مدخل إلى علوم القرآن


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-08

النسخة: 2016


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه المنتجبين وبعد...

للقرآن الكريم ما لا يخفى من الدور العظيم في تثبيت الإنسان والمجتمع على صراط النجاة المستقيم. وقد ورد العديد من الآيات القرآنية والروايات المباركة التي أكّدت على أهمّيّة دراسة القرآن الكريم والغور في أسرار آياته. فالتحدّيات العالمية التي تواجهها الأمة اليوم، والغزو الثقافي، الذي يحيط بالأمة من كل اتجاه، يجعل من القرآن الكريم خير قائد ودليل، ومنبعاً للفكر الوضّاء الذي يستطيع أن ينقذ روحانية الإنسان، وكيانه ووجوده، ويبقي على ارتباطه المعنوي بالحق عز وعلا، بل إنّ محور بقاء دولة الحق ووجودها يبقى مرتهناً بالفهم الحقيقي لكتاب الله تعالى تمهيداً لتطبيقه في تربية الإنسان وإدارة المجتمع والناس...

ومن هنا يظهر الهدف من هذا الكتاب، علوم القرآن؛ فإنّه وبسبب الحاجة المتزايدة إلى فهم القرآن فهماً علمياً واعياً وعميقاً، كانت ضرورة دراسة مجموعة من العلوم الموصلة إلى ذلك، ومن أهمّها علوم القرآن.

وتحصيلاً لهذه الغاية تصدّى مركز نون للتأليف والترجمة بتقديم مجموعة من مباحث علوم القرآن بأسلوب مختصر ومبسّط في هذا الكتاب. علماً بأنّنا أصدرنا كتاباً ثانياً تخصّصيّاً ومفصّلاً في علوم القرآن (دروس في علوم القرآن) للمراحل الدراسية والدورات الثقافية الأعلى من حيث التدرّج العلمي والمعرفي. 

وأما المنهج الذي اعتمدناه في هذا الكتاب، فهو يجمع بين الإيجاز، وسلاسة العبارة،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

1

المقدمة

 والدّقة العلمية، والاستدلال والنقد حيث تدعو الحاجة. إضافة إلى وضع الأهداف الخاصة بداية كل درس، والأسئلة والتمارين نهاية كل درس.


على أمل وبفضل الله تعالى، أن يكون لهذا الكتاب والجهد أثره العلمي المتميّز في ساحتنا التعليمية والثقافية بشكل خاص، والإسلامية بشكل عام.


والحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
10

 


2

الدرس الأول: الوحي الرِّسالي

 الدرس الأول: الوحي الرِّسالي



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرَّف إلى معنى الوحي لغةً واصطلاحاً.
2- يميّز بين أقسام الوحي.
3- يعدِّد أساليبَ الوحي الرِّسالي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

3

الدرس الأول: الوحي الرِّسالي

 تمهيد

إنّ من أهمّ الأبحاث المرتبطة بعلوم القرآن الكريم هي مسألة الوحي، حيث إن الأنبياء سلام الله عليهم كانوا سفراء الخالق إلى المخلوقين، وكانوا يتّصلون بالله سبحانه وتعالى عبر الوحي وبأساليب مختلفة، ومن هنا كان من الضروري أن نُقدّم بحث الوحي وما يتعلّق به من أمور على سائر أبحاث علوم القرآن، كما أن أهمية القرآن الكريم أنه وحي من الله على النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، فالبحث عن العلوم المرتبطة بالقرآن متوقّفة على فهم معنى الوحي وكيف كان القرآن وحياً، وكيف اتصل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالله سبحانه، من هنا نبدأ بتعريف الوحي، ثمّ نتعرّف في هذا الدرس إلى أقسامه وأساليبه إن شاء الله تعالى.
 
الوحي في اللغة والاصطلاح
يُستفاد من تتبّع الاستعمالات القرآنية وأقوال أهل اللّغة، أن للوحي معنى واحداً وهو الخطاب الخفي.
 
ولكن الخفاء يكون على أنحاء متعدّدة، فتارة يكون خفياً في نفسه، يُسرّه المتكلّم إلى المخاطب، وأخرى يكون خفاؤه من جهة كونه يُعبّر عنه بالإشارات والإيماءات التي تخفى على غير المقصود بالخطاب، أو يخفى مدلولها عنه.
 
ونفس هذا المعنى للوحي ورد استعماله في القرآن الكريم:
فقد قال تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ﴾1.
 
وقال تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾2.



1 سورة النساء، الآية 163.
2 سورة النحل، الآية 68.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

4

الدرس الأول: الوحي الرِّسالي

 أقسام الوحي

بعد تتبّع استعمالات القرآن الكريم لكلمة الوحي والتي كانت بمعنى الخطاب الخفي، نجد أنها تنقسم إلى قسمين رئيسين مهمّين هما: الوحي الرِّسالي، والوحي غير الرِّسالي وسوف نتحدّث في هذا الدرس عن الوحي الرِّسالي وأساليبه، تاركين البحث عن الوحي غير الرِّسالي للدرس القادم إن شاء الله تعالى.

أولاً: الوحي الرِّسالي
1- المعنى
وهو وسيلة الاتصال بين الباري عزّ وجلّ وبين سفرائه إلى خلقه.

وعن طريق الوحي الرِّسالي يتمّ تلقّي المعارف والأحكام وغير ذلك من شؤون الرسالة. وهذا القسم هو الأكثر استخداماً في القرآن الكريم، وفي الروايات الشريفة، ولذلك أصبح المعنى المتبادر والمنصرف للذهن عند سماع كلمة الوحي، ومن هنا إذا وردت كلمة الوحي وشككنا من أيّ معنى وأيّ قسم هي، هل من الوحي الرِّسالي أم غيره؟ كان المنصرف إلى الذهن هو الوحي الرِّسالي.

2- أغراض الوحي الرسالي
الوحي الرِّسالي النازل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتي لأغراض عدّة ومضامين شتّى، نذكر منها لا على سبيل الحصر الآلي:
أ- لبيان الذكر الحكيم والقرآن الكريم، الذي هو نصّ كلام الله سبحانه وتعالى المنزل على رسوله، وهو المتصف بالإعجاز، والوحي النازل به قد يختص باسم الوحي القرآني.

ب- لتأويل وتفسير كلام الله تعالى الوارد في القرآن الكريم.

ج- لبيان الأحاديث القدسية التي لا تدخل في الوحي القرآني.

د- لذكر تفاصيل الشريعة وأحكامها ومعارفها وما يتعلّق بها.

هـ- لبيان ما يرتبط بشؤون الإمامة والتدبير وشؤون الحكم ممّا يحتاجه الرسول في مهمّته القيادية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

5

الدرس الأول: الوحي الرِّسالي

 و- لذكر ما يرتبط بأخبار العالم والمغيّبات والحوادث السابقة واللاحقة، وهذا أيضاً يدخل في دائرة علوم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التي قد تقتضيها رسالته وقيادته الإصلاحية على مستوى عمر الدنيا.

 
3- أساليب الوحي الرِّسالي
الوحي الرِّسالي بشكل عام له أساليب متعدّدة ورد ذكرها في القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة المنقولة لنا عن طريق الرواة الثقاة، أو الواصلة إلينا عبر أئمة الهدى عليهم السلام من أهل بيت النبوّة، ومن هذه الأساليب ما يلي:
أ- التكليم المباشر دون توسّط الملاك
هذا الأسلوب من الوحي يتمّ حال اليقظة: كما حصل للنبي آدم عليه السلام: ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾1.
 
وما جرى مع النبيّ إبراهيم عليه السلام: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾2.
 
وفي قصة نبيّ الله موسى عليه السلام: ﴿وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾3.
 
ب- الإيحاء بواسطة ملك
وهذا الأسلوب له شواهد عديدة جداً، ولعله الأسلوب الأكثر شيوعاً والأغلب وقوعاً.
 
قال تعالى في قصة نبيّ الله زكريا عليه السلام: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ﴾4.
 
وقال سبحانه في الحديث عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ﴾5.



1 سورة الأعراف، الآية 22.
2 سورة الصافات، الآيتان 104و 105.
3 سورة النساء، الآية 164.
4 سورة آل عمران، الآية 39.
5 سورة البقرة، الآية 97.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

6

الدرس الأول: الوحي الرِّسالي

 ج- الرؤيا في المنام

إن "رؤيا الأنبياء وحي"1 كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام. وذلك لأنّ رؤيا الأنبياء لا تكون إلّا حقاً.
 
ولهذا الأسلوب من الوحي في القرآن الكريم شواهد عدّة نذكر واحداً منها:
قوله تعالى في قصة النبيّ إبراهيم عليه السلام: قال تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾2.
 
فقول النبيّ إسماعيل عليه السلام: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾3 يكشف عن أن رؤيا والده تلك كانت وحياً وأمراً إلهيّاً بُلّغ إياه عن طريق الرؤيا، وما كان النبيّ إبراهيم عليه السلام ليقدم على ذبح ولده لمجرّد رؤيا لو لم تكن تلك الرؤيا وحياً وأمراً إلهيّاً لازماً بالنسبة إليه.
 
د- الإلهام
وقد يُعبّر عنه بالإلقاء في الروع، وهو لا يغاير بقية أنحاء الوحي من حيث النتيجة ومن حيث اليقين والاطمئنان بمصدر الإلهام، وإن غايرها من حيث الأسلوب والشكل.
 
وقد صرّحت النصوص بأن الإلقاء في الروع كان أحد أساليب الوحي الرِّسالي، منها ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمأنه قال: "ألا إنّ الروح الأمين نفث في روعي: إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب..."4.
 
لقد جُمِعَتْ أساليب الوحي في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾5.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج11، ص64، تحقيق يحيا العابدي وعبد الرحيم الرباني، مؤسسة الوفاء، بيروت، ط: الثانية. وهو حديث صحيح في مصادر أهل السنّة.
2 سورة الصافات، الآيات 102-105.
3 سورة الصافات، الآية 102.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج11، ص64.
5 سورة الشورى، الآية 51.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

7

الدرس الأول: الوحي الرِّسالي

 النتيجة إذن يمكن إدخال الإلهام والنفث في الروع في القسم الثاني الذي هو الإيحاء بواسطة ملك. فإن إيحاء الملك يكون على أنحاء:

- فتارة يكون بسماع الصَّوت ومشاهدة الصُّورة.
- وأخرى بسماعه من دون مشاهدة.
- وثالثة بالإلقاء في الروع دون توسُّط صوت.

فالوحي هو الإلهام ومن وراء حجاب هو التكليم المباشر، وإنما سمّاه من وراء حجاب، لأنّه بواسطة صوت دون رؤية المصدر، وإرسال الرسول هو الإيحاء من خلال الملاك.

وربما كان تخصيص النحو الأول باسم الوحي هنا، لأنّه أشد خفاءً من الثاني فهو بالنسبة إليه مختصّ باسم الوحي.

فملاحظة الخفاء أمر نسبيّ قد يلاحظ بالنسبة لغير النبيّ، وقد يلاحظ بالنسبة لبعض حواس النبيّ دون بعض.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

8

الدرس الأول: الوحي الرِّسالي

 أسئلة الدرس


أجب عن الأسئلة الآتية:
1 - عرّف معنى الوحي في اللغة والاصطلاح؟
2 - عدّد أقسام الوحي مع توضيح كل قسم بشكل مختصر؟
3 - ما هو الوحي الرسالي؟
4 - حدّد أهم الأغراض التي من أجلها نزل الوحي؟ 
5 - تحدّث عن أهم أساليب الوحي الرسالي باختصار؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

9

الدرس الأول: الوحي الرِّسالي

 حدّد أسلوب الوحي المستخدم في الآيات القرآنية التالية:

1- ﴿وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾1.
 
2- ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾2.
 
3- ﴿مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ﴾3.
 
4- ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾4.

 
5- ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾5.
 
أجب بـ ü أو  û:
1- كل وحي نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو قرآن □
2- ذكر الوحي في القرآن الكريم بمعانٍ عديدة كالتكليم والإلهام □
3- لا يختصّ الوحي الإلهي بالأمور الرسالية □
4- استعملت كلمة الوحي في القرآن بمعنى الخطاب الخفي □
5- الوحي الرسالي هو لأجل تلقّي المعارف والأحكام وشؤون الناس □



1 سورة الأعراف، الآية 143.
2 سورة الصافات، الآيتان 104 - 105.
3  سورة البقرة، الآية 97.
4 سورة الصافات، الآيات 102 - 105.
5 سورة مريم، الآية 52.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

 


10

الدرس الثاني: الوحي غير الرِّسالي

 الدرس الثاني: الوحي غير الرِّسالي



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرَّف إلى موارد الوحي غير الرِّسالي.
2- يتعرَّف إلى أساليب الوحي مع النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
3- يجيب عن شبهة خوف النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عند نزول الوحي عليه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

11

الدرس الثاني: الوحي غير الرِّسالي

 تمهيد

تقدّم في الدرس السابق أن الوحي الذي هو الخطاب الخفي لغةً واستعمالاً ينقسم إلى قسمين رئيسين، رسالي وغير رسالي، وقد انتهى الحديث عن الوحي الرِّسالي في الدرس السابق، وفي هذا الدرس سوف نتعرض للوحي غير الرِّسالي، وهذا يساعد على فهم بحث الوحي بشكل أفضل، ويساعدنا على التمييز بين أقسام الوحي بشكل أدق.
 
ثانياً: الوحي غير الرِّسالي
لا تختصّ الأساليب الثلاثة (التكليم المباشر، ومن خلال ملك، ومن خلال الرؤيا في المنام) من الوحي، والتي تقدّم ذكرها في الوحي الرِّسالي، بالأنبياء عليهم السلام، ولا تختصّ أيضاً بوحي النبوّة، بل هي تجري مع غير الأنبياء أيضاً، وفي الأغراض الأخرى غير الرِّسالية، كما هو الحال بالنسبة لعددٍ من الصالحين:
الوحي إلى البشر
فقد أوحى إلى بعض خلقه من البشر والملائكة وغيرهم، وذلك مثل:
أ- الوحي إلى أمّ موسى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾1.
 
ب- الوحي إلى السيدة مريم بنت عمران عليهما السلام: قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾2.



1 سورة القصص، الآية 7.
2 سورة آل عمران، الآية 42.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

12

الدرس الثاني: الوحي غير الرِّسالي

 ومن الواضح أنّ هذه الأغراض لم تكن رسالية، ولم يلزم من نزول الملائكة فيها نبوّة المخاطب والمنزل عليهم.

 
ج- الوحي بالأوامر التكوينية: وقد عبّر القرآن الكريم في بعض الموارد عن الأوامر التكوينية بالوحي أيضاً، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا﴾1 وفي قوله أيضاً: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾2. 
 
د - الوحي بالأوامر التدبيرية:كما أنَّ إبلاغ الأوامر التدبيرية إلى الملائكة وحيٌ أيضاً في نصّ القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُوا﴾3.
 
هـ- الوحي بإيداع الأمور الفطرية: وورد أيضاً التعبير به عن إيداع الأمور الفطرية والغريزية لدى الحيوانات وإلهامها ما ينبغي لها، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾4.
 
والنتيجة التي نتوصّل إليها من مجموع هذه الآيات: أنّ الوحي لا يلازم النبوة ولا يختصّ بالأمور الرِّسالية وما يعبّر عنه بوحي الرسالة، بل يتعدّى إلى كثير من الأغراض والموارد الأخرى. وهذا ما يصطلح عليه الوحي غير الرسالي.
 
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والوحي
يتحصّل من مجموع النصوص الواردة في كيفية نزول الوحي عليه، أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يوحى إليه بكل أساليب الوحي المتقدّمة ولمختلف الأغراض.
 
1- الرؤيا في المنام:
ففي بعض النصوص أنه صلى الله عليه وآله وسلمكان يوحى إليه عن طريق الرؤيا في المنام خاصة في الفترة الأولى من نبوته قبل نزول جبرئيل عليه السلام، فعن محمد بن علي بن النعمان الأحول قال: 



1  سورة فصّلت، الآية 12.
2 سورة الزلزلة، الآيتان 4-5.
3 سورة الأنفال، الآية 12.
4 سورة النحل، الآية 68.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

13

الدرس الثاني: الوحي غير الرِّسالي

 سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرسول والنبيّ والمحدَّث، قال عليه السلام: "الرسول الذي يأتيه جبرئيل قُبُلاً فيراه ويكلّمه، فهذا الرسول، وأما النبيّ فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم عليه السلام ونحو ما كان رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل عليه السلام من عند الله بالرسالة، وكان محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرئيل ويكلمه بها قبلاً، ومن الأنبياء من جمع له النبوة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلّمه ويحدّثه، من غير أن يكون يرى في اليقظة. وأما المحدَّث فهو الذي يحدَّث فيسمع، ولا يعاين ولا يرى في منامه"1.

 
والرؤيا لم تنقطع عنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول جبرئيل عليه السلام بالوحي على قلبه، وبعد أن نزل عليه الوحي المباشر كما سيأتي، فإن القرآن الكريم يشير إلى حصول ذلك فيما بعد أيضاً2.
 
قال تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ﴾3. وقال تعالى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ﴾4.
 
2- الإيحاء بواسطة الملك:
وأما المرحلة الثانية فكانت مرحلة نزول الوحي بواسطة الروح الأمين جبرئيل عليه السلام على قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
 
قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾5.
 
وقال تعالى: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ﴾6.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص176.
2 البخاري، الجامع الصحيح، الباب الخامس من أبواب الوضوء، ج1، ص44.
3 سورة الفتح، الآية 27.
4 سورة الأنفال، الآية 43.
5 سورة الشعراء، الآيتان 193 - 194.
6 سورة البقرة، الآية 97.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

14

الدرس الثاني: الوحي غير الرِّسالي

 وقد وردت بعض الروايات بأن جبرئيل عليه السلام كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصورة إنسان جميل الطلعة، فيحدّثه ويقرأ عليه القرآن الكريم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأنس به، وقد رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على صورته الحقيقية الملائكية مرتين تحدّثت عنهما سورة النجم: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى* ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾1.

 
فالمرّة الأولى رآه صلى الله عليه وآله وسلم في بدء الوحي: ﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى﴾2 فسدّ ما بين المشرق والمغرب.
 
﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ فيما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم سأل جبرئيل عليه السلام أن يريه نفسه مرة أخرى على صورته التي خلقه الله عليها، فأراه صورته فسدّ الأفق أيضاً3.
 
3- التكليم المباشر:
روي أن الإمام الصادق عليه السلام سئل عن الغشية التي كانت تأخذ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أكانت عند هبوط جبرئيل؟ 
 
فقال: "لا، إن جبرئيل كان إذا أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلملم يدخل عليه حتى يستأذنه وإذا دخل عليه قعد بين يديه قعدة العبد، وإنما ذاك عند مخاطبة الله عزّ وجلّ إياه بغير ترجمان وواسطة"4.
 
كيف يعلم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّ ما نزل عليه هو وحي؟
الثابت أنّه صلى الله عليه وآله وسلمكان منذ اللحظة الأولى على بيّنة من أمره، والله سبحانه لا يختار لرسالته وثقلها إلاّ من صنع على عينه وهيّ‏ء لحملها.



1 سورة النجم، الآيات 4- 14.
2 سورة النجم، الآية 7.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار،ج18، ص260. الشيخ الصدوق، كمال الدين،ص85.
4 م.ن، ص26.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

15

الدرس الثاني: الوحي غير الرِّسالي

 وقد كانت الكرامات الكثيرة التي ظهرت له ورويت عنه تشكِّل إرهاصات للنبوة، بحيث إنه لما نزل عليه الروح الأمين كان على بيّنة من أمره، وعلى بصيرة ثابتة ويقين مما جاءه، وإلى هذا تشير عدة روايات وردت عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.

 
فعن زرارة أنه سأل الإمام الصادق عليه السلام: "كيف لم يخف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يأتيه من قبل الله أن يكون مما ينزغ به الشيطان؟ فقال: "إن الله إذا اتخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار فكان الذي يأتيه من قبل الله مثل الذي يراه بعينه"1.
 
ويحسن الإشارة هنا إلى أنّ بعض ما يروى في كيفيّة نزول الوحي عليه صلى الله عليه وآله وسلمومن حالة الهلع التي أصيب بها، ومن لجوئه إلى خديجة التي هدّأت من روعه، واكتشفت هي نبوّته قبل أن يعرف ذلك هو، أو عرضت أمره على ورقة بن نوفل أو غيره من الأحبار أو الرهبان فأخبروها بأنّه نبي، كل ذلك مما لا يمكن القبول به، ولا يتصوّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شاكاً في نبوته، ولا جاهلاً بالوضع الذي هو عليه، حتى يحتاج إلى من يطمئنه من أمثال هؤلاء، هذا بالإضافة إلى تهافت تلك النصوص وتضاربها، وضعف أسانيدها.
 
ومثل هذا الكلام يجري في أسطورة "الغرانيق" وأمثالها مما لا نشك ببطلانه واستحالته، ونعتقد أنه مما دسّ في الأخبار لغرض التشكيك والطعن والتشويه، شأنه شأن الكثير من الإسرائيليات2
 
وقصة الغرانيق أنّهم زعموا أن الشيطان ألقى على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضلالاً زاده في القرآن، كقولهم: "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترجى"، وهو كذب وزور.



1  العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 18، ص262.
2 راجع: جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ج2، ص287. وذكر أكثر من محدّث أن قصة الغرانيق من وضع الزنادقة، وكلّها روايات مرسلات ومنقطعات.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

16

الدرس الثاني: الوحي غير الرِّسالي

 أسئلة الدرس

أجب عن الأسئلة الآتية:
1- عرّف الوحي غير الرسالي؟ 
2- ماذا نعني بالوحي بالأوامر التكوينية؟
3- ماذا نعني بالوحي بإيداع الأمور الفطرية؟
4- ما هي الأساليب التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوحى إليه بها؟
5- كيف كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أن ما نزل عليه هو وحي؟
 
اذكر أيَّاً من هذه الآيات هو وحي رسالي وأيّها غير رسالي:
1- ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ﴾1.
 
2- ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا﴾2.
 
3- ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي﴾3.
 
4- ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾4.



1 سورة يونس، الآية 2.
2 سورة فصلت، الآية 12.
3 سورة المائدة، الآية 111.
4 سورة مريم، الآية 11.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

17

الدرس الثاني: الوحي غير الرِّسالي

 5- ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾1.

 
6- ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ﴾2.
 
7- ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾3.
 
8- ﴿وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى * وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ﴾4.
 
9- ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾5.
 
10- ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ﴾6.
 
اذكر أسلوب الوحي الذي استخدم مع النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآيات القرآنية:
 
1-﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ﴾7.
 
2- ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ﴾8.
 
3- ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ﴾9.
 
4- ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾10.



1 سورة مريم، الآية 17.
2 سورة الأنعام، الآية 121.
3 سورة القصص، الآية 7.
4 سورة هود، الآيات: 69 ـ 73.
5 سورة طه، الآية 13.
6 سورة آل عمران، الآية 45.
7 سورة الفتح، الآية 27.
8 سورة الأنفال، الآية 43.
9 سورة البقرة، الآية 97.
10 سورة الشعراء، الآيتان 193 - 194.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

 


18

الدرس الثالث: نزول القرآن

 الدرس الثالث: نزول القرآن



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرَّف إلى ما نزل من القرآن.
2- يميّز بين النُّزول الدَّفعي والتَّدريجي.
3- يميّز بين البعثة ونزول القرآن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

19

الدرس الثالث: نزول القرآن

 تمهيد

بعد أن عرفنا معنى الوحي وأقسامه وأساليبه، كان من الضروري جداً التركيز على خصوص الوحي القرآني الذي نزل على النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، هل نزل بمعناه أم بلفظه، وأول ما نزل، ومتى كان النزول، وكيفية نزول القرآن دفعة واحدة وفي نفس الوقت نزل بمناسبات متعدّدة وعلى مدار سنوات تبليغ الرسالة، وفي هذا الدرس إجابة عن كثير من الشبهات العالقة والحسّاسة.
 
نزول القرآن بألفاظه نفسها
إنّ الرأي الصحيح والذي عليه عامة أهل التحقيق هو أن القرآن الكريم نزل من عند الله بألفاظه نفسها التي قرأها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على الناس، وهذا يجعل لتلك الألفاظ قدسية، يتعبّد بتلاوتها، ولا يجوز تبديلها بغيرها، ولا التصرّف بها، حتى بالمرادفات. وبذلك يفرّق بين القرآن الكريم والحديث القدسي الذي نزل معناه دون لفظه، وعبّر عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلمبلسانه وألفاظه وأسلوبه وصياغته، ولأجل ذلك كان اللفظ القرآني يتّصف بالإعجاز البلاغي، ولو كان من صياغة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لما اختلف عن الحديث القدسي صياغة، ومن وجهة نظر بلاغية على الأقل، ولما اختلف عن مطلق الحديث الذي تحدّث به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مع أن كلًّا منهما له من الخصائص والأسلوب ما يميّزه عن الآخر.
 
ويشهد على كون القرآن نازلاً بلفظه من عند الله تعالى، توجيه الخطاب في كثير من آياته إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعبارة ﴿قُلْ﴾، حيث تكرّرت في أكثر من ثلاثمائة مورد، ما يدلّ على عدم تدخّل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في صياغة الوحي، فهو مخاطب به لا متكلّم، حاكٍ لما يسمعه لا معبّر.
 
وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾1



1 سورة القيامة، الآيتان 17-18.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

20

الدرس الثالث: نزول القرآن

 أوّل ما نزل من القرآن 

ورد في الكثير من النصوص المروية عن أهل البيت عليهم السلام وغيرهم أن أول ما نزل من القرآن الكريم هو قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *  اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾1، وهذا هو الرأي المشهور بين علماء المسلمين2
 
متى بدأ نزول القرآن؟
لا خلاف في أن بدء نزول القرآن الكريم كان في شهر رمضان المبارك، والآيات الكريمة التي صرّحت بنزول القرآن فيه متعدّدة:
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾3. والمعلوم أنّ ليلة القدر هي ليلة مباركة من ليالي شهر رمضان المبارك.
 
قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾4.
 
وقال: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾5.
 
وقد ذهب بعض إلى تحديده في السابع عشر منه، وقال آخرون في الثامن عشر، وقال قوم في الرابع والعشرين، وكلها أقوال لا حجة واضحة عليها. والصّحيح كما هو صريح الآيات السَّابقة الذكر أنَّ نزول القرآن بدء في شهر رمضان في ليلة القدر.
 
النزول الدفعي والتدريجي
قد يظهر من الآيات المتقدّمة التي تتحدّث عن نزول القرآن في شهر 



1 سورة العلق، الآيات 1- 5.
2  وقيل: إن أول ما نزل من القرآن الفاتحة اعتماداً على أنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول الوحي عليه صلى في اليوم التالي هو وخديجة وعلي، والصلاة إنما تكون بفاتحة الكتاب، فلا بد أن تكون الفاتحة هي أول ما نزل من القرآن الكريم. والجواب: بإمكان نزول الفاتحة بعد آيات سورة العلق الخمسة، وإمكان أن تكون صلاتهم آنذاك بلا فاتحة الكتاب، وقبل أن تشرّع الصلاة بها.
3 سورة القدر، الآية 1.
4 سورة الدخان، الآية 3.
5 سورة البقرة، الآية 185.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

21

الدرس الثالث: نزول القرآن

 رمضان أنَّ نزول القرآن الكريم كان دفعياً، بمعنى أنَّهُ نزل بتمامه ودفعةً واحدةً في شهر رمضان. وهذا يخالف ما هو ثابتٌ بالتواتر من أنَّ القرآن نزلَ نُجوماً متفرِّقة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الفترة ما بين بعثته ووفاته، وهو أمرٌ يصرِّح به القرآن الكريم نفسه في آيات أخرى حيث يقول تعالى: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾1.

 
ويقول أيضاً: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾2.
 
حل هذا التنافي الظاهري
إنَّ القرآن بدأ نزوله في شهر رمضان المبارك، ثم توالى النزول بعد ذلك في فترات مختلفة، فإنّه يصحّ أن يقال نزل الغيث في الوقت الفلاني مع أنّه ينزل تدريجياً، لأنّ بدء نزوله كان في ذلك الوقت. ومن جهة أخرى فإن القرآن اسم جنسٍ يُطلق على الكلِّ وعلى البعض، وكلُّ آيةٍ منه فهي قرآن، فلا نحتاج إلى التجوّز في إطلاق القرآن على الآيات الأولى النازلة في ليلة القدر. وقد تؤرّخ الحوادث الواقعة في فترة ممتدّة بأوّل حدوثها وبتاريخ شروعها، كالمعارك الطويلة الأمد فيقال إنَّ الحربَ الفلانيَّة وقعت في اليوم الفلاني مع أنَّها تستمر بعد ذلك عدّة سنوات3.
 
هل هناك تلازم بين البعثة ونزول القرآن؟
روي عن أهل البيت عليهم السلام أن بعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كانت في السابع والعشرين من رجب، وقد نقل العلامة المجلسي اتفاق الإمامية عليه4، وروي عن غيرهم أيضاً5.



1 سورة الإسراء، الآية 106.
2 سورة الفرقان، الآية 32.
3 وقيل في حل التنافي إن القرآن الكريم له نزولان: أحدهما دفعيّ لمعاني القرآن الكلية أو لألفاظه إلى البيت المعمور أو إلى السماء الدنيا أو إلى قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكل واحد من هذه الاحتمالات عبارة عن قول ذهب إليه عدد من العلماء). والثاني تدريجي، كان ينزل نجوماً بمعنى بين الفترة والفترة وبحسب المناسبات والظروف. وهذا الكلام يتوقّف على الدليل النقلي، وما ذكر من أدلّة غير تامة سنداً ولا دلالة، لذلك لا يمكن الاعتماد عليها، لذا فلا يعدل عن الثابت من النزول التدريجي بالنص والتواتر إلا بدليل ثابت.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص190.
5 راجع: السيد جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ج2، ص244.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

22

الدرس الثالث: نزول القرآن

 وعليه لا تلازم بين البعثة ونزول القرآن، فالقرآن نزل عليه في شهر رمضان، وفيما بينهما كان نبياً دون أن يكون معه قرآن. ويؤيده ما ورد في بعض النصوص من أن نزول القرآن الكريم كان في السنة الثالثة من البعثة الشريفة، وأن فترة النزول استمرّت مدّة عشرين سنة، عشر منها في مكّة وعشر في المدينة1.

 
وسواء ثبت نزول القرآن في السنة الأولى للبعثة أم ثبت كون بدء نزوله في السنة الثالثة، فإن النتيجة عدم التلازم بين تاريخ البعثة ونزول الوحي عليه وبين تاريخ نزول القرآن.



1 راجع: الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص629. وتفسير العياشي، ج1، ص80. ومستدرك الحاكم، ج2، ص610. والاتقان للسيوطي، ج1، ص146، وغيرها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

23

الدرس الثالث: نزول القرآن

 أسئلة الدرس


أجب عن الأسئلة الآتية:
1- هل نزل القرآن الكريم بمعناه أم بلفظه؟
2- حدّد أول ما نزل من القرآن الكريم وبرهن على ذلك؟
3- متى كان نزول القرآن وكيف كان نزوله؟ 
4- هل كان نزول القرآن على نحو دفعي أو تدريجي؟
5- هل هناك تلازم بين البعثة ونزول القرآن؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

24

الدرس الثالث: نزول القرآن

 أجب بـ ü أو û:

1- أول ما نزل من القرآن الكريم سورة العلق □
2- ما نزل من القرآن الكريم لفظه ومعناه من عند الله سبحانه □
3- ما نزل من القرآن الكريم معناه على قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم □
4- النزول الدفعي يعني نزول القرآن دفعة واحدة كان في شهر رمضان □
5- النزول التدريجي يعني تدرّج بالأحكام من الأسهل للأصعب □
6- كلمة ﴿قُلْ﴾ في عدد من السور يشهد على عدم تدخّل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بألفاظ القرآن الكريم □
7- كانت بعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في السابع والعشرين من شهر رجب □
8- نزول القرآن كان في السنة الثالثة من البعثة □
9- الحديث القدسي نزل بمعناه على قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو صاغه بعباراته الخاصة □
10- نزل القرآن الكريم في المعاني نفسها التي قرأها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم □
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

 


25

الدرس الثالث: نزول القرآن

 على أيّ معنى تدل هذه الآيات، النزول الدفعيّ أم التدريجيّ؟

1- ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾1.
 
2- ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *  اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾2.
 
3- ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾3.
 
4- ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾4.
 
5- ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾5.



1 سورة القيامة، الآيات 16-18.
2 سورة العلق، الآيات1- 5.
3 سورة القدر، الآية 1.
4 سورة الدخان، الآية 3.
5 سورة البقرة، الآية 185.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

26

الدرس الرابع: المكّيّ والمدنيّ

الدرس الرابع: المكّيّ والمدنيّ


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يميِّز بين معياري المكي والمدني.
2- يتعرَّف إلى الخلاف في تحديد المكي والمدني.
3- يعدِّد بعض السِّمات البارزة للمكي والمدني.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

27

الدرس الرابع: المكّيّ والمدنيّ

 تمهيد

رافق نزول القرآن حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرِّسالية، ونزلت آياته وسوره لتلبّي احتياجات المرحلة التي كانت تعيشها الرسالة، وتتناسب مع الظروف والتطوّرات التي رافقت الدعوة الإسلامية آنذاك، وقد شكّلت هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلمإلى المدينة المنوّرة نقطة تحوّل رئيسة قسّمت الحياة الرِّسالية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى مرحلتين متمايزتين:
1- المرحلة المكية: وهي مرحلة الدعوة التي لم تتجاوز الأفراد.
2- المرحلة المدنية: وهي مرحلة الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي.
 
وقد تبع ذلك تغيّر في طبيعة السور القرآنية النازلة بعد الهجرة.
 
وقد عني الباحثون بدراسة المكي والمدني من السور، نظراً لما يترتّب على ذلك من فوائد وثمرات يُستفاد منها في التفسير وفي استنباط الأحكام الشرعية. وسيأتي في بحث الناسخ والمنسوخ، أنه لمعرفة الناسخ من المنسوخ لا بدّ غالباً من معرفة زمان النزول، وضرورة كون الناسخ متأخّراً نزولاً عن المنسوخ، وقد يُستفاد من معرفة المكي والمدني في محاكمة أسباب النزول التي قد يُتلاعب بها لمصالح سياسية معينة.
 
ما هو معيار المكّي والمدني؟
هناك معياران في تحديد معنى المكي والمدني لكلِّ واحدٍ منهما قائلٌ:
1- زماني، وهو المعيار الأصحّ والأدقّ وهو الأشهر استعمالاً، وهو النافع في معرفة الناسخ من المنسوخ، وعليه:
فالمكّيّ: عبارة عن كل ما نزل في المرحلة المكية، أي قبل الهجرة إلى المدينة المنوّرة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

28

الدرس الرابع: المكّيّ والمدنيّ

 والمدني: عبارة عن كل ما نزل في المرحلة المدنية أي مرحلة الدولة الإسلامية، فيطلق على النازل بعد الهجرة ويدخل فيه كل ما نزل بمكة عام الفتح أو في حجة الوداع، أو في غير مكة والمدينة كالطائف وحُنَين و...، أثناء الغزوات التي خاضها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لو ثبت نزول شي‏ء من القرآن أثناءها.


2- مكاني، وهذا الاصطلاح معمولٌ به عند البعض، وعليه:
فالمكي: يطلق على النازل من القرآن الكريم في مكة المكرمة مطلقاً، سواء كان قبل الهجرة أو بعدها، أي في المرحلة المكية وما نزل في مكة بعد الفتح.

والمدني: كل ما لم ينزل في مكة فهو مدني.

وعليه فيكون ما نزل في مكة عند الفتح وفي حجة الوداع مكيّاً، رغم كونه بعد الهجرة، بل في أواخر حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

ولعل الاختلاف الذي نلاحظه أحياناً في مكية السورة أو مدنيتها يرجع إلى الاختلاف في المعيار، ويتبعه اختلاف في الاصطلاح.

كيف نميّز بين المكّي والمدني؟
هناك أمور اعتُبرت علامات تشير إلى زمن نزول الآية، وهل أنها مكية أم مدنية، لكن المشهور بين العلماء أن هذه العلامات ليست قطعية، ولا يعوّل عليها دائماّ، فهي ليست سوى مرجّحات تساعد على تحديد المكي من المدني، ومن هذه العلامات:
1- من علامات السور المكية:
أ- كل ما نزل فيه ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾.

بناءً على أن طبيعة المرحلة المكية هي الخطاب العام لكل الناس، لا للمؤمنين.

إلاّ أن هذا العنصر أو هذه السمة لا تصلح أن تكون ضابطة تمييز بين المكي والمدني، نظراً لورود آياتٍ ثبت أنها مدنية، وهي تخاطب الناس بالخطاب العام مثل قوله تعالى: 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

 


29

الدرس الرابع: المكّيّ والمدنيّ

 ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾1.

 
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾2.
 
ب- ما نزل من القرآن فيه ذكر الأمم. 
وهذه الضابطة أيضاً غير دقيقة، لوجود ذكر الأمم في سور مدنية قطعاً، ويكفي مثالاً على ذلك سورة البقرة التي تحدّثت عن قصة موسى وبني إسرائيل مفصلاً ومن الثابت أنها مدنية.
 
ج- السور التي تبدأ بالحروف المقطعة من علامات السور المكية، عدا سورتي البقرة وآل عمران، وفي سورة الرعد خلاف.
 
د- كل سورة فيها سجدة فهي مكية (طبعاً المراد الأعم من السجدات المستحبة والواجبة).
 
هـ- كل سورة فيها لفظ (كلاّ) فهي مكية.
 
2- ومن علامات السور المدنية:
أ- ما فيه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾، فقد تكوّن المجتمع الإيماني الذي بدأت تخاطبه الآيات بـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ في المدينة بعد الهجرة. لذلك ربما لا نجد فيما نصّ على أنه مكيّ خطاباً بـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾.
 
ب- ما كان من الفرائض والسنن وتفاصيل السنن والحدود والأحكام. فإنما نزل بالمجتمع المدني حيث الدولة الإسلامية وسن الشَّرائع والقوانين.
 
ج- كل سورة فيها ذكر للمنافقين فهي مدنية سوى سورة العنكبوت، وقيل: إنّ أولها إلى آخر الآية مدني أيضاً وما عداها فهو مكي، وفي هذه الآيات ذكر الجهاد والمنافقين.
 
د- كل سورة فيها إذنٌ بالجهاد أو ذكر له وبيان أحكامه فهي مدنية، أو خصوص الآيات المتضمنة لذلك.



1 سورة البقرة، الآية 21.
2 سورة البقرة، الآية 168.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

 


30

الدرس الرابع: المكّيّ والمدنيّ

 هـ- كل سورة فيها محاججة لأهل الكتاب فهي مدنية.

 
والحقّ: أن هذه العلامات المميّزة مبنية على ملاحظة السور والآيات واستقرائها، وهي جميعها في موارد ثبت بالنقل مكية السورة أو مدنيتها. وعليه فلا يكون هناك ثمرة كبيرة في دراسة هذه المميزات.
 
وقد بالغ المفسّرون أحياناً في تشخيص المكي والمدني، فعدّوا بعض الآيات الواردة في السور المكية مدنياً، وبالعكس، اعتماداً على وجوه واعتبارات استحسانية لا يصح الاعتماد عليها.
 
عدد ما نزل في مكة وما نزل بالمدينة من السور:
عدّ الزركشي خمساً وثمانين سورة نزلت في مكة، وتسعاً وعشرين سورة نزلت بالمدينة، وذكر الاختلاف حول بعض السور مثل: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾1 فقيل إنها آخر ما نزل بمكة وقيل إنها مدنية.
 
ومثل: سورة الفاتحة، التي ذهب بعضهم إلى أنها أول سورة نزلت كاملة في مكة، وقيل نزلت بعد سورة المدثّر، وقيل إنها نزلت بالمدينة، والأشهر أنها مكية، وربما قيل بتكرّر نزولها.
 
مصحف الإمام علي عليه السلام
لقد ذكر في نصوص عديدة أنّ هناك مصحفاً خاصاً بالإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وكان يمتاز بعدّة أمور:
منها: أنه رتّبه على ترتيب النزول فقدّم المتقدّم نزولاً وأخّر المتأخّر نزولاً. ولكن المصاحف التي دوّنت بعد ذلك وخاصة عندما تمّ توحيد رسم المصاحف زمان عثمان بن عفان لم تراعِ الترتيب بحسب النزول، وإنما اعتمدت ترتيباً قريباً إلى حدٍّ مّا مع ما هو عليه المصحف المتداول اليوم.



1 سورة المصطفين، الآية 1
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

31

الدرس الرابع: المكّيّ والمدنيّ

 منها: أنه دوّن فيه التأويل والتفسير كما أملاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأسباب نزول الآيات.

 
منها: أنه بيّن فيه المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، بالإضافة إلى ما ذكر من إثبات أسماء أهل الحقّ وأهل الباطل والمنافقين في المناسبات التي نزلت الآيات فيها.
 
وإلى هذا المعنى تشير النصوص الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في أنه عليه السلام جمع القرآن كما أنزل، أي كما أنزل ترتيباً وتأويلاً وتفسيراً.
 
أين مصحف الإمام علي عليه السلام؟
بقي هذا المصحف عند الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وتوارثه أئمة أهل البيت عليهم السلام مع بقية ودائع النبوة، وفي بعض النصوص أنّه محفوظ عند الإمام الحجّة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف1.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص462.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

32

الدرس الرابع: المكّيّ والمدنيّ

 أسئلة الدرس

 
أجب عن الأسئلة الآتية:
1- ما هو المعنى المقصود من تقسيم سور القرآن إلى مكي ومدني؟
2- قيل بأن ما نزل فيه ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فهو مكي، وما نزل فيه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ فهو مدني، كيف ترد على هذا القول؟
3- قيل بأن ما نزل من القرآن فيه ذكر الأمم فإنما نزل بمكة وما كان من الفرائض والسنن فإنما نزل بالمدينة. هل يمكن الاعتماد على هذه الضابطة أم لا؟ ولماذا؟
4- اذكر ثلاثاً من السمات التي اعتبروها علامات لتمييز المكي.
5- اذكر ثلاثاً من السمات التي اعتبروها علامات لتمييز المدني.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

33

الدرس الرابع: المكّيّ والمدنيّ

 أجب بـ ü أو û:

1- المرحلة المكية هي مرحلة الدعوة التي أسّست فيها الدولة الإسلامية. 
2- كل ما نزل فيه ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ علامة على أنه مدني. 
3- كل ما نزل من القرآن فيه ذكر الأمم علامة على أنه مكي. 
4- كل سورة فيها سجدة (الأعم من السجدات المستحبة والواجبة) فهي مكية. 
5- كل سورة فيها إذنٌ بالجهاد فهي مدنية. 
6- كل سورة فيها محاججة لأهل الكتاب فهي مدنية. 
7- المصحف الذي كتبه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام غير موجود عند أحد. 
8- من صفات السور المدنية أنها تبدأ بالحروف المقطعة. 
9- ما بدأ بــ "كلا" فهو مدني. 
10- مصحف علي عليه السلام يختلف عن المصحف الذي بين أيدينا بألفاظه. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

34

الدرس الرابع: المكّيّ والمدنيّ

 اختر الإجابة الأصح

1- الآية المكية هي التي نزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة المكرمة قبل الهجرة إلى المدينة. □
2- الآية المكية هي التي نزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة المكرمة بعد الهجرة. □
3- الآية المدنية هي التي نزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة فقط. □
4- الآية المدنية هي التي نزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المرحلة المدنية. □
5- الآية المدنية هي التي لم تنزل على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة. □
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

35

الدرس الخامس: جمع القرآن وتأليفه

 الدرس الخامس: جمع القرآن وتأليفه



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرَّف إلى معاني جمع القرآن الكريم.
2- يتعرَّف إلى الفترة الزمنية التي جمع فيها القرآن الكريم.
3- يفهم الرأي الصحيح في قضية جمع القرآن الكريم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

36

الدرس الخامس: جمع القرآن وتأليفه

 تمهيد

بعد أنْ تعرّفنا في الدُّروس السَّابقة إلى معنى الوحي، ومعنى نزول القرآن الكريم، وإذا ضممنا إلى ذلك بعض المعتقدات الثَّابتة بأنَّ النَّبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الأنبياء، ورسالته القرآن آخر الكتب السماوية، ودينه خير الأديان وشريعته آخر الشَّرائع، فمن مجموع ذلك وغيره كان من الضروري أن يعمل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على تثبيت هذا الدّين والمحافظة عليه بشتى الوسائل، ومن ضمنها المحافظة على القرآن الكريم من الضياع ومن أن تتلاعب به الأيادي المبغضة والحاقدة، من هنا نودّ في هذا الدرس الإطلالة على كيفية كتابة القرآن واهتمام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين به. 

كتابة الوحي
لا ريب في أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمحرص على تدوين الوحي، فاشتهر العشرات من أصحابه بأنهم من كتّاب الوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد عدّ بعضهم ثلاثة وأربعين كاتباً ممّن شاركوا في كتابة الوحي. وهذا يدل على شدة اهتمام الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأمر الكتابة والتدوين، نظراً لأهمية القرآن الكريم في الدّين الإسلامي، ومكانته كآخر كتاب سماوي، وضرورة الدقة في الحفاظ عليه بكل ما فيه من خصوصيات، لا سيما أنه المصدر الأول من مصادر الشريعة الإسلامية الحقّة.

متى جمع القرآن؟
كان يفرض النزول التدريجي للقرآن كتابته في صحف متفرقة ومقطّعة، ولا شك أنها لم تكن في بداية الأمر مجموعة ومؤلّفة في كتاب له دفّتان، وبعد مضي الزمن أصبح القرآن كتاباً كاملاً محفوظاً بين دفًتين، فمن الحري أن نسأل متى جمعت الصحف وألّف بينها؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

37

الدرس الخامس: جمع القرآن وتأليفه

 يذهب الكثير من أتباع مدرسة الخلفاء إلى أن جَمْع القرآن الكريم كان بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 
بينما يرى أكثر أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام أن القرآن الكريم كان قد جمع في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وبرعايته وتوجيهه، وقبل الخوض في أدلة الفريقين ينبغي الإشارة إلى أن الجمع قد يستعمل بأربعة معانٍ مختلفة، وهذا من شأنه أن يوقع الباحث في الاشتباه مما يستوجب الدقة في هذه الأبحاث.
 
معنى جمع القرآن الكريم
1- الجمع في الصدر وحفظه.
 
2- التدوين: أي جمع السور مدوّنة في مكان واحد، فجمْع القرآن معناه جمع سوره وآياته كلها مدونة في صحفٍ، لكن من دون أن تكون مؤلفة في كتاب واحد مجلّدة بغلاف أو دفتين كما هو متعارف اليوم.
 
3- جمع النسخ المدوّنة: من أيدي الناس كمقدمة لتوحيد القراءة فيها، وهو ما أمر به عثمان بن عفان في زمان خلافته.
 
4- ترتيب الصحف وجمعها في كتاب واحد: وهذا المعنى هو الصحيح والمختار المقصود من البحث كما سيأتي.
 
روايات جمع القرآن
هناك مجموعة من النصوص التي نقلت في كتب أهل السنّة تنص على أن القرآن قد جمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقرى‏ء عليه، وفيما يلي نماذج منها:
1- أربعة جمعوا القرآن: في البخاري أن أربعة جمعوا القرآن الكريم على عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فعن قتادة قال: سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد1.
 
2- ستّة جمعوا القرآن: عن الشعبي قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ستة: أبيّ،



1 الزركشي، البرهان، ج1، ص304، صحيح البخاري، الباب 20، سورة 9، من كتاب التفسير.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

38

الدرس الخامس: جمع القرآن وتأليفه

 وزيد، وأبو الدَّرداء وسعد بن عبيد، وأبو زيد، ومجمع بن جارية قد أخذه إلا سورتين أو ثلاثة، قال: ولم يجمعه أحد من الخلفاء أصحاب محمد غير عثمان1.

 
3- ثلاثة جمعوا القرآن: وعن محمد بن إسحاق في الفهرست أن الجُمَّاع للقرآن الكريم على عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هم: علي بن أبي طالب عليه السلام وسعد بن عبيد بن معاوية، وزيد بن ثابت2.
 
4- جماعة جمعوا القرآن: وروى الحاكم عن زيد بن ثابت قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نؤلف القرآن من الرقاع3.
 
وهناك روايات أخرى تنصّ على أسماء أخرى ممّن جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أحصى بعض المحقّقين أربعة وعشرين اسماً من مجموع الروايات، وأضاف عليهم غيرهم ممّن لم يذكر بشكل قاطع.
 
المقصود من رويات الجمع
1- هل المقصود من روايات الجمع في الصدر (المعنى الأول)؟
لقد حاول مصنِّفو أهل السنّة التوفيق بين هذه الروايات وبين ما ورد عندهم من أن أوّل من جمع القرآن الكريم في مصحف هو الخليفة الأول، ففسّروا الجمع في هذه الروايات بأنّه الجمع في الصدور وحفظ القرآن كاملاً (المعنى الأول).
 
وهذا الأمر لم يرتضه محقّقو الشيعة الإماميّة لعدّة أسباب، منها ما يرجع إلى ظاهر روايات الحفظ في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهي:
أ- إنّ الجمع بمعنى الحفظ في الصدور كاملاً خلاف الظاهر، لذلك لا يذهب إليه إلاّ بقرينة، وهي غير موجودة في هذه الروايات.
 
ب- لا يعقل أن يكون عدد من حفظ تمام القرآن محصوراً في أربعة أو ستة أو عشرة أشخاص، وذلك لأن تعليم وتحفيظ القرآن كان موضع اهتمام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، 



1 الزركشي، البرهان، ج1، ص305.
2 الزنجاني، تاريخ القرآن، 46.
3 الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج2، ص611.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

39

الدرس الخامس: جمع القرآن وتأليفه

 وكما أن القرّاء في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يعدّون بالمئات بل بالآلاف، فلا بد أن يكون الجمع هنا بمعنى امتلاكه مكتوباً مدوّناً.

 
ج- الروايات التي رويت من طرق الفريقين التي تؤكّد على وجود المصحف في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. بالإضافة إلى ما قد يستفاد من وصاياه بالمصحف وأحكامه وما ورد في استحباب القراءة في المصحف نظراً وحفظاً، من الاستدلال على وجود ذلك المصحف وكونه متعارفاً عند الصحابة1.
 
ومنها ما يرجع إلى ظاهر روايات الجمع في زمن أبي بكر، وهي:
أ- إن روايات جمع القرآن بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مضطربة ومتهافتة، بحيث إنه لا يمكن الاعتماد عليها ولا الركون إلى شي‏ء ثابت فيها.
 
فمن حيث الزمان ظاهر بعضها أن الجمع لم يتم إلا في زمان عثمان، بينما تحكي روايات أخرى أن الجمع كان في زمن عمر بن الخطاب، وتنص طائفة أخرى على أنه في زمان أبي بكر.
 
ومن جهة المتصدّي للجمع، ففي بعضها أنه أبو بكر، وفي بعضها أنه عمر وزيد بن ثابت، بينما في بعضها أنه زيد فحسب. وفي بعض الروايات أن أبا بكر قد فوّض إليه ذلك، حتى أنّ عمر جاءه بآية الرجم فلم تقبل منه.
 
وقد اضطربت الروايات من جهة كون الجمع كان تاماً في زمان أبي بكر، حتى أنه لم يبق منه شي‏ء إلا دوّن فيه، بينما صريح رواية بقاء شي‏ء منه لم يثبت في المصحف إلى زمان عثمان.
 
ب- إن روايات جمع القرآن بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن القبول بها، لأنها تفرض أنّ القرآن الكريم قد جمع بالشاهد والشاهدين، وهي تفترض إمكانية ضياع أجزاء كثيرة منه، حيث زعمت أنهم كانوا يطلبون الآية فلا يجدونها إلاّ عند شخص من الصحابة استشهد أو توفي، وأن بعض الآيات لم يتوفّر لها شاهدان، وهذا كان له عظيم الأثر في زرع الشبهات في نفوس البسطاء الذين صدّقوا هذه الروايات، وغفلوا عما 



1 الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج1، ص305.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

40

الدرس الخامس: جمع القرآن وتأليفه

 تقتضيه الضرورة والشواهد القطعية والدلائل البينة على تواتر القرآن الكريم، واهتمام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنشره وتعليمه للمسلمين وتدوينه بشكل واسع، وتوفير كل مقتضيات حفظه وبقائه وتواتره في كل العصور.

 
ج- والصحيح أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يشرف بنفسه على تدوين القرآن الكريم، وتأليف سوره، وجمع الصحف المدوّنة بشكل مستمر1. ولم يرحل عن دار الفناء إلا وهو مطمئن النفس مرتاح البال تجاه هذه الأمانة العظمى والمعجزة الكبرى، وأن المصحف المقروء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان متوفّراً عند عدد من الصحابة الكرام، بالإضافة إلى القطع والأجزاء المتفرّقة عند المئات بل الآلاف من المسلمين، الذين لم تتوفّر لهم فرصة الحصول على نسخة كاملة، فكتب ما تيسّر له وما سمعه من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة أو أقرأه إياه بعض القراء.
 
2- هل المقصود من روايات الجمع التدوين (المعنى الثاني)؟
حاول بعض المحقّقين التوفيق بين روايات الجمع، فزعم أن روايات الجمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إضافة إلى الأدلة الأخرى التي تقتضي ذلك تُحمل على المعنى الثاني من الجمع وهو التدوين للجميع من أحد الوسائل المعروفة، وجمعها في صرّة أو ربطها بخيط أو وضعها في إضبارة مثلاً، وأما الجمع في كتاب واحد فهو لم يتم إلا على عدّة صور: جمع الإمام علي عليه السلام وجمع زيد بن ثابت، وجمع أبي بن كعب، وجمع عبد الله بن سعود وهذا المعنى لا يغيّر في الأمر شيئاً، إذ أن التأليف بين الصحف وترتيبها بشكل كتاب محفوظ فيما بعد في إضبارة أو مربوط في خيط هو جمع حقيقي.



1 راجع: الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص 90.
 - علوم القرآن، السيد محمد باقر الحكيم، ص 101 - 107.  
 - الشيخ الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 1، ص 43.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

41

الدرس الخامس: جمع القرآن وتأليفه

 3- هل المقصود بالجمع لمّ النسخ المدوّنة (المعنى الثالث)؟

روى السيوطي عن ابن اشتة قال: اختلفوا في القراءة على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلّمون فبلغ ذلك عثمان بن عفان فقال: عندي تكذبون به وتلحنون فيه، فمن نأى عني كان أشدّ تكذيباً وأكثر لحناً، يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماماً، فاجتمعوا فكتبوا1.
 
ولا إشكال في أن عثمان بن عفان أمر بجمع القرآن بالمعنى الثالث المتقدّم فقد قام بكتابة نسخة من المصحف سماها بالإمام، فصارت مرجعاً لمن يريد ضبط نسخته أو استنساخ نسخة منه.
 
وقد أقرّه أمير المؤمنين عليه السلام على خطوة توحيد القراءة وقطع الخلاف فيها، خاصة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان قد نهى عن الاختلاف في القرآن، والاختلاف في قراءته أوضح مصاديق الاختلاف المنهي عنه2.
 
ومهما يكن فإنّه بعد توحيد المصحف أمر عثمان باستنساخ عدّة مصاحف وأرسلها إلى الأمصار لتكون هناك مرجعاً يؤخذ عنه، لكن ليس هذا المعنى هو محل النزاع والخلاف.
 
والنتيجة: استظهار المعنى الرابع للجمع، فإن ظاهر الجمع هو الحصول على الجميع مدوّناً، لأنّه تقريب ما كان مفرّقاً، فالجمع بالمعنى الرابع ترتيب الصحف وجمعها في كتاب واحد هو المتعيّن وهو الظاهر من القرائن والشواهد والنصوص.
 
وهذه النتيجة التي توصّلنا إليها وهي المقبولة عند كبار علمائنا ومحقّقينا، كالحر العاملي وابن طاووس والسيد شرف الدّين العاملي، والسيد أبو القاسم الخوئي وغيرهم3.
 
وأما عدد تلك المصاحف فقيل أربعة، والمشهور أنها خمسة، بل ذهب بعضٌ إلى أنها سبعة مصاحف، أرسلت إلى مكة والشام واليمن والبحرين والبصرة والكوفة، وبقي أحدها في المدينة4. والجدير بالذكر أن لا وجود لهذه المصاحف في عصرنا الحاضر.



1 السيوطي، الاتقان في علوم القرآن، ج1، ص209.
2 م. ن، ج 1، ص 166.
3 راجع: السيد جعفر مرتضى حقائق هامة حول القرآن الكريم، ص88-82.
4 السجستاني، كتاب المصاحف، ص43. الصغير، تاريخ القرآن، ص93.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

42

الدرس الخامس: جمع القرآن وتأليفه

 أسئلة الدرس


أجب عن الأسئلة الآتية:
1- هل تمّ جمع القرآن في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أم بعد وفاته، أعطِ شاهداً على ذلك؟
2- لماذا لا يمكن الالتزام بأن معنى جمع القرآن هو حفظه في الصدور؟
3- ما هو المعنى المتعيّن للجمع بحسب الظاهر من القرائن والشواهد والنصوص؟
4- بأي معنى من معاني الجمع قام عثمان بجمع القرآن الكريم؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

43

الدرس الخامس: جمع القرآن وتأليفه

 أجب بـ  أو :

1- جُمع القرآن في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهذا رأي السنة والشيعة. 
2- كان النزول التدريجي للقرآن يفرض كتابته في صحف متفرقة ومقطّعة. 
3- إن الجمع بمعنى الحفظ في الصدور كاملاً هو غير موافق للظاهر من الحفظ. 
4- الروايات التي رويت من طرق الفريقين تؤكّد على عدم وجود المصحف في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. 
5- الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يشرف بنفسه على تدوين القرآن الكريم، وتأليف سوره.
6- الجمع في كتاب واحد لم يتم إلا في عهد أبي بكر. 
7- أقرّ أمير المؤمنين علي عليه السلام خطوة عثمان بن عفان بتوحيد القراءة وقطع الخلاف فيها. 
8- أمر عثمان باستنساخ عدّة مصاحف وأرسلها إلى الأمصار. 
9- الجمع هو بمعنى ترتيب الصحف وجمعها في كتاب واحد هو المتعيّن من القرائن والشواهد والنصوص. 
10- إن جمع القرآن في نسخة واحدة حفظه من الضياع والتلف. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

 


44

الدرس الخامس: جمع القرآن وتأليفه

 أكمل العبارة بشكل تعطي الرأي الصحيح في المسألة:

القرآن - حفّاظ - الكتاب - رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - الصحابة
لقد تم جمع القرآن في عهد ......................................، واهتم به المسلمون الأوائل أقصى درجات الاهتمام، في مجال تعلم أحكامه وحفظه، لدرجة أصبحت فيها مكانة الفرد الاجتماعية تقاس بقدر حفظه من سور القرآن الكريم، حتى أصبح عدد ...................................... القرآن من الكثرة بحيث أنه في إحدى المعارك قتل فيها أربعة آلاف منهم.

وكذلك الحال في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما استشهد سبعون رجلاً من ...................................... الذين حفظوا القرآن في معركة بئر معونة، وهي إحدى المناطق المجاورة للمدينة.

من هذين المثلين ( وأمثالهما كثير ) يتضح لنا أنّ حفظة وقراء ومعلّمي القرآن الكريم من الكثرة بحيث يستشهد منهم في معركة واحدة ذلك العدد الضخم. وهذا طبيعي جداً إذا ما نظرنا إلى طريقة تعامل المسلمين مع ......................................، باعتباره القانون الحاكم النافذ، و...................................... المقدّس الذي لا يوجد سواه. 

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج8، ص24.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

45

الدرس السادس: رسم القرآن، والقراءات

 الدرس السادس: رسم القرآن، والقراءات



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرَّف إلى كيفية دخول علامات التنقيط والتشكيل والإعجام على المصحف الشريف.
2- يتعرَّف إلى كيفية نشوء القراءات القرآنية.
3- يميّز أسانيد القراءات القرآنية المختلفة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

46

الدرس السادس: رسم القرآن، والقراءات

 تمهيد

لقد اهتم النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن الكريم، وقد اعتنى بأن يكون بين يديه كتاب للوحي، وكان يشدّد على المحافظة على القرآن الكريم ويوصي بالاهتمام به، كي لا يصيبه ما جرى على الكتب السماوية السابقة، وقد عمل المسلمون بوصية نبيهم واهتمّوا بكتابة القرآن وحفظه ورسمه وتناقله وعدم دخول أي كلام غير إلهي فيه، ونحن في هذا الدرس نتعرّض للرسم القرآني وكيف دخل الإعراب والإعجام والتشكيل إلى القرآن، وكيفية نشوء القراءات لا سيما القراءات المشهورة. 
 
التَّنقيط والشَّكل
كانت كتابة المصاحف حتَّى العثمانية منها مجرَّدة عن علامات الشَّكل والنّقط والإعجام، حيث إنّ الخط الكوفي كان إلى ذلك الحين مجرّداً عن الزَّوائد، بل لم يدوَّن في تلك المصاحف أي نوع من أنواع الزِّيادة التّوضيحية مثل أسماء السّور وأرقام الآيات.
 
1- وضع الحركات:
وأوّل من تصدّى لوضع الحركات الإعرابية هو أبو الأسود الدؤلي (المتوفي سنة 69 هـ) وذلك بعد أن سمع من يلحن بالقراءة، فاستعمل مداداً يخالف لونه اللون الذي كتب به القرآن، وقال للكاتب: "إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، وإن ضممتُ فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة نقطتين، وفي نسخة: فاجعل النقطة من تحت الحرف"1، وقيل إنه جعل للفتح نقطة فوق الحرف، وللضم نقطة



1 ابن النديم، الفهرست، 45.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

47

الدرس السادس: رسم القرآن، والقراءات

 إلى جانبه، وللكسر نقطة أسفله، وللتنوين نقطتين1.

 
والجدير بالذكر هنا أن أبا الأسود الدؤلي كان قد أخذ أصول النحو عن أمير المؤمنين عليه السلام، الذي وضع له قواعده ولقّنه أصوله وأمره بتفصيل ما أجمله له ليرجع إليه من كان في لسانه عجمة للتخلُّص من اللحن في الكلام.
 
2- وضع النقاط والحركات:
وقد أكمل عمل أبي الأسود من بعده اثنان من تلامذته، هما: يحيى بن يعمر العدواني (توفي عام 90هـ تقريباً) ونصر بن عاصم الليثي (توفي عام 89هـ) حيث وضعا النقاط على الحروف أزواجاً وأفراداً، في عملية أطلق عليها اسم الإعجام، وذلك للتمييز بين الحروف المتشابهة في الرسم، فصار لكل حرف صورة تميّزه عن صورة غيره من الحروف، كما هو المتعارف في كتابتنا اليوم2.
 
ثم تلا ذلك تطوير علامات الإعراب والشكل فوضع علامة للسكون وغيرها من العلامات.
 
وقد اعتمدوا في البداية للتمييز بين نقاط الإعجام ونقاط الحركات اختلاف اللّون، فاستعملوا ثلاثة ألوان، لوناً للكتابة، ولوناً للنقط التي تميز الحروف المعجمة من المهملة، ولوناً للنقط التي ترمز إلى الحركات، وربما وصل الأمر إلى استعمال أربعة ألوان كما نقل عن أهل الأندلس3.
 
لكن الخليل بن أحمد الفراهيدي (170 - 100هـ) ابتدع أشكالَ الحركات، فميّزها عن نقاط الحروف، فجعل لكلِّ حركة حرفاً صغيراً بدل النقط، فوضع للضمة واواً صغيرة، وللكسرة ياءً مردفة تحت الحرف، وللفتحة ألفاً مائلة فوق الحرف. وأضاف إلى ذلك علامة الهمز والتشديد والرّوم والإشمام4. واستمرت حركة وضع الاصطلاحات والعلامات التوضيحية، فوضعت علامات نهاية الآيات وقسّم القرآن إلى الأخماس والأعشار، ووضعت إشارات إلى أحكام السجود الواجب والمندوب وهكذا.



1 الصغير، تاريخ القرآن، ص131.
2 م.ن، ص 133 ـ 134.
3 الزنجاني، تاريخ القرآن، ص98.
4 الصغير، تاريخ القرآن، ص134-135. السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج4، ص148.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

48

الدرس السادس: رسم القرآن، والقراءات

 أما على صعيد الرسم القرآني أي الإملاء فقد بقي الرسم العثماني هو الأساس.

 
والحقيقة أن عملية التنقيط ووضع الحركات الإعرابية قدّمت خدمة عظيمة ووضعت حدّاً للاختلاف في القراءة التي كانت بلغت مستوىً خطراً، كما سيأتي الإشارة إليه.
 
القراءات القرآنيّة
لا يكاد يخلو كتاب تفسير من التعرّض لذكر القراءات المتعدّدة للكثير من مفردات القرآن، وهذه القراءات تنسب إلى قرّاءٍ معيّنين، وقد أُحصي منها عشرة مشهورة، أو سبعة هي الأشهر، وإلاّ فإنّ عدد القراءات الشاذّة تزيد عن ذلك بكثير. 
 
1- منشأ القراءات:
هناك اتجاهان في شأن نشوء القراءات القرآنية ومصدرها:
الاتجاه الأول: اجتهاد القرّاء: 
إنّ المصحف حتّى المصحف العثماني قد كتب مجرّداً عن التنقيط والحركات الإعرابيّة، وهذا أدّى إلى الاختلاف في قراءته، نتيجة عدم حفظ المعلّمين القراءة الصحيحة بدقة، واعتماد الرسم الذي يحتمل عدّة وجوه لخلوّه من الإعجام والإعراب.
 
فالقراءات على هذا الوجه تكون اجتهادية محضة، أو مرويّة عن القرّاء المشهورين منقولة بأخبار الآحاد، مع الاعتراف بأنّ القرآن نزل على قراءة واحدة،، دون أن يُعلم الزمن الذي حصل فيه الاختلاف وكيف بدأ.
 
واستدل لهذا الإتجاه بعدة أدلة أهمها:
1- الروايات: 
ما ورد في أخبارنا عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام، في أنّ القرآن نزل على حرف واحد.
 
منها: ما روي عن الفضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن الناس يقولون إن القرآن نزل على سبعة أحرف فقال عليه السلام: "كذبوا أعداء الله، ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد"1.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص630.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

49

الدرس السادس: رسم القرآن، والقراءات

 منها: ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "إن القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة"1.

 
ومنها: ما روي عن سليمان بن صرد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "أتاني جبرئيل فقال: اقرأ القرآن على حرف واحد"2.
 
ويدلّ عليه أيضاً: أنّ الخليفة الثالث عثمان بن عفان جمع الناس على قراءة واحدة كما يقولون، فهو اعتراف ضمني بأنّ القرآن واحد نزل بقراءة واحدة، وإلا لما كان له أن يمنع القراءات الأخرى ويحمل الناس على قراءة واحدة، إلّا أن يكون اجتهاداً منه.
 
وقد تبنّى هذا الاتجاه أكثر من واحد من مصنّفي أهل السنّة، وصرحّوا بأنّ سبب الاختلاف في القراءات هو خلوّ المصاحف الأولى من النقط والشكل. فقد نقل ذلك عن ابن أبي هاشم3، وابن جرير الطبري4 وغيرهما.
 
2- تواتر القراءات
إنّ القراءات مروية بالأسانيد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بغضِّ النظر عن كتابة المصحف الشريف. وقد ادّعى بعض تواتر القراءات السبعة المشهورة5.
 
فالقراءات على هذا الوجه يُدّعى أنّها كلّها قرآن، وأنّ القرآن نزل بقراءات متعدّدة ومتواترة.
 
الاتجاه الثاني: ويعتمد على تفسير الأحرف السبعة بالقراءات واستدل لهذا الاتجاه بعدة أدلة منها:
- ما رووه عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم6 من أن القرآن الكريم نزل على سبعة أحرف7، فزعموا أن الأحرف السبعة هي القراءات السبعة المشهورة.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص630.
2 المتقي الهندي، كنز العمال، ج2، ص34.
3 القسطلاني، فتح الباري، ج9، ص28.
4 الصغير، تاريخ القرآن، ص107-109.
5 السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص258.
6 السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص257-263. الباقلاني، نكت الانتصار لنقل القرآن، ص415.
7 راجع مصادر الحديث في: السيد جعفر مرتضى، حقائق هامة حول القرآن الكريم، ص177-178.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

50

الدرس السادس: رسم القرآن، والقراءات

 حتّى أن بعضهم يدّعي أن عثمان بن عفان فرّق هذه القراءات على المصاحف التي دوّنها، لكي تحفظها الأمة كما نزلت من عند الله تعالى، وكما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا هو سبب اختلاف رسوم مصاحف أهل الأمصار1.

 
والاستدلال برواية نزول القرآن على سبعة أحرف غير تام: 
أ- فإن هذه الرواية معارضة بما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وهم أعلم بما نزل فيه من أن القرآن واحد نزل من عند الواحد، على حرف واحد وأن الاختلاف يأتي من قبل الرواة كما تقدّم.
 
ب- لا دليل على أن المراد بالأحرف السبعة القراءات السبعة، فإن بعض الروايات فسّرت الأحرف بأنها أساليب القرآن من الأمر والنهي والترغيب والترهيب والجدل والأمثال والقصص2، ويظهر من روايات أخرى أن الأحرف إشارة إلى معاني القرآن وتأويلاته، فقد روي عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: "تفسير القرآن على سبعة أوجه، منه ما كان، ومنه ما لم يكن بعد، تعرفه الأئمة"3.
 
ج- إن روايات نزول القرآن على الأحرف السبعة متضاربة، فبعضها يقول أنها سبعة، وبعضها يقول أنها خمسة، وبعضها يقول أنها أربعة وربما ثلاثة، فلا يعلم الصحيح منها.
 
والنتيجة أن مقولة تفسير الأحرف السبعة بالقراءات غير مقبولة ولا يصح الاعتماد عليها.
 
2- اختلاف مصاحف الأمصار
تُصرّح بعض النصوص أن عثمان بن عفان لما أتي بالمصحف بعد أن فرغوا منه، نظر فيه فقال: قد أحسنتم وأجملتم أرى فيه شيئاً من لحن ستقيّمه العرب بألسنتها4.
 
وهذا يدل على أن الدقّة التي توخّاها كَتَبةُ القرآن آنذاك لم تكن مانعة من وقوع بعض



1 السيد جعفر مرتضى، حقائق هامة حول القرآن الكريم، ص220.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج4 ص94.
3 الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج27، ص197.
4 السجستاني، كتاب المصاحف، ص41.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

51

الدرس السادس: رسم القرآن، والقراءات

 اللّحن غير المهم في طريقة الرسم القرآني، ولذا اعتمدوا على أنّ العرب ستقوّمها بألسنتهم، ولو كان ذلك على مستوى الاختلاف الجذري لما كان يسكت عليه.

 
بالإضافة إلى أن تلك المصاحف كانت خالية عن النقط والحركات الإعرابية - كما تقدّم- ممّا جعل إمكانية اختلاف قراءتها على مستوى عالٍ، ونحن لا ندري مقدار هذا الاختلاف المزعوم في المصاحف العثمانية، وما نقل في المقام لا يخلو أن يكون مجرّد دعاوى غير مدعّمة بأدلة قاطعة، وهذا مما لا يجوز الوقوف عنده أمام النص المتواتر والقراءة المتواترة.
 
3- سند القراءات
أما دعوى كون القراءات مرويّة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فهنا لا بد من التعرّض لأمرين:
الأوّل: أنّ القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد، وإنما بالتواتر الموجب للاعتقاد اليقيني، بأنه هو كلام الله النازل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وعليه فأي قراءة لا بد من إسنادها بأسانيد متواترة، ولا يكفي مجرّد الرواية بسند واحد أو سندين بما لا يخرجها عن الآحاد. وهذا أمر مسلّم لا يناقش فيه أحد.
 
الثاني: إن القراءات المنقولة في كتب التفسير وغيرها كلها غير متواترة، وقد كفانا البحث السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره في كتاب "البيان"1، وقد أورد ترجمة القرّاء السبعة وأثبت أن قراءتهم غير متواترة بل بعضها لم تثبت بسند صحيح أصلاً.
 
ومن تصفّح حال القرّاء وتراجمهم يظهر أن قراءاتهم تلقّوها عن مشايخهم بطرق الآحاد، وكثير من القرّاء أنفسهم لم يكن ثقة أو أن شيوخه لم يكونوا ثقات. والمهم هو عدم إمكان الركون إلى شي‏ء منها. ولا يكفي أن يدّعى تواتر القراءة إلى القرّاء أنفسهم فإن المطلوب التواتر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو غيرها.
 
ثم إن احتجاج كل واحد من القرّاء على صحة قراءته وإعراضه عن قراءة غيره دليل على أن القراءات لم تكن متواترة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تكن متعدّدة في الأصل، وإلا لم يكن هناك حاجة لكل ذلك، فإن التعدّد يكون عندئذ هو الطبيعي.



1 راجع: السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص126-147.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

52

الدرس السادس: رسم القرآن، والقراءات

 وهناك اختلافات في زيادة كلمة ونقصانها، واستبدال حرف جر بآخر وأمثال ذلك مما ينشأ من سهو الحافظ.

 
وهناك اختلافات ناشئة من الخلط بين التفسير والتأويل ومتن القرآن فيتوهّم أن ما ورد على الألسنة للتفسير أنه من أصل القرآن.
 
ونحن لا ننفي بعض المحاولات العمدية للتحريف، خاصة إذا عرفنا أن بعض أهل الكتاب كان يطلب منه نسخ المصحف وهو لا يؤتمن من التلاعب والزيادة والتحريف. ومن هذا القبيل ما ورد أن عبد الرحمن بن أبي ليلى كتب له نصراني من أهل الحيرة مصحفاً بسبعين درهماً1، ومنذ سنوات قليلة حاول يهود العصر في إسرائيل تحريف القرآن في الآيات التي ترتبط بهم وباءت محاولتهم بالفشل، كما فشلت كل المحاولات السابقة وبقي القرآن الكريم محفوظاً بعيداً عن كل ريب.
 
القراءة كما يقرأ الناس
وفي الختام لا بد من الإشارة إلى ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام من الأمر بالقراءة "كما يقرأ الناس" أو "كما علمتم" والنهي عن متابعة القراءات الشاذة.
 
روي أنه قرأ رجل على الإمام الصادق عليه السلام حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس فقال الإمام أبو عبد الله عليه السلام "كف عن هذه القراءة، اقرأ كما يقرأ الناس..."2.
 
وروي عنه عليه السلام أنه قال: "اقرؤوا كما علّمتم "3.



1 عبد الرزاق، المصنف، ج8، ص114.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص633.
3 م.ن، ج2، ص631.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

53

الدرس السادس: رسم القرآن، والقراءات

 أسئلة الدرس


أجب عن الأسئلة الآتية:
1- ما هي الأسباب التي ذُكرت لنشوء القراءات المتعدّدة للقرآن؟
2- ما هو رأي البيت عليهم السلام في موضوع التعدُّد في القراءات؟
3- ما هو المعنى الصحيح للأحرف السبعة التي نزل القرآن عليها؟
4- قيل إن القراءات المتعدّدة للقران مروية عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، كيف تردّ على ذلك؟
5- ما هي القراءة التي كان عليها أئمة أهل البيت عليهم السلام والتي هي متداولة اليوم؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

54

الدرس السادس: رسم القرآن، والقراءات

 أجب بـ  أو :

1- أوّل من تصدّى لوضع الحركات الإعرابية هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. 
2- أوّل من تصدّى لوضع علامات الوقف هو الخليل بن أحمد الفراهيدي. 
3- الإعجام هو وضع النقاط على الحروف، لا الحركات. 
4- التشكيل هو وضع الحركات على الحروف لا النقاط. 
5- تواتر القراءات: يعني أنّها القراءات المروية بالأسانيد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بغضّ النظر عن كتابة المصحف الشريف. 
6- إن مقولة تفسير الأحرف السبعة بالقراءات غير مقبولة ولا يصحّ الاعتماد عليها. 
7- القرآن لا يثبت بالتواتر، وإنما بأخبار الآحاد الموجبة للاعتقاد اليقيني. 
8- عدم تواتر القراءات لا يضرّ بتواتر القرآن. 
9- إن القراءات المنقولة في كتب التفسير وغيرها كلها غير متواترة. 
10- إن احتجاج كل واحد من القرّاء على صحة قراءته وإعراضه عن قراءة غيره دليل على أن القراءات كانت متواترة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

55

الدرس السادس: رسم القرآن، والقراءات

 أكمل العبارة بشكل تعطي الرأي الصحيح في المسألة:

الحروف - المتعدّد - عنصر الاجتهاد - القراءات - ضبط الكلمات القرآنية
نلاحظ أن بعض الألفاظ القرآنية تُقرأ بأساليب مختلفة، تؤدّي في بعض الأحيان إلى الاختلاف في معنى اللفظ ومؤدّاه، هذا الشيء الذي أدّى في نهاية تطوّره إلى ولادة علم ..................................... وقد حاول بعضهم أن يُفسّر ظاهرة تعدُّد القراءات في البحوث التفسيرية العامة على أساس أن القرآن الكريم جاء به الوحي إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الشكل....................................., وأنه نزل على عدّة حروف، وأن القراءات المتعدّدة هي هذه .....................................المتعدّدة.

وإذا كنا نقبل هذه المعالجة في بعض الحالات لا يمكن أن نقبلها بشكل مطلق وفي جميع الحالات، خصوصاً في الحالات التي يكون لاختلاف القراءة تأثير على المعنى، ويكون المعنى بدوره مرتبطاً بحكم شرعي كما في "يطهرن" بالتخفيف و "يطهّرن" بالتشديد. وحينئذ نجد أنفسنا أمام تفسيرين لهذه الظاهرة بشكل عام، أو على الأقل في بعض الحالات:
- أحدهما: هو إهمال ..................................... بشكل معيّن في عهد الرسول من قِبَل بعض الصحابة أنفسهم، أو نسيان الطريقة الصحيحة لنطق اللفظ نتيجة عدم التدوين.
- والآخر: تدخل ..................................... والاستحسان في القراءة بعد فقدان حلقة الوصل التي كانت تربط بين بعض الصحابة والرسول". 

الشهيد السيد محمد باقر الحكيم، علوم القرآن، ص290.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

56

الدرس السابع: سلامة القرآن من التحريف

 الدرس السابع: سلامة القرآن من التحريف




أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يفهم محلّ النزاع في تحريف القرآن.
2- يستدلّ على عدم تحريف القرآن الكريم.
3- يُميّز بين التحريف المعنوي والتحريف اللفظي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

57

الدرس السابع: سلامة القرآن من التحريف

تمهيد

من الأبحاث المهمّة في علوم القرآن هو بحث دعوى تحريف القرآن الكريم، وهذه الدعوى باطلة وغير صحيحة، ويمكن البرهان على ذلك من خلال القرآن الكريم ومن خلال الروايات الشريفة. ولتوضيح هذا البحث لا بد فيه من التفرقة بين التحريف المعنوي والتحريف اللفظي، وتوضيح تحريف النقيصة وتحريف الزيادة. 
 
القرآن ونفي التحريف
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾1.
 
هذه الآية الشريفة تدلّ دلالة تامّة على سلامة القرآن الكريم، وأنه محفوظ من التغيير والتحريف اللفظي، قال العلّامة الطباطبائي قدس سره في تفسيرها: "... فهو ذكر حيّ خالد مصون من أن يموت ويُنسى من أصله، مصون من الزيادة عليه بما يبطل به كونه ذكراً، مصون من النقص كذلك، مصون من التغيير في صورته وسياقه بحيث يتغيّر به صفة كونه ذكراً لله، مبيّناً لحقائق معارفه، فالآية تدلّ على كون كتاب الله محفوظاً من التحريف، بجميع أقسامه بجهة كونه ذكراً لله سبحانه، فهو ذكر حيّ خالد"2.
 
ويقول السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره: "فإنّ في هذه الآية دلالة على حفظ القرآن من التحريف، وأن الأيدي الجائرة لن تتمكّن من التلاعب فيه"3. وقريب من هذا الكلام صدر عن الفخر الرازي والفيض الكاشاني والشيخ الطبرسي وغيرهم.



1 سورة الحجر، الآية 9.
2 العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج12، ص103 و 104.
3 السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص226.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

58

الدرس السابع: سلامة القرآن من التحريف

 والمراد من الذكر في الآية المحكي بهذا القرآن الملفوظ أو المكتوب وهو المنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد من حفظه صيانته من التلاعب والتغيير والضياع، ولا شك أن مثل هذا الحفظ لا يصحّ إلاّ مع بقائه بمتناول أيدي البشر عامة الذين نزل لهدايتهم. ولا يصحّ إطلاق مثل هذا الحفظ على بقائه بأيدي جماعة خاصة مع عدم إمكان وصول الناس إليه، ولذا صح أن يقال إن بني إسرائيل حرّفوا التوراة والإنجيل مع بقائها مكتومة عند أفراد معيّنين.

 
السنة الشريفة ونفي التحريف
وردت روايات عديدة تقتضي سلامة القرآن وحفظه من أيدي التحريف وقد قمنا بتقسيمها إلى طائفتين:
الطائفة الأولى: روايات العرض على القرآن
ما ورد من الروايات تأمر بعرض الأخبار على كتاب الله بهدف تمييز الروايات الصحيحة عن الموضوعة، فهو بمثابة الميزان لقياس الصحيح منها من الفاسد، فإذا فُرض أن القرآن الكريم محرّفاً فكيف يصحّ الأمر بالعرض عليه وكيف يتمّ جعله مقياساً لذلك؟! إذاً لا بد أن يكون المقياس وهو القرآن الكريم سالماً من أيّ تحريف حتى يصحّ العرض عليه، ومن أمثلة هذه الطائفة:
ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "تكثر لكم الأحاديث بعدي، فإذا روي لكم عنّي حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فاقبلوه وما خالف فردّوه"1.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"2.
 
قال الفيض الكاشاني رحمه الله: "وقد استفاض عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام حديث عرض الخبر المروي على كتاب الله لتعلم صحته بموافقته له، أو فساده بمخالفته، فإذا كان القرآن الذي بأيدينا محرّفاً فما فائدة العرض"3.



1 السيد جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ج26، ص71، وفي معناه: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص225.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص69.
3 الفيض الكاشاني، تفسير الصافي، ج1، ص46.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

59

الدرس السابع: سلامة القرآن من التحريف

 الطَّائفة الثَّانية: روايات التمسُّك بالثقلين

الرواية المتواترة عن النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم التي تأمر بالتمسّك بالثّقلين: "إنِّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي"1 وما في معناها من الروايات الآمرة بالتمسّك بالقرآن، واتخاذه إماماً، والتي تصفه بأنه نور وهداية وناصح، وأنه لا عوج فيه، وأنه عصمة للمتمسّك به، ونجاة للمتعلّق به وأمثال ذلك.
 
وهذه النصوص كلها تقتضي سلامته وحفظه على تلك الصفة. ولو كان محرّفاً لما كان لها أي معنى حينئذ.
 
تواتر القرآن الكريم
تقدّم في بحث جمع القرآن الكريم أن القرآن الكريم متواتر حفظاً وتدويناً، فعلى صعيد التدوين، تقدّم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلماستخدم في كتابة الوحي عشرات الكتّاب وانتشر التدوين بصورة واسعة جداً، وعلى صعيد الحفّاظ فقد كان عددهم بالمئات بل الألوف، وقد استمرّ هذا التواتر في كل الأجيال وجميع العصور حتى يومنا هذا.
 
فلا يُعتنى بدعاوى التحريف التي تُخالف القطع وظاهر الكتاب والسنّة النبوية الثابتة.
 
دعاوى التحريف
يستعمل لفظ التحريف ويراد منه أحد معنيين:
الأول: التحريف المعنوي: وذلك بحمل الألفاظ على غير معانيها وتأويلها بما لم تنزل فيه بلا دليل لغوي ولا رواية صحيحة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام.
 
وهذا النمط من التحريف وقع بلا شك من قِبَل الكثير من المذاهب وأهل الأهواء والمقالات الفاسدة الذين حاولوا الاستفادة من الكتاب لنصرة مقالاتهم الباطلة، ولأجل ذلك نهى أمير المؤمنين عليه السلام عن مجادلة الخوارج بالكتاب عندما بعث إليهم ابن عباس فقال له: "لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون ولكن خاصمهم



1 هذا الحديث بألفاظ متقاربة رواه نيف وثلاثون صحابياً، وهو متواتر لفظاً، ويعتبر من أدلة الإمامة. راجع رواته ومصادره في خلاصة عبقات الأنوار للسيد الميلاني الأجزاء الثلاثة الأولى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

60

الدرس السابع: سلامة القرآن من التحريف

 بالسنّة فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً"1.

 
وذلك لأنهم كانوا يؤوّلون الآيات التي يمكن أن يخاصمهم بها لإلزامهم بوجوب طاعة أمير المؤمنين على وفق أهوائهم وآرائهم. بخلاف نصوص السنّة الصحيحة والصريحة بالمطلوب.
 
الثاني: التحريف اللفظي: ويراد منه تحريف ألفاظ القرآن الكريم بالزيادة أو النقصان أو التبديل، وهذا هو المقصود من البحث وهو محل النزاع في بحث تحريف القرآن، وما قدّمناه من أدلة على سلامة القرآن يقصد سلامته من هذا النوع من التحريف. لكن المؤسف أنّ بعض المحدّثين الشيعة خُدعوا بالأخبار المتفرّقة التي تدلّ على وقوع التحريف بالقرآن أو التي توهّموا دلالتها على ذلك، وهي أخبار عامّية في الأعم الأغلب، وقد أساؤوا نتيجة ذلك إلى القرآن الكريم ووجّهوا طعنة خطيرة للإسلام بسبب هذا التوهّم.
 
وجاء بعد ذلك الذين يتربّصون الدوائر بأتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وتلقّفوا هذا الكلام واتّخذوه مطعناً للإجهاز على التشيُّع وتشويه صورته. فلا يخلو كتاب يُصنّف اليوم ضدّ التشيُّع من فصول تستغلّ هذه المقولة وتنسب إلى الشيعة هذه التهمة بسبب ما ذهب إليه هؤلاء المحدِّثون، وعلى رأسهم المحدِّث الشيخ حسين النوري الذي ألّف كتاباً سمّاه "فصل الخطاب في تحريف كتاب ربّ الأرباب"، أورد فيه اثني عشر دليلاً أو توهّماً وأسهب في التوجيه، وهذه الأدلة المزعومة نذكر أهمّها في الدرس القادم مع الردّ عليها إن شاء الله تعالى.




1 نهج البلاغة جمع الشريف الرضي، الكتاب 77.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

61

الدرس السابع: سلامة القرآن من التحريف

 أسئلة الدرس


أجب عن الأسئلة الآتية:
1- يستفاد من القرآن الكريم والروايات الكثيرة أن القرآن محفوظ عن التحريف والتلاعب، اشرح ذلك من خلال بعض النماذج والشواهد.
2- القرآن الكريم متواتر حفظاً وتدويناً، ما هو المقصود بهذه العبارة؟
3- تحدّث عن شاهد تاريخي يكشف عن عدم تيسُّر تحريف القرآن لمن كان يرغب بذلك؟
4- ما هو الفرق بين التحريف المعنوي والتحريف اللفظي؟
5- كيف نستفيد من رواية التمسُّك بالثقلين في نفي التحريف؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

62

الدرس السابع: سلامة القرآن من التحريف

 أجب بـ  أو :

1- إنّ عرض الأخبار على كتاب الله يهدف إلى تصحيح الآيات القرآنية. 
2- الرواية المتواترة التي تأمر بالتمسُّك بالثقلين لا تقتضي سلامة القرآن من التحريف. 
3- دعاوى التحريف تخالف القطع وظاهر الكتاب والسنّة النبوية الثابتة. 
4- التحريف اللفظي: يراد منه تحريف ألفاظ القرآن الكريم بالزيادة أو النقصان أو التبديل. 
5- التحريف المعنوي: يعني حمل الألفاظ على غير معانيها وتأويلها. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

63

الدرس السابع: سلامة القرآن من التحريف

 أكمل العبارة بشكل تعطي الرأي الصحيح في المسألة:

التحريف - محفوظاً - النقص - العناية الكاملة - حي خالد مصون
قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ صدر الآية مسوق سوق الحصر وظاهر السياق أنّ الحصر ناظر إلى ما ذكر من ردّهم القرآن بأنّه من أهذار الجنون وأنه صلى الله عليه وآله وسلم مجنون لا عبرة بما صنع ولا حجر ومن اقتراحهم أن يأتيهم بالملائكة ليصدّقوه في دعوته وإن القرآن كتاب سماوي حق. والمعنى على هذا والله أعلم أن هذا الذكر لم تأت به أنت من عندك حتى يعجزوك ويبطلوه بعنادهم وشدّة بطشهم وتتكلّف لحفظه ثم لا تقدر وليس نازلاً من عند الملائكة حتى يفتقر إلى نزولهم وتصديقهم إياه بل نحن أنزلنا هذا الذكر إنزالاً تدريجياً وإنا له لحافظون بما له من صفة الذكر بما لنا من .............................................. به.
 
فهو ذكر .............................................. من أن يموت وينسى من أصله مصون من الزيادة عليه بما يبطل به كونه ذكراً مصون من .............................................. كذلك مصون من التغيير في صورته وسياقه بحيث يتغيّر به صفة كونه ذكراً لله مبيناً لحقائق معارفه. فالآية تدلّ على كون كتاب الله ...............................................من..............................................بجميع أقسامه من جهة كونه ذكراً لله سبحانه فهو ذكر حيٌّ خالد.
 
 
السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره
تفسير الميزان، ج12، ص102.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

64

الدرس الثامن: مناقشة أدلّة تحريف القرآن

الدرس الثامن: مناقشة أدلّة تحريف القرآن


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يذكر بعض أدلّة توهّم تحريف القرآن الكريم.
2- يردّ على عددٍ من أدلّة توهّم تحريف القرآن.
3- يُعدِّد اثنين من العلماء القدماء والمحدِّثين ممن يقول بسلامة القرآن من التحريف.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

65

الدرس الثامن: مناقشة أدلّة تحريف القرآن

 تمهيد

تعرّضنا في الدرس السابق إلى معنى التحريف، وإلى أنواعه، بقي الحديث عن أنّ من ذهب إلى القول بتحريف القرآن الكريم قد ادّعى عدداً من الأدلة على ذلك، فلم يذهب إلى هذا الرأي جزافاً، وفي المقابل إنّ من اختار القول بعدم تحريف القرآن كما هو الصحيح عليه أن يتعرّض لكل أدلّة المنكرين والردّ عليها، كي لا يكون ادعاء في مقابل ادعاء، ونحن في هذا الدرس نتعرّض لأهم أدلّة القائلين بالتحريف والردّ عليها. 

أدلّة توهّم وقوع التّحريف
الأول: ما ورد من روايات تدلّ على أن ما وقع في الأمم السابقة يقع في هذه الأمة أيضاً، ومن المعلوم أن الأمم السابقة حرّفت التوراة والإنجيل، فلا بد أن هذه الأمة كذلك.

ويجاب بأن هذه الروايات عاميّة المنشأ في الغالب، ومع ذلك فهي ناظرة إلى الحوادث الاجتماعية والسنن التاريخية، ولا يلزم أن يتكرّر كل حدث صغير أو كبير بتفاصيله فلا يصح الاستدلال بها هنا.

الثاني: الروايات التي تظهر كيفية جمع القرآن بحسب ما ورد في كتب القوم، إذ يلزم منها عدم الاطمئنان إلى سلامة الكتاب، كالجمع بالشاهد والشاهدين وأمثال ذلك.

ولكن تقدّم أنّ القرآن كان مدوّناً بكامله عند عدد كبير من المسلمين على زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والتواتر متوفّر في كل الطبقات.

الثالث: اختلاف القراءات في مصاحف الصحابة على ما نقله المفسّرون من أهل السنّة، وهو أحد أنواع التحريف، لأن القرآن نزل على حرف واحد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

66

الدرس الثامن: مناقشة أدلّة تحريف القرآن

 والجواب: عن هذا أنه تقدّم أن عدم تواتر القراءات شي‏ء وتواتر القرآن شي‏ء آخر، فاختلاف القراءات لا يضرّ بالمادة الأصلية للقرآن.


الرابع: ما ورد من أن أبيّ بن كعب كان أقرأ الأمة، وما ورد في أن آيات مصحفه أكثر مما هو موجود الآن، ويستنتج من ذلك طروء النّقص على القرآن.

والجواب: عن هذا أن هذه الروايات أيضاً ضعيفة وعامية وشاذة، لذلك لا يصح الوقوف عندها في مقابل التواتر الفعلي للقرآن. ونضيف إلى ذلك أن الاختلاف بعدد الآيات لا يدل على الزيادة والنقص، لأنهم ربما اختلفوا على أماكن الوقف والفواصل فأدّى ذلك إلى الاختلاف بعدد الآيات وهذا لا يؤثر.

الخامس: أن ما فعله عثمان من حمل الناس على قراءة واحدة وإحراق باقي المصاحف يجعل القرآن الكريم في معرض التشكيك وعدم الاطمئنان إلى سلامته، وإذا أضيف إليه مخالفة ابن مسعود لعثمان ينتج عنه وجود تحريفات كانت سبباً لمخالفة ابن مسعود.

الجواب: أنّ عمل عثمان كان بموافقة صريحة من أمير المؤمنين عليه السلام، وأنها وحّدت القراءات، وأن مخالفة ابن مسعود لا تدلّ على شي‏ء مما ذكر، لأنّه رفض تسليم مصحفه للإحراق، حيث كان يعتزّ به لأنّه كتبه على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يدلّ على أن المصحف الجديد كان مغايراً لمصحفه، نعم ربما كان ابن مسعود قد خالف في الترتيب أو دوّن بعض التفسير والتأويل فيه، فكان رفضه لذلك أيضاً، وهو ليس من التحريف كما هو واضح.

السادس: الروايات التي تصرّح بوقوع التحريف في القرآن.

والجواب: أن هذه الروايات أكثرها مروي عن السياري (الغالي) وغيره من الضعفاء، بالإضافة إلى أن المقصود فيها غالباً هو التحريف المعنوي لا اللفظي، وقد روي عن الإمام الباقر عليه السلام بأنهم "أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده" وهي صريحة في التحريف المعنوي.

السابع: وجود ألف رواية أغلبها شيعي تتضمّن اختلاف القراءة عمّا هو في المصحف الحاضر، وهذه الروايات الألف فيها ما يلي:
1- إن أكثر من 230 رواية منها ترجع إلى السياري الغالي الملعون على لسان الإمام الصادق عليه السلام، ولا يقبله أحد من علماء الرجال عندنا.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

67

الدرس الثامن: مناقشة أدلّة تحريف القرآن

 2- أكثر من 600 رواية مكرّرة، ذكرها لتعدّد الطرق أو تعدّد المصدر.


3- وبعد إسقاط روايات السياري والمكرّرة فلا يبقى إلا حدود 80 رواية هي عبارة عن روايات اختلاف القراءات أكثرها أخذت من مجمع البيان. والطبرسي في المجمع يروي عن بعض رواة أهل السنّة مثل الكسائي وابن مسعود والجحدري والسلمي والضحّاك وقتادة وابن عمر وابن حجّار ومجاهد وعكرمة وعائشة وابن الزبير وحمزة وابن يعمر الشعبي وغيرهم.

مع أنَّ الكثير من هذه الروايات ناظر إلى التفسير وشأن نزول الآيات، وقد اختلط التفسير بمتن الآيات فيها بسبب عدم استعمال العلامات المميِّزة للمتن عن التفسير كما هو المتعارف اليوم. 

أقوال كبار علماء الشيعة 
صرَّح علماء الشيعة عبر القرون بسلامة القرآن من التحريف، ومع ذلك فإنّ البعض ممن ينسب إلى الشيعة تهمة القول بالتحريف يهمل هذه التصريحات عمداً ويتمسّك بما ذكره بعض المحدِّثين لأغراض خبيثة، أو يحمل تلك التصريحات على التقية لإتمام بهتانه. وهذه نماذج ممن صرّح بسلامة القرآن من الشيعة:
1- الشيخ الطوسي (ت 164هـ) في التبيان ج1 ص3.
2- الشيخ الصدوق (ت 183هـ) في كتاب الاعتقادات ص92 و93.
3- الشيخ المفيد (ت 314هـ) في كتابه أوائل المقالات ص55 و 56.
4- السيد المرتضى (ت 634هـ) في جواب المسائل الطرابلسيات حكاه عنه الطبرسي في مجمع البيان ج1 ص51.
5- الشيخ الطبرسي (ت 845هـ) في مجمع البيان ج1 ص51.
6- الشيخ الحر العاملي (ت 1104هـ) له رسالة في إثبات عدم التحريف نقل منها رحمة الله الهندي في إظهار الحق ص 129.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

68

الدرس الثامن: مناقشة أدلّة تحريف القرآن

 وفي القرن العشرين:

1- السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة ج1 ص64.
2- السيد عبد الحسين شرف الدّين في أجوبة مسائل جار الله والفصول المهمة ص165 و 166.
3- السيد البروجردي نقله عنه الشيخ لطف الله الصافي في كتاب مع الخطيب في خطوطه العريضة ص49.
4- السيد محسن الحكيم نقل نص عبارته السيد مرتضى الرضوي في كتابه البرهان على عدم تحريف القرآن ص252.
5- السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسير الميزان ج 12 من ص104 إلى 107، وكتاب القرآن في الإسلام ص71.
6- الإمام السيد روح الله الخميني في كتابه تهذيب الأصول ج 2 ص561.
7- السيد أبو القاسم الخوئي في كتابه البيان في تفسير القرآن ص952. وغيرهم كثير.
 
بل هناك ما يشير إلى أن روايات التحريف لم تكن معروفة عند الشيعة في القرن الثالث الهجري، فهذا الفضل بن شاذان (المتوفي سنة 62 هـ) والذي كان من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام، يطعن في كتابه الإيضاح على أهل السنّة روايتهم لروايات التحريف، وهذا يكشف عن أن ذلك لم يكن معروفاً حتى عند المحدِّثين من الشيعة ذلك الوقت وإلا لما صحّ أن يطعن عليهم بذلك.
 
ونختم بما ورد في رسالة الإمام الهادي عليه السلام في الردّ على أهل الجبر والتفويض أنه قال: ".. وقد اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم أنّ القرآن حق لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق، وفي حال اجتماعهم مقرّون بتصديق الكتاب وتحقيقه، مصيبون، مهتدون..."1.



1 ابن شعبة الحراثي، تحف العقول عن آل الرسول، ص458، مؤسسة النشر الإسلامي.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

69

الدرس الثامن: مناقشة أدلّة تحريف القرآن

 أسئلة الدرس


أجب عن الأسئلة الآتية: 
1- يزعم البعض وقوع التحريف في القرآن كما وقع في التوراة والإنجيل وذلك بمقتضى ما ورد من أن ما وقع في الأمم السابقة يقع في هذه الأمة أيضاً، كيف تردّ على هذا الكلام؟

2- اشتبه المحدّث النوري في موضوع تحريف القرآن، فما هو منشأ الشبهة التي وردت على ذهنه؟

3- ما هو رأي علماء الشِّيعة عبر القرون في موضوع تحريف القرآن؟

4- اذكر دليلين من أدلّة التحريف؟

5- هل كان القول بالتحريف من المسائل المشهورة عند علماء الشيعة؟ اذكر عدداً من العلماء القائلين بعدم التحريف؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

70

الدرس الثامن: مناقشة أدلّة تحريف القرآن

 كيف تردّ على أدلة التحريف التالية:

- الدليل الأول: اختلاف القراءات في مصاحف الصحابة على ما نقله المفسّرون من أهل السنّة، وهو أحد أنواع التحريف، فالقرآن نزل على حرف واحد.
- الدليل الثاني: ما ورد من أن أبيّ بن كعب كان أقرأ الأمة، وما ورد في أن آيات مصحفه أكثر مما هو موجود الآن، ويستنتج من ذلك طروء النقص على القرآن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

71

الدرس الثامن: مناقشة أدلّة تحريف القرآن

 املأ الفراغ بالكلمة المناسبة:

الزيادة والنقيصة - تحريف - بأوصاف خاصة - كالإعجاز - ذكر محفوظ
قد تبين مما فصّلناه أن القرآن الذي أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ووصفه بأنه .............................................. على ما أنزل مصون بصيانة إلهية عن .............................................. والتغيير كما وعد الله نبيه فيه.

وخلاصة الحجة أن القرآن أنزله الله على نبيه ووصفه في آيات كثيرة .............................................. لو كان تغيُّر في شيء من هذه الأوصاف بزيادة أو نقيصة أو تغيير في لفظ أو ترتيب مؤثّر فقد آثار تلك الصفة قطعاً لكنا نجد القرآن الذي بأيدينا واجداً لآثار تلك الصفات المعدودة على أتمّ ما يمكن وأحسن ما يكون فلم يقع فيه .............................................. يسلبه شيئاً من صفاته فالذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعينه فلو فرض سقوط شيء منه أو تغير في إعرابٍ أو حرفٍ أو ترتيبٍ وجب أن يكون في أمر لا يؤثّر في شيء من أوصافه..............................................وارتفاع الاختلاف والهداية والنورية والذكرية والهيمنة على سائر الكتب السماوية إلى غير ذلك وذلك كآية مكرّرة ساقطة أو اختلاف في نقطة أو إعراب ونحوها".

السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره، 
تفسير الميزان، ج12، ص107
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

72

الدرس التاسع: أسباب النُّزول

 الدرس التاسع: أسباب النُّزول



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يَتعرَّف إلى الخلاف القائم في أسباب نزول الآيات. 
2- يُدرك مدى أهمية أو عدم أهمية معرفة أسباب نزول الآيات.
3- يَذكر بعض أسباب الاستغناء عن روايات أسباب النزول.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

73

الدرس التاسع: أسباب النُّزول

 تمهيد

نزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الفترة الممتدّة من البعثة الشريفة إلى وفاته، وكانت الآيات التي تنزل في المناسبات والأحوال المختلفة تتعرّض لمختلف الأغراض الرِّسالية، فتارة تنزل الآيات أو السور لتبيّن حكماً وتُحدّد موقفاً يتطلّبه الواقع المعاش، وأخرى تُجيب على سؤال يرفع إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وثالثة تعالج مشكلة حاصلة، وهكذا...، وقد ينزل من القرآن ابتداءً ما يبيّن الأحكام والمعارف الإسلامية، ويقصّ القصص ويضرب الأمثلة الأمر الذي يدخل في الأغراض العامة للرسالة.

وبما أنّ القرآن من عند الله سبحانه إلى الناس قاطبة، والناس في تخاطبهم وتحاورهم يعتمدون على اللغة لإيصال ما يريدونه من معنى، وفي نفس الوقت اللغة تعتمد في مقام التفاهم والتحاور على قرائن يبني عليها كل من المتكلّم والمخاطب في فهم المراد، كان من الضروري التحدُّث عن نوعين من القرائن ولاسيما في اللغة العربية.

القرائن الحاليّة
ومن المعروف عند أهل العربية أنّ المتكلِّم قد يعتمد في مقام التكلّم والتخاطب على قرائن توضح مراده، وتشكّل جزءاً مهمّاً من أدوات الخطاب، هذه القرائن ولا يمكن إهمالها في مجال تفسير الكلام. وهي على نوعين:
1- قرائن مقاليّة: من نفس اللفظ، فيذكر المتكلّم في كلامه قرينة لفظية توصل إلى المعنى الذي يريده، فيقول على سبيل المثال: رأيت أسداً يرمي، فكلمة يرمي: قرينة لفظية مذكورة في نفس الكلام تدلّ على أنّ مراده ليس الحيوان المفترس، وإنّما الرجل المحارب وأنّه كالأسد في شجاعته وقوته مثلاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

74

الدرس التاسع: أسباب النُّزول

 2- قرائن حالية: كالإشارات والحركات وحال المخاطب والواقع الحاصل والظرف المحيط بالمتكلّم أو المخاطب.

 
فإنّ المتكلّم عندما يورد جملة استفهامية مصدّرة بهمزة الاستفهام مثلاً، قد يكون غرضه الاستفهام الحقيقي، وقد يكون غرضه التقرير، وقد يكون غرضه غير ذلك من الإنكار والتعجّب وأمثالها. ولا يمكن التمييز بين الأغراض المختلفة هذه إلا من خلال القرائن الحالية غالباً والمقالية أحياناً. مثال ذلك قول تعالى: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا﴾1.
 
والمناسبات التي كانت تنزل فيها الآيات تُشكّل قرائن حالية تحيط بالنص وتلقي ضوءاً على المراد منه، وهو أمر يجعل لأسباب النزول أهميّة خاصة في فهم الآيات. حيث إن معرفة الزمان والمكان وسائر الظروف المحيطة بالنص لها أثر في إماطة اللثام عن مكنونات المراد. وهذا أمر لا يقتصر في نطاق فهم القرآن الكريم وإنّما هي قاعدة تجري في كل تخاطب، كالحديث النبوي وكلام المعصومين عليهم السلام أيضاً، ومن هنا كان بالإمكان أن يقال إنّ دراسة السيرة النبوية وخصوصيات المجتمع المكي والمدني وتفاصيل الأحداث التي عاصرت النص لها مدخلية كبيرة في فهم النص. ولا نعني بذلك أن نكتفي بقراءة التاريخ أو السيرة ونفسّر القرآن على ضوء ذلك، فإن دراسة السيرة يعني التدقيق فيها والوصول إلى الحقائق التاريخية وما هو الصحيح من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم.
 
ولعل أسباب النزول هي حلقات ومحطات من تلك السيرة والوقائع التاريخية، لا بد من معرفتها بدقة بعيداً عن الخلفيات المسبقة.
 
الدّس في أسباب النزول
لقد تعرّضت مناسبات النزول كما تعرّض التاريخ ككل للدسّ والتشويه، وذلك لأغراض عديدة، منها ما كان لأغراض سياسية تهدف إلى تزييف الواقع لصالح الحكّام، ولا شكّ أنّ نزول آية في شخص معيّن يعني الشيء الكثير في هذا المجال.
 
ومن تلك الأغراض ما يرتبط بتحريف معاني القرآن لتتناسب مع الأهواء والمذاهب. وهذا يجعل من دراسة أسباب النزول مهمّة شاقّة، تحتاج إلى تحقيق وتدقيق في سند



1 سورة النازعات، الآية 27.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

75

الدرس التاسع: أسباب النُّزول

 الروايات، الناقلة لأسباب النزول، ولا بدّ من تطابق ما ورد في أسباب النزول مع العقيدة الثابتة، ومع سلسلة الحوادث والسير التاريخي حتّى تبدو منسجمة تماماً مع بقية المقاطع.


إسقاطها عن الاعتبار
ونحن في مقام هذا الدسّ الكبير في الروايات، ولا سيما روايات أسباب النزول، نحتاج إلى تطبيق قواعد نقد النصوص الروائية.

فأحياناً يُدّعى نزول آية في شخص، وبعد التدقيق يتبيّن أنّ نزول الآية حصل في زمان تأخّر عن ذلك الشخص.

وقد يروي سبب النزول من لم يكن موجوداً حين نزول الآيات، كما يحصل مثلاً فيما يروى عن ابن عمر أو ابن عباس في مناسبات النزول في السور المكية الأولى، ليس على نحو الرواية عن الغير والحكاية عنهم، بل على نحو الحضور والمشاركة في الحديث.

كما أنّ سياق الكثير مما روي في أسباب النزول يظهر منه أنّ الراوي لا ينقل المناسبة رواية ومشافهة، وإنّما ينقل قصّة تاريخية ثمّ يطبق الآيات عليها ويربطها بها ربطاً، وهذا إن كان يعدّ حكاية لأسباب النزول فهو مجرّد اجتهاد من الراوي.

وعدد كبير من أسباب النزول التي تروى متناقضة فيما بينها، وأحياناً قد تروى عن راوٍ واحد أسباب نزول في آية واحدة متناقضة أو لا يمكن الجمع بينها.

ولقد ساهمت قضية المنع من كتابة الحديث في عصر الخليفة الأول في خلط الأوراق وتضييع الحقائق، وفتحت الباب واسعاً أمام النقل بالمعنى الذي قد يفقد الحديث الكثير من الدقة والخصوصيات، ومهّدت الطريق لمن يريد الدسّ والوضع والكذب، - وخاصّة أولئك المتربّصون بالإسلام الدوائر من أهل الكتاب -، ولقد نال أسباب النزول قسطاً وافراً من تلك المدسوسات والموضوعات والإسرائيليات.

هذه الأمور دعت الكثير من محقّقينا إلى التقليل من أهمّيّة أسباب النزول بل إسقاطها عن الاعتبار.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

76

الدرس التاسع: أسباب النُّزول

 المنهج اللازم إتباعه في تقييم أسباب النزول

ممّا تقدّم يتبيّن أنّه لا بدّ من اتباع المنهج التالي قبل الأخذ بأيّ نصّ متضمّن لسبب نزول آية قرآنية:
أولاً: التأكّد من عدم معارضة ما ورد في سبب النزول مع العقيدة الثابتة والصحيحة.
 
ثانياً: إنّ أسباب النزول هي روايات تحكي لنا شأن النزول الذي يساعد على فهم القرآن وتحديد المراد من آياته. وعليه فلا بدّ من عرض الأخبار المتضمّنة لأسباب النزول أيضاً على القرآن قبل كلّ شي‏ء، وإسقاط ما كان منها مخالفاً للقرآن. والمخالفة هنا لا بدّ أن تكون لما هو بيّن واضح ومعروف الدلالة. فلا يرد إشكال الدور الذي قد يدّعى.
 
ثالثاً: يجري التحقيق في أسانيدها لإثبات صحّتها وعدم نقلها عن الوضّاعين والضعفاء، وإلا فيجري فيها أحكام التعارض.
 
رابعاً: إنّ القرآن الكريم هو الأصل الذي ينبغي عرض الأحاديث عليه لتمييز الموافق من المخالف، وعلى أساسه نقبل الحديث أو نرفضه.
 
خامساً: التأكّد من صحّة المضمون تاريخياً وإمكانه، وذلك بتوافقه مع المسار التاريخي للأحداث، ومع زمان نزول الآية.
 
سادساً: التأكّد من عدم معارضة رواية سبب النزول مع غيرها من الروايات.
 
فما يسلم عندنا من روايات أسباب النزول نستفيد منه في تفسير الآيات، ولكن لاحظَ العلماءُ أنّه بعد إجراء هذه الموازين لم يسلم عندنا منها إلا القليل، ولأجل هذا لم يعلّق عليها السيّد الطباطبائي رضوان الله عليه الكثير من الأهمية، واعتبر أنّ المعارف القرآنية العالمية الدائمة لا تحتاج أبداً إلى أسباب النزول1.



1 العلامة الطباطبائي، القرآن في الإسلام، ص153 و154.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

77

الدرس التاسع: أسباب النُّزول

 الاستغناء عن أسباب النزول

وفي الحقيقة إنّ الثروة التفسيرية التي وصلتنا عن أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام أعانت كثيراً المفسّرَ الشيعيَّ، في حين أنّ المفسّرَ المخالف حُرِم منها، فلم يعد أمامه بدّ من التشبُّث بأسباب النزول، ونحن لا ننكر العلاقة الوثيقة بين التفسير وأسباب النزول، إلاّ أنّ ما يروى فيه من نصوص اعتمدها المفسّرون الكثير منها ساقط، إمّا سنداً أو لمخالفته للقرآن والعقائد الثابتة. وقد تعرّضت أحاديث أسباب النزول للكثير من التشويه والخلط لأهداف وأسباب عديدة.
 
المورد لا يخصِّصُ الواردَ
ومهما يكن فإنّ أسباب النزول ليست في حقيقتها وواقعها سوى مناسبات استدعت نزول الآية في وقتٍ ما وظرفٍ خاصّ، وفي الغالب فإنّ الآيات النازلة في مناسبات خاصّة كانت تؤسّس لقاعدة عامّة أو لحكم كلّي أو يبيّن حقيقة علمية، وهذا يعني أنّ النازل من القرآن في تلك المناسبات لا يختصّ بذلك المورد أو تلك المناسبة، وعليه فإنّ شأن النزول لا يلعب دوراً في تخصيص ما نزل عامّاً، وتقييد ما نزل مطلقاً.
 
فالقرآن الكريم وإن نزل في زمان محدّد لكنّ الخطاب القرآني لا يختصّ بجيل النزول، وهو يخاطب البشرية عامّة والأجيال كلّها.
 
فآية الظهار مثلاً نزلت بمناسبة مظاهرة أوس بن الصامت لزوجته خولة بنت ثعلبة كما في رواية، أو في غيرهما كما في رواية أخرى، إلاّ أنّ حكم الظهار الذي تضمّنته الآية لا يختصّ بهما، ولكنّه يجري في كلّ حالة مشابهة إلى يوم القيامة.
ومثلها كلٌّ من آية السرقة وآية الزنا وآية القذف والحجاب واللعان....
 
وفي رواية عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "إنّ القرآن حيّ لا يموت، وإنّ الآية حيّة لا تموت فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام ماتوا ماتت الآية لمات القرآن ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين"1.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج35، ص404.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

78

الدرس التاسع: أسباب النُّزول

 وروي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "إنّ القرآن حيّ لم يمت وإنّه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا"1.

 
وقد اشتهر بين الفقهاء قولهم إنّ المورد لا يخصّص الوارد، وهم يريدون بذلك المعنى المتقدّم ذكره.
 
التطبيق والجري
كثيراً ما يوردون الآيات القرآنية بعد ذكر الحوادث التاريخية لانطباقها عليها، دون دعوى نزولها في شأنها. فيأتي من لا دقّة له في النقل فيتخيّل نزولها في تلك الواقعة فينقل ذلك.
 
وأحياناً يرد التطبيق على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلمنفسه أو على لسان بعض الأئمة عليهم السلام، وهذا ينسجم تماماً مع ما قدّمنا من كون الآية تبقى على عمومها وإن نزلت في مناسبة خاصّة، وهي تقبل الانطباق على كلّ مورد يتناوله عمومها وإن حصلا في زمان متأخّر عن زمان نزول الآية.
 
بل ربّما ورد تفسير آية لفظ عامّ بمصداق معيّن أو واقع خارجي خاصّ، وهو أيضاً كثير، ومع ذلك فهو لا يعني مطلقاً تخصيص الآية وإلغاء عمومها، وإنما هو من باب التطبيق والجري. وإلى هذا الأمر يشير باستمرار العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان، وهو من التفسير بذكر المصداق الخارجي أو الإشارة إلى أحد الموارد وأنّها مقصودة في الآية، لا أنها تمام المقصود.
 
النتيجة: نظراً لفقدان أكثر ما يروى في أسباب النزول للسند المعتبر أو غيره من شروط القبول فلا يمكن الاعتماد عليها، وبذلك تقلّ أهمية دراسة أسباب النزول.
 
ومع ذلك فهي لا تخصّص العامّ ولا تقيّد المطلق، فتسميتها بمناسبات النزول أو شأن النزول أولى من تسميتها بالأسباب.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج35، ص404.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

79

الدرس التاسع: أسباب النُّزول

 وقد بالغ أهل السنّة بالاهتمام بأسباب النزول وأعطوها دوراً كبيراً في التفسير رغم اضطراب أسانيدها. بينما أثرى التراث التفسيري عند الشيعة ما ورد في المأثور عن أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام.

 
نماذج مدسوسة في أسباب النزول
1- قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾1.
 
روى البخاري أنّها نزلت في أبي طالب عندما حضرته الوفاة2.
 
وهو غير صحيح لكون السورة مدنيّة إجماعاً. 
 
وهو مبني على مذهبهم من وفاة أبي طالب رضي الله عنه على الكفر وقد ثبت عندنا أنّه مات على الإيمان.
 
وقد روي عندهم رواية أخرى في أنها نزلت في استغفار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لوالدته3.
 
2- قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾4.
 
رووا في الصحيحين5 أنّها نزلت لما سأله اليهودي عن الروح، ويفترض أن يكون السؤال في المدينة لأنّه هناك جاور اليهود وجرى له معهم الكثير من المناظرات، بينما السورة مكية بالإجماع، فالسؤال إذن ينبغي أن يكون من قبل المشركين في مكة، ولا مانع أن يكون بتوجيه من اليهود.
 
3- قوله تعالى: ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى﴾6.



1 سورة التوبة، الآية 113.
2 الواحدي، أسباب النزول، ص182. والبخاري كتاب الجنائز باب 81، ومناقب الأنصار باب40.
3 الواحدي، أسباب النزول، 183.
4 سورة الإسراء، الآية 85.
5 صحيح البخاري، كتاب الاعتصام باب 3و8 وكتاب العلم باب 47.
6 سورة النساء، الآية 43.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

 


80

الدرس التاسع: أسباب النُّزول

 رووا في سبب نزولها1 أنّ جماعة من كبار الصحابة كانوا قد دعاهم رجل إلى طعام فأكلوا وشربوا فلما ثملوا وجاء وقت الصلاة قدّموا أحدهم ليصلّي بهم فقرأ: "أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد" فنزلت الآية. وقد ذكر بعضهم أنّ صاحب الدعوة هو عبد الرحمن بن عوف، وإنّ من بينهم علي عليه السلام، وأن الذي تقدّم للصلاة هو علي أو عبد الرحمن، وهو لا يصحّ حتى مع القول بأن القصة قبل تحريم الخمر، لأن علياً عليه السلام لم يعاقرها أبداً، ولأن مقتضى العصمة عدم إمكانية ذلك وعدم إمكانية خطأ القراءة عليه خاصة في مثل هذه المواضع التي لا يمكن أن تبرّر بعدم تحريم الخمر، بالإضافة إلى أن النهي عن الخمر جاء في سورة الأعراف وهي مكية. فالقصة من وضع الكذّابين زمن الأمويين لإرضاء أمرائهم الحاقدين على الإمام علي عليه السلام وقد فسّر في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام بأنه سكر النوم2.




1 راجع: الزمخشري، تفسير الكشاف، ج1، ص513.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص371.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

81

الدرس التاسع: أسباب النُّزول

 أسئلة الدرس


أجب عن الأسئلة الآتية:
1- لماذا كانت لأسباب النزول أهمية خاصة في فهم الآيات؟
2- ما هي الأسباب التي جعلت المحقّقين يقلّلون من أهمية أسباب النزول ويسقطونها عن الاعتبار؟
3- لماذا لا تعتبر مشكلة عدم التثبُّت من أسباب النزول سدّاً منيعاً بوجه المفسّر الشيعي، بينما هي كذلك بالنسبة للمفسّر السنّي؟
4- هل يختصّ القرآن بالمناسبة التي نزل فيها بحيث يكون الخطاب القرآني في زمان محدّد مختصّاً بذلك الجيل المعاصر؟
5- أعطِ نموذجاً من النماذج المدسوسة في أسباب النزول؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

82

الدرس التاسع: أسباب النُّزول

 أجب بـ  أو :

1- القرينة المقاليّة تكون من نفس المعنى، فيذكر المتكلِّم في كلامه قرينةً معنويةً توصلُ إلى المعنى الذي يريده. 
2- القرائن الحالية تكون مثل الإشارات والحركات وحال المخاطب والواقع الحاصل والظرف المحيط بالمتكلّم أو المخاطب. 
3- نعرف أن التاريخ تعرّض ككل للدسّ والتشويه، إلا أن مناسبات النزول وأسبابه لم يمسّها التشويه والدس. 
4- التطبيق والجري هو اصطلاح يعني أنّ النازل من القرآن في تلك المناسبات لا يختصّ بذلك المورد أو تلك المناسبة. 
5- إن اصطلاح (المورد لا يخصص الوارد) يعني أن الآية تقبل الانطباق على كلّ مورد يتناوله عمومها وإن حصلا في زمان متأخّر عن زمان نزول الآية. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

83

الدرس التاسع: أسباب النُّزول

 املأ الفراغ بالكلمة المناسبة

إخفائها - أسباب النزول - البيئات الحاكمة - الروايات - الحوادث التاريخية
ليتبصّر الباحث المتأمّل أن ما ذكروه من أسباب النزول كلها أو جلها نظرية بمعنى أنهم يروون غالباً .............................................. ثم يشفعونها بما يقبل الانطباق عليها من الآيات الكريمة فيعدونها .............................................. وربما أدّى ذلك إلى تجزئة آية واحدة أو آيات ذات سياق واحد ثم نسبة كل جزء إلى تنزيل واحد مستقل وإن أوجب ذلك اختلال نظم الآيات وبطلان سياقها وهذا أحد أسباب الوهن في نوع .............................................. الواردة في أسباب النزول. وأضف إلى ذلك ما ذكرناه في أول هذا البحث أنَّ لاختلاف المذاهب تأثيراً في لحن هذه الرِّوايات وسوقها إلى ما يوجه به المذاهب الخاصة. 

على أن للأجواء السياسية و .............................................. في كل زمان أثراً قوياً في الحقائق من حيث .............................................. أو إبهامها فيجب على الباحث المتأمل أن لا يهمل أمر هذه الأسباب الدخيلة في فهم الحقائق والله الهادي".

السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره،
 تفسير الميزان، ج5، ص370.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

 


84

الدرس العاشر: النسخ في القرآن

 الدرس العاشر: النسخ في القرآن



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرَّف إلى مصطلح النسخ في علوم القرآن.
2- يفهم الحكمة من النسخ. 
3- يشرح رأي الإمامية في نسخ التلاوة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

85

الدرس العاشر: النسخ في القرآن

 تمهيد

يعتبر بحث النسخ في القرآن الكريم من أهم أبحاث علوم القرآن قديماً وحديثاً، وهو مورد نقاش وأخذ ورد بين العلماء، وقد انتقل هذا البحث من هذا العلم ودخل في الأبحاث الأصولية عند السنة والشيعة، لكن تختلف الجهة التي يتعرّض لها هناك، من هنا كان من الضروري أن نتناول هذا البحث بكل جوانبه وتفاصيله، وبيان النسخ بالمعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي أيضاً، ومن ثم التركيز على محل النزاع فيه، وبعد ذلك نذكر الفائدة العملية لهذا البحث، وما يترتّب عليه من آثار ونتائج، إن شاء الله تعالى. 

تعريف النَّسخ
1- المعنى اللغوي: استعمل النسخ في اللّغة بمعنى الإزالة، فقالوا: نسخت الشمس الظلّ، أي أزالته.

2- المعنى الاصطلاحي: يطلق النسخ في الشريعة على رفع الحكم الشرعي الذي كان ثابتاً في الشريعة بحيث إنّه لولا النسخ لاستمرّ بمقتضى دليله. فهو إذاً رفع تشريع سابق بتشريع لاحق.

إنَّ الأحكام الشرعية بعضها قد يشرّع بصورة مؤقّتة، أي له أمدٌ ينتهي الحكم بانتهائه، وبعضها الآخر قد يشرّع دون أن يكون له أمدٌ وإنّما هو حكمٌ مستمرٌّ وباقٍ.

والقسم الأوّل تارة يبيّن أنّه مؤقَّت في لسان دليله بحيث يُعلم أنّ هذا الحكم مؤقّت منذ البداية.

وأخرى لا يبيّن لنا في لسان دليله أنّه مؤقّت بحيث يكون ظاهر الدليل ولو من خلال إطلاقه أنّه حكمٌ ثابتٌ ومستمرٌّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
110

86

الدرس العاشر: النسخ في القرآن

 هذا النَّوع الأخير من الأحكام هو موضوع بحثنا، فإنّه عند انتهاء أمد الحكم يرد من قبل الشريعة بيان جديد لحكم جديد يلغي الأوّل وينسخه، فيسمّى الأوّل حكماً منسوخاً والجديد ناسخاً.

 
كما أنّ دليل الحكم الجديد ناسخ لدليل القديم، لأنّه مزيل له أو لتأثيره ومضمونه.
 
يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾1.
 
ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾2، ومن المعلوم أنّ هاتين الآيتين تثبتان إمكانية النسخ.
 
وعليه: فإنّ ارتفاع الحكم أو التشريع المؤقّت صراحة في لسان الدليل عند انتهاء أمده لا يطلق عليه اسم النسخ. كما أنّ ارتفاع الحكم الأوّلي عند مصادفة الحرج والاضطرار الذي هو موضوع لحكم ثانوي لا يطلق عليه اسم النسخ أيضاً، كما في ارتفاع حرمة أكل الميتة عند اضطرار الإنسان له، أو الصلاة من جلوس أو بالإيماء عند عدم القدرة على الصلاة الاختيارية، وأمثال ذلك.
 
حكمة النسخ
في القوانين البشرية الوضعية كثيراً ما تصدر المراسيم والمقرّرات فتغيّر الدستور السابق الثابت أو القانون، وعادة يكون الداعي إلى ذلك أحد أمور:
1- اكتشاف عدم صلاحية القانون أو الدستور السابق ووجود ثغرات فيه تحتاج إلى علاج جديد.
 
وفيه: إنّ هذا لا يتصوّر مطلقاً في النسخ الشرعي، لأنّه تعالى منزّه عن الجهل وعن العبث، بل هو لا يضع شرعة ولا حكماً إلا حسب مقتضى المصالح التي هو أعلم بها، ولا تخفى عليه خافية.
 
2- تتغيّر وجوه المصلحة والمفسدة نتيجة تجدّد بعض الظروف أو الأوضاع التي تجعل القانون السابق لا يلائم المستجدّات، مما يلزم تغيير القانون بما يتناسب مع الوضع الحالي، ومع ذلك فإن واضعي القانون السابق لم يكن في علمهم أن المستجدّات ستحصل لتعالج منذ البداية في القانون السابق.



1 سورة البقرة، الآية 106.
2 سورة النحل، الآية 101.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

87

الدرس العاشر: النسخ في القرآن

 وفيه: إنّ الله تعالى عالم بالأشياء قبل حدوثها، فهو حسب الفرض عالم بالمتغيّرات والمستجدّات، فكان المفروض أن تؤخذ بنظر الاعتبار عند التشريع منذ البدء.

 
هذان الأمران دفعا بعض المشكّكين إلى إنكار إمكانية النسخ.
 
أين مصلحة الحكم؟
ولكنّ الإشكال يرتفع إذا أدركنا أين تكمن المصلحة المقصودة في مِلاك الحكم:
1- أحياناً لا تكون قائمة في نفس الفعل، بمعنى أنّ الغاية والحكمة من الأمر والنهي قد تكون لمجرّد الامتحان والاختبار، وهذا النوع من الأحكام لا مانع من وضعه ورفعه في أي وقت يترتّب على الأمر مصلحة الامتحان والاختبار، بل أحياناً تكون مصلحة الامتحان أقوى من المفسدة المترتّبة على الفعل، أو أقوى من مصلحة فعل آخر يزاحمه فيترك لصالح هذا الحكم.
 
2- وأحياناً تكون المصلحة في نفس الفعل والمفسدة كذلك، إلاّ أنه يمكن أن تتغيّر بحسب اختلاف الأزمان، فيكون هناك زمان ذا مصلحة تنتفي في زمان آخر، وإذا كان التغير مجهولاً عند البشر فهو معلوم عند الله تعالى بلا شك، ومع ذلك لا يلزم أن يكون التشريع منذ البداية مراعياً للتغيّرات، إذا كان في قصد المشرّع أن ينسخ الحكم عند تبدُّل المصلحة وتغيّر الأحوال.
 
وهناك أمور أخرى قد تكون أحياناً لها مدخلية بتحقُّق المصلحة والمفسدة، كالتدرُّج في التشريع الذي له مصلحة خاصة تكون أحياناً أهم من المفسدة الحاصلة بترك الواقع.
 
ومثال الأول: القبلة
يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾1.



1 سورة البقرة، الآية 143.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

88

الدرس العاشر: النسخ في القرآن

 ومنه يظهر أن القبلة الأولى لم تكن إلا للامتحان.

 
ومثلها أيضاً آية النجوى. يقول تعالى: ﴿إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾1.
 
فقد ورد أنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول الآية فرض على كل مسلم صدقة درهم واحد عند كل مسألة فرضاً على الأغنياء دون الفقراء، وقال المفسّرون لم يعمل بهذه الآية إلا الإمام عليّ عليه السلام رغم أنه كان من الفقراء.
 
ثم نسخت الآية بعد تحقُّق الاختبار المطلوب بالآية اللاحقة.
 
ومثال الثاني: عدد المقاتلين
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾2.
 
ثمّ قال: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ﴾3.
 
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "فنسخ الرجلان العشرة"4.
 
ومثال الأحكام المؤقّتة منذ البداية قوله تعالى: ﴿وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً﴾5.
 
فقد جعل الله لهن السبيل في آية الجلد وفي حكم الرجم وهذا مبني على أن المراد من الفاحشة الزنا، وإلا فلو كان المراد الأعم منه ومما يقبح ويفحش فالحكم الأول باقٍ والثاني مجرّد تخصيص له.



1 سورة المجادلة، الآية 12.
2 سورة الأنفال، الآية 65.
3 سورة الأنفال، الآية 66.
4 الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص69.
5 سورة النساء، الآية 15.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

89

الدرس العاشر: النسخ في القرآن

 وأمثلة الأحكام التي فرضت لأغراض تأديبية وفي سياق المعاقبة كثيرة منها:

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾1.
 
﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا﴾2.
 
إلى هنا تبيّن معنا إمكانية النسخ وعدم منافاته لحكمة المشرّع وعلمه المطلق. وتبيّن معنا أيضاً أنه قد تقتضي الحكمة إخفاء التوقيت وإطلاق لسان الدليل، لينسخ الحكم عندما يتحقّق المقتضي لذلك.
 
وقوع النسخ في القرآن
هناك آيات كثيرة جداً ادّعي أنها منسوخة بآيات أخرى، لكن التدقيق فيها يكشف عن عدم دخولها تحت النسخ الاصطلاحي، إما باعتبار اختلاف الموضوع أو باعتبار الانسجام التام بينها وعدم التنافي، أو لكونها تدخل في باب التخصيص، أو لأن الحكم الأول مقيّد بالزمان والأمد المحدود من البداية، أو لغير ذلك من الاعتبارات التي تخرجها من باب النسخ.
 
وقد أورد السيد أبو القاسم الخوئي 36 آية من الآيات التي ادّعي أنها منسوخة وبعد البحث والتدقيق فيها خرج أغلبها من باب النسخ لأحد الاعتبارات المتقدّمة11.
 
ومهما يكن فإنّ نسخ الآية لغيرها ينبغي أن يتوفّر فيه أمور:
1- وحدة الموضوع في الآيتين.
2- التنافي في الحكم ليكون أحدهما رافعاً للآخر.
3- عدم كون الآية المنسوخة مقيّدة بأمد خاص، أو مشروطة بظرف معيّن.
 
أما نسخ القرآن بالسنّة النبوية الشريفة فلو فرضنا إمكان ذلك، لوجب أن يكون الناسخ (السنة) متواتراً قطعياً. فالقرآن لا يُنسخ بخبر الواحد، كما اتفق العلماء. 
 
ولكن بما أنّ السنّة القطعية الناسخة للقرآن غير موجودة فينتفي هذا الفرض من أساسه.



1 سورة النحل، الآية 124.
2 سورة النساء، الآية 160.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

90

الدرس العاشر: النسخ في القرآن

 نسخ التلاوة

ما تحدّثنا عنه من النسخ كان يتناول نسخ الحكم الوارد في آية قرآنية مع بقاء الآية واتصافها بالقرآنية، وهو المقصود عادة من كلامهم.

لكن ادُّعيَ أن آيات من القرآن نسخت تلاوتها أي أزيلت من القرآن فهي لا تتلى وربما بقي حكمها وربما لم يبق. وهذه الدعوى التزم بها أهل السنّة نتيجة روايات عديدة رويت من طرقهم تتحدّث عن آيات من القرآن كانت تتلى ولكنهم لا يجدونها في القرآن وكان لا بد لهم أمام هذه الروايات من التزام أحد أمرين:
الأول: سقوط تلك الروايات عن الاعتبار وإهمالها والحكم عليها بالكذب.

الثاني: الالتزام بطروّ النقص على القرآن وذهاب جزء منه انسجاماً مع مدلول تلك النصوص.

وكلا الأمرين كان محرجاً لهم:
فالأول: يقتضي التنازل عن اعتبار روايات وردت في كتب حكموا عليها بالصحة ونالت درجة كبيرة من القدسية عندهم حتى عدّوا لقراءتها من الفضل والاستحباب والبركة ما يأتي بعد القرآن مباشرة.

والثاني: لا يمكن الالتزام به لأنّه يخالف الضرورة التاريخية وتواتر القرآن الكريم وإجماع المسلمين على سلامته من التحريف.

ولأجل التخلّص من هذا المأزق ابتكروا مقولة "نسخ التلاوة"، ومفادها أن هذه الآيات كانت قرآناً ولكن الله سبحانه وتعالى نسخها فخرجت بذلك عن صفة القرآنية مع بقاء حكمها.

والحقيقة أنّ هذه الدعوى لا دليل عليها أصلاً، ولم يوردوا ما يدلّ على ذلك إلاّ تلك الروايات التي مؤدّاها التحريف المرفوض.

ولأجل ذلك رفض أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام نسخ التلاوة رفضاً باتاً ورفضوا الروايات الدالة على سقوط شي‏ء من آيات القرآن وعدّوها من روايات التحريف المرفوضة كما تقدّم الإشارة إليه، هذا بقطع النظر عن رواتها وناقليها.

والعجيب عدم الالتفات إلى أن ما يدّعي أنه كان من القرآن ونسخت تلاوته يحمل معه دليل سقوطه وكذبه نظراً لعدم توفّر النظم القرآني والبلاغة القرآنية في شي‏ء منه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

91

الدرس العاشر: النسخ في القرآن

 أسئلة الدرس


أجب عن الأسئلة الآتية: 
1- ما هو المعنى المقصود من النسخ في القرآن؟
2- ألا يلزم من النسخ نسبة الجهل إلى الله تعالى؟ أوضح ذلك من خلال المثال؟
3- كيف تفرق بين النسخ والتخصيص؟
4- هل يوجد في القرآن ناسخاً ومنسوخاً، وهل يُنسخ القرآن بالسنّة النبوية الشريفة؟
5- كيف تردّ على دعوى أنّ في القرآن آيات نسخت تلاوتها؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

92

الدرس العاشر: النسخ في القرآن

 أجب بـ أو :

1- النسخ هو رفع تشريع لاحق بتشريع سابق. 
2- يسمّى الحكم الأوّل حكماً منسوخاً والجديد ناسخاً. 
3- نسخ التلاوة يعني أنّه إذا أزيلت آية من القرآن فهي لا تتلى وربما بقي حكمها وربما لم يبق. 
4- لقد رفض أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام نسخ التلاوة رفضاً باتاً. 
5- إن تغيير القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام لم يكن من النسخ بل هو حكم جديدٌ كلياً. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

93

الدرس العاشر: النسخ في القرآن

 املأ الفراغ بالكلمة المناسبة

بالناسخ - أحكامها - آيات سابقة - مصلحة زمنية محدودة - بالمنسوخ 
إنّ آيات الأحكام الواردة في القرآن آياتٌ احتلَّت .............................................. مكانَ أحكام كانت موضوعة في .............................................. ، فأنهت مفعولها ولم تعد تلك الأحكام معمولاً بها. وتسمّى الآيات السابقة .............................................. والآيات اللاحقة ...................................... والنسخ الذي يدور على ألسنتنا حقيقته هي: وضع قانون لمصلحة ما والعمل به ثم ظهور الخطأ في ذلك وإلغاؤه ووضع قانون جديد مكانه. لكن لا يمكن نسبة مثل هذا النسخ الدال على الجهل، والخطأ إلى الله تعالى المنزّه عن كل جهل وخطأ، ولا يوجد هكذا نسخ في الآيات الكريمة الخالية عن وجود أي اختلاف بينها. بل النسخ في القرآن معناه : انتهاء زمن اعتبار الحكم المنسوخ. ونعني بهذا أن للحكم الأول كانت .............................................. وأثر مؤقّت خاص تعلن الآية الناسخة انتهاء ذلك الزمن المحدود وزوال الأثر. ونظراً إلى أن الآيات نزلت في مناسبات طي ثلاث وعشرين سنة من السهولة بمكان تصوّر اشتمالها على هكذا أحكام".

السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره، 
القرآن في الإسلام، ص50.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

94

الدرس الحادي عشر: المحكم والمتشابه في القرآن

الدرس الحادي عشر: المحكم والمتشابه في القرآن


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرَّف إلى معنى المحكم والمتشابه.
2- يدرك الحكمة من وجود المتشابه في القرآن.
3- يتعرَّف إلى معنى التأويل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

95

الدرس الحادي عشر: المحكم والمتشابه في القرآن

 تمهيد

من أهمّ الأبحاث العلمية في علوم القرآن الكريم هو بحث المحكم والمتشابه، وهو بحث قديم يرجع للزمن الأوّل بعد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، في زمن التابعين من الأصحاب، حيث نجد في تعابير أمير المؤمنين عليه السلام العبارات الصريحة الدالة على هذا البحث، وهو من الأبحاث التي لا يستغني عنها فقيه من الفقهاء، لأنّه لا يستطيع أن يقدّم أي فتوى من الفتاوى دون الرجوع إلى القرآن الكريم، لأنّه المصدر الأول من مصادر التشريع الإسلامي، والرجوع إلى القرآن يحتاج إلى التمييز بين المحكم والمتشابه، وهذا البحث الذي بين أيدينا معقود لبيان المراد من المحكم والمتشابه، والمراد من التأويل، وكيفية التعاطي مع المتشابهات، ولماذا كان في القرآن الكريم بعض آيات متشابهات، ولم يكن كله من المحكمات؟ 
 
معنى المحكم
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾1.
 
الإحكام في اللغة: يعني الإتقان، ويوصف به الكلام إذا كانت دلالته على المراد واضحة، بحيث لا تحتمل وجوهاً أخرى من المعاني، ومن هنا كان المحكم هو الذي لا تعتريه شبهة من حيث الدلالة والمعنى، ولا يتعدّد فيه احتمال المعنى.



1 سورة آل عمران، الآية 7.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

96

الدرس الحادي عشر: المحكم والمتشابه في القرآن

وأما المتشابه: فهو مأخوذ من تشابه الوجوه أي تماثل بعضها مع بعض آخر، بحيث يحتمل وجوهاً متعدّدة من المعاني. ومن ثمّ كان المتشابه ما فيه شي‏ء من الخفاء، فكان ظاهره لا ينبئ بنفسه عن المراد، ما لم يرجع إلى المحكم من القرآن الكريم، أو القرائن والدلالات الواردة في الروايات الواردة عن أهل بيت النبوة عليهم السلام الكاشفة عن الدلالة الصحيحة أو المعنى المراد.

إذن فالمتشابه بحاجة إلى التأويل والإرشاد إلى الوجه المتعيّن من الوجوه المحتملة، وإذا أُرجعت المتشابهات إلى المحكمات ارتفعت جميع جوانب الإبهام والتشابه أو كثير منها.

والآية الشريفة السابقة الذكر تتحدّث عن مرضى القلوب وطلّاب التحريف المعنوي، الذين يريدون استخدام القرآن الكريم وسيلة للوصول إلى مآربهم الخبيثة، فيلجؤون إلى المتشابهات، وأما التمسّك بالمتشابهات بالطريقة الصحيحة وعلى أساس إرجاعها إلى المحكمات التي تفسّرها، أو الرجوع إلى الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويلها، فإنّ ذلك جائز لا ريب فيه.

حكمة المتشابه في القرآن
من المعلوم أن القرآن كتاب هداية للناس، وهو الكتاب السماوي الخاتم الذي لا كتاب بعده للناس، فينبغي أن يكون خالياً من التحريف والنقص وأيّ شيء يؤثّر سلباً على الهدف الذي من أجله نزل القرآن، والمتشابه قد يوقع الإنسان في الالتباس والشبهات، وذلك لعدم وضوح معنى المتشابه، ولتعدّد الاحتمالات فيه، فقد يسأل سائل أنّه ما الحكمة في وجود المتشابه في القرآن؟

الجواب: إنّ القرآن الكريم تصدّى لبيان أمور كثيرة غير محسوسة، ولا يمكن تصويرها ولا التعبير عنها بالطريقة المتعارفة، إلا إذا استعين بالمجازات والاستعارات والكنايات، وتقريب تلك المعاني بتشبيهها بالمحسوسات، وذلك لأمرين:
1- ضيق العبارات، وعجز الألفاظ.

2- عجز الأذهان البشرية الساذجة عن إدراك تلك المعاني إما لدقّتها أو لخفائها عن غير أهلها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

97

الدرس الحادي عشر: المحكم والمتشابه في القرآن

 وعلى سبيل المثال: كيف نعبّر لشخص لم يسافر خارج بلده ولم يرَ البلدان الأخرى عن بعض المناظر الموجودة في البلاد الأخرى؟ ألا نضطر للاستفادة من التشبيه والتمثيل له ببعض الأمور الموجودة في بلده؟ وإذا أردنا أن نصف للطبيب بعض الآلام التي نشعر بها، ألا نشبه له الألم بأمور محسوسة؟ والله سبحانه وتعالى عندما يريد أن يخبرنا مثلاً عن بعض ملذّات الجنة ألا يشبهها لنا بما تدركه عقولنا من تفاح ورمان و... ولكن تفاح لا كتفاح الدنيا ورمان لا كرمان الدنيا وهكذا سائر النعم في الجنة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وكذلك الأمر بالنسبة للعذاب فهو ليس كعذاب الدنيا أبداً، ولكن يشبّه لنا ببعض أنواع العذاب الدنيويّ كي نستطيع فهم المعنى على قدر المستوى البشري.

 
ويؤكّد هذا المعنى العلامة الطباطبائي حيث ذهب إلى أنّ سبب وقوع التشابه في القرآن يعود إلى كون القرآن الكريم يخضع في إلقاء معارفه العالية لألفاظ وأساليب دارجة لم تكن موضوعة سوى لمعانٍ محسوسة أو قريبة منها، ومن ثمّ لم تكن تفي بتمام المقصود، إلا بارتكاب الكنايات والمجازات فوقع التشابه فيها وخفي وجه المطلوب إلا على أولئك الذين نفذت بصيرتهم وكانوا على مستوى رفيع من العلم1.
 
كيف نتعامل مع المتشابه؟
وقصور الذهن البشري بشكل عام عن إدراك المعنى الدقيق والكامل للقرآن لا يعني ذلك أبداً خروج القرآن الكريم عن كونه كتاب هداية وبيان ونور، ولا ينافي ذلك أبداً وجوب التدبّر في آياته والغوص في أعماقه واستخراج مكنوناته، فإنّ الطريق إلى معرفة المعاني المقصودة في الآيات المتشابهة مفتوح وذلك عن طريقين:
الأول: ردّ المتشابه إلى المحكم، وتفسيره على ضوء ما هو مبيّن في الآيات المحكمات، فهي التي تحدّد المقصود وتبيّن المراد.



1 العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج3، ص58 - 62 باختصار.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

98

الدرس الحادي عشر: المحكم والمتشابه في القرآن

الثاني: الرجوع إلى الراسخين في العلم: وهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيته المعصومون عليهم السلام ورثة علمه وباب مدينته وخزّان وحيه.
 
وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنما يعرف القرآن من خوطب به"1.
 
فالمتشابه، ليس متشابهاً بقول مطلق، لأنّ تشابهه مرتفع عند أهله، وقد ورد في الأثر عن الإمام الصادق عليه السلام: "المحكم ما يعمل به والمتشابه ما اشتبه على جاهله"2.
 
فقوله عليه السلام: "على جاهله" يدل على أنه غير متشابه عند العالم به وهم الراسخون في العلم.
 
وفي الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام: "من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم"3.
 
ومن هذه النصوص نستفيد أنّ الآيات المتشابهة هي الآيات التي لا تستقل في مدلولها بل لا بد من ردّها إلى الآيات المحكمة.
 
يقول العلامة الطباطبائي قدس سره: "وعليه ليس في القرآن آية لا نتمكّن من معرفة معناها، بل الآية إمّا محكمة بلا واسطة كالمحكمات نفسها، أو محكمة مع الواسطة كالمتشابهات..."4.
 
واختصاص معرفة معاني القرآن بالراسخين في العلم لا يمنع معرفة بعض مراتب المعنى بما يتناسب مع مستوى إدراك القارئ المتدبّر في القرآن، وإلا فمراتب المعنى عديدة وكثيرة تختلف عمقاً ولا يمكن إدراك مداها إلا لمن خصّ بالمنزلة العليا من الكمال البشري وهم الراسخون في العلم. وهذا لا علاقة له بالإحكام والتشابه وإنما هو يجري في كل آية من آيات الكتاب.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج8، ص311.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج69، ص93.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص185.
4 العلامة الطباطبائي، القرآن في الإسلام، ص49.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
124

99

الدرس الحادي عشر: المحكم والمتشابه في القرآن

 أهل الزيغ والمتشابهات

يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ﴾1. وهذه الآية الشريفة تقسِّم مواقف الناس في تعاملهم مع متشابه القرآن ومحكمه إلى قسمين: قسمٌ هم أهل الزيغ والضلال، وقسم هم الراسخون في العلم.
 
وأمّا القسم الأوّل فهم إمّا أهل الظاهر الذين يقفون عند ظاهر اللفظ دون الاهتمام بما ينتج عن ذلك من مخالفة صريحة للمحكمات، والالتزام بما لا ينسجم مع العقائد الأساسية الثابتة بالعقل والنقل.
 
وأمّا أهل الزيغ ومرضى القلوب الذين تحدّثت عنهم الآية، فهؤلاء يتعمّدون التحريف والتأويل والتصرّف في المعاني بحسب أهوائهم.
 
ولقد تسبّب أهل الزيغ في خلق حالة التشكيك والخفاء في الآيات المتشابهة نتيجة الخوض في الشبهات والسجالات الكلامية، وأبعدوا بذلك المعاني القرآنية عن متناول الأيدي بالنسبة للكثيرين.
 
ولأجل ذلك كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يوصي ابن عباس عندما بعثه إلى الخوارج للاحتجاج عليهم: "لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنّة فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً"2.
 
والآية الشريفة لم تنهَ عن الاستفادة من الآيات المتشابهة في المحاججة كما توهّم بعضٌ، وإنّما ذمّت الذين يلجؤون إلى التشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل بما يتناسب مع أغراضهم الدنيئة.
 
أمّا العمل بالمتشابه بعد ردّه إلى المحكم أو رفع تشابهه عن طريق الرجوع إلى الراسخين في العلم، فهو مما لا ريب فيه ولم ينه عنه القرآن ولا منع منه.



1 سورة آل عمران، الآية 7.
2 الإمام علي عليه السلام، نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي، الوصية 77.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

100

الدرس الحادي عشر: المحكم والمتشابه في القرآن

 فالقرآن "يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض"1 كما روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

 
الراسخون في العلم
تشير الآية المتقدّمة في مستهل الفصل إلى اختصاص معرفة التأويل بالله والراسخين في العلم. لكن الذين وضعوا علامات الوقف في القرآن الكريم أثبتوا عند لفظ الجلالة في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ﴾2 وقفاً لازماً، ليجعلوا ما بعد لفظ الجلالة كلاماً مستأنفاً في محاولة لتخصيص معرفة تأويل المتشابه باللّه عزّ وجلّ، وإغلاق باب الوصول إليه على البشر جميعاً، جموداً على المتشابه وسدّاً لباب التأويل، ولا نشكّ بأنّ الدافع الأساس لهذا الأمر هو الحسد لأهل البيت عليهم السلام الذين ورد أنهم هم الراسخون في العلم.
 
والحقيقة أنّ هذا العمل يفتح المجال أمام التساؤل عن فائدة إدراج الآيات المتشابهة في القرآن الكريم مع كونها لا يعلم تأويلها إلا الله، وكيف يمكن أن يكون الكتاب كل الكتاب كتاب هداية وبيان، وكيف يمكن الأمر بتدبر آياته كل آياته.
 
فالصحيح أنّ ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ معطوفة على "الله"، في الآية، فهم يعلمون بتعليم منه بلا شك تأويل المتشابه بل البطون العميقة للقرآن الكريم3. وليس هناك أي إشكال نحوي في جعل جملة ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا﴾ مستأنفة، فاعلها يعود إلى الراسخين أنفسهم.
 
من هم الراسخون؟
يقول الإمام الباقر عليه السلام كما في الرواية: "إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الراسخين في العلم، قد علم جميع ما أنزل الله من التنزيل والتأويل، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلمه تأويله"4.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج92، ص22.
2 سورة آل عمران، الآية 7.
3 ليس من الأكيد أن ذلك حصل بسبب تحصيل المعرفة بالله فقط مع ذهاب بعض مفسري الشيعة إلى ذلك وأن هناك آيات أخرى تدل على علمهم بالتأويل يمكن معالجة ذلك من باب الإطلاق والتقييد أو العام والخاص القرآني الذي استخدم بشكل كبير فيه وعدم اللجوء إلى مثل هذا التبرير.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج92، ص80.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
126

101

الدرس الحادي عشر: المحكم والمتشابه في القرآن

 وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: "إن الله علّم نبيه التنزيل والتأويل فعلّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام وعلّمنا والله"1.

 
وأما الروايات التي تصرّح بأنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام هم الراسخون في العلم فكثيرة جدّاً ومستفيضة.
 
نماذج من الآيات المتشابهات
1- قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾2.
 
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾3.
 
وأمثال هذه الآيات التي عبّرت بالاستواء.
 
ولا شك أن الاستواء على العرش بمعنى الجلوس عليه غير جائز عليه تعالى، فلا بد من حملها على معنى السيطرة والاستيلاء والقدرة، وهو معنى نستفيده من الآية الشريفة: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾4، وما ورد في كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "... ومن قال: فيم؟ فقد ضمّنه، ومن قال: علام؟ فقد أخلى منه..."5.
 
ولكن الذين عجزوا عن التأويل توهّموا عدم اطلاع أحد غير الله عليه، فقالوا كما روي عن مالك بن أنس أنه سئل عن قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾6 كيف استوى؟ فأجاب بعد أن أطرق برأسه: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني لأخاف أن تكون ضالاً...
 
ثم أمر بالرجل فأخرج من المسجد7.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار ج26، ص 173.
2 سورة طه، الآية 5.
3 سورة الأعراف الآية 54، سورة يونس، الآية 3، سورة الرعد، الآية 2، سورة الفرقان، الآية 59، سورة السجدة، الآية46، سورة الحديد، الآية4.
4 سورة الشورى، الآية 11.
5 الإمام علي عليه السلام، نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي، الخطبة الأولى.
6 سورة طه، الآية 5.
7 السيوطي، الدر المنثور، ج3، ص91.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

102

الدرس الحادي عشر: المحكم والمتشابه في القرآن

 وهذا النوع من الاستعمال المجازي معروف عند العرب، قال الشاعر:

قد استوى بشر على العراق       من غير سيف ودم مهراق
 
2- قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾1.
 
فإن النظر هنا ليس نظر الجارحة ولا نظر الرؤية، وذلك لقوله تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾2.
 
والمؤسف أن الغفلة والجمود دفعا البعض إلى مخالفة صريح هذه الآية المحكمة تمسّكاً بالمتشابه في الآية السابقة، فادعوا إمكان رؤية الله تعالى، مع أن النظر لا يلزم منه الرؤية، ومع ذلك يمكن حمله على النظر إلى رحمة الله تعالى وجميل وعده نظر انتظار.
 
3- قوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء﴾3.
 
وقوله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾4.
 
فلا يعقل أن يكون له سبحانه يداً أو رجلاً أو ما شابه ذلك، لأنّه يستلزم الجسمية، والجسم يملأ حيزاً، وهو سبحانه وتعالى لا جسم له ولا حيّز له ولا مكان، وإنما هو خالق كل شيء، تعالى الله عمّا يصفون علوّاً كبيراً.



1 سورة القيامة، الآيتان 22 - 23.
2 سورة الأنعام، الآية 103.
3 سورة المائدة، الآية 64.
4 سورة الفتح، الآية 10.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

103

الدرس الحادي عشر: المحكم والمتشابه في القرآن

 أسئلة الدرس

أجب عن الأسئلة الآتية:
1- ما هو المحكم؟
2- ما هو المتشابه؟
3- ما هي الحكمة من وجود المتشابه في القرآن الكريم؟
4- ما هي الطرق التي نستخدمها إذا واجهنا آيات متشابهات في القرآن الكريم؟
5- من هم الراسخون في العلم؟ وما هو دورهم في التأويل وردّ المتشابه إلى المحكم؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

104

الدرس الحادي عشر: المحكم والمتشابه في القرآن

 أجب بـ ü أو û:

1- المتشابه هو ما يحتمل وجوهاً متعدّدة من المعاني. 
2- عند وجود الآيات المتشابهة والمحكمة فإنه لا بد من ردّ المحكم إلى المتشابه. 
3- أهل الزيغ هم مرضى القلوب الذين يحتاجون إلى علاج بالحجّة والبرهان. 
4- مشكلة أهل الجدل والمذاهب الكلامية أنهم يتجاوزون ظاهر الألفاظ القرآنية إلى المعاني الباطنية التي لا توافق العقل والسنة. 
5- إن الرجوع إلى الراسخين في العلم يعني الرجوع إلى كل من له علم ودراية بعلوم القرآن ومعاني آياته الكريمة. 
 
حدّد موضع التشابه في الآيات التالية وكيف تجيب عنها:
1- ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾1.
 
2- ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾2.



1 سورة الأعراف الآية 54، سورة يونس، الآية 3، سورة الرعد، الآية 2، سورة الفرقان، الآية 59.
2 سورة الفتح، الآية 10.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

105

الدرس الثاني عشر: الإعجاز القرآني

 الدرس الثاني عشر: الإعجاز القرآني



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى الإعجاز العام والإعجاز القرآني.
2- يفهم الهدف من الإعجاز.
3- يتعرَّف إلى مذهب الصرفة في الإعجاز.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

106

الدرس الثاني عشر: الإعجاز القرآني

 تمهيد

يعتبر بحث الإعجاز من أهمّ الأبحاث في علوم القرآن الكريم، وهو من الأبحاث التي تعرّض لها العلماء قديماً، ولا يستغني عنها أي طالب في علوم القرآن، وقد ذكر هذا البحث أيضاً في علم الكلام عند التعرّض للأنبياء عليهم السلام، وأن بعض الأنبياء كان لديهم بعض المعجزات بما تتناسب مع عصرهم، فاضطر علماء الكلام للدخول في بحث المعجزة من جهة اقتران هذا البحث بالنبوة وضرورتها وعلامتها، وأما في علوم القرآن فالتعرّض للإعجاز كان بما يتناسب مع القرآن الكريم وأنه معجزة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه النبيّ الخاتم، ورسالته خاتمة الرسالات، فمن الطبيعي جدّا أن يأخذ بحث الإعجاز القرآني مكانة خاصة في هذا العلم.

معنى الإعجاز
الإعجاز في مصطلح علوم القرآن الكريم هو:
أن يأتي المدّعي لمنصب من المناصب الإلهية (كالنبوّة) بما يخرق العادة، ويعجز عنه غيره من البشر كشاهد ودليل على صدق دعواه.

فعلى النبيّ الذي يدّعي النبوة أن يأتي بأمر يعجز الناس عن الإتيان بمثله، ويكون هذا الأمر على خلاف قوانين الطبيعة، ويوافق دعواه ويكون بهدف إقناع الناس به لهدايتهم إلى الطريق الحق.

وعليه فعناصر المعجزة هي:
1- عجز البشر عن الإتيان بمثل المعجزة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

107

الدرس الثاني عشر: الإعجاز القرآني

 2- تكون خارقة لقوانين الطبيعة المعروفة.


3- عدم استحالتها عقلاً.

4- أن تكون في سياق إثبات صدق مدّعي النبوة أو غيرها من المناصب الإلهية.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أنّ المعجزة لا تلغي قانون العلية ولا تخرج عنه، وإنّما هي تستند إلى علّة غير العلل المعروفة والطبيعية عند البشر. ولو كانت إلغاءً لقانون العلية لاستحالت عقلاً، وعندئذ يسقط عنصر مهمّ من عناصر المعجزة. 

فولادة إنسان من غير أب لا يستحيل عقلاً، لأن خالق الإنسان الذي أوجده وخلقه من طين ابتداءً بإمكانه خلقه من غير أب بالأولوية، لكن المعتاد في الأسباب والقوانين الطبيعية أن يولد الإنسان من أبوين، فإذا ولد النبيّ عيسى عليه السلام من غير أب كان خرقاً لنواميس الطبيعة المتعارفة والمعتادة، لكن علة الخلق وأسبابه محفوظة بتمامها.

وهكذا بالنسبة لكلامه عليه السلام في المهد وإحيائه الموتى وأمثال ذلك.

الهدف من المعاجز
ليس من الضروري أن لا يؤمن الناس بالنبيّ إلا من خلال المعجزة وبعد مشاهدتها، نعم قد ينحصر الطرق أمام بعض الناس في إثبات صدق مدّعي النبوة بالإتيان بالمعجز، لكن البعض الآخر من الناس قد يتمكن من معرفة صدق النبيّ والركون إليه والاطمئنان إلى صحة دعواه دون حاجة إلى معجزة أبداً.

فلم يكن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بحاجة إلى معجزة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أجل الإيمان به وتصديقه، بل الثابت أنه آمن وصدّق وتيقّن دون انتظار، وكذلك كان إيمان وتصديق خديجة رضوان الله عليها.

بل الكثير من النصوص والروايات تحكي لنا إيمان العديد من أهل الكتاب بمجرّد عرض الإسلام ومعارفه السامية عليهم، أو من خلال اطلاعهم على مبلغ علم النبيّ دون انتظار المعجزة، وأحياناً كانت سجايا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأخلاقه الرفيعة تشكل باباً لاختبار صدقه، لأنّ كل هذه الأمور من شأنها أن تقود إلى نوع من الاطمئنان والإيمان الواعي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

108

الدرس الثاني عشر: الإعجاز القرآني

 وأحياناً أخرى كانت صفات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المذكورة في الكتب السابقة باعث إيمان عند من اطلع عليها ولم يبتلى بالعصبية والعناد.

 
ومع ذلك فإنّ المعجزة هي دليل قاطع على صدق النبي، والحجة الدامغة على من ينكر ويجحد.
 
كيف تكون المعجزة دالة على صدق النبي؟
المفروض أن ما يأتي به النبيّ لإثبات صدقه يعجز عنه البشر (وهذه مقدمة وجدانية).
 
ولو كان ما جاء به بقدرة بشرية لما عجز غيره عن الإتيان بمثله (لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد).
 
النتيجة إن ما جاء به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليس بقدرة بشرية.
 
هذا الدليل استثنائي يمكن صياغته بعبارة أدقّ:
لو كان ما جاء به النبيّ بقدرة بشرية لما عجز عنه غيره، لكنهم عجزوا عنه.
 
النتيجة: فهو ليس بقدرة بشرية.
 
لكن من أين حصل للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هذه القدرة الخارقة؟
 
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حسب الفرض يدّعي اتصالاً بما وراء الطبيعة، بل بخالق الطبيعة ومدبّرها، وأنه نبيّ مرسل من قبله برسالةٍ ليبلغها إلى الناس، فإذا كان صادقاً فاللازم أن يخصه المرسِل بقدرة خاصة تثبت صدقه واتصاله الخاص به، وهي القدرة على الإتيان بالمعجز أو إجراء المعجز على يديه بعبارة أدق.
 
هذا النحو من الاستدلال تشير إليه الآية الكريمة التالية: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾1.



1 سورة هود، الآيتان 13و14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

109

الدرس الثاني عشر: الإعجاز القرآني

 تنوّع معاجز الأنبياء عليهم السلام

روي أنّ ابن السكيت قال للإمام أبي الحسن الرضا عليه السلام: لماذا بعث الله موسى بن عمران بيده البيضاء والعصا وآلة السحر، وبعث عيسى بآلة الطب وبعث محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم بالكلام والخطب؟!
 
فقال أبو الحسن عليه السلام: "إن الله تعالى لما بعث موسى عليه السلام كان الأغلب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله تعالى بما لم يكن عند القوم وفي وسعهم مثله، وبما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجة عليهم، وإن الله بعث عيسى في وقت ظهرت فيه الزِمانات واحتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند الله تعالى بما لم يكن عندهم مثله وبما أحيى لهم الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن اللّه، وأثبت به الحجة عليهم. وإن الله تعالى بعث محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب والكلام والشعر فأتاهم من كتاب الله والموعظة والحكمة ما أبطل به قولهم وأثبت به الحجة عليهم"1.
 
أوضحَ هذا النص الحكمة من تنوّع المعاجز من نبيّ لآخر ومن زمن لآخر، حيث إنه ينبغي أن تتوفّر السنخية بين المعجزة والفن الذي يبرع به أهل الزمان، لأن أهل الفن هم الأقدر على تمييز المعجز من غيره والصحيح من الزيف، ويرجع إلى أهل الخبرة عادة في تشخيص الحالات المشكلة والصعبة، فالطبيب هو الأقدر على إدراك حالات الشفاء الخارقة للعادة والتي لم تتم بالأصول والأسباب المعروفة عند علماء الطب، والساحر أقدر على كشف السحر وفضح أسراره وتمييزه عن المعجزة، ومن هنا كان أول من آمن بالنبيّ موسى عليه السلام بعد المواجهة المعروفة هم السحرة أنفسهم الذين دخلوا في لعبة التحدّي، وليس ذلك إلاّ لاطّلاعهم على فنون السحر، فأدركوا أنّ ما جاء به النبيّ موسى لم يكن سحراً فآمنوا.
 
وهذا هو السرّ في جعل القرآن الكريم معجزة رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان عصر نزول القرآن من أزهى العصور في صنعة الكلام، بل لم يكن لهم من الفنون ما برعوا به سواها، حتى صاروا يعرضونها في أنديتهم وأسواقهم إلى جانب بضائعهم بل بدلاً عنها. ويفتخرون بها ويتبارون فيها.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار،ج11، ص70.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
136

110

الدرس الثاني عشر: الإعجاز القرآني

 آيات التحدّي

1- الآية المتقدّمة: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾1.
 
2- قوله تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾2.
 
3- قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾3.
 
4- قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾4.
 
5- قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ﴾5.
 
هذه الآيات الخمس ترتيبها بحسب تسلسل النزول (طبقاً لمرويات السنّة في هذا المجال فليس عندنا فيه شي‏ء يذكر) الثانية ثم الرابعة ثم الأولى ثم الخامسة ثم الثالثة. 
 
وهذا يعني أن التحدّي يبدأ بتمام القرآن (النازل منه طبعاً)، ثم بسورة واحدة، ثم بعشر سور، ثم بجميعه ثم بسورة واحدة. (الإسراء، يونس، هود، الطور، البقرة).
 
لكن القرآن لما كان اسم جنس ينطبق على بعضه حقيقة فالتحدّي إذن تارة بمطلق القرآن الذي يقبل الانطباق على أي سورة أو أي جزء منه، وأخرى بعشر سور وثالثة بسورة واحدة.



1 سورة هود، الآية 13.
2 سورة الإسراء، الآية 88.
3 سورة البقرة، الآيتان 23 - 24.
4 سورة يونس، الآية 38.
5 سورة الطور، الآيتان 33 - 34.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

111

الدرس الثاني عشر: الإعجاز القرآني

 وليس هنا من تدرّج في التحدّي بناءً على تسلسل النزول المتقدّم، وإن تحدّث عنه الكثيرون. نعم إذا أسقطنا اعتبار ترتيب النزول وأخذنا الآيات مجرّدة عن زمان نزولها فهناك مراتب للتحدّي يمكن أن توصف بأنها نحو من أنحاء التدرّج.

 
ومهما يكن فإن التاريخ لم يحدّثنا عن أية معارضة للقرآن أدّت إلى التشويش على عظمة القرآن وإلى إيجاد شبهة أمام إعجازه وتحدّيه.
 
نعم هناك ما يُسمّى تسامحاً معارضات، لكنها مثار السخرية وتدلّ على سذاجة أصحابها نقل منها شي‏ء عن مسيلمة الكذاب وأبي الطيب المتنبي وأحد المسيحيين في رسالة حسن الإيجاز وهي لا تستحقّ الوقوف عندها وإطالة الكلام بذكرها وتضييع الوقت بنقلها1.
 
أبعاد الإعجاز القرآني
دراسة أبعاد الإعجاز القرآني تحتاج إلى ملاحظة أمور:
1- إنّ القرآن جاء ليخاطب البشر جميعاً بل الجن أيضاً، فلا يختصّ بأمّة دون أمة ولا جماعة دون جماعة.
 
﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ﴾2.
 
2- من حيث البعد الزماني يخاطب كل الأزمان منذ البعثة وحتى قيام الساعة.
 
﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾3.
 
3- ومن حيث البعد الموضوعي هو شامل لكل شي‏ء.
 
﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾4
 
﴿تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾5.



1 راجع، البيان للسيد أبي القاسم الخوئي،ص93-94، التمهيد للشيخ محمد هادي معرفة، ج4، ص227.
2 سورة الطور، الآية 34.
3 سورة الأنعام، الآية 19.
4 سورة الأنعام، الآية 38.
5 سورة النحل، الآية 89.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

112

الدرس الثاني عشر: الإعجاز القرآني

 4- النبيّ المرسل الذي جاء به لم يتعلّم عند أحد ولم يتلقّ معرفة من أحد من البشر بل كان أمياً لا يقرأ.

 
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾1.
 
﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾2.
 
فبعد ملاحظة الأمور الأربعة نجد أن القرآن الكريم جاء به من لم يتلقّ العلم من أحدٍ من البشر، وعلى هذا المستوى الذي أعجز أهل البيان والبلاغة، وبلاغته بلحاظ الأمور الثلاثة الأولى أكبر من أن توصف أو أن تقارن ببلاغة البشر. والإعجاز البلاغي لا يقاس بالنظم والفصاحة والمحسنات البديعية فقط دون ملاحظة المعاني التي يراد صياغة الكلام لبيانها وإيصالها إلى المخاطب، فإن جمال السبك وحسن النظم ينبغي أن يضاف إليه الانسجام التام مع المؤدّى وكونه قادراً على إبلاغ المعنى وإيصاله.
 
شروط دلالة الكلام
كما أن لدلالة الكلام على المعنى في مقام التفهّم والتفهيم شروطاً:
1- أن يكون اللفظ قادراً على تحمّل المعنى المطلوب: فقد اعتمد القرآن اللغة العربية بما لها من خصائص ومميّزات، فهي أقدر اللغات على تحمُّل المعاني.
 
2- أن يكون الكلام موائماً لشخصيّة المتكلّم، مقدّراً بقدره، وموزوناً بما تكتنفه هذه الشخصيّة من علم وقدرة وسعة وإحاطة وغير ذلك من الصفات.
 
3- أن يكون ذلك المعنى منسجماً أيضاً مع نوعية اختصاص المتكلّم ومع مراميه وأهدافه: فهناك انسجام تام بين القرآن والهدف الذي أنزل من أجله.



1 سورة النحل، الآية 103.
2 سورة العنكبوت، الآية 48.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

113

الدرس الثاني عشر: الإعجاز القرآني

 4- قدرة المخاطبين على استيعاب المقصود ولو على امتداد الزمن: فيلاحظ فيه أنه يناسب جميع المخاطبين، ويعطي كل مخاطب ما يناسبه.


وبهذا يتجلّى الإعجاز البياني فيه، الذي تمكّن أن يؤدّي المعارف المتنوّعة والسّامية التي تناسب كل مستويات البشرية، والإشارات العلمية وأسرار الخليقة وأصول النظام الكوني، وفي الوقت نفسه يخاطب الجميع دون أن يكون ذلك مخلّاً بإمكانية إيصال المطلوب إلى أهله، فهو يوصل لعوام الناس سهمهم من المعارف، ويوصل إلى ذوي البصائر والعقول العلمية حصّتهم.

وهناك جوانب إعجازية أخرى تتمثّل في الاختبارات الغيبية والكشف عن الجوانب الخفية من قصص الأنبياء والأمم السالفة، والإشارات العلمية، والحديث عن أسرار الكون بما لم يكن معروفاً عند علماء الطبيعة والفلك آنذاك وغيرها من الوجوه، وأهمّها هو الإعجاز البياني الذي قدمنا الحديث عنه وهو لعلّه يشمل كلّ هذه الجوانب لأنّها داخلة في مفهوم البلاغة والأهداف القرآنية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
140

114

الدرس الثاني عشر: الإعجاز القرآني

 أسئلة الدرس


أجب عن الأسئلة الآتية:
1- عدّد عناصر الإعجاز وبيّن علاقة المعجزة بقانون العلية؟
2- كيف تدل المعجزة على صدق دعوى النبوة، ومن أين يحصل للنبي هذه القدرة الخارقة؟
3- ما هي الحكمة من تنوّع المعاجز من نبيّ لآخر ومن زمن لآخر؟
4- هل الإعجاز حقيقي؟ أثبت ذلك بالدليل؟
5- ما هو المقصود بالإعجاز البياني في القرآن الكريم؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

115

الدرس الثاني عشر: الإعجاز القرآني

 أجب بـ ü أو û:

1- الإعجاز هو أن يأتي المدّعي لمنصب من المناصب الإلهية بما يخرق نواميس الطبيعة، ويعجز عنه غيره كدليل على صدق دعواه. 
2- من القواعد الأساس في حقيقة المعجزة أنها تلغي قانون العلية. 
3- لا يؤمن النَّاس بالنَّبي إلا من خلال المعجزة وبعد مشاهدتها. 
4- ينبغي أن تتوفّر السنخية بين المعجزة والفن الذي يبرع به أهل الزمان. 
5- مذهب الصرفة يعني أنَّ الإعجاز هو استحالة الإتيان بمثله من قبلهم بحسب قدراتهم وإمكانيَّاتهم الذَّاتيَّة. 
 
املأ الفراغ بالإجابة المناسبة:
البعد الزّماني - مخاطبة كل الأمم - أمية الرسول - البعد الموضوعي
﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾1.
 
﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ﴾2.
 
﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾3.
 
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾4.



1 سورة الأنعام، الآية 19.
2 سورة الطور، الآية 34.
3 سورة الأنعام، الآية 38.
4 سورة النحل، الآية 103.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
142

116
مدخل إلى علوم القرآن