الذي يتحلّى بالتّسليم للهداية الإلهيّة يصل إلى مقصده عبر الصّراط المستقيم ـ الذي هو أقرب الطرق ـ فلا يُعرّض نفسه للخطر، أمّا الذي يسير بقدمه هو، فربمّا يقع في المهالك ويضيّع عليه الطريق"4.
ويقول قدس سره أيضًا: "يجب على الإنسان أن يكون مستسلمًا لأقوال الأنبياء والأولياء عليهم السلام ولا يوجد شيء في سبيل تكامل الإنسان، أفضل من التسليم والطّاعة أمام أولياء الحقّ.
1 الأربعون حديثًا، ص 68.
2 معراج السالكين، ص 71-72.
3 الأربعون حديثًا، ص 76.
4 جنود العقل والجهل، ص 358.
322
271
الدرس الرابع والعشرون: التسليم
وخاصّة في الأمور التي لا مجال للعقل في التّطرق إليها ولا يوجد سبيل لإدراكها واستيعابها إلا بواسطة الوحي والرسالة"1.
وباختصار إنّ التّسليم هو سبيل سعادة الإنسان وتوفيقه كما ذكر الإمام في كتاب الأربعون حديثًا. "اعلم أنّ الوهم والغضب والشهوة يمكن أن تكون من الجنود الرحمانية، وتؤدي إلى سعادة الإنسان وتوفيقه إذا سلّمتها للعقل السليم وللأنبياء العظام. ومن الممكن أن تكون من الجنود الشيطانية إذا تركتها وشأنها، وأطلقت العنان للوهم ليتحكم في القوتين الأخريين: الغضب والشهوة"2.
ما هي منابع التّسليم ومناشؤه
يذكر الإمام بعض العوامل التي تؤدّي إلى تحقّق حالة التّسليم في القلب وتسري إلى كلّ مملكة وجود الإنسان. منها:
1- سلامة القلب
يقول الإمام قدس سره: "إنّ قلبَ الإنسان إذا سلم من الآفات والعيوب وجد الحق تعالى بفطرته السليمة، فإذا وجده أسلم له، وإذا أسلم له قلبيًّا إنقاد له في أعماله الظّاهريّة القالبية. إذن فالتسليم ثمرةٌ سلامة القلب، والتسليم بدوره يُثمر الانقياد الظاهريّ أيضًا. وهذا هو "الاستسلام"3.
2- طهارة النّفس
يقول الإمام قدس سره: "فالإنسان ما دام على فطرته الأصلية ـ وهي الفطرة السليمة التي هي من المواهب الإلهيّة في أصل طينة الخلقة ـ وما دام لم يتلوّث بآفات النفس وعيوبها واحتجابها وكدورتها الرّوحيّة، فإنّه يجد الحقّ تعالى ويحبّهُ بهذه الفطرة السّليمة نفسها، فيخضع وينقاد ويسلّم له فطريًّا، فإذا حصل فيه هذا التسليم تحقّق فيه الاستسلام لله لا محالة"4.
1 الأربعون حديثًا، ص517.
2 الأربعون حديثًا، ص 40.
3 جنود العقل والجهل، ص 354.
4 (م.ن)، ص 356.
323
272
الدرس الرابع والعشرون: التسليم
2- اتّباع الوليّ الكامل
ومثل هذا الانتقال يتحقّق في بعض وجوهه من خلال اكتشاف الطّبيب الحاذق والإنسان الكامل الذي هو مظهر الغاية التي نصبو إليها. لهذا، قال الإمام قدس سره: "إنّ التسليم من الخصال الحميدة للمؤمنين، يتوسّلون به لطيّ المنازل المعنويّة والحصول على المعارف الإلهيّة. فالذي يتجلّى بالتّسليم للحقّ تعالى ولأوليائه، ولا يناقش لهم أمرًا، يطوي سيره الملكوتيّ بأقدامهم، ولذلك فهو يصل بسرعةٍ، إلى مقصده. من هنا قال بعض العرفاء: إنّ المؤمنين أقرب للمقصد والمقصود من الحكماء، لأنهم يضعون ويحرّكون أقدامهم تبعًا لخطى الأنبياء، في حين أنّ الحكماء يسعون للسّير على وفق فكرهم وعقولهم"1.
"وعلى الإنسان أن يجتهد في البحث عن الطبيب الحاذق لكي يعالجه، فإذا وجد الطبيب الكامل ولم يسلّم له، وعمد إلى مناقشته في العلاج الذي وصفه له، وأراد معالجة نفسه بعقله هو، فإنّه يعرّضها بذلك للهلاك. وكذلك الحال في السّير الملكوتيّ، فعلى الإنسان أن
1 (م.ن)، ص 358.
325
273
الدرس الرابع والعشرون: التسليم
يجتهد من أجل العثور على الدّليل الهادي له في هذا الطّريق. فإذا وجدهُ وجب عليه التّسليم له واتّباعه في طريق السّير والسّلوك واقتفاء أثرهِ خطوةً خطوة. وما دمنا قد عرفنا أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو الهادي في الطريق القويم والمطلع على جميع مراتب المعارف، لذا فقد وجب علينا أن نتبعه بتسليمٍ محض في السَّير الملكوتي.
أمّا إذا أردنا معرفة فلسفة الأحكام بعقولنا الناقصة، فقد انحرفنا عن الطريق المستقيم وأخذنا طريق السّير إلى الهلاك الأبدي، إذ أنّنا في هذه الحالة مثل المريض الذي يأبى أن يتناول الدواء إلّا بعد الاحاطة بسرّ وصفةِ الطبيب له، فمثل هذا المريض لن يرى وجه الصحّة والسّلامة، لأنّ وقت العلاج سينقضي ويهلك نفسه قبل أن يتعرّف على سرّ تلك الوصفة.
ونحن مرضى وضالون، فواجبنا أن نأخذ وصفات السّير الملكوتيّ وعلاجات أمراضنا القلبيّة من هداة طريق الهدي وأطباء النفوس والأرواح، والعمل بها دون إقحام أفكارنا الناقصة وآرائنا الضعيفة في الأمر، لكي نصل إلى المقصد وهو معرفة حقائق التوحيد"1.
3- المحافظة على سلامة الفطرة
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "والإنسان ما دام محافظًا على سلامة فطرته الأصلية من الاحتجاب بحجب الطّبيعة، فهو بعيدٌ عن التمرُّد والعمل برأيه، وعن إضفاء النّفسانية على أعماله، بل يكون مُسلّمًا للحقّ تعالى بفضل سلامة فطرته، فيكون قلبه كالمرآة التي يتوجّه طرفها النّورانيّ إلى الحقّ تعالى، فهو يتلقّى بالكامل ما يأتيه من عالم الغيب، فينطبع فيه بكماله، ويُسلم للواردات الغيبيّة بدرجة يذهل عن نفسه بالكامل. وإذا وصلت هذه الحالُ القلبيّة فيه إلى كمالها واستولت على باطنه، فإنّها قد توجد فيه حالة "المحو المطلق" و"الصّعق الكلّيّ"، وحينئذٍ إذا وجده الله تعالى من أهل الطّلب والمحبّة خارجًا من أسر الأنانيّة والنّفس، تفضّل عليه بألطاف رحمانيّة خاصّة ونقله إلى مقام "الصّعق المطلق" بالتجلّي الإلهيّ وبالجذوة الربّانيّة، مثلما حصل لموسى الكليم: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ
1 جنود العقل والجهل، ص 358-359.
326
274
الدرس الرابع والعشرون: التسليم
جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا﴾1، وحتى لو كانت فيه نقائص، زالت بفضل هذا التجلِّي الرّحمانيّ الصّادر من اللطف الإلهيّ الخاص. ولا يخفى أنّ هذا المقام من التّسليم أعلى من مقامي التوكّل على الله والرّضا بقضائه. يتّضح أنّ التّسليم من لوازم الفطرة المخمّرة إلهيًّا ومن جنود العقل والرحمان"2.
4- حضور القلب في العبادات
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ من أسرار العبادات والرّياضات ونتائجهما أن تكون إرادة النفس في ملك البدن نافذة، وتكون دولة النفس منقهرة ومضمحلّة في كبريائها، وتسيطر الإرادة على القوى المبثوثة والجنود المنتشرة في ملك البدن وتمنعها من العصيان والتمرّد والأنانيّة، وتكون القوى مسلّمة لملكوت القلب وباطنه، بل تصير جميع القوى بالتدريج فانية في الملكوت، ويطبق أمر الملكوت في الملك وينفذ فيه، وتقوى إرادة النفس، ويفلت زمام المملكة من يد الشيطان والنفس الأمارة، وتساق جنود النفس من الإيمان إلى التسليم ومن التسليم إلى الرضا ومن الرضا إلى الفناء"3.
وفي كان آخر يقول قدس سره: "إنّ من أسرار العبادات وفوائدها المهمّة التي تكون بقية الفوائد مقدمة لها، أن تكون مملكة البدن بجميعها، ظاهرها وباطنها، مسخّرة تحت إرادة الله ومتحركة بتحريك الله تعالى، وتكون القوى الملكوتية والملكية للنفس من جنود الله، وتكون كلّها كملائكة الله. وهذه من المراتب النازلة لفناء القوى والإرادات في إرادة الحقّ. ويترتّب على هذا بالتدريج النتائج العظيمة ويصبح الإنسان الطبيعيّ إلهيًّا، وتكون النّفس مرتاضة بعبادة الله، وتنهزم جنود ابليس بشكل نهائيّ وتنقرض، ويكون القلب مع قواه مسلّما للحقّ، ويبرز الإسلام ببعض مراتبه الباطنية في القلب، وتكون نتيجة هذا التسليم لإرادة الحقّ في الآخرة أنّ الحقّ تعالى ينفذ إرادة صاحب هذا القلب في العوالم الغيبية، ويجعله مثلًا أعلى لنفسه"4.
1 سورة الأعراف، الآية 143.
2 جنود العقل والجهل، ص 360-361.
3 معراج السالكين، ص 38.
4 (م.ن)، ص 45-46.
327
275
الدرس الرابع والعشرون: التسليم
المفاهيم الرئيسة
1- التسليم هو الانقياد الباطنيّ للحقّ والاعتقاد القلبيّ به، والقلب السليم هو القلب الخالي من كلّ ما سوى الله تعالى والنقيُّ من كلّ شركٍ وشكّ.
2- يتحقّق التّسليم بتسليم القلب للحقّ وللعقل، وتسليم الأعضاء الظاهرة لله، فلا تكون أيّ من حركاتها وسكناتها بدافع من النّفس.
3- يؤدّي التسليم إلى تذوّق حلاوة الإيمان، فروح الإنسان لا تذوق طعم الإيمان إلّا بالتّسليم لأحكام الله تعالى بدرجةٍ لا يجد معها أيّ حرج في نفسه أو أذى في قلبه من القضاء الإلهيّ.
4- بالتسليم يبلغ الإنسان مقام الولاية، فجميع أشكال الشّرك والشكّ هي نتيجة عدم تسليم الإنسان روحهُ للوليّ المطلق وهو الحقّ تبارك وتعالى، فإذا أسلم روحهُ له أسلمت معها ممالكه الوجوديّة الأخرى.
5- من آثار تسليم القلب، حصول النورانية فيه، فيصبح نورانيًّا، بل يكون بذاته من عالم النّور ودرجات النّور الإلهيّ. وتسري نورانيّة القلب إلى سائر الأعضاء والجوارح والقوى الباطنة.
6- التسليم كفيل باستئصال جذور الكفر والشرك والنفاق، وهو الطريق للهداية عبر الصراط المستقيم لأنّ سير المسلم يكون تبعًا لقدم الأولياء لا لقدمه هو.
7- منشأ التّسليم هو الفطرة، وسلامة القلب والنّفس من العيوب، وخلوّها من الملكات الخبيثة. فالعلم بحقيقة الوجود ومعرفة نظام الخلقة تؤدّي بالنّفوس الطّاهرة إلى حالة الانقياد والتّسليم التامّ لأصل الأشياء ومبدئها ومدبّرها.
8- يحصل التّسليم بـ: 1. الانتقال من العلم إلى الإيمان، فلا يقنع بالعلوم الرسمية بل يدخلها إلى قلبه. 2. البحث عن الطبيب الحاذق لكي يعالجه، فإذا وجد الطبيب الكامل عليه بالتسليم له، وإلا يكون قد توجّه نحو الهلاك. 3. المحافظة على سلامة الفطرة الأصلية من الاحتجاب بحجب الطّبيعة. 4. حضور القلب في العبادات.
328
276
الدرس الرابع والعشرون: التسليم
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللّهُمَّ أَبْقِنِي خَيْرَ البَقاءِ، وَأَفْنِنِي خَيْرَ الفَناءِ عَلى مُوالاةِ أَولِيائِكَ، وَمُعاداةِ أَعْدائِكَ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْكَ وَالرَهْبَةِ مِنْكَ، وَالخُشُوعِ وَالوَفاءِ وَالتَّسْلِيمِ لَكَ، وَالتَّصْدِيقِ بِكِتابِكَ، وَاتِّباعِ سُنَّةِ رَسُولِكَ. اللّهُمَّ ماكانَ فِي قَلْبِي مِنْ شَكٍّ أَوْ رِيْبَةٍ أَوْ جُحُودٍ أَوْ قُنُوطٍ أَوْ فَرَحٍ أَوْ بَذَخٍ أَوْ بَطَرٍ أَوْ خُيَلاَء أَوْ رِياءٍ أَوْ سُمْعَةٍ أَوْ شِقاقٍ أَوْ نِفاقٍ أَوْ كُفْرٍ أَوْ فُسُوقٍ أَوْ عِصْيانٍ أَوْ عَظَمَةٍ أَوْ شَيْء لا تُحِبُّ فأَسْأَلُكَ يارَبِّ أَنْ تُبَدِّلَنِي مَكانَهُ إِيماناً بِوَعْدِكَ، وَوَفاءً بِعَهْدِكَ، وَرِضاً بِقَضائِكَ، وَزُهْداً فِي الدُّنْيا، وَرَغْبَهً فِيما عِنْدَكَ، وَأَثَرَةً وَطمْأَنِينَةً وَتَوْبَةً نَصُوحاً، أَسْأَلُكَ ذلِكَ يارَبَّ العالَمِينَ1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾2.
2- ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾3.
3- ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾4.
4- ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾5.
5- ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء
1 مفاتيح الجنان، دعاء: آخر ليلة من شعبان.
2 سورة البقرة، الآية 112.
3 سورة البقرة، الآية 132.
4 سورة آل عمران، الآية 19.
5 سورة آل عمران، الآية 85.
329
277
الدرس الرابع والعشرون: التسليم
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾1.
6- ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾2.
7- ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾3.
8- ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ﴾4.
الروايات الشريفة:
1- عن أبي عبد الله عليه السلام: "واعلموا أنّ الإسلام هو التسليم والتسليم هو الإسلام فمن سلم فقد أسلم ومن لم يسلم فلا إسلام له"5.
2- ورُوي عن العالم عليه السلام قال: "ما نزل من السماء أجلّ ولا أعزّ من ثلاثة التسليم والبر واليقين"6.
3- عن ابن سنّان عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "قُلْتُ لَهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ يُعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ؟ قَالَ: بِالتَّسْلِيمِ لِلهِ وَالرِّضَا فِيمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ سُرُورٍ أَوْ سَخَطٍ"7.
4- عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾، قال: "الاقتراف: التسليم لنا، والصدق علينا، وألا يكذب علينا"8.
1 سورة النحل، الآية 89.
2 سورة فصلت، الآية 33.
3 سورة النحل، الآية 81.
4 سورة يونس، الآية 84.
5 الكافي، ج8، ص 11.
6 مستدرك الوسائل، ج11، ص 173.
7 الكافي، ج2، ص 62.
8 (م.ن) ج1، ص 391.
330
278
الدرس الرابع والعشرون: التسليم
5- وعن أبي جعفر عليه السلام قال: "أحقّ خلق الله أن يسلّم لما قضى الله عزّ وجل. من عرف الله عزّ وجل، ومن رضي بالقضاء أتى عليه القضاء، وعظّم الله أجره. ومن سخط القضاء مضى عليه القضاء وأحبط الله أجره"1.
6- عن محمد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: "كلّ شيء يجرّه الإقرار والتسليم فهو الإيمان، وكلّ شيء يجرّه الإنكار والجحود فهو الكفر"2.
7- عن الإمام الرضا عليه السلام: "وَالْمُسْلِمُ مَنْ يَفِي لِلهِ بِمَا عَهِدَ إِلَيْهِ وَلَيْسَ الْمُسْلِمُ مَنْ أَجَابَ بِاللِّسَانِ وَخَالَفَ بِالْقَلْب"3.
1 الكافي، ج2، ص 62.
2 (م.ن)، ص 387.
3 (م.ن)، ج1، ص 547.
331
279
الدرس الخامس والعشرون: الرضا
2- قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "مَنْ رَضِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا يُجْزِيهِ كَانَ أَيْسَرُ مَا فِيهَا يَكْفِيهِ"1.
3- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "مَنْ رَضِيَ بِدُونِ التَّشَرُّفِ مِنَ الْمَجْلِسِ لَمْ يَزَلِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُومَ"2.
4- قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "مَنْ رَضِيَ مِنَ اللهِ بِمَا قَسَمَ لَهُ اسْتَرَاحَ بَدَنُهُ"3.
5- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من رضي بحاله لم يعتوره الحسد"4.
6- وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: "يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي وَلَمْ يَشْكُرْ لِنَعْمَائِي وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي فَلْيَتَّخِذْ رَبّاً سِوَائِي"5.
7- عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ عليه السلام: "يَا هِشَامُ إِنَّ الْعَاقِلَ رَضِيَ بِالدُّونِ مِنَ الدُّنْيَا مَعَ الْحِكْمَةِ وَلَمْ يَرْضَ بِالدُّونِ مِنَ الْحِكْمَةِ مَعَ الدُّنْيَا فَلِذَلِكَ رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ"6.
8- عن أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السلام يَقُولُ: "مَا نَاصَحَ اللهَ عَبْدٌ فِي نَفْسِهِ فَأَعْطَى الْحَقَّ مِنْهَا وَ أَخَذَ الْحَقَّ لَهَا إِلَّا أُعْطِيَ خَصْلَتَيْنِ رِزْقاً مِنَ اللهِ يَسَعُهُ وَ رِضًا عَنِ اللهِ يُغْنِيه"7.ِ
9- وَقَالَ عليه السلام: "مَنْ لَمْ يَرْضَ مِنْ أَخِيهِ بِحُسْنِ النِّيَّةِ لَمْ يَرْضَ مِنْهُ بِالْعَطِيَّةِ"8.
1 الكافي، ج2، ص 140.
2 (م.ن)، ص 661.
3 بحار الأنوار، ج68، ص 139.
4 غرر الحكم، 300.
5 بحار الأنوار، ج5، 95.
6 وسائل الشّيعة، ج15، ص 206.
7 (م.ن)، ص 286.
8 بحار الأنوار، ج75، ص 365.
246
280
الدرس الخامس والعشرون: الرضا
الدرس الخامس والعشرون: الرضا
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يفهم معنى الرّضا وارتباطه بالإيمان.
2- يتعرّف إلى مراتب الرّضا وارتباطها بمعرفة الله تعالى.
3- يشرح منشأ الرضا وآثاره وكيفية تحصيل هذه الفضيلة.
332
281
الدرس الخامس والعشرون: الرضا
تمهيد
قد علمنا أنّ الإيمان بالله تعالى أساس كلّ الكمالات، لأنّه أفضل تعبير عن الارتباط الصّحيح بمصدر الكمال وهو الله تعالى. المؤمن متوجّه إلى ربّه، مقبلٌ عليه بقلبه، وهو بذلك مستعدٌّ لكلّ ما يصدر منه.
ولأنّ ربّه حكمته مطلقة ورحمته تسع كلّ شيء، فلن يكون منه سوى المصلحة والخير والصّلاح. أمّا النّقمة والعقاب والبلاء فهي كلّها من أجل إيصال المزيد من الخير. فكيف لا يكون المؤمن بعد هذا الاعتقاد راضيًا. إنّ الرّضا إذا استقرّ في النّفس واستولى على القلب جعل صاحبه متعرّضًا لكلّ ما يصدر من الله، فيكون بذلك أوسع النّاس صدرًا. وليست سعة الصّدر سوى اتّساع وعاء الكمال إلى أبعد حدّ، بل فوق الحدّ. ولهذا، كان الرّضا مقامًا معنويًّا يستجلب جميع الكمالات كما سيتّضح عمّا قريب.
ما هو الرّضا؟
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "الرّضا عبارة عن سرور العبد بالحقّ تعالى شأنه وإرادته ومقدّراته، ومرتبته العليا، هي من أعلى مراتب الكمال الإنسانيّ وأسمى مقامات أهل الجذبة والمحبّة ـ كما ستأتي الإشارة إلى ذلك لاحقًا إن شاء الله، وهو فوق مقام التّسليم ودون مقام الفناء... وعلى أيّ حال، فإنّ مقام الرّضا عبارة عن فرح العبد وسروره بالحقّ تعالى ومراداته وقضائه وقدره، وهو يستلزم السّرور العام بالخلق أيضًا"1.
وسوف يتّضح من خلال الحديث عن آثار الرّضا وعلائمه، وكذلك عند الحديث عن درجاته ومراتبه عمق المعنى المستبطن في الرّضا. إلّا أنّ المعيار الأوّل في الرّضا هو
1 جنود العقل والجهل، ص 157-158.
334
282
الدرس الخامس والعشرون: الرضا
الالتفات والوعي والعلم بمصدر أسباب الرّضا. وهو الله تعالى، لهذا يكون الرّضا في حقيقته رضا عن الله تعالى. قال الله تعالى بشأن أصحاب النّعيم: ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾1، وقال عزّ من قائل بشأن النّفس المطمئنّة ومصيرها الأبديّ: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾2.
درجات الرّضا
عند التأمّل في درجات الرّضا يتبيّن لنا أنّ هذا التدرّج فيه يعود بالدّرجة الأولى إلى ازدياد المعرفة بالله تعالى. ويقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "يجدر التنبّه إلى أنّ للرضا - وباقي الكمالات النفسيّة - مراتب كثيرة ودرجات متباينة، نذكر هنا بعضها:
الدرجة الأولى: الرضا بالله ربّاً
"الرضا بالله رباً، يعني الرضا بمقام الحقّ تعالى، ويتحقّق بأن يُخضع العبد السّالك نفسه لربوبيّة الحقّ تعالى شأنه ويخرجها من الحاكميّة الشيطانيّة، ويكون راضيًا مسرورًا بربوبيّة الله تعالى له. ولا يخفى أنّه ما دام للشّيطان تأثيرٌ على العبد ـ سواء في قلبه أو في نفسه أو ملك بدنه ـ فهو خارج عن دائرة الرّبوبية والتربية الإلهيّة، فلا يمكنه أن يقول: "رضيت بالله ربّاً". إذن فالمرتبة الأولى للرّضا هي أن يكون العبد بعد خضوعه لربوبيّة الله راضيًا بالتربية الإلهيّة، وعلامة ذلك ـ إضافة إلى عدم الشعور بمشقّة التكاليف ـ أن يكون فرحاً مسروراً بالأوامر الإلهيّة، ويلبّيها بكل وجوده، وأن يكون كارهاً للمناهي الشرعيّة وقد طاب قلبه لمقام العبوديّة ولأن يكون الحقّ مولاه. أمّا إذا لم يخضع الإنسان لربوبية وتربية الحقّ تعالى في هذا العالم، ولم يسلّم نفسه لها، ولم يسخّر قلبه وأعضاءه جميعاً للسلطنة الإلهيّة، ولم يطهّر نفسه من التأثيرات الشيطانيّة، فإنّه لن يكون مضموناً أنّه سيكون قادراً في عالم القبر والبرزخ على أن يقول: الله جلّ جلاله ربّي. ولعلّ اختصاص هذا الاسم بالذّات (الرب) من بين الأسماء الإلهيّة يرجع إلى كون المطلوب هو خضوع الإنسان لتربية ربّ العالمين مثلما أنّه خاضع لها تكوينيّاً.
1 سورة المجادلة، الآية 22.
2 سورة الفجر، الآيتان 27 و 28.
335
283
الدرس الخامس والعشرون: الرضا
كما أنّ ادّعاء "رضيت بالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيًّا ورسولًا، وبالقرآن كتابًا، وبعليّ أمير المؤمنين وأولاده المعصومين عليهم السلام أئمّة"، يُعتبر ـ إذا لم يكن مقروناً، لا سمح الله، بحقيقة الرضا ـ من النفاق والكذب، فلا يمكن أن يدّعي هذا الرّضا من لم يخضع للقواعد الدينيّة الإسلاميّة ويرضى بها، ويفرح بالأحكام الإسلامية حتى لو أضرّت به أو بعائلته. بل ولا يمكن أن يدّعي هذا الرضا، من يعترض ـ في قلبه ـ على أحد الأحكام الإسلامية، أو يتأذى قلبياً منه أو يتمنّى قلبيّاً تغييره إلى حكم آخر، أو يصرّح بذلك، فهذا ليس راضياً عن دين الإسلام أساساً، ولا عن سائر الأمور الأخر. فالرّضا بالنبوّة والإمامة لا يتحقّق بمجرّد سرورنا بهؤلاء القادة والهداة لطريق السعادة، دون أن نسلك سبل السعادة والكمال الإنسانيّ التي هدونا إليها ونعمل بمقتضاها، فجوهر ادّعاء الرّضا حينئذٍ لن يكون سوى الاستهزاء. يا عزيزي، إنّ ادّعاء المقامات والمدارج سهلٌ، ولكن ما أكثر ما يختلط الأمر على الإنسان نفسه، فيجهل حقيقة أنّه ليس أهلاً لهذا الادّعاء، فالاتّصاف بهذه الحقائق وبلوغ تلك المقامات لا يكون بالادّعاء خاصّة مع مقام الرّضا وهو من أشقّ المقامات"1.
الدّرجة الثانية: الرّضا بقضاء الحقّ تعالى وقدره
"أي رضا العبد بالحوادث، ملائمة كانت له أو غير ملائمة، والفرح بما قدّره الحقّ تعالى له سواء كان بليّة أو مرضًا أو فقدان أحبّة أو ما يقابلها، فهي جميعًا عنده سواء، لأنّه يعتبرها كافّة عطايا إلهيّة فيرضى بها، كما تشير إلى ذلك رواية حوار الإمام الباقر عليه السلام، وهو يومئذٍ طفل، مع جابر بن عبد الله الأنصاريّ إذ سأله الإمام: "كيف تجد حالك؟ قال: أنا في حال الفقر أحبّ إليّ من الغنى، وفي حال المرض أحبّ إليّ من الصحّة، والموت أحبّ إليّ من الحياة. فقال الإمام عليه السلام: أمّا نحن ـ أهل البيت ـ فما يرد علينا من الله من الفقر والغنى والصحة والسّقم، والموت والحياة فهو أحبّ إلينا". وحصول هذا المقام لا يتحقّق إلّا بمعرفة رأفة الحقّ تعالى ورحمته بالعبد، والإيمان بأنّ ما يتفضّل به الحقّ تعالى في هذا العالم، إنّما هو من أجل تربية العباد وحصولهم على الكمالات النفسانيّة، ما هو كامن في الفطرة الأصليّة المخمّرة فيهم من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعل. فربّما كان وصول الإنسان إلى
1 جنود العقل والجهل، ص 162-163.
336
284
الدرس الخامس والعشرون: الرضا
مقام كماله الذاتيّ بالفقر والفاقة، أو يكون وصوله إلى السعادات الخالدة بالمرض والعجز. ولكن ذلك لا يتحقّق إلا إذا كان العبد نفسه في أوائل مقامات السلوك إلى الله. أمّا إذا كان قد بلغ مقام المحبّة والجذبة، وشرب كأس العشق، فإنّ كل ما يأتيه من المحبوب محبوب"1.
الدّرجة الثّالثة: مقام الرضا برضا الله
"ينبغي اعتبار هذا المقام ـ أي مقام المحبّة والجذبة ـ بداية الدرجة الثالثة للرّضا، وهي المعبّر عنها بـ "الرضا برضا الله"، وهي أن لا يكون للعبد رضا من نفسه، فرضاه تابع لرضا الحقّ تعالى مثلما إرادته من إرادة الله. كما ورد في الحديث الشريف: "رضا الله رضانا أهل البيت". وإن كان من الممكن أن تكون في هذا إشارة إلى مقام أعلى، وهو عبارة عن مقام قرب الفرائض وهو البقاء بعد الفناء"2.
ونلاحظ أنّ الدّرجة الثّالثة اعتُبرت بداية مقام المحبّة، وإن كان الحبّ كغيره من الكمالات فيضًا إلهيًّا وموهبة ربّانيّة. لكن لكلّ مقام وكمال لا بدّ من وجود الاستعداد، ولا يوجد مثل الرّضا في تأمين الاستعداد لمقام الحبّ الإلهيّ.
ما هي آثار الرّضا وثماره؟
بالإضافة إلى ما ذكرنا من كون الرّضا مقدّمة لمقام الحبّ، يذكر الإمام الخمينيقدس سره الآثار العظيمة للرّضا حيث يقول: "إنّ خُلُق الرضا من الأخلاق الإنسانية الكمالية، وله تأثيرات كبيرة في تصفية النفس وتجليتها، ويجعل القلب موردًا للتجلّيات الإلهيّة الخاصّة، ويوصل الإيمان إلى كماله، وكمال الإيمان إلى الطمأنينة، والطمأنينة إلى كمالها، وكمالها إلى المشاهدة، والمشاهدة إلى كمالها، وكمالها إلى المعاشقة، والمعاشقة إلى كمالها، وكمالها إلى المراودة، والمراودة إلى كمالها، وكمالها إلى المواصلة، والمواصلة إلى كمالها، ويرتقي إلى ما لا يسعه وهمي ووهمك. وله في ملك البدن والآثار والأفعال الصّوريّة التي هي أغصان وأوراق تلك الشّجرة تأثيرٌ غريب، فيصير السّمع والبصر وسائر القوى والأعضاء إلهيّة، ويظهر سرّ "كنت سمعه وبصره" إلى حدٍّ ما"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 164-165.
2 (م.ن)، ص 165.
3 معراج السالكين، ص 96.
337
285
الدرس الخامس والعشرون: الرضا
ويقول قدس سره: "رُوي في الكافي، بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "رأس طاعة الله الصّبر والرّضا عن الله فيما أحبّ العبد أو كره: ولا يرضى عبدٌ عن الله فيما أحبّ أو كره إلّا كان خيراً له فيما أحبّ أو كره"1. وعنه قال: "قال الله تعالى: عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلّا جعلته خيراً له، فليرضَ بقضائي وليصبر على بلائي وليشكر نعمائي أكتبه ـ يا محمد ـ من الصدّيقين عندي"2. من هذا الحديث يتّضح أنّ مقام الصدّقين ـ وهو من أعلى مراتب المقامات الإنسانية ـ يحصل بالرّضا والصّبر والشّكر، ولا يخفى أنّ مقام الرّضا أعلى من مقامي الصّبر والشّكر"3. فاتّضح أنّ تعداد آثار الرّضا غير ميسور، لأنّها تشمل كلّ الكمالات والمقامات.
من أين ينشأ الرّضا؟
وإذا عرفت عظمة هذا المقام ودوره البنّاء الذي لا يماثله شيء توجّهت نفسك نحو تحصيله. وبداية تحصيله أن تعلم منشأ الرّضا ومنبعه. وقد ذكر الإمام الخمينيّ قدس سره ثلاثة مناشئ أساسيّة هي:
1- الفطرة
يقول الإمام قدس سره: "الرضا من جنود العقل والرحمان، ومن مقتضيات الفطرة المخمّرة الأصلية"4.
2- الإيمان
يُروى أنّ أحدهم سأل الإمام الصادق عليه السلام: بأيّ شيء يعلم المؤمن بأنّه مؤمن؟ فقال: "بالتسليم لله، والرضا فيما ورد عليه من سرور أو سخط"5.
وفي مستدرك الوسائل عن كتاب الجعفريات مسنداً لأمير المؤمنين عليه السلام، أنّه قال: "الإيمان له أركان أربعة: التوكّل على الله، والتفويض إليه، والتسليم لأمر الله تعالى،
1 الكافي، ج2، ص60.
2 م.ن، ج2، ص61.
3 جنود العقل والجهل، ص 170-171.
4 (م.ن)، ص 168.
5 الكافي، ج2، ص 63.
338
286
الدرس الخامس والعشرون: الرضا
والرّضا بقضاء الله"1.
ويقول الإمام قدس سره: "وقد ذكرت الأحاديث الشّريفة للمؤمنين مجموعة من الأوصاف والصّفات يتحلّون بها، مثل التّوكّل والتّسليم والرّضا والخوف والرّجاء ونظائرها. ولا ريب في أنّ من لا يتحلّى بها لن يكون من أهل الإيمان، والعلّة في عدم التحلّي بها هو أنّ العلم والإدراك لم يتحوّلا فينا إلى الإيمان وإلّا لظهرت فينا تلك الأوصاف النّبيلة والأعمال الصّالحة. والله العالم"2.
3- المحبّة
يقول الإمام قدس سره: "الإنسان بفطرته السليمة عاشقُ للحقّ تعالى وهو الكمال المطلق وإن لم يشخّص الإنسان مصداق الكمال المطلق بسبب احتجاب نور الفطرة ـ وعليه يتّضح أنّ الإنسان إذا لم يكن محتجباً، يعرف أنّ الكمال المطلق هو الحقّ تعالى شأنه، فتكون لديه معرفة حضوريّة بالمقام المقدّس للكمال على الإطلاق، فيرى كلّ ما يصدر عنه كاملاً، أي أنّه يرى جمال الحقّ تعالى وكماله ظاهرين في جميع الموجودات. ومثلما أنّه يرى ذاته المقدّسة جلّ وعلا كاملةً مطلقة، فهو أيضًا يرى صفاته الجلاليّة والكمالية كاملةً، وكذلك الحال مع أفعاله تعالى يراها جميلةً كاملةً ويدرك عيانًا وبالمشاهدة الحضوريّة حقيقة (لا يصدر عن الجميل المطلق غير مطلق الجميل). لذا فإنّ العشق والرّضا الذي يتحلّى به تجاه ذات الحقّ المقدّسة يسري أيضًا على جميع نظام الوجود بحكم أنّه ملازم (صادر عن) الكمال المطلق، ولذلك فهو يرضى ويفرح بجميع الأنوار الوجوديّة بمقدار نورانيّتها الوجوديّة وكمالها الذاتيّ، كما قيل على لسان صاحب هذا المقام: مسرورٌ أنا بهذا العالم، لأنّ هذا العالم منه عاشقٌ لجميع العالم لأنّ جميع العالم منه.
ومقتضى هذا العشق الذاتيّ ـ والرضا الفطريّ ـ السخط وعدم الرضا من الجنبة السوائيّة (أي جنبة ما سوى الله)، أي من جهات النقص والظلمة والعدم، فمثل هذا العبد ينظر بعين السرور والرضا لكلّ ما يراه من الحقّ تعالى وما يصدر من ذاته المقدّسة تجاهه، فهو راض
1 مستدرك الوسائل، ج2، ص412، وراجع الكافي، ج2، ص 47.
2 جنود العقل والجهل، ص 101.
339
287
الدرس الخامس والعشرون: الرضا
ومسرور بالحقّ وأفعاله تعالى، ومتنفّر وساخط تجاه كل ما سواه وكل ما يرتبط بغيره"1.
و"لو تأمّل الإنسان بدقّة في أحوال الأغنياء ـ غالبهم لا نوادرهم ـ لأدرك أنّ الغنى والثّروة والصّحّة والسّلامة والأمن والرّفاهيّة إذا اجتمعت في أيّ إنسان عجز ـ إلا ما ندر ـ عن حفظ قلبه من أشكال الفساد والأمراض النّفسانيّة، وعن حفظ نفسه من العصيان، ولعلّ هذا هو سبب قول جابر بن عبد الله ـ قدّس سرّه ـ في جوابه عن سؤال الإمام باقر العلوم ـ صلوات الله عليه: "الفقر أحبّ إليّ من الغنى والمرض أحبّ إليّ من الصّحّة"، فهو لم يكن واثقًا من قدرته على حفظ نفسه في المقام الذي يطلبه مع إحاطتها بالغنى والصّحّة، فلم يكن واثقًا من عدم طغيانها بسبب ذلك، أمّا الإمام الباقر عليه السلام فمقامه فوق ما تدركه عقول البشر، لذلك فقد أظهر مقام الرّضا، وعرض جذوة من المحبّة الإلهيّة بما يتناسب وأُفق جابر، وبهدف تعليمه وإعانته في السلوك إلى الله، فبيّن له أنّهم عليهم السلام يحبّون كل ما يأتي من الحبيب من البلايا والأمراض أو من أضدادها، فهي سواء في سنّة العاشقين ومذهب المحبّين"2.
في كيفيّة تحصيل الرّضا
1- الطريق العلمي
إنّ جميع الأخلاق الفاضلة تحصل وتُكتسب بالعلم النّافع والعمل الصّالح. لهذا، ذكر الإمام قدس سره العلم وكيفيّته حيث قال: "اعلم أنّ حصول مقام الرّضا هو من آثار المعارف الإلهيّة، لا يختلف في ذلك عن سائر مقامات أهل الاختصاص، لذا فلا تخلو الإشارة إلى بعض مصادره من فائدة. فنقول: ما دامت معرفة العبد بحقيقة أنّ جميع أفعال الحقّ تعالى جميلة هي منشأ الرّضا عنه تعالى، فإنّنا نبيّن هنا مقام جمال الحقّ تعالى ذاتًا وصفةً وفعلًا.
ومراتب معرفة العبد بهذا الأمر:
المرتبة الأولى: العلم بجمال الحقّ ذاتاً وصفةً وفعلا
التي تحصل للعبد هي العلم بجمال الحقّ ذاتاً وصفةً وفعلا، استناداً إلى البراهين العلميّة الفلسفية، وهذه المرتبة وإن كانت مفتاح أبواب المعارف طبقاً لما هو المتعارف،
1 (م.ن)، ص160-161.
2 جنود العقل والجهل،ص 169-170.
340
288
الدرس الخامس والعشرون: الرضا
وإذا وصل أحدٌ إلى مقامات العرفان العالية من غير طريقها فهو من النوادر والاستثناء المخالف للقاعدة فلا يكون معيارًا عامًّا. ولكن الوقوف عند هذه المرتبة هو من الحجب الكبرى حتّى قيل: إنّ "العلم هو الحجاب الأكبر". ولا تحصل للإنسان الأخلاق النّفسانيّة ـ وهي من آثار المعارف ـ من هذا العلم البرهانيّ الذي هو، نصيب العقل، ولهذا فربّما بقي إلى النهاية في هذه الحجب العلميّة حكماء كبار ذوو مراتب عالية في العلم البحثيّ من الذين لم يتحلّوا بمقام الرّضا والتّسليم وباقي المقامات الرّوحيّة والأخلاق النّفسانيّة والمعارف الإلهيّة.
المرتبة الثانية: إيصال حقائق المرتبة الأولى إلى القلب
أي أن يؤمن القلب بجمال الحقّ تعالى وكون جميع صفاته وأفعاله جميلة، والسبيل إلى ذلك هو التذكير المستمرّ للقلب بنعم الله وآثار جماله تبارك وتعالى حتى يقرّ بها تدريجيّاً، وهذا هو مقام الإيمان، وإذا وصل العبد إليه وآمن قلبه بتلك (الحقائق) الإيمانية، ظهرت في قلبه جلوة لحقيقة الرضا النورانيّة وأحسن الظنّ بربّه. وهذه أولى مراتب الرضا التي لم يكن لها أثر فيما مضى. ولهذا عُدّ الرضا من أركان الإيمان في الأحاديث الشريفة نظير المرويّ في كتاب الكافي الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "الإيمان أربعة أركان: الرضا بقضاء الله، والتوكّل على الله، وتفويض الأمر إلى الله، والتسليم لأمر الله"1.
المرتبة الثالثة: الاطمئنان
وهي أن يصل العبد السالك درجة الاطمئنان، والاطمئنان كمال العبد السالك. فإذا تحقّقت طمأنينة النفس بجمال الحقّ تعالى، كانت مرتبة الرضا أكمل، ولعلّ هذا المعنى هو ما تشير إليه آية سورة الفجر المباركة حيث يقول تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾2. وهذا الرّجوع إلى الربّ من المقامات الكاملة لأهل الإخلاص، جعله الله تعالى لأصحاب النفس المطمئنة الراضية المرضية، وقطع عنه طمع الساخطين"3.
1 الكافي، ج2، ص47.
2 سورة الفجر، الآيتان 27 و 28.
3 جنود العقل والجهل، ص 165-167.
341
289
الدرس الخامس والعشرون: الرضا
2- طريق العملي
أ. العبادة والرّياضة الشّرعيّة
لهذا، قال الإمام قدس سره: "إنّ من أسرار العبادات والرّياضات ونتائجهما أن تكون إرادة النّفس في ملك البدن نافذة، وتكون دولة النّفس منقهرة ومضمحلة في كبريائها، وتسيطر الإرادة على القوى المبثوثة والجنود المنتشرة في ملك البدن وتمنعها من العصيان والتمرّد والأنانيّة، وتكون القوى مسلّمة لملكوت القلب وباطنه، بل تصير جميع القوى بالتدريج فانية في الملكوت، ويطبق أمر الملكوت في الملك وينفذ فيه، وتقوى إرادة النّفس، ويفلت زمام المملكة من يد الشّيطان والنّفس الأمّارة، وتُساق جنود النّفس من الإيمان إلى التّسليم ومن التّسليم إلى الرّضا ومن الرّضا إلى الفناء. وفي هذه الحالة تجد النّفس رائحة من أسرار العبادة، ويحصل لها شيء من التجلّيات الفعليّة"1.
ب- الصبر
يقول الإمامقدس سره: "بل إنّ الصبر على المعصية يبعث على تقوية النفس، والصّبر على الطّاعة يسبّب الاستيناس بالحقّ عزّ وجل، والصّبر على البلايا يوجب الرّضا بالقضاء الإلهيّ، وكلّ ذلك من المقامات الشّامخة لأهل الإيمان، بل لأهل العرفان"2.
موعظة الإمام
"يا عزيزي، إنّ الله تعالى سيجري قضاءه رضينا أم أبينا، فالتقدير الإلهيّ لا يرتهن برضانا أو سخطنا، بل إنّ ما يبقى لنا من سخطنا وغضبنا هذا هو النقصان في المراتب، والحرمان من الدّرجات، والسقوط في أعين الأولياء والملكوتيين، وذهاب الإيمان من القلوب: كما يشير إلى هذا حديث الإمام الصادق عليه السلام: "كيف يكون المؤمن مؤمناً وهو يسخط قسمه ويُحقّر منزلته والحاكم عليه الله"3.4
1 معراج السالكين، ص 38.
2 الأربعون حديثًا، ص 296.
3 الكافي، ج2، ص62.
4 جنود العقل والجهل، ص 173.
342
290
الدرس الخامس والعشرون: الرضا
المفاهيم الرئيسة
1- الرّضا عبارة عن سرور العبد بالحقّ تعالى شأنه وإرادته ومقدّراته، وهو يستلزم السّرور العام بالخلق أيضًا.
2- إنّ المعيار الأوّل في الرّضا هو الالتفات والوعي والعلم بمصدر أسباب الرّضا، وهو الله تعالى. لهذا يكون الرّضا في حقيقته رضا عن الله تعالى.
3- الرّضا نابع من الإيمان بحكمة الله المطلقة ورحمته التي تسع كلّ شيء.
4- إذا استقرّ الرّضا في النّفس واستولى على القلب يجعل صاحبه متعرّضًا لكلّ ما يصدر من الله، فيكون بذلك أوسع النّاس صدرًا.
5- الفرق بين الرّضا والتوكّل هو أنّ المتوكّل يطلب الخير والصّلاح لنفسه، أمّا الشّخص "الراضي" فيكون قد أفنى إرادته في إرادة الله.
6- للرّضا مراتب كثيرة ودرجات متباينة، منها: الرّضا بالله ربًّا وبتربيته، الرّضا بقضاء الحقّ تعالى وقدره، والرّضا برضا الله (مقام المحبّة والجذبة).
7- من يعترض ـفي قلبه على أحد الأحكام الإسلامية، أو يتأذى قلبياً منه أو يتمنّى قلبيّاً تغييره إلى حكم آخر لا يكون راضيًا.
8- للرضا علامتان هما السّرور العام بالخلق، والسّخط وعدم الرضا من الجنبة السوائيّة.
9- من آثار الرّضا: تصفية النفس وتجليتها، جعل القلب موردًا للتجلّيات الإلهيّة الخاصّة، وإيصال الإيمان إلى كماله، وهو مقدّمة لمقام الحبّ.
10- للرضا ثلاثة مناشئ أساسيّة هي: الفطرة، الإيمان، والمحبّة.
11- إنّ تحصيل الرّضا يكون بالعلم النّافع والعمل الصّالح.
12- إنّ الوقوف عند مرتبة العلم بجمال الحقّ هو من الحجب الكبرى.
13- الصّبر على البلايا من الأمور التي توجب الرّضا بالقضاء الإلهيّ.
343
291
الدرس الخامس والعشرون: الرضا
14- ما ينبغي أن نعلمه هو أنّ التقدير الإلهيّ لا يرتهن برضانا أو سخطنا، بل إنّ ما يبقى لنا من السّخط والغضب هو النقصان في المراتب وذهاب الإيمان من القلوب.
344
292
الدرس الخامس والعشرون: الرضا
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
الْحَمْدُ لِلهِ رِضًى بِحُكْمِ اللهِ، شَهِدْتُ أَنَّ اللهَ قَسَمَ مَعَايِشَ عِبَادِهِ بِالْعَدْلِ، وَأَخَذَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ بِالْفَضْلِ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَلاَ تَفْتِنِّي بِمَا أَعْطَيْتَهُمْ، وَلاَ تَفْتِنْهُمْ بِمَا مَنَعْتَنِي فَأَحْسُدَ خَلْقَكَ، وَأَغْمَطَ حُكْمَكَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، و طَيِّبْ بِقَضَائِكَ نَفْسِي، وَوَسِّعْ بِمَوَاقِعِ حُكْمِكَ صَدْرِي، وَ َبْ لِيَ الثِّقَةَ لأُقِرَّ مَعَهَا بِأَنَّ قَضَاءَكَ لَمْ يَجْرِ إلاَّ بِالْخِيَرَةِ، وَاجْعَلْ شُكْرِي لَكَ عَلَى مَا زَوَيْتَ عَنِّي أَوْفَرَ مِنْ شُكْرِي إِيَّاكَ عَلَى مَا خَوَّلْتَنِي...1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾2.
2. ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾3.
الروايات الشريفة:
1- عنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ شفَلَمَّا ﴿ ﴾ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَأْسَفُ كَأَسَفِنَا وَ لَكِنَّهُ خَلَقَ أَوْلِيَاءَ لِنَفْسِهِ يَأْسَفُونَ وَ يَرْضَوْنَ وَهُمْ مَخْلُوقُونَ مَرْبُوبُونَ فَجَعَلَ رِضَاهُمْ رِضَا نَفْسِهِ وَسَخَطَهُمْ سَخَطَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَهُمُ الدُّعَاةَ إِلَيْهِ وَالْأَدِلَّاءَ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ صَارُوا كَذَلِكَ"4.
1 الإمام السجّاد، الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام في الرّضا إذا نظر إلى أصحاب الدّنيا.
2 سورة البقرة، الآية 120.
3 سورة المجادلة، الآية 22.
4 الكافي، ج1، 144.
345
293
الدرس السادس والعشرون: التقوى
الدرس السادس والعشرون: التقوى
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى التّقوى وموقعها في سير وسلوك الإنسان.
2- يبيّن مراتب التّقوى ودرجاتها.
3- يفهم المانع الأكبر من تحقيق التّقوى وكيفيّة تحصيلها.
347
294
الدرس السادس والعشرون: التقوى
تمهيد
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "لا بُدَّ أن نعرف أنّ التّقوى، وإن لم تكن من مدارج الكمال والمقامات، ولكنّه لا يمكن بدونها بلوغ أيّ مقام"1. فإذا كان الحديث عن المقامات المعنويّة التي هي مراحل السّير إلى الله تعالى، فلا يمكن إدراج التّقوى فيها. أمّا إذا كان الحديث عن النّفس، فلا شكّ بأنّ التّقوى من أهمّ علائم قوّة النّفس في السّير إلى الله، بالإضافة إلى كونها أعظم وسيلة لتقوية النّفس في العزم على الكمالات. وعندما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إّنما هي نفسي أروّضها بالتّقوى"2، فهذا يعني أنّ التّقوى هي برنامج الرّياضات الرّوحيّة التي تجعل النّفس في حالة تكامل مستمرّ.
التّعريف العلميّ للتّقوى
إنّ جميع أحوال النّفس وملكاتها يمكن التعرّف إليها من خلال الآثار التي تنشأ منها أو من خلال الدّرجات والمراتب التي تحصل فيها. أمّا التّحديد العلميّ فهو الخطوة الأولى على صعيد فهم حقيقة الفضيلة. ولدينا في هذا المجال مجموعة مهمّة من الكلمات الصّادرة عن الإمام الخمينيّ قدس سره حول ماهيّة التّقوى. منها:
"قوله عليه السلام (الورَع) بفتح الراء و(الرِّعة) مصدران لَورِع يَرِع بكسر الراء فيهما. ومعناه التّقوى أو شدّة التّقوى ومنتهى الحذر. ومن المحتمل أن يكون المعنى مأخوذًا من ورّعته توريعًا، أي كففته، لأنّ الورع في الحقيقة، كفّ النفس، ومنعها من تخطّي حدود الشّرع والعقل. أو من ورّع بمعنى الرّدّ، يُقال ورّعت الإبل عن الماء إذا رددتها، لأن المؤمن يرّد نفسه عن الشّهوات والولوج فيها"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 240.
2 نهج البلاغة، ص417.
3 (م.ن)، ص 499.
349
295
الدرس السادس والعشرون: التقوى
ويقول قدس سره: "إنّ التّقوى، في كلّ مرتبة من مراتبها، بمثابة الوقاية من الأمور المضرّة للأمراض. ومن دون الحميّة لا يمكن أن ينفع العلاج، ولا أن يتبدّل المرض إلى صحّة. قد يتغلّب الدّواء والطّبيعة على المرض في الأمراض الجسميّة حتى مع عدم الحميّة جزئيًّا. وذلك لأنّ الطّبيعة هي نفسها حافظة للصحّة ودواء لها. ولكنّ الأمر في الأمراض النّفسيّة صعب، وذلك لأنّ الطّبيعة قد تغلّبت على النّفس منذ البداية، فتوجّهت هذه نحو الفساد والانتكاس ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾1، وعليه، فإنّ من يتهاون في الحميّة، تصرعه الأمراض، وتجد مناطق للنّفوذ إليه، حتّى تقضي على صحّته قضاءً مبرمًا. إذًا، فالإنسان الرّاغب في صحّة النّفس، والمترفق بحاله، إذا تنبّه أنّ وسيلة الخلاص من العذاب تنحصر في أمرين: الأوّل: الإتيان بما يصلح النّفس ويجعلها سليمة. والآخر، هو الامتناع عن كلّ ما يضرّها ويؤلمها. ومن المعلوم أنّ ضرر المحرّمات أكثر تأثيرًا في النّفس من أيّ شيءٍ آخر، ولهذا كانت محرّمة، كما أنّ الواجبات لها أكبر الأثر في مصلحة الأمور، ولهذا كانت واجبة وأفضل من أيّ شيء، ومقدّمة على كلّ هدف، وممهّدة للتطوّر إلى ما هو أحسن. إنّ الطّريق الوحيد إلى المقامات والمدارج الإنسانيّة يمرّ عبر هاتين المرحلتين، بحيث أنّ من يواظب عليهما يكون من النّاجين السّعداء، وأهمّهما هي التّقوى من المحرّمات، وإنّ أهل السّلوك يحسبون هذه المرحلة مقدّمة على المرحلة الأولى، إذ يتّضح من الرّجوع إلى الأخبار والرّوايات وخطب "نهج البلاغة" أنّ المعصومين عليهم السلام كانوا يعتنون كثيرًا بهذه المرحلة"2.
والتقوى غير الورع كما يظهر من كلام الإمام قدس سره: "اعلم أن التقوى من "الوقاية" بمعنى المحافظة. وهي في العرف وفي مصطلح الأخبار والأحاديث تعني: "وقاية النفس من عصيان أوامر الله ونواهيه وما يمنع رضاه"، وكثيراً ما عُرّفت بأنّها "حفظ النّفس حفظًا تامًّا عن الوقوع في المحظورات بترك الشّبهات"، فقد قيل: "وَمَنْ أَخَذَ بِالشُّبَهاتِ ارتكب المُحَرَّماتِ وَهَلَكَ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُ"3، "فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الحِمى أوشِكَ أَنْ يَقَعَ فيهِ"4"5.
1 سورة يوسف، الآية 53.
2 الأربعون حديثًا، ص 241-242.
3 الكافي، ج1، ص 67.
4 وسائل الشّيعة، ج27، ص 167.
5 الأربعون حديثًا، ص 239.
350
296
الدرس السادس والعشرون: التقوى
دور التّقوى
يذكر الإمام الخمينيّ قدس سره أهم الأدوار التي تؤدّيها التّقوى على صعيد الحياة المعنويّة والرّوحيّة للإنسان في الدّنيا والآخرة.
1- إفاضة العلم
يقول الإمام قدس سره: "عندما يقول الرّبّ جلّ جلاله في الآية الكريمة ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ﴾1 فلأجل أنّ التّقوى تزكّي النّفس وتربطها بعالم الغيب المقدّس، ثمّ يكون التّعليم الإلهيّ والإلقاء الرّحمانيّ، لأنّ البخل في المبادئ العالية، محال، وأنّ فيضها يكون واجبًا، إذ إنّ واجب الوجود بالذّات، واجب من جميع الجهات والحيثيات"2.
2- تهذيب النفس
"لا بدّ أن نعرف بأنّ التّقوى تزكّي النّفس وتطهّرها من الدّنس والقذارات. وطبعًا إذا كانت صفحة النّفس ناصعة، وطاهرة من حجب المعاصي وكدرها، كانت الأعمال الحسنة مؤثّرة أكثر، وإصابتها للهدف المبتغى أدقّ، وتَحقُّق السّر الكبير للعبادات الذي هو ترويض الجانب المادّيّ للإنسان، وقهر ملكوته على مُلكه ونفوذ الإرادة الفاعلة للنّفس بصورة أفضل"3.
3- سبب قبول الإعمال
يقول الإمام الخميني قدس سره: "التّقوى مضافًا إلى أنّها من العوامل الكبيرة في إصلاح النّفس، تكون ذات قدرة فعّالة في تأثير الأعمال القلبيّة والقالبيّة ـ الظّاهريّة ـ للإنسان، وتكون سببًا لقبولها أيضًا. كما يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾4"5.
1 سورة البقرة، الآية 282.
2 الأربعون حديثًا، ص 404.
3 (م.ن)، ص 359.
4 سورة المائدة، الآية 27.
5 الأربعون حديثًا، ص 359.
351
297
الدرس السادس والعشرون: التقوى
4- تقوية العزم
يقول الإمام قدس سره: "يمكن أن يُقال أنّ من إحدى الجهات المهمّة للتّقوى والتّجنّب عن المشتهيات النّفسانيّة وترك أهوائها والرّياضات الشّرعيّة والعبادات والمناسك الإلهيّة، تقوية العزم وانقهار القوى الملكيّة تحت ملكوت النفس"1.
5- راحة الدّارين
يقول الإمام قدس سره: "وليُعلم أنّ التمسّك بالتّقوى والقناعة موجب لراحة الدّارين. وأنّ الراحة في هوان الدّنيا وعدميتها، فلذلك لا يلتذّ ولا يتمتّع بها. وكما أنّه طهّر نفسه من النّجاسات الصورية، كذلك سيطهّر نفسه من نجاسات المحرّمات والشبهات"2.
6- تحصيل السّلامة
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في شرحه لحديث الإمام الصّادق عليه السلام الذي ورد في مصباح الشريعة ويتحدث فيه عن معنى السلام في دبر كل صلاة: "معنى السلام عقيب الصلاة هو الأمان، بمعنى أن من أدّى الأوامر الإلهية والسنن النبوية بالخشوع القلبي فيأمن من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة، أي يأمن من التصرفات الشيطانية في الدنيا لأن أداء الأوامر الإلهية بالخشوع القلبي موجب لقطع تصرف الشيطان، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر...
السّلام اسم من أسماء الله تعالى أودعه الموجودات وهذه إشارة إلى مظهريّة الموجودات للأسماء الإلهيّة ولا بدّ للعبد السّالك أن يظهر هذه اللطيفة الإلهيّة التي أودعت واختفت في باطن ذاته وخميرته ويستعملها في جميع المعاملات والمعاشرات والأمانات والارتباطات ويشير بها إلى مملكة باطنه وظاهره ويستعملها في المعاملات مع الحق ودين الحق تعالى لئلا يخون الوديعة الإلهيّة فتسري حقيقة السّلام إلى جميع قواه الملكيّة والملكوتيّة وفي جميع عاداته وعقائده وأخلاقه وأعماله لتسلم نفسه من جميع التصرّفات، وعرّف عليه السلام التّقوى طريقًا لتحصيل هذه السّلامة"3.
1 معراج السالكين، ص 64.
2 (م.ن)، ص 92.
3 (م.ن)، ص 367.
352
298
الدرس السادس والعشرون: التقوى
7- الوصول إلى غاية العبادة
يقول الإمام الخميني قدس سره: "عن أبي عبد الله عليه السلام قالَ: "أوصيكَ بِتَقْوَى اللهِ وَالْوَرَعِ وَالاجْتِهَادِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُ اجْتِهَادٌ لاَ وَرَعَ فِيهِ"1. وبهذا المضمون رواية أخرى أيضًا. وهذا شاهد على أنّ العبادات تتساقط عن الاعتبار، إذا كانت خالية من الورع. ومن المعلوم أنّ الغاية المنشودة من العبادات التي هي ترويض النّفس، ولجمها، وقهر الملكوت للمُلك والطبيعة، لا تحصل إلاّ بواسطة الورع الشديد، والتّقوى الكاملة"2.
8- شهود تجلّيات الله تعالى
"فبعد أن يغادر السّالك إلى الله بخطوات ترويض النّفس والتّقوى الكاملة من بيت النّفس، ولم يصطحب معه في هذا الخروج العُلقة الدنيويّة، والتّعيّنات، ويتحقّق له السّفر إلى الله سبحانه، يتجلّى له الحقّ المتعالي قبل كلّ شيء، على قلبه المقدّس بالألوهيّة ومقام ظهور الأسماء والصّفات"3.
ويقول قدس سره: "التّطهّر من الملكات الخبيثة - وهو في واقعة مرتبة من مراتب التّقوى بمعناها العام ـ هو مقدّمة لاكتساب الكمالات الرّوحيّة التي هي عبارة عن الملكات الفاضلة الحسنة، مثلما أنّ المرتبة الكاملة للتّقوى وهي ترك ما سوى الحقّ والتنزّه عن الشّرك بكلّ معانيه، إنّما هي مقدّمة لحصول التّوحيد والانقطاع للحقّ تعالى، وهذا هو الهدف الأصليّ من الخلق كما يشير إلى ذلك الحديث القدسيّ: "كنتُ كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أُعرف فخلقتُ الخلق لكي أُعرف"4.
مراتب التّقوى ودرجاتها
تحدّث الإمام الخميني قدس سره عن التّقوى ومراتبها في معظم كتبه الأخلاقيّة والعرفانيّة وفي وصاياه المختلفة. وقد ذُكر للتّقوى مراتب عديدة. منها ما يرتبط بمقامات العارفين (حيث سيكون لنا حديث مفصّل في كتابٍ لاحق) ومنها ما يندرج ضمن المراتب العامّة. وأشهر مراتب التّقوى في هذا المجال ثلاث، هي:
1 الكافي، ج2، ص76.
2 الأربعون حديثًا، ص 505-506.
3 (م.ن)، ص 667.
4 جنود العقل والجهل، ص 340.
353
299
الدرس السادس والعشرون: التقوى
1- تقوى الظّاهر
2- تقوى الباطن
3- تقوى العقل
ولكلّ مرتبة أمور ينبغي الوقاية منها. ففي المرتبة الأولى تكون المعاصي والمحرّمات، وفي المرتبة الثانية رذائل الأخلاق والملكات، وفي المرتبة الثّالثة التعلّق بغير الحقّ تعالى. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وليُعلم أنّ للتّقوى مراتب ومنازل، فتقوى الظّاهر هي حفظ الظّاهر من القذارات وظلمة المعاصي القالبيّة وهذه هي تقوى العامّة.. وتقوى الباطن هي حفظه وتطهيره عن الإفراط والتّفريط وعن التّجاوز عن حدّ الاعتدال في الأخلاق والغرائز الرّوحيّة وهذه تقوى الخاصّة. وتقوى العقل حفظه وتطهيره عن استعماله في العلوم غير الإلهيّة، والمراد من العلوم الإلهيّة ما يكون مرتبطًا بالشّرائع والأديان الإلهيّة وجميع العلوم الطّبيعيّة وغيرها من أجل معرفة مظاهر الحقّ تكون إلهيّة وإن لم تكن لأجل ذلك فليست كذلك وإن كانت من مباحث المبدأ والمعاد وهذه تقوى أخصّ الخواص، وتقوى القلب حفظه عن مشاهدة وذكر غير الحقّ وهذه تقوى الأولياء"1.
المانع الأكبر من التّقوى
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "السّاعي لإعمار الآخرة وجنّةِ الأعمال عن طريق التحلّي بالتّقوى والقيام بالأعمال الصّالحة، فإنّه لن يحظى بأيِّ من مراتب ذلك مع بقاء حبّ الدّنيا، فحبّها يوقعه في المحرّمات الإلهيّة، ويصرفه عن الواجبات الشّرعيّة، إذ أنّ ترك الواجبات الماليّة مثل دفع الزّكاة والخمس وأداء الحجّ ناشىءٌ من الحرص على جمع المال، وترك الواجبات البدنيّة مثل الصوم والصّلاة ونظائرهما ناشىءُ من الحرص على تنمية البدن"2.
1 معراج السالكين، ص 367-368.
2 جنود العقل والجهل، ص 237.
354
300
الدرس السادس والعشرون: التقوى
المثابرة والمصابرة طريق التقوى
يقول الإمامقدس سره: "إنّ الطّريق الوحيد إلى المقامات والمدارج الإنسانيّة يمرّ عبر هاتين المرحلتين (فعل الواجبات وترك المحرّمات)، بحيث أنّ من يواظب عليهما يكون من النّاجين السعداء، وأهمّهما هي التّقوى من المحرّمات، وأنّ أهل السلوك يحسبون هذه المرحلة مقدّمة على المرحلة الأولى... إذًا، أيّها العزيز! بعد أن عرفت بأنّ هذه المرحلة مهمّة جدًّا. ثابر عليها بدقّة، فإذا أنت خطوت الخطوة الأولى وكانت صحيحة، وبنيت هذا الأساس قويًّا، كان هناك أمل بوصولك إلى مقامات أخرى، وإلاّ امتنع الوصول، وصعبت النّجاة"1.
ويقولقدس سره: "واعلم، أنّ بدايات الأمر صعبة وشاقّة، ولكن بعد فترة من الاستمرار والمثابرة تتحوّل المشقّة إلى راحة، والعسر إلى يُسر، بل تتبدّل إلى لذّة روحيّة، خصوصًا وأنّ أصحاب هذه اللذة لا يستبدلونها بجميع اللذائذ. ويمكن، إن شاء الله، وبعد المواظبة الشّديدة والتّقوى التّامّة، أن تنتقل من هذا المقام إلى مقام تقوى الخاصّة. وهي التّقوى التي تتلذّذ الرّوح بها. إذ أنّك بعد أن تذوق طعم اللذة الرّوحيّة تترك شيئًا فشيئًا اللذائذ الجسديّة وتتجنّبها. وعندئذٍ يسهل عليك المسير حتى لا تعود تقيم وزنًا للذّات الجسديّة الزائلة، بل تنفر منها، وتقبّح زخارف الدّنيا في عينيك، وتنظر في باطنك فتجد أنّ كلّ لذّة من لذّات هذا العالم قد أوجدت في النفس أثرًا وأبقت في القلوب لطخة سوداء تبعث على شدّة الأنس بهذه الدّنيا والتعلّق بها. وهذه هي نفسها تكون سبب الإخلاد إلى الأرض. وعند سكرات الموت تتبدّل إلى صعوبة ومشقّة ومعاناة. والواقع أنّ صعوبة سكرات الموت وحالة النّزع الأخير القاسية ناجمة عن هذه اللذات وحبّ الدّنيا، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فإذا أدرك الإنسان هذا المعنى سقطت لذّات العالم من عينه كليًّا، ونفر من الدّنيا وما فيها من مباهج وزخارف. وهذا هو التقدّم الثاني إلى المقام الثالث من التقوى"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 242.
2 (م.ن)، ص 243.
355
301
الدرس السادس والعشرون: التقوى
المفاهيم الرئيسة
1- التّقوى تعني "وقاية النفس من عصيان أوامر الله ونواهيه وما يمنع رضاه" أو "حفظ النّفس حفظًا تامًّا عن الوقوع في المحظورات بترك الشّبهات". وهي وإن لم تكن من مدارج الكمال والمقامات، لكن بدونها لا يمكن بلوغ أيّ مقام.
2- التّقوى من أهمّ علائم قوّة النّفس في السّير إلى الله، بالإضافة إلى كونها أعظم وسيلة لتقوية النّفس في العزم على الكمالات.
3- إنّ الطّريق الوحيد إلى المقامات والمدارج الإنسانيّة يمرّ عبر هاتين المرحلتين: الإتيان بما يصلح النّفس ويجعلها سليمة(الواجبات). والآخر، هو الامتناع عن كلّ ما يضرّها ويؤلمها(المحرّمات).
4- للتّقوى دور أساس في تهذيب النّفس، فهي تؤدّي إلى: تزكية النّفس وربطها بعالم الغيب وتطهيرها من الدّنس والقذارات، تقوية العزم، راحة الدّارين، تحصيل السّلامة، ترويض النّفس، شهود تجلّيات الله تعالى.
5- للتّقوى مراتب ثلاث:
- تقوى الظاهر (الوقاية من المعاصي والمحرّمات)
- تقوى الباطن (الوقاية من رذائل الأخلاق والملكات)
- تقوى العقل (الوقاية من استعمال العقل في العلوم غير الإلهية)
6- المانع الأكبر من تحصيل التّقوى: حبّ الدنّيا، فلا بدّ من التّخلّص من هذا الحبّ للتّدرّج في مراتب التّقوى.
356
302
الدرس السادس والعشرون: التقوى
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللّهُمَّ فَاجْعَلْ نَفْسِي مُطْمَئِنَّةً بِقَدَرِكَ راضِيةً بِقَضائِكَ مُولَعَةً بِذِكْرِكَ وَدُعائِكَ مُحِبَّةً لِصَفْوَةِ أَوْلِيائِكَ مَحْبُوبَةً فِي أَرْضِكَ وَسَمائِكَ صابِرَةً عَلى نُزُولِ بَلائِكَ شاكِرَةً لِفَواضِلِ نَعْمائِكَ ذاكِرَةً لِسَوابِغِ آلائِكَ مُشْتاقَةً إِلى فَرْحَةِ لِقائِكَ مُتَزَوِّدَةً التَّقْوى لِيَوْمِ جَزائِكَ مُسْتَنَّةً بِسُنَنِ أَوْلِيائِكَ مُفارِقَةً لاَخْلاقِ أَعْدائِكَ مَشْغُولَةً عَنِ الدُّنْيا بِحَمْدِكَ وَثَنائِكَ1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾2.
2- ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾3.
الروايات الشريفة:
1- عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال لي: "يا جابِرُ أيَكْتَفي مَنْ يَنْتَحِلُ التَّشَيُّعَ أنْ يَقولَ بِحُبِّنا أهْلَ الْبَيْتِ؟ فَوَاللهِ ما شيعَتُنا إلاّ مَنِ اتَّقى اللهَ وَأطاعَهُ ـ إلى أن قال: فاتَّقوا اللهَ وَاعْمَلُوا لِما عِنْدَ اللهِ، لَيْسَ بَيْنَ اللهِ وَلا بَيْنَ أحَدٍ قَرابةٌ، أحَبُّ الْعِبَادِ إلَى اللهِ تَعالى وَأكْرَمُهُمْ عَلَيْهِ أتْقاهُمْ وَأعْمَلُهُمْ بِطاعَتِهِ. يا جابِرُ وَاللهِ ما نَتَقَرَّبُ إلَى اللهِ تَعالى إلاّ بِالطاعَةِ، ما مَعَنا بَراءَةٌ مِنَ النّارِ وَلا عَلَى اللهِ لِأحَدٍ مِنْ حُجَّةٍ، مَنْ كانَ لِلّهِ مُطيعاً فَهُوَ لَنا وَليٌّ، وَمَنْ كانَ لِلّهِ عاصياً فَهُوَ لَنا عَدُوٌّ، وما تُنالُ وِلايَتُنا إلاّ بِالْعَمَلِ وَالْوَرَعِ"4.
2- عن أبي الحسن عليه السلام: "مَنِ اتَّقَى اللهَ يُتَّقَى وَمَنْ أَطَاعَ اللهَ يُطَاعُ"5.
1 الشيخ عبّاس القمّيّ، مفاتيح الجنان، زيارة أمين الله.
2 سورة الأعراف، الآية 96.
3 سورة الأعراف، الآية 201.
4 الكافي، ج2، ص 74.
5 (م.ن)، ج1، ص 137.
357
303
الدرس السادس والعشرون: التقوى
3- عَنِ الْمُفَضَّلِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام فَجَاءَهُ هَذَا الْجَوَابُ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُوصِيكَ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ وَطَاعَتِهِ فَإِنَّ مِنَ التَّقْوَى الطَّاعَةَ وَالْوَرَعَ وَالتَّوَاضُعَ لِلهِ وَالطُّمَأْنِينَةَ وَالِاجْتِهَادَ وَالْأَخْذَ بِأَمْرِهِ وَالنَّصِيحَةَ لِرُسُلِهِ وَالْمُسَارَعَةَ فِي مَرْضَاتِهِ وَاجْتِنَابَ مَا نَهَى عَنْهُ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللهَ فَقَدْ أَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنَ النَّارِ بِإِذْنِ اللهِ وَأَصَابَ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى فَقَدْ أَبْلَغَ الْمَوْعِظَةَ جَعَلَنَا اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ بِرَحْمَتِهِ"1.
4- عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صلى الله عليه وآله وسلم "يَقُولُ: لَا يَقِلُّ عَمَلٌ مَعَ تَقْوَى وَكَيْفَ يَقِلُّ مَا يُتَقَبَّلُ"2.
5- قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "وَاعْلَمُوا أَنَّ مَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا مِنَ الْفِتَنِ وَنُورًا مِنَ الظُّلَمِ وَيُخَلِّدْهُ فِيمَا اشْتَهَتْ نَفْسُهُ وَيَنْزِلْهُ مَنْزِلَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ فِي دَارٍ اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ ظِلُّهَا عَرْشُهُ وَنُورُهَا بَهْجَتُهُ وَزُوَّارُهَا مَلَائِكَتُهُ وَرُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ"3.
1 بحار الأنوار، ج24، ص 286.
2 الكافي، ج2، ص 75.
3 نهج البلاغة، ص. 266.
358
304
الدرس السابع والعشرون: الزهد
الدرس السابع والعشرون: الزهد
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يفهم معنى الزّهد ودوره في بناء الإنسان وتكامله.
2- يشرح إلى علامات الزّهد الحقيقيّ ومراتبه.
3- يتعرّف إلى آثار الزّهد البرنامج الشرعي لتحصيله.
359
305
الدرس السابع والعشرون: الزهد
تمهيد
يُعتبر الزّهد من الفضائل العظيمة التي تعرّضت للكثير من التّحريف ليس في الممارسة فحسب، بل حتّى على مستوى المفهوم، ويعود ذلك إلى علاقته بالحياة الدّنيا وشوؤنها التي تمثّل كلّ حياة الإنسان والمجتمع. ولقد بدأ الانحراف عندما لم يعرف المسلمون مسؤوليّتهم تجاه هذه الحياة الأرضيّة، بل تجاه الأرض نفسها، فتاهوا بين مفرط ومفرّط. هناك من رأى الدّنيا مسخّرة له بالكامل يفعل فيها ما يحلو له طالما أنّه بالحلال! وهناك من اعتبر الدّنيا ظلام وقذارة وسجن يجب أن يتحرّر منه كيفما كان. وبين هذا المفرط وذاك المفرّط ضلّ الكثيرون إلّا من هدى الله إلى الزّهد الحقيقيّ.
تعريف الزّهد
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ الزّهد بالمعنى المصطلح إذا كان عبارة عن ترك الدنيا من أجل الحصول على الآخرة فهو من أعمال الجوارح، وإذا كان بمعنى الرغبة والإعراض عن الدنيا، وهو الذي يستلزم تركها، فهو من أعمال الجوانح (القلب). ويُحتمل أن يكون معناه التّرك لانعدام الرّغبة والميل مطلقًا، وعليه تظهر أمامنا أربع احتمالات:
الأوّل: إنّ الزهد عبارة عن مطلق انعدام الرّغبة في الدّنيا سواء أعرض الزّاهد عنها عمليًّا أم لم يعرض.
الثاني: أنّ الزهد عبارة عن ترك الدّنيا عمليًّا سواء انعدمت الرّغبة فيها أم لم تنعدم.
الثالث: أن يكون بمعنى الإعراض عنها المستلزم لتركها.
الرابع: أن يكون بمعنى التّرك للدّنيا بسبب انعدام الرّغبة فيها.
361
306
الدرس السابع والعشرون: الزهد
ولعلّ الاحتمال الثّالث هو الأرجح، يليه الاحتمال الرابع، وبعده الاحتمال الأوّل، أمّا الاحتمال الثّاني فبعيد، لأنّ الزّهد ضدّ الرّغبة كما نصّ على ذلك علماء اللغة، وكما ورد في هذا الحديث الشّريف، ولا شكّ في أنّ الرّغبة في الشّيء هي ميل نفسانيّ وليس عملًا خارجيًّا، كما أنّها وإن لم تستلزم العمل، إلّا أنّ العمل يتولّد منها عادةً، لذا يمكن القول أنّ الزهد، من هذه الزاوية، عبارة عن انعدام الرّغبة والميل النّفسانيّ، وهذا ما يقترن عادة بالترك والإعراض وإن لم يكن ذلك على نحو الملازمة، وهذا احتمالٌ خامسٌ في معنى الزّهد. وعلى أيّ حال فإنّ الملحوظ في معنى الزّهد انعدام الرّغبة والميل، وهذا من الصّفات النفسانيّة"1.
أهميّة الزّهد ودوره
إنّ معرفة دور الزّهد في بناء الإنسان وتكامله موقوفة على فهم برنامج الدّين وخطّة الرّسالة، ولهذا يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ جميع الدّعوات الإلهيّة الحقّة، والشّرائع الرّبّانيّة الكاملة ــ سواء كانت في كشف حقائق التّوحيد وسرائر التّفريد والتّجريد، أو في نشر فضائل الأخلاق ومحاسنها، أو في تشريع الأحكام الإلهيّة ــ لا تخرج عن دائرة السّعي لتحقيق هدفين: الأوّل، مقصود بالذّات والاستقلال، والثّاني بالعرض والتّبعيّة. والمقصود بذاته ـ وهو غاية بعثة الأنبياء عليهم السلام ودعواتهم، وغاية مجاهدات ومكاشفات الكاملين والأولياء عليهم السلام ـ إنّما هو تحويل هذا الإنسان الطّبيعيّ اللحميّ الحيوانيّ البشريّ إلى إنسان لاهوتيّ إلهيّ ربّانيّ روحانيّ، ووصل أُفق الكثرة بأفق الوحدة، وربط الأوّل بالآخر، وهذا يعني تحقيق كمال حقيقة المعرفة المشار إليها في الحديث القدسيّ: "كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلق لكي أُعرف"2، وفي الحديث الشريف: "أّوّل الدين معرفته"3.
والمراد من جميع الأعمال القلبيّة والقالبيّة، والأفعال الرّوحيّة والجسدية، هو تحقّق هذا الهدف المقدّس، فهو الغاية من نشر المعارف الإلهيّة، ولأنّ هذا المقصود الذاتيّ والاستقلاليّ لا يتحقّق إلا بتحقّق أمرين: الأوّل "الإقبال" على الله تعالى، والثّاني "الإدبار"
1 جنود العقل والجهل، ص 269-270.
2 بحار الأنوار، ج 84، ص 344.
3 نهج البلاغة، ص39.
362
307
الدرس السابع والعشرون: الزهد
والإعراض عن كلّ ما سواه تعالى، لذلك فإنّ جميع الدعوات الإلهيّة هي إمّا دعوة للإقبال عليه تعالى، وإمّا دعوة للإعراض عن غيره عزّ وجل، كما أنّ جميع الأعمال القلبيّة والقالبيّة والظّاهرة والباطنة، هي إمّا إقبال على الله أو معينة على الإقبال عليه، وإمّا الإعراض عمّا سوى الله ومعينة على هذا الإعراض. ولعلّ في حصر الأمر الإلهيّ بالإقبال والإدبار في هذا الحديث الشّريف الذي نشرحه هنا وفي غيره حيث يقول: "فقال له (للعقل): أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر"1، إشارة إلى رجوع جميع الأوامر والنّواهي إلى هذين الأمرين. إذا اتّضح هذا الأمر اتّضحت منزلة الزّهد والإعراض عن الدّنيا بل عّما سوى الله تعالى ـ وهو الزّهد الحقيقيّ، نسبة إلى السّلوك الإنسانيّ. وثبت بالتّحقيق أنّ الإعراض عن كلّ ما سوى الحقّ تعالى هو مقدّمة للوصول إلى جمال الجميل والاستغراق في بحر المعارف والتّوحيد. أي أنّ الزّهد بنفسه ليس من الكمالات الإنسانيّة، والمقامات الرّوحانيّة المطلوبة بذاتها، وهذا ما يشير له الكثير من الأحاديث الشريفة. ففي الوسائل عن الكافي الشّريف مستندًا إلى الإمام باقر العلوم عليه السلام أنّه قال: "قال أمير المؤمنين: إنّ من أعون الأخلاق على الدّين الزهد في الدنيا"2.3
ويقول قدس سره: "إنّ الزّهد الحقيقيّ من أهمّ جنود العقل والرّحمان، وبه يحلّق الإنسان نحو عالم القدس والطّهارة، ويقطع بالكامل تعلّقه بالعالم فيحصل على كمال الإنقطاع إلى الله"4. وكفى في الزّهد ما قاله الإمام الصّادق عليه السلام في مصباح الشّريعة: "الزُّهْدُ مِفْتَاحُ بَابِ الْآخِرَةِ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ النَّارِ"5. فهو إذًا مفتاح الفوز الأكبر.
الزّهد من حالات القلوب
"قال الله تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾6. وقد رُوي في الوسائل عن الإمام السجّاد عليه السلام أنّه قال: "ألا وإنّ الزّهد في آية من كتاب
1 الكافي، ج1، ص21.
2 وسائل الشيعة، ج16، ص12.
3 جنود العقل والجهل، ص 273-274.
4 (م.ن)، ص 278.
5 مستدرك الوسائل، ج12، ص 45.
6 سورة الحديد، الآية 23.
363
308
الدرس السابع والعشرون: الزهد
الله..."1 ثم تلا هذه الآية الكريمة. وهذا يشهد على صحّة ما أخذنا به من أنّ الزهد من الصّفات النّفسانيّة الملازمة للعمل، لا أن يكون معناه التّرك نفسه. وبالطّبع، فالقلب الخالي من حبّ الدّنيا المعرض عنها، لا يتأسّف على إدبارها عنه ولا يفرح بإقبالها عليه، وكيف يتأسّف قلب الزاهد على ما فاته من الدّنيا وزخارفها أو يفرح بشيء منها بعد أن استقرّ فيه حال عدم الاهتمام بها؟!"2.
فقد عُلم أنّ تشكّل الزّهد الحقيقيّ يبدأ في القلب عندما تستقرّ فيه القناعة والاعتقاد بحقارة الدّنيا وقلّتها ولا شيئيّتها مقارنةً بالحياة الآخرة. وهذا الأمر هو غير النّظر إلى الأرض من موقع المسؤوليّة الإحيائيّة والتّبديليّة.
درجات الزّهد
إنّ الاطّلاع على درجات الزّهد ومراتبه يساعدنا على فهمه وترسيخ معناه في النّفس. وما أجمل ما ذكره الإمام الخمينيّ قدس سره عند شرحه لحديث جنود العقل والجهل:
"ينبغي العلم بأنّ للزّهد ـ كسائر الصّفات النّفسانيّة والمقامات الإنسانيّة ـ درجات ومراتب كثيرة لا تحصى ولا تحصر بملاحظة الأمور الجزئية، لذا نشير باختصار وبما يناسب هذه الرسالة إلى بعضها:
الدّرجة الأولى: زهد العامّة
وهو عبارة عن الإعراض عن الدنيا بهدف الحصول على نعيم الآخرة وهذه الدرجة، في الحقيقة، كسبيّة تظهر نتيجة للإيمان ببعض منازل الآخرة، فصاحبها هو أسير الشهوة، لكنّه يترك ـ بحكم العقل ـ الشّهوات الحقيرة الزائلة سعيًا للحصول على اللذّات الشّريفة الباقية، أي ترك الشّهوة هنا هو من أجل الشّهوة أيضًا.
ويُعتبر الإعراض عن الدّنيا خوفًا من عقاب الآخرة من مصاديق هذه الدرجة، وإن كان في إطلاق عنوان الزّهد على هذا الإعراض بدافع الخوف نوع من المسامحة، بيد أنّ ثمّة رواية منقولة في كتاب "عيون أخبار الرضا" عن الإمام الصادق عليه السلام: "أنّه سُئل عن الزاهد
1 وسائل الشيعة، ج16، ص 12.
2 جنود العقل والجهل، ص 279.
364
309
الدرس السابع والعشرون: الزهد
في الدّنيا قال: الذي يترك حلالها مخافة حسابه، ويترك حرامها مخافة عقابه"1، إلاّ أنّ أحاديث أئمّة الدّين ومربّي النّفوس تختلف باختلاف المستويات الإدراكية للناس، فهم عليهم السلام يبيّنون لكلّ شخص ـ بما يتناسب مع مقامه ومرتبته ـ مرتبة من مراتب مقامات الإنسانيّة، هذه قضية ينبغي للعارف بمقامات النّفس وأسلوب كلمات أهل الله، التّنبّه إليها ليكشف مقاصدهم وليجمع بذلك بين شتات كلمات الأولياء والأنبياء عليهم السلام في هذه الأبواب.
الدرجة الثانية: زهد الخاصّة
وهو عبارة عن الإعراض عن المشتهيات الحيوانية واللذائذ الشهوانية، بهدف الوصول إلى المقامات العقلانية والمدارج الإنسانية. وهذه الدرجة تتولّد من العلم والإيمان ببعض المراتب العالية في عالم الآخرة، فهذا العلم والإيمان يجعلان المشتهيات الحيوانيّة واللذات الجسمانيّة تبدو حقيرة للعين، وهذا سبب إعراض النفس وانصرافها عنها.
واللذائذ العقلية والرّوحية والإدراكات المجرّدة المرسلة وإن كانت على الدّوام مورد اهتمام الفلاسفة والأعاظم من أهل العلم وقد أولاها الفيلسوف الجليل المعلم الأوّل ارسطو طاليس اهتمامًا بالغًا، إلّا أنّ درجتها أيضًا تبقى ناقصة عند أهل المعرفة والإيقان وأرباب الحقيقة والعرفان، لأنّ الإعراض من أجل اللذة ـ حتى لو كانت روحانية ـ يكشف عن وجود قدم النّفس في السّعي، فهذا أيضًا ليس زهدًا حقيقيًّا، بل هو ترك شهوة ولذّة من أجل شهوة ولذّة.
الدرجة الثالثة: زهد أخصّ الخواص
وهو عبارة عن الإعراض عن اللذات الروحانية وترك المشتهيات العقلانية بهدف الوصول إلى مشاهدة الجمال الإلهيّ الجميل، والوصول إلى حقائق المعارف الربانية. وهذه أولى مقامات الأولياء والمحبّين من مراتب الزّهد العالية. فالزّهد الحقيقيّ يحصل لصاحب هذا المقام في مرتبته الأولى، والزّهد الحقيقيّ عبارة عن ترك ما سوى الله لأجله جل وعلا. وبعد هذا المقام تحصل للسّالك أولى مراتب الفناء، وهي عبارة عن الفناء عن اللذات وعدم الالتفات إليها.
1 عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج1، ص312، وسائل الشيعة، ج16، ص16.
365
310
الدرس السابع والعشرون: الزهد
وتلي ذلك مقامات الأولياء الأخرى التي لا يتّسع المجال لذكرها فنكتفي بذكر هذه الدرجات الثلاث فهي أمّهات الدرجات"1.
آثار الزّهد
للزهد آثار عديدة نذكر بعضا منها:
1- الحكمة
وهي أصل كلّ خير كما قال الله تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾2. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "عن محمد بن يعقوبقدس سره بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من زهد في الدّنيا أثبت الله الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه وبصّره عيوب الدنيا داءها ودواءها، وأخرجه من الدنيا سالماً إلى دار السلام"3. يثمر الزّهد في الدنيا والإعراض عنها ثبات واستقرار نور الحكمة الهادي إلى طريق السّعادة والوصول إلى مقام كمال الإنسانية في القلب، ومنه يجري على اللسان كما يشير إلى ذلك الحديث المرويّ في باب الإخلاص: "ما أخلص عبد لله أربعين صباحاً إلا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"4. والإخلاص شريك الزهد الحقيقي في ترك الآمال والمقاصد النفسانية. وحقيقة الحكمة مضادة ومنافرة لظلمة حب النفس والعجب بها، والقلب محجوب عن عيوبه ما دام محبّاً للدنيا وزخرفها، لأن ستار الحب أسمك الحجب، وقد قيل: "حب الشيء يعمي ويصم"، لذا ما دام حبّ الدنيا والرغبة فيها مستقرّين في قلب الإنسان، فهما يصوّران له جميع عيوب الدنيا محاسن وقبائحها أموراً جميلة، فإذا أعرضنا عن الزخارف الدنيوية بصّرنا الله بعيوب الدنيا ودائها ودوائها، وإذا خرق هذا الحجاب السميك، سقط الستار الذي كان يصور تلك العيوب محاسن جميلة، وعرف الإنسان الداء والدواء، وحينئذ يتّضح له طريق السلوك، ويتعبّد له طريق الإصلاح"5.
1 جنود العقل والجهل، ص 272.
2 سورة البقرة، الآية 269.
3 الكافي، ج2، ص 128.
4 بحار الأنوار، ج 67، ص 242.
5 جنود العقل والجهل، ص 281.
366
311
الدرس السابع والعشرون: الزهد
2- سّلامة النفس
في شرحه للحديث المتعلّق بالقلب السّليم يقول الإمام قدس سره: "ولأنّ "حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة"1، فإنّ سلامة النّفس تتحقّق بالزّهد في الدّنيا، وإنّ تحقّق الزّهد الحقيقي في الإنسان، كان خروجه من هذه الدنيا إلى دار السلام، بكامل السّلامة من كلّ عيب، لأنّ جميع العيوب نتائج لأنواع التعلّق، فإذا تجرّد من التعلّق بما سوى العزّ الإلهيّ الأقدس، تحقّقت فيه السّلامة المطلقة"2.
3- السعادة وحلاوة الإيمان
"وباستناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "سمعته يقول: جُعل الخير كلّه في بيت، وجُعل مفتاحه الزّهد في الدنيا. ثمّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يجد الرجل حلاوة الإيمان حتى لا يبالي من أكل الدنيا. ثم قال أبو عبد الله عليه السلام حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا"3. ويتّضح من هذا الحديث الشّريف أنّ الوصول إلى الخيرات والسّعادة لا يتيسّر إلا بقطع التعلّق بالدّنيا والزّهد فيها، فالتعلّق بالدّنيا والرّغبة فيها هو أصل أصول الانحدار والاحتجاب، في حين أنّ الزّهد مفتاح كلّ خير، والمفتاح لا يراد لذاته بل هو مطلوب لفتح باب السّعادة والمعرفة. ثمّ بيّن الإمام الصادق عليه السلام وعلى نحو الاختصار الدّرجة الأولى للزهد، والدّرجة الأولى للخير. ونقل عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الإنسان لا يتذوّق حلاوة الإيمان إلّا بالزّهد وعدم الاهتمام بأمثال مأكولات هذه الدنيا، ولن يصل إلى مقام الروحانية ومنزلة الإنسانية إلا بعد أن يعرض عن منزل الحيوانية والبطن والفرج"4.
كيفيّة تحصيل الزّهد
بالإضافة إلى ما مرّ يوجد بعض الأعمال والإجراءات التي تعين على الزّهد منها ما يبيّنه الإمام الخميني قدس سره بقوله: "ولعلّه ما اهتُمّ بشيء في كتاب الله ووصايا الأنبياء والأولياء عليهم السلام وخصوصًا أمير المؤمنين عليه السلام مثلما اهتُمّ بترك الدنيا والزّهد فيها
1 الكافي، ج2، ص 131.
2 جنود العقل والجهل، ص 282.
3 الكافي، ج2، ص 128.
4 جنود العقل والجهل، ص282.
367
312
الدرس السابع والعشرون: الزهد
والإعراض عنها، الذي هو من حقائق التقوى. ولا تحصل هذه المرتبة من التّطهير إلّا بالعلم النافع والرياضات القلبية القوية وصرف الهمّة في التّفكّر في المبدأ والمعاد واشغال القلب بالاعتبار في أفول الدّنيا وخرابها وكرامة العوالم الغيبيّة وسعادتها"1.
ويقول قدس سره: "لمّا كان الإنسان متوجّهًا قلبيًّا إلى الكمال المطلق، فإنّه مهما جمع من زخرف الحياة فإن قلبه يزداد تعلّقًا بها. فإذا اعتقد أنّ الدّنيا وزخارفها هي الكمال ازداد ولعه بها، واشتدّت حاجته إليها، وتجلّى أمام بصره فقره إليها. بعكس أهل الآخرة الذين أشاحوا بوجوههم عن الدّنيا، فكلّما ازداد توجّههم نحو الآخرة، قلّ التفاتهم واهتمامهم بهذه الدنيا، وتلاشت حاجتهم إليها، وظهر في قلوبهم الغِنى، وزهدوا في الدنيا وزخارفها"2.
1 معراج السالكين، ص 103-104.
2 الأربعون حديثًا، ص 155.
368
313
الدرس السابع والعشرون: الزهد
المفاهيم الرئيسة
1- إنّ الزّهد الحقيقيّ من أهمّ جنود العقل والرّحمان، وبه يحلّق الإنسان نحو عالم القدس والطّهارة، ويقطع بالكامل تعلّقه بالعالم فيحصل على كمال الإنقطاع.
2- إنّ الإعراض عن كلّ ما سوى الحقّ تعالى هو مقدّمة للوصول إلى جمال الجميل والاستغراق في بحر المعارف والتّوحيد.
3- إنّ الزّهد بالمعنى المصطلح إذا كان عبارة عن ترك الدنيا من أجل الحصول على الآخرة فهو من أعمال الجوارح، وإذا كان بمعنى الرغبة والإعراض عن الدنيا، وهو الذي يستلزم تركها، فهو من أعمال الجوانح (القلب).
4- الزهد من الصّفات النّفسانيّة الملازمة للعمل، لا أن يكون معناه التّرك نفسه.
5- من علامات الزّهد الحقيقيّ أن لا يتأسّف الإنسان على إدبار الدّنيا عنه ولا يفرح بإقبالها عليه.
6- تشكّل الزّهد الحقيقيّ يبدأ في القلب عندما تستقرّ فيه القناعة والاعتقاد بحقارة الدّنيا وقلّتها ولا شيئيّتها مقارنةً بالحياة الآخرة. وهذا الأمر هو غير النّظر إلى الأرض من موقع المسؤوليّة الإحيائيّة والتّبديليّة.
7- للزّهد درجات كثيرة، لكن أمّهات هذه الدّرجات هي:
- زهد العامّة: وهو عبارة عن الإعراض عن الدنيا بهدف الحصول على نعيم الآخرة.
- زهد الخاصّة: وهو عبارة عن الإعراض عن المشتهيات الحيوانية واللذائذ الشهوانية، بهدف الوصول إلى المقامات العقلانية والمدارج الإنسانية.
- زهد أخصّ الخواص: وهو عبارة عن الإعراض عن اللذات الروحانية وترك المشتهيات العقلانية بهدف الوصول إلى مشاهدة الجمال الإلهيّ الجميل، والوصول إلى حقائق المعارف الربانية.
8- للزهد آثار عديدة أهمها: تحصيل حلاوة الإيمان، والحكمة، وسلامة النفس، والسعادة الحقيقية.
9- تحصيل الزهد يكون بتطهير القلب, وبالإعراض العقلي والقلبي عن الدنيا والإقبال نحو الله والحياة الآخرة.
369
314
الدرس السابع والعشرون: الزهد
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ اقْضِ لِي فِي الأَرْبِعَاءِ أَرْبَعاً اجْعَلْ قُوَّتِي فِي طَاعَتِكَ وَنَشَاطِي فِي عِبَادَتِكَ وَرَغْبَتِي فِي ثَوَابِكَ وزُهْدِي فِيمَا يُوْجِبُ لِي أَلِيمَ عِقَابِكَ إِنَّكَ لَطِيفٌ لِمَا تَشَاءُ.
الروايات الشريفة:
1- عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ: "قَالَ اللهُ تَعَالَى لَهُ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ: يَا أَحْمَدُ إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَكُونَ أَوْرَعَ النَّاسِ فَازْهَدْ فِي الدُّنْيَا وَارْغَبْ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ: إِلَهِي، وَكَيْفَ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا؟ (وَ أَرْغَبُ فِي الْآخِرَةِ) فَقَالَ: خُذْ مِنَ الدُّنْيَا خِفّاً مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ وَلَا تَدَّخِرْ شَيْئاً لِغَدٍ وَدُمْ عَلَى ذِكْرِي... قَالَ يَا رَبِّ فَمَنْ هَؤُلَاءِ الزَّاهِدُونَ الَّذِينَ وَصَفْتَهُمْ؟ قَالَ: الزَّاهِدُ (هُوَ) الَّذِي لَيْسَ لَهُ بَيْتٌ يَخْرَبُ فَيَغْتَمَّ لِخَرَابِهِ، وَلَا (لَهُ) وَلَدٌ يَمُوتُ فَيَحْزَنَ لِمَوْتِهِ، وَلَا لَهُ مَالٌ يَذْهَبُ فَيَحْزَنَ لِذَهَابِهِ، وَلَا يَعْرِفُهُ إِنْسَانٌ لِيَشْغَلَهُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا لَهُ فَضْلُ طَعَامٍ يُسْأَلُ عَنْهُ، وَلَا لَهُ ثَوْبٌ لَيِّنٌ، يَا أَحْمَدُ وُجُوهُ الزَّاهِدِينَ مُصْفَرَّةٌ مِنْ تَعَبِ اللَّيْلِ وَصَوْمِ النَّهَارِ وَأَلْسِنَتُهُمْ كِلَالٌ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ اللهِ قُلُوبُهُمْ فِي صُدُورِهُمْ مَطْعُونَةٌ (مِنْ كَثْرَةِ مَا يُخَالِفُونَ أَهْوَاءَهُمْ قَدْ ضَمَّرُوا أَنْفُسَهُمْ) مِنْ كَثْرَةِ صَمْتِهِمْ قَدْ أَعْطَوُا الْمَجْهُودَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لَا مِنْ خَوْفِ نَارٍ وَلَا مِنْ شَوْقِ جَنَّةٍ وَلَكِنْ يَنْظُرُونَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَهْلٌ لِلْعِبَادَةِ"1.
2- عن أمير المؤنين عليه السلام: "الزهد شيمة المتقين وسجية الأوابين"2.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الزهد سجية المخلصين"3.
1 مستدرك الوسائل، ج12، ص 48.
2 تصنيف غرر الحكم، ص 275.
3 (م.ن)، ص 275.
370
315
الدرس السابع والعشرون: الزهد
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "كيف يزهد في الدنيا من لا يعرف قدر الآخرة"1.
5- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "قيل له عليه السلام: ما الزهد؟ قال الرغبة في التقوى والزهادة في الدنيا"2.
6- عن عليّ بن الحسين عليه السلام: "كُونُوا مِنَ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا الرَّاغِبِينَ فِي الْآخِرَةِ أَلَا إِنَّ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا اتَّخَذُوا الْأَرْضَ بِسَاطاً وَ التُّرَابَ فِرَاشاً وَ الْمَاءَ طِيباً وَقُرِّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْرِيضا"3.
7- قَالَ رَجُلٌ: "يَا رَسُولَ اللهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُحِبُّنِي اللهُ وَيُحِبُّنِي النَّاسُ، فَقَالَ: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ"4.
8- قالَ صلى الله عليه وآله وسلم: "صَلَاحُ الْأُمَّةِ الْيَقِينُ وَالزُّهْدُ وَفَسَادُهَا بِالْأَمَلِ وَالْبُخْلِ"5.
9- عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْكَرْخِي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "سَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا يَجْمَعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمُؤْمِنٍ الْوَرَعَ وَالزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا رَجَوْتُ لَهُ الْجَنَّةَ"6.
10- عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "أَصْلُ الزُّهْدِ حُسْنُ الرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَ اللهِ"7.
11- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "يسير المعرفة يوجب الزهد في الدنيا"8.
12- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أول الزهد التزهّد"9.
1 تصنيف غرر الحكم، ص 146.
2 تحف العقول، ص 225.
3 الكافي، ج2، ص 131.
4 مستدرك الوسائل، ج12، ص 51.
5 (م.ن)، ج7، ص 27.
6 وسائل الشّيعة، ج15، ص 246.
7 مستدرك الوسائل، ج12، ص 48.
8 تصنيف غرر الحكم، ص 63.
9 (م.ن)، ص 275.
371
316
الدرس الثامن والعشرون: الحلم
الدرس الثامن والعشرون: الحلم
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن معنى وحقيقة الحلم.
2- يشرح دور الحلم في الارتباط بالله تعالى وكسب محبّته.
3- يتعرّف إلى منشأ الحلم وكيفيّة تحصيل هذه الفضيلة.
373
317
الدرس الثامن والعشرون: الحلم
تمهيد
إنّ الحلم من الصّفات الأخلاقيّة العظيمة التي تدلّ على بلوغ صاحبها أعلى مراتب الفضائل. فقد يجمع الإنسان الكثير من الملكات النّفسانيّة الحميدة في نفسه، لكنّه إذا ضمّ إليها الحلم يكون قد وصل إلى قمّة المراتب المعنويّة في فضائل الصّفات. يدلّ على هذا المعنى، بالإضافة إلى معرفتنا بحقيقة الحلم، قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "أعطينا أهل البيت سبعة لم يعطهنّ أحد قبلنا ولا يُعطاها أحد بعدنا الصّباحة والفصاحة وَالسَّمَاحَةَ وَالشَّجَاعَةَ والحلم والعلم..."1. ثمّ ذكر الحلم. فلا يجمع مثل هذه الصّفات ولا تجمع فيه إلّا من بلغ من الكمالات أعلاها. وعليه، يجب أن نجتهد لبلوغ الحلم والاتّصاف به وأن نجعله غاية لسيرنا المعنويّ.
فما هي حقيقة الحلم؟ وكيف نتّصف به؟
ما هو الحلم
يذكر الإمام الخمينيّ قدس سره في كتاب شرح جنود العقل والجهل أنّ الحلم من صفات الله الحسنى، كما أنّه من صفات أكمل خلق الله. ويذكر أيضًا أنّ الحلم ملازم للرّحمة، التي وسعت كلّ شيء. وبيّن قدّس سرّه أنّ الحلم هو المقابل الحقيقيّ للغضب. وإن ذُكر أيضًا بأنّه مقابل للسّفه، وفي نفس المصدر أوضح الإمام قدس سره أنّ الحلم من شعب اعتدال القوّة الغضبيّة. يقول الإمام الخميني قدس سره: "الحلم" من شُعَبِ اعتدال القوة الغضبية، وهو ملكةٌ تؤدي إلى حصول الطمأنينة في النفس، فلا تهيج فيها القوة الغضبية بسرعة أو في غير الموارد المناسبة، ولا تفقد زمام
1 مستدرك الوسائل، ج14، ص 157.
375
318
الدرس الثامن والعشرون: الحلم
أمرها إذا واجهت ما لا ترغب فيه أو ما تكرهه أو ما لا يلائمها.
ويقابله "السفه" بفتح الفاء، من سفه على وزن علم يعلم، يُقال: سفه الرجل، أي عدم حلمه. وسفه الجهل حلمهُ، أي أطاشهُ وأخفه. والطيش والخفة، تقابل الوقار والسكينة والتحمل. فالسفه ملكةٌ تسلبُ النفس قدرة التحمل على مواجهة ما لا يلائمها، فتفقد زمام أمرها عن جهل ودون حدود، ويتأجج غضبها دون أن تستيطع السيطرة عليها. فهذه الملكة من فروع خروج القوة الغضبية إلى الإفراط.
ولعل السفاهة هي في الأصل خفة العقل والجهالة، فالعاجز عن السيطرة على القوة الغضبية هو جاهل خفيف العقل، من هنا أطلق على ضد الحلم السفاهة، دون أن يعني ذلك أن حقيقة معنى السفه هي ضد الحلم"1.
الحلم في النصوص الشريفة
وعندما نتأمّل في الأحاديث الواردة بشأن الحلم نجد أنّه جُعل مقابلًا للانتقام وظاهرًا في العفو عند المقدرة.
وفي وصيّة الإمام الصّادق عليه السلام لعنوان البصري تتّضح ماهيّة الحلم من خلال ما يفرضه من سلوك ومواقف. فعن أبي عبد الله فِي حَدِيثٍ قَالَ: "قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ أَوْصِنِي، قَالَ: أُوصِيكَ بِتِسْعَةِ أَشْيَاءَ فَإِنَّهَا وَصِيَّتِي لِمُرِيدِي الطَّرِيقِ إِلَى اللهِ وَاللهَ أَسْأَلُ أَنْ يُوفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ، ثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِي رِيَاضَةِ النَّفْسِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِي الْحِلْمِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِي الْعِلْمِ، فَاحْفَظْهَا وَإِيَّاكَ وَالتَّهَاوُنَ بِهَا، قَالَ عُنْوَانُ: فَفَرَّغْتُ قَلْبِي لَهُ... إِلَى أَنْ قَالَ عليه السلام: وَأَمَّا اللَّوَاتِي فِي الْحِلْمِ فَمَنْ قَالَ لَكَ إِنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْراً (فَقُلْ لَهُ) إِنْ قُلْتَ عَشْراً لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً، وَمَنْ شَتَمَكَ فَقُلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَقُولُ فَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي وَإِنْ كُنْتَ كَاذِباً فِيمَا تَقُولُ فَاللهَ أَسْأَلُ أَنْ يَغْفِرَ لَكَ، وَمَنْ وَعَدَكَ بِالْخَنَا فَعِدْهُ بِالنَّصِيحَةِ وَالرِّعَاءِ"2.
1 جنود العقل والجهل، ص340.
2 مستدرك الوسائل، ج11، ص 290.
376
319
الدرس الثامن والعشرون: الحلم
إنّ النّفس إذا شعرت بالاقتدار والتمكّن من جهة، وواجه صاحبها موقف اعتداء أو إهانة، فإنّها تميل بحكم طبيعتها إلى الردّ والانتقام. وهنا يأتي دور الحلم في امتلاك النّفس وضبطها لكي لا يكون منشأ التحرّك والتّعامل مع هكذا مواقف منطلقًا من النّفس والهوى. ممّا يتيح الفرصة للعقل لكي يقيّم الوضع ويحدّد الردّ المناسب، الذي يكون في معظم الحالات صفحًا وعفوًا. باعتبار أنّ إطفاء النّيران في المجتمع وفي العلاقات أصلح للنّاس وأفضل. ولهذا قال الإمام الصّادق عليه السلام: "وَحَقِيقَةُ الْحِلْمِ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ وَخَالَفَكَ وَأَنْتَ الْقَادِرُ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُ"1.
وفي الحديث عن أبي الحسن عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عليه السلام عَنِ الْحِلْمِ قَالَ: "هُوَ أَنْ تَمْلِكَ نَفْسَكَ وَتَكْظِمَ غَيْظَكَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا مَعَ الْقُدْرَةِ"2.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "ليس الحليم من عجز فهجم وإذا قدر انتقم إنّما الحليم من إذا قدر عفا وكان الحلم غالبًا على كلّ أمره"3.
فيُلاحظ أنّ الحلم دليل على لجم الطّبيعة المتأجّجة، ومثل هذا لهو أمرٌ عظيم لا يقدر عليه إلّا المؤيَّد بأنوار المعرفة والتّوحيد كما قال الإمام الصّادق عليه السلام في مصباح الشّريعة: "الْحِلْمُ سِرَاجُ اللهِ يَسْتَضِيءُ بِهِ صَاحِبُهُ إِلَى جِوَارِهِ وَلَا يَكُونُ حَلِيمًا إِلَّا الْمُؤَيَّدُ بِأَنْوَارِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ"4.
فالاتّصال بالرّوح إذا كان قويًّا ومستحكمًا قدر صاحبه على لجم طبيعته وإنّ العقل إذا أراد أن يحدّد الموقف المناسب للردّ على الإساءة احتاج إلى ثبات في النّفس وطمأنينة كما يحتاج الربّان إلى استقرار السّفينة ليقودها إلى شاطئ الأمان. وهذا ما يحقّقه الحلم. ولهذا، نُقل عن أمير المؤمنين عليه السلام "لا خير في عقل لا يقارنه حلم"5.
1 مستدرك الوسائل، ج11، ص 289.
2 (م.ن)، ج11، ص 291.
3 تصنيف غرر الحكم، ص 286.
4 مستدرك الوسائل، ج11، ص 289.
5 تصنيف غرر الحكم، ص.286.
377
320
الدرس الثامن والعشرون: الحلم
أهميّة الحلم
1- الحلم من صفات الله تعالى
قد علمنا أهميّة الحلم من خلال النّظر في تعريفه، ويقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ فضائل الحلم واضحةٌ ثابتةٌ عقليًّا، فلا تخفى آثاره الجليلة على ذي عقل سليم. ويكفي في فضل الحلم أنّ الله تعالى وصف نفسه به حيث يقول في قرآنه الكريم، في سورة بني إسرائيل الآية 44: ﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾1، ويقول في سورة الأحزاب الآية 51: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾2.
وهذا الوصف يدلُّ على أنّ الحلم من أوصاف الكمال ومن الكمالات المطلقة التي يتّصف بها الموجود بما هو موجود. فقد تقرّر في الفلسفة أنّ أوصاف الحقّ تعالى هي الكمالات المطلقة، ومن صفات الموجود بما هو موجود، فاتّصاف الوجود بها لا يستلزم تخصّص الاستعداد بالطّبيعة أو بالرّياضة. وجميع الأوصاف الكماليّة هي من جنود الرّحمان، لأنّ جنود الحقّ والرّحمان إنّما هي ظلّه، وظلّ الشّيء لا يباينه على نحو العزلة عنه، بل على نحو التّباين الوصفيّ الذي يعني التّمايز في مراتب الكمال والنّقص، وهذا المعنى العرفانيّ الدقيق والحقيقة البرهانيّة الثّابتة (أي أنّ الكمالات ظلّ الله) ورد التّعبير عنها في القرآن الكريم بالآية والعلامة"3.
ويستوقفنا في هذا الكلام تعبير الإمام قدس سره عن الحلم بأنّه من الكمالات المطلقة، فإذا وُجد في أيّ موجود دلّ على اتّصاله ببحر الكمال اللامتناهي. ولهذا كان دليلًا على كلّ خير. ويقول الإمام قدس سره: "كما وصف الله تعالى نبيّه إبراهيم ـ وهو خليل الرّحمان ومن أعاظم الكاملين في دار الوجود ـ بالحلم، فقال في سورة هود، الآية 75: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾4، كما وصف إسماعيل ذبيح الله بذلك مبشراً به، فقال في الآية 101 من سورة الصافات: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾5، فاختار من جميع الصفات الكمالية صفة الحلم في بشارته بهذا الغلام الأمر الذي يشير إلى شدة اهتمام إبراهيم الخليل بهذه الصفة الكمالية
1 سورة الإسراء، الآية 44.
2 سورة الأحزاب، الآية 51.
3 جنود العقل والجهل، ص 342.
4 سورة هود، الآية 75.
5 سورة الصافات، الآية 101.
378
321
الدرس الثامن والعشرون: الحلم
وحبه لها، أو إلى اهتمام الحق تعالى بها، أو كلاهما. وعلى كل حالٍ فهذه الآية تثبت أهمية هذه الملكة الشريفة"1.
فاتّضح أنّ الحلم:
1- صفة للكمال المطلق.
2- صفة للكامل المطلق.
3- سبيل الوصول إلى الله وكسب محبّته
وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الحلم سبيل الوصول إلى الله تعالى. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "كما اشتملت الأحاديث الشّريفة على مدحٍ عظيم لهذا الخُلق الكريم، فقد رُوي في الكافي الشّريف مسندًا إلى الإمام باقر العلوم سلام الله عليه أنّه قال: "إن الله عزَّ وجلّ يحبُّ الحييَّ الحليم"2.
ويقولُ في رواية أخرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ الله يحبُّ الحييَّ الحليم العفيف المُتَعفِّف"3.
وهذا أعظم أشكال المدح عند أهل المحبّة والمعرفة، لأنّهم لا يقارنون ولا يوزنون بمحبّة الله شيئًا، وقد نُقل عن الشيخ البهائي رحمه الله، قوله: "إذا أحبّ عبدًا لم يحرمه لقاءَهُ، ورَزَقهُ وِصالَهُ. لذا فإنّ خصوصيّة هذا الخُلق الكريم في الحصول على حبّ الله تكفي أهل المعرفة والقلوب الحيّة"4.
3- مجلبة لرضا الربّ
كما أنّ الحلم أعظم وسيلة لجلب رضا الرّبّ المتعال، فمن شعر في نفسه إنّه يكاد يؤخذ بذنبه، فليسرع إلى الصّفح والعفو والحلم. فعن جابر أنّه: "قال سمع أمير الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام رَجُلًا يَشْتِمُ قَنْبَراً وَقَدْ رَامَ قَنْبَرُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَنَادَاهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: مَهْلًا يَا قَنْبَرُ دَعْ شَاتِمَكَ مُهَانًا تُرْضِ الرَّحْمَنَ وَتُسْخِطُ الشَّيْطَانَ وَتُعَاقِبْ عَدُوَّكَ فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَرْضَى الْمُؤْمِنُ رَبَّهُ بِمِثْلِ الْحِلْمِ"5.
1 (م.ن)، ص 342-343.
2 الكافي، ج2، ص 112.
3 (م.ن).
4 جنود العقل والجهل، ص 343.
5 مستدرك الوسائل، ج11، ص 291.
379
322
الدرس الثامن والعشرون: الحلم
4- الحلم جُنّة
وعن الإمام علي عليه السلام قال: "الْحِلْمُ غِطَاءٌ سَاتِرٌ وَالْعَقْلُ حُسَامٌ بَاتِرٌ فَاسْتُرْ خَلَلَ خُلُقِكَ بِحِلْمِكَ وَقَاتِلْ هَوَاكَ بِعَقْلِك"1.
حيث يصل الأمر بالحلم إلى قدرته على إخفاء عيوب وآثار جميع الأخلاق الرّذيلة. وذلك يمنع ظهورها وتجلّيها في ساحة العمل.
في كيفيّة تحصيل الحلم
لقد ذكرنا مرارًا أنّ الأصل في التخلّق أن يعمد السّالك المجاهد إلى مناشئ الأخلاق ومنابعها فيرتوي منها أو يوصل نفسه بها. وبالإضافة إلى ذلك عليه أن يزيل الموانع التي تقع على الطّريق الموصل.
فأوّل ما يحتاجه السّالك في هذا المجال:
1- الاجتهاد والمجاهدة
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "نرجعُ الآن إلى بحثنا الأصليّ وهو معرفة سبيل التّجلّي بملكةِ الحلم. وهنا ينبغي التنبّه إلى أنّ الارتباط شديد بين مُلكِ البدن والرّوح استنادًا إلى ما ثبت في الفلسفة العالية من أنّ للنّفس نشأة غيبيّة ونشأة عالم الشّهادة، فهي عالية في عين الدنوّ ودانية في عين العلوّ، وإنّ الوحدة حاكمة على جميع قواها لذلك فإنّ جميع الآثار الظاهريّة تنتقل من مُلك البدن إلى الرّوح كما أنّ الآثار المعنويّة تسري من الرّوح إلى مُلك البدن. لذلك إذا اجتهد الإنسان في تحكيم السّكينة والطّمأنينة على جميع حركاته وسكناته، والتشبّه في أعماله الظاهريّة بذوي الحلم، وكذلك إذا اجتهد في كظم غيظه وتكلّف الحلم، فإنّ ذلك سينتهي به حتمًا إلى التحلّي بالحلم، أي يصبح هذا التكلُّف للحلم بالقوّة أمرًا عاديًّا طوعيًّا فيه.
وبعبارةٍ أخرى، إذا أجبر الإنسانُ نفسه على هذا الخُلُق وراقبها بصورة صحيحة وكاملة مدّةً حصل بلا ريب على النّتيجة المطلوبة. وقد ورد ذكر هذا العلاج في الأحاديث الشّريفة لأهل بيت الوحي رحمه الله، ففي الوسائل عن نهج البلاغة، رُوي عن مولى المتّقين عليه السلام أنّه
1 بحار الأنوار، ج1، ص 95.
380
323
الدرس الثامن والعشرون: الحلم
قال: "إن لم تكن حليماً فتحلَّمْ، فإنه قلَّ من تشبّه بقوم إلّا وأوشك أن يكون منهم"1، ورُوي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنْ لم تكن حليماً فتحلَّمْ"2"3.
2. استئصال حبّ الدّنيا
"إذًا، فالعلاج الأساس لهذه الرّذيلة (الغضب) يمكن في إزالة علّته، أي استئصال حبِّ الدنيا من القلب، فإذا طهَّر الإنسان نفسه منه تساهل فيما يرتبط بالشؤون الدنيوية، فلا يفقد طمأنينة النفس بسبب فقدان الجاه والمال والمنصب والرّئاسة، وحينئذٍ تظهر فيه حقيقة الحلم وتترسّخ فيه طمأنينة النّفس وثباتها وسكينتها"4.
ويبقى أن نشير إلى الارتباط الوثيق بين الحكم والرّئاسة. فعن أبي جعفر قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لَا تَصْلُحُ الْإِمَامَةُ إِلَّا لِرَجُلٍ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: وَرَعٌ يَحْجُزُهُ عَنْ مَعَاصِي اللهِ، وَحِلْمٌ يَمْلِكُ بِهِ غَضَبَهُ، وَحُسْنُ الْوِلَايَةِ عَلَى مَنْ يَلِي حَتَّى يَكُونَ لَهُمْ كَالْوَالِدِ الرَّحِيم"5.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "وَالْعَدْلُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ غَامِضِ الْفَهْمِ وَغَمْرِ الْعِلْمِ وَزَهْرَةِ الْحُكْمِ وَرَوْضَةِ الْحِلْمِ فَمَنْ فَهِمَ فَسَّرَ جَمِيعَ الْعِلْمِ، وَمَنْ عَلِمَ عَرَفَ شَرَائِعَ الْحُكْمِ، وَمَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَمْرِهِ وَعَاشَ فِي النَّاسِ حَمِيداً"6.
3- الإيمان
فقد ذُكر الحلم في العديد من الأحاديث أنّه علامة الإيمان أو هو الإيمان كما في الدعاء: "وَأَطْوَعُ خَلْقِكَ لَكَ أَقْرَبُهُمْ مِنْكَ، وَأَشَدُّ خَلْقِكَ لَكَ إِعْظَاماً أَدْنَاهُمْ إِلَيْكَ لَا عِلْمَ إِلَّا خَشْيَتُكَ وَلَا حِلْمَ إِلَّا الْإِيمَانُ بِكَ"7. أو في غرر الحكم: "للمؤمن عقل وفي، وحلم مرضيّ، ورغبة في الحسنات و فرار من السيئات"8.
1 وسائل الشّيعة، ج15، ص 268.
2 الكافي، ج2، ص 112.
3 جنود العقل والجهل، ص 341.
4 (م.ن)، ص 338.
5 الكافي، ج1، ص 407.
6 (م.ن)، ج2، ص 50.
7 بحار الأنوار، ج11، ص 289.
8 تصنيف غرر الحكم، ص 91.
381
324
الدرس الثامن والعشرون: الحلم
وهذا تأكيد آخر على أنّ الإيمان بالله تعالى منبع كلّ الكمالات. ولا يحتاج الأمر هنا إلى مزيد شرح، فإنّ من ارتباط قلبه بحضور الله تعالى وشهيد مدى عفوه وصفحه لا يمكن إلّا أن ينصبغ بهذه الصّبغة العظيمة.﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾1.
وعن الحسين بن عليّ عليهما السلام قال: "كُنَّا جُلُوساً فِي الْمَسْجِدِ إِذْ صَعِدَ الْمُؤَذِّنُ الْمَنَارَةَ فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ فَبَكَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام وَبَكَيْنَا بِبُكَائِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ؟ قُلْنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَوَصِيُّهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا يَقُولُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً فَلِقَوْلِهِ اللهُ أَكْبَرُ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ مِنْهَا... اللهُ أَكْبَرُ عَلَى مَعْنَى حِلْمِهِ وَكَرَمِهِ يَحْلُمُ كَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ وَيَصْفَحُ كَأَنَّهُ لَا يَرَى وَيَسْتُرُ كَأَنَّهُ لَا يُعْصَى وَلَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ كَرَماً وَصَفْحاً وَحِلْماً"2.
1 سورة البقرة، الآية 138.
2 مستدرك الوسائل، ج4، ص 65.
382
325
الدرس الثامن والعشرون: الحلم
المفاهيم الرئيسة
1- الحلم من صفات الله الحسنى وصفات أكمل خلق الله، ملازم للرّحمة والمقابل الحقيقيّ للغضب، وهو جُعل مقابلًا للانتقام وظاهرًا في العفو عند المقدرة.
2- إنّ النّفس إذا شعرت بالاقتدار والتمكّن من جهة، وواجهت اعتداء أو إهانة، فإنّها تميل إلى الردّ والانتقام، وهنا يأتي دور الحلم في امتلاك النّفس وضبطها لكي لا يكون منشأ التحرّك والتّعامل مع هكذا مواقف منطلقًا من النّفس والهوى.
3- الحلم دليل على لجم الطّبيعة المتأجّجة، ومثل هذا لهو أمرٌ عظيم لا يقدر عليه إلّا المؤيَّد بأنوار المعرفة والتّوحيد.
4- الحلم من أوصاف الكمال ومن الكمالات المطلقة التي يتّصف بها الموجود بما هو موجود وهو من الكمالات المطلقة، فإذا وُجد في أيّ موجود دلّ على اتّصاله ببحر الكمال اللامتناهي، ولهذا كان دليلًا على كلّ خير. فهو صفة للكمال المطلق وصفة للكامل المطلق.
5- كما أنّ الحلم عزّ وهو أعظم وسيلة لجلب رضا الرّبّ المتعال وكسب محبّته.
6- الجلم جُنّة، فله القدرة على إخفاء عيوب وآثار جميع الأخلاق الرّذيلة، وذلك يمنع من تجلّيها في ساحة العمل.
7- الحلم أمرٌ فطري تقتضيه الفطرة السّليمة، وأنّه من جنود العقل والرّحمان. وهو يأتي من قوة العقل أيضاً، ومن اعتدال القوّة الغضبيّة.
8- للتحلّي بهذا الخلق العظيم لا بدّ من:
- المجاهدة، فإذا أجبر الإنسانُ نفسه على هذا الخُلُق وراقبها بصورة صحيحة وكاملة مدّةً حصل بلا ريب على النّتيجة المطلوبة ويصبح شيئاً فشيئاً من أهل الحلم.
- استئصال حبّ الدنيا من القلب، فإذا طهَّر الإنسان نفسه منه تساهل فيما يرتبط بالشؤون الدنيوية، فلا يفقد طمأنينة النفس بسبب فقدان الجاه والمال والمنصب والرّئاسة، وحينئذٍ تظهر فيه حقيقة الحلم.
9- الحلم علامة الإيمان بل هو الإيمان كما ورد في بعض الأحاديث.
383
326
الدرس الثامن والعشرون: الحلم
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ لَيْسَ يَرُدُّ غَضَبَكَ إلاَّ حِلْمُكَ، وَلاَ يَرُدُّ سَخَطَكَ إلاَّ عَفْوُكَ، وَلا يُجِيرُ مِنْ عِقَابِكَ إلاَّ رَحْمَتُكَ، وَلاَ يُنْجِينِي مِنْكَ إلاَّ التَّضَرُّعُ إِلَيْكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَهَبْ لَنَا يَا إِلَهِي مِنْ لَدُنْكَ فَرَجاً بِالْقُدْرَةِ الَّتِي بِهَا تُحْيِي أَمْوَاتَ الْعِبَادِ، وَبِهَا تَنْشُرُ مَيْتَ الْبِلاَدِ وَلاَ تُهْلِكْنِي يَا إِلَهِي غَمّاً حَتَّى تَسْتَجِيبَ لِي1.
الروايات الشريفة:
1- قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "مَا جُمِعَ شَيْءٌ إِلَى شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ حِلْمٍ إِلَى عِلْمٍ"2.
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا حلم كالصّمت"3.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من عصى غضبه أطاع الحلم"4.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تحلم عن نفسك إذا هي أغوتك"5.
5- عن أَبَي عَبْدِ اللهِ عليه السلام يَقُولُ: "أَطْعِمُوا الْبَرْنِيَّ نِسَاءَكُمْ فِي نِفَاسِهِنَّ تَحْلُمْ أَوْلَادُكُم"6.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "زَكَاةُ الْحِلْمِ الِاحْتِمَالُ"7.
7- وَقَالَ عليه السلام: "الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ تَوْأَمَانِ تُنْتِجُهَما عُلُوُّ الْهِمَّةِ"8.
8- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ثمرة الحلم الرّفق"9.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام يوم الأضحى ويوم الجمعة.
2 وسائل الشّيعة، ج15، ص 268.
3 تصنيف غرر الحكم، ص 216.
4 (م.ن)، ص 286.
5 (م.ن)، ص 243.
6 الكافي، ج6، ص 22.
7 تصنيف غرر الحكم، ص 420.
8 بحار الأنوار، ج68، ص 428.
9 تصنيف غرر الحكم، ص 287.
384
327
الدرس الثامن والعشرون: الحلم
9- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الحلم نظام أمر المؤمن"1.
10- وقَالَ عليه السلام: "تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَتَعَلَّمُوا لِلْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالْحِلْمَ وَلَا تَكُونُوا جَبَابِرَةَ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَقُومُ عِلْمُكُمْ بِجَهْلِكُمْ"2.
11- وَ قَالَ عليه السلام: "الْحِلْمُ يُطْفِئُ نَارَ الْغَضَبِ وَ الْحِدَّةُ تُؤَجِّجُ إِحْرَاقَهُ"3.
12- وَ قَالَ عليه السلام: "الْحِلْمُ عِنْدَ شِدَّةِ الْغَضَبِ يُؤَمِّنُ غَضَبَ الْجَبَّارِ"4.
13- عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثٍ: "وَمَرَارَةُ الْحِلْمِ أَعْذَبُ مِنْ مَرَارَةِ الِانْتِقَامِ"5.
14- عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام: "أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ اعْلَمُوا أَنَّ الْحِلْمَ زِينَةٌ وَالْوَقَارَ مُرُوَّةٌ وَ الصِّلَةَ نِعْمَةٌ"6.
1 تصنيف غرر الحكم، ص 285.
2 بحار الأنوار، ج2، ص 37.
3 مستدرك الوسائل، ج12، ص 12.
4 (م.ن)، ج12، ص 11.
5 (م.ن)، ج11، ص 290.
6 (م.ن)، ص 288.
385
328
الدرس التاسع والعشرون: الأمانة
الدرس التاسع والعشرون: الأمانة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشرح معنى أن يكون الإنسان أمينًا.
2- يبيّن أهميّة الأمانة ودورها في تكامل الإنسان وحفظ نظام المجتمع.
3- يتعرّف إلى العلاقة بين حفظ الأمانة والإيمان وأهم موانعها.
387
329
الدرس التاسع والعشرون: الأمانة
تمهيد
تُعدّ الأمانة من بديهيّات الإدراكات الأخلاقيّة عند البشريّة وهي ضدّ الخيانة كما ورد في حديث جنود العقل والجهل المروي عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث الإمام الأمانة من جنود العقل بقوله عليه السلام: "...والأمانة وضدها الخيانة.."1 ، ولهذا يُجمع النّاس على قبح الخيانة ويطردون من اتّصف بها لما فيها من فساد لنظام معاشهم.
وعليه، فلا يحتاج الإنسان إلى تعاليم الأنبياء وإرشاداتهم ليكون أمينًا. فهي حجّة الله تعالى على الإنسانيّة ووسيلته لأخذ الميثاق. أمّا وجه الحاجة في الأمانة إلى هداية السّماء فهي من ناحية التعرّف على الأمانات التي جهلها النّاس أو غفلوا عنها فضاعت وسط أعرافهم وعاداتهم.
لهذا نجد الإمام يسلّط الضّوء على مجموعة من الأمانات الإلهيّة ويشرح كيفيّة اعتبارها كذلك، حتّى إذا أدرك أحدنا معنى الأمانة فيها شعر بالمسؤوليّة الكبرى تجاهها.
فالأمين ـ بالمعنى التامّ ـ هو الذي يحافظ على هذه الأمانات، ويردّها إلى أهلها. ولهذا، وُصف العارف بهذه السجيّة العظيمة على نحو الحصر، كما جاء في كلام الإمام الصّادق عليه السلام: "العارف شخصه مع الخلق وقلبه مع الله لو سها قلبه عن الله طرفة عين لمات شوقًا إليه، والعارف أمين ودائع الله وكنز أسراره ومعدن نوره ودليل رحمته على خلقه ومطيّة علومه وميزان فضله وعدله، قد غني عن الخلق والمراد والدّنيا ولا مؤنس له سوى الله ولا نطق ولا إشارة ولا نفس إلا بالله لله من الله مع الله"2.
1 الكافي، ج1، ص22.
2 مصباح الشريعة، ص 191.
389
330
الدرس التاسع والعشرون: الأمانة
أنواع الأمانات
إنّ وضوح معنى الأمانة يغنينا عن البحث عن تعريفها العمليّ، كما أنّ حسنها الوجدانيّ لا يضطرّنا إلى المجيء بالكثير من الشّواهد لتأكيد فضيلتها. فما يهمّنا في هذا البحث هو التعرّف على الأمانات المجهولة لنتعرّف على الأمين الحقيقيّ عند الله تعالى.
1- المادية وغير المادية
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "من المعلوم أنّ خيانة المؤمنين تعمّ الخيانة المالية والخيانات الأخرى التي هي أكبر من الخيانة الماليّة. فيجب على الإنسان في هذه الدّنيا أن يراقب النّفس الأمّارة كثيرًا، إذ ربّما تقوم بعمليّة التّعتيم للحقائق على الإنسان وتذليل الصّعوبات وتسهيلها، مع أنّها توجب الشّقاء الدّائم والخذلان الأبديّ. هذه هي حالة الخيانة لعباد الله، ويتبيّن من هنا أيضًا وضع الخائن لأمانة الحقّ المتعالي"1.
2- الولاية والصّلاة
ففي الحديث المرويّ عن الإمام عليّ عليه السلام: "كان إذا حضر وقت الصّلاة يتململ ويتزلزل ويتلوّن، فيُقال له: ما لك يا أمير المؤمنين؟ فيقول عليه السلام: جاء وقت الصّلاة وقت أمانة عرضها الله على السّموات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها"2... ويفسّر الإمام الخمينيّ قدس سره هذا الكلام النّورانيّ قائلًا: "ولعلّ الذّكر في الآية الشّريفة ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ﴾ بصيغة الجمع لما ذكرنا من النكتة في ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ لأنّ الأمانة بحسب الباطن هي حقيقة الولاية وبحسب الظّاهر هي الشّريعة أو دين الإسلام أو القرآن أو الصلاة"3.
3- التكاليف الإلهية
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "توجد في المقام نكتة لا بد من الإشارة إليها، وهي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أوصى بالورع فرّع عليه قائلًا: "وَلا تَجْتَرِىء عَلَى خِيانَةٍ أبَدَاً"4 مع
1 الأربعون حديثًا، ص 510.
2 عوالي اللآلي، ج1، ص 324.
3 معراج السالكين، ص 320.
4 الكافي، ج8، ص 79.
390
331
الدرس التاسع والعشرون: الأمانة
أنّ الورع يكون عن كلّ المحرمات، أو يكون أعمّ من الخيانة، وعليه لا بدّ من تَفسير الخيانة بمعنًى أعمّ من المفهوم العرفيّ لها، حتى تتطابق مع الورع، بأن نقول إنّ مطلق المعصية أو اقتراف مطلق ما يمنع من السّير إلى الله، خيانة، لأنّ التكاليف الإلهيّة أمانات للحقّ سبحانه كما ورد في الآية الكريمة ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾1 الخ. حيث فسّر بعض المفسّرين الأمانة بالتّكاليف الإلهيّة.
4- الأعضاء الظاهرية والباطنية
بل إنّ جميع الأعضاء، والجوارح والقوى، أمانات للحقّ المتعالي، واستعمالها على خلاف رضا الحقّ سبحانه، خيانة، كما أنّ توجيه القلب إلى غير الحق يُعدّ من الخيانة. (بيت شعر: هذه الروح التي أعارها لي الصديق الحميم سأرجعها إليه في اليوم الذي أرى وجهه). أو أنّ المقصود من الخيانة نفس المعنى المتعارف، ويكون وجه التّخصيص بذكرها لأجل شدّة الاهتمام بالخيانة، فكأنّ الورع كلّ الورع هو في الابتعاد عن خيانة الأمانة"2.
وفي هذا الكلام تأكيدٌ واضحٌ على أهميّة صيانة القوى الظاهرية والباطنية للإنسان من الإنحراف عن جادة الصراط المستقيم. ويقول الإمام قدس سره: "ولا بدّ من معرفة أنّ الحقّ تبارك وتعالى، قد وهبنا كافّة القوى والأعضاء الظاهريّة والباطنيّة، وبسط لنا بساط الرّحمة والنّعمة في مملكتنا الظاهريّة والباطنيّة، ووضعها كلّها تحت قدرتنا لتسخيرها، وأئتمننا عليها بلطفه ورحمته، وهي ـ هذه العطايا ـ طاهرة ونظيفة من كلّ القذارات الصّوريّة والمعنويّة وكذلك ما أنزل علينا من عالم الغيب كان بعيدًا عن الشّوائب والعناصر الغريبة، فإذا أرجعنا هذه الأمانات لدى لقائنا بالذّات المقدّس، من دون أن تصير ممزوجة مع عالم المادّة، وقذارات المُلك والدّنيا، كُنَّا أُمناء على الأمانة التي أودعت عندنا، وإن لم نحافظ على طهارة هذه الأمانات، غدونا من الخائنين والخارجين عن الإسلام الحقيقيّ، وملّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"3.
1 سورة الأحزاب، الآية 72.
2 الأربعون حديثًا، ص 507.
3 (م.ن)، ص 511.
391
332
الدرس التاسع والعشرون: الأمانة
- ولاية أهل البيت ومودتهم
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "في الحديث المشهور: "إنّ قَلْبَ المُؤمن عَرْشُ الرحْمن"1، وفي الحديث القدسيّ المعروف "لا يَسعُنِي أَرْضِي وَلا سَمَائِي وَلكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْديَ المُؤْمِنِ"2. فإنّ قلب المؤمن عرش الحقّ المتعالي، وسرير سلطنته وسكنى ذاته المقدّس، وإنّه سبحانه صاحب هذا البيت، فالالتفات إلى غير الحقّ خيانة للحقّ، والحبّ لغير ذاته الأقدس ولغير أوليائه الذين يعتبر حبّهم حبّه سبحانه، خيانة لدى العرفاء. وإنّ ولاية أهل بيت العصمة والطّهارة، ومودّتهم، ومعرفة مرتبتهم المقدّسة، أمانة من الحقّ سبحانه. كما ورد في الأحاديث الشّريفة في تفسير الأمانة في الآية ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ بولاية أمير المؤمنين عليه السلام. كما أنّ غصب خلافته وولايته، خيانة لتلك الأمانة وأنّ رفض المتابعة للإمام علي عليه السلام مرتبة من مراتب الخيانة"3.
آثار الأمانة ونتائجها
ذُكر الكثير من النّتائج والآثار العظيمة للأمانة على صعيد الدّنيا والآخرة، ونكتفي ها هنا بذكر ثلاثة منها كما جاء في كلمات الإمام الخمينيّ قدس سره.
1- حفظ نظام المجتمع
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ومن يرجع إلى أخبار المعصومين عليهم السلام المأثورة في ردّ الأمانة والابتعاد عن الخيانة، لأدرك حجم اهتمام الشّارع المقدّس بهذا الموضوع. ويُضاف إلى ذلك هو أنّ قبحها الذّاتيّ لا يخفى على أحد. وأنّه يجب إخراج الإنسان الخائن من المجتمع البشريّ، وإلحاقه بأرذل الشّياطين. ومن المعلوم أنّ الإنسان الذي يشتهر بين النّاس بالخيانة، تضيق عليه الحياة وتصعب، حتى في هذا العالم أيضًا. إنّ البشر بصورة عامّة يعيشون مع بعضهم البعض في ظلّ التّعاون والتّعاضد حياةً سعيدة، ولا يمكن لأحد، الحياة بصورة منفردة، إلاّ إذا غادر المجتمع البشريّ والتحق بالحيوانات الوحشيّة. ثمّ إنّ
1 بحار الأنوار، ج55، ص 39.
2 عوالي اللآلي، ج4، ص 7.
3 الأربعون حديثًا، ص 511.
392
333
الدرس التاسع والعشرون: الأمانة
العجلة الكبيرة التي تدور لتحريك الحياة الاجتماعيّة، هي اعتماد الناس بعضهم على بعض، فإذا زال الاعتماد وتلاشت الثقة، لما تمكّن الإنسان أن يعيش هنيئًا رغيدًا. إنّ الرّكيزة الأساسيّة للاعتماد المتبادل بين الناس قائمة على الأمانة وترك الخيانة، فلا يحظى الخائن، بالاطمئنان لدى النّاس ويُعدّ مارقًا على المدينة وخارجاً عن العضويّة للمجتمع البشريّ وتكون عضويّته مرفوضة لدى أصحاب المدينة الفاضلة. ومن الواضح أنّ مثل هذا الإنسان يعيش حياة ضنك وفي صعوبة بالغة"1.
2- بلوغ أعلى مراتب الكمال
يقول الإمام الخمينيقدس سره: "ففي الحديث عن أبي كهمس قال: "قُلْتُ لأبِي عَبْدُاللهِ عليه السلام: عبَدْاللهُ بْنُ أبِي يَعْفورٍ يُقْرئُكَ السَّلاَمَ. قالَ: عَلَيْكَ وَعَلَيْهِ السَّلامُ، إذا أَتَيْتَ عَبْدَ اللهِ فَأَقْرِئُهُ السَّلامَ وَقُلْ لَهُ: إِنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ لَكَ، انْظُرْ مَا بَلَغَ بِهِ عَلِيٌّ عِنْدَ رَسولِ اللِه صلى الله عليه وآله وسلمفَالْزَمْهُ، فَإِنَّ عَلِياً عليه السلام إِنَّما بَلَغَ ما بلغ بِهِ عِنْدَ رَسولِ اللهِ بِصِدْق الحَديثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ"2. فيا عزيزي: تدبّر في هذا الحديث الشّريف، وانظر إلى أنّ مقام صدق الحديث وأداء الأمانة دفعا بعليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى بلوغ ذلك المقام الرفيع. ويُفهم من هذا الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحبّ هاتين الخصلتين أكثر من غيرهما، لأنّ هاتين الصّفتين من الصّفات الكماليّة لمولانا عليّ بن أبي طالب عليه السلام قد بلغتا به ذلك المقام الرّفيع، وإنّ الإمام الصادق عليه السلام قد أبدى اهتمامًا بهاتين الصّفتين أكثر من كلّ الأفعال والأوصاف، وذكّر عليه السلام ابن أبي يعفور الذي هو من المخلصين والمقرّبين له عليه السلام بهما خاصة"3.
3- الشّفاعة يوم الحشر
فإنّ أهمّ معاني الشّفاعة المصاحبة والملازمة. وإذا كان الشّفيع قويًّا ووجيهًا، فإنّ صحبته تكون أنفع ما يكون في المهمّات والشّدائد. وكفى بيوم القيامة صعوبةً وشدّةً، وكفى بالصّراط خطورةً وهولًا. وهنا نجد الأمانة في أفضل نجداتها.
1 الأربعون حديثًا، ص 508.
2 الكافي، ج2، ص 104.
3 الأربعون حديثًا، ص 508-509.
393
334
الدرس التاسع والعشرون: الأمانة
ففي الحديث الذي يرويه الإمام الخمينيّ قدس سره عن الإمام الباقر عليه السلام: "قالَ أبو ذَرٍّ رَضي اللهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: حافَّتا الصِّراط يَوْمَ القِيَامَةِ الرَّحِمُ والأمانَةُ، فَإِذَا مَرَّ الوَصولُ لِلرَّحِمِ المُؤَدِّي لِلأَمَانَةِ نَفَذَ إلَى الجَنَّةِ، وَإِذَا مَرَّ الخَائِنُ لِلأَمَانَةِ القَطُوعُ لِلرَّحِمِ لَمْ يَنْفَعْهُ مَعَهُمَا عَمَلٌ وَتَكْفَأُ بِهِ الصِّراطُ فِي النّار"1. فعُلم بأنّ صورتي الرّحم والأمانة في ذلك العالم تقفان على طرفي الطّريق، وتعينان من يصل رحمه ويؤدّي أمانته، ومع تركهما لا يفيدنا أيّ عملٍ آخر وإنّما بتركها يهوي الإنسان في النار"2.
موانع الأمانة
احتوت كلمات الإمام الخمينيّ قدس سره على مجموعة من الملاحظات المهمّة في باب الأمانة وأسباب الخيانة. ونحن نذكر ثلاثة أسباب أساسيّة تؤدّي إلى الخيانة وتحول دون رسوخ ملكة الأمانة في النّفس منها:
1- حبّ الدّنيا
فعن الإمام الخمينيّ قدس سره، قال: "المحتجبون بحجاب الطبيعة، لا همَّ لهم سوى الآمال النفسانية والمطلوبات الطبيعية، لذلك فهم يتكالبون على جيفة الطبيعة، ويستهلكون قوّتهم الغضبيّة في هذا السّبيل، فيسقطون في مستنقع الدّنيا والطّبيعة وشباكها بالوسائل نفسها التي وهبها الله لهم للتخلّص من هذه الشّباك، فيخونون النّعم والأمانات الإلهيّة ويسلّطون عليها الأيدي الملوّثة للنّفس الأمّارة بالسّوء"3.
2- الغضب
يقول الإمامقدس سره: "فليفكّر في أنّ هذه الغريزة (الغضب) التي وهبها الله تعالى إيّاه لحفظ نظام الظّاهر والباطن وعالم الغيب والشّهادة، إذا استخدمها لغير تلك الأهداف وبخلاف ما يريد الله سبحانه وضدّ المقاصد الإِلهيّة، فما مدى خيانته؟ وما هي العقوبات التي يستحقّها؟ وكم هو ظلومٌ جهول؟ لأنّه لم يَصُنْ أمانة الحقّ تعالى، بل استعملها في
1 الكافي، ج2، ص152.
2 الأربعون حديثًا، ص 509.
3 جنود العقل والجهل، ص 377.
394
335
الدرس التاسع والعشرون: الأمانة
العداوات والمخاصمات. إنّ امرءًا هذا شأنه لا يمكن أن يأمن الغضب الإلهيّ"1.
3- العصبيّة
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ومن ناحية أخرى في قباحة هذه السجيّة (العصبية) لدى أهل العلم هو جانب العلم نفسه، إذ إنّ هذه العصبيّة خيانة للعلم وتجاهل لحقّه، فمن يتحمّل عبء هذه الأمانة ويلبس لبوسها، عليه أن يرعى حرمتها واحترامها، وأن يعيدها إلى صاحبها صحيحة سليمة. فإذا ما تعصّب، تعصّب الجاهلية يكون قد خان الأمانة وارتكب الظّلم والعدوان، وهذه بذاتها خطيئة كبرى"2.
كيفيّة حفظ الأمانة
وبالحديث عن كيفيّة حفظ الأمانة وردّها يتمّ البحث حول الأمانة وفق الرّؤية الأخلاقيّة الإلهيّة. ونستعين بكلمات إمامنا الخمينيّ قدس سره في بيان المسؤوليّة المعنويّة والعمليّة تجاه تلك الأمانات العظيمة.
1- التمسّك بوليّ الله
ففي مورد قوى النّفس الظّاهرة والباطنيّة، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وليُعلم أنّ جميع القوى الظاهريّة والباطنيّة التي أعطانا الله إيّاها وأنزلها من عالم الغيب، هي أمانات إلهية كانت طاهرة من جميع القذارات، وكانت طاهرة مطهّرة، بل كانت متنوّرة بنور الفطرة الإلهيّة وبعيدة عن ظلمة تصرّف إبليس وكدورته. فلمّا نزلت إلى ظلمات عالم الطّبيعة وامتدّت يد تصرّف شيطان الواهمة ويد الخيانة الإبليسيّة إليها، خرجت عن الطّهارة الأصليّة والفطرة الأوّليّة، وتلوّثت بأنواع القذارات والأرجاس الشّيطانيّة. فالسّالك إلى الله إذا أبعد يد الشّيطان بالتّمسّك بذيل عناية ولّي الله، وطهّر المملكة الظاهريّة وردّ الأمانات الإلهيّة كما أخذها فهو ما خان الأمانة حينئذٍ. وإن صدرت منه خيانة فهو مورد للغفران والستّاريّة، فيستريح خاطره من ناحية الظّاهر"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 164.
2 الأربعون حديثًا، ص 180.
3 معراج السالكين، ص 67.
395
336
الدرس التاسع والعشرون: الأمانة
2- الصّلاة
أمّا في مورد الصّلاة فهو قدس سره أفضل من تحدّث عن كيفيّة أدائها. وممّا قاله في هذا المجال: "اعلم أنّ الصّلاة هي مقام العروج إلى مقام القرب والحضور في محضر الأنس، ويلزم للسّالك مراعاة آداب الحضور في محضر ملك الملوك المقدّس. وحيث أنّ أدنى المراتب والمراحل لظهور النّفس التي هي قشر القشر والبدن الصّوريّ الملكيّ، إلى أعلى مقاماتها وحقائقها التي هي لبّ اللباب ومقام سرّ القلب، حاضرة في المحضر المقدّس للحقّ، فعلى السّالك أيضًا أن يستحضر ويعرض جميع الجنود الباطنة والظّاهرة لممالك السرّ والعلن على محضر الحقّ جلّ وعلا، ويقدم إلى محضره المقدّس جميع الأمانات التي وهبها الله سبحانه بيد قدرة الجمال والجلال، وقد كانت في كمال الطّهارة والصّفاء ومن دون تصرف أحد من الموجودات، ويردّها إليه كما أعطاه سبحانه إياها"1.
3- الإيمان
وحول الإيمان يقول الإمام قدس سره: "...نعوذ بالله من زوال هذا الإيمان الذي ليس له لُبُّ وجوهر ولا هيمنة له في مُلك الجسم، ومن انتقال الإنسان من هذه الدّنيا على النّفاق، وحشره مع المنافقين. وهذا من الأمور الهامّة التي لا بدّ أن تذعن لها نفوسنا الضّعيفة، ونهتم بها ونكون حريصين على تعميق الإيمان في الظّاهر والباطن والسّر والعلن، وكما ندّعي الإيمان في قلوبنا نجهد أنفسنا على هيمنة الإيمان على الظّاهر أيضًا، حتى يتجذّر الإيمان في القلب ولا يزول أمام عائق ومانع أو أيّ تغيير وتبديل، إلى أن يتمّ تسليم هذه الأمانة الإلهيّة، والقلب الطّاهر الملكوتيّ الذي تخمّر بالفطرة الإلهيّة إلى الذّات المقدّس من دون أن تمتد إليه يد الشّيطان والخيانة والحمد لله أولاً وآخراً"2.
1 معراج السالكين، ص 101 - 102.
2 الأربعون حديثًا، ص 564.
396
337
الدرس التاسع والعشرون: الأمانة
موعظة
وننهي الحديث عن الأمانة ـ وهو لا ينتهي ـ بموعظة للإمام الخمينيّ قدس سره: "أيها العزيز! استيقظ وابعد عنك الغفلة والسّكرة وزن أعمالك بميزان العقل قبل أن توزن في ذلك العالم، وحاسب نفسك قبل أن تُحاسب، واجلُ مرآة القلب من الشّرك والنّفاق والتلوّن، ولا تدع صدأ الشّرك والكفر يحيط به بمستوىً لا يمكن جلاؤه حتى بنيران ذلك العالم، لا تدع نور الفطرة يتبدّل بظلمة الكفر، لا تدع هذه الآية ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾1.. أن تضيع، لا تخنْ هذه الأمانة الإلهيّة بهذا النحو، نظّف مرآة قلبك لكي يتجلّى فيها نور جمال الحقّ فيغنيك عن العالم وكلّ ما فيه، ولكي تتوهّج نار الحبّ ـ العشق ـ الإلهيّ في قلبك، فتحرق الأنواع الأخرى من الحبّ، ولا تستبدل حينذاك جميع هذا العالم بلحظة واحدة من الحبّ الإلهيّ، ولكن تحصل على لذّة في مناجاة الله وذكره، تعتبر غيرها من جميع اللذات الحيوانيّة، لعبًا ولهوًا"2.
وبإسناده عن الصّادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في حديثِ المَناهي، أَنَّهُ نَهَى عَنِ الخِيَانَةِ وَقالَ: "مَنْ خَانَ أَمَانَةً فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَرُدَّهَا إِلَى أَهْلِهَا ثُمَّ أَدْرَكَهُ المَوْتُ مَاتَ عَلَى غَيْرِ مِلَّتِي وَيَلْقَى اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ وَمِنَ اشْتَرَى خِيَانَةً وَهُوَ يَعْلَمُ فَهُوَ كَالَّذِي خَانَهَا"3... ويعرف الجميع مضاعفات سخط الذّات المقدّس الحقّ وغضبه على البعد. كما أنّه من المعلوم أنّ الشّفعاء، لا يشفعون لمن هو مغضوبٌ عليه لدى الحقّ سبحانه. وخاصّة أنّ الخائن يكون خارجًا أيضًا عن أمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ففي حديث آخر "لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَانَ مُؤمِناً"4، وفي حديثٍ ثالثٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ خَانَ أَمَانَة فِي الدُّنيَا وَلَمْ يَرُدّها عَلَى أَهْلِهَا مَاتَ عَلَى غَيْرِ دِينِ الإسلامِ وَلَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ فَيَهَوى بِهِ فِي شَفِير جَهَنَّم أَبَد الآبِدين أعوذ بالله من هذه الخطيئة"5"6.
1 سورة الرّوم، الآية 30.
2 الأربعون حديثًا، ص 62.
3 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص 15.
4 وسائل الشّيعة، ج19، ص 77.
5 (م.ن)، ص 78.
6 الأربعون حديثًا، ص 510.
397
338
الدرس التاسع والعشرون: الأمانة
المفاهيم الرئيسة
1- الأمين ـ بالمعنى التامّ ـ هو الذي يحافظ على الأمانات، ويردّها إلى أهلها.
2- الأمانة لدى العرفاء هي الولاية المطلقة التي لا يليق بها غير الإنسان، وهذه الولاية المطلقة هي مقام الفيض المقدّس.
3- الأمانة بحسب الباطن هي حقيقة الولاية وبحسب الظّاهر هي الشّريعة أو دين الإسلام أو القرآن أو الصلاة.
4- من موارد خيانة الأمانة، خيانة عباد الله، والتي هي أعم من الخيانات الماليّة.
5- إنّ مطلق المعصية أو اقتراف مطلق ما يمنع من السّير إلى الله خيانة، لأنّ التكاليف الإلهيّة أمانات للحقّ سبحانه، بل إنّ جميع الأعضاء والجوارح والقوى أمانات للحقّ المتعالي، واستعمالها على خلاف رضا الحقّ سبحانه، خيانة.
6- لقد وهبنا الحقّ تعالى كافّة القوى والأعضاء الظاهريّة والباطنيّة طاهرة ونظيفة من كلّ القذارات الصّوريّة والمعنويّة فإذا أرجعنا هذه الأمانات لدى لقائنا بالذّات المقدّس، من دون أن تصير ممزوجة مع عالم المادّة، وقذارات المُلك والدّنيا، كُنَّا أُمناء على الأمانة التي أودعت عندنا.
7- الحبّ لغير ذاته الأقدس ولغير أوليائه الذين يعتبر حبّهم حبّه سبحانه، خيانة لدى العرفاء.
8- إِنَّ عَلِياً عليه السلام إِنَّما بَلَغَ ما بلغ بِهِ عِنْدَ رَسولِ اللهِصلى الله عليه وآله وسلم بِصِدْق الحَديثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَة.
9- إنّ حفظ الأمانة يكون من خلال: التمسك بذيل عناية ولّي الله، وتقديم جميع الأمانات التي وهبها الله سبحانه بيد قدرة الجمال والجلال إلى محضره المقدّس.
ومن خلال السلام والعمل على تجذير الإيمان في القلب إلى أن يتمّ تسليم هذه الأمانة الإلهيّة.
10- من الأسباب الأساسيّة التي تؤدّي إلى الخيانة وتحول دون رسوخ ملكة الأمانة في النّفس: حبّ الدّنيا، الغضب، العصبيّة.
398
339
الدرس التاسع والعشرون: الأمانة
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ اجْعَلْ نَفْسِي أَوَّلَ كَرِيمَة تَنْتَزِعُهَا مِنْ كَرَائِمِي، وَأَوَّلَ وَدِيعَة تَرْتَجِعُهَا مِنْ وَدَائِعِ نِعَمِكَ عِنْدِي!1.
اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنَ النِّفاقِ وَعَمَلِي مِنَ الرِّياءِ وَلِسانِي مِنَ الكَذِبِ وَعَيْنِي مِنَ الخِيانَةِ، فَإنَّكَ تَعْلَمُ خائِنَةَ الأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ2.
الآيات الكريمة:
1- ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾3.
2- ﴿وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾4.
3- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾5.
الروايات الشريفة:
1- عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: "مَنْ عَرَفَ مِنْ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِ اللهِ كَذِباً إِذَا حَدَّثَ وَخُلْفاً إِذَا وَعَدَ وخِيَانَةً إِذَا اؤْتُمِنَ ثُمَّ ائْتَمَنَهُ عَلَى أَمَانَةٍ كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ تَعَالَى أَنْ يَبْتَلِيَهُ فِيهَا ثُمَّ لَا يُخْلِفَ عَلَيْهِ وَلَا يَأْجُرَهُ"6.
1 نهج البلاغة، خ 215.
2 مفاتيح الجنان، يُدعى به في السّحر.
3 سورة النّساء، الآية 58.
4 سورة البقرة، الآية 283.
5 سورة الأنفال، الآية 27.
6 الكافي، ج5، ص 299.
399
340
الدرس التاسع والعشرون: الأمانة
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "مَنِ اسْتَهَانَ بِالامَانَةِ، وَرَتَعَ فِي الْخِيَانَةِ، وَلَمْ يُنَزِّهَ نَفْسَهُ وَدِينَهُ عَنْهَا، فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا الْخِزْيَ، وَهُوَ فِي الاْخِرَةِ أَذَلُّ وَأَخْزَى"1.
3- وعن الإمام علي عليه السلام قال: "وَمَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ سِرُّهُ وعَلاَنِيَتُهُ، وَفِعْلُهُ وَمَقَالَتُهُ، فَقَدْ أَدّى الاْمَانَةَ، وَأَخْلَصَ الْعِبَادَةَ"2.
4- وعن الإمام علي عليه السلام قال: "ثُمَّ أَدَاءَ الامَانَةِ، فَقَدْ خَابَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، إِنَّهَا عُرِضَتْ عَلَى السَّماوَاتِ الْمَبْنِيَّةِ، وَالاْرَضِينَ الْمَدْحُوَّةِ، وَالْجِبَالِ ذَاتِ الطُّولِ الْمَنْصُوبَةِ، فَلاَ أَطْوَلَ وَلاَ أَعْرَضَ، وَلاَ أَعْلَى وَلاَ أَعْظَمَ مِنْهَا، وَلَوِ امْتَنَعَ شَيْءٌ بِطُول أَوْ عَرْض أَوْ قُوَّة أَوْ عِزٍّ لاَمْتَنَعْنَ، وَلكِنْ أَشْفَقْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَعَقَلْنَ مَا جَهِلَ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُنَّ، وَهُوَ الانْسَانُ، ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾"3.
5- وعن الإمام علي عليه السلام قال: "أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة صدق حديث وأداء أمانة وعفة بطن وحسن خلق"4.
6- عَنْ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: "ثَلَاثَةٌ يُرْزَقُونَ مُرَافَقَةَ الْأَنْبِيَاءِ رَجُلٌ يُدْفَعُ إِلَيْهِ قَاتِلُ وَلِيِّهِ لِيَقْتُلَهُ فَعَفَا عَنْهُ، وَرَجُلٌ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ لَوْ يَشَاءُ لَخَانَهَا فَيَرُدُّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا، وَرَجُلٌ كَظَمَ غَيْظَهُ عَنْ أَخِيهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله"5.
7- عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام قَالَ: "قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَفْضَلُ حَالٍ أُعْطِيَ لِلرَّجُلِ؟ قَالَ: صلى الله عليه وآله وسلم الْخُلُقُ الْحَسَنُ إِنَّ أَدْنَاكُمْ مِنِّي وَأَوْجَبُكُمْ عَلَيَّ شَفَاعَةً أَصْدَقُكُمْ حَدِيثاً وأَعْظَمُكُمْ أَمَانَةً وأَحْسَنُكُمْ خُلُقاً وَأَقْرَبُكُمْ مِنَ النَّاسِ"6.
1 نهج البلاغة، ص 382.
2 (م.ن)، ص 382.
3 (م.ن)، ص 317.
4 تصنيف غرر الحكم، ص 217.
5 مستدرك الوسائل، ج9، ص 12.
6 (م.ن)، ج8، ص 442.
400
341
الدرس الثلاثون: العدالة
الدرس الثلاثون: العدالة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن المعنى الدّقيق للعدالة وموارد تطبيقها.
2- يشرح أهميّة العدالة وموقعيّتها في سير الإنسان التكاملي.
3- يتعرّف إلى منشأ العدالة والدفاع لإقامة هذه الفضيلة.
401
342
الدرس الثلاثون: العدالة
تمهيد
من الملفت أن نجد أكثر ما ورد في كلمات العلماء حول العدالة يرتبط بالعدالة الفرديّة أو اعتدال قوى النّفس، بينما نجد أكثر ما ورد في الآيات والأحاديث الشّريفة يرتبط بالعدالة الاجتماعيّة.
وقد اشتهر في كتب الفقه معنى العدالة الذي ينطلق من فعل الواجبات وترك المحرّمات. فما هو سبب الاختلاف في تفسير قضيّة هي غاية في الأهميّة بحيث اعتُبرت في الأخلاق أعظم الفضائل وأمّها وكلّها، وفي المجتمع أساس الحكم وبقاء المجتمعات، وفي الفقه عنوان الالتزام الدّينيّ وأصل الكثير من الحقوق والامتيازات؟
معنى العدل
"العدالة عبارة عن الحدّ الوسط بين الإفراط والتفريط، وهي من أمّهات الفضائل الأخلاقيّة، بل إنّ العدالة المطلقة حاوية لجميع الفضائل الباطنيّة والظاهريّة، والروحيّة والقلبيّة، والنفسيّة والجسميّة، لأنّ العدل المطلق هو الاستقامة بكل معانيها"1.
أهميّة العدالة
قبل الدّخول في تفسير العدل وتجلّياته على مستوى الفرد والمجتمع والكون، نتوقّف عند أهميّة القضيّة، لأنّ البحث في معنى العدل لا يشبه ما سبقه من موضوعات، بل يحتاج إلى عناية خاصّة ودقّة كافية. وخصوصًا لما قد يترتّب على التّفسير من استنتاجات هي غاية في الأهمّيّة.
1 جنود العقل والجهل، ص 143.
403
343
الدرس الثلاثون: العدالة
ذكر الإمام أنّ العدالة هي "من أمّهات الفضائل الأخلاقيّة، بل إنّ العدالة المطلقة حاوية لجميع الفضائل الباطنيّة والظاهريّة، والروحيّة والقلبيّة، والنّفسيّة والجسميّة، لأنّ العدل المطلق هو الاستقامة بكل معانيها"1، و"إنّ الاعتدال الحقيقيّ لا يتيسّر إلّا للإنسان الكامل"2. وفي نفس المصدر ذكر أنّه "من الفضائل الإنسانيّة العظمى"، و"به تحقّق غاية الكمال الإنسانيّ ومنتهى السّير الكماليّ بل هو تحقّق هذا الكمال بعينه في أحد معانيه ـ هو من مهمّات الأمور التي تؤدّي الغفلة عنها إلى خسرانٍ عظيم، وضررٍ جسيم، وشقاءٍ لا يمكن جبره"3.
أمّا في الأحاديث والرّوايات فقد ذُكر أنّ "العدل أحلى من العسل"4، وأنّه من دعائم الإيمان5، وأنّه "رأس الإيمان"6، وأنّه "ميزان الله في الأرض"7، وأنّه أعمّ الأخلاق نفعًا8.
أمّا فيما يتعلّق بعالم الوجود فقد ذكرت الرّوايات أنّه "بالعدل قامت السمّاوات والأرض"9.
وهو غيضٌ من فيض الشّواهد التي تبيّن عظمة هذه الفضيلة وأهمّيتها. وإذا كان الجود من أشرف الفضائل، فإنّ العدل أفضل منه كما جاء في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام لمّا سُئل: "أَيّهما أَفضل: العدل، أَو الجود؟ فقال: الْعَدْلُ يَضَعُ الأمُورَ مَوَاضِعَهَا، والْجُودُ يُخْرِجُهَا عَنْ جِهَتِهَا، وَالْعَدْلُ سَائِسٌ عَامٌّ، وَالْجُودُ عَارضٌ خَاصٌّ، فَالْعَدْلُ أَشْرَفُهُمَا وَأَفْضَلُهُمَا"10.
1 جنود العقل والجهل، ص 143.
2 (م.ن)، ص 149.
3 (م.ن)، ص 149.
4 الكافي، ج1، ص 542.
5 (م.ن)، ج2، ص 50.
6 مستدرك الوسائل، ج11، ص 319.
7 (م.ن)، ص 317.
8 تصنيف غرر الحكم، ص 376.
9 عوالي اللآلي، ج4، ص 103.
10 نهج البلاغة، ص553.
404
344
الدرس الثلاثون: العدالة
العدالة هدف بعثة الأنبياء
فالحقوق مواهب إلهيّة لأجل إيصال كلّ مخلوق إلى غايته، ولأجل إيصال كلّ مجتمعٍ إلى ازدهاره وتقدّمه. والعدالة عبارة عن رعاية الحقوق بوضعها في مواضعها بحسب النّظام الأتم التّكوينيّ. أمّا تطبيق الحدود الشّرعيّة والالتزام بالأحكام الإلهيّة فإنّه وجهٌ آخر من وجوه رعاية الحقوق، بل هو عينه. وليست الشّريعة سوى ذاك البرنامج الذي برعايته وتطبيقه تُصان الحقوق الفرديّة والاجتماعيّة، الظّاهريّة والباطنيّة.
يقول الإمام قدس سره: "فقد ظهر لك أنّ شأن النبيّصلى الله عليه وآله وسلم في كلّ نشأة من النشآت وعالم من العوالم حفظ الحدود الإلهية والمنع عن الخروج عن حد الاعتدال والزجر عن مقتضى الطبيعة، أي إطلاقها، لا على الإطلاق. فإن المنع على الإطلاق خروج عن طور الحكمة وقسر في الطبيعة، وخلاف العدل في القضية، وهو خلاف النظام الأتم والسنّة الجارية. فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو الظّاهر بإسمي "الحكم العدل" لمنع إطلاق الطبيعة، والدعوة إلى العدل في القضية. وخليفته مظهره ومظهر صفاته. وهذا أحد معاني قوله عليه السلام، في حديث الكافي: "أُولِي الْأَمْرِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ"1.2
ويقول قدس سره: "إنّ هدف بعثة الأنبياء بشكل عام هو تنظيم الناس بعدالة على أساس من العلاقات الإجتماعية، وتقويم آدمية الإنسان. وهذا إنّما يمكن من خلال تشكيل الحكومة وتنفيذ الأحكام"3.
ولأن هدفهم كان تحقيق العدالة دوماً، لذا كانوا حجج الله تعالى على الناس: يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنّ كون المعصوم حجّة الله ليس معناه أنّه مبيّن الأحكام فقط، فإن زرارة ومحمد بن مسلم وأشباههما أيضاً أقوالهم حجّة، وليس لأحد ردّهم وترك العمل برواياتهم، وهذا واضح. بل المراد من كونه وكون آبائه الطّاهرين عليهم السلام حجج الله على العباد أنّ الله تعالى يحتجّ بوجودهم وسيرتهم وأعمالهم وأقوالهم على العباد في جميع شؤونهم، ومنها العدل في جميع شؤون الحكومة. فأمير المؤمنين عليه السلام حجّة على الأمراء وخلفاء الجور، وقطع الله تعالى
1 الكافي، ج1، ص85.
2 روح الله الخميني، مصباح الهداية، مقدمة جلال الدين الآشيتاني، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الامام الخميني، الطبعة الخامسة، 1384 هـ. ش، ص 41.
3 روح الله الخميني، الحكومة الإسلاميّة، مركز بقية الله الأعظم، الطبعة الثانية، بيروت، 19999، ص114.
405
345
الدرس الثلاثون: العدالة
بسيرته عذرهم في التّعدّي على الحدود والتّجاوز والتّفريط في بيت مال المسلمين والتخلّف عن الأحكام، فهو حجّة على العباد بجميع شؤونه، وكذا سائر الحجج، وسيما وليّ الأمر الذي يبسط العدل في العباد، ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا، ويحكم فيهم بحكومة عادلة إلهية"1.
وجاء في الحديث: "غاية العدل أنّ يعدل المرء في نفسه"2، وهذا الحديث يفتح بابًا واسعًا للبحث حول علاقة العدالة الفرديّة بالاجتماعيّة. لكن ما يمكن أن يُقال بما يتناسب مع هذه الأوراق: أنّ سعي الفرد لإقامة العدالة الاجتماعيّة هو أفضل وأسرع طريق لتحقيق العدالة في النّفس، على قاعدة: "وأمر بالمعروف تكن من أهله"3.
ما هو الدّافع إلى إقامة العدالة؟
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إذا رجع الإنسان إلى وجدانه وأحوال الآخرين من أبناء جنسه استغنى عن إقامة البرهان وإطالة التّوضيح للحقيقة المتقدّمة، أي إنّ الرّحمة والرأفة والعدل والمحبّة والمودّة ونظائرها هي من لوازم الفطرة الأصليّة السلمية، وأنّ أضدادها مخالفة للفطرة المخمّرة ومن نتائج احتجابها، وعليه، فإذا سار الإنسان على الصّراط المستقيم في هذا العالم، وعدّل قواه الثّلاث وجعلها تابعةً للقوّة الرّوحانيّة العقليّة، وأخضع سيرتهُ الباطنيّة والظّاهرية لموازين الشّريعة الإلهيّة، حصل باطنهُ على ملكةِ الاستقامة، وصارت صورةُ روحه وباطنهِ صورةً إنسانيّة قويمة، فتكون بذلك صورته الجسمانيّة الظّاهرة في ذلك العالم صورة إنسانيّة جميلة ومستقيمة"4.
ويقولقدس سره: "اعلم، أنّ موضوع العقل والجهل الذي جرى ذكره بين موالي الإمام عليه السلام، يرتبط على ما يبدو بالعقل والجهل عند الإنسان، أي بالقوّة العاقلة فيه، وهي القوّة الرّوحانيّة المجرّدة بحسب ذاتها، والميّالة إلى الخيرات والكمالات، والدّاعية إلى العدل والإحسان بحسب فطرتها"5.
1 روح الله الموسوي الخميني، كتاب البيع،الدار الاسلامية، الطبعة الأولى 2000م، ص 25.
2 مستدرك الوسائل، ج11، ص 318.
3 نهج البلاغة، ص 391.
4 جنود العقل والجهل، ص 261.
5 (م.ن)، ص 32.
406
346
الدرس الثلاثون: العدالة
فاتّضح أنّ ما يدفع الإنسان للعدالة أمران أساسيّان هما:
1- الفطرة التي تعشق النّظام الأكمل الذي يتحقّق بالعدل.
2- العقل الذي يدرك قبح النّقص وحسن الكمال ويميّز بينهما حيث يكون الظّلم أقبح كلّ شيء، ويقابله العدل الذي يسع كلّ الاشياء بالتّواصف.
العدالة في الأخلاق
نجد الكتب والأبحاث الأخلاقيّة تركّز على معنًى أساسيّ للعدل، وهو المرتبط بتعديل قوى النّفس، سواء كانت ظاهرة أو باطنة. ومن المهمّ أن نقرأ للإمام بعض ما قاله حول هذه النّقطة أوّلًا.
يقول الإمام قدس سره: "قسّم الحكماء أجناس الفضائل إلى أربع فضائل هي: الحكمة والشجاعة والعفّة والعدالة، إذ إنّ للنّفس قوّتين هما: قوّة الإدراك وقوّة التحريك، ولكلّ منهما شعبتان، فقوّة الإدراك تنقسم إلى العقل النظريّ والعقل العمليّ، وقوّة التحريك تنقسم إلى قوّة الدفع (لغير الملائم) وهي قوّة الغضب، وإلى قوّة الجلب (للملائم) وهي قوّة الشهوة.
والاعتدال في كلّ واحدة من هذه القوى الأربع وإخراجها من حدّي الإفراط والتفريط فضيلة. فالحكمة عبارة عن تعديل القوّة النّظريّة وتهذيبها، والعدالة تعديل القوّة العمليّة وتهذيبها، والشّجاعة تعديل القوّة الغضبيّة وتهذيبها، والعفّة تعديل القوّة الشّهويّة وتهذيبها"1.
و"يُطلق اسم العدالة على معنًى آخر هو تعديل جميع القوى الباطنيّة والظاهريّة والرّوحيّة والنفسيّة، واستنادًا إلى هذا المعنى قال الفيلسوف المتقدّم ذكره: العدالة كلّ الفضائل لا أحدها"2.
العدالة منهج السير نحو الكمال الإنساني
يبدو أنّ حقّ الشّيء هو ما جعله الله لهذا الشّيء للوصول به إلى كماله. فإذا سُلب منه أو انتقص، مُنع من الوصول أو أبطأ به. ولا شكّ بأنّ قوى النّفس الظّاهرة والباطنة هي وسائل
1 جنود العقل والجهل، ص 147-148.
2 (م.ن)، ص 148.
407
347
الدرس الثلاثون: العدالة
وصول الإنسان ومركبه إلى كماله. فإذا خرجت عن العدالة أو تغلّبت إحداها على الأخرى كأن تغلب القوّة الشّهويّة قوّة العقل أو الإدراك، أو غلبت القوّة الغضبيّة القوّة العاقلة، فإنّ جميع هذه القوى ستسير على طريق النّقص وتكون النّتيجة أن يتوقّف سير الإنسان نحو الكمال، بل يتّجه نحو التّسافل والانحطاط.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "ينبغي معرفة أنّ العدالة ما دامت تعني الحدّ الوسط بين الإفراط والتفريط، لذا إذا مثّلنا للسير من نقطة العبوديّة إلى مقام قرب الرّبوبيّة بتمثيلٍ حسّيّ بإيصالها بخطّ مستقيم، فإنّ هذا الخطّ المستقيم والسّير المعتدل هو طريق سير الإنسان الكامل من نقص نقطة العبوديّة إلى كمال عزّ الرّبوبيّة. وقد وردت إشارات كثيرة إلى هذا المعنى في الكتاب والسنّة، كما أنّ (الصراط المستقيم) الذي يطلبه المصلّي في صلاته هو هذا السّير المعتدل. من هنا وصفت الأحاديث الشّريفة الصّراط بأنّه "أدق من الشعرة وأحدّ من السيف"، لأنّه يتميّز بأنّه يمثّل حدّ الاعتدال والوسطيّة الحقيقيّة، لذلك ينبغي أن يتمثّل في عالم ظهور الحقائق بهذا النحو. ويُروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطّ خطّاً في الوسط، وخطّ خطوطاً عن يمينه وشماله، ثمّ وضع يده على الخطّ الأوسط وأشار إلى أنّ هذا هو صراطه. ولا يتيسّر الاعتدال الحقيقي إلّا للإنسان الكامل الذي لم ينحرف ولم يخرج عن الصّراط المستقيم منذ بداية السّير إلى منتهى نهاية الوصول، وهو بتمام المعنى الخط الأحمديّ والخطّ المحمّديّ، وبقيّة السّائرين يسيرون فيه على نحو التّبعيّة لا على نحو الأصالة. وبحكم أنّ الخطّ المستقيم الذي يصل بين نقطتين واحدٌ لا أكثر، فإنّ الفضيلة ـ بالمعنى المطلق للسّير على طريق العدالة وسبل الاعتدال ـ واحدة لا أكثر، في حين أنّ الرذائل كثيرة الأنواع بل غير متناهية"1.
العدالة في كل المراتب
يقول الإمام قدس سره: "إن جميع الأنبياء جاؤوا لأجل تطبيق العدالة وكان هدفهم إقامة العدل في العالم كلّه، لكنهم لم يوفّقوا لذلك، حتّى الرّسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم الذي بُعث لإصلاح البشر وإقامة العدل وتربية الناس أيضًا لم يوفّق في زمانه لهذا المقصد،، والإمام المهدي
1 جنود العقل والجهل، ص 148 -149.
408
348
الدرس الثلاثون: العدالة
هو من سيوفّق لهذا الأمر ويقيم العدل في كلّ العالم (ليس ذلك العدل الذي بتصوّر عامة الناس ـ حيث تكون قضية العدالة في الأرض لأجل الرفاهية ـ بل العدالة في جميع مراتب الإنسانية بحيث لو انحرف الإنسان سواء في العمل أو في الرّوح أو العقل فإنّه يعيده إلى صوابه). هذا هو معنى إيجاد العدالة في الإنسان، فلو كانت أخلاقه أخلاقاً منحرفة، ورجع عن هذا الانحراف إلى اعتداله، تكون العدالة قد تحقّقت فيه، وكذلك لو حصل الانحراف والاعوجاج في العقائد يكون إرجاع تلك العقائد المعوجّة إلى العقيدة الصحيحة والصّراط المستقيم هو إيجاد العدالة في عقل الإنسان"1.
مخاطر ترك العدالة
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم أنّ تعديل القوى النّفسانيّة ـ الذي يرتهن به تحقّق غاية الكمال الإنسانيّ ومنتهى السّير الكماليّ بل هو تحقّق هذا الكمال بعينه في أحد معانيه ـ هو من مهمّات الأمور التي تؤدّي الغفلة عنها إلى خسران عظيم، وضرر جسيم، وشقاء لا يمكن جبره"2.
ويقولقدس سره: "وبعد أن تستسلم الشّهوة والغضب إلى مقام العدل والشّرع تنتشر العدالة في المملكة، وتتشكّل حكومة عادلة حقّة يكون فيها العمل والسّيادة للحقّ وللقوانين الحقّة، بحيث لا تتّخذ فيها خطوة واحدة ضدّ الحقّ، وتكون خالية من كلّ باطل وجور"3.
المبادرة إلى تحصيل العدالة في الصغر
يقول الإمام الخميني قدس سره: "ما دام الإنسان في عالم الطّبيعة فإنّه قادرٌ على أن يعدّل قواه الجانحة إلى الإفراط والتفريط، وأن يُخضع النّفس الشّموس العاصية لسيطرة العقل والشّرع، وهذا الأمر في غاية اليسر والسّهولة في أوّل الشّباب، لأنّ نور الفطرة لم يُغلب بعد، وصفاء النّفس لم يذهب بعد، والأخلاق الفاسدة والصّفات القبيحة لم تترسّخ في النّفس بعد.
1 صحيفة الإمام، ج12، ص 385.
2 جنود العقل والجهل، ص 149.
3 الأربعون حديثًا، ص 197.
409
349
الدرس الثلاثون: العدالة
ونفس الطّفل في بداية أمره كالصّفحة البيضاء الخالية التي تتقبّل أي نقش بيسرٍ وسهولة، فإذا تقبّلته ونُقش فيها فإنّ إزالته لا تكون بيسر، لذا فإنّ من الملاحظة بالمعايشة أنّ المعلومات أو الأخلاق التي يكتسبها الأطفال في أيّام الصّبا تبقى معهم إلى الكهولة، وقلّما يطرق النّسيان معلومات زمن الطّفولة. من هنا فقد ألقيت مسؤولية تربية الأطفال وترويضهم على عاتق الوالدين، فإذا تساهلوا أو تهاونوا فيها ـ في تلك المرحلة ـ فإنّ من المحتمل أن يتلبّس الطفل المسكين بأنواع الرذائل الكثيرة التي تقوده إلى الشقاء والبؤس الأبديّ. كما يجدر التنبّه إلى أنّ تربية الطفل واحد بصورة حسنة لا تعني تربية إنسان صالح واحد، مثلما أنّ سوء التربية والتهاون في إصلاح طفل واحد لا تعني ضياع إنسان واحد، فربّما كان إصلاح طفل واحد سببًا لإصلاح جماعة كثيرة العدد، بل وإصلاح شعب أو أمّة أو مملكة كاملة، كما أنّ من الممكن أن يؤدّي فساد شخص واحد إلى فساد أمّة ومملكة كاملة.إنّ نورانيّة شخص واحد مثل الفيلسوف الإسلامي العظيم الخواجة نصير الملّة والدين ـ رضوان الله عليه ـ أو العلّامة الجليل الحلّي ـ قدّس الله نفسه ـ قد نوّرت ملّة ومملكة كاملة بحيث أنّ النورانيّة باقية فيها إلى الأبد، في حين أنّ ظلمات وشقاوة شخص واحد مثل معاوية بن أبي سفيان أو أي من نظائره من أئمّة الجور قد بذرت ـ كما نرى ـ بذور الشقاوة والخسران لأمم وممالك على مدى آلاف السنين"1.
1 جنود العقل والجهل، ص 149-151.
410
350
الدرس الثلاثون: العدالة
المفاهيم الرئيسة
1- العدالة هي من أمّهات الفضائل الأخلاقيّة، بل إنّ العدالة المطلقة حاوية لجميع الفضائل الباطنيّة والظاهريّة، والروحيّة والقلبيّة، والنّفسيّة والجسميّة.
2- للعدل معنًى أساسيّ وهو المرتبط بتعديل قوى النّفس، سواء كانت ظاهرة أو باطنة.
3- العدالة هي تعديل القوّة العمليّة وتهذيبها، والشّجاعة تعديل القوّة الغضبيّة وتهذيبها، والعفّة تعديل القوّة الشّهويّة وتهذيبها.
4- لا يتيسّر الاعتدال الحقيقي إلّا للإنسان الكامل الذي لم ينحرف ولم يخرج عن الصّراط المستقيم منذ بداية السّير إلى منتهى نهاية الوصول، وهو بتمام المعنى الخط الأحمديّ والخطّ المحمّديّ، وبقيّة السّائرين يسيرون فيه على نحو التّبعيّة لا على نحو الأصالة.
5- الإمام المهدي هو من سيوفّق لتطبيق العدل في العالم، العدل في جميع مراتبه الإنسانية.
6- العدالة عبارة عن رعاية الحقوق بوضعها في مواضعها بحسب النّظام الأتم التّكوينيّ.
7- ليست الشّريعة سوى ذاك البرنامج الذي برعايته وتطبيقه تُصان الحقوق الفرديّة والاجتماعيّة، الظّاهريّة والباطنيّة.
8- إنّ سعي الفرد لإقامة العدالة الاجتماعيّة هو أفضل وأسرع طريق لتحقيق العدالة في النّفس على قاعدة: "وأمر بالمعروف تكن من أهله".
9- إنّ ما يدفع الإنسان للعدالة أمران أساسيّان هما: الفطرة التي تعشق النّظام الأكمل الذي يتحقّق بالعدل، والعقل الذي يدرك قبح النّقص وحسن الكمال ويميّز بينهما.
10- ما دام الإنسان في عالم الطّبيعة فإنّه قادرٌ على أن يعدّل قواه الجانحة إلى الإفراط والتفريط، وأن يُخضع النّفس الشّموس العاصية لسيطرة العقل والشّرع، وهذا الأمر في غاية اليسر والسّهولة في أوّل الشّباب.
411
351
الدرس الثلاثون: العدالة
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَحَلِّنِي بِحِلْيَةِ الصَّالِحِينَ، وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ الْمُتَّقِينَ، فِي بَسْطِ الْعَدْلِ، وَكَظْمِ الغَيْظِ، وَإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ، وَضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ، وَإِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَإِفْشَاءِ الْعَارِفَةِ، وَسَتْرِ الْعَائِبَةِ، وَلِينِ الْعَرِيكَةِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ، وَحُسْنِ السِّيرَةِ، وَسُكُونِ الرِّيحِ، وَطِيبِ الْمُخَالَقَةِ، وَالسَّبْقِ إِلَى الْفَضِيلَةِ، وَإِيثَارِ التَّفَضُّلِ، وَتَرْكِ التَّعْيِيرِ، وَالإِفْضَالِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ، وَالْقَوْلِ بِالْحَقِّ وَإِنْ عَزَّ، وَاسْتِقْلاَلِ الْخَيْرِ وَإِنْ كَثُرَ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي1.
الروايات الشريفة:
1- عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ عليه السلام: "فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾2 قَالَ: لَيْسَ يُحْيِيهَا بِالْقَطْرِ وَلَكِنْ يَبْعَثُ اللهُ رِجَالًا فَيُحْيُونَ الْعَدْلَ فَتُحْيَا الْأَرْضُ لِإِحْيَاءِ الْعَدْلِ وَلَإِقَامَةُ الْحَدِّ لِلهِ أَنْفَعُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْقَطْرِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً"3.
2- عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾4، قَالَ: "الْعَدْلُ شَهَادَةُ الْإِخْلَاصِ"5.
3- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾6 قَالَ: الْعَدْلُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَالْإِمَامُ مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مِمَّا أَخْطَأَتْ بِهِ الْكُتَّابُ"7.
4- وعن الإمام علي عليه السلام قال: "مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ فَلَا تَكُفُّوا عَنِّي مَقَالَةً بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةً بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ مَا أَنْ أُخْطِئَ وَلَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِي مَا
1 الصّحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام.
2 سورة الروم، الآية 50.
3 الكافي، ج7، ص 174.
4 سورة النحل، الآية 90.
5 بحار الأنوار، ج24، ص 188.
6 سورة المائدة، الآية 95.
7 الكافي، ج4، ص 396.
412
352
الدرس الثلاثون: العدالة
هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي فَإِنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ"1.
5- عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: "سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ الْإِيمَانَ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ عَلَى الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ وَالْعَدْلِ وَالْجِهَادِ... الْعَدْلُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ غَامِضِ الْفَهْمِ وَغَمْرِ الْعِلْمِ وَزَهْرَةِ الْحُكْمِ وَرَوْضَةِ الْحِلْمِ فَمَنْ فَهِمَ فَسَّرَ جَمِيعَ الْعِلْمِ، ومَنْ عَلِمَ عَرَفَ شَرَائِعَ الْحُكْمِ، وَمَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَمْرِهِ وَعَاشَ فِي النَّاسِ حَمِيداً"2.
6- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "مَنْ يَضْمَنُ لِي أَرْبَعَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْيَاتٍ فِي الْجَنَّةِ أَنْفِقْ وَلَا تَخَفْ فَقْراً وَأَفْشِ السَّلَامَ فِي الْعَالَمِ وَاتْرُكِ الْمِرَاءَ وَإِنْ كُنْتَ مُحِقّاً وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ"3.
7- وَقَالَ أمير المؤمنين عليه السلام: "يَوْمُ الْعَدْلِ عَلَى الظَّالِمِ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ الْجَوْرِ عَلَى الْمَظْلُومِ"4.
8- عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: "أَظْلَمُ النَّاسِ مَنْ سَنَّ سُنَنَ الْجَوْرِ وَمَحَا سُنَنَ الْعَدْلِ"5.
9- عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الْعَدْلُ مِيزَانُ اللهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ أَخَذَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ وَمَنْ تَرَكَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ"6.
10- عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: "يَا يَزِيدُ أَشَدُّ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ وَصَفُوا الْعَدْلَ ثُمَّ خَالَفُوهُ وَهُوَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾7.8
1 نهج البلاغة، ص 334.
2 الكافي، ج2، ص50.
3 (م.ن)، ص 144.
4 مستدرك الوسائل، ج12، ص 231.
5 (م.ن)، ص 231.
6 م.ن، ج11، ص 317.
7 سورة الزمر، الآية 56.
8 بحار الأنوار، ج2، ص 30.
413
353
الدرس الواحد والثلاثون: التواضع (1) - معنى التواضع, أهميّته ودرجاته
الدرس الواحد والثلاثون: التواضع (1) - معنى التواضع, أهميّته ودرجاته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن المعنى الدّقيق للتّواضع والمائز بينه وبين التملّق.
2- يشرح أهميّة التواضع ودوره في التقرّب من الله عزّ وجلّ.
3- يتعرّف إلى درجات التّواضع وارتباطها بمعرفة الله.
415
354
الدرس الواحد والثلاثون: التواضع (1) - معنى التواضع, أهميّته ودرجاته
تمهيد
يلفت الإمام الخمينيّ قدس سره أنظارنا إلى أهميّة التّواضع عندما يعتبره: "أهمّ من كلّ أمر في تقريب الإنسان إلى الله تعالى"1. فنتوقّف عند هذه السجيّة العظيمة لنتعرّف إلى دورها في حياة الإنسان المعنويّة في ظلّ ارتباطه بالله سبحانه. وعندما نتعرّف على التّأثير الكبير للتّواضع في هذا المجال تتوجّه قلوبنا إلى معرفة أسراره وأسبابه. ولا شكّ بأنّ كلّ ذلك يحتاج إلى معرفة دقيقة بهذه الفضيلة المحمودة. فما هو التّواضع؟ وكيف نصبح من المتواضعين.
تّعريف التواضع
إنّ جميع الصّفات الأخلاقيّة الحميدة يمكن التعرّف عليها من خلال سيرة أولياء الله والكمّل من خلقه، وكفى بسلوكهم ومعاملاتهم ونمط حياتهم عبرةً ودرسًا. ولتتميم الفائدة نتوقّف عند التّعريف العلميّ للتّواضع باعتباره صفة نفسانيّة بحسب الأحاديث الشّريفة وإن انصرفت الأذهان إلى عدّه سلوكًا عمليًّا. فيقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "بملاحظة أنّ الحديث الشريف2 جعل التّواضع ضدًّا للكبر ــ وهو من الصفات النفسانية ــ ولم يجعله ضدًّا للتكبّر الذي هو الإظهار العمليّ للكبر، لذلك ينبغي اعتبار التّواضع أيضًا من الصّفات النفسانيّة وإن كان معناه في الظّاهر العرفيّ واللغويّ هو التّصاغر"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 314.
2 حديث جنود العقل والجهل المروي عن الإمام الصادق عليه السلام، الكافي، ج1، ص21.
3 جنود العقل والجهل، ص 301.
417
355
الدرس الواحد والثلاثون: التواضع (1) - معنى التواضع, أهميّته ودرجاته
أهميّة التّواضع
يبيّن الإمام الخمينيّ قدس سره أهمّية التواضع وهو يشرح رواية هي بمنزلة الحديث القدسيّ نقلها الكافي الشّريف". فعن الإمام الصّادق عليه السلام قال: "فيما أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى داود عليه السلام: يا داوود كما أنّ أقرب الناس من الله المتواضعون كذلك أبعد الناس من الله المتكبّرون"1.2 وفي هذا الحديث الشّريف كفاية لأهل اليقظة وأصحاب المعرفة. إذ إنّ التقرّب إلى الحقّ تعالى هو مصدر كلّ سعادة، والبعد عنه علّة كلّ شقاء وشرّ، لذلك ينبغي لطلّاب الحقّ تعالى الذين يعتبرون أنفسهم من جنوده ومن أهل العلم، وكذلك للذين يقيمون العبادات والمناسك ابتغاء التقرّب إلى الحقّ تعالى، ينبغي لهم جميعًا أن يراقبوا أحوال نفوسهم بصورة كاملة ويتنبّهوا إلى أنّ ما يطلبونه لا يتحقّق إلّا بالاتّصاف بالتّواضع واجتناب التكبّر. ولا كلام لنا مع الذين يطلبون العلم والعمل من أجل الدنيا، فحسابه على الله الجبّار، أمّا الذين يدَّعون أنّهم يطلبون الله الحقّ تبارك وتعالى، فعليهم أن يعرفوا من هذا الحديث الشريف ما ينبغي لهم أن يعملوه، ثم يتّخذوا هذا الحديث الشّريف معيارًا ومحكًّا يعرضون عليه نفوسهم، فإذا وجدوا بقيةً من التكبّر في قلوبهم، وأدركوا أنّهم مبتلون بالتكبّر العمليّ على النّاس، فليعرفوا أنّ أعمالهم وعلومهم لم تكن خالصة لله تعالى، بل كان الهدف منها تلبية أهواء النّفس الأمّارة بالسوء، فلو كانت بهدف التقرّب إلى الله لكانت صفتهم التواضع وهو أهم من كلّ أمرٍ في تقريب الإنسان إلى الله تعالى"3.
وينقل الإمام قدس سره في آداب الصّلاة: "حُكي أنّ الرّبيع بن خيثم كان يسهر بالليل إلى الفجر في ركعة واحدة فإذا هو أصبح رفع "يزفر" وقال آه سبق المخلصون وقطع بنا، واستوفِ ركوعك باستواء ظهرك، وانحط على همتك في القيام بخدمته إلّا بعونه، وفرّ بالقلب من وساوس الشّيطان وخدائعه ومكائده، فإنّ الله تعالى يرفع عباده بقدر تواضعهم له ويهديهم إلى أصول التواضع والخضوع بقدر اطّلاع عظمته على سرائرهم"4.
فلو لم يكن في كلّ ما قيل في التّواضع سوى هذا لكفى. إلّا أنّنا سنتعرّف على المزيد
1 الكافي، ج2، ص123.
2 جنود العقل والجهل، ص 313.
3 (م.ن)، ص 313-314.
4 معراج السالكين، ص 350.
418
356
الدرس الواحد والثلاثون: التواضع (1) - معنى التواضع, أهميّته ودرجاته
من أبعاد التّواضع وعظمته عند الحديث عن آثاره وبركاته. وإنّما أردنا أن ننبّه إلى أهميّة المطلب وعلوّ شأنه من أجل توجيه النّفوس وإعداد القلوب.
كيفيّة تحصيل التواضع
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وعلى أيّ حال فإنّ الإنسان كان ناظرًا لنفسه محبًّا لها، فإنَّ هذا الحبَّ المفرط يحجبه عن نقائصه وعيوبه، ويعميه عن سيّئاته، بل يصوّرها له أحيانًا كماحسن، ويعظّمُ في عينه ما فيه من فضائل ومحاسن. وبالنسبة نفسها يحجبه عن محاسن غيره ويعظّم سيّئاتهم في عينه. أمّا إذا خرج من هذه الاحتجاب ورأى نفسه على حقيقتها وكما هي، بل ونظر إليها بعين الانتقاد، وأساء الظنّ بها، رأى ضعتها وذلّها وأدرك نقصها وافتقارها. وإذا اقترنت هذه الحالة بحسن الظنّ بالآخرين، وتعظيم مخلوقات الحقّ تعالى ومظاهر جلاله وجماله عزّ وجلّ، ظهرت في نفسه ــ حينئذٍ وبصورة تدريجية ــ حال التذلّل، ورأى نفسه أصغر من الآخرين، وهذه هي حال التّواضع القلبيّ التي إذا ظهرت آثارها في البدن قيلَ: تواضع وصار متواضعاً"1.
التمييز بين التواضع والتملّق
في كلامنا السابق ظهرت لنا عوامل نشوء الكبر وموانع تحقّق التّواضع في النّفس. ولأهميّة القضيّة وإمكانيّة حصول الالتباس بين التّواضع الذي هو صفة نفسيّة محمودة تظهر في السّلوك وبين التملّق الذي يُعدّ من خبائث الصّفات يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ التمييز بين التّواضع والتملّق والتكبّر والإباء يصبح أحيانًا على درجة كبيرة من الصعوبة، فلا بُدَّ للإنسان أن يتعوّذ بالله ليهديه إلى طريق الهداية، وإذا تصدّى الإنسان لإصلاح نفسه وتحرّك نحو المقصود، فإنّ الله تعالى سوف يشمله برحمته الواسعة وييسّر له سبيل الهداية"2.
"ويجدر التنبُّه إلى الفروق بين التّواضع والتّملّق... وهذه الفروق تظهرُ في المصادر والغايات والثّمرات. فمصدرُ التّواضعِ العلمُ بالله والعلم بالنفس، وغايته الله تعالى أو الفوز بكرامته، وثمرته الكمال الإنسانيّ، أمّا التملّق فمصدرهُ الشّرك والجهل، وغايته النّفس، وثمرته الذلّةُ والنّقص والعار"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 301-302.
2 الأربعون حديثًا، ص 106.
3 جنود العقل والجهل، ص 303-304.
419
357
الدرس الواحد والثلاثون: التواضع (1) - معنى التواضع, أهميّته ودرجاته
وعليه "فمرّة يتواضع الإنسان مدفوعًا برذيلة حبّ الدنيا والانجذاب نحو طلب الجاه والمقام. فليس هذا من خُلُق التواضع في شيء، بل إنّه المداهنة والملق وإنّه من الرّذائل النفسانيّة، وصاحبها لا يتواضع للفقراء، إلاّ إذا طمع فيهم بشيء أو أراد منهم شيئًا. ومرّة أخرى يكون طبع التواضع في الإنسان داعية له إلى احترام الناس والتواضع لهم. فقراء كانوا أم أغنياء، مرموقين كانوا أم مغمورين. فهذا تواضعه خالص من غير شائبة، وروحه طاهرة مطهّرة، لم يجتذب قلبه الجاه والمقام. إنّه تواضع محمود للفقراء ومحمود للأغنياء، فلا بُدَّ من احترام كلّ إنسان بما هو خليق به. أمّا تحقيرك لأهل الجاه والغنى والتكبّر عليهم فلا يعني أنّك لست متملّقًا، بل يعني أنّك حسود، وتكون في الوقت نفسه على خطأ. ولهذا إذا رأيتهم يحترمونك على غير انتظار وتوقّع، تتواضع لهم وتخفض لهم جناحك"1.
درجات المتواضعين
ومثلما أنّ للتّواضع درجات شدّةً وضعفًا، كما جاء بشأن موسى بن عمران (على نبيّنا وآله وعليه السلام) إنّ الله أرادأن يبعث نبيًّا في زمانه فاطّلع إلى أهل الأرض فلم يجد أشدّ تواضعًا من موسى عليه السلام، فإنّ للتّواضع درجات بحسب المعرفة يكون أهلها على درجات في تواضعهم لهذا، قال الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم أنّ للتّواضع درجات تُقابل كلّ درجة منها درجة من درجات التكبّر"2:
الأوّل: تواضع الأولياء الكاملين والأنبياء العظام
"وهؤلاء جعلتهم مشاهدتهم القلبيّة للتجلّيات الذّاتيّة والأسمائيّة والصّفاتيّة والأفعاليّة متواضعين في حضرة الحقّ تعالى. وأمام مظاهر جمال ذاته المقدّسة وجلالها، وأوجدت مشاهدتهم لكمال الرّبوبيّة وذلّة العبوديّة، حالًا في منتهى التّواضع والتذلّل في قلوبهم. وكلّما كانت هاتان المشاهدتان أكمل فيهم، فإنّ حقيقة التواضع تزداد كمالًا فيهم، ولذلك كان أشدّ الموجودات تواضعًا هو الوجود المقدّس لأعرفِ خلق
1 الأربعون حديثًا، ص 127.
2 جنود العقل والجهل، ص 302.
420
358
الدرس الواحد والثلاثون: التواضع (1) - معنى التواضع, أهميّته ودرجاته
الله بالله وأعبد عباد الله خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّه أكمل الموجودات في مشاهدة كمال الرّبوبيّة ونقص العبوديّة.
وأهل هذه المرتبة، يتواضعون لمظاهر جمال الحقّ تعالى وجلاله، من أجله جلَّ وعلا وكفرع لتواضعهم له عزَّ وجلَّ، فتواضعهم لمظاهر جماله وجلاله ظِلٌّ لتواضعهم له جلَّ وعلا، وهم يقرنون هذا التواضع بالمحبة أيضًا، وحبّهم لمظاهر الحقّ تعالى تابعٌ لمحبتهم له جلَّ وعلا. وهذا التواضع المقترن بالحبّ هو أكمل مراتب التواضع"1.
الثاني: تواضع أهل المعرفة
"وهو من نمط تواضع الأولياء ولكن بمرتبة أدنى، لأنّ مقام المعرفة دون مقام المشاهدة الحضورية"2.
الثالث: تواضع الحكماء
"وهو يلي رتبةً تواضع أصحاب الرّتبتين المتقدّمتين، فالحكماء إذا حصلوا على مقام الحكمة الإلهيّة، وتنوّرت قلوبهم بنورها، صاروا متواضعين للحقّ تعالى ولخلقه، وقد ورد في حِكَمِ لقمان وصيّة خاصّة بهذا الأمر"3.
الرابع: تواضع المؤمنين
"الذين حصلوا بنور الإيمان على العلم بالله، وعرفوا أنفسهم بمقدار ما أضاءهُ لهم هذا النور الإيمانيّ، فصاروا متواضعين للحقّ تعالى ولخلقه"4.
نماذج من سيرة الأولياء في التّواضع
إنّ لمطالعة سيرة أولياء الله والدّين تؤكّد بما لا يترك مجالًا للشكّ ما ورد بشأن أهميّة التّواضع، وهي أعظم وسيلة لتحقيق هذه الخصلة الرّائعة بالنّسبة للمتأسّين، "إن ذكر أحوال العظماء والأولياء والأنبياء، في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ليس بهدف التسجيل
1 جنود العقل والجهل، ص 302-303.
2 (م.ن)، ص 303.
3 (م.ن)، ص 303.
4 (م.ن)، ص 303.
421
359
الدرس الواحد والثلاثون: التواضع (1) - معنى التواضع, أهميّته ودرجاته
التاريخيّ، بل لتكميل بني الإنسان من خلال الاعتبار بسيرةِ عظماء العالم، والاتّصاف بصفاتهم الكريمة وأخلاقهم الفاضلة. وهذا الحديث الشريف ينبغي للعلماء والأجلّاء بالدرجة الأولى أن يضعوه نصب أعينهم ويتّخذوه وصيّة أخلاقيّة دينيّة مستفادة من سيرة العلماء بالله وزعماء الدين، فيعلِّموا المتعلمين منهم العمل بهذه السيرة النبوية، ويتخلّقوا هم أنفسهم بهذه الأخلاق الإلهيّة العظيمة، ويتفكّروا في معنى اعتبار عيسى عليه السلام غسل أقدام الحواريين حاجةً له يطلبها، وهذا ما يعبِّر عن غاية التذلّل (للمؤمنين) ومنتهى التواضع... أمّا قوله عليه السلام: "بالتواضع تعمرُ الحكمة"1، فالمقصود فيه هو: إمّا أنّ بذور الحكمة لا تنمو في القلب الفاقد للتواضع مثلما أنّ النبتة لا تنمو في الأرض الصّلدة، وإمّا أن يكون المقصود هو أنّ العلماء لا يستطيعون بذر بذور الحكمة وتنميتها في قلوب الناس ما لم يكن العلماء أنفسهم متواضعين، فينبغي تليين القلوب القاسية بالتواضع، ثمّ بذر بذور الحكمة فيها وتوقّع الثّمار منها. وكلا هذين الاحتمالين صحيحان، فالأوّل يرتبط بإصلاح النّفس، والآخر بإصلاح الآخرين"2، وها نحن نذكر النّماذج لتكون لنا عبرة وتزيد من معرفتنا واطّلاعنا على حقيقة التّواضع وكيفيّته.
1- رسول الإسلام العظيم
"النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان علمه من الوحي الإلهيّ، وكانت روحه من العظمة بحيث أنّها بمفردها غلبت نفسيّات كلّ البشر، إنّ هذا النبيّ قد وضع جميع العادات الجاهليّة والأديان تحت قدميه، ونسخ جميع الكتب، واختتم دائرة النبوّة بشخصه الكريم، وكان هو سلطان الدّنيا والآخرة والمتصرّف في جميع العوالم بإذن الله، ومع ذلك كان تواضعه مع عباد الله أكثر من أيّ شخص آخر. كان يكره أن يقوم له أصحابه احترامًا، وإذا دخل مجلسًا لم يتصدّر ويتناول الطعام جالسًا على الأرض قائلًا: إنّني عبد، آكل مثل العبيد وأجلس مجلس العبيد3. لقد نُقل عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحبّ أن يركب الحمار
1 الكافي، ج1، ص37.
2 جنود العقل والجهل، ص 314-315.
3 في روايات متعددة أشير إلى خُلق وسلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعضها وردت في هذا الكتاب. عن أنس بن مالك قال: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا إليه لما يعرفون من كراهيته. وعن ابن عباس قال: كان رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلميجلس على الأرض ويأكل على الأرض ويعتقل الشاة ويجيب دعوة المملوك ويقولصلى الله عليه وآله وسلم: "أنا عبد اكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس ا لعبد"، كتاب مكرام الأخلاق, ص12 الفصل الثاني.
422
360
الدرس الواحد والثلاثون: التواضع (1) - معنى التواضع, أهميّته ودرجاته
من دون سرج، وأن يتناول الطّعام مع العبيد على الأرض، وكان يعطي الفقراء بكلتا يديه. كان ذلك الإنسان العظيم يركب الحمار مع غلامه أو غيره، ويجلس على الأرض مع العبيد، وفي سيرته أنّه كان يشترك في أعمال المنزل، ويحتلب الأغنام، ويرقع ثيابه ويخصف نعله بيده، ويطحن مع خادمه ويعجن، يحمل متاعه بنفسه، ويجالس الفقراء والمساكين ويأكل معهم1. هذه وأمثالها، نماذج من سيرة ذلك الإنسان العظيم وتواضعه، مع أنّه فضلًا عن مقامه المعنويّ كان في أكمل حالات الرئاسة الظاهريّة"2.
2- موسى الكليم
"فموسى الكليم مع ما له من المقام العظيم في النبوّة لم يقتنع بذلك المقام وما توقّف عند مقام علمه الشامخ، وبمجرّد أن لاقى شخصًا كاملًا كالخضر قال له بكلّ تواضع وخضوع: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾3 وصار ملازمًا لخدمته حتّى أخذ منه العلوم التي احتاج إليها"4.
3- عيسى روح الله
روي في الكافي الشّريف: "قال عيسى ابن مريم عليه السلام: يا معشر الحواريين لي إليكم حاجة اقضوها لي. قالوا: قُضيتْ حاجتُك يا روح الله، فقام فغسل أقدامهم. فقالوا: كنّا نحن أحقَّ بهذا يا روح الله. فقال: إنّ أحقَّ النّاس بالخدمة العالِمْ. إنّما تواضعتُ هكذا لكم لكي تتواضعوا بعدي في النّاس كتواضعي لكم!، ثمّ قال عيسى عليه السلام: بالتواضع تعمرُ الحكمةُ لا بالتكبّرِ، وكذلك في السهل ينبُتُ الزرعُ لا في الجبل"5.
1 كان يجلس على الأرض وينام عليها ويأكل عليها وكان يخصف النعل ويرفع الثوب ويفتح الباب ويحلب الشاة ويعقل البعير فيحلبها ويطحن مع الخادم إذا اعيى... ويخدم في مهنه أهله ويقطع اللحم, وإذا جلس على طعام جلس مُحقّراً... يركب ما أمكنه من فرس أو بغلة أو حمار ويركب الحمار بلا سرج وعليه العذار.. يجالس الفقراء والسماكين ويؤاكل المساكين ويناولهم بيده. بحار الأنوار, ج16 ص226، تاريخ نبينا صلى الله عليه وآله وسلم, باب مكارم أخلاقه الحديث 34.
2 الأربعون حديثًا، ص 122.
3 سورة الكهف، الآية 66.
4 معراج السالكين، ص 206.
5 جنود العقل والجهل، ص 314.
423
361
الدرس الواحد والثلاثون: التواضع (1) - معنى التواضع, أهميّته ودرجاته
المفاهيم الرئيسة
1- ينبغي لطلّاب الحقّ تعالى الذين يعتبرون أنفسهم من جنوده ويقيمون العبادات والمناسك ابتغاء التقرّب إلى الحقّ تعالى، أن يراقبوا أحوال نفوسهم بصورة كاملة ويتنبّهوا إلى أنّ ما يطلبونه لا يتحقّق إلّا بالاتّصاف بالتّواضع واجتناب التكبّر.
2- إنّ الله تعالى يرفع عباده بقدر تواضعهم له ويهديهم إلى أصول التواضع والخضوع بقدر اطّلاع عظمته على سرائرهم.
3- التّواضع من الصّفات النفسانيّة وإن كان معناه في الظّاهر العرفيّ واللغويّ هو التّصاغر.
4- إذا خرج الإنسان من الاحتجاب ورأى نفسه على حقيقتها وكما هي، رأى ضعتها وذلّها وأدرك نقصها وافتقارها. وإذا اقترنت هذه الحالة بحسن الظنّ بالآخرين، وتعظيم مخلوقات الحقّ تعالى ومظاهر جلاله وجماله عزّ وجلّ، ظهرت في نفسه ـ حينئذٍ وبصورة تدريجية ـ حال التذلّل، وهذه هي حال التّواضع القلبيّ.
5- الفرق بين التملّق والتوضع هو أنّ مصدرُ التّواضعِ هو العلمُ بالله وبالنفس، وغايته الله تعالى أو الفوز بكرامته، وثمرته الكمال الإنسانيّ، أمّا التملّق فمصدرهُ الشّرك والجهل، وغايته النّفس، وثمرته الذلّةُ والنّقص والعار.
6- درجات المتواضعين:
- الأولياء الكاملين والأنبياء العظام: هؤلاء أوجدت مشاهدتهم لكمال الرّبوبيّة وذلّة العبوديّة، حالًا في منتهى التّواضع والتذلّل في قلوبهم.
- تواضع أهل المعرفة: وهو من نمط تواضع الأولياء ولكن بمرتبة أدنى، لأنّ مقام المعرفة دون مقام المشاهدة الحضورية.
- تواضع الحكماء: حصلوا على مقام الحكمة الإلهيّة، وتنوّرت قلوبهم بنورها، صاروا متواضعين للحقّ تعالى ولخلقه.
- تواضع المؤمنين الذين حصلوا بنور الإيمان على العلم بالله، وعرفوا أنفسهم بمقدار ما أضاءهُ لهم هذا النور الإيمانيّ، فصاروا متواضعين للحقّ تعالى ولخلقه.
424
362
الدرس الواحد والثلاثون: التواضع (1) - معنى التواضع, أهميّته ودرجاته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَتَوَلَّنِي فِي جِيرَانِي وَمَوَالِيَّ الْعَارِفِينَ بِحَقِّنَا، وَالْمُنَابِذِينَ لأَعْدَائِنَا بِأَفْضَلِ وَلاَيَتِكَ... وَاجْعَلْنِي اللَّهُمَّ أَجْزِي بِالإِحْسَانِ مُسِيئَهُمْ، وَأُعْرِضُ بِالتَّجَاوُزِ عَنْ ظَالِمِهِمْ، وأَسْتَعْمِلُ حُسْنَ الظَّنِّ فِي كَافَّتِهِمْ، وَأَتَوَلَّى بِالْبِرِّ عَامَّتَهُمْ، وَأَغُضُّ بَصَرِي عَنْهُمْ عِفَّةً، وَأُلِينُ جَانِبِي لَهُمْ تَوَاضُعاً1.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "التّكبّر على المتكبّرين هو التّواضع بعينه"2.
2- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "مِنَ التَّوَاضُعِ أَنْ تَرْضَى بِالْمَجْلِسِ دُونَ الْمَجْلِسِ، وَأَنْ تُسَلِّمَ عَلَى مَنْ تَلْقَى، وَأَنْ تَتْرُكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كُنْتَ مُحِقّاً، وَأَنْ لَا تُحِبَّ أَنْ تُحْمَدَ عَلَى التَّقْوَى"3.
3- عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام قَالَ: "التَّوَاضُعُ أَنْ تُعْطِيَ النَّاسَ مَا تُحِبُّ أَنْ تُعْطَاهُ"4.
4- عن الحسن بن الجهم عن أبي الحسن الرّضا عليه السلام: "قُلْتُ مَا حَدُّ التَّوَاضُعِ الَّذِي إِذَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ كَانَ مُتَوَاضِعاً؟ فَقَالَ: التَّوَاضُعُ دَرَجَاتٌ مِنْهَا أَنْ يَعْرِفَ الْمَرْءُ قَدْرَ نَفْسِهِ فَيُنْزِلَهَا مَنْزِلَتَهَا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ لَا يُحِبُّ أَنْ يَأْتِيَ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا مِثْلَ مَا يُؤْتَى إِلَيْهِ، إِنْ رَأَى سَيِّئَةً دَرَأَهَا بِالْحَسَنَةِ، كَاظِمُ الْغَيْظِ، عَافٍ عَنِ النَّاسِ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"5.
5- عن الكاظم عليه السلام: "يَا هِشَامُ لِكُلِّ شَيْءٍ مَطِيَّةً وَمَطِيَّةُ الْعَقْلِ التَّوَاضُعُ، وَكَفَى بِكَ جَهْلًا أَنْ تَرْكَبَ مَا نُهِيْتَ عَنْه"6.
1 الإمام السجّاد، الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام لجيرانه.
2 شرح نهج البلاغة، ج20، ص 298.
3 الكافي، ج 2، ص 122.
4 (م.ن)، ص 124.
5 (م.ن).
6 (م.ن)، ج 1، ص 15.
425
363
الدرس الواحد والثلاثون: التواضع (1) - معنى التواضع, أهميّته ودرجاته
6- عَنِ الرِّضَا عليه السلام قَالَ: "مَنْ خَرَجَ فِي حَاجَةٍ وَمَسَحَ وَجْهَهُ بِمَاءِ الْوَرْدِ لَمْ يَرْهَقْ وَجْهَهُ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْ سُؤْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ يُرِيدُ بِهِ التَّوَاضُعَ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ الْبَتَّةَ"1.
7- قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "تُكْتَبُ الصَّلَاةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٌ مِنْهَا إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ، وَسَهْمٌ مِنْهَا الرُّكُوعُ، وَسَهْمٌ مِنْهَا السُّجُودُ، وَسَهْمٌ مِنْهَا الْخُشُوعُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الْخُشُوعُ؟ قَالَ: التَّوَاضُعُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنْ يُقْبِلَ الْعَبْدُ بِقَلْبِهِ كُلِّهِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ"2.
1 وسائل الشّيعة، ج 12، ص 120.
2 مستدرك الوسائل، ج1، ص 98.
426
364
الدرس الثاني والثلاثون: التواضع (2) - منشأ التوضع وكيفية اكتسابه
الدرس الثاني والثلاثون: التواضع (2) - منشأ التوضع وكيفية اكتسابه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن العلاقة الحاكمة بين العلم والتواضع.
2- يشرح دور حبّ الله ومعرفته وذكره وشكره في اكتساب التّواضع.
3- يتعرّف إلى دور الصّلاة والسّجود في تحصيل خلق التوّاضع.
427
365
الدرس الثاني والثلاثون: التواضع (2) - منشأ التوضع وكيفية اكتسابه
تمهيد
يحبّ النّاس التّواضع ويبجّلون المتواضعين. وتحكي التّجربة أنّ كل من تواضع للّه وفي سبيل الله رفعه الله وأكرمه.
فالفطرة العاشقة للكمال والسموّ والرّفعة ستنسجم مع هذه الفضيلة لأنّها في باطنها تمثّل هذا الكمال المطلوب، وإن ظهرت بصورة التبرّي منه.
إنّ المتواضع عندما ينزع عن نفسه صفات الكمال، فذلك لأنّه يؤمن بأنّ الكمال الحقّ لله تعالى بالأصالة. وإنّ كل كمال ظهر فيه إنّما هو محض التفضّل من الله عزّ وجلّ. فمن عرف الله وأحبّه نزّه نفسه عن أن تكون منازعة لربّه في أعظم صفاته وهو الكبرياء والتفرّد بالكمال الحقيقيّ.
منشأ التّواضع
يذكر الإمام الخمينيّ قدس سره مجموعة من الأمور التي تُعدّ من مناشئ التّواضع في النّفس. وكما نلاحظ، فإنّها جميعًا تصدر من منبع واحد هو العالم العلويّ، فمن لم يتّصل به لن يكون له حظٌّ من التّواضع، وإذا تواضع فإنّ تواضعه لا يكون إلّا تملّقًا.
1- الفطرة
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ التّواضع والخضوع والتّعظيم في مقابل العظيم الجليل، من الأُمور الفطريّة الرّاسخة في فطرة كلّ إنسان بحيث لا تجد بين البشر من يشذُّ عنها، فقلبُ أيِّ إنسان إذا أدرك عظمة شخص اندفع طواعيّة بفطرته ـ دون تأمّلٍ أو تردّد ـ إلى تجليله والخضوع تواضعًا له وتصاغرًا له أمام عظمته، بل ويعمد إلى التّواضع على المتّصلين به تبعًا للتّواضع له.
429
366
الدرس الثاني والثلاثون: التواضع (2) - منشأ التوضع وكيفية اكتسابه
وحيث أنّ الإنسان بفطرته متواضعٌ متذلّل (بالكامل) للعظيم المطلق والكبير بكلّ معنى الكلمة وبتمام حقيقتها، لذا فإنّه ـ إذا لم تحتجب فطرته السليمة ولم تختمر بمواد عالم الطبيعة فتخضع لأحكام هذا العالم ـ يقرّ بالتعظيم والتواضع ـ على نحو الاستقلال، للحقّ تعالى جلّت عظمته، لأنّه تعالى العظيم على الإطلاق، وكلّ عظمة وكبرياء وجلال وجمال ظِلٌ لعظمته تعالى وجلاله وجماله.
إذن، فالإنسان ـ بحسب فطرته الأصلية السليمة من حجب أحكام الطبيعة ـ متواضع للحقّ تعالى بالذات، ولمظاهر جماله وجلاله بالعرض. والتواضع لعباد الحقّ تعالى هو التّواضع عينه له جلَّ وعلا، ولا سبيل للنّفس والشّيطان إلى التأثير على هذا النّوع من التواضع المنبعث من الفطرة السليمة، لذلك لا يكون هذا التواضع ناشئًا من أهواء النفس، فهو منزَّهٌ عن الطمع في الحصول على منافعها، وصاحب هذه الفطرة السليمة غير المحجوبة لا يتواضع لغير الحقّ تعالى في الوقت نفسه الذي يتواضع لجميع خلق الله، لأنّ قلبه لا يتوّجه لغيره عزَّ وجلَّ، فالتكثير هنا هو التّوحيد عينه، والتّوجّه للخلق هو التوجه عينه للحقّ تعالى. وهذا الخُلْقُ الكريم يكون معرفة الله عينها، ومحبته تعالى لأنّه صادرٌ من تلك المعرفة وهذه المحبّة.
ولا يتملّق صاحبُ هذه الفطرة السليمة لأيِّ مخلوق، لأن منشأ التملّق هو حبّ النّفس والاحتجاب عن الحقّ تعالى وهو منزّهٌ عنهما. من هنا يتّضحُ أنّ التواضع للحقّ والخلق من لوازم الفطرة المخمّرة السليمة، وأنّ التكبر والتملّق هما من لوازم احتجاب الفطرة، لأنّ الإنسان إذا حجبته حجب النفس عن فطرته السليمة، وسيطر عليه حبّ النفس والتوجّه لها، أخذ يسجّل لنفسه ـ بدافع حبّها ـ الكثير من الكمالات، غافلًا عن مبدأ الكمالات، مستصغرًا الآخرين إذا لم يجد عندهم ما يثير طمعه المادي، ومعظّمًا لهم إذا وجد فيهم ما يطمع به، فيتكبّر على الضعاف ويتملّق لأهل الدنيا الذين يطمع بما عندهم"1.
2- العلم
إنّ العلم بصورةٍ عامّة ينبغي أن يكون منشأ للتّواضع، لأنّ العالم هو أكثر النّاس اطّلاعًا على جهله نظرًا لمعرفته بسعة العلم وما خفي عنه. لهذا، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "من
1 جنود العقل والجهل، ص 319-321.
430
367
الدرس الثاني والثلاثون: التواضع (2) - منشأ التوضع وكيفية اكتسابه
كان جهله أكبر وعقله أصغر كان تكبّره أكثر، ومن كان علمه أكثر وروحه أكبر وصدره أوسع، كان تواضعه أكثر"1.
ويقول قدس سره: "فاعلم، أنّ التواضع وليد العلم والمعرفة، والكبر وليد الجهل وانعدام المعرفة"2.
3- معرفة الله والنّفس
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "أمّا قوله عليه السلام: "إنّ أحقّ النّاس بخدمة الناس هو العالِمُ"، فهو يرجع إلى كون التّواضع ثمرة العلم بالله والعلم بالنفس، وهذا ما ينبغي تحقّقه في العلماء، فالعالم الذي لا يتميّز بالتواضع للناس بل يتوقّع منهم الخضوع والتواضع له، ليس بعالم، وما يختزنه من مفاهيم هو رجزُ الشيطان، ولو كانت هذه المفاهيم وسيلة للسعادة والسلامة لكان إبليس أيضًا من السّعداء، والعلم الذي يفقد خاصيّته الأصلية (وهي التواضع) هو حجابٌ غليظ يكون التحرّر منه وخرقه من أصعب الأُمور"3.
4- حبّ الله تعالى
"إنّ معرفة الله تؤدّي إلى حبّه عزَّ وجلّ، فإذا اكتمل هذا الحبّ تحرّر هذا الإنسان من أسر نفسه، فإذا تحرّر منها تحرّر من أسر العالم كلّه، وتخلّص من الطمع في نفسه وفي غيره، وتطهّر من رجز الشيطان ورجز الطبيعة، وأشرق النور الأزليّ في باطن قلبه، وانتقل منه إلى ظاهره وجوارحه، فنوّر جميع أفعاله وأقواله، وجعل كلّ قواه وجوارحه إلهيّة ونورانيَّة، فيكون في الوقت ذاته متواضعاً للجميع، ممتنعًا عن التملّق لأحدٍ، فلا يتطلّعُ بعين الطمع إلى ما عند أحد من الخلق، ولا يرجو شيئاً ممّا في أيديهم"4.
5- ذكر الله تعالى
وإذا كانت المعرفة سببًا لتحقّق الحبّ، لأنّ من عرف الله تعالى وكان على الفطرة الصّافية توجّه قلبه إلى مصداق الكمال الواقعيّ الذي تعشقه فطرته وتطلبه، فإنّ المحبّة كذلك هي السّبب الأهمّ للذّكر كما جاء في الأحاديث بأنّ من أحبّ شيئًا أكثر ذكره. والذّكر
1 الأربعون حديثًا، ص 122.
2 (م.ن)، ص 122.
3 جنود العقل والجهل، ص 315.
4 (م.ن)، ص 305.
431
368
الدرس الثاني والثلاثون: التواضع (2) - منشأ التوضع وكيفية اكتسابه
ليس سوى استحضار عظمة المحبوب في القلب. ومن كان كذلك كيف له أن يتكبّر. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم أنّ ذكر الله تعالى يجعل القلب مُعرِضًا عن جميع منازل الطبيعة ومناظرها، بل ويجعل كلّ العالم بكل ما فيه عدمًا لا قيمة له في عينه، فلا يتعلّق بشيءٍ منه، بل ينحصر تعلّقه بالحقّ تعالى وحده، حتى تبلغ همّته مرتبةً من العلّو لا يقيم معها وزنًا لجميع عوالم الوجود، وعندها لا تضعف همّته بسبب الواردات القلبيّة مهما كانت، فلا يستشعر الكِبَر في نفسه بسبب هذه الواردات بل إنّه يستصغر كلّ شيء غير الحقّ تعالى وآثار جماله وجلاله، وهذه الحال هي بحدِّ ذاتها سببٌ لتواضعه له عزّ وجلّ بالأصالة، ولخلقه بالتبعية، لأنّه يرى الخَلْقَ من الحقّ تعالى... إذًا، فحبُّ الله تعالى يثمر سعة الصدر، وهذه السّعة تولّد التواضع وعزّة النفس"1.
6- شكر الله
وعندما يعرّف الإمام ماهيّة الشّكر يذكر له ثمرة مهمّة هي التّواضع، فيقول قدس سره: "الشكر عبارة عن مقابلة النّعمة بالقول أو الفعل أو النيّة، وله ثلاث أركان: الأوّل: معرفة المنعم وما يليق به من صفات ومعرفة النّعمة. الثاني: الحال القلبيّة التي تثمرها هذه المعرفة، وهي حال الخضوع للمنعم والتواضع له"2.
7- شرح الصّدر
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم أنّ أسباب التواضع والتكبُّر وموجباتهما كثيرة، منها شرح الصدر وضيقه: فالمتحليّ بشرح الصدر لا يولي أهمّية لما يراه في نفسه من كمال وجمال ومال ونفوذ وحشمة، ولا يستعظمه، لأن سعته الوجودية كبيرة إلى درجة تجعله يتغلّب على جميع الواردات القلبية، فلا يضيق وعاؤُهُ الوجوديّ بشيءٍ. وهذه السّعة في الصّدر وليدة معرفة الحقّ تعالى، وهي التي توصل قلوب المتألّهين للأنس بالله إلى مقام الاطمئنان والسّكينة والطمأنينة"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 304-305.
2 (م.ن)، ص 174.
3 (م.ن)، ص 304.
432
369
الدرس الثاني والثلاثون: التواضع (2) - منشأ التوضع وكيفية اكتسابه
كيفيّة اكتساب التّواضع
1- التأسّي بأولياء الله
ذكرنا أنّ من أهم عوامل اكتساب التّواضع وتحصيله التأسّي. وعندما يعرف السّالك أسباب التّواضع ويعمل عليها، فإنّها ستثمر هذه الصّفة الفاضلة.
يقول الإمام قدس سره: "فيا أيّها العزيز! إذا كان التكبّر بالكمال المعنويّ، فقد كان الرّسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام أرفع شأنًا، وإذا كان بالرئاسة والسلطان، فقد كانت لهما الرئاسة الحقّة. ومع ذلك، كانا أشدّ الناس تواضعًا. فاعلم، أنّ التواضع وليد العلم والمعرفة، والكبر وليد الجهل وانعدام المعرفة، فامسح عن نفسك عار الجهل والانحطاط، واتّصف بصفات الأنبياء، واترك صفات الشيطان، ولا تنازع الله في ردائه ـ الكبرياء ـ فمن ينازع الحقّ في ردائه فهو مغلوبٌ ومقهورٌ بغضبه، ويُكَبُّ على وجهه في النار"1.
2- العمل بخلاف هوى النّفس
فبالإضافة إلى ما ذُكر يوصي الإمامقدس سره بطريقة عمليّة معروفة في تهذيب النّفس وهي العمل بالخلاف أو مخالفة النّفس، فيقول: "إذا عزمت على إصلاح نفسك، فطريقه العمليّ أمرٌ يسير مع شيء من المثابرة، وإنّه طريق لو اتّصفت بهمّة الرجال وحرية الفكر وعلوّ النظر، فلن تصادفك أيّة مخاطر. فإنّ الأسلوب الوحيد على النّفس الأمّارة، وقهر الشيطان، ولاتّباع طريق النجاة، هو العمل بخلاف رغباتهما. إنّه لا يوجد سبيل أفضل لقمع النفس من الاتّصاف بصفة التواضع ومن السير وفق مسيرة المتواضعين فحيثما تكن درجة التكبر عندك، ومهما تكن طريقتك في العلم والعمل، اعمل قليلًا بخلاف هوى نفسك، فإنّ مع الإلتفات إلى الملاحظات العلميّة تجاه التكبر، والانتباه إلى النتائج المطلوبة. إذا رغبت بأن تتصدر المجلس متقدّمًا على أقرانك، فخالفها واعمل عكس ما ترغب فيه. وإذا كانت نفسك تأنف من مجالسة الفقراء والمساكين، فمرِّغ أنفها في التراب وجالسهم وآكلهم ورافقهم في السفر ومازحهم، وقد تجادلك نفسك فتقول لك: إنّ لك مقامًا ومنزلةً، وإنّ عليك أن تحافظ على مقامك من أجل ترويج الشريعة والعمل في سبيلها، فمجالستك الفقراء تذهب بمنزلتك
1 الأربعون حديثًا، ص 122.
433
370
الدرس الثاني والثلاثون: التواضع (2) - منشأ التوضع وكيفية اكتسابه
من القلوب، وإنّ المزاح مع مَنْ هو دونك، يقلّل من عظمتك، وجلوسك في ذيل المجلس يحطّس من هيبتك، فلا تقدر أن تؤدّي واجبك الشّرعيّ على خير وجه!! اعلم، أنّ هذه كلّها من مكائد الشيطان والنفس الأمارة"1.
3- الصلاة
يقول الإمام قدس سره: "الصلاة هي جوهر التواضع والخشوع، ولبّها هو هجران النفس، والسفر إلى الله فهي "معراج المؤمن"2.
4- السّجود
"ولا بعُد عن الله أبدًا من أحسن تقرّبه في السجود، ولا قرُب إليه أبدًا من أساء أدبه وضيّع حرمته بتعلّق قلبه بسواه في حال سجوده، فاسجد سجود متواضعٍ لله تعالى ذليل علم أنّه خُلق من تراب يطؤه الخلق وأنّه اتّخذك (ركب) من نطفة يستقذرها كلّ أحد وكون ولم يكن، وقد جعل الله معنى السّجود سبب التقرّب إليه بالقلب والسرّ والروح فمن قرب منه بعُد من غيره."... واعلم أنّ في السجود كسائر الأوضاع الصلاتية هيئة وحالة وذكرًا وسرًّا. وهذه الأمور للكمّل على نحو قد بيّنت في هذه الرسالة إشارةً وأما بيانها تفصيلًا فغير مناسب. وأمّا للمتوّسطين فهيئته إراءة المتربة وترك الاستكبار والعجب وإرغام الأنف وهو من المستحبّات المؤكّدة بل تركه خلاف الاحتياط إظهارًا لكمال التخضّع والتذلّل والتواضع"3.
موعظة للإمام
عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما مِنً عَبدٍ إلاَّ وَفِي رَأْسِهِ حِكَمَة وَمَلِكٌ يُمْسِكِهَا، فَإِذَا تَكَبَّرَ قَالَ لَهُ: اتّضعْ وَضَعَكَ اللهُ، فَلا يَزَالُ أَعْظَمُ النَّاسِ فِي نَفْسِهِ وَأَصْغَرُ النَّاسِ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ. وَإِذَا تَوَاضَعَ رَفَعَهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ. ثُمَّ قَالَ: انْتَعِشْ الله، فَلا يَزَالُ أَصْغَرُ النَّاسِ فِي نَفْسِهِ وَأَرْفَعُ النَّاسِ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ"4. فيا أيّها العزيز ما يحتوي عليه رأسك من الدّماغ،
1 (م.ن)، ص 122-123.
2 جنود العقل والجهل، ص 77.
3 معراج السالكين، ص 356.
4 الكافي ج2، ص312.
434
371
الدرس الثاني والثلاثون: التواضع (2) - منشأ التوضع وكيفية اكتسابه
تحتويه رؤوس الآخرين أيضًا، إذا كنت متواضعًا، احترمك الناس قهرًا واعتبروك كبيرًا، وإذا تكبّرت على النّاس لم تنل منهم شيئًا من الاحترام. بل إذا استطاعوا أن يذلوك لأذلوك ولم يكترثوا بك. وإن لم يستطيعوا إذلالك، لكنت وضيعًا في قلوبهم، وذليلًا في أعينهم، ولا مقام لك عندهم. افتح قلوب النّاس بالتّواضع فإذا أقبلت عليك القلوب ظهرت آثارها عليك وإن أدبرت تكون آثارها على خلاف رغباتك.
فإذا فرضنا أنّك كنت من المبتغين للاحترام والمقام الرفيع، لكان اللازم عليك أن تسلك الطّريق الذي يفضي بك إلى الاحترام والسموّ، وهو مجاراة الناس والتّواضع لهم. إنّ التكبّر ينتج ما هو على خلاف طلبك وقصدك. إنّك لا تكسب من وراء التكبّر نتيجة دنيويّة مجدية، بل ستحصد من ورائه نتيجة معكوسة. ويُضاف إلى ذلك أنّ مثل هذا الخُلُق يوجب الذلّ في الآخرة والمسكنة في ذلك العالم. فكما أنّك احتقرت الناس في هذا العالم، وترفّعت على عباد الله وتظاهرت أمامهم بالعظمة والجلال والعزّة والاحتشام، كذلك تكون صورة هذا التكبر في الآخرة، الهوان"1.
1 الأربعون حديثًا، ص 111.
435
372
الدرس الثاني والثلاثون: التواضع (2) - منشأ التوضع وكيفية اكتسابه
المفاهيم الرئيسة
1- منشأ التّواضع:
- الفطرة: قلبُ أيِّ إنسان إذا أدرك عظمة شخص اندفع طواعيّة بفطرته ــ دون تأمّلٍ أو تردّد ــ إلى تجليله والخضوع تواضعًا له، وتصاغرًا له أمام عظمته.
- العلم: لأنّ العالم هو أكثر النّاس اطّلاعًا على جهله.
- معرفة الله والنفس: التّواضع ثمرة العلم بالله والعلم بالنفس.
- حبّ الله: إنّ معرفة الله تؤدّي إلى حبّه عزَّ وجلّ، فإذا اكتمل هذا الحبّ تحرّر هذا الإنسان من أسر نفسه، فإذا تحرّر منها تحرّر من أسر العالم كلّه، وتخلّص من الطمع في نفسه وفي غيره، فيكون في الوقت ذاته متواضعاً للجميع.
- ذكر الله: يجعل القلب مُعرِضًا عن جميع منازل الطبيعة ومناظرها، بل ويجعل كلّ العالم بكل ما فيه عدمًا لا قيمة له في عينه، فينحصر تعلّقه بالحقّ تعالى وحده.
- الشكر: الشكر عبارة عن مقابلة النّعمة بالقول أو الفعل أو النيّة، والحال القلبيّة التي تثمرها المعرفة بالمنعم، هي حال الخضوع للمنعم والتواضع له.
- شرح الصّدر: فالمتحلي بشرح الصدر لا يولي أهميّةً لما يراه في نفسه من كمال وجمال ومال ونفوذ وحشمة ولا يستعظمه، لأنّ سعته الوجودية كبيرة إلى درجة تجعله يتغلّب على جميع الورادات القلبيّة، فلا يتكبّر.
2- كيفيّة اكتساب التواضع:
- التأسّي بأولياء الله (الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته، موسى وعيسى عليهما).
- العمل بخلاف هوى النّفس: لا يوجد سبيل أفضل لقمع النفس من الاتّصاف بصفة التواضع ومن السّير وفق مسيرة المتواضعين فحيثما تكن درجة التكبر عندك، ومهما تكن طريقتك في العلم والعمل، اعمل قليلًا بخلاف هوى نفسك.
- الصلاة: الصلاة هي جوهر التواضع والخشوع.
- السجود: فاسجد سجود متواضعٍ لله تعالى ذليل علم أنّه خُلق من تراب يطؤه الخلق وأنّه اتّخذك (ركب) من نطفة يستقذرها كلّ أحد وكون ولم يكن.
436
373
الدرس الثاني والثلاثون: التواضع (2) - منشأ التوضع وكيفية اكتسابه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ إِنِّي أَخْلَصْتُ بِانْقِطَاعِي إِلَيْكَ وَأَقْبَلْتُ بِكُلِّي عَلَيْكَ وَصَرَفْتُ وَجْهِي عَمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَى رِفْدِكَ وَقَلَبْتُ مَسْأَلَتِي عَمَّنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ فَضْلِكَ وَرَأَيْتُ أَنَّ طَلَبَ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْمُحْتَاجِ سَفَهٌ مِنْ رَأْيِهِ وَضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ فَكَمْ قَدْ رَأَيْتُ يَا إِلَهِي مِنْ أُنَاسٍ طَلَبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِكَ فَذَلُّوا، وَرَامُوا الثَّرْوَةَ مِنْ سِوَاكَ فَافْتَقَرُوا، وَحَاوَلُوا الاِرْتِفَاعَ فَاتَّضَعُوا، فَصَحَّ بِمُعَايَنَةِ أَمْثَالِهِمْ حَازِمٌ وَفَّقَهُ اعْتِبَارُهُ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى طَرِيقِ صَوَابِهِ اخْتِيَارُهُ"1.
الروايات الشريفة:
1- عَنِ الصَّادِقِ عليه السلام قَالَ: "كَمَالُ الْعَقْلِ فِي ثَلَاثَةٍ: التَّوَاضُعِ لِلهِ وَحُسْنِ الْيَقِينِ وَالصَّمْتِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ"2.
2- وَقَالَ عليه السلام: "يَا هِشَامُ إِنَّ الزَّرْعَ يَنْبُتُ فِي السَّهْلِ وَلَا يَنْبُتُ فِي الصَّفَا فَكَذَلِكَ الْحِكْمَةُ تَعْمُرُ فِي قَلْبِ الْمُتَوَاضِعِ وَلَا تَعْمُرُ فِي قَلْبِ الْمُتَكَبِّرِ الْجَبَّارِ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ التَّوَاضُعَ آلَةَ الْعَقْلِ وَجَعَلَ التَّكَبُّرَ مِنْ آلَةِ الْجَهْلِ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ مَنْ شَمَخَ إِلَى السَّقْفِ بِرَأْسِهِ شَجَّهُ وَمَنْ خَفَضَ رَأْسَهُ اسْتَظَلَّ تَحْتَهُ وَأَكَنَّهُ، فَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَتَوَاضَعْ لِلهِ خَفَضَهُ اللهُ وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلهِ رَفَعَهُ إِلَى أَنْ قَالَ عليه السلام: وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَمْ يَرْفَعِ الْمُتَوَاضِعِينَ بِقَدْرِ تَوَاضُعِهِمْ وَلَكِنْ رَفَعَهُمْ بِقَدْرِ عَظَمَتِهِ وَمَجْدِهِ"3.
3- وَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: "الْأَكْلُ مَعَ الخُدَّامِ مِنَ التَّوَاضُعِ فَمَنْ أَكَلَ مَعَهُمُ اشْتَاقَتْ إِلَيْهِ الْجَنَّةُ"4.
4- عَنِ الصَّادِقِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: "أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ الْعِلْمُ بِاللهِ وَالتَّوَاضُعُ لَهُ"5.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام متفزعًا إلى الله عز وجل.
2 مستدرك الوسائل، ج 11، ص 296.
3 (م.ن)، ص 299.
4 (م.ن)، ج 16، ص 331.
5 (م.ن)، ج 11، ص 300.
437
374
الدرس الثاني والثلاثون: التواضع (2) - منشأ التوضع وكيفية اكتسابه
5- قَالَ أمير المؤمنين عليه السلام: "مَنْ تَوَاضَعَ لِلْمُتَعَلِّمِينَ وَذَلَّ لِلْعُلَمَاءِ سَادَ بِعِلْمِهِ فَالْعِلْمُ يَرْفَعُ الْوَضِيعَ وَتَرْكُهُ يَضَعُ الرَّفِيعَ وَرَأْسُ الْعِلْمِ التَّوَاضُعُ"1.
6- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَذْكُرُ: "أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَلَكٌ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُخَيِّرُكَ أَنْ تَكُونَ عَبْداً رَسُولًا مُتَوَاضِعاً أَوْ مَلِكاً رَسُولًا، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَى جَبْرَئِيلَ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ: عَبْداً مُتَوَاضِعاً رَسُولًا، فَقَالَ الرَّسُولُ: مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُكَ مِمَّا عِنْدَ رَبِّكَ شَيْئاً، قَالَ: وَمَعَهُ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ الْأَرْضِ"2.
1 بحار الأنوار، ج75، ص 6.
2 الكافي، ج2، ص 122.
438
375
الدرس الثالث والثلاثون: الصمت
الدرس الثالث والثلاثون: الصمت
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يميّز الصّمت الممدوح والذي يُعدّ فضيلة عن غيره.
2- يتعرّف إلى أهميّة الصّمت وآثاره.
3- يفهم الأمور التي تعين على تحصيل فضيلة الصّمت.
439
376
الدرس الثالث والثلاثون: الصمت
تمهيد
الصّمت فعل، بل هو أقلّ من ذلك، إنّه ترك، لا يحتاج إلى مؤونة، لكنّه إذا صار سِمة شخصيّة كان خُلُقًا عظيمًا، لأنّه يتطلّب جهدًا كبيرًا. وكأنّ النّفس إذا خُلّيت وطبعها مالت إلى الكلام فكيف إذا كانت أمّارة بالسّوء؟! بل كيف إذا رأت في الكلام تعزيزًا لشأنها وتحصيلًا لمرادها وأهوائها؟!
عندئذٍ يشبه حال الصّمت كمن يوقف قطارًا ينزلق بسرعة كبيرة. وكثيرٌ من النّاس لا يقدرون عليها بالرّغم من أنّه في الظّاهر لا يستلزم شيئًا. فلماذا كان الصّمت شعار المؤمنين في مراتبهم العالية؟ وكيف يمكن أن نصل إلى هذه الفضيلة العظيمة؟
ماهيّة الصّمت
لا شكّ بأنّ الكلام وسيلة من وسائل تأمين الحاجات المختلفة، وبواسطته تسهل عمليّة التّواصل بين النّاس في حياتهم الاجتماعيّة التي اضطرّوا إليها، على قاعدة أنّ الإنسان مدنيّ بالاضطرار، فما دامت الحياة الاجتماعيّة قائمة، احتاج الإنسان إلى جملة من الأمور التي يؤمّن بها معاشه.
وبالنّظر إلى تشعّب الحياة الاجتماعيّة وتعقيداتها ونشوء الأنظمة المختلفة تشكّل الكثير من العوائق في طريق تأمين الاحتياجات، ترجع كلّها أو جلّها إلى سيطرة الأهواء والأطماع وتحوّلها إلى أنظمة حكم، فازدادت الحاجة إلى الكلام وتخطّت حدود الاحتياجات الأوّليّة. وبسبب ذلك تضاعفت مساحات الكلام والتّواصل الشفهيّ أضعافًا كثيرة. ومع كلّ زيادة ازداد وقوع النّاس في الأخطاء وكثرت زلّاتهم نتيجة كثرة كلامهم. "ومن كثُر كلامه كثر
441
377
الدرس الثالث والثلاثون: الصمت
خطؤه"1. ومع كثرة الأخطاء تكثر الأضرار وتزداد الشّرور، وكان لا بدّ من إيقاف هذا المسلسل بواسطة بعث الأنبياء لكي يعيدوا الحياة الاجتماعيّة إلى وضعها الأوّليّ، ويضعوا حدًّا لمسيرة الانزلاق المتفاقمة.
في هذا المجال، عمل أولياء الله من أجل خلاص النّاس والمجتمعات على خطّين متوازيين.
الأوّل: تأمين البيئة الاجتماعيّة التي تقلّل من استعمال اللسان،
والثّاني: البناء الأخلاقيّ والمعنويّ الذي يوجّه الإنسان إلى أمور كثيرة تغنيه عن العديد من مجالات التّواصل الشفهيّ. فالكلام اضطرار في اضطرار.
ومن جملة أولياء الله كان الإمام الخمينيّ قدس سره الذي تحدّث عن فضيلة الصّمت وأهميّـته، وبيّن موقعيّته في منظومة الأخلاق الإسلاميّة ودوره في هداية الإنسان نحو الغاية المنشودة.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "الصمت هو السّكوت، لكن المراد هنا ليس السّكوت المطلق فهذا ليس من جنود العقل، وليس أفضل من الكلام، بل إنّ الكلام في محلّه المناسب أفضل من السّكوت. لأنّه بالكلام تُنشر المعارف والحقائق الدينية وتُروّجُ المعالم والآداب الشرعيّة، والله تعالى متّصفٌ به، ومن أوصافه الجميلة (وكل أوصافه جميلة) أنّه المتكلِّم. لذلك لم يجعل هنا الحديث الشريف (حديث جنود العقل والجهل) "التكلّم" ضدًّا للصمت، بل جعل ضدّه "الهَذَر" ـ بفتحتين ـ وهو الهذيان، والكلام بالأمور الفارغة غير المفيدة. إذًا، فالممدوح شرعًا وعقلًا والذي هو من جنود العقل، السكوت عن الهذيان والهذر"2.
وبهذا البيان يُعلم أنّ فضيلة الصّمت بالإضافة لا مطلق الصّمت. وعلى هذا الأساس، ينبغي أن نفسّر الأحاديث والرّوايات التي حثّت عليه، وجعلته من صفات المؤمنين ومن علائم الإيمان كما جاء عن الإمام الصّادق عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: "فِي حَدِيثٍ فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَلْسِنَتُهُمْ مَسْجُونَةٌ وَصُدُورُهُمْ وِعَاءٌ لِسِرِّ اللهِ إِنْ وَجَدُوا لَهُ أَهْلًا (نَبَذُوهُ إِلَيْهِ نَبْذاً) وَإِنْ لَمْ يَجِدُوا لَهُ أَهْلًا أَلْقَوْا عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ أَقْفَالًا غَيَّبُوا مَفَاتِيحَهَا وَجَعَلُوا عَلَى أَفْوَاهِهِمْ أَوْكِيَةً صُلَّبٌ صِلَابٌ أَصْلَبُ مِنَ الْجِبَالِ لَا يُنْحَتُ مِنْهُمْ شَيْءٌ خُزَّانُ"3.
1 نهج البلاغة، ص 536.
2 جنود العقل والجهل، ص 345.
3 مستدرك الوسائل، ج9، ص 26.
442
378
الدرس الثالث والثلاثون: الصمت
أهميّة الصّمت
ذكر الإمام قدس سره بأنّ الصّمت من أعظم الإنجازات، وذكرت الأحاديث الشّريفة مجموعة مهمّة من نتائج الصمّت وثوابه.
1- الصّمت من الكمالات
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ولا ريب في أنّ هذا الصمت وحفظ اللسان من اللغو والباطل هو من الفضائل والكمالات الإنسانيّة، بل إنّ السّيطرة على هذه الأفعى المتمرّدة اللسان، وتطويعها للإرادة الذاتيّة، من أعظم الإنجازات ولكن قَلَّ مَنْ يُوفَّقُ لذلك، لأنَّ للّسان آفات ومخاطر أوصلها بعضهم إلى قرابة العشرين آفة ولعلّها أكثر من ذلك أيضًا"1.
2- في الصّمت النّجاة والراحة في الدّنيا والآخرة
وفي مصباح الشّريعة: "قَالَ الإمام الصَّادِقُ عليه السلام: "الصَّمْتُ شِعَارُ الْمُحَقِّقِينَ بِحَقَائِقِ مَا سَبَقَ وَجَفَّ الْقَلَمُ بِهِ، وَهُوَ مِفْتَاحُ كُلِّ رَاحَةٍ مِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وفِيهِ رِضَا الرَّبِّ وَتَخْفِيفُ الْحِسَابِ وَالصَّوْنُ مِنَ الْخَطَايَا وَالزَّلَلِ، قَدْ جَعَلَهُ اللهُ سِتْرًا عَلَى الْجَاهِلِ وَزَيْناً لِلْعَالِمِ، وَمَعَهُ عَزْلُ الْهَوَاءِ وَرِيَاضَةُ النَّفْسِ وَحَلَاوَةُ الْعِبَادَةِ وَزَوَالُ قَسْوَةِ الْقَلْبِ وَالْعَفَافُ وَالْمُرُوَّةُ وَالظَّرْفُ، فَاغْلِقْ بَابَ لِسَانِكَ عَمَّا لَكَ بُدٌّ مِنْهُ لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ تَجِدْ أَهْلًا لِلْكَلَامِ وَالْمُسَاعِدَ فِي الْمُذَاكَرَةِ لِلهِ وفِي اللَّهِ، وَكَانَ رَبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ يَضَعُ قِرْطَاساً بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَكْتُبُ مَا يَتَكَلَّمُ، ثُمَّ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ فِي عَشِيَّتِهِ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ وَيَقُولُ: أَوِّهْ نَجَا الصَّامِتُونَ وَبَقِينَا، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: يَضَعُ حَصَاةً فِي فَمِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا عَلِمَ أَنَّهُ لِلهِ وَفِي اللهِ وَلِوَجْهِ اللهِ أَخْرَجَهَا، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَتَنَفَّسُونَ تَنَفُّسَ الْغَرْقَى وَيَتَكَلَّمُونَ شِبْهَ الْمَرْضَى، وَإِنَّمَا سَبَبُ هَلَاكِ الْخَلْقِ وَنَجَاتِهِمْ الْكَلَامُ وَالصَّمْتُ، فَطُوبَى لِمَنْ رُزِقَ مَعْرِفَةَ عَيْبِ الْكَلَامِ وَصَوَابِهِ وَعَلِمَ الصَّمْتَ وَفَوَائِدَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ وَشِعَارِ الْأَصْفِيَاءِ وَمَنْ عَلِمَ قَدْرَ الْكَلَامِ أَحْسَنَ صُحْبَةَ الصَّمْتِ وَمَنْ أَشْرَفَ عَلَى مَا فِي لَطَائِفِ الصَّمْتِ وائْتَمَنَهُ عَلَى خَزَائِنِهِ كَانَ كَلَامُهُ وَصَمْتُهُ كُلُّهُ عِبَادَةً وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى عِبَادِتِهِ إِلَّا المَلِكُ الْجَبَّارُ"2.
1 جنود العقل والجهل، ص 345.
2 بحار الأنوار، ج68، ص 284.
443
379
الدرس الثالث والثلاثون: الصمت
3- الصّمت أساس العزّ
كما جاء عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى حيث قَالَ: "حَضَرْتُ أَبَا الْحَسَنِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَوْصِنِي فَقَالَ لَهُ احْفَظْ لِسَانَكَ تُعَزَّ وَلَا تُمَكِّنِ النَّاسَ مِنْ قِيَادِكَ فَتُذِلَّ رَقَبَتَكَ"1.
4- في الصّمت الرّجوع إلى جوار الله
ومن أعظم ما قيل في قلّة الكلام ما ورد عن القطب الراوندي في قصص الأنبياء: "إِنَّ آدَمَ عليه السلام لَمَّا كَثُرَ وُلْدُهُ وَوُلْدُ وُلْدِهِ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ عِنْدَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ فَقَالُوا: يَا أَبَهْ مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّم؟ُ فَقَالَ: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ لَمَّا أَخْرَجَنِي مِنْ جِوَارِهِ عَهِدَ إِلَيَّ وَقَالَ أَقِلَّ كَلَامَكَ تَرْجِعْ إِلَى جِوَارِي"2. وكأنّ الصّمت منهاج الرّجوع إلى الله تعالى كلّه.
5- السّلامة من النّار
وفيه السّلامة من أعظم البلايا وهي النّار كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "رَحِمَ اللهُ عَبْداً تَكَلَّمَ فَغَنِمَ أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ إِنَّ اللِّسَانَ أَمْلَكُ شَيْءٍ لِلْإِنْسَانِ أَلَا وَإِنَّ كَلَامَ الْعَبْدِ كُلَّهُ عَلَيْهِ إِلَّا ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى أَوْ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ إِصْلَاحٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَا رَسُولَ اللهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا نَتَكَلَّم؟ فَقَالَ لَهُ: وَهَلْ تَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ فَمَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ فَلْيَحْفَظْ مَا جَرَى بِهِ لِسَانُهُ"3.
6- خُلُق الأولياء
ويكفيه عظمة أنّه من أخلاق من كان أخا عليّ بن أبي طالب عليه السلام كما رُوي عنه في نهج البلاغة: "كَانَ لِي فِيمَا مَضَى أَخٌ فِي اللهِ وَكَانَ يُعْظِمُهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ إِلَى أَنْ قَالَ وَكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً إِلَى أَنْ قَالَ وَكَانَ إِذَا غُلِبَ عَلَى الْكَلَامِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى السُّكُوتِ وَكَانَ عَلَى أَنْ يَسْمَعَ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ إِلَى أَنْ قَالَ فَعَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْخَلَائِقِ فَالْزَمُوهَا"4.
1 الكافي، ج2، ص 113.
2 بحار الأنوار، ج11، ص180.
3 الكافي، ج2، ص 115.
4 نهج البلاغة، ص526.
444
380
الدرس الثالث والثلاثون: الصمت
وفي قصّة: "مَرَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَخْلَاطِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ فِيهِمْ مُهَاجِرِيٌّ وَلَا أَنْصَارِيٌّ وَهُمْ قُعُودٌ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ (وَ) إِذَا هُمْ يَخُوضُونَ فِي أَمْرٍ لِلْقَدَرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ قَدِ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ وَاشْتَدَّ فِيهِ مَحَكُهُمْ وَجِدَالُهُمْ فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ فَرَدُّوا عَلَيْهِ وَأَوْسَعُوا لَهُ وَقَامُوا إِلَيْهِ يَسْأَلُونَهُ الْقُعُودَ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَحْفِلْ بِهِمْ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ ولَمْ يَرِدْ عَلَيْهِمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ لِلهِ عِبَاداً قَدْ أَسْكَتَتْهُمْ خَشْيَتُهُ مِنْ غَيْرِ عِيٍّ وَلَا بَكَمٍ وَأَنَّهُمْ لَهُمُ الْفُصَحَاءُ الْعُقَلَاءُ الْأَلِبَّاءُ الْعَالِمُونَ بِاللهِ وَأَيَّامِهِ"1.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إن الكلام، ولا شك، هو من كمالات الوجود، والتكلّم منشأ للكثير من الكمالات أيضاً، فلولاه لكانت أبواب المعارف موصدة، لذلك فقد ذكره الله تعالى في القرآن الكريم بجميل الذكر فقال في سورة الرحمن: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾2. فقدّم تعليم البيان على جميع نعمه الأخرى. وهو تبارك وتعالى في مقام ذكر مننه على بني الإنسان. ومع ذلك، فقد رجّحوا عليه الصّمت والسّكوت لأنَّه من غير الممكن حصول الاطمئنان من السلامة من آفاته، ولصعوبة حفظه والسيطرة عليه"3."
ومن هذا الكلام يُعلم أنّ ترجيح الصّمت على الكلام يرجع إلى الحالة الغالبة على النّاس كما ذكرنا. ففي ظلّ تلك البيئة الاجتماعيّة سيكون الأصل هو الكلام العابث واللغويّ مع ما سيجرّه من أخطاء وذنوب، ويكون التّرجيح بسبب هذه الأوضاع.
ويقدّم الإمام الخمينيّ قدس سره منهاجًا كاملًا للتّعامل مع الكلام وموقع الصّمت في الحياة ضمن وصيّة خاصّة لأهل السّلوك وطلّاب المعنى.
منهاج الصّمت
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وكان أهل الرياضات ليلزمون أنفسهم بالسّكوت كأمرٍ حتميّ، ويهتمّون لأجله بالخلوة والعزلة رغم أنّ في مجالسة أهل المعرفة والعلماء وأهل الإقبال
1 مستدرك الوسائل، ج7، ص 542.
2 سورة الرحمن، الآيات 1-4.
3 جنود العقل والجهل، ص 346.
445
381
الدرس الثالث والثلاثون: الصمت
والتوجّه إلى الله والرياضات، فوائد كثيرة وعائدات لا تُحصى، في حين أنّ في العزلة حرمانًا من الكثير من المعارف والعلوم، كما أنّ خدمة الخلق ـ وهي من أفضل الطاعات والقربات ـ تحصل عادة من خلال المعاشرة، لكنّ مشايخ أهل الرياضات يرجّحون العزلة على المعاشرة بسبب كثرة آفات المعاشرة، وصعوبة حفظ الإنسان، في الأعمّ الأغلب، نفسه منها.
والحقّ في الأمر أنّ على الإنسان في البداية ـ وعند اشتغاله بالتعلّم والاستفادة ـ أن يجالس العلماء والفضلاء، ولكن مع حفظ آداب العشرة ورعاية ومعرفة أحوال وأخلاق المعاشرين، كما يجب عليه أن يستفيد من مشايخ وعظماء أهل التّوجّه إلى الله في بدايات سيره وسلوكه، وفي أواسطه وأوائل نهاياته. فهو مضطرٌ للعشرة في هذه المرحلة.
أمّا إذا وصل إلى مرحلة نهايات سلوكه، فينبغي له التفرّغ الكامل لنفسه لمدّة، والاشتغال بالحقّ وذكره تعالى، فإذا تعارضت الخلوة مع الحقّ خلال هذه المدّة مع معاشرة الخلق، وجب عليه أن يعتزل لكي يُفاض عليه الكمال اللائق به من الملكوت الأعلى. فإذا وجد في نفسه ظهور حال الطّمأنينة والسّكينة والاستقرار والاستقامة، وأَمِنَ من غلبة الحالات النفسيّة والوساوس الإبليسيّة، حينئذٍ عليه أن يتوجّه إلى معاشرة الخلق بهدف إرشادهم وتعليم وتربية عباد الله وخدمة خلقه، فيعدّ نفسه للإقبال على خدمة الخلق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وهذا المنهاج عام يشمل الصمت والسّكوت والكلام والإرشاد، فعلى الإنسان أن يشتغل في بداية أمره ـ حيث يكون متعلّمًا ـ بالبحث والدّرس والتّعلّم، فيجتنب فقط الكلمات والأقوال اللغوية الباطلة. فإذا كَمُلَ، فعليه أن يشتغل بالتّفكّر والتدبُّر، فيمنع لسانهُ عن النّطق بغير ذكر الله وما يرتبط به لكي تفيض على قلبه الإفاضات الملكوتيّة.
فإذا أصبح وجوده حقّانيًّا إلهيًّا، واطمأنّ إلى إلهيّة أقواله وكلامه، فعليه أن ينطق ويتصدّى لتربية النّاس وتعليمهم والأخذ بأيديهم، فلا يتوانى عن خدمتهم ولا للحظة حتّى يرضى الله عنه، ويجعله من عباده المربِّين، ويخلع عليه خلعَة التّعليم والإِرشاد، فيجبر تبارك وتعالى بهذه الخدمة نقصه حيث وُجدَ"1.
1 جنود العقل والجهل، ص 346-347.
446
382
الدرس الثالث والثلاثون: الصمت
الصمت من شروط السير إلى الله
ويتبيّن لنا أنّ لسلوك الإنسان وسيره إلى الله مراحل أهمّها بحسب كلام الإمام ـ البدايات، ومن ثمّ الأواسط ومن بعدها أوائل النّهايات حتّى يبلغ مرحلة النّهايات. ولكلّ مرحلة شروطها وآدابها المرتبطة بالكلام والصّمت.
وقد أعطى الإمام قدس سره علامات أساسيّة لكلّ مرحلة مع ما تقتضيه من أمور وأعمال. وتكون حالة الطّمأنينة والثّبات والسّكينة والاستقامة والأمن من غلبة الحالات النّفسيّة والوساوس الإبليسيّة من علامات انتقاله إلى مرحلة النّهايات التي يصبح فيها الكلام أهمّ من السّكوت لأنّه يندرج ضمن أعظم الاعمال وهو هداية الخلق والأخذ بأيديهم إلى الله تعالى.
ومن أروع ما قيل في هذا الباب الذي يُعدّ منهاجًا كاملًا للصّمت ما ورد عن الإمام الصّادق عليه السلام: "الْكَلَامُ إِظْهَارُ مَا فِي قَلْبِ الْمَرْءِ مِنَ الصَّفَاءِ وَالْكَدَرِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ، فَزِنْ كَلَامَكَ وَاعْرِضْهُ عَلَى الْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ فَإِنْ كَانَ لِلهِ وَفِي اللهِ فَتَكَلَّمْ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَالسُّكُوتُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَلَيْسَ عَلَى الْجَوَارِحِ أَخَفُّ مَئُونَةً وَأَفْضَلُ مَنْزِلَةً وَأَعْظَمُ قَدْراً عِنْدَ اللهِ مِنَ الْكَلَامِ فِي رِضَاءِ اللهِ وَلِوَجْهِهِ وَنَشْرِ آلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ فِي عِبَادِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَجْعَلْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُسُلِهِ مَعْنًى يَكْشِفُ مَا أَسَرَّ إِلَيْهِمْ مِنْ مَكْنُونَاتِ عِلْمِهِ وَمَخْزُونَاتِ وَحْيِهِ غَيْرَ الْكَلَامِ؟! وَكَذَلِكَ بَيْنَ الرُّسُلِ وَالْأُمَمِ ثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ أَفْضَلُ الْوَسَائِلِ وَالْكُلَفِ وَالْعِبَادَةِ، وَكَذَلِكَ لَا مَعْصِيَةَ أَثْقَلُ عَلَى الْعَبْدِ وَأَسْرَعُ عُقُوبَةً عِنْدَ اللهِ وأَشَدُّهَا مَلَامَةً وأَعْجَلُهَا سَآمَةً عِنْدَ الْخَلْقِ مِنْهُ، وَاللِّسَانُ تَرْجُمَانُ الضَّمِيرِ وَصَاحِبُ خَيْرِ الْقَلْبِ وَبِهِ يَنْكَشِفُ مَا فِي سِرِّ الْبَاطِنِ وعَلَيْهِ يُحَاسَبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْكَلَامُ خَمْرٌ تُسْكِرُ الْقُلُوبَ وَالْعُقُولَ مَا كَانَ مِنْهُ لِغَيْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَقَّ بِطُولِ السِّجْنِ مِنَ اللِّسَانِ"1.
1 مستدرك الوسائل، ج9، ص 29.
447
383
الدرس الثالث والثلاثون: الصمت
ما يعين على الصّمت
يبيّن الإمام الخمينيّ قدس سره أنّ الصّمت من لوازم الفطرة السّليمة، وبذلك يكون الحفاظ على هذه الفطرة والاستمداد منها أفضل وسيلة لتحصيل الصمّت بمعناه الأخلاقيّ الرّفيع. فهناك من يصمت خوفًا من توبيخ النّاس أو ملامتهم أو سخريتهم واستهزائهم، ومثل هذا الصّمت ليس نابعًا من الفطرة العاشقة للكمال والتي يجد صاحبها فرصة عظيمة في الصّمت للتوجّه إلى أنوار الملكوت. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وحيث أنّ الصمت عن الباطل واللغو، واجتناب الهذيان والهذر، يُعين الإنسان على التّفكّر والاشتغال بباطنه وتطهيره من الرّجس، وتخليته وتصفيته، وبالتالي تقريبه من مبدأ الكمال الذي تعشقه الفطرة، وإزالة الأشواك من طريقه إليه، لذا فإنه من لوازم الفطرة السليمة المخمّرة إلهيًّا ومن جنود العقل والرحمان... وإذا احتجبت النفس عن فطرتها الأصلية السليمة وتعلقت بعالم الطبيعة وآماله الدنيئة، ظهر فيها الحبٌ الكاذب واللغو الباطل حبّ كاذب ولغو باطل مثلما يظهر في المريض الاشتهاء الكاذب للطعام المضرِّ له. فإذا خرجت النفس من هذه الحال من الاحتجاب، أدركت أن ما أحبته من مظاهر الطبيعة في تلك الحال الاحتجابية هو أمرٌ تكرهه الفطرة السليمة، وأن ما كانت تنفر منه ــ في تلك الحال من الاحتجاب ــ من ذكر الله والتفكر والصمت والخلوة بالحق تعالى، هو أمرٌ تعشقه الفطرة السليمة"1.
1 جنود العقل والجهل، ص 354.
448
384
الدرس الثالث والثلاثون: الصمت
المفاهيم الرئيسة
1- الصّمت فعل، بل هو أقلّ من ذلك، إنّه ترك، لا يحتاج إلى مؤونة، لكنّه إذا صار سِمة شخصيّة كان خُلُقًا عظيمًا، لأنّه يتطلّب جهدًا كبيرًا. وكأنّ النّفس إذا خُلّيت وطبعها مالت إلى الكلام فكيف إذا كانت أمّارة بالسّوء؟!
2- كثرة زلّات الناس نتيجة كثرة كلامهم. "فمن كثُر كلامه كثر خطؤه". ومع كثرة الأخطاء تكثر الأضرار وتزداد الشّرور.
3- عمل أولياء الله من أجل خلاص النّاس والمجتمعات على: 1. تأمين البيئة الاجتماعيّة التي تقلّل من استعمال اللسان. 2. البناء الأخلاقيّ والمعنويّ الذي يوجّه الإنسان إلى أمور كثيرة تغنيه عن العديد من مجالات التّواصل الشفهيّ.
4- الصّمت هو السّكوت، لكن المراد هنا ليس السّكوت المطلق فهذا ليس من جنود العقل، فالممدوح شرعًا وعقلًا والذي هو من جنود العقل، السكوت عن الهذيان والهذر لا مطلق الصّمت.
5- الصّمت هو منهاج الرّجوع إلى الله تعالى كلّه، إن النبيّ آدم عليه السلام في كلامه إلى ولده يقول: "يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ لَمَّا أَخْرَجَنِي مِنْ جِوَارِهِ عَهِدَ إِلَيَّ وَقَالَ أَقِلَّ كَلَامَكَ تَرْجِعْ إِلَى جِوَارِي".
6- إنّ الصّمت من الكمالات، وفيه النّجاة والرّاحة في الدّنيا والآخرة، وهو عزّ، وخُلُق الأولياء.
7- المنهاج العام للصّمت هو أن يشتغل الإنسان في بداية أمره بالبحث والدّرس والتّعلّم، فيجتنب فقط الكلمات والأقوال اللغوية الباطلة. فإذا كَمُلَ، فعليه أن يشتغل بالتّفكّر والتدبُّر، فيمنع لسانهُ عن النّطق بغير ذكر الله وما يرتبط به لكي تفيض على قلبه الإفاضات الملكوتيّة.
8- ما يعين على الصمت: الحفاظ على الفطرة والاستمداد منها، فالصمت عن الباطل واللغو، واجتناب الهذيان والهذر، يُعين الإنسان على التّفكّر والاشتغال بباطنه وتطهيره من الرّجس، وتخليته وتصفيته، وبالتالي تقريبه من مبدأ الكمال الذي تعشقه الفطرة.
449
385
الدرس الثالث والثلاثون: الصمت
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِي رُوعِي مِنَ التَّمَنِّي وَالتَّظَنِّي وَالْحَسَدِ ذِكْراً لِعَظَمَتِكَ، وَتَفَكُّراً فِي قُدْرَتِكَ، وَتَدْبِيراً عَلَى عَدُوِّكَ، وَمَا أَجْرَى عَلَى لِسَانِي مِنْ لَفْظَةِ فُحْشٍ أَوْ هُجْرٍ أَوْ شَتْمِ عِرْضٍ أَوْ شَهَادَةِ بَاطِلٍ أَوِ اغْتِيَابِ مُؤْمِنٍ غَائِبٍ أَوْ سَبِّ حَاضِرٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ نُطْقاً بِالْحَمْدِ لَكَ، وَإِغْرَاقاً فِي الثَّنَاءِ عَلَيْكَ، وَذَهَاباً فِي تَمْجِيدِكَ، وَشُكْراً لِنِعْمَتِكَ، وَاعْتِرَافاً بِإِحْسَانِكَ، وَإِحْصَاءً لِمِنَنِكَ"1.
الروايات الشريفة:
1- عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: "قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ عليه السلام.... يَا هِشَامُ إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ دَلِيلًا وَدَلِيلُ الْعَقْلِ التَّفَكُّرُ وَدَلِيلُ التَّفَكُّرِ الصَّمْت"2.
2- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ: يَا طَالِبَ الْعِلْمِ إِنَّ لِلْعَالِمِ ثَلَاثَ عَلَامَاتٍ الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ وَالصَّمْتَ"3.
3- قَالَ دَاوُدُ لِسُلَيْمَانَ عليه السلام: "يَا بُنَيَّ عَلَيْكَ بِطُولِ الصَّمْتِ فَإِنَّ النَّدَامَةَ عَلَى طُولِ الصَّمْتِ مَرَّةً وَاحِدَةً خَيْرٌ مِنَ النَّدَامَةِ عَلَى كَثْرَةِ الْكَلَامِ، ٍ يَا بُنَيَّ لَوْ أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مِنْ فِضَّةٍ كَانَ يَنْبَغِي لِلصَّمْتِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَهَبٍ"4.
4- قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "جُمِعَ الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي ثَلَاثِ خِصَالٍ: النَّظَرِ وَالسُّكُوتِ وَالْكَلَامِ، فَكُلُّ نَظَرٍ لَيْسَ فِيهِ اعْتِبَارٌ فَهُوَ سَهْوٌ، وَكُلُّ كَلَامٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ فَهُوَ لَغْوٌ، وَكُلُّ سُكُوتٍ لَيْسَ فِيهِ فِكْرَةٌ فَهُوَ غَفْلَةٌ، فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ نَظَرُهُ عَبَراً وَصَمْتُهُ تَفَكُّراً وَكَلَامُهُ ذِكْراً وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ وأَمِنَ النَّاسُ شَرَّهُ"5.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2 الكافي، ج1، ص 15.
3 (م.ن)، ص 37.
4 (م.ن)، ص 114.
5 مستدرك الوسائل، ج9، ص 31.
450
386
الدرس الثالث والثلاثون: الصمت
5- عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا قَامَ الْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَى النَّاسِ الصَّمْتُ"1.
6- عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ لِوَلَدِهِ الْحُسَيْنِ عليه السلام: "يَا بُنَيَّ الْعَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي الصَّمْتِ إِلَّا بِذِكْرِ اللهِ وَوَاحِدٌ مِنْهَا فِي تَرْكِ مُجَالَسَةِ السُّفَهَاءِ"2.
7- عَنْ الصادق عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ: "إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الصَّمْتَ وَأَنْتُمْ تَتَعَلَّمُونَ الْكَلَامَ كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا أَرَادَ التَّعَبُّدَ يَتَعَلَّمُ الصَّمْتَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَشْرِ سِنِينَ فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ"3.
8- عَنِ الْكَاظِمِ عليه السلام أَنَّهُ: "قَالَ لِهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ يَا هِشَامُ لِكُلِّ شَيْءٍ دَلِيلٌ وَدَلِيلُ الْعَاقِلِ التَّفَكُّرُ وَدَلِيلُ التَّفَكُّرِ الصَّمْتُ، إِلَى أَنْ قَالَ: يَا هِشَامُ قِلَّةُ الْمَنْطِقِ حُكْمٌ عَظِيمٌ فَعَلَيْكُمْ بِالصَّمْتِ، فَإِنَّهُ دَعَةٌ حَسَنَةٌ وَقِلَّةُ وِزْرٍ وَخِفَّةٌ مِنَ الذُّنُوبِ فَحَصِّنُوا بَابَ الْحِلْمِ فَإِنَّهُ بَابُ الصَّبْرِ إِلَى أَنْ قَالَ: يَا هِشَامُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: إِذَا رَأَيْتُمُ الْمُؤْمِنَ صَمُوتاً فَادْنُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلْقِي الْحِكْمَةَ وَالْمُؤْمِنُ قَلِيلُ الْكَلَامِ كَثِيرُ الْعَمَلِ وَالْمُنَافِقُ كَثِيرُ الْكَلَامِ قَلِيلُ الْعَمَلِ"4.
9- عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ: "أَمْسِكْ لِسَانَكَ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَعْرِفُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَخْزُنَ مِنْ لِسَانهِ"5.
10- وَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: "لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ"6.
1 وسائل الشّيعة، ج12، 186.
2 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص 405.
3 مستدرك الوسائل، ج6، ص 22.
4 (م.ن)، ص 17.
5 (م.ن)، ص 117.
6 الكافي، ج2، ص 15.
451
387
الدرس الرابع والثلاثون: الرفق
الدرس الرابع والثلاثون: الرفق
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى الرّفق وأهمّيته.
2- يبيّن أثر الرفق في تهذيب النّفس.
3- يتعرّف إلى منشأ الرّفق وعلاماته.
453
388
الدرس الرابع والثلاثون: الرفق
تمهيد
جاء في الكافي عن الإمام الصّادق عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى رفيق يحبّ الرّفق"1. ويقول سماحة الإمام الخامنئي دام ظله: "الهدف هو أن يتخلّق الإنسان بأخلاق الله تعالى". لهذا كان الرّفق عظيمًا وينبغي السّعي والمجاهدة لامتلاكه والتّحقّق به.
فما هو الرّفق؟ وما هي أهم آثاره على مستوى تهذيب النّفس والسّير المعنويّ. وكيف يمكن للسّالك أن يتخلّق به.
ما هو الرّفق؟
يذكر الإمام الخمينيّ قدس سره أنّ الرّفق ما يُضادّ الخرق كما جاء في حديث جنود العقل والجهل "الرّفق وضدّه الخرق، والرّفق بالكسر ضدّ العنف"2. فمن عرف الخرق يمكنه أن يتصوّر الرّفق جيّدًا.
ويعرّف الإمام الرّفق بمعنى المداراة واللطف في التّعامل فيقول: "الرفق" وضدّه "الخرق"، "الرِفْقُ" بالكسر ضدّ "العنف"، وهو بمعنى المداراة واللطف في التّعامل، يُقال: "رَفَق رفقًا به وله وعليه: عامله بلطف. ورفقه: أعانه ونفعه، ورفُق رفاقةً: "رَفَق رفقًا به وله وعليه: عامله بلطف. ورفقه: أعانه ونفعه، ورفُق رفاقةً: أي صار رفيقاً" فسُمّي الرّفيقُ رفيقًا بلحاظ الرّفق والمداراة في معاملته، كما ورد الرّفق بمعنى لين الجانب"3.
1 الكافي، ج2، ص 120.
2 جنود العقل والجهل، ص 285.
3 (م.ن)، ص 285.
455
389
الدرس الرابع والثلاثون: الرفق
ويبدو أنّ الرّفق يدلّ على مصاحبة الشّيء ـ سواء كان مجتمعًا أو فردًا أو حيوانًا أو حتّى شيئًا ـ لأجل إيصاله إلى غايته. فالرّفيق يهتمّ بالوصول مع المرافق إلى الهدف المنشود. ولذلك لا يترك صحبته وملازمته. ففي الرّفق اهتمام فائق وحرص على الغير ورعاية لأحواله واستعداداته وطاقاته وإمكاناته. والرّفيق من يراعي مثل هذه الأمور من أجل إيصال أصحابها إلى المطلوب. فهو لا يدفعهم دفعًا ولا يجرّهم بعنف، بل يتماشى معهم بحسب الوسع والطّاقة.
صحيح أنّ الغالب على الرّفق اللطف واللين لأنّ طبائع الأشياء مجبولة عليهما ما خلا الحجارة. ولكن الأصل في الرّفق هو ما ذكرنا من المرافقة نحو الهدف. ولهذا يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في شرح الحديث: "إذا كان الرّفق خرقًا كان الخرق رفقًا"1... عندما يصير الرّفقُ سببًا للخرق والتّعب، فيجب الكفّ عن المداراة والرّفق والعمل بالخرق الذي يصبح حينئذٍ الرّفق والمداراة عينهما، فمثلًا إذا صار الرّفق والمداراة في قطع اليد التّالفة التي لا مناص من قطعها، سببًا للخرق والتّعب والإيذاء لصاحبها، وجب اللجوء إلى العنف والعجلة والشدّة في قطعها، فيكون هذا الخرق حينئذٍ الرّفق والمداراة عينهما"2.
أعظم مظاهر الرّفق
إنّ الرّفق الإلهيّ هو أعظم مثل وأجلى مظهر للرّفق الذي ينبغي أن يتخلّق به طلّاب الكمال. وقد جاء في الحديث عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فَمِنْ رِفْقِهِ بِعِبَادِهِ تَسْلِيلُهُ أَضْغَانَهُمْ وَمُضَادَّتَهُمْ لِهَوَاهُمْ وَقُلُوبِهِمْ، ومِنْ رِفْقِهِ بِهِمْ أَنَّهُ يَدَعُهُمْ عَلَى الْأَمْرِ يُرِيدُ إِزَالَتَهُمْ عَنْهُ رِفْقاً بِهِمْ لِكَيْلَا يُلْقِيَ عَلَيْهِمْ عُرَى الْإِيمَانِ ومُثَاقَلَتَهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَيَضْعُفُوا فَإِذَا أَرَادَ ذَلِكَ نَسَخَ الْأَمْرَ بِالْآخَرِ فَصَارَ مَنْسُوخاً"3.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ الحقّ تعالى شأنه يعامل خلقه بالرّفق والمداراة في جميع الأمور، فتشريع الشّرائع هو الرّفق والمداراة بعينهما لأنه يهدي إلى سبل السّعادة والكمال، بل إنّ تأديب الطّغاة وفرض الحدود والتعزيرات، يعبّر عن كمال الرّفق والصّلاح،
1 نهج البلاغة، ص402.
2 جنود العقل والجهل، ص 286.
3 الكافي، ج2، ص 118.
456
390
الدرس الرابع والثلاثون: الرفق
لأنّ تعطيل التّأديب وعدم إقامة الحدود هو خُرقٌ وفساد يشمل حتّى معطّلها، كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف: "وإذا كان الرفق خُرقاً كان الخرق رفقاً"1، بل وإنّ العذاب الأخرويّ هو أيضًا رفقٌ حسب رؤية العارفين بالغايات والمبادىء"2.
ويقول قدس سره: "إنّ الأنبياء هم بمنزلة الأطبّاء المشفقين، الذين جاءوا بكل لطفٍ ومحبّة لمعالجة المرضى، بأنواع العلاج المناسب لحالهم، وقاموا بهدايتهم إلى طريق الرّشاد"3.
أهميّة الرّفق ودوره
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم، أنّ للرّفق والمداراة كاملَ الأثر في تحقيق الغايات المرجوّة من الأمور المختلفة، سواء في مجال معاشرة النّاس وأمور الدّنيا، أو في مجال الشّؤون الدينيّة وهداية الخلق وإرشادهم، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، أو في مجال مجاهدة النّفس وترويضها والسّلوك إلى الله تعالى: ولعلّ إلى هذا يشير ما ورد في الحديث الشريف من أنّ "الرفق يُمنٌ والخُرق شؤمٌ"4.5
ويظهر أثر الرّفق الأعظم في الآخرة حين الحاجة الماسّة إليه. وقد نقل الإمام الخمينيّ قدس سره عن الشّيخ الصّدّوق في كتاب الخصال حديثًا شريفًا جاء فيه: "كان آخر ما أوصى به الخضرُ موسى بن عمران عليه السلام أنّه قال له: لا تُعيَّرنَّ أحداً بذنب، وإنّ أحبَّ الأمور إلى الله عزّ وجلّ ثلاثة: القصدُ في الجدةِ، والعفو عند المقدرة، والرّفقُ بعباد الله، وما رفق أحدٌ بأحدٍ في الدّنيا إلّا رفق الله عزّ وجلّ به يوم القيامة، ورأس الحكمة مخافة الله تبارك وتعالى"6.7
وسوف نذكر مجموعة من الآثار المهمّة للرّفق على مستوى النّفس والمجتمع.
1 نهج البلاغة، ص402.
2 جنود العقل والجهل، ص 291.
3 الأربعون حديثًا، ص 241.
4 الكافي، ج2، ص119.
5 جنود العقل والجهل، ص 287.
6 الخصال، ج1، ص111.
7 (م.ن)، ص 289.
457
391
الدرس الرابع والثلاثون: الرفق
الرفق وسيلة لترويض النّفس
يقول الإمام قدس سره: "كما أنّ الرّفق من الأصول المهمّة في باب ترويض النّفس وسلوك طريق الحقّ تعالى، وما أكثر ما يؤدّي أخذ النّفس بالشدّة ــ خاصّة في بدايات الأمر لا سيّما مع الشّباب ــ إلى تنفيرها من الرّياضات والسّلوك، وإلى الفرار بالتّالي من الحقّ. وبالفعل فإنّ الكثير من الشّباب انحرفوا بالكامل وصاروا لا يبالون بالشّؤون الدّينيّة أصلًا بعد فترة شدّدوا فيها على أنفسهم بالمواظبة المشدّدة والالتزام المفرط في أداء المستحبّات"1.
الرفق باعث لزيادة الإيمان
إنّ الرّفق بالنّفس من أعظم أسباب استقرار الإيمان في القلب وفتح أبواب المعارف الإلهيّة. وينقل الإمام الخميني قدس سره حديثًا عن الإمام الباقر عليه السلام حيث يقول فيه: "من قُسم له الرّفق قُسم له الإيمان"2. وعن أبي جعفر عليه السلام قال: "إنّ لكلّ شيء قُفلاً، وقُفلُ الإيمان الرفق"3.
وفي هذين الحديثين الشّريفين دلالةٌ على ما تقدّم ذكرهُ من أنّ الرّفق والمداراة من الأصول المهمّة في مجاهدة النّفس وترويضها والسّلوك إلى الله، فإذا رفقت بالنّفس أَنِسَتْ بالعبادات والطّاعات وتعلّقت بها وأحبّتها فيكون هذا الأنس والحبّ سببًا لأنسها وحبّها للحقّ تعالى، وفي ذلك فتحٌ لأبواب المعارف الإلهيّة التي هي مصدر الإيمان. في حين أنّ العنف والخُرق قد يؤدّيان أحيانًا إلى عدم استساغة الرّوح واستثقالها للعبادة والعبوديّة، وهذا ما يؤدّي إلى إعراض القلب عن الحقّ تعالى. ولذلك كان الرّفق قفل الإيمان فمن حصل عليه اكتسب الإيمان"4.
فملاحظة الرّفق في العبادات يعبّر عن الانسجام مع إرادة الله. وكأنّ الرّفيق بنفسه في إقامة فرائض ربّه يقبل أن تمسك اليد الرؤوفة لله تعالى بزمامه، فيكون بذلك مستعدًّا لخير صحبة كما نقول في الدّعاء: "اللهمّ أنت الصّاحب في السّفر والخليفة في الأهل ولا
1 جنود العقل والجهل، ص 289.
2 الكافي، ج2، ص 118.
3 (م.ن)، ص 118.
4 جنود العقل والجهل، ص 292.
458
392
الدرس الرابع والثلاثون: الرفق
يجمعهما غيرك"1. أمّا الذي يخرق ويخرج عن برنامج الإسلام فمثله كمن يزايد على ربّه. وهذا من أكبر أسباب القطيعة. نعوذ بالله منها.
الرفق على الصعيد الإجتماعي
وأكثر ما يظهر الرّفق في الحياة الاجتماعيّة وفي التّعامل مع النّاس ـ سواء على صعيد تربيتهم أو تعليمهم أو هدايتهم ـ لهذا خصّص الإمام قسمًا مهمًّا من كلامه حول الرّفق لهذا المجال. ونحن ننقل بعضًا منه ها هنا.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "فمثلاً يمكن للإنسان من خلال الرفق والمداراة في القيام بالأمور الدّنيويّة أن يستقطب قلوب الناس ويُخضعها لإرادته، ولكن من المحال أن يُنجز شيئًا من ذلك بالعنف والشدّة. وحتى لو أجبر أحدًا على طاعته بالعنف والشدّة، فإنّه لن يأمنَ خيانته له لأنّ قلبه ليس خاضعًا له، في حين أنّ الرّفق والمودّة يخضعان القلوب، فإذا خضعت تبعتها جميع القوى الظّاهرة والباطنة. إنّ فتح القلوب أهمّ من فتح البلدان، فالخدمات الصّادقة والتضحيات المخلصة هي ثمرة فتح القلوب الذي يستتبعُ فتح البلدان أيضًا. والفتوحاتُ الإسلاميّة كانت ثمرة فتح القلوب للنّظام الإسلاميّ، وإلّا ما كانت لتتحقّق مع تلك القلة في العدَّةِ والعدد. بل إنّ للرّفق والمداراة الأثر الأكبر ـ من أثر أي عامل آخر ـ في تحقّق الغايات المرجوّة، هكذا هو الحال في الشّؤون الدنيويّة، وكذلك في الشّؤون الدّينيّة كإرشاد النّاس وهدايتهم، فالرّفق من أهمّ العوامل في تحقّق هذا المقصد الشّريف، بل لا يمكن تحقّقه بدونه"2.
الرفق في التعامل مع العصاة
هذا على صعيد نشر الإسلام وتثبيت أركانه في لجّة التّحدّيات والمؤامرات والتّهديدات، أمّا على صعيد التّعامل مع العصاة والمخالفين والطّاغين، فيقول الإمام قدس سره: "عندما أمر الله تبارك وتعالى موسى وهارون عليهما السّلام بالذّهاب إلى فرعون ودعوته إلى الحقّ وإرشاده إليه، أوصاهما ـ فيما أوصاهما به ـ أن: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا
1 نهج البلاغة، ص 86.
2 جنود العقل والجهل، ص 287.
459
393
الدرس الرابع والثلاثون: الرفق
لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾1. فرُغم أنّ فرعون بلغ في طغيان أنانيّته مرتبة ادّعاء الألوهيّة، إلّا أن الرّفق والمداراة مع ذلك أنجعُ في جذب قلبه القاسي. وهذه وصية عامّة للهداة إلى طريق الحقّ، تأمرهم بأن يسلكوا سبيل فتح القلوب، ولذلك مدح اللهُ تعالى نبيّهُ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾2. أجل، فمثل هذا الهدف العظيم (هداية الخلق) يتطلبُ خُلقاً عظيماً تكون لديه قوةُ المقاومة في مواجهة جميع الصعاب، فلا يترك ميدان هداية الخلق تحت أي طائل. وإن أشدَّ ما يشقُ ويتعب ويؤذي الهداة إلى الحق، معاشرة الجهلة ودعوة الحمقى إلى الهدى، كان الحال كذلك ما يزال، لذا وجب أن يكون هؤلاء الهداة متحلين بأسمى مراتب الخُلق الحسن، وأن تكون قوة الرفق والمداراة راسخة فيهم إلى درجة تمكنهم من التغلب على جهالات الجهلة والحمقى، لأن سرعة التأثر والانكماش ومرض الانفعال تنافي مهمتهم المقدسة، والشدة والعنف والاستعجال تصدهم عن القيام بواجبهم في الهداية إلى الله. والإرشادات إلى ذلك كثيرةٌ في الأحاديث الشريفة"3.
الرفق في التعلّم والتعليم
أمّا على صعيد التّعليم والتّربية الروّحيّة، فيقول الإمام قدس سره: "وبإسناده عن عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "يا عمر لا تحملوا على شيعتنا وارفقوا بهم، فإنّ النّاس لا يحتملون ما تحتملون"4. وهذا الحديث الشّريف يحمل وصيّةً عامّة للخواص، فالنّاس متمايزون في تحمّل العلوم والمعارف وكذلك في تحمّل الطّاعات القلبيّة والبدنيّة، فلا يمكن الإفصاح لكلّ شخص عن كلّ علم خاصّة في باب المعارف، بل إنّ سرائر التّوحيد وحقائق المعارف هي من الأسرار التي يجب كتمانها وحفظها عند أهلها. ومعظم الضّلالات وأنواع الإضلال وأشكال التّكفير، ناتجةٌ من عدم التزام هذه الوصيّة، بل إنّ اجتناب النّاس، حتّى علماء الظّاهر منهم للعلوم الإلهيّة وابتعادهم عن المعارف والحقائق ناتجٌ من "تهتّك" بعض أرباب الاصطلاحات الذوقيّة أو أصحاب العلوم العرفانيّة الرّسميّة الذين أفصحوا عن القرآن
1 سورة طه، الآيتان 43 و 44.
2 سورة القلم، الآية 4.
3 جنود العقل والجهل، ص 288.
4 الكافي، ج8، ص 334.
460
394
الدرس الرابع والثلاثون: الرفق
والحديث الشّريف وإصلاحاتها، رغم أنّ هذه الحقائق المعرفيّة موجودة ـ في أكمل صورها من البيان ـ في كتاب الله وأحاديث أئمّة الهدى عليهم السلام، ولكن هؤلاء أظهورها بصورة سيّئة جعلت أهل الظّاهر ينفرون منها، بعد أن عجزوا هم أيضاً عن فصل اللبِّ عن القشر، والحقيقة عن الصورة الظاهرية، والمعنى عن اللفظ، فنفوا أصل تلك الحقائق المعرفية الشريفة"1.
وفي قصّة يرويها الإمام الصّادق عليه السلام: "إنٍّ رجلاً كان له جارٌ وكان نصرانيًّا فدعاه إلى الإسلام وزيّنهُ له فأجابه، فأتاه سحيرًا فقرع عليه الباب، فقال له: من هذا؟ قال: أنا فلان، قال: وما حاجتك؟ فقال: توضّأ والبس ثوبيك ومُر بنا إلى الصّلاة. قال: فتوضّأ ولبس ثوبيه وخرج معه، قال: فصلّيا ما شاء الله، ثم صلّيا الفجر، ثم مكثا حتّى أصبحا، فقام الذي كان نصرانيًّا يريدُ منزلهُ، فقال له الرّجل: أين تذهب؟ النّهارُ قصيرٌ والذي بينك وبين الظّهر قليل! قال: فجلس معه إلى أن صلّى الظهر، ثمّ قال: وما بين الظّهر والعصر قليل! فاحتبسه حتى صلّى العصر. قال: ثمّ قام وأراد أن ينصرف إلى منزله فقال له: إنّ هذا آخر النّهار وأقلُّ من أوّله، فاحتبسه حتّى صلّى المغرب، ثمّ أراد أن ينصرف إلى منزله فقال له: إنّما بقيت صلاة واحدة. قال: فمكث حتى صلّى العشاء الآخرة، ثم تفرّقا. فلمّا كان سُحيرا غدا عليه فضرب عليه الباب فقال: من هذا؟ قال: أنا فلان، قال: وما حاجتك؟ قال: توضّأ والبس ثوبيك واخرج بنا نصلِّ. قال: أُطلب لهذا الدّين من هو أفرغُ مني، وأنا إنسان مسكينٌ وعليَّ عيال"2.3
يقول الإمام الخميني قدس سره: "ولعلَّ إلى هذا المعنى تشيرُ الأحاديث الشّريفة التي تقسّم الإيمان إلى سبعة أسهم، أو إلى عشر درجات، أو إلى تسعة وأربعين جزءًا، وكذلك قولهم عليهم السلام: "لا تحملوا على صاحب السّهم سهمين، ولا على صاحب السّهمين ثلاثة"4 وهكذا. ولأنّ التمايز في درجات الأعمال والطّاقة والإقبال والشّوق إليها ينشأ غالباً من اختلاف درجات الإيمان، فإنّهم عليهم السلام ضربوا الأحاديث الشريفة مثلًا بهدف تقريب هذا المعنى للأذهان"5.
1 جنود العقل والجهل، ص 293.
2 الكافي، ج2، ص43.
3 جنود العقل والجهل، ص 294.
4 الكافي، ج3، ص 42.
5 جنود العقل والجهل، ص 294.
461
395
الدرس الرابع والثلاثون: الرفق
أنموذج للرّفق
من خلال كلمات الإمام الواردة في باب الرّفق، يتبيّن لنا معنى المداراة أيضًا. وكأنّ الإمام جمع بين المعنيين في خُلُقٍّ واحد أو شخصيّة واحدة. ويذكر الإمامقدس سره أنموذجًا لهذا الخلق في تعامل السّالك مع نفسه حيث يقول: "أدب الرعاية وكيفيّته أن يراعي السّالك في أيّ مرتبة كان فيها، سواء في الرّياضات والمجاهدات العلميّة أم النّفسانيّة أم العمليّة، حاله ويتعامل مع نفسه بالرّفق والمداراة ولا يحمّلها أزيد من طاقتها وحالها. ورعاية هذا الأدب بالنسبة إلى الشّباب وحديثي العهد من المهمّات، فإنّه إذا لم يعامل الشّباب أنفسهم بالرّفق والمداراة ولم يؤدّوا الحظوظ الطّبيعيّة إلى أنفسهم بمقدار حاجتها من الطّرق المحلّلة يوشك أن يقعوا في خطر عظيم لا يتيسّر لهم جبرانه، وهو أنّ النّفس ربّما تصير بسبب الضّغط عليها وكفّها عن مشتهياتها أكثر من العادة مطلقة العنان في شهواتها ويخرج زمام الاختيار من يد صاحبها. واقتضاءات الطّبيعة إذا تراكمت ونار الشّهوة الحارّة إذا وقعت تحت ضغط الرّياضة الزّائدة عن الحدّ، فإنّها تستعر لا محالة وتحرق كلّ المملكة. وإذا صار السّالك لا سمح الله مطلق العنان أو أصبح الزّاهد بلا اختيار، فإنّه يقع في هاوية لا يرى وجه النّجاة منها أبدًا ولا يعود إلى طريق السّعادة والفلاح بتاتًا"1.
من أين ينشأ الرّفق؟
إذا عرفنا منشأ الرّفق أمكننا أن نتّجه إليه ونتغذّى منه، وإذا كان ناضبًا فعلينا إحياؤه. وقد بنى الإمام قدس سره منظومته الأخلاقيّة على مبدأ الفطرة وبيّن أنّ جميع الكمالات المعنويّة تنشأ من فطرة الله تعالى التي فطر النّاس عليها. والفطرة عبارة عن ذلك الفيض الذي يتّصل بالإنسان ويمدّه بالكمالات الرّوحيّة. فإذا حافظ الإنسان على وعاء هذا الفيض ولم يقطع الاتّصال به تكاملت نفسه وسمت واتّجهت نحو مصدر الفيض وأصبحت لائقة لمحضره وقربه ولقائه.
1 معراج السالكين، ص 39-40.
462
396
الدرس الرابع والثلاثون: الرفق
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ الرّفق والمداراة والصّحبة والرّفقة من مظاهر الرّحمة الرّحمانيّة ومن شؤونها، إنّ القلب الذي دخلته جلوة الرّحمة، ونظر لعباد الله تعالى بعين الرّحمة والرأفة، فمن الطّبيعيّ أن يتعامل بالرّفق والمداراة في جميع المجالات المذكورة في الفصل السّابق، سواءً مع أبناء جنسه، أو حتّى مع غيرهم من الحيوانات الخاضعة له. فهو يأخذ بالرّفق والرّحمة والرّأفة في معاشرة الخدم والعبيد، والأرحام والجيران خصوصًا، ومع جميع فئآت الناس. ويلتزم السّلوك نفسه في مجال إرشاد الخلق وتعليمهم، والقيام بفريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فما يحصل عليه من أشعّة الرّحمة الرّحمانيّة يتجلّى في قيامه بهذه المهام النّبيلة بالرّفق والمداراة، ومن الطبيعي أن يكون ـ مع تجلّي أشعة الرحمة فيه ــ بعيداً عن الشدّة والعنف وأمثالها. فإذا اتّضحت هذه المقدّمة أنّ الرفق من مقتضيات الفطرة السّليمة المخمرة بيد الله تعالى، لأنّ قلوب جميع بني الإنسان مجبولة في فطرة الله على الرّحمة، وأنّ عالم الوجود هو مظهر الرّحمة الرّحمانيّة، ولذلك قال أهل المعرفة: "ظهر الوجود ببسم الله الرّحمن الرّحيم"، فهذه الرّحمة الرّحمانيّة هي مفتاح باب الوجود مثلما أنّها فاتحة كتاب التّدوين الإلهيّ (القرآن) "1.
"كما أنّ حبّ الحقّ تعالى ـ وهذا الحبّ من أركان الفطرة السّليمة ـ يستتبع حتمًا حبّ آثاره تبارك وتعالى ومخلوقاته، وهذا الحبّ يستلزم بدورهِ الرّفق والمداراة، من هنا يتّضح أنّ الرّفق والمداراة هما من لوازم الفطرة المخمّرة إلهيًّا، وبالمقابل يتّضح أنّ الخرق ناشىء من الاحتجاب والانحراف عن فطرة الله"2.
1 جنود العقل والجهل، ص 290.
2 (م.ن)، ص 291.
463
397
الدرس الرابع والثلاثون: الرفق
المفاهيم الرئيسة
1- الرفق يضادّ العنف، وهو بمعنى المداراة واللطف في التّعامل.
2- في الرّفق اهتمام فائق وحرص على الغير ورعاية لأحواله واستعداداته وطاقاته وإمكاناته، والرّفيق من يراعي مثل هذه الأمور من أجل إيصال أصحابها إلى غاياتهم.
3- إنّ الرّفق الإلهيّ هو أعظم مثل وأجلى مظهر للرّفق الذي ينبغي أن يتخلّق به طلّاب الكمال. فالحقّ تعالى شأنه يعامل خلقه بالرّفق والمداراة في جميع الأمور، فتشريع الشّرائع هو الرّفق والمداراة بعينهما لأنه يهدي إلى سبل السّعادة والكمال.
4- الرّفق بالنّفس من أعظم أسباب استقرار الإيمان في القلب وفتح أبواب المعارف الإلهيّة. فإذا رفقت بالنّفس أَنِسَتْ بالعبادات والطّاعات وتعلّقت بها وأحبّتها فيكون هذا الأنس والحبّ سببًا لأنسها وحبّها للحقّ تعالى، وفي ذلك فتحٌ لأبواب المعارف الإلهيّة التي هي مصدر الإيمان.
5- يجب الرفق بالناس، فالنّاس متمايزون في تحمّل العلوم والمعارف وكذلك في تحمّل الطّاعات القلبيّة والبدنيّة، ولا يمكن الإفصاح لكلّ شخص عن كلّ علم خاصّة في باب المعارف.
6- إنّ معظم الضّلالات وأنواع الإضلال وأشكال التّكفير، ناتجةٌ من عدم الالتزام بوصية الرّفق بالنّاس حسب قدراتهم وطاقاتهم.
7- على السّالك أن يتعامل مع نفسه بالرّفق والمداراة ولا يحمّلها أزيد من طاقتها وحالها، فربّما تصير النفس بسبب الضّغط عليها وكفّها عن مشتهياتها أكثر من العادة مطلقة العنان في شهواتها ويخرج زمام الاختيار من يد صاحبها.
8- إنّ جميع الكمالات المعنويّة تنشأ من الفطرة. فالقلب الذي دخلته جلوة الرّحمة ــ لحفاظه على الفطرة ــ ونظر لعباد الله تعالى بعين الرّحمة والرأفة، فمن الطّبيعيّ أن يتعامل بالرّفق والمداراة في جميع المجالات.
9- إنّ حبّ الحقّ تعالى ـ وهذا الحبّ من أركان الفطرة السّليمة ـ يستتبع حتمًا حبّ آثاره تبارك وتعالى ومخلوقاته، وهذا الحبّ يستلزم بدورهِ الرّفق والمداراة.
464
398
الدرس الرابع والثلاثون: الرفق
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللّهُمَّ إنَّ الرَّجاءَ لِسَعَةِ رَحْمَتِكَ أَنْطَقَني بِاسْتِقالَتِكَ وَالاَمَلَ لأناتِكَ وَرِفْقِكَ شَجَّعَني عَلى طَلَبِ أَمانِكَ وَعَفْوِكَ، وَليَ يارّبِّ ذُنُوبٌ قَدْ وَاجَهَتْها أَوْجُهُ الانْتِقامِ وَخَطايا قَدْ لاحَظَتْها أَعْيُنُ الاصْطِلامِ وَاسْتَوْجَبَتُ بِها عَلى عَدْلِكَ أَليمَ العَذابِ وَاسْتَحْقَقْتُ بِاجْتِراحِها مُبيرَ العِقابِ وَخِفْتُ تَعْويقَها لاجابَتي وَرَدَّها إيّايَ عَنْ قَضاء حاجَتي بِإبْطالِها لِطَلِبَتي وَقَطْعَها لاَسْبابِ رَغْبَتي مِنْ أَجْلِ ما قَدْ أَنْقَضَ ظَهْري مِنْ ثُقْلِها وَبَهَظَني مِنَ الاسْتِقْلالِ بِحَمْلِها، ثُمَّ تَراجَعْتُ رَبِّ إِلى حِلْمِكَ عَنْ الخاطِئينَ وَعَفْوِكَ عَنْ المُذْنِبينَ وَرَحْمَتِكَ لِلْعاصينَ فَأَقْبَلْتُ بِثِقَتي مُتَوَكِّلاً عَلَيْكَ طارِحا نَفْسي بَيْنَ يَدَيْكَ شاكِيا بَثِّي إلَيْكَ سائِلاً مالا أَسْتَوْجِبُهُ مِنْ تَفْريجِ الهَمِّ وَلا أَسْتَحِقُهُ مِنْ تَنْفيسِ الغَمِّ مُسْتَقيلاً لَكَ إيايَ وَاثِقا مَوْلايَ بِكَ1.
الروايات الشريفة:
1- عنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "مِنْ زِيِّ الْإِيمَانِ الْفِقْهُ وَمِنْ زِيِّ الْفِقْهِ الْحِلْمُ وَمِنْ زِيِّ الْحِلْمِ الرِّفْقُ وَمِنْ زِيِّ الرِّفْقِ اللِّينُ وَمِنْ زِيِّ اللِّينِ السُّهُولَةُ"2.
2- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: مُدَارَاةُ النَّاسِ نِصْفُ الْإِيمَانِ وَالرِّفْقُ بِهِمْ نِصْفُ الْعَيْشِ"3.
3- قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّ الرِّفْقَ لَمْ يُوضَعْ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ"4.
4- عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: "إِنَّ فِي الرِّفْقِ الزِّيَادَةَ وَالْبَرَكَةَ وَمَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْر"5.
1 مفاتيح الجنان، المناجاة بالاستقالة.
2 وسائل الشّيعة، ج 12، ص 159.
3 الكافي، ج2، ص 117.
4 (م.ن)، ص 119.
5 (م.ن)، ص 119.
465
399
الدرس الرابع والثلاثون: الرفق
5- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "أَيُّمَا أَهْلِ بَيْتٍ أُعْطُوا حَظَّهُمْ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ، وَالرِّفْقُ فِي تَقْدِيرِ الْمَعِيشَةِ خَيْرٌ مِنَ السَّعَةِ فِي الْمَالِ، وَالرِّفْقُ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ شَيْءٌ وَالتَّبْذِيرُ لَا يَبْقَى مَعَهُ شَيْءٌ"1.
6- قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "لَوْ كَانَ الرِّفْقُ خَلْقًا يُرَى مَا كَانَ مِمَّا خَلَقَ اللهُ شَيْءٌ أَحْسَنَ مِنْه"2.
7- وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لِوَلَدِهِ الْحُسَيْنِ عليه السلام: "يَا بُنَيَّ رَأْسُ الْعِلْمِ الرِّفْقُ وَآفَتُهُ الْخُرْقُ"3.
8- عَنِ الصَّادِقِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: "مَا ارْتَجَّ امْرُؤٌ وَ أَحْجَمَ عَلَيْهِ الرَّأْيُ وَ أَعْيَتْ بِهِ الْحِيَلُ إِلَّا كَانَ الرِّفْقُ مِفْتَاحَهُ"4.
9- عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي حَدِيثٍ قَالَ: "وَمَنْ أَقْرَضَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كَانَ لَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ أَقْرَضَهُ وَزْنَ جَبَلِ أُحُدٍ مِنْ جِبَالِ رَضْوَى وَطُورِ سَيْنَاءَ حَسَنَاتٌ، وَإِنْ رَفَقَ بِهِ فِي طَلَبِهِ تَعَدَّى بِهِ عَلَى الصِّرَاطِ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ اللَّامِعِ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، ومَنْ شَكَا إِلَيْهِ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَلَمْ يُقْرِضْهُ حَرَّمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ يَوْمَ يَجْزِي الْمُحْسِنِينَ"5.
1 الكافي، ج2، ص 119.
2 (م.ن)، ص 20.
3 مستدرك الوسائل، ج11، ص 94.
4 (م.ن)، ج11، ص 95.
5 وسائل الشّيعة، ج18، 331.
466
400
الدرس الخامس والثلاثون: الرأفة
الدرس الخامس والثلاثون: الرأفة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن المعنى الدّقيق للرأفة.
2- يشرح أهميّة الرأفة ودورها في حفظ النّوع البشريّ والحياة الاجتماعيّة.
3- يتعرّف إلى مظاهر الرأفة والسبيل للتحلّي بهذه الفضيلة.
467
401
الدرس الخامس والثلاثون: الرأفة
تمهيد
الرأفة من أعظم الصّفات الإلهيّة والرؤوف اسم لله جميل، يتجلّى به في الوجود بجبران نقص الكائنات. ولمّا كان أصل الكمالات ومنبع الفضائل والخيرات هو ذات الحقّ المقدّس جلّ وعلا، ولمّا كان التخلّق بأخلاق الله هدفًا أساسيًّا لوجود الإنسان في هذا العالم، ولمّا كان العالم ساحة لإعمال الرأفة، كان لزامًا على الإنسان أن يسعى ليتخلّق بهذه الصّفة العظيمة. فما هي الرّأفة؟ وما هي أهم تجلّياتها في الحياة الدّنيا؟ وكيف يمكن لمن يفتح قلبه وصدره على هذه التجلّيات أن يتفاعل معها وينفعل بها بحيث تؤول عاقبة أمره لأن يصبح مظهرًا تامًّا لها؟
ما هي الرأفة؟
يذكر الإمام الخمينيّ قدس سره أنّ الرأفة لازمة اللين الذي هو المقابل الحقيقيّ للقسوة1، ويرفض قول بعض الحكماء بأنّها من أحوال القلب الصّنوبريّ (وهو العضو المعروف في الجسد)، لأنّ الرأفة والقسوة من الأمور المعنويّة: "لا يبدو صحيحاً قوله (أحد المحقّقين من الحكماء). أنّ الرأفة والقسوة حال القلب الصنوبريّ، لأنّهما من الأمور المعنويّة غير الجسمانيّة الملازمة للإدراك أو القائمة به، فهي بعيدة ومنزّهة عن أفق الجسم والجسمانيّة. لكن المقصود أنّ الرأفة أقرب من الرّحمة لأفق الجسمانيّة، وبعبارة أخرى إنّ الرّحمة من صفات النّفس في وجهتها الغيبيّة الملكوتيّة، في حين أنّ الرأفة من صفات النّفس في وجهتها الظاهريّة التي يمكن التعبير عنها بمقام الصدر"2.
1 جنود العقل والجهل، ص 222.
2 (م.ن)، ص 214-215.
469
402
الدرس الخامس والثلاثون: الرأفة
والملفت في كلام الإمام هو ما ذكره حول الرأفة أنّها من صفات النّفس في وجهتها الظاهريّة لأن ّالنّفس هي الحقيقة المدبّرة لعالم الطّبيعة وللبدن الظّاهريّ، سواء كان هذا التّدبير نابعًا من العقل أو لا. فبعض النّفوس في تدبيرها للأبدان تسوقها نحو الهلاك والمرض والتّلف، وذلك إذا لم تخضع لسلطان العقل.
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنّ الله عزّ وجلّ خلق العقل من نورٍ مخزونٍ مكنونٍ في سابق علمه الذي لم يطّلع عليه نبيٌّ مرسل ولا ملك مقرّب فجعل العلم نفسه، والفهم روحه، والزّهد رأسه، والحياء عينيه، والحكمة لسانه، والرأفة همّه، والرحمة قلبه"1.
فلمّا كان العقل مكلّفًا بإرجاع كائنات العالم الطّبيعيّة إلى الله، ولمّا كان العقل طريق الكائنات في رحلة السّير إلى الله (سواء كان السّير عبر الإنسان أو من قبل الإنسان نفسه)، فإنّ الهمّ الأكبر لهذه الوسيلة يظهر في الرأفة. وكأنّ شدّة عناية العقل بالنّاقصين من أجل تكميلهم يكون من خلال هذه الصّفة الجميلة.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم أنّ الرّحمة والرأفة والعطف ونظائرها هي من تجلّيات الأسماء الجماليّة الإلهيّة، تفضل الله تبارك وتعالى بتجهيز الحيوان عمومًا والإنسان خصوصًا بها، من أجل حفظ النّوع الحيوانيّ وكذلك حفظ النّظام العائليّ الإنسانيّ، وهي من تجلّيات الرّحمة الرّحمانيّة التي أقيم نظام الوجود عمومًا عليها. ولولا وجود هذه الرّحمة والعطف في الحيوان والإنسان لتقطّعت روابط الحياة الفرديّة والاجتماعيّة، فبهما يحفظ الحيوان أولاده ويحتضنهم، وبهما يحرس الإنسان عائلته، وبهما يحفظ السّلطان العادل مملكته. ولولا وجود هذه الرّحمة والشفقة والرأفة، لما تحمّلت أي أم كل تلك المشاق والصّعوبات الاستثنائيّة لحضانة الأولاد"2.
1 الخصال، ج2، ص427.
2 جنود العقل والجهل، ص 216-217.
470
403
الدرس الخامس والثلاثون: الرأفة
أهم تجلّيات الرأفة في الحياة
1- حفظ نظام العالم
ولمعرفة المزيد عن الرأفة، يذكر الإمام الخميني قدس سره بعض تجلّياتها في الحياة فيقول: "كما أنّ جذبة الرّحمة والرأفة الإلهيّة هي التي جذبت القلوب إليه تعالى، وحفظ بها ـ فطريّاً ـ نظام العالم"1.
2- الأنبياء والأولياء
"وهذه الرّحمة والرأفة هي التي جعلت المعلّمين الروحانيّين والأنبياء العظام والأولياء الكرام والعلماء بالله يتحمّلون كل تلك المتاعب والمشاق من أجل توفير السّعادة الدائمة لأبناء بجدتهم من العائلة البشريّة"2.
ويقول قدس سره أيضًا: "واسم الرّحمة ـ الذي تتفرّع منه الرأفة والعطف ونظائرهما من أسماء الصّفات والأفعال ـ هو أكثر اسم عرّف الحقّ تعالى نفسه به، وكرّره في كلّ سورة من سور القرآن لكي تتعلّق قلوب عباده برحمته الواسعة، فهذا التعلّق هو منشأ تربية النّفوس وتليين القلوب القاسية، فلا يمكن جذب قلوب النّاس وصدّهم عن الطّغيان والتمرّد، بأي شيء بمثل ما تجذبهم الرّحمة والرأفة والمودّة، ولهذا فإنّ الأنبياء العظام هم مظاهر رحمة الحقّ جلّ وعلا، ولذلك نلاحظ في آخر سورة التوبة ـ وهي سورة الغضب ـ أنّ الله تعالى وصف رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ـ بهذه الصورة: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾3. ويكفي في بيان شدّة رأفته ورحمته صلى الله عليه وآله وسلم ـ بجميع بني الإنسان قوله تعالى في أوّل سورة الشعراء: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾4، وقوله في أوائل سورة الكهف: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾5"6.
1 جنود العقل والجهل، ص 217.
2 (م.ن)، ص 217.
3 سورة التوبة، الآية 128.
4 سورة الشعراء، الآية 3.
5 سورة الكهف، الآية 6.
6 (م.ن)، ص 218.
471
404
الدرس الخامس والثلاثون: الرأفة
3- الوحي الإلهيّ
"بل إنّ نزول الوحي الإلهي والكتاب السّماويّ الشّريف مظهر لرحمة الله ورأفته تجلّى في عالم الملك"1.
4- الحدود والتعزيرات
"وحتى الحدود والتعزيرات والقصاص وأمثالها هي جميعًا من حقيقة الرّحمة والرأفة، وإن كانت قد ظهرت في صورة الغضب: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ﴾2"3.
5- جهنّم
"بل إنّ جهنّم هي رحمة ظهرت في صورة الغضب للذين لهم لياقة الوصول إلى السعادة، ولكن الشوائب تحجبهم عنها، فلولا تخليصهم وتطهيرهم في جهنّم من هذه الشوائب لما شاهدوا وجه السعادة أبداً"4.
الرأفة من لوزام الفطرة السّليمة
فلو اطّلعنا على مظاهر الرأفة وتأمّلنا فيها وقرّبنا أنفسنا منها، لانفعلت قلوبنا بها وأصبحت مستعدّة للتشكّل على شاكلتها، لأنّ حقيقة أمر التّربية الإلهيّة متقوّمة بأمرين أساسيّين، وهما:
الأوّل: التجلّي من الربّ المتعال. وهو ما نعبّر عنه بتقديم النّموذج المعاش والواقعيّ القلبيّ والعقليّ والحسّيّ. لا الفكريّ البحت. ولهذا، فإنّه تعالى لم يكتفِ بإنزال الكتب، بل جعل لها مظاهر في الحياة البشريّة هم الأنبياء والأولياء الكاملين.
الثّاني: إيجاد الاستعداد. وهو المعبّر عنه بالفطرة الهادية التي تمثّل الانسجام التّام مع مصاديق التّربية والكمال. بل هي العشق والتّوجّه نحو هذه الكمالات.
1 جنود العقل والجهل، ص 217.
2 سورة البقرة، الآية 179.
3 جنود العقل والجهل، ص 217.
4 (م.ن)، ص 217.
472
405
الدرس الخامس والثلاثون: الرأفة
ولهذا، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم أنّ الرحمة والرأفة والشفقة واللين والحلم هي جميعًا من لوازم الفطرة المخمرّة ومن جنود العقل والرّحمان، وقد زُرع في فطرة كلّ إنسان حبّ التّعاطف والتّراحم والمودّة والعدل والإنصاف، فكلّ إنسان ـ حتّى الظالم ـ مدفوعٌ فطريًّا إلى أن يكون رحيمًا وعطوفًا ورؤوفًا بمن تحت سلطته، وبالضعفاء والبؤساء والمساكين والأطفال الضعاف، بل إنّ الإنسان مفطورٌ على الرّحمة بكلّ حيّ، والرأفة بكلّ موجود.
لقد خلق الله تعالى الإنسان من حقيقة رحمته، فهو صورة الرّحمة الإلهيّة، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ﴾1، فقد نسب خلق الإنسان إلى اسم الرحمان، ولذلك كان الإنسان الظالم والقاسي القلب متنفّراً فطريّاً من الظلم والقسوة، فهو يذمّ صدورهما من الآخرين وإن غفل عن صدورهما منه نفسه: وهو يأنس بالعدل والرحمة والرأفة، بل إنّ الظالم يريد بطبعه أن يكون ظلمه بالعدل، وأن تكون قسوته ـ شئت أم أبيت ـ بشكل الرّحمة فيضفي عليها وشاح الرّحمة، وذلك لأنّ فطرته وجبلّته متنفّرة من الظلم والقسوة، محبّة للرحمة والرأفة، لذلك فهو يسعى للتقرّب من هاتين الصفتين ـ ولو بالاسم والظاهر ـ ويسعى للانتفاع منهما ولو بالاسم والصورة. وإذا رجع الإنسان إلى وجدانه وأحوال الآخرين من أبناء جنسه استغنى عن إقامة البرهان وإطالة التوضيح للحقيقة المتقدّمة، أي إنّ الرّحمة والرأفة والعدل والمحبّة والمودّة ونظائرها هي من لوازم الفطرة الأصليّة السلمية، وأنّ أضدادها مخالفة للفطرة المخمّرة ومن نتائج احتجابها"2. ومثل هذين الأمرين يمثّلان أصول التّربية قاطبةً.
سبيل التحلّي بالرأفة
1- ذكر رأفة الله
في البداية يتوجّه الإنسان بحواسّه إلى المظاهر، وعندما يشتدّ حضورها في خياله وخاطره تفرض عليه أن يتفكّر فيها ويستخرج منها ما يشبه القواعد العامّة أو المفاهيم
1 سورة الرحمن، الآيات 1 و 3.
2 جنود العقل والجهل، ص 223-224.
473
406
الدرس الخامس والثلاثون: الرأفة
الكلّيّة. فإذا قوي حضورها في الفكر انتقلت إلى القلب التي هي مرحلة الذّكر.
إنّ الذين يذكرون رأفة الله تعالى، فإنّ هذه الرأفة ستذكّرهم ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾1. ومعنى صيرورة العبد مذكورًا عند الله تعالى أن يتحقّق بالكمال اللائق لأنّ الله تعالى لا يذكر سوى الصّفات والأسماء الحسنى تعالى مجده.
2- موالاة أهل البيت عليهم السلام والتأسّي بهم
وفي الحديث عن الإمام جعفر عليه السلام عن أبيه عن الإمام علي عليه السلام قال: "إنا أهل بيت شجرة النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة وبيت الرأفة ومعدن العلم"2.
وعن الإمام الصّادق عليه السلام: "إن الله خلقنا، فأحسن خلقنا، وصوّرنا، فأحسن صوّرنا، وجعلنا عينه في عباده، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه، وبابه الذي يدل عليه، وخزانه في سمائه وأرضه، بنا أثمرت الأشجار، وأينعت الثمار، وجرت الأنهار، وبنا ينزل غيث السماء، وينبت عشب الأرض، وبعبادتنا عبد الله، ولولا نحن ما عبد الله"3.
فوصف أهل البيت بكونهم بيت الرّأفة إشارة إلى ظهور الرّأفة المطلقة في نهجهم وسيرتهم. وقوله عليه السلام: "ويده المبسوطة على عبادة بالرّأفة" تأكيد على أنّ عناية الله بخلقه وعباده تظهر فيهم وبهم. فهم أعلى مظاهر رأفة الله. من عرفهم وتعرّض بقلبه لرأفتهم أوشك أن يتخلّق بأخلاقهم.
وإذا كان الملُلك ـ وهو الرئاسية والقيادة ـ لأجل هداية الموارد البشريّة والماديّة إلى الأهداف السّامية، فلا شكّ أنّه بأمسّ الحاجة إلى الرأفة. ولهذا جاء في الحديث: "أفضل الملوك من أعطي ثلاث خصال: الرأفة والجود والعدل"4.
1 سورة البقرة، الآية 152.
2 بحار الأنوار، ج26، ص 246.
3 الكافي، ج1، ص 144.
4 تحف العقول، 319.
474
407
الدرس الخامس والثلاثون: الرأفة
وعن الإمام الصّادق عليه السلام قَالَ: "إِنَّ شِيعَةَ عَلِيٍّ كَانُوا خُمُصَ الْبُطُونِ ذُبُلَ الشِّفَاهِ أَهْلَ رَأْفَةٍ وَعِلْمٍ وَحِلْمٍ يُعْرَفُونَ بِالرَّهْبَانِيَّةِ فَأَعِينُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِالْوَرَعِ وَالِاجْتِهَادِ"1.
الحياء أصل الرأفة
جاء في بحار الأنوار عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أمّا الحياء فيتشعّب منه اللين والرأفة والمراقبة لله في السرّ والعلانية والسلامة واجتناب الشرّ والبشاشة والسماحة والظفر وحسن الثناء على المرء في الناس فهذا ما أصاب العاقل بالحياء فطوبى لمن قبل نصيحة الله وخاف فضيحته"2.
ولعلّ السّرّ في كون الحياء منبعًا للرأفة أنّه أعظم لباس ساتر للعيوب. ولا شكّ بأنّ معرفة الرّأفة تتّجه نحو جبران العيوب والإغماض عنها والتّركيز على الإيجابيّات ونقاط القوّة بدل التّركيز على نقاط الضّعف، فتكون الرأفة من هذه الجهة مستمدّة من الحياء.
1 الكافي، ج2، ص 233.
2 بحار الأنوار، ج1، ص 118.
475
408
الدرس الخامس والثلاثون: الرأفة
المفاهيم الرئيسة
1- الرأفة من أعظم الصّفات الإلهيّة والرؤوف اسم لله جميل، يتجلّى به في الوجود بجبران نقص الكائنات.
2- الفرق بين الرّحمة والرأفة هو أنّ الرّحمة من صفات النّفس في وجهتها الغيبيّة الملكوتيّة، في حين أنّ الرأفة من صفات النّفس في وجهتها الظاهريّة التي يمكن التعبير عنها بمقام الصدر، فالنّفس هي الحقيقة المدبّرة لعالم الطّبيعة وللبدن الظّاهريّ، سواء كان هذا التّدبير نابعًا من العقل أو لا.
3- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله عزّ وجلّ خلق العقل من نورٍ مخزونٍ مكنونٍ في سابق علمه... فجعل العلم نفسه... والرأفة همّ" ولمّا كان العقل مكلّفًا بإرجاع كائنات العالم الطّبيعيّة إلى الله، ولمّا كان العقل طريق الكائنات في رحلة السّير إلى الله فإنّ الهمّ الأكبر لهذه الوسيلة يظهر في الرأفة.
4- تتجلّى الرأفة في الحياة بـ:
1. حفظ نظام العالم، 2. الأنبياء والأولياء، 3. الوحي الإلهيّ، 4. الحدود والتعزيرات، 5. جهنّم (التي هي رحمة ظهرت في صورة الغضب للذين لهم لياقة الوصول إلى السعادة، ولكن الشوائب تحجبهم عنها، فلولا تخليصهم وتطهيرهم في جهنّم من هذه الشوائب لما شاهدوا وجه السعادة أبداً)
5- إنّ الرأفة من لوازم الفطرة الأصليّة السّلمية، حتّى الظالم هو متنفّر فطريًّا من الظّلم والقسوة.
6- إنّ التحلّي بالرأفة يكون بذكر رأفة الله تعالى، وموالاة أهل البيت عليهم السلام والتأسّي بهم، فهم يد الله المبسوطة على عباده بالرأفة.
7- الحياء منبع الرأفة والسرّ في ذلك هو أنّ الحياء ساتر العيوب، والرأفة تتّجه نحو جبران العيوب والإغماض عنها والتّركيز على الإيجابيّات فتكون من هذه الجهة مستمدّة من الحياء.
476
409
الدرس الخامس والثلاثون: الرأفة
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِلَهِي أَذْهَلَنِي عَنْ إِقَامَةِ شُكْرِكَ تَتَابُعُ طَوْلِكَ وَأَعْجَزَنِي عَنْ إِحْصَاءِ ثَنَائِكَ فَيْضُ فَضْلِكَ وَشَغَلَنِي عَنْ ذِكْرِ مَحَامِدِكَ تَرَادُفُ عَوَائِدِكَ وَأَعْيَانِي عَنْ نَشْرِ عَوَارِفِكَ تَوَالِي أَيَادِيكَ وَهَذَا مَقَامُ مَنْ اعْتَرَفَ بِسُبُوغِ النَّعْمَاءِ وَقَابَلَهَا بِالتَّقْصِيرِ وَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالإِهْمَالِ وَالتَّضْيِيعِ وَأَنْتَ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ الْبَرُّ الْكَريِم ُالَّذِي لاَ يُخَيِّبُ قَاصِدِيهِ وَلاَ يَطْرُدُ عَنْ فِنَائِهِ آَمِلِيهِ، بِسَاحَتِكَ تَحُطُّ رِحَالُ الرَّاجِينَ وَبِعُرْصَتِكَ تَقِفُ آَمَالُ الْمُسْتَرْفِدِينَ فَلاَ تُقَابِلْ آَمَالَنَا بِالتَّخْيِيبِ وَالإِيَاسِ وَلاَ تُلْبِسْنَا سِرْبَالَ الْقُنُوطِ وَالإِبْلاَسِ1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾2.
2- ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾3.
3- ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾4.
4- ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾5.
1 الإمام السجّاد، الصحيفة السجّاديّة، مناجاة الشاكرين.
2 سورة النور، الآية 2.
3 سورة الحشر، الآية 10.
4 سورة البقرة، الآية 143.
5 سورة البقرة، الآية 207.
477
410
الدرس الخامس والثلاثون: الرأفة
5- ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾1.
6- ﴿ لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾2.
الروايات الشريفة:
1- عن الصادق عليه السلام قال: "خطب أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله وسلم فقال فيما يقول: أيّها الناس سلوني قبل أن تفقدوني أيّها الناس أنا قلب الله الواعي ولسانه الناطق وأمينه على سرّه وحجّته على خلقه وخليفته على عباده وعينه الناظرة في بريته ويده المبسوطة بالرأفة والرحمة ودينه الذي لا يصدقني إلا من محض الإيمان محضا ولا يكذبني إلا من محض الكفر محضا"3.
2- وَمِنْ كِتَابٍ لَأمير المؤمنين عليه السلام إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ دَهَاقِينَ أَهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ قَسْوَةَ وَغِلْظَةً وَاحْتِقَاراً وَجَفْوَةً فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلًا لِأَنْ يُدْنَوْا لِشِرْكِهِمْ وَلَا أَنْ يُقْصَوْا وَيُجْفَوْا لِعَهْدِهِمْ فَالْبَسْ لَهُمْ جِلْبَاباً مِنَ اللِّينِ تَشُوبُهُ بِطَرَفٍ مِنَ الشِّدَّةِ وَدَاوِلْ لَهُمْ بَيْنَ الْقَسْوَةِ وَالرَّأْفَةِ وامْزُجْ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْرِيبِ وَالْإِدْنَاءِ وَالْإِبْعَادِ وَالْإِقْصَاءِ إِنْ شَاءَ الله"4.
1 سورة آل عمران، الآية 30.
2 سورة التوبة، الآية 117.
3 الاختصاص، ص 248.
4 بحار الأنوار، ج33، ص 489.
478
411
الدرس السادس والثلاثون: العفّة
الدرس السادس والثلاثون: العفّة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى العفّة وتأثيرها على إيمان الإنسان وسلوكه نحو الله.
2- يبيّن كيفيّة ترسيخ خُلُق العفّة في أنفسنا.
3- يشرح المانع الأساس من اكتساب خُلُق العفّة.
479
412
الدرس السادس والثلاثون: العفّة
تمهيد
لمّا خلق الله الإنسان أودع فيه جملة من القوى، بها يصل إلى كماله وينال منافعه. ولأجل أن تتحرّك هذه القوى على هذا الصّراط المستقيم، فإنّ الله تعالى وهب هذا الإنسان قوّة العقل التي يميّز فيها النّافع من الضارّ لكي لا تتّجه قواه المختلفة نحو الفساد والهلاك.
وكانت القوّة الشّهويّة التي أنعم الله بها على الإنسان ـ كما يقول الإمام الخمينيّ ـ من أجل حفظ النّظام العائليّ وتحقيق الكرامة والسّعادة له في الدّنيا والآخرة. وقد وضع الله سبحانه مجموعة من القوانين والتّشريعات التي لو التزم بها أصحاب القوّة الشّهويّة لضمنوا تحقّق تلك الأهداف. ولكي يضمن استعمال هذه القوّة وفق النّظام التّشريعيّ اللائق، كان لا بدّ من صيانة أقوى هي الصّيانة الأخلاقيّة.
فما هي الأخلاق التي تجعل الالتزام بأحكام القوّة الشّهويّة سهلًا وميسّرًا؟ وكيف نحقّق هذه الانطلاقة في أنفسنا؟
التّعريف العلميّ
إنّ من الأخلاق التي تجعل القوّة الشهويّة معتدلة لا تميل إلى جانب التّفريط والخمود ولا إلى جانب الإفراط والهوس خُلُق العفاف.
"إنّ الكثير من الأخلاق الفاضلة هي التي تتوسّط جانبي الإفراط والتّفريط والعفّة خلق يتوسّط بين رذيلة الشّره ورذيلة الخمود"1. "ولا بدّ من معرفة أنّ علماء الأخلاق أرجعوا كافّة الفضائل النفسيّة، إلى أمور أربعة هي: الحكمة، والعفّة، والشجاعة، والعدالة، واعتبروا أنّ الحكمة فضيلة للنّفس النّاطقة التي تُميّز وتفرّق الإنسان عن غيره، والشّجاعة
1 الأربعون حديثًا، ص 424.
481
413
الدرس السادس والثلاثون: العفّة
من فضائل النّفس الغضبية، والعفّة من فضائل النّفس الشّهويّة، والعدالة ترعى الفضائل الثّلاثة"1.
ولهذا يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "قسّم الحكماء أجناس الفضائل إلى أربع فضائل هي: الحكمة والشجاعة والعفّة والعدالة، إذ إنّ للنّفس قوّتين هما: قوّة الإدراك وقوّة التّحريك، ولكلّ منهما شعبتان، فقوّة الإدراك تنقسم إلى العقل النظريّ والعقل العمليّ، وقوّة التّحريك تنقسم إلى قوّة الدّفع (لغير الملائم) وهي قوّة الغضب، وإلى قوّة الجلب (للملائم) وهي قوّة الشهوة. والاعتدال في كل واحدة من هذه القوى الأربع وإخراجها من حدّي الإفراط والتّفريط فضيلة. فالحكمة عبارة عن تعديل القوّة النّظرية وتهذيبها، والعدالة تعديل القوّة العمليّة وتهذيبها، والشّجاعة تعديل القوّة الغضبيّة وتهذيبها، والعفّة تعديل القوّة الشهويّة وتهذيبها"2.
إنّ أكثر النّاس يميلون بحكم البيئة التي تثير الغرائز نحو الشّره والتهتّك واستعمال قوّة الشّهوة بصورة إفراطيّة. ولعلّه لهذا الأمر قد جعل الحديث المنقول عن الإمام الصّادق عليه السلام العفّة ضدًّا للتهتّك.
أهميّة العفّة
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "لو تفكَّر الإنسان الواعي قليلاً في هذا الأمر لعرف بوضوحٍ كامل أنّ جنايته الحقيقيّة إنّما تقع إذا هتك ستر العفّة لهذه القوّة التي أنعم الله بها على الإنسان من أجل حفظ النّظام العائليّ، وتحقيق الكرامة والسّعادة له في الدّنيا والآخرة، فكيف يسخِّرها لغايات هي على الضدّ ممّا يُراد منها؟! ويقولُ في رواية أخرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ الله يحبُّ الحييَّ الحليم العفيف المُتَعفِّف"3.4
فإذا نظرنا إلى جميع التحرّكات والأنشطة التي يقوم بها البشر لوجدنا أنّ معظمها ينطلق من هذه القوّة لأجل تأمين مقتضيات الشّهوة. أمّا القسم المتبقّي منها فإنّه عبارة عن دفع
1 الأربعون حديثاً، ص 547.
2 جنود العقل والجهل، ص 147-148.
3 الكافي، ج2، ص 112.
4 جنود العقل والجهل، ص 258.
482
414
الدرس السادس والثلاثون: العفّة
المضار، بل إنّ الكثير من استعمالات القوّة الغضبيّة إنّما هي لخدمة القوّة الشهويّة. ولا شكّ بأنّ قوّة الوهم عندما تتغلّب على قوّة العقل وتمنع من سريان نوره في النّفس، فتعرض هذه النّفس عن الاستماع إلى أحكامه وأوامره، فلن يبقى سوى الاندفاع الشّهوانيّ والغضبيّ الفاقد للهداية. وتصبح مملكة الإنسان كسفينةٍ تخوض غمار لجج البحار العاتية دون ربّان خبير وعارف. هنا تأتي الحاجة الماسّة إلى العقل الذي يحدّد ما ينفع وما يضرّ في الشّهوة. وعندما يلتزم الإنسان بأحكامه ويستقرّ عليها مدّة يرسخ فيه خلق العفّة، فيكون أفضل معين للعقل على إكمال سيطرته على وجود الإنسان وعالمه الأخلاقيّ والسّلوكيّ.
بعض مناشئ العفّة
يمكننا أن نحدّد مجموعة من الأسباب التي تساهم في اعتدال القوّة الشهويّة وحيازة ملكة العفّة. ومنها:
1- الإيمان
وفي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الحياء والعفّة من خلائق الإيمان، وإنّها لسجيّة الأحرار وشيمة الأبرار"1 وهذا الحديث يدلّ على أنّ التّفاعل القلبيّ مع آيات حضور الله في الكون والحياة يجعل الإنسان معتدلًا في استعمال شهوته. وسرّ ذلك أنّ المؤمن الذي تعلّق قلبه بالله تعالى وتوجّه إليه سيجعل كل قوّة منحه الله إيّاها في سبيل الوصول إلى لقائه. وعندها لن يكون للشّهوة في حياته دور القيادة والسّيطرة. وهذا هو العامل الأهمّ في العفّة.
2- الفطرة
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ العفّة من الأمور الفطريّة الملازمة للفطرة السّليمة المخمّرة، وبالتّالي من جنود العقل، في حين أنّ الهتك من مقتضيات الفطرة المحجوبة ومن جنود إبليس والجهل. إذ إنّ العدالة في عمل كلّ قوة، وهي بمثابة جنس العفّة (وأصل ظهورها) هي أمرٌ فطريّ يقابله الجور، وهو ضدّ الفطرة السّليمة كما تقدّم سابقًا، مثلما أنّ الخضوع الكامل والتّبعيّة للكُمَّل هو أمرٌ فطريّ وما يقابله خلاف الفطرة.
1 تصنيف غرر الحكم، ص 257.
483
415
الدرس السادس والثلاثون: العفّة
كما أنّ العفّة نفسها والحياء والحشمة من الأمور الفطريّة التي جُبل عليها الإنسان، في حين أنّ التهتّك والفحشاء والوقاحة مخالفة لفطرة كلّ إنسان، لذلك فإنّ حبّ العفّة والحياء مخمّر في فطرة كلّ إنسان مثلما أنّ بغض التّهتّك وانعدام الحياء مخمّر فيها أيضًا"1.
3- ولاية أهل البيت عليهم السلام
ففي الحديث المرويّ عن مفضل قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "إِيَّاكَ وَالسَّفِلَةَ فَإِنَّمَا شِيعَةُ عَلِيٍّ مَنْ عَفَ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ وَاشْتَدَّ جِهَادُهُ وَعَمِلَ لِخَالِقِهِ وَرَجَا ثَوَابَهُ وَخَافَ عِقَابَهُ فَإِذَا رَأَيْتَ أُولَئِكَ فَأُولَئِكَ شِيعَةُ جَعْفَرٍ"2.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ"3.
4- المعرفة
فإنّ من عرف أنّ ما يحتاجه مقسومٌ مضمونٌ من عند الله لن يتهالك من أجل الوصول إليه، وبالتّالي لن يزيد من استعمال قوّة الشّهوة لأجل نيل المزيد من الشّهوة. فعن الحسين عليه السلام: "أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا هَذَا لَا تُجَاهِدْ فِي الرِّزْقِ جِهَادَ الْغَالِبِ وَلَا تَتَّكِلْ عَلَى الْقَدَرِ اتِّكَالَ مُسْتَسْلِمٍ فَإِنَّ ابْتِغَاءَ الرِّزْقِ مِنَ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَالَ فِي الطَّلَبِ مِنَ الْعِفَّةِ وَلَيْسَ الْعِفَّةُ بِمَانِعَةٍ رِزْقاً وَلَا الْحِرْصُ بِجَالِبٍ فَضْلًا وَإِنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ وَالْأَجَلَ مَحْتُومٌ وَاسْتِعْمَالَ الْحِرْصِ جَالِبُ الْمَآثِمِ4.
5- أولوية الجهاد الأكبر
الذين عرفوا أنّ هناك جهادًا كبيرًا يحتاج إلى جهد وسعي يفوق مساعيهم العاديّة في الحياة وآمنوا أنّهم إذا لم يسلكوا هذا الطّريق فسوف يحتنكهم الشّيطان ويجعلهم من
1 جنود العقل والجهل، ص 257.
2 الكافي، ج2، ص 233.
3 نهج البلاغة، ص417.
4 مستدرك الوسائل، ج 13، ص 35.
484
416
الدرس السادس والثلاثون: العفّة
أوليائه، هؤلاء هم الذين سيقدرون على فهم معاني الأحاديث التالية ووضعها في مكانها الصّحيح.
فعن أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: "أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ عِفَّةُ بَطْنٍ وَفَرْجٍ وَمَا من شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ"1. وعنه عليه السلام: "قَالَ لَهُ رَجُلٌ إِنِّي ضَعِيفُ الْعَمَلِ قَلِيلُ الصَّلَاةِ قَلِيلُ الصَّوْمِ وَلَكِنْ أَرْجُو أَنْ لَا آكُلَ إِلَّا حَلَالًا وَلَا أَنْكَحَ إِلَّا حَلَالًا، فَقَالَ وَأَيُّ جِهَادٍ أَفْضَلُ مِنْ عِفَّةِ بَطْنٍ وفَرْجٍ"2.
وقال عليه السلام: "مَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ مِنْ عِفَّةِ بَطْنٍ وَفَرْجٍ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ"3.
إخضاع العفة لحكم العقل والشرع
غالبًا ما يكون الحديث عن أسباب ومناشئ الأخلاق حديثًا عن كيفيّة تحصيلها. فمن علم أنّ الفطرة أساس هذه الفضيلة اتّجه نحو تحصين فطرته واكتساب المزيد من أنوارها. وجاهد من أجل إزالة الحجب المانعة منها. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "أمّا جانب التّفريط في النّفس البهيميّة فهو "الخمود" وهو عبارة عن كبت القوّة الشّهويّة فوق ما يقتضيه حدُّ الاعتدال والمقدار المطلوب، وتعطيل هذه القوّة النّبيلة التي أنعم الله بها على الإنسان لكي يحفظ بها نفسه ونوعه. فإذا أُخضعت هذه القوّة لحكم العقل والشّرع، وأُخرجت من حدَّي الغلوّ والتّقصير والإفراط والتّفريط، وكان تحرّكها منسجمًا مع العقل والشّرع، ضمن حاكميّة جنود الله، ظهرت فيها السّكينة والطّمأنينة، وملكةُ الاعتدال واكتسبت صبغة عقليّة بل إلهيّة، وهذه هي "العفّة"4.
أكبر مانع من العفّة
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "والانسان الذي وقر فيه هذا الحبّ (حبّ الدّنيا) مجانب لجميع الفضائل المعنويّة، وإنّ الشّجاعة والعفّة والسّخاء والعدالة التي هي مبدأ جميع
1 بحار الأنوار، ج66.
2 (م.ن)، ج68، ص 273.
3 (م.ن)، ج75، ص 141.
4 جنود العقل والجهل، ص 256.
485
417
الدرس السادس والثلاثون: العفّة
الفضائل النّفسانيّة لا تجتمع مع حبّ الدنيا"1.
فمن اتّخذ الدّنيا وسيلةً لتعزيز الأنا وانطلق من حبّ النّفس في التّعامل مع مواهب هذه الحياة، سيرى كلّ شيء فيها شهوة لنفسه ويطلبها لتأمين حظوظ النّفس وآمالها. وعندها ستعظم شهوته وتفوق مقدار حاجاته الطّبيعيّة فيتملّكه الهوس ويسيطر عليه الشّره ولا يبقى قادرًا على حفظ الاعتدال والسّير الصّحيح على الصّراط المستقيم للمنافع والنّعم الإلهيّة.
تحصيل العفّة بالتفكر والترويض
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "الخُلُق عبارة عن حالة نفسيّة، تدفع الإنسان نحو العمل من دون تَروّي وتفكّر. فمثلاً إن الذي يتمتّع بالسّخاء، يدفعه خُلُقه هذا إلى الجود والإنفاق من دون حاجة إلى تنظيم مقدّمات، وترتيب مرجّحات. وكأنّ هذا الخُلُق غدا من الأمور الطّبيعيّة للإنسان مثل النّظر والسّمع. وهكذا النّفس العفيفة التي أصبحت العفّة خُلقًا لها جزءاً طبيعيًّا لها، وما دامت النّفس لم تبلغ هذا المستوى من التجذّر الخُلُقيّ بواسطة التّفكّر والتدّبّر والتّرويض، لم يكن لها أخلاق وكمال، ويُخشى عليها من زوال الخُلُق الكريم الذي يُعدّ من الكمالات النّفسيّة، وتغلب عليها العادات والخلق السّيّئ. وأمّا إذا بلغ الخُلُق مستوى الأفعال الطّبيعيّة في الإنسان، وغدا من قبيل القوى والآلات، وظهرت سلطنة الحقّ وقهره، لكان زواله مشكلًا ونادرًا"2.
1 معراج السالكين، ص 62.
2 الأربعون حديثًا، ص 546.
486
418
الدرس السادس والثلاثون: العفّة
المفاهيم الرئيسة
1- العفّة خلق يتوسّط بين رذيلة الشّره ورذيلة الخمود. وهي من فضائل النّفس الشّهويّة. فهي من الأخلاق التي تجعل القوّة الشهويّة معتدلة لا تميل إلى جانب التّفريط والخمود ولا إلى جانب الإفراط والهوس.
2- إنّ جناية الإنسان الحقيقيّة إنّما تقع إذا هتك ستر العفّة لهذه القوّة التي أنعم الله بها على الإنسان من أجل حفظ النّظام العائليّ، وتحقيق الكرامة والسّعادة له في الدّنيا والآخرة.
3- العقل هو الذي يحدّد ما ينفع وما يضرّ في الشّهوة، وعندما يلتزم الإنسان بأحكامه ويستقرّ عليها مدّة يرسخ فيه خُلُق العفّة.
4- مناشئ العفّة هي:
- الإيمان: فالمؤمن الذي تعلّق قلبه بالله تعالى وتوجّه إليه سيجعل كل قوّة منحه الله إيّاها في سبيل الوصول إلى لقائه، وعندها لن يكون للشّهوة في حياته دور القيادة والسّيطرة. وهذا هو العامل الأهمّ في العفّة.
- الفطرة: إنّ حبّ العفّة والحياء مخمّر في فطرة كلّ إنسان مثلما أنّ بغض التّهتّك وانعدام الحياء مخمّر فيها أيضًا.
- المعرفة: إنّ من عرف أنّ ما يحتاجه مقسومٌ مضمونٌ من عند الله لن يتهالك من أجل الوصول إليه، وبالتّالي لن يزيد من استعمال قوّة الشّهوة لأجل نيل المزيد من الشّهوة، بل سيتعفّف.
- الدّخول في الجهاد الأكبر.
5- أكبر مانع أمام العفة هو حبّ الدنيا، فمن اتّخذ الدّنيا وسيلةً لتعزيز الأنا وانطلق من حبّ النّفس في التّعامل مع مواهب هذه الحياة، سيرى كلّ شيء فيها شهوة لنفسه ويطلبها لتأمين حظوظ النّفس وآمالها.
6- العفّة يمكن تحصيلها من خلال التفكّر الدائم في الآثار السلبية لعدم التخلّق بهذه الصفة، والترويض الدائم للنفس ومجاهدتها كلما حملت الإنسان على العمل بالشهوات والغرائز.
487
419
الدرس السادس والثلاثون: العفّة
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللّهُمَّ ارْزُقْنا تَوْفِيقَ الطَّاعَةِ وَبُعْدَ المَعْصِيَةِ وَصِدْقَ النِيَّةِ وَعِرْفانَ الحُرْمَةِ... وَتَفَضَّلْ عَلى عُلَمائِنا بِالزُّهْدِ وَالنَّصِيحَةِ وَعَلى المُتَعَلِّمِينَ بالجِهْدِ وَالرَّغْبَةِ وَعَلى المُسْتَمِعِينَ بِالاتِّباعِ وَالمَوْعِظَةِ... وَعَلى الشَّبابِ بِالاِنابَةِ وَالتَّوْبَةِ، وَعَلى النِّساءِ بالحَياءِ وَالعِفَّةِ1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾2.
2- ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾3.
3- ﴿وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾4.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الصَّبْرُ عَنِ الشَّهْوَةِ عِفَّةٌ وَعَنِ الْغَضَبِ نَجْدَةٌ وَعَنِ الْمَعْصِيَةِ تَوَرَّعٌ"5.
1 مفاتيح الجنان، دعاء: الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف.
2 سورة البقرة، الآية 273.
3 سورة النور، الآية 33.
4 سورة النساء، الآية 6.
5 مستدرك الوسائل، ج11، ص 263.
488
420
الدرس السادس والثلاثون: العفّة
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الكفّ عمّا فى أيدى النّاس عفّة وكبر همّة"1.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وَالْحِرْفَةُ مَعَ الْعِفَّةِ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى مَعَ الْفُجُورِ"2.
4- قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ يَا جَابِرُ هَذَا شَهْرُ رَمَضَانَ مَنْ صَامَ نَهَارَهُ وَقَامَ وِرْداً مِنْ لَيْلِهِ وَعَفَ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ وَكَفَّ لِسَانَهُ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَخُرُوجِهِ مِنَ الشَّهْرِ، فَقَالَ جَابِرٌ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَحْسَنَ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: يَا جَابِرُ وَمَا أَشَدَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ"3.
5- قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "تَزَوَّجُوا إِلَى آلِ فُلَانٍ فَإِنَّهُمْ عَفُّوا فَعَفَّتْ نِسَاؤُهُمْ وَلَا تَزَوَّجُوا إِلَى آلِ فُلَانٍ فَإِنَّهُمْ بَغَوْا فَبَغَتْ نِسَاؤُهُمْ، وَقَالَ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ أَنَا اللهُ قَاتِلُ الْقَاتِلِينَ وَمُفْقِرُ الزَّانِينَ أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَزْنُوا فَتَزْنِيَ نِسَاؤُكُمْ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ"4.
6- وَقَالَ عليه السلام: "مَا الْمُجَاهِدُ الشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَعْظَمَ أَجْراً مِمَّنْ قَدَرَ فَعَفَ لَكَادَ الْعَفِيفُ أَنْ يَكُونَ مَلَكاً مِنَ الْمَلَائِكَةِ"5.
7- قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "حَسْبُكَ مِنْ كَمَالِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يُحْمَدُ بِهِ، وَمِنْ حَيَائِهِ أَنْ لَا يَلْقَى أَحَداً بِمَا يَكْرَهُ، وَمِنْ عَقْلِهِ حُسْنُ رِفْقِهِ، وَمِنْ أَدَبِهِ عِلْمُهُ بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَمِنْ وَرَعِهِ عِفَّةُ بَصَرِهِ، وَعِفَّةُ بَطْنِه"6.
8- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "على قدر الحياء تكون العفّة"7.
9- عَنِ الْحَسَنِ بْنِ جَهْمٍ قَالَ: "رَأَيْتُ أَبَا الْحَسَنِ عليه السلام اخْتَضَبَ فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ اخْتَضَبْتَ فَقَالَ نَعَمْ إِنَّ التَّهْيِئَةَ مِمَّا يَزِيدُ فِي عِفَّةِ النِّسَاءِ وَ لَقَدْ تَرَكَ النِّسَاءُ الْعِفَّةَ بِتَرْكِ أَزْوَاجِهِنَّ التَّهْيِئَةَ"8.
1 تصنيف غرر الحكم، 398.
2 نهج البلاغة، ص 402.
3 الكافي، ج4، ص 87.
4 (م.ن)، ج5، ص 554.
5 نهج البلاغة, ص 559.
6 مستدرك الوسائل، ج12، ص 170.
7 تصنيف غرر الحكم، ص 256.
8 الكافي، ج5، ص 567.
489
421
الدرس السابع والثلاثون: شرح الصدر
الدرس السابع والثلاثون: شرح الصدر
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يتعرّف إلى المعنى الدّقيق لشرح الصّدر وأهم علاماته.
2. يبيّن أهميّة شرح الصّدر وآثاره.
3. يشرح العلاقة بين شرح الصدر والولاية.
491
422
الدرس السابع والثلاثون: شرح الصدر
تمهيد
يرمز القلب إلى هويّة الإنسان المعنويّة والباطنيّة مثلما يدلّ الوجه على هويّته الظاهريّة. وعندما يجري الحديث عن تعامل القلب مع الأنوار الملكوتيّة والفيوضات الرّحمانيّة، يأتي دور الصّدر. فالصّدر وعاء القلب وليس أمرًا مغايرًا له. ولهذا، قال الإمام الخمينيّ قدس سره: "وأمّا شرح الصّدر فهو يحصل لقلب الإنسان.."1.
وعليه يكون انشراح الصّدر وانفتاحه وتوسّعه واستعداده لتلقّي الفيض والنّور من الكمالات العظيمة التي سنشير إلى بعض آثارها وتجلّياتها في الحياة المعنويّة والسّلوكيّة للإنسان.
ما هو شرح الصّدر؟
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "قال تعالى في الآية المباركة 22 من سورة الزمّر، ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾2. وفي هذه الآية جعل شرح الصدر الذي يستلزم قبول الحقّ ـ مقابلًا لقساوة القلب التي تستلزم عدم قبول الحقّ، ثمّ ذكر في الآية اللاحقة اللين ورقّة القلب وهي المقابل الحقيقيّ للقساوة، فقال: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾3.4
وينقل الإمام قدس سره رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لمّا سُئل عن معنى الشرح في قوله تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾5، وقيل: ما هذا الشرح؟ قال: "إنّ النور إذا
1 جنود العقل والجهل، ص 280.
2 سورة الزمر، الآية 22.
3 سورة الزمر، الآية 23.
4 جنود العقل والجهل، ص 221.
5 سورة الأنعام، الآية 125.
493
423
الدرس السابع والثلاثون: شرح الصدر
دخل القلب انشرح له الصّدر وانفسح. قيل: يا رسول الله وهل لذلك علامة؟ قال: نعم، التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله"1.2
ويقول قدس سره: "المتحلّي بشرح الصّدر لا يولي أهميّةً لما يراه في نفسه من كمالٍ وجمالٍ ومالٍ ونفوذٍ وحشمة ولا يستعظمه، لأنّ سعته الوجوديّة كبيرة إلى درجة تجعله يتغلّب على جميع الورادات القلبيّة، فلا يضيق وعاؤُهُ الوجوديّ بشيءٍ"3.
فاتّضح أنّ انشراح الصّدر اللازم للهداية الإلهيّة ينطلق من رقّة القلب واستعداده لتلقّي الأنوار الربّانيّة، وكلّما تلقّى المؤمن نورًا واستقبله، زاد استعداده لتلقّي المزيد من الأنوار. وبالعكس، إذا لم يعمل بمقتضى هذا النّور، خرج من القلب وصار الصّدر ضيّقًا، بل أضيق ممّا كان عليه.
من هنا، كان العمل من شروط كسب هذه الملكة كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في الحديث الذي سيأتي "فعليك بالعمل لله في سرّ أمرك وعلانيّتك، فلا شيء يعدل العمل"4، بعد أن ذكر انشراح الصّدر وعلاماته.
ويتجلّى انشراح الصّدر، بحسب الكلام المذكور في:
1- قبول الحقّ.
2- التّجافي عن دار الغرور.
3- الإنابة إلى دار السّرور.
4- الاستعداد للموت قبل حلول الفوت.
5- زوال العجب والرّضا عن النّفس.
أهمّ آثار انشراح الصّدر
وبالإضافة إلى ما ذُكر في تعريف شرح الصّدر، ذكر الإمام قدس سره أنّه يؤدّي إلى:
1- إيصال قلوب المتألّهين للأنس بالله تعالى.
1 بحار الأنوار، ج74، ص81.
2 جنود العقل والجهل، ص 280.
3 جنود العقل والجهل، ص 304.
4 بحار الأنوار، ج90، ص 142.
494
424
الدرس السابع والثلاثون: شرح الصدر
2- وإلى مقام الطّمأنينة والسّكينة.
3- وإلى التّواضع وعزّة النّفس.
ويقول قدس سره: "إنّ ضيق القبر أو اتّساعه منوط بضيق الصّدر أو انشراحه"1.
من أين ينشأ شرح الصّدر؟
1. التّجافي عن دار الغرور
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ولا يخفى أنّ القلب ما دام متوجّهاً لدار الطبيعة وبئر الدنيا المظلمة الضّيقة، أسيراً في غلاف الملك وأغلال هذا العالم، فهو قلبٌ ضيّقٌ مظلمٌ غير مستعدّ لتلقّي نور الهداية وتجلّيات الجمال والجلال. أمّا شرح الصّدر فهو يحصل لقلب الإنسان بمقدار إعراضه عن الدّنيا وزخارفها، فتقبل حينئذ النّور المعنويّ حتّى ينصرف بالكامل عن دار الغرور ويتجافى وينقطع عنها، فيتأهّل بذلك لتلقّي تجلّي النّور المطلق وجمال الجميل الحقّ"2.
2- معرفة الله
ويقول قدس سره أيضًا: "هذه السّعة في الصّدر وليدة معرفة الحقّ تعالى، وهي التي توصل قلوب المتألهين للأنس بالله إلى مقام الإطمئنان والسكينة والطمأنينة"3.
3- حبّ الله وذكره
"اعلم أنّ ذكر الله تعالى يجعل القلب مُعرِضًا عن جميع منازل الطّبيعة ومناظرها، بل ويجعل كلّ العالم بكلّ ما فيه عدمًا لا قيمة له في عينه، فلا يتعلّق بشيءٍ منه، بل ينحصر تعلّقه بالحقّ تعالى وحده، حتى تبلغ همّته مرتبةً من العلّو لا يقيم معها وزنًا لجميع عوالم الوجود، وعندها لا تضعف همّته بسبب الواردات القلبيّة مهما كانت، فلا يستشعر الكِبَر في نفسه بسبب هذه الواردات بل إنّه يستصغر كلّ شيء غير الحقّ تعالى وآثار جماله وجلاله... فحبُّ الله تعالى يثمر سعة الصّدر، وهذه السّعة تولّد التّواضع وعزّة النّفس، في حين أنّ حبَّ
1 الأربعون حديثًا، ص 135.
2 جنود العقل والجهل، ص 280.
3 (م.ن)، ص 304.
495
425
الدرس السابع والثلاثون: شرح الصدر
النفس والنّظر إليها نتيجةً لضيق الصّدر من جهة، وعلّة لزيادته من جهّة أخرى"1.
فتبيّن لنا أنّ شرح الصّدر ينشأ من الأمور التّالية:
1- الإعراض عن الدّنيا وزخارفها.
2- معرفة الحقّ تعالى.
3- حبّ الله وذكره.
وفي الحديث عن الإمام الصّادق عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى: "﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾2 قال: فقال بولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام"3.
كيف نشرح صدورنا؟
1- العلم
بالرّغم من أنّ شرح الصدّر عطاء إلهيّ، لكن للعبد دور في تهيئة القلب لقبول الشّرح. وإنّ من أعظم الأمور التي تؤدّي إلى شرح الصّدر هو العلم والمعرفة حيث يقول الإمام قدس سره: "فالعلم نور، والنور ينوِّرُ القلب ويوسعه، ويشرح الصدر، ويضيء طريق الهداية والسلوك"4.
2- الإيمان
وفي الحديث أنّ عليًّا عليه السلام قال لرجل: "إن كنت قد شرح الله صدرك بما قد تبينت لك فأنت والذي فلق الحبة وبرأ النسمة من المؤمنين حقّاً. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين كيف لي أن أعلم بأني من المؤمنين حقا؟ قال: عليه السلام لا يعلم ذلك إلا من أعلمه الله على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة أو شرح الله صدره ليعلم ما في الكتب التي أنزلها الله عزّ وجلّ على رسله وأنبيائه، قال يا أمير المؤمنين: ومن يطيق ذلك؟ قال: من شرح الله صدره ووفّقه له، فعليك بالعمل لله في سرّ أمرك وعلانيتك فلا شيء يعدل العمل"5.
1 (م.ن)، ص 304-305.
2 سورة الشرح، الآية 1.
3 بصائر الدرجات، ج1، ص 73.
4 جنود العقل والجهل، ص 310.
5 بحار الأنوار، ج90، ص 142.
496
426
الدرس السابع والثلاثون: شرح الصدر
وفي هذا الحديث إشارة واضحة إلى التّلازم بين الإيمان الحقيقيّ وشرح الصّدر. فمن أشرقت أنوار الإيمان بالله في قلبه وسّعته وشرحته، لأنّ للإيمان دورٌ كبيرٌ في توجيه وجهة القلب نحو الخيرات والكمالات. فهو الذي يبدأ من القبول والإذعان. وكفى بهذا أثر في توجيه القلب نحو المطلوب. والملفت في كلام أمير المؤمنين عليه السلام أيضًا أنّه جعل العلم بما في الكتب التي أنزلها الله عزّ وجلّ على رسله وأنبيائه من علامات شرح الصّدر.
497
427
الدرس السابع والثلاثون: شرح الصدر
المفاهيم الرئيسة
1- عندما يجري الحديث عن تعامل القلب مع الأنوار الملكوتيّة والفيوضات الرّحمانيّة، يأتي دور الصّدر. فالصّدر وعاء القلب وليس أمرًا مغايرًا له.
2- إنّ شرح الصدر قبول الحقّ، وهو يقابل قسوة القلب التي تستلزم عدم قبول الحقّ.
3- من علامات شرح الصّدر:
- أنّ صاحبه لا يولي أهميّةً لما يراه في نفسه من كمالٍ وجمالٍ ومالٍ ونفوذٍ وحشمة ولا يستعظمه، لأنّ سعته الوجوديّة كبيرة إلى درجة تجعله يتغلّب على جميع الورادات القلبيّة، فلا يضيق وعاؤُهُ الوجوديّ بشيءٍ.
- الاستعداد للموت قبل نزوله.
- العلم بما في الكتب التي أنزلها الله.
4- إنّ انشراح الصّدر اللازم للهداية الإلهيّة ينطلق من رقّة القلب واستعداده لتلقّي الأنوار الربّانيّة، وكلّما تلقّى المؤمن نورًا واستقبله، زاد استعداده لتلقّي المزيد من الأنوار.
5- من آثار انشراح الصّدر: الأنس بالله تعالى، الطّمأنينة والسّكينة، التّواضع وعزّة النّفس.
6- يحصل شرح الصّدر لقلب الإنسان بمقدار إعراضه عن الدّنيا وزخارفها، ونتيجة معرفة الحقّ تعالى وذكره وحبّه، فحبُّ الله تعالى يثمر سعة الصّدر، وهذه السّعة تولّد التّواضع وعزّة النّفس، في حين أنّ حبَّ النفس والنّظر إليها نتيجةً لضيق الصّدر من جهة، وعلّة لزيادته من جهّة أخرى، وكذلك بولاية عليّ عليه السلام.
7- بالرّغم من أنّ شرح الصدّر عطاء إلهيّ، لكن للعبد دور في تهيئة القلب لقبول الشّرح، وذلك من خلال المعرفة والعلم بالحقّ تعالى وزيادة الإيمان والعمل.
498
428
الدرس السابع والثلاثون: شرح الصدر
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللهم إنّي...أَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآَلِهِ... وَأَنْ تَشْرَحَ بِكِتَابِكَ صَدْرِي وَتَحُطَّ بِتِلاَوَتِهِ وِزْرِي وَتَمْنَحَنِي السَّلاَمَةَ فِي دِينِي وَنَفْسِي وَلاَ تُوْحِشْ بِي أَهْلَ أُنْسِي1.
اللَّهُمَّ وَامْنُنْ عَلَيَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَزِيَارَةِ قَبْرِ رَسُولِكَ، صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَرَحْمَتُكَ وَبَرَكَاتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ، وَآلِ رَسُولِكَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ... وَاشْرَحْ لِمَرَاشِدِ دِينِكَ قَلْبِي وَأَعِذْنِي وَذُرِّيَّتِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ2.
بِمَجَامِعِ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ إِلَى أَوْكَارِ الأَفْكَارِ يَأْوُونَ وَفِي رِيَاضِ الْقُرْبِ وَالْمُكَاشَفَةِ يَرْتَعُونَ ومِنْ حِيَاضِ الْمَحَبَّةِ بِكَأْسِ الْمُلاَطَفَةِ يِكْرَعُونَ وَشَرَايِعَ الْمُصَافَاةِ يَرِدُونَ، قَدْ كُشِفَ الْغِطَاءُ عَنْ أَبْصَارِهِمْ وَانْجَلَتْ ظُلْمَةُ الرَّيْبِ عَنْ عَقَائِدِهِمْ وَانْتَفَتْ مخُاَلجَةَ الشَّكِ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَسَرَائِرِهِمْ وَانْشَرَحَتْ بِتَحْقِيقِ الْمَعْرِفَةِ صُدُورُهُمْ وَعَلَتْ لِسَبْقِ السَّعَادَةِ فِي الزَّهَادَةِ هِمَمُهُمْ وَعَذُبَ فِي مَعِينِ الْمُعَامَلَةِ شِربُهُمْ وَطَابَ فِي مَجْلِسِ الأُنْسِ سِرُّهُمْ3.
1 الإمام السجّاد، الصحيفة السجادية، دعاء: يوم السبت.
2 (م.ن)، دعاؤه عليه السلام إذا سأل الله العافية.
3 (م.ن)، مناجاة العارفين.
499
429
الدرس الثامن والثلاثون: النشاط والبهجة في العبادة
الدرس الثامن والثلاثون: النشاط والبهجة في العبادة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يفهم ومعنى أن يكون المؤمن مبتهجًا نشيطًا.
2- يتعرّف إلى آثار البهجة والنّشاط وتأثيرها في العبادات وفي قبولها.
3- يشرح منشأ البهجة والنّشاط وشروط المحافظة عليهما.
501
430
الدرس الثامن والثلاثون: النشاط والبهجة في العبادة
تمهيد
لا يخلو أحد من نشاط أو بهجة، لأنّ الكسل والغمّ إذا سيطرا على الإنسان قتلاه. لكن المطلوب هو أن يصبح النّشاط عنوان شخصيّة المؤمن وأحد أبرز سماته نظرًا لضيق الفرصة ومرورها مرّ السّحاب (مقارنةً بالأوضاع) وعظيم ما ينتظره من ثواب. وكيف لا يكون المؤمن مبتهجًا مشرقًا متفائلًا وهو يرى ما أعدّه الله وهيّأه له من إمكانات الكمال.
فالغالب على الحياة ـ وإن كانت الحياة الدّنيا ـ هو ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾1. ومن لم يرَ هذه الحقيقة ابتُلي بالغمّ وسيطر عليه الحزن السّلبيّ الذي يوشك أن يدمّر كلّ طاقاته البنّاءة واستعداداته الواعدة.
فكيف يكون المؤمن نشيطًا مبتهجًا؟ وكيف يحافظ على نشاطه وبهجته؟
أهميّة النّشاط والبهجة
بالنّظر إلى وضوح النّشاط والبهجة في قاموسنا العام، فلا حاجة إلى تعريفهما بصورة علميّة جامعة مانعة، حيث أنّ آثارها في النّفس والبدن ظاهرة جليّة. إلّا أنّ ما يعنينا في أبحاثنا الأخلاقيّة أن نرى مدى أهميّة هاتين الحالتين ودورهما على مستوى الحياة المعنويّة للإنسان. ولا شكّ بأنّ من أهم علامات الحياة المعنويّة سعي الإنسان الحثيث في العمل الصّالح والعبادة وصرف زهرة شبابه وطاقته في سبيل الله الحيّ القيّوم.
يذكر الإمام الخمينيّ قدس سره للنّشاط والبهجة مجموعة من الآثار والثّمار الطّيّبة؛ منها أنّها توجب فتح بعض الأبواب (إلى عالم الغيب). ومنها أنّها تؤدّي إلى كشف بعض أسرار العبادات. ومنها أنّها تؤدّي إلى ظهور آثار الأغذية الرّوحانيّة التي هي المعارف الإلهيّة في القلب بصورة أسرع، كما أنّها تسرّع في هذه الحالة من تصفية باطنه.
1 سورة النّحل، الآية 18.
503
431
الدرس الثامن والثلاثون: النشاط والبهجة في العبادة
1- كشف بعض أسرار العبادات
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ومن الآداب القلبية للصّلاة وسائر العبادات وله نتائج حسنة بل هو موجب لفتح بعض الأبواب وكشف بعض أسرار العبادات، أن يجتهد السّالك في أن تكون عبادته عن نشاط وبهجة في قلبه وفرح وانبساط في خاطره، ويحترز احترازًا شديدًا من الإتيان بالعبادة مع الكسل وإدبار النفس. فعليه أن يختار وقت العبادة بحيث يكون للنّفس إقبال ونشاط وحيويّة بعيدًا عن التّعب والفتور؛ لأنّه إذا حمل النّفس على العبادة في حين الكسل والتعب، يمكن أن تترتب عليه آثار سيئة، منها: أن يتضجّر الإنسان من العبادة ويزيد تكلفه وتعسّفه، ويوجب ذلك بالتدريج تنفر طباع النفوس منها. وهذا، مضافًا إلى أنّه من الممكن أن يصرف الإنسان بالكامل عن ذكر الحق، ويؤذي الرّوح من مقام العبودية التي هي منشأ جميع السّعادات، ينتج عنه ألّا يحصل للعبادة مع هذه الحالة نورانيّة القلب، ولا ينفعل باطن النفس منها، ولا تصير صورة العبودية صورة باطنية للقلب. وقد ذكرنا من قبل أن المطلوب في العبادات هو أن ينطبع باطن النفس بصورة العبودية"1.
2- تحقّق الأثر من العبادات
و"إنّ من أسرار العبادات والرّياضات ونتائجهما أن تكون إرادة النّفس في ملك البدن نافذة، وتكون دولة النّفس منقهرة ومضمحلّة في كبريائها، وتسيطر الإرادة على القوى المبثوثة والجنود المنتشرة في ملك البدن وتمنعها من العصيان والتمرّد والأنانيّة، وتكون القوى مسلّمة لملكوت القلب وباطنه، بل تصير جميع القوى بالتّدريج فانية في الملكوت، ويطبق أمر الملكوت في الملك وينفذ فيه، وتقوى إرادة النّفس، ويفلت زمام المملكة من يد الشّيطان والنّفس الأمّارة، وتُساق جنود النفس من الإيمان إلى التّسليم ومن التّسليم إلى الرّضا ومن الرّضا إلى الفناء. وفي هذه الحالة تجد النّفس رائحة من أسرار العبادة، ويحصل لها شيء من التّجلّيات الفعليّة. وما ذكرنا لا يتحقّق إلّا بأن تؤدّى العبادات عن نشاطٍ وبهجة ويحترز فيها من التكلّف والتعسّف والكسل احترازًا تامًّا، كي تحصل للعابد حالة
1 معراج السالكين، ص 37-38.
504
432
الدرس الثامن والثلاثون: النشاط والبهجة في العبادة
المحبّة والعشق لذكر الحقّ ولمقام العبودية، ويحصل له الأنس والتمكّن. وإنّ الأنس بالحقّ وذكره من أعظم المهمّات؛ ولأهل المعرفة بهما عناية شديدة وفيها يتنافس المتنافسون من أصحاب السّير والسّلوك"1.
3- سرعة تأثير الأغذية الروحانية في القلب وتصفية الباطن
"وكما أنّ الأطباء يعتقدون بأنّ الطّعام إذا أُكل بالسّرور والبهجة يكون أسرع في الهضم، كذلك يقضي الطّبّ الرّوحانيّ بأنّ الإنسان إذا تغذّى بالأغذية الرّوحانيّة بالبهجة والاشتياق محترزًا من الكسل والتكلّف، يكون ظهور آثارها في القلب وتصفية باطنه بها أسرع. وقد أشير إلى هذا الأدب في الكتاب الإلهيّ الكريم والصّحيفة الربوبيّة القويمة، حينما قال تعالى في مقام تكذيب الكفّار والمنافقين: ﴿وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾2. وقد فسّرت آية ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى﴾3 في حديث بأنّ المراد من سكارى كُسالى"4.
4- توسعة وعاء الإنسان لاستقبال الفيوضات
والتّأثير العظيم للنّشاط والبهجة يبرز من خلال دورهما في توسعة وعاء الإنسان لاستقبال الفيوضات الإلهيّة. وكأنّ هذا النّشاط يوسّع مجاري الاستقبال فيجعل الإنسان أكثر استعدادًا.
"ففي الحديث عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام: "إذا نشطت القلوب فأودعوها وإذا نفرت فودّعوها"5. وهذا دستورٌ جامع منه عليه السلام بأنّ أودعوا في القلوب في وقت نشاطها، وأمّا في وقت نفورها فخلّوها تستريح. فلا بدّ في كسب المعارف والعلوم أيضًا من رعاية هذا الأدب، وألّا يحمل القلوب على الكسب مع الكراهة والنّفور"6.
1 معراج السالكين، ص 38.
2 سورة التّوبة، الآية 54.
3 سورة النساء، الآية 43.
4 معراج السالكين، ص 39.
5 مستدرك الوسائل، ج1، ص 144.
6 معراج السالكين، ص 39.
505
433
الدرس الثامن والثلاثون: النشاط والبهجة في العبادة
من أين ينشأ النّشاط والبهجة
1- الشّكر
وهو عبارة عن تقدير النّعمة كونها صادرة من المنعم، ويؤدّي إلى الزّيادة حتّى يصل الشّاكر إلى مقام العجز عن الشّكر لدخوله في بحر النّعمة المطلقة. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "واعلم أنَّ الشكر مقابلة النعمة بالقول والفعل والنيّة وله أركان ثلاثة: الأوَّل معرفة المنعم وصفاته اللائقة به... الثاني الحال التي هي ثمرة تلك المعرفة، وهي الخضوع والتواضع والسرور بالنعم، من حيث إنّها هدية دالّة على عناية المنعم بك، وعلامة ذلك أن لا تفرح من الدُّنيا إلاّ بما يوجب القرب منه. الثالث العمل الّذي هو ثمرة تلك الحال فإنَّ تلك الحال إذا حصلت في القلب حصل فيه نشاط للعمل الموجب للقرب منه، وهذا العمل يتعلّق بالقلب واللسان والجوارح"1.
2. حبّ أهل البيت عليهم السلام
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من رزقه الله حبّ الأئمّة من أهل بيتي فقد أصاب خير الدنيا والآخرة فلا يشكنّ أحد أنّه في الجنّة فإنّ في حبّ أهل بيتي عشرون (عشرين) خصلة عشر منها في الدّنيا وعشر منها في الآخرة أمّا التي في الدّنيا فالزّهد والحرص على العمل والورع في الدين والرغبة في العبادة والتوبة قبل الموت والنشاط في قيام الليل"2.
ويدلّ هذا الحديث على أنّ النّشاط من أهم علامات إصابة خير الدّنيا والآخرة. وقد يظنّ البعض أنّ المؤمن ينبغي أن يكون جادًّا بمعنى العبوس والتجهّم لأنّه لا يعبث ولا يمزح. وقد خلط هؤلاء بين المزاح العابث اللغويّ والدّعابة اللطيفة. وقد ذكرت الأحاديث أنّ من علامات المؤمن النّشاط. عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "الْمُؤْمِنُ لَهُ قُوَّةٌ فِي دِينٍ، وَحَزْمٌ فِي لِينٍ، وَإِيمَانٌ فِي يَقِينٍ، وَحِرْصٌ فِي فِقْهٍ، وَنَشَاطٌ فِي هُدًى"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 278.
2 الخصال، ج2، ص 515.
3 الكافي، ج2، ص 231.
506
434
الدرس الثامن والثلاثون: النشاط والبهجة في العبادة
وكفى بهذا الوصف للإنسان الكامل دلالة على حسن البهجة، «فقد رُوي أنَّ الْبَاقِرَ عليه السلام هَاشِمِيٌّ مِنْ هَاشِمِيَّيْنِ، وَعَلَوِيٌّ مِنْ عَلَوِيَّيْنِ، وَفَاطِمِيٌّ مِنْ فَاطِمِيَّيْنِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ وِلَادَةُ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ عليه السلام وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمَّ عَبْدِ اللهِ بِنْتَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَكَانَ عليه السلام أَصْدَقَ النَّاسِ لَهْجَةً وَأَحْسَنَهُمْ بَهْجَةً وَأَبْذَلَهُمْ مُهْجَةً"1.
بل إنّ التّقصير في القيام بآداب العبوديّة للّه هو الذي يحرم الإنسان من هذه الخصلة الرّائعة، حيث يقول الإمام قدس سره: "ففي كلّ حال من الأحوال والأفعال الصلاتيّة حقّ لله تعالى لابدّ للعبد من القيام به وهو آداب العبوديّة في ذلك المنزل، وللعبد حظّ ونصيب يعطيه الحقّ باللطف الخفيّ والرّحمة الجليّة بعد قيام العبد بآداب العبوديّة، وإذا رأى نفسه في هذه المواقيت الإلهيّة محرومًا من العنايات الخاصّة فيعلم أنّه لم يقم بآداب العبوديّة، وعلامة ذلك للمتوسّطين أن لا تذيق ذائقة القلب لذّة المناجاة وحلاوة العبادات ويحرم عن البهجة والسرور والانقطاع إلى الحقّ"2.
شروط تحصيل الابتهاج والنّشاط
قد عُلم أنّ الابتهاج في النّفس ناشئ من إدراك الكمال. وذلك لأنّ فطرة الإنسان وتركيبته الأصليّة مبنيّة على الانفعال الإيجابيّ تجاه عطاءات الرّبّ وإنعامه. ولهذا، فإنّ المحافظة على هذه الفطرة الأصليّة هي الأساس في العمل. وعلى السّالك المجاهد أن يحترز من كلّ بشاعة أو قبح يدخل إلى نفسه فيظلمها، لأنّ الفطرة قائمة على التعلّق بالجمال وما يحجبها أو يضعفها هو الاتّصال بالقبح، وأقبح القبائح العقائد الباطلة والتّفسيرات الخاطئة للوجود والحياة والمصير. ويأتي بعدها في القبح الأخلاق الذّميمة، ومن بعدها مساوئ الأفعال وعدم اتّباع برنامج الإسلام العمليّ.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وبالجملة، الميزان في باب المراعاة أن يكون الإنسان ملتفتًا إلى أحوال النّفس، ويسلك معها بحسب قوّتها وضعفها. فإذا كانت النّفس قويّة في العبادات والرّياضات وتقدر على المقاومة، فليجدّ ويسعى في العبادة. وأمّا الذين طووا أيام عنفوان
1 بحار الأنوار، ج46، ص 215.
2 معراج السالكين، ص 228.
507
435
الدرس الثامن والثلاثون: النشاط والبهجة في العبادة
الشّباب، وانطفأت نائرة الشّهوات شيئًا ما فيهم، فالمناسب لهم أن يجدّوا في الرّياضات النّفسانيّة أكثر ويدخلوا في السّلوك والرّياضة بفتوّة. فكلّما عوّدوا النّفس على الرّياضات، فُتح لهم باب آخر إلى أن تغلب النّفس القوى الطّبيعيّة وتصير القوى الطّبيعيّة مسخّرة تحت كبرياء النفس. وما ورد في الأحاديث الشريفة، من الأمر بالجدّ والسّعي في العبادة، وما ورد فيها من مدح الذين يجتهدون في العبادة والرياضة، وما ورد في عبادات أئمّة الهدى عليهم السلام من جهة، وما ورد من هذه الأحاديث الشّريفة المادحة للاقتصاد في العبادة من جهة أخرى، مبنيّ على اختلاف أهل السلوك ودرجات النّفوس وأحوالها، والميزان الكلّي هو نشاط النّفس وقوَّتها أو نفورها وضعفها"1.
وفِي كِتَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام إِلَى الْحَارِثِ الْهَمْدَانِيِّ: "وَخَادِعْ نَفْسَكَ فِي الْعِبَادَةِ وَارْفُقْ بِهَا ولَا تَقْهَرْهَا وَخُذْ عَفْوَهَا وَنَشَاطَهَا إِلَّا مَا كَانَ مَكْتُوباً عَلَيْكَ مِنَ الْفَرِيضَةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَضَائِهَا وتَعَاهُدِهَا"2.
وعن الإمام الصّادق عليه السلام: "تَجَنَّبُوا الْمُنَى فَإِنَّهَا تُذْهِبُ بَهْجَةَ مَا خُوِّلْتُمْ وَتَسْتَصْغِرُونَ بِهَا مَوَاهِبَ اللهِ تَعَالَى عِنْدَكُمْ وَتُعْقِبُكُمُ الْحَسَرَاتُ فِيمَا وَهَّمْتُمْ بِهِ أَنْفُسَكُم"3.
1 معراج السالكين، ص 41-42.
2 مستدرك الوسائل، ج1، ص 145.
3 الكافي، ج5، ص 85.
508
436
الدرس الثامن والثلاثون: النشاط والبهجة في العبادة
المفاهيم الرئيسة
1- النّشاط هو عنوان شخصيّة المؤمن وأحد أبرز سماته لأنّه يرى ما أعدّه الله وهيّأه له من إمكانات الكمال وأحاطه من نعم، ومن لم يرَ هذه الحقيقة ابتُلي بالغمّ وسيطر عليه الحزن السّلبيّ الذي يوشك أن يدمّر كلّ طاقاته البنّاءة.
2- من آثار النّشاط والبهجة:
- توجب فتح بعض أبواب عالم الغيب.
- تؤدّي إلى كشف بعض أسرار العبادات
- تحصل للعابد حالة المحبّة والعشق لذكر الحقّ ولمقام العبودية، ويحصل له الأنس والتمكّن.
- تصير جميع القوى بالتّدريج فانية في الملكوت، ويطبق أمر الملكوت في الملك وينفذ فيه، وتقوى إرادة النّفس.
- توسعة وعاء الإنسان لاستقبال الفيوضات الإلهيّة.
3- ينشأ النّشاط والبهجة من:
- الشكر: الذي يثمر حالة من الخضوع والتواضع والسرور بالنعم.
- محبة أهل البيت عليهم السلام: فهي توجد النشاط على العبادة وقيام الليل.
- الفطرة: فالابتهاج في النّفس ناشئ من إدراك الكمال، وذلك لأنّ فطرة الإنسان وتركيبته الأصليّة مبنيّة على الانفعال الإيجابيّ تجاه عطاءات الرّبّ وإنعامه.
4- إن تحصيل النشاط والبهجة يكون بـ:
- الحفاظ على الفطرة التي تبتهج تجاه العطاءات الإلهيّة ويكون ذلك بالاحتراز من كلّ بشاعة أو قبح يدخل إلى نفسه فيظلمها.
- مراعاة أحوال النّفس، والسلوك معها بحسب قوّتها وضعفها.
5- ما يمنع من تحقق النشاط والبهجة:
- التّقصير في القيام بآداب العبوديّة للّه هو الذي يحرم الإنسان من هذه الخصلة الرّائعة.
- حمل النّفس على العبادة في حين الكسل والتعب.
509
437
الدرس الثامن والثلاثون: النشاط والبهجة في العبادة
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ اقْضِ لِي فِي الأَرْبِعَاءِ أَرْبَعاً: اجْعَلْ قُوَّتِي فِي طَاعَتِكَ وَنَشَاطِي فِي عِبَادَتِكَ وَرَغْبَتِي فِي ثَوَابِكَ وَزُهْدِي فِيمَا يُوْجِبُ لِي أَلِيمَ عِقَابِكَ إِنَّكَ لَطِيفٌ لِمَا تَشَاءُ1.
الآيات الكريمة:
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾2.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "السرور يبسط النفس و يثير النشاط"3.
2- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "إِذَا كَسِلَ أَوْ أَصَابَتْهُ عَيْنٌ أَوْ صُدَاعٌ بَسَطَ يَدَيْهِ فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ فَيَذْهَبُ عَنْهُ مَا كَانَ يَجِدُهُ"4.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام يوم الأربعاء.
2 سورة النساء، الآية 142.
3 تصنيف غرر الحكم، ص 319.
4 وسائل الشّيعة، ج6، ص 231.
510
438