طلائع القلوب


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-09

النسخة: 2016


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، وبعد.
 
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾1.
 
يرسم القرآن الكريم في هذه الآية المعالم المطلوبة في شخصية الإنسان المسلم، فكان المَعْلَم الأول هو الإيمان، لذا خصّ‏َ اللّه تعالى الخطاب بالذين آمنوا وكان المعلم الثاني هو التقوى، لذا أمر اللّه بها عقيب الخطاب. والمعلم الثالث كان ابتغاء الوسيلة.
 
والمراد بالوسيلة التي أمر اللّه تعالى ابتغاءها إليه هي القيادة الإلهية التي أمر اللّه بطاعتها والانقياد إليها. لذا ورد في تفسير القمّي لقوله تعالى: ﴿وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ﴾، أي "تقرَّبوا إليه بالإمام"2.
 
وعن خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الأئمّة من ولد الحسين‏ عليه السلام من أطاعهم فقد أطاع الله، ومن عصاهم فقد عصى الله عزّ وجلّ هم العروة الوثقى، وهم الوسيلة إلى اللّه عزَّ وجل"3.
 
ولقد عرض أهل العصمة ضرورة السعي لمعرفة الوليّ والإمام المفترض الطاعة في كلّ زمان، كما يُروى أنّه سُئِل الإمام السجّاد عليه السلام: يا بن رسول اللّه بأبي أنت وأمّي فما معرفة



1 سورة المائدة، الآية 35.
2 علي بن إبراهيم، تفسير القمي،ج1، ص168.
3 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج36، ص244.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

1

المقدمة

 الله التي هي الغاية من خلق الإنسان؟ فقال‏ عليه السلام: "معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته"1

 
وفي روايات أخرى اعتبروا عليهم السلام معرفة الإمام شرطاً في صحّة الأعمال وقبولها، كما روي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الزموا مودّتنا فإنّه من لقي الله عزّ وجلّ وهو يودّنا دخل الجنّة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلا بمعرفة حقّنا"2. أمّا غضّ الطرف عن معرفة الإمام والتقصير عن قصد أو غير قصد في هذا الجانب فعدّوا عليهم السلام حياته وموته جاهلية، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية"3.
 
في المقابل فإنّ لمعرفة الوليّ وطاعته آثاراً عظيمة في الدنيا والآخرة. منها أنّ طاعة الوليّ سبب أساسي للنصر وتحقيق الأهداف‏ الإلهية، بينما عصيانه يؤدّي إلى الهزيمة والفشل. فقد أكّد أمير المؤمنين عليه السلام في خطابه لجيشه بعد أحداث صفّين سبب هزيمة المسلمين بعدم إطاعته فقال عليه السلام مخاطباً جيشه: "صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يُطيعونه، لوددتُ والله أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم فأخذ منّي عشرة وأعطاني رجلاً منهم"4.
 
وفي الآخرة تكون طاعة الوليّ سبباً لشفاعته القيادية، والقرآن الكريم يؤكّد هذا بقوله: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾5..
 
وكما أنّ وليّ الله الأعظم يشفع شفاعة حسنة يوم الآخرة تكون سبباً لورود أتباعهم إلى الجنّة، فإنّ قائد السوء بدوره يجرُّ أتباعه ومطيعيه ليكون قائدهم إلى جهنّم، كما يُحدّثنا القرآن الكريم عن فرعون بقوله تعالى: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ﴾6.



1 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج5، ص312.
2 م.ن، ج27، ص91.
3 الكليني، الكافي، ج2، ص20.
4 السيد الرضي، محمد بن حسين، نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، دار الهجرة، قم، الطبعة الأولى، ١٤١٤ه. الخطبة97، ص142.
5 سورة الإسراء، الآية 71.
6 سورة هود، الآية 98.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12

2

المقدمة

 وتظهر طاعة الولي بأجلى وأبهى صورها من خلال تسليم الأمر له وترك الاعتراض عليه ظاهراً وباطن، لأنّ طاعة الوليّ لا بدّ أن تشمل كلّ أبعاد وجود الإنسان الباطنية من العقل والخيال وغيرها والظاهرية من الجسد وحواسه. فلا يتردّد الموالي الصادق في طاعة وليّ الأمر المعصوم بجسده وروحه، بل يُسلِّم الأمر إليه وهو من الواثقين المتيقّنين بصحة أمره.

 
وهذا ما يُستفاد من حديث للإمام الصادق عليه السلام قال فيه: "لو أنّ قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وحجّوا البيت وصاموا شهر رمضان ثم قالوا لشي‏ء صنعه الله أو صنعه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا من قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا الآية: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ إلى قوله ﴿وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾1  ثم قال: عليكم بالتسليم"2.
 
والطاعة للوليّ ليست مقتصرة على طاعة الأوامر الصادرة من شخص الوليّ بل تمتدّ إلى السلسلة الهرمية المعيَّنة من قِبَل الولي، وهذا أمر واضح إذ بدونه لا يستقرّ نظام، بل وقد تحصل الكارثة.
 
هذا الكتاب "طلائع القلوب" هو الكتاب المعتمد للمواعظ والدروس الثّقافية، وقد تمّ تأليفه بأسلوب مناسب للتبليغ والتدريس وتقديم الموعظة، وقد تعمّدنا تنويع موضوعاته لتعميم الفائدة أكثر، على أن لا يبخل الأساتذة علينا بملاحظاتهم وأفكارهم في هذا المجال من أجل تطوير العمل وتكميله.
 
 
والحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة
 



1 سورة النساء، الآية 65.
2 الكليني، الكافي، ج1، ص390.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

3

الوصيّة الأولى: بهذا جاء النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 الوصيّة الأولى



بهذا جاء النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم


- محاور الوصيّة
- سلام الإمام عليه السلام
- أجمع الوصايا
- الإجتهاد لله
- صدق الحديث
- أداء الأمانة
- طول السجود
- حسن الجوار
- مذا يريد أئمة الهدى عليهم السلام منّا؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

4

الوصيّة الأولى: بهذا جاء النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 نصّ الوصيّة

من جملة ما أوصى به مولانا الإمام أبو عبد الله جعفر بن مُحمد الصادق عليهما السلام صاحبه النجيب زيد الشحّام1: "اقرأ من ترى أنّه يُطيعني منكم ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحُسن الجوار، فبهذا جاء محمّد صلى الله عليه وآله وسلم2.
 
أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برَّاً أو فاجراً، فإنّ رسول الله كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صِلوا عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعُودوا مرضاهم، وأدّوا حُقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدقَ الحديث وأدَّى الأمانة وحسُنَ خُلقه مع الناس قيل: هذا جعفريّ، ويَسُرّني ذلك، ويدخل عليّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر، وإِذا كان غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعارُه وقيل: هذا أدب جعفر، فوالله لحدّثني أبي أنّ الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي عليه السلام فيكون زينها، أدَّاهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تُسأل العشيرة عنه، ويقولون : من مثل فلان؟ إِنّه أدّانا للأمانة، وأصدقنا للحديث"3.



1 أبو أسامة زيد الشحّام بن يونس الكوفي، من أصحاب الإمامين أبي عبد الله الصادق، وأبي الحسن الكاظم عليهما السلام وقد روى عنهما جملة من الآثار الشريفة، وأورد له الكشّي رواية نقلها عن الإمام أبي جعفر مُحمد بن علي عليه السلام بلا واسطة، وفي ذلك دليل على أنّه ممّن رأى وسمع الإمام الباقر عليه السلام، وقد نقل عنه الكثير من الثقات من أصحاب الأئمة عليهم السلام، وهو ثقة عين له كتاب يرويه عنه جماعة، وقد بَشّره الإمام الصادق عليه السلام بأنّه "معهم" أهل البيت، وقد نقلنا هذه الترجمة بتصرّف، يراجع رجال الكشي، محمد بن عمر، ج1، ص13، وج2، ص627-628، طبعة: مؤسسة آل البيت عليهم السلام، تحقيق السيد مهدي الرجائي، قم، والشيخ عباس القمي، الكنى والألقاب، ج1، ص6، باب الأول، تقديم محمد هادي الأميني.
2 كذلك هي ممّا أوصى به الإمام أبو محمد علي بن موسى الرضا والإمام أبو محمد الحسن بن علي الزكي العسكري عليهم السلام، يراجع فقه الرضا، ص356، طبعة:1، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، والعلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص372.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص636،باب ما يجب من المعاشرة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

5

الوصيّة الأولى: بهذا جاء النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 مقدّمة

إنّ نظرية أئمة أهل البيت عليهم السلام في إمامة المسلمين تقوم على أساس أنّ الإمامة منصب إلهي، حيث يتمّ تعيين الإمام بالنصّ عليه من قِبَل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو من قِبَل الإمام الذي قبله، وقد جعل الله طاعة الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام نظاماً للملّة الإسلامية كما بَيّنت سيّدة نساء العالمين فاطمة عليها السلام. وعلى الرغم من أنّ أئمة أهل البيت قد تركوا هذا المنصب الإلهي بسبب الظروف السياسية التي عاشها المسلمون بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنّ ولاية أهل البيت - التي هي بالأصل ولاية الله تعالى ورسوله -، والممارسة الواقعية لأئمّة أهل البيت عليهم السلام كانت تؤكّد هذا الدور للأمّة تأكيداً واضحاً.

ثم إلى من يفزع خلف هذه الأمة، وقد درست أعلام هذه الملّة، ودانت الأمة بالفرقة والاختلاف؟ ومن الموثوق به على إبلاغ الحجّة وتأويل الحكم إلا أشقاء القرآن وأبناء أئمة الهدى ومصابيح الدجى الذين احتجّ الله بهم على عباده، ولم يدع الخلق سدىً من غير حجّة، فكانوا فروع الشجرة المباركة وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً وبرّأهم من الآفّات وافترض مودّتهم في الكتاب؟

وانطلاقاً من هنا لم يكن لأئمة آل البيت عليهم السلام همّة إلا تهذيب المسلمين وتربيتهم تربية صالحة كما يريدها الله تعالى منهم، فكانوا مع كلّ من يواليهم، ويأتمنونه على سرّهم يبذلون قصارى جهدهم في تعليمه الأحكام الشرعية، وتلقينه المعارف المحمّدية، ويُعرّفونه ما له وما عليه، ولا يعتبرون الرجل تابعاً وشيعة لهم إلا إذا كان مطيعاً لأمر الله مجانباً لهواه آخذاً بتعاليمهم وإرشاداتهم، ولا يعتبرون حبّهم وحده كافياً للنجاة كما قد يُمنّي نفسه بعض من يسكن إلى الدعة والشهوات، ويلتمس عذراً في التمرّد على طاعة الله 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

6

الوصيّة الأولى: بهذا جاء النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 سبحانه. إنّهم لا يعتبرون حبّهم وولاءهم منجاة إلا إذا اقترن بالأعمال الصالحة، وتحلّى الموالي لهم بالصدق والأمانة والورع والتقوى"1.

 
دور الوصيّة في المحافظة على وحدة الأمّة
تَكتسِب أيّ وصيّةٍ أهميتّها الخاصّة - غالباً - من سببَيْن: الشَّخص المُوصي، ومضمون الوصيّة، وقد يُسهِم سببٌ ثالث في هذه الأهميَّة، هو الشخص المُوصَى إليه. المُوصي، فهو أمين الله في أرضه الإمام جعفر بن مُحمد الصادق ع، وقد كانت مضامين وصاياه لشيعته ومواليه ومريديه أن يتّقوا الله تعالى، ويكونوا القدوة الصالحة والأسوة في السلوك بين المسلمين، من أجل المحافظة على الإسلام المحمّدي الأصيل وبالتّالي المحافظة على كيان الأمّة. هذا من ناحية، وهداية الناس إلى طريق الحقّ من ناحية أخرى، وقد التزم أتباع أهل البيت عليهم السلام هذه التوصيات التي تُعدّ من غُرر مكارم الأخلاق، وطبّقوها من موقع القوّة والقدرة، كما التزموا بها في مواضع الضعف والمطاردة، ولذلك لم يُعرف عن شيعة أهل البيت عليهم السلام أنّهم مارسوا عمليّات القمع والاستئصال ضدّ أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى حتى في الحالات التي كانوا يُمسكون فيها بأزمّة الأمور، وإنّما كانوا دائماً يتمسّكون بنهج الدفاع عن النفس عندما يتعرّضون للعدوان في أشدّ الحالات، وقد يتمسّكون بالصبر والسكوت، وتحمّل ألوان الأذى والهضم لحقوقهم الطبيعية تأثّراً بالنهج الذي تبلّغوه عن أئمّتهم المعصومين عليه السلام. وقد أسهم ذلك التزاماً عالياً بسلوكهم الفرديّ والاجتماعيّ بين الناس، فكانوا قدوة لبقية الناس، وأصحاب دور فاعل وتأثير بارز عليهم في الهداية إلى الإسلام الأصيل. والأمثلة في ذلك كثيرة يعرفها المنصفون من المطّلعين على التراجم والطبقات، وعلم الرجال.
 



1 الشيخ محمد رضا المظفر رحمه الله، عقائد الإمامية، ص134-135، طبعة:2، مركز الأبحاث العقائدية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

7

الوصيّة الأولى: بهذا جاء النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 محاور الوصيّة

إنّ طاعة الأئمة من آل مُحمد صلى الله عليه وآله وسلم، والوصيّة بتقوى الله تعالى، والورع في الدين، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، بهذا جاء مُحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم التركيز مرة ثانية وثالثة ورابعة على الأمانة وأدائها، ومضرب المثل في ذلك، وصلة الأرحام، وشهود جنائز عامة المسلمين، وعيادة مرضاهم، وأداء حقوقهم، وحسن الخلق معهم، وبيان أنّ تلك هي صفات شيعة أهل البيت عليهم السلام التي تُدخل السرور على قلوب أئمّتهم سلام الله عليهم.ونحن بدورنا حين نستقرىء هذه الوصيّة الهامّة يتّضح لنا أنّها جملة من مكارم الأخلاق التي لا بدّ لكلّ مؤمن من التخلّق بها، ففكّر أيّها القارئ الكريم في هذه النصائح القدسيّة، وأعد النظر في فقراتها، وانظر ماذا سيبلغه البشر من نهاية السعادة لو طبّقوها، واعلم أنّ من أراد الكمال كلّ الكمال في الفضائل الإنسانية، فعليه بالتدبّر في كلمات أهل بيت العصمة عليهم السلام، ودراية رواياتهم، ومواعظهم ووصاياهم، فإنّها معدن العلم والحكمة.
 
سلام الإمام عليه السلام
من الملاحظ في هذه الوصيّة أنّ الإمام الصادق عليه السلام ابتدأها بقوله لصاحبه زيد الشحّام: "أقرِأ من ترى أنه يُطيعني منكم، ويأخذ بقولي، السلام"أي: بلِّغ السلام عنّي أصحاب الطاعة في سلوكهم التابعين لنا بالقول والفعل، وبذلك يؤكّد الإمام عليه السلام أنّ التشيّع لهم وموالاتهم ليس مجرّد محبّة تُدَّعى بل هو طاعة لهم فيما يأمرون، لأنّ طاعتهم طاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وطاعة رسول الله طاعة لله عزّ وجلّ1، فمن التزم ذلك، فهو لهم وليّ، ويستحقّ أن يُبلَّغ السلام من الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، وأمّا من كان لله عاصياً ومخالفاً، فهو لهم عدوّ، حتى لو ادّعى مشايعتهم، وحاول أن يُصوّر



1 قال مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أطاعـني، فقد أطاع الله، ومن عصاني، فقد عصى الله، ومن أطاع عـليّاً، فقد أطاعني، ومن عصى عـليّاً، فقد عصاني"، يراجع الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص130، حديث 4617، وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وعلق الذهبي في تلخيصه للمستدرك: صحيح، والروايات من طريق العترة الطاهرة متواترة متظافرة في وجوب طاعة الأئمة من آل مُحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

8

الوصيّة الأولى: بهذا جاء النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 للناس أنّ مجرّد محبّتهم وممارسة بعض الأعمال البسيطة، كفيل بغفران ذنوبهم، وكان من نتاج دعواه الباطلة أن شجَّع الكثير من الموالين على التساهل في أمور الدّين، وغرّر بهم وأوقعهم في متاهات لا نهاية لها، وأبعدهم كلّ البعد عن أهداف الأئمة المعصومين عليهم السلام.

 
أجمع الوصايا
إنّ المسلم في حاجة دوماً إلى التذكير والإرشاد، وإنّ أجمع الوصايا وأنفعها، الوصيّة بتقوى الله تعالى، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله﴾1. وروى أبو بصير، فقال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾2، فقال: "يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر"3. وشدّة التقوى تُسمّى بالورع، ويحصل من خلال شدّة الاحتياط وترك الإنسان لكلّ ما يريبه. روي عن الإمام أبي مُحمد الحسن بن علي عليهما السلام قال سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "دع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك، فإنّ الصدق طمأنينة، والكذِب ريبة"4.
 
وهذه قاعدة مهمّة في الورع، فكلّ شيء اشتبهتَ فيه اتركه إلى شيء لا تشتبه فيه، ومن مزايا المسلم: شدّة الورع والاحتياط، فإنّه يرى الذنب اليسير القليل عظيماً، لأنّه كما قيل: لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر من عصيت، وهذا الأمر من أهمّ القضايا وأعظمها، ولذلك ما كان المؤمنون الصادقون يستصغرون الذنوب ولو كانت صغيرة هيّنة، وإنّ الذي نفهمه جميعاً ويفهمه كثير من الناس في معنى الورع أن تترك أمراً من الأمور تورّعاً لاحتمال أن يكون محرّماً، أو لاحتمال أن يكون مكروهاً، فقد رُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنهُ قال: "الوَرَعُ يَحجُز عنِ ارتكاب المحارم"5.



1 سورة النساء، الآية، 131.
2 سورة آل عمران، الآية 102.
3 الشيخ المُحدث الحسين بن سعيد الكوفي الأهوازي، الزهد، ص17، حديث رقم 37، طبعة:2، المطبعة العلمية، قم.
4 محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج4، ص110، حديث 7046، طبعة 1: دار الكتب العلمية، بيروت،والحسين بن محمد بن حسن بن نصر الحلواني، نزهة الناظر وتنبيه الخواطر، ص28، طبعة:1، مدرسة الإمام المهدي عليه السلام، قم، وأبو الفتح محمد بن علي الكراجكي الطرابلسي، كنز الفوائد، ج1، ص351، طبعة:1، دار الذخائر، قم.
5 عبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد التميمي الآمدي، غرر الحكم ودرر الكِلم، ص77، طبعة: دار الكتاب الإسلامي، قم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

9

الوصيّة الأولى: بهذا جاء النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 الاجتهاد لله

هذا مطالبة وتوجيه من الإمام الصادق عليه السلام لكلّ مسلم أن يكون مجتهداً لله تعالى في كلّ أقواله وأعماله، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾1.
 
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "وإذا رأيتَ مجتهداً أبلغ منك في الاجتهاد، فوبِّخ نفسك ولُمها وعيِّرها تحثيثاً على الازدياد عليه، واجعل لها زماماً من الأمر وعناناً من النهي، وسُقها كالرائض للفاره التي لا يذهب عليه خطوة من خطواتها إلا وقدصحّح أوّلها وآخرها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُصلّي حتى تتورّم قدماه، وقال: أفلا أكون عبداً شكوراً. أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن تعتبر به أمّته، فلا يغفلوا عن الاجتهاد والتعب والرياضة بحالٍ، ألا وإنّك لو وجدت حلاوة عبادة الله، ورأيتَ بركاتها، واستضأت بنورها لمتصبر عنها ساعة واحدة، ولو قُطّعت إرباً إرباً"2.
 
صدق الحديث
إنّه عزّ الإنسان وأقوى دعائم الإيمان، وأخو العدل وزينة الحديث، وأمانة اللسان وحلية أهل الإيمان. وتُحدّثنا سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّ السمة الأبرز التي اشتُهر بها قبل النبوّة، والتي كانت إحدى أكبر ركائز الجذب في شخصيّته هي صدق الحديث. وهذا الأمر إنّما يدلّ على استبطان هذه الفضيلة للكثير من مكارم الأخلاق التي يتمتّع بها الأمين الصادق صلى الله عليه وآله وسلم وذلك ممّا دفع أمّ المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام للاقتران بالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ أكثر ما كان يبلغها عنه صدق الحديث، وأداء الأمانة، وكرم الأخلاق.ويكفي في بيان مقام الصدق أنّ الله أشار إلى هذه الصفة في ذاته سبحانه، وأكّد على اتصاف أنبيائه ورسله وأوليائه بها، فقال عزّت آلاءه: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا 



1 سورة العنكبوت، الآية 69.
2 منسوب للإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، مصباح الشريعة، ص170، باب الثمانون، طبعة: 1، مؤسسة الأعلمي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

10

الوصيّة الأولى: بهذا جاء النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا﴾1, والآيات الكريمة الواردة في ذلك، ومنظومة الأحاديث الشريفة كثيرة وكبيرة جدّاً.

 
أداء الأمانة
يقول الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾2 ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾3. لكنّ على الرغم من هذا الأمر الإلهيّ يوجد من يخون الأمانة، فعوضاً عن أدائها إلى أصحابها، فهو يُنكرها أو يُنقص منها أو يُقصّر في حفظها وصيانتها، وهذا من مصاديق الخيانة، فأكثر الأمثلة شيوعاً للخيانة هي خيانة الأمانة، لأنّ القيمة التي تقوم الحياة الاجتماعيّة عليها هي أداء الأمانة.
 
يقول الإمام زين العابدين علي بن الحُسين عليهما السلام: "لو أنّ قاتل أبي الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام ائتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيته إليه"4.
 
وما أكثر الروايات الشريفة التي وردتنا عن أهل بيت النبوّة بشأن الأمانة وأدائها، إلّا أنّنا سننتقي بعض الروايات الّتي تُدلّل على عظمة الأمانة، ووجوب أدائها:
روى مولانا الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس منّا من أخلف بالأمانة"5.
 
وكذلك روى مولانا الإمام محمد بن علي الجواد عليهما السلام عن أبيه عن آبائه الكرام، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحج والمعروف، وطنطنتهم بالليل، انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة"6.



1 سورة النساء، الآية 122.
2 سورة الأحزاب، الآية 72.
3 سورة النساء، الآية 58.
4 الشيخ الصدوق، الأمالي، ص246، طبعة:1، تحقيق ونشر مؤسسة البعثة، قم.
5 الشيخُ مُحمّدْ بن الحسن الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج 19، ص 57 ـ 78.
6 الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه، الأمالي، ص302-303، المجلس الخمسون، طبعة6، كتابجي، طهران.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

11

الوصيّة الأولى: بهذا جاء النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 وروي عنه عليه السلام أنه قال: "ثلاث هنّ زين المؤمن: تقوى الله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة"1.

 
وقال مولانا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "أُقسم لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لي قبل وفاته بساعة مراراً ثلاثا: "يا أبا الحسن أدِّ الأمانة إلى البرّ والفاجر فيما جلّ أو قلّ حتى في الخيط والمخيط"2.
 
وقال أبي كهمس: قلتُ لأبي عبد الله الصادق عليه السلام: عبد الله بن أبي يعفور يُقرؤك السلام، قال: "وعليك وعليه السلام، إذا أتيتَ عبد الله، فأقرأه السلام، وقل له: إنّ جعفر بن محمد يقول لك: انظر ما بلغ به علي عليه السلام عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالزمه، فإنّ عليّاً عليه السلام إنّما بلغ ما بلغ به عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصدق الحديث وأداء الأمانة"3.
 
وديني رعْيُ العهد والود والصفا    فما لي ومُختار الخيانة والغدْر
 
طول السجود
أُمرنا به لما فيه من فضل وكرامة، ومكانة في الانقياد الصادق والكامل للمعبود سبحانه وتعالى، وهو بحدّ ذاته منتهى العبادة، وقد روى ناقل هذه الوصيّة زيد الشحّام عن الإمام أبي عبدالله الصادق عليه السلام فقال: سمعتُه يقول: "أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ الصلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء عليهم السلام، فما أحسن الرجل يغتسل أو يتوضّأ، فيُسبغ الوضوء، ثم يتنحّى حيث لا يراه أنيس، فيشرف عليه وهو راكع أو ساجد. إنّ العبد إذا سجد، فأطال السجود نادى إبليس: يا ويلاه أطاع وعصيت، وسجد وأبيت"4.
 
إنّ المصلّي عزيز عند الله تعالـى لأنّه يضع أشرف وأكرم أعضاء بدنه على التراب عبوديةً لله تعالـى، ويُنكّس جوارحه خاضعاً متذلِّلاً له سبحانه، وقد جاء السجود في كتاب الله تعالى مقترناً بالقرب من الله عزّ وجلّ لذلك قال



1 الآمدي التميمي، غرر الحِكم ودرر الكلم، الفصل السابع في المؤمن صفاته وعلائمه، الحكمة 1558.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص 273.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص104، باب الصدق وأداء الأمانة.
4 م.ن، ج3، ص264، باب فضل الصلاة .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

12

الوصيّة الأولى: بهذا جاء النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 تعالى: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾1، فالمصلّي يلقى من الله الكرامة ظاهراً وباطناً عاجلاً وآجلاً فـي الدنيا والآخرة.

 
حُسن الجوار
قال الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام: "أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً وسلمان، وأبا ذر والمقداد أن يُنادوا في المسجد بأعلى أصواتهم بأنّه: لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه، فنادوا بها ثلاثاً، ثم أومأ بيده إلى كلّ أربعين داراً من بين يديه، ومن خلفه وعن يمينه وعنشماله يكون ساكنها جاراً له"2.
 
وقال الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: "ليس منّا من لم يأمن جاره بوائقه"3، ولأنّ حسن الجوار شعبة من شعب الإيمان بالله واليوم الآخر قال مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فَلْيُحْسِنْ إِلى جَارِهِ"4.
 
وروى الإمام علي الرضا عليه السلام عن آبائه الكرام عليهم السلام عن أمير المؤمنين علي عليه السلام عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنّه سيُورِّثه"5.
 
من حقوق الجار احتمال أذاه: وذلك بأن يُغضيَ عن هفواته، ويتلقّى بالصفح كثيراً من زلّاته، ولا سيّما إساءةً صدرت من غير قصد، أو إساءةً ندم عليها، وجاء معتذراً منها، فاحتمالُ أذى الجارِ ومقابلةُ إساءتِه بالإحسان من أرفع الأخلاق، وأعلى الشيم.ومن وجوه الإحسان إلى الجار: تعزيته عند المصيبة، وتهنئته عند الفرح، وعيادته عند المرض، وبداءته بالسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، ومواصلته بالمستطاع من ضروب الإحسان.



1 سورة العلق، الآية 19.
2 الشيخ المُحدث الحسين بن سعيد الكوفي الأهوازي، الزهد، ص42، باب حق الجوار، حديث رقم 113.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 68، ص 260.
4 أبو القاسم الطبراني، مكارم الأخلاق، ج1، ص388، حديث 211، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
5 الشيخ أبو جعفر مُحمد بن الحسن الطوسي، الأمالي، ص520، المجلس الثامن عشر، طبعة:1، دار الثقافة، قم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

13

الوصيّة الأولى: بهذا جاء النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

 ماذا يريد أئمّة الهدى منّا؟

إنّ هذه الوصيّة العظيمة التي وجّهها الإمام الصادق عليه السلام إلينا يحتاج شرحها لمجلد كامل إذا لم نقل عدّة مجلّدات، وبسبب تعذّر إكمال شرح هذه الوصيّة الجامعة نكتفي بإيراد شطر من توصيات أئمة الهدى عليهم السلام التي وجّهوها إلى شيعتهم ومواليهم، والتي تُبيّن بعضاً ممّا يريده الأئمة المهديّين عليهم السلام منّا:
قال مولانا الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام: "لم تكن بيعتكم إيّاي فلتة، وليس أمري وأمركم واحداً. إنّي أُريدكم لله، وأنتم تُريدونني لأنفسكم. أيّها الناس أعينوني على أنفسكم،.."1.
 
وروي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال لفضيل: "بلّغ موالينا عنّا السلام، وقل لهم إنّي لا أُغني عنكم من الله‏ شيئاً إلاّ بورع، فاحفظوا ألسنتكم وكفّوا أيديكم، وعليكم بالصبر والصلاة إنّ الله‏ مع الصابرين"2.
 
وقال مولانا الإمام الباقر عليه السلام لصاحبه خيثمة: "أبلِغ شيعتنا أنّه لا يُنال ما عند الله إلا بالعمل، وأبلغ شيعتنا أنّ أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره، وأبلِغ شيعتنا أنّهم إذا قاموا بما أُمروا أنّهم هم الفائزون يوم القيامة"3.

وقال عليه السلام لجابر الجعفي: "أيكتفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت، فو الله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشّع والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم والصلاة، والبر بالوالدين، والتعاهد للجيران منالفقراء وأهل المسكنة، والغارمين والأيتام، وصدق الحديث وتلاوة القرآن، وكَفّ الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء..."4.
 
اللهمّ إنّا نُقسم عليك بحقّ محمّد وآل محمّد عليهم السلام أن تمنّ علينا بحقيقة الولاية، وأن توفّقنا للسير على نهج أهل بيت نبيّك عليهم السلام بالقول والعمل.



1 أبن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج9، ص31.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج79، ص232.
3 الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 1، ص 93.
4 الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 74.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

14

الوصيّة الثانية: مصائد الشيطان وشباكه

 نصّ الوصيّة

من جملة ما أوصى به مولانا الإمام أبو عبد الله جعفر بن مُحمد الصادق عليهما السلام صاحبه النجيب عبد الله بن جندب1: "يا ابن جندب، إنّ للشيطان مصائد يصطاد بها، فتحاموا شباكه ومصائده، قال : يا ابن رسول الله، وما هي؟
 
قال: أمّا مصائده، فصدّ عن برّ الإخوان، وأمّا شباكه، فنوم عن أداء الصلاة التي فرضها الله، أما أنّه ما يُعبد الله بمثل نقل الأقدام إلى برّ الإخوان وزيارتهم، ويل للساهين عن الصلوات النائمين في الخلوات المستهزئين بالله وآياته في الفترات2، أولئك الذين لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يُكلّمهم الله يوم القيامة، ولا يُزكّيهم ولهم عذاب أليم"3.



1 عبد الله بن جندب البجلي الكوفي: كان من العُبّاد الزهّاد الثقات، وقد مَنّ الله تعالى عليه بصحبة ثلاثة من أئمة الهدى الصادق والكاظم والرضا عليهم السلام، وكان وكيلاً للإمامين الكاظم والرضا عليهما السلام ذا منزلة رفيعة عندهما، وقد شهد له الإمام الكاظم عليه السلام أنّه من عباد الله المُخبتين، يراجع كتاب الغيبة لشيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ص348، طبعة:1، دار المعارف الإسلامية، قم،وخلاصة الأقوال في معرفة الرجال، العلامة الحلي أبي منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الاسدي، ج1، ص193، طبعة:1، مؤسسة نشر الفقاهة.
2 الفترة: مدة تقع بين زمنين، وقيل الضعف والانكسار، والمراد بها زمان ضعف الدين، والله تعالى أعلم.
3 الفقيه المُحدث الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني، تحف العقول، ص302، طبعة:2، جماعة المدرسين، قم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

15

الوصيّة الثانية: مصائد الشيطان وشباكه

 مقدّمة

إنّ عداوة الشيطان للإنسان ذات جذور عميقة في التاريخ، ضاربة في القدم السحيق إذ نشأت يوم نشأ آدم وحوّاء عليهما السلام، ولذلك يُحذّرهما الله تبارك وتعالى، فيقول: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾1 وقال سبحانه في جليل خطابه: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾2.
 
وقد برزت هذه العداوة للوجود يوم أمر الله ملائكته بالسجود لأبينا آدم عليه السلام ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾3، وعمرت هذه العداوة التي ما مثلها عداوة كلّ هذا التعمير، ورافقتْ وجود الإنسان منذ نشأته الأولى إلى ساعته الحاضرة، وستُرافقه إلى يوم الوقت المعلوم، وقد أوحت (الأنا) للشيطان بهذه العداوة، وكان من نتاجها الحسد الواضح الجلي حينما ردّ على أمر الله له بالسجود! فقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾4.
 
دور الآيات والوصايا في المواجهة
قد جاءت الكثير من الآيات القرآنية مصرّحةً بعداوة الشيطان للإنسان، وبَيّن الله تعالى لنا فيها أنّ هذه العداوة قد اتخذتْ أساليب مختلفة وأشكالاً متباينة، ليتفطّن بنو آدم لمصائد الشيطان وكيده، وغروره وخداعه، وشراكه وأمانيه، ولكن العجب العجاب أنّ أكثر الناس في غفلة



1 سورة الأعراف، الآية 22.
2 سورة يس، الآية 60.
3 سورة الحجر، الآيتان 30-31.
4 سورة الأعراف، الآية 12.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

16

الوصيّة الثانية: مصائد الشيطان وشباكه

 عن تنبّههم لهذه العداوة، بل إنّ الكثير منهم لمنساق بمحض اختياره تحت طوع وإرادة عدوّه.

 
فبالله عليكم ماذا يُقال عن قومٍ يملكون كلّ أسباب القوّة، ويعرفون كلّ أساليب الدفاع والمقاومة، ومع هذا فقد انقادوا لعدوّهم، وسلّموا رقابهم له، وغدتْ إرادتهم خاضعة بطوع اختياره يوجّهها حيث ما شاء! أليس هذا هو عين الجهل ؟ وكي لا تكون هذه المسيرة الجاهلة هي السائدة، وبالتّالي يكون الهلاك عاقبة بني البشر اتخذ أنبياء الله وأوصياؤهم الكرام عليهم السلام من الوصايا والعِبر والمواعظ وسائل تربوية لتنوير العقل والقلب، إذ بهما يعقل الإنسان ويعي أنّ الله قد خلقه حرّاً، فلا يصح أن يكون عبداً لغير بارئه، وفي هذا السياق جاءت وصايا الإمام جعفر بن مُحمد الصادق عليهما السلام لتُخاطب ذوي القلوب الواعية، والنفوس المتطلّعة إلى ما عند الله تعالى، أن يبذلوا جهودهم في تحرير عقولهم، وتطهير نفوسهم من الأفكار السلبية السيّئة التي إذا تبنّاها الإنسان وعمل بها أصبحت أدواء فتّاكة ورذائل خُلقية ملازمة له، ولا تتركه حتى تورده موارد الهلاك في الدنيا والآخرة، فتعالوا نقتبس من هذه الوصايا قبسات لعلّ الله ينوّر بها قلوبنا، ويُبصرّنا حقائق أنفسنا، ويهدينا إلى صراطه القويم ﴿هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾1.
 
برّ الإخوان
قال الإمام عليه السلام: "يا ابن جندب، إنّ للشيطان مصائد يصطاد بها، فتحاموا شباكه ومصائده، قال: يا ابن رسول الله، وما هي؟ قال: أمّا مصائده، فصدّ عن برّ الإخوان، وأمّا شباكه، فنوم عن أداء الصلاة التي فرضها الله".
 
إنّ إمامنا الصادق عليه السلام عندما أوصى ابن جندب بهذه الكلمات كان ماثلاً أمام عينيه قول الله تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾2، وكذلك قول جدّه الإمام زين العابدين عليه السلام: "إنّي لأستحي من ربّي أنْ أرى الأخ من إخواني، فأسال الله له الجنّة، وأبخل عليه بالدينار والدرهم، فإذا كان يوم القيامة قيل لي: لو كانت 



1 سورة التوبة، الآية 51.
2 سورة التوبة، الآية 51.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

17

الوصيّة الثانية: مصائد الشيطان وشباكه

 الجنّة لك لكنتَ بها أبخل وأبخل وأبخل"1.

 
وقد أوصى عليه السلام بهذه الوصيّة وهو يعلم أنّ الكثير من أهل الإسلام لا يطيقون مواساة الإخوان خصوصاً في الأموال، وهو الناقل عن آبائه الكرام عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "ثلاثة لا تُطيقها هذه الأمّة: المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه، وذكر الله تعالى على كلّ حالٍ، وليس هو سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر، فقط، ولكن إذا ورد على ما يحرم خاف الله"2.
 
وقد وَجَّهنا أبو عبد الله الصادق عليه السلام، فقال: "اختبروا إخوانكم بخصلتين، فإنْ كانتا فيهم، وإلاَّ فاعزب ثم اعزب، ثم اعزب، محافظة على الصلوات في مواقيتها، والبر بالإخوان في العسر واليُسر"3.
 
أخي المؤمن أختي المؤمنة: تأمّلوا هذا الحديث الشريف، وانظروا كيف جعل الإمام عليه السلام العلاقة مترابطة بين المحافظة على الصلوات، وبرّ الإخوان وجعل ذلك محلّ اختبار، فإنْ لم تكن هاتان الخصلتان موجودتين، فاعزب ثم اعزب ثم اعزب ـ لماذا؟ إنّ هناك مصائد وشباك للشيطان.
 
نقل الأقدام الى برّ الإخوان
يتابع الإمام عليه السلام فيقول: "أما أنّه ما يُعبد الله بمثل نقل الأقدام الى برّ الإخوان وزيارتهم".
 
إنّ الإمام الصادق عليه السلام كان يحثّ موالي آل مُحمد صلى الله عليه وآله وسلم ويوصيهم بعد تقوى الله تعالى بالبرّ والمواساة للإخوان، ومن ذلك ما أوصى به صاحبه خيثمة الجعفي، فإنّ الرجل روى قائلاً: دخلتُ على أبي عبد الله عليه السلام لأُودّعه، وأنا أريد الشّخوص، فقال: "أبلغ موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأوصهم أنْ يعود غنيّهم على فقيرهم، وقويّهم على 



1 سورة البقرة، الآية 268 .
2 الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج16، ص387، طبعة:1، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم.
3 الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج4، 358، طبعة:2، مؤسسة النشرالتابعة لجماعة المدرسين بقم.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

18

الوصيّة الثانية: مصائد الشيطان وشباكه

 ضعيفهم، وأنْ يشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وأنْ يتلاقوا في بيوتهم، فإنّ في لقاء بعضهم بعضاً حياةً لأمرنا، ثم قال: رحم الله عبداً أحيا أمرنا، يا خيثمة، إنَّا لا نُغني عنهم من الله شيئاً إلّا بالعملِ، وإنّ أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة رجلٌ وصف عدلاً ثم خالف إلى غيره"1.

 
وروى جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعتُه يقول: "إنّ ممّا خصّ الله به المؤمن أن يعرفه برّ إخوانه، وإن قلّ، فليس البرّ بالكثرة، وذلك أنّ الله يقول في كتابه: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ﴾2 ثم قال: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾3، ومن عرّفه الله ذلك، فقد أحبّه الله، ومن أحبّه الله أوفاه أجره يوم القيامة، بغير حساب، ثم قال: يا جميل اروِ هذا الحديث لإخوانك فإنّ فيه ترغيباً للبرّ"4.
 
ويلٌ للساهين عن الصلوات
لقد توعّد الله تعالى المضيّعين للصلاة بالغيّ عندما قال: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾5، كذلك هدّد الله الساهين عن الصلاة بالويل فقال: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾6، لأنّ في الصلاة الكثير من الأسرار والحكم، والمقاصد والغايات التي لا يعقلها هؤلاء فقط بل وللأسف لا يعقلها كثير ممّن يؤدّيها، ومن بين هذه الأسرار والحكم: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾7، حيث إنّ في الصلاة أعمالاً قلبية من نية، واستعداد للوقوف بين يدي الله، وذلك يُذكّر بأنّ المعبود جدير بأن تمتثل أوامره، وتجتنب نواهيه، فكانت الصلاة بمجموعها كالواعظ الناهي عن الفحشاء والمنكر، فإنّ الله قال: ﴿تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، ولم يقل تصد وتحول أي أنّ الصلاة بمنزلة الناهي بالقول إذا قال لا 



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص672.
2 سورة التغابن، الآية 16.
3 سورة الحشر، الآية 9.
4 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص206.
5 سورة مريم، الآية 59.
6 سورة الماعون، الآيتان 4-5.
7 سورة العنكبوت، الآية 45.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

19

الوصيّة الثانية: مصائد الشيطان وشباكه

 تفعل الفحشاء والمنكر، وذلك لأنّ فيها التكبير والتسبيح، والتهليل والقراءة والوقوف بين يدي الله تعالى، وغير ذلك من صنوف العبادة كما قد سلف، وكلّ ذلك يدعو إلى شكله، ويصرف عن ضدّه، فيكون مثل الأمر والنهي بالقول، وكلّ دليل مؤدٍّ إلى المعرفة بالحقّ، فهو داع إليه، وصارف عن الباطل الذي هو ضدّه، وقد قال مولانا الإمام الصادق عليه السلام: "اعلم أنّ الصلاة حجزة الله في الأرض، فمن أحبّ أن يعلم ما أدرك من نفع صلاته، فلينظر فإنْ كانت صلاته حجزته عن الفواحش والمنكر، فإنّما أدرك من نفعها بقدر ما احتجز، ومن أحبّ يعلم ما له عند الله، فليعلم ما لله عنده"1.

 
وروى عليه السلام عن آبائه الكرام عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لكلّ شيء وجه، ووجه دينكم الصلاة، فلا يشينن أحدكم وجه دينه"2.
 
وروى الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "ليس عمل أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من الصلاة، فلا يشغلنّكم عن أوقاتها شيء من أمور الدنيا، فإنّ الله عزّ وجلّ ذمّ أقواماً، فقال: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾3، يعني: أنّهم غافلون استهانوا بأوقاتها"4. وما أكثر السذّج وقصيري النظر الذين حرموا أنفسهم من السعادة الكاملة بالغفلة عن هذا السرّ العظيم في الوجود، سواء من خلال الانغماس في العمل الماديّ أو في أوقات الفراغ والكسل، وأينما حلّوا هووا بأنفسهم في مستنقع الحرمان والإخفاق بشكل أو بآخر5.
 
النائمين في الخلوات
من طبيعة الإنسان أنّه إذا خلى بنفسه أن يكون النوم أحد وسائل راحته، وأسباب لذّته، فهل أراد مولانا الإمام الصادق عليه السلام من الإنسان أن يمتنع عن نومه في خلواته؟



1 الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص236-237، باب معنى ما روي أن الصلاة حجزة الله في الأرض.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج‏3، ص267، باب من حافظ على صلاته أو ضيعها.
3 سورة الماعون، الآية 5.
4 الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج4، ص107، باب وجوب المحافظة على الصلوات في أوقاتها.
5 سماحة الإمام علي الحُسيني الخامنئي دام ظله، من أعماق الصلاة، ص73، طبعة جمعية المعارف الإسلامية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

20

الوصيّة الثانية: مصائد الشيطان وشباكه

 نقول بالتوكّل على الله تعالى: حاشا للبحر الرائق وكنز الحقائق الإمام الصادق عليه السلام أن يطلب ذلك، وخصوصاً أنّه قد أوصى عبد الله بن جندب بكلمات قبل هذه الكلمات التي أوردناها، فقال له : "يا ابن جندب: أقلّ النوم بالليل، والكلام بالنهار، فما في الجسد شيء أقلّ شكراً من العين واللسان، فإنّ أمّ سليمان قالت لسليمان عليه السلام: يا بنيّ إيّاك والنوم، فإنّه يُفقرك يوم يحتاج الناس إلى أعمالهم"1.

 
في هذا النصّ طلب الإمام عليه السلام من المؤمن أن يقلّ النوم في الليل، والكلام في النهار لأنّ العاقل لا ينام إلا بقدر الضرورة، ويجعل نومه وسيلة إلى عبادة أخرى، ولا شكّ أنّ نومه على هذا الوجه عبادة مستندة إلى العقل، ونوم العاقل في الحقيقة معراج له، وهذا غير قوله عليه السلام: "ويل للساهين عن الصلوات، النائمين في الخلوات"2، حيث يظهر أنّ الإمام عليه السلام أراد بقوله هذا: الساهين عن الصلوات. النائمين في الخلوات أي: الذين يُطلقون العنان لأنفسهم، فيرتكبون المعاصي، ويُقارفون الذنوب في الخلوات، ولا يتيقّظون فيرقبون حدود الله تعالى، فشبه هؤلاء القوم بالنُوّم، وهؤلاء بعيدون عن الإيمان لأنّ المؤمن المتيقّظ يُراقب الله تعالى في خلواته، في سرّه، فلا ينتهك حرمة الله، لأنّه يعلم أنّ أعماله مهما دقّت ومهما صغرت، فإنّ الله مطّلع عليها، ولديه يقين وتصديق بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾3، فالواجب على المسلم أن يحذر من ذنوب الخلوات، وليعلم أنّ الله تعالى قد ذمّ من يستخفي بذنبه من الناس، ولا يستخفي من الله، فقال جل شأنه: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾4.
 
ومُراد الإمام عليه السلام بقوله: "ويلٌ ... والنائمين في الخلوات"، أنّ هؤلاء النائمين في الخلوات ويل لهم لم يستفيدوا من تلك الخلوات في تطهير الروح، وتزكية النفس، وتهذيب الخلق، 



1 أبن شعبة الحراني، تحف العقول، ص301.
2 مفردها خلوة: يقال: "..انفرد به في خلوة، ويقال خلا بنفسه، وخلا إليه، وخلا معه انفرد، ويقال اخل بأمرك تفرد به وتفرغ له، واخل معي حتى أكلمك كن معي خاليا.." يراجع المعجم الوسيط، ج1، ص254.
3 سورة الحديد، الآية 4.
4 سورة النساء، الآية 108.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

21

الوصيّة الثانية: مصائد الشيطان وشباكه

 وتقويم السلوك، وتقوية العزيمة الصادقة، والأنس بالله تعالى، فإنّه من كان الله أنيسه في خلواته في الدُّنْيَا، فإنَّه يُرجى أن يكون أنيسه في ظلمات اللحود إذا فارق الدُّنْيَا، والقوم المذكورون لم يستفيدوا من الخلوات في شيء من هذا الفضل العميم، وقد كان من دعاء صاحب هذه الوصيّة في خلواته: "اللهُمَّ هَدَأَتِ الْأَصْوَاتُ وَسَكَنَتِ الْحَرَكَاتُ، وَخَلَا كُلُّ حَبِيبٍ بِحَبِيبِهِ، وَخَلَوْتُ‏ بِكَ أَنْتَ الْمَحْبُوبُ إِلَيَّ، فَاجْعَلْ خَلْوَتِي مِنْكَ اللَّيْلَةَ الْعِتْقَ مِنَ النَّارِ"1.

 
المستهزؤون بالله وآياته في الفترات
إنّ الساهين عن الصلوات سوف ينتقلون من مرحلة النوم في الخلوات إلى حيث يتعدّون حدود الله، ولا يُراقبون الله في أفعالهم، وسوف ينتهي بهم الأمر إلى أن يستهزؤوا بالله وآياته في الفترات حين يضعف الدين ويقلّ ناصروه والمحامون الذّابّون عنه، وما أكثر هذه النماذج في هذا الزمن.ولا داعي للإطالة بالكلام حول هذا الصنف، فإنّ أهل الإيمان يعرفونهم جيّداً، لذلك تراهم يردّون عليهم ما استطاعوا، ويتجنّبون مجالسهم، وقلوبهم تمقتهم، لأنّ حالهم كحال الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾2.
 
وعلى العكس هؤلاء المنافقين الذين ما ربحت تجارتهم، وما كانوا مُهتدين، يأتي المهتدون الذين وصفهم مولانا إمام العارفين وأمير المؤمنين وقائد الغُرّ المحجّلين علي بن أبي طالب عليهما السلام عندما قال: "وما برح للّه عزّت آلاؤه في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات عباد ناجاهم في فكرهم، وكلّمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة في الأسماع والأبصار والأفئدة، يُذكِّرون بأيّام اللّه، ويُخوِّفون مقامه بمنزلة الأدلّة في الفلوات. 



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص594.
2 سورة البقرة، الآيات 14-16.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

22

الوصيّة الثانية: مصائد الشيطان وشباكه

 من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه وبشّروه بالنجاة، ومن أخذ يميناً وشمالاً ذمّوا إليه الطريق وحذّروه من الهلكة، فكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات، وأدلّة تلك الشبهات"1.

 
قرآن ناطق
إنّ مولانا الإمام الصادق عليه السلام وحيث إنّه إمام العترة النبويّة الطاهرة لا يُنازع في ذلك، فهو عدل القرآن وترجمانه، والمُطّلِع على سيرته الميمونة المباركة يعلم أنّ جُلّ كلامه وأجوبته وأمثلته منتزعة من القرآن الكريم، أو استنطاق لمفاهيم آياته الكريمة، فتمعّن في قوله عليه السلام: "ويلٌ للساهين عن الصلوات النائمين في الخلوات المستهزئين بالله وآياته في الفترات، أولئك الذين لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يُكلّمهم الله يوم القيامة، ولا يُزكّيهم ولهم عذاب أليم". ثم تأمّل قول الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْعَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾2.
 
وقوله سبحانه: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾3.
 
ثمّ عُد مرّةً أخرى وتدبّر قول الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ *الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾4، وتأمّل قول الإمام عليه السلام: "أمّا مصائده (الشيطان)، فصدّ عن برّ الإخوان، وأمّا شباكه، فنوم عن أداء الصلاة التي فرضها الله".



1 أبن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج1، ص176، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
2 سورة الماعون، الآيتان 4-5.
3 سورة الجاثية، الآيات 6-10.
4 سورة الماعون، الآيات 4-7.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

23

الوصيّة الثانية: مصائد الشيطان وشباكه

 وبعد تدبّرك لآيات الله، وتأمّلك لقول وليّ الله الصادق عليه السلام ينجلي لك عندها معنىً من معاني قول النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي تارك فيكم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهلبيتي، ولن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"1. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾2، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإيّاكم ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه. 




1 محمد بن عيسى الترمذي، سنن الترمذي، ج5، ص663، حديث رقم 3788، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
2 سورة ق، الآية 37.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

24

الوصيّة الثالثة: بين الصفا والمروة

 نصّ الوصيّة

من جملة ما أوصى به مولانا الإمام أبو عبد الله جعفر بن مُحمد الصادق عليهما السلام صاحبه النجيب عبد الله بن جندب: "يا ابن جندب، الساعي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة، وقاضي حاجته كالمتشحّط بدمه في سبيل الله يوم بدر وأحد، وما عذّب الله أمّة إلاّ عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم"1.
 
وقال عليه السلام لصاحبه النجيب جميل بن درّاج2: "خياركم سمحاؤكم وشراركم بخلاؤكم، ومن صالح الأعمال البرّ بالإخوان والسعي في حوائجهم، وذلك مرغمة للشيطان وتزحزح عن النيران، ودخول في الجنان، يا جميل أخبر بهذا الحديث غُرر أصحابك، قال "جميل" فقلتُ له جُعلتُ فداك، ومن غُرر أصحابي، قال: هم البارّون بالإخوان في اليسر والعسر"3.



1 الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني، تحف العقول، ص303، طبعة:2، جماعة المدرسين، قم.
2 أبو علي جميل بن دراج أبي صبيح بن عبد الله الكوفي مولاهم النخعي: كان من العبّاد الناسكين الخاشعين الساجدين لله جلّ شأنه، وقد مَنّ الله تعالى عليه بصحبة الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام، وهو وجه الطائفة ومقدّمها، وهو من أعيان الثقات وأعلام الرواة، ومن الستّة – في الطبقة الثانية من أصحاب أبي عبد الله الصادق عليه السلام- الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم، وتصديقهم فيما يقولون وأقرّوا لهم بالفقه، يراجع رجال الكشي،محمد بن عمر،ج2، ص471، طبعة: مؤسسة آل البيت عليهم السلام، تحقيق السيد مهدي الرجائي، قم، وخلاصة الأقوال في معرفة الرجال،العلامة الحلي الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي، ج1، ص93، طبعة:1، مؤسسة نشر الفقاهة.
3 الشيخ الصدوق مُحمد بن علي القمي، الخصال، ص96-97، باب 3،حديث 42، طبعة:1، جماعة المدرسين، قم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

25

الوصيّة الثالثة: بين الصفا والمروة

 مقدّمة

الأخوّة الإيمانية خلّة من خلال المتّقين، وخصلة من خصال المهتدين، وهي أعظم الوشائج عند عباد الله الصالحين، ومن أوثق عُرى الإيمان بين المؤمنين، والله عزّ وجلّ يقول في كتابه الكريم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾1، ويقول سبحانه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾2.
 
هذه هي الإخوّة التي أرسى دعائمها مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً"3.
 
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يُسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلمٍ كربة، فرّج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة"4.



1 سورة الحجرات، الآية 10.
2 سورة التوبة، الآيتان 71-72 .
3 أبو القاسم الطبراني، المعجم الأوسط، ج6، ص35، طبعة دار الحرمين، القاهرة، والشعيري محمد بن محمد، جامع الأخبار، ص47، الباب الأول، طبعة:1، المطبعة الحيدرية، النجف، والعلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج58، ص150.
4 الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي، كشف الريبة، ص78-79، الحديث الثاني بإسناده أعلى الله مقامه إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، طبعة:3، دار المرتضوي، قم، وأبو القاسم الطبراني، المعجم الكبير، ج12، ص287، طبعة:2، مكتبة العلوم والحكم، الموصل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

26

الوصيّة الثالثة: بين الصفا والمروة

 كذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "مثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"1. ويُعلّمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه"2.

 
دور الوصيّة في تحقيق لوازم الأخوّة
ينبغي أن يَقيس المؤمن تقواه ومدى إيمانه بمستوى الأخوّة التي تطبع علاقته بالمؤمنين الآخرين، فالإيمان الذي لا يرفع المنتمين إليه إلى حدّ الإخاء، هو إيمان ضعيف وناقص، لأنّ الإيمان الحقيقي يدفع أبناء المجتمع نحو الإحسان إلى إخوانهم وخدمتهم، ومدّ يد العون لهم. وهذا يعدّ من معطياته الاجتماعية الهامّة. لذا كانت مسألة الأخوّة وما تتطلّبه من تعاون وتضامن تتصدّر سلّم الأولوية في اهتمامات أئمّة أهل البيت النبويّ عليهم السلام وتوجهاتهم الاجتماعية، لكونها الضمان الوحيد والطريق الأمثل لإقامة بناء اجتماعي متماسك.
 
لذلك حثّوا مواليهم على تحقيق أعلى درجة من التعاون والتضامن والتعاضد والتراحم فيما بينهم، وذلك عبر العديد من الوسائل منها وصاياهم القيّمة، ومواعظهم البليغة التي كان لها وما يزال دور كبير في إيقاظ النائمين، وتذكير الغافلين، وتحفيز المؤمنين.ومن هذا المنطلق نقل لنا أصحاب المعصومين عليهم السلام هذه الوصايا العظيمة، وقد سبقونا للعمل بمضامينها فنالوا السعادة في الدارين، وكان من هؤلاء النجباء عبد الله بن جندب، وجميل بن درّاج اللذان نقلا لنا عن مولانا الإمام جعفر بن مُحمد الصادق عليهما السلام شطراً من وصاياه الخالدة، فتعالوا نقتبس من هذه الوصايا قبسات لعلّ الله ينوّر بها قلوبنا، ويُبصرّنا حقائق أنفسنا، ويهدينا إلى صراطه القويم: ﴿هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾3.



1 محمد بن سلامة بن جعفر أبو عبد الله القضاعي، مسند الشهاب، ج2، ص283، طبعة:2، مؤسسة الرسالة، بيروت، وعنه العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج58، ص150.
2 الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي، منية المريد، ص190، طبعة:1، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، وقال: ففي صحيح الأخبار، وساق الحديث، وهو مما رواه أبو القاسم الطبراني، المعجم الأوسط، ج8، ص356.
3 سورة التوبة، الآية 51.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

27

الوصيّة الثالثة: بين الصفا والمروة

 الساعي بين الصفا والمروة

من جملة ما أوصى به الإمام الصادق عليه السلام صاحبه عبد الله بن جندب: "يا ابن جندب: الساعي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة".
 
الصفا والمروة موضعان خطت بأقدام المتوكّلة على الله هاجر حليلة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، وقد كان همّها إيجاد شيء من الماء ونقله لتبريد كبد نبي الله إسماعيل عليه السلام، إبّان كان فطيماً، فَخلّدَ الله لها ذلك في قرآن يُتلى آناء الليل وأطراف النهار حيث جعل السعي في مواضع أقدامها شعيرة من شعائره العظيمة، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾1، وقال عزّت آلاؤه: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾2. وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما من بقعة أحبُّ إلى الله من المسعى..."3.
 
وروى الإمام أبو جعفر مُحمد بن علي الباقر عليهما السلام، فقال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لرجل من الأنصار: "إذا سعيت بين الصفا والمروة كان لك عند الله أجر من حجَّ ماشياً من بلاده، ومثل أجر من أعتق سبعين رقبة مؤمنة"4.
 
وروي عن الإمام زين العابدين عليه السلام قال: "الساعي بين الصفا والمروة، تشفع له الملائكة، فتُشفّع فيه بالإيجاب"5، أي أنّها تُقبل شفاعتُهم بإيجاب الله على نفسه في حقّه.
 
هذا بعض ما وردنا عن الهداة المعصومين عليهم السلام في فضل السعي بين الصفا والمروة. وهذه القطرة من ذلك البحر، والشذرة من ذلك البذر كافية وافية في بيان كرم الله تعالى وتفضّله على عباده الساعين بينهما، وليس عزيز على الله تعالى أن يجعل كلّ هذا الثواب لمن سعى في حاجة أخيه المؤمن، وهذا ما بيّنَه الإمام الصادق عليه السلام باستخدامه "كاف



1 سورة البقرة، الآية 158.
2 سورة الحج، الآية 32.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج4، ص434، باب السعي بين الصفا والمروة، طبعة:4، دار الكتب الإسلامية، طهران.
4 أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن، ج1، ص65، ثواب السعي، طبعة:2، دار الكتب الإسلامية، قم.
5 الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، من لا يحضره الفقيه، ج2، ص208، حديث 2168، طبعة:2، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

28

الوصيّة الثالثة: بين الصفا والمروة

 التشبيه" في قوله: "الساعي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة". هذا لمن سعى فقط، ولم يذكر الإمام عليه السلام في هذا الشطر من حديثه هل كان عاقبة هذا السعي قضاء حاجة المؤمن أو عدم ذلك، ولكنّه عليه السلام أوضح عاقبة هذا العمل في حديث آخر قال فيه: "من سعى في حاجة أخيه المسلم فاجتهد فيها، فأجرى الله قضاءها على يديه كتب الله له حجة وعمرة واعتكاف شهرين في المسجد الحرام وصيامهما، فإنْ اجتهد فلم يجر الله قضاءها على يديه كتب الله له حجّة وعمرة"1. وروي عن الإمام أبو جعفر الباقر عليهما السلام قال: "أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أنّ من عبادي لمن يتقرّب بالحسنة، فأحكمه في الجنّة، فقال موسى يا رب ما تلك الحسنة قال يمشي في حاجة أخيه المؤمن قُضيت أو لم تُقض"2.

 
وقد ورد في أحاديث أهل البيت عليهم السلام ما هو صريح بمضاعفة ثواب من يمشي في قضاء حاجة أخيه المؤمن، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "ما من مؤمن يمشي لأخيه المؤمن في حاجة إلاّ كتب الله عزَّ وجلَّ له بكلّ خطوة حسنة، وحطّ عنه بها سيّئة، ورفع له بها درجة، وزيد بعد ذلك عشر حسنات، وشفّع في عشر حاجات"3.
 
ونختم هذا الفصل بحديث معمّر بن خلّاد عن مولانا الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام قال: "إنّ لله عباداً في الأرض يسعون في حوائج الناس، هم الآمنون يوم القيامة، ومن أدخل على مؤمن سروراً فرّحَ الله قلبه يوم القيامة"4.
 
كالمتشحّط بدمه في سبيل الله
ممّا أوحاه الله تعالى لموسى الكليم عليه السلام أنّ قال له: ﴿أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾5، ويوم بدر يوم من أيّام الله حيث نصر الله فيه عبده



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص198، باب السعي في حاجة المؤمن.
2  م . ن، ج2، ص196، باب قضاء حاجة المؤمن.
3  م . ن، ج2، ص192-193.
4  م . ن، ج2، ص197، باب السعي في حاجة المؤمن.
5 سورة إبراهيم، الآية 5.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

29

الوصيّة الثالثة: بين الصفا والمروة

 المصطفى، وصدق وَعده، وأعزّ جنده، وسمّاه يوم الفرقان لأنّه اليوم الذي فرّق الله فيه بين الحقّ والباطل: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾1. وقد استشهد في هذا اليوم العظيم اثنا عشر رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومضوا إلى الله تعالى متشحّطين بدمائهم، أوّلهم ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبيدة بن الحارث رضي الله عنه.

 
كذلك كان يوم أحد يوم الشهادة بأجلى معانيها حيث فاضت أرواح سبعين شهيداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رأسهم سيّد الشهداء حمزة بن عبد المطلب عمّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وقد مضوا إلى الله تعالى متشحّطين بدمائهم، والله ورسوله عنهم راضيان. يُضاف إليهم الشهداء الأحياء، كمولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام، وأبو دجانة الأنصاري2، ونسيبة بنت كعب المازنية أم عمارة3، والنفر الكرام الذين ثبتوا حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يفرُّوا على الرغم من أنّهم أُثخنوا بالجراح التي كانت تشخب دماً، فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إِنَّهُ انْصَرَفَ مِنْ أُحُدٍ وَبِهِ ثَمَانُونَ جِرَاحَةً يُدْخِلُ الْفَتَائِلَ مِنْ مَوْضِعٍ وَيُخْرِجُ مِنْ مَوْضِعٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَائِداً وَهُوَ مِثْلُ الْمُضْغَةِ عَلَى نَطْعٍ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بَكَى، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَجُلًا يُصِيبُهُ‏ هَذَا فِي اللهِ لَحَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ وَيَفْعَل‏"4.
 
فنزل القرآن: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾5.6



1 سورة الأنفال، الآية 41.
2 قال مولانا الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام: "لقد رأيتني يومئذ وإنّي لأذبهم في ناحية، وإنّ أبا دجانة لفي ناحية يذبّ طائفة منهم حتى فرّج الله ذلك كلّه، ولقد رأيتني وانفردتُ منهم يومئذ فرقة خشناء فيها عكرمة بن أبي جهل، فدخلتُ وسطهم بالسيف فضربتُ به واشتملوا عليّ حتى أفضيتُ إلى آخرهم، ثم كرّرتُ فيهم الثانية حتى رجعتُ من حيث جئتُ، ولكن الأجل استأخر ويقضي الله أمراً كان مفعولاً"، يراجع ابن عساكر الدمشقي، تاريخ دمشق، ج25، ص78، طبعة: دار الفكر.
3 محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص304، ترجمة رقم: 4549.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج40، ص114.
5 سورة آل عمران، الآية 146.
6 الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان العكبري، الإختصاص، ص158، طبعة:1، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، قم، والسيد علي بن موسى بن طاووس، سعد السعود، ص112، طبعة:1، دار الذخائر، قم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

30

الوصيّة الثالثة: بين الصفا والمروة

 انطلاقاً من هنا نقول والله الموفّق: بعد أن ذَكّر الإمام الصادق عليه السلام أنّ الساعي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة، عاد واستخدم كاف التشبيه" في قوله: "وقاضي حاجة أخيه كالمتشحّط بدمه في سبيل الله يوم بدر وأحد"، فانظر إلى عظيم كرم الله تعالى، كيف جعل قاضي حاجة أخيه المؤمن كالمجاهد المتشحّط بدمه في سبيل الله يوم بدر وأحد، واعلم أنّ خزائن الله ملأى لا تنقص أبداً، وعطاءه جلّ شأنه لا ينفذ.

 
أفضل من طواف أسبوع
يُعاب على المؤمن، ويأثم إذا أراد أن يتبرَّأ من رباط الأخوَّة الَّذِي جعله الله بين المؤمنين، وأوجب به على بعضهم البعض حقوقاً. لأنّ بالأخذ بهذه الحقوق والتأدّب بها يُحقّق بين المؤمنين الوئام والتآخي والتعافي والتشاد. وممّا يوثق هذه العلاقة ويجعلها سبباً لنيل الأجر، أن تكون لله وفي الله، وأن تكون قائمة على التعاون والتعاضد والتباذل بين الإخوة.
 
وقد ورد عن باقر علوم النبيين عن آبائه الكرام المهديين عن جدّهم سيّد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم من حديث طويل قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ ... فيقول: أين جيران الله في داره؟ فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من الملائكة، فيقولون لهم: ماذا كان عملكم في دار الدنيا فصرتم به اليوم جيران الله تعالى في داره؟ فيقولون: كنّا نتحاب في الله عزّ وجلّ، ونتباذل في الله، ونتوازر في الله عزّ وجلّ. قال: فينادي منادٍ من عند الله: صدق عبادي خلّوا سبيلهم لينطلقوا إلى جوار الله في الجنّة بغير حساب"1.
 
وروى الشيخ المفيد أعلى الله مقامه بسنده المتّصل، عن الإمام الصادق عليه السلام، عن أبائه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المؤمنون إخوة، يقضي بعضهم حوائج بعض، فبقضاء بعضهم حوائج بعض يقضي الله حوائجهم يوم القيامة"2.
 
وروى أبو حمزة الثمالي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من قضى لمسلم حاجة كتب



1 الشيخ أبو جعفر مُحمد بن الحسن الطوسي، الأمالي، ج1،ص100-101، طبعة: مؤسسة الوفاء، وعنه العلامة المجلسي،بحار الأنوار، ج71، ص392، باب 28: التراحم والتعاطف .
2  محمد بن محمد بن النعمان العكبري، الأمالي، ص150، المجلس الثامن عشر، طبعة:1، مؤتمر الشيخ المفيد، قم.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

31

الوصيّة الثالثة: بين الصفا والمروة

 الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات، وأظلّه الله في ظلٍّ يوم لا ظلّ إلا ظلّه"1.

 
كذلك يروي صفوان بن مهران الجمّال، فيقول: كنتُ جالساً مع أبي عبدالله عليه السلام إذ دخل عليه رجل من أهل مكة يُقال له: ميمون، فشكا إليه تعذّر الكراء2 عليه، فقال لي قم فأعن أخاك، فقمتُ معه فيسّر الله كراه، فرجعتُ إلى مجلسي، فقال: أبو عبدالله عليه السلام: ما صنعت في حاجة أخيك؟ فقلتُ: قضاها الله بأبي وأمّي أنت، فقال عليه السلام: "أمّا إنّك أنْ تُعين أخاك المسلم أحبّ إليَّ من طواف أسبوع بالبيت"3.
 
ومن حديث آخر لمولانا الإمام الصادق عليه السلام يقول فيه: "لَقَضاءُ حاجة امرئ مؤمن أفضل من حجّة وحجّة حتى عدّ عشر حجج"4.
 
فهل يملك المؤمن نفسه بعد ما أن يستمع لهذا الحديث، ويؤمن به إلا أن يهرع لقضاء حوائج إخوانه المؤمنين بروحية عالية ونية خالصة، فينال رضا الله تعالى، ويكون من اللاحقين بركب الطيبين الطاهرين الهداة المهديين الذين قال تاسعهم موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام: "إنّ خواتيم أعمالكم قضاء حوائج إخوانكم، والإحسان إليهم ما قدرتم، وإلاّ، لم يقبل منكم عمل، حنّوا على إخوانكم وارحموهم تلحقوا بنا"5.
 
الاستهانة بحقوق الفقراء
قال الله العظيم في كتابه الكريم: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمً﴾6.



1 الشيخ الصدوق محمد بن علي، مصادقة الإخوان، ص54، طبعة:1، مكتبة الإمام صاحب الزمان، الكاظمية.
2 الكراء: أجر المستأجر عليه، وهو في الأصل مصدر كاريته، والمراد بتعذّر الكراء إمّا تعذّر الدابّة التي يكتريها، أو تعذّر من يكتري دوابه بناءً على كونه مكارياً، أو عدم تيسير أجرة المكاري له، وكلّ ذلك مناسب لأن يقوم به صفوان الجمال.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص198، كتاب الإيمان والكفر.
4 الشيخ الصدوق، الأمالي، ص493، المجلس الرابع والسبعون، طبعة:6، كتابجي، طهران.
5 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص379.
6 سورة النساء، الآية 114 .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

32

الوصيّة الثالثة: بين الصفا والمروة

 إنّ الكثير من الأثرياء قد خرجوا عن مدار الأخلاق والإنسانيّة عبر ميلهم الشّديد لجمع المال من خلال سحق حقوق الفقراء التي فرضها الله لهم في أموال الأغنياء. فيقعون من جرّاء ذلك في الظلم والمفاسد الاجتماعيّة بسبب الضّغط على ما في نفوس المحرومين بما يُثقل كاهلهم. والحقّ أنّ هذا التصرّف يُعدّ من عوامل تفشّي الفساد وشيوع الانحرافات بمختلف أشكالها.

 
ولا ينكر أثر هذه العقد الساخطة في تكثير الجرائم وأنواع الانحرافات إلا أعمى البصر والبصيرة، ولكي لا تسود هذه الحالة المذمومة في المجتمع الإسلامي وتتمدّد إلى دائرة الموالين لأهل بيت النبيّ تصدّى لها أئمّة الهدى عليهم السلام بنصوص مقتبسة ومأخوذة من مشكاة الوحي، وهذه النصوص تأخذ بعنق كلّ موالي ومحبّ لأهل بيت النبوّة عليهم السلام، لأنّ حديثهم عليهم السلام هو كما قال الإمام الصادق عليه السلام: "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ"1، ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾2.
 
ومن جملة منظومة أحاديث الأئمة المعصومين عليهم السلام قول الإمام الصادق عليه السلام في وصيّته لعبد الله بن جندب: "وما عذّب الله أمّة إلاّ عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم". وقوله عليه السلام في وصيّته لصاحبه النجيب جميل بن درّاج: "خياركم سمحاؤكم وشراركم بخلاؤكم، ومن صالح الأعمال البرّ بالإخوان والسعي في حوائجهم، وذلك مرغمة للشيطان وتزحزح عن النيران، ودخول في الجنان، يا جميل أخبر بهذا الحديث غُرر أصحابك، قال جميل: فقلتُ له جُعلتُ فداك، ومن غُرر أصحابي، قال: هم البارّون بالإخوان في اليسر والعسر"3.
 
وقد عدّ أهل البيت عليهم السلام أداء حقّ المؤمن من أفضل العبادات، فقال الإمام الصادق عليه السلام: "ما عُبد الله بشيء أفضل من أداء حقّ المؤمن"4.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص51.
2 سورة الكهف، الآية 29.
3 الشيخ الصدوق مُحمد بن علي القمي، الخصال، ص96-97، باب 3، حديث 42، طبعة:1، جماعة المدرسين، قم.
4 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص170، كتاب الإيمان والكفر، طبعة:4، دار صعب، بيروت.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

33

الوصيّة الثالثة: بين الصفا والمروة

 فساد ذات البين، وحالقة الدين

قد يستغرب بعض الذين سوف يقرؤون الصفحات الماضية من عظيم الثواب الذي قد ورد فيها للساعين في قضاء حوائج إخوانهم، وللقاضين تلك الحوائج، وقد يستغرب البعض أيضاً من قول الإمام الصادق عليه السلام: "وما عذّب الله أمّة إلاّ عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم"، على الرغم من أنّ الإمام عليه السلام انطلق في كلامه من حثّ الشرع الحنيف على نفع الإخوان وخصوصاً الفقراء منهم، وقضاء حوائجهم، والسعي إلى تفريج كرباتهم، وذلك تحقيقاً لدوام المودّة، وبقاء الألفة، وزيادة في روابط الأخوّة، فإنْ لم يحصل ذلك ماذا ستكون العاقبة؟ ستضيع المودّة، وتسود الفرقة، وتنقطع روابط الأخوّة وينفرط عقدها، وقد يقول البعض وماذا يعني ذلك؟ نقول له: هذا هو فساد ذات البين بعينه، فهل تعلم ما هي عاقبته؟
 
اقرأ العاقبة في وصيّة الإمام الذي حبّه إيمان وبغضه نفاق، فإنّه قد قال: "إنّي أُوصيك يا حسن، وجميع أهل بيتي، وولدي، ومن بلغه كتابي بتقوى الله ربّكم ولا تموتُنّ إلّا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا، فإنّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلميقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام، وأنّ المُبيرة الحالقة1 للدين فساد ذات البَيْن، ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم"2.
 
وفي الختام: نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإيّاكم ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.



1 الحالقة: الخصلة التي من شانها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما تستأصل الموسى الشعر.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج7، ص51.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

34

الوصيّة الرابعة صحيفة البصر

 نصّ الوصيّة

من جملة ما أوصى به مولانا الإمام أبو عبد الله جعفر بن مُحمد الصادق عليهما السلام صاحبه النجيب عبد الله بن جندب الكوفي أن حكى له وصيّة السيّد المسيح عليه السلام لأصحابه عندما حذّرهم قائلاً: "وإيّاكم والنظرة فإنّها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره في قلبه، ولم يجعل بصره في عينه، لا تنظروا في عيوب الناس كالأرباب، وانظروا في عيوبهم كهيئة العبيد، إنّما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا المبتلى، واحمدوا الله على العافية"1.



1 الفقيه المُحدث أبن شعبة الحراني، تحف العقول، ص305، طبعة:2، جماعة المدرسين، قم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

35

الوصيّة الرابعة صحيفة البصر

 مقدّمة

صاحب الموعظة والوصيّة التي سنتشرّف بخدمتها هو روح الله وكلمته التي ألقاها إلى البتول العذراء مريم ابنة عمران عليهما السلام، ورابع أولي العزم من الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم سيّدنا المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام الذي جاء داعياً إلى الله تعالى من لحظة إطلالته على الوجود حين نادى1 أمّه المصطفاة الطاهرة: ﴿مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾2، وكان عليه السلام يسير في سبيل الدعوة إلى الله سيراً حثيثاً "يتوسّد الحجر ويلبس الخشن ويأكل الجشِبَ، وكان إدامُهُ الجوع، وسِراجُهُ بالليل القَمَر، وظِلالُهُ في الشتاء مشارِقُ الأرضِ ومغارِبُها، وفاكهتُهُ وريْحانُهُ بالليل ما تُنْبِتُ الأرضُ للبهائم، ولم تكن له زوجة ٌ تَفْتِنُهُ، ولا وَلَدٌ يُحْزِنُهُ، ولا مالٌ يَلْفِتُهُ، ولا طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دابَّتُهُ رجْلاه، وخادمهُ يداه"3.
 
وأمّا وصيّته المباركة، فكانت للحواريّين الذين قال لهم: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾4، أوصاهم بها كي يأخذوا العبرة من مضامينها، ومن ثم ينقلوها إلى سائر الأمم، فيُخاطبوا بها ذوي القلوب الواعية، والنفوس المتطلّعة إلى ما عند الله، في أن يبذلوا جهودهم من أجل تحرير عقولهم، وتطهير نفوسهم، وقد 



1 يقول أكثر المفسِّرين إنّ الذي ناداها من تحتها هو عيسى المسيح أو جبريل عليهما السلام، وعلّل بعضهم هذا القول بأن الفاعل مستتر، وقال آخرون إنّ الذي نادها هو جبرائيل عليه السلام لأنّ العذراء عليه السلام لحظة ولادتها كانت أعلى الأكمة، وجبريل عليه السلام كان تحتها أسفل الأكمة، ولكن من تأمّل الآيات الواردة في هذا الشأن العظيم يعلم أنّ كلام جبريل قد خُتم بما نقله الله تعالى عنه: ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾، وجاء بعده قول الله سبحانه: ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا﴾ ومن استنطق سياق الآيات التي أتت بعد هذه الآية المباركة، وأعاد الضمائر إلى الآية السالفة الذكر يجزم أنّ الذي نادى البتول العذراء من تحتها هو ولدها العظيم عيسى المسيح عليه السلام.
2 سورة مريم، الآية 24.
3 من كلام مولانا الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام، يراجع شرح نهج البلاغة، ج9، ص229، ومن خطبة له عليه السلام رقم 161.
4 سورة الصف، الآية 14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

36

الوصيّة الرابعة صحيفة البصر

 وصلت إلينا هذه الوصيّة المباركة عبر الرجل النجيب عبد الله بن جندب، وهو قد نقلها لنا عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق، وهو الذي إذا أردنا أن نُسلّم عليه أو على أحد من آبائه الطيّبين الطاهرين قلنا السلام عليك يا وارث عيسى روح الله.

 
إيّاكم والنظرة
لقد زوّد الله تعالى الإنسان بالعين ليعرف طريقه إلى العالم المحيط به، وهي من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الخلائق، ولكن قد يُسيء الإنسان الاستفادة من هذه العين، فيقع في ظلمات كفران النعم، وذلك حين يُصرّ على أن يُبصر بهذه العين ما يُغضب الجبّار جلّ جلاله، فيعصيه بنعمه بدل أن يشكره عليها. وربما يتغافل أو يغيب عنه أنّ الله تعالى يقول وقوله الحق: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾1.
 
فمن يفتح عينه في الحرام يُعمي الله بصيرته عن الحقّ، لأنّ الجزاء من جنس العمل، ومَن غضّ بصره فتح الله بصيرته، ومن أطلق بصره أغلق الله بصيرته، وطمس على قلبه والعياذ بالله، والله تعالى يقول: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾2. نعم إنَّ الله خبير بما يصنعون يرى أعمالهم مهما دقّت وصغُرت، ويعلم حركاتهم وسكناتهم، ومطَّلع عليها لا يغيب عنه شيء منها: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾3.
 
وقد روي عن حكيم الأمّة الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: "من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته"4. هذا من كرمت عليه نفسه، وأمّا من هانت عليه نفسه، وكانت بدايته اتباع الهوى، فسوف تكون نهايته الذلّ والبلاء المتبوع بحسب ما أتبَع هواه، 



1 سورة الإسراء، الآية 36.
2 سورة النور، الآية 30.
3 سورة الحديد، الآية 4.
4 عبد الواحد بن محمد الآمدي التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص637، طبعة: دار الكتاب الإسلامي، قم، وابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج20، ص99، والعلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص13.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

37

الوصيّة الرابعة صحيفة البصر

 ويصير له ذلك عذاباً يُلازم قلبه، وقديماً قد قيل:

مآرب كانت في الشباب لأهلها          عِذاباً فصارت في المشيب عَذاباً
 
ومن المأثور من سيرة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ترحّمه على من يُسيطر على شهوته، ويقمع نفسه، فيقول عليه السلام: "فرحم اللّه رجلاً نزع عن شهوته، وقمع هوى نفسه، فإنّ هذه النّفس أبعد شيء منزعاً، وإنّها لا تزال تنزع إلى معصية في هوى"1.
 
مصحف البصر
إنّنا نتحدّث عن موضوع مهمّ قد ابتُلي به الكثير من الناس، وهو مَدّ العين بالنظر إلى ما حرّم الله تعالى، وقد ارتأينا أن نبدء هذا الفصل الهام بما روي عن مولانا الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: "القلب مصحف البصر"2، وقد سُمِّيَ المُصْحَفُ مُصْحَفاً لأنَّه أُصْحِفَ، أي جُعِلَ جامعاً للصُّحُف المكتوبة بين الدَّفَّتَيْن3، وأصبح علماً على القرآن الكريم، فيُقال قرأتُ المصحف ...
 
وأحد وجوه معنى قول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "القلب مصحف البصر" هو: أنّ القلب صحيفة ينتقش فيه ما يُدرك بالبصر، فالإدراك البصري يقع بالقلب والبصر آلية له، فكأنّ البصر قلم يرسم المحسوسات في صحيفة القلب4.
 
وممّا يجدر الإشارة إليه مطلوب منّا أن نتدبّر المصحف الشريف القرآن الكريم"، وما يحتويه من آيات، وكذلك يتوجّب علينا أن نُراقب ما يرِد عليه من أفكار ومفاهيم في كلّ زمان، فإمّا أن نوافق عليها ونتبنّاها، أو نردّها ونُفندها، فلماذا لا نُكلّف أنفسنا بتدبّر ما احتواه القلب من صور، وبمراقبة ما يرد عليه من أفكار وواردات وصور جديدة، وبالتّالي الرضى بها أو ردّها من حيث أتت. وإنّ أيّ شخص قادر بما آتاه الله تعالى على أن يقوم 



1 ابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج10، ص16.
2 م.ن، الحكمة 409، الآمدي التميمي، غرر الحكم ودرر الحكم، ج1، ص273، والعلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج71، ص328 .
3 الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي، العين، ج2، ص120، طبعة دار ومكتبة الهلال.
4 حبيب الله الهاشمي الخوئي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج21، ص489، طبعة المكتبة الإسلامية، طهران.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

38

الوصيّة الرابعة صحيفة البصر

 بمفرده بعمليّات مراقبة وفرز، وتنظيم وتقويم للأفكار الواردة على القلب، وبالتّالي إلغاء موافقات قديمة على استخدام أفكار قلبية1 سابقة، وكلّ ذلك دون أن يُطلع أو يَطلِع أحد على ما يُجريه في داخله، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "من رعى قلبه عن الغفلة، ونفسه عن الشهوة، وعقله عن الجهل، فقد دخل في ديوان المتنبّهين"2.

 
النظرة تزرع في القلب الشهوة
ممّا تسالم عليه العقلاء في كلّ زمان أنّ النظر الحرام أصل كثير من المصائب التي يقع فيها الناس، وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: "عمى البصر خير من كثير النظر"3.
 
وأنت تعلم أيّها القارئ الكريم أنّ أيّ معصية من اللمم قد يفعلها الإنسان، وينتهي أثرها، لكن النظرة الحرام ليست كذلك، فلا ينتهي أثرها، إذ ليست القضية أنّك عندما تنظر إلى تلك الفتاة أو عندما تنظر الفتاة إلى ذاك الشاب تكتب عليهما سيّئة وينتهي الأمر عند هذا الحد، نعم هي سيّئة تُكتب عليهما وسيُحاسبان عليها، فإنْ شاء الله عفا عنهما بكرمه، أو عاقبهما بعدله لكن هناك ثمّة سؤال يطرح نفسه، وهو: هل تقف القضية عند هذا الحد؟
 
الجواب لا، فإنّ هذه النظرة يعقبها ما بعدها، فأنت تنظر النظرة ويزول أمامك من قد نظرت إليه، وفيما بعد يبدأ الشيطان بتحريك هذه الصورة في الذهن ويُزيّن صورة المنظور، ويجعله صنماً يعكف عليه القلب، ثم يعِدهُ ويُمنِّيه، ويوقد على القلب نار الشهوات، ويُلقي حطب المعاصي التي لم يكن يتوصّل إليها بدون تلك الصورة، ومن ثم تتدرّج الحالة إلى التفكير الطويل الذي يأسر لُبّ هذا الشاب أو تلك الفتاة، فيوصلهم إلى مرحلة تستولي فيها عليهم الشهوات، فيبحثوا عن سُبل قضائها، فإنْ قضوها فيما حرّم الله، وقعوا في المعصية 



1 قال مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام: "العقول أئمّة الأفكار، والأفكار أئمّة القلوب، والقلوب أئمّة الحواسّ، والحواسّ أئمّة الأعضاء.." يراجع محمد بن علي أبو الفتح الكراجكي، كنز الفوائد، ج1، ص200، الطبعة 1: دار الذخائر، قم.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج70، ص68 .
3 الآمدي التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص464، والعلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج74، ص284.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

39

الوصيّة الرابعة صحيفة البصر

 التي تُغضب الباري سبحانه وتعالى، ووقوعهم في هذه المعصية يُسهّل لهم ما بعدها، ثم بعد ذلك يتدرّج بهم الأمر أكثر من السابق حتى يهويان في وادٍ سحيق، كان بدء السقوط فيه تلك النظرة العابرة التي كانت باباً عريضاً لمعصية الله عزَّ وجلَّ، وأعمت القلب عن الإبصار الحقيقي، ولذا ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "العيون طلائع القلوب".

كلّ الحوادث مبداها من النَّظَرِ                ومعظمُ النار مِن مستصغَر الشَّرَرِ
كم نظرةٍ فَتَكَتْ في قلب صاحبها            فَتْكَ السهامِ بِلا قوسٍ ولا وَتَر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها                    في أعين الغيد موقوف على الخطرِ
يَسُرُّ مقلتَه ما ضَرَّ مهجتَه                       لا مرحباً بسرور جاء بالضَّرَرِ
 
كفى بها لصاحبها فتنة
إنّ غلبة الشهوة على عقل الإنسان، وقلبه تجعله يتخبّط في مستنقع آسن يصعب الخروج منه، وقد أطلق الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وصفاً غير محمود على ذلك الإنسان الذي حَمّلَ قلبه دوام الحسرات، وأتعب عقله إلى يوم الممات عندما أذن لتلك الصورة التي التقطتها النظرة الحرام أن تنطبع في عقله وقلبه، وبالتّالي أضحت فكرة - شهوة - تُبنى عليها جملة من الأفكار السلبية، وذلك من اللحظة التي جعلها صاحبها جزءاً من منظومته الفكرية. وقد نَبَّه الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى خطورة هذا الأمر، وذلك فيما روي عنه عليه السلام: "من أطلق ناظره أتعب حاضره، ومن تتابعت لحظاته دامت حسراته"1.
 
ولأنّ العلاقة بين الشهوة والنظرة علاقة مترابطة متينة لا تنفكّ أبداً كان أخطر شيء



1 محمد بن محمد الشعيري، جامع الأخبار، ص93، الفصل الحادي والخمسون في النظر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

40

الوصيّة الرابعة صحيفة البصر

  على القلب إطلاق العنان للنظر؟! فالنظرة تُكلّم القلب كلماً بليغاً، وأكثر ما تدخل المعاصي على العبد من هذا الباب، وقد روي عن مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة، فمن تركها من خوف الله أثابه جلّ وعزّ إيماناً يجد حلاوته في قلبه"1، والنكتة في إطلاق لفظ السهم على النظر هي تأثيره في قلب الناظر وإيمانه، كتأثير السهم الخارجي في الغرض، ومن هنا أُطلق عليه زنا العين2.

 
فيا طرف قد حذّرتك النظرة التي     خلست فما راقبت نهياً ولا زجراً
ويا قلب قد أرداك طرفي مرة          فويحك لم طاوعته مرّة أخرى
 
ومن تأمّل كيف تزرع النظرة في القلب الشهوة، عَرف كيف ستُشغل القلب وتُنسيه مصالحه، فتُفسد الإيمان وتُنسي الآخرة والحساب، فينفرط على صاحب ذلك القلب أمرُه، ويقع في مرديات اتباع الهوى والغفلة، والحسرات، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾3.
 
روي عن مولانا الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: "إذا أبصرتْ العين الشهوة عمي القلب عن العاقبة"4، ولا يغيبنّ عنكم قول سيّدنا المسيح عليه السلام: "وإيّاكم والنظرة فإنّها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة، .."، ونختم هذا الفصل بما رواه الإمام الصادق عليه السلام عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد لم يره"5.



1 محمد بن محمد الشعيري، جامع الأخبار، ص145، الفصل السابع والمائة، والحاكم في المستدرك، ج4، ص249.
2 السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الفقاهة، ج1، ص214، المطبعة الحيدرية، النجف.
3 سورة الكهف، الآية 28.
4 الآمدي التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص285.
5 الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان، الإختصاص، ص233.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

41

الوصيّة الرابعة صحيفة البصر

 مضغة الجسد

القلب معدن المعرفة، ولذلك قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾1، وقال عزّت آلاؤه: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾2، والقلب لغة: خالص الشيء وشريفه، قلب الإنسان وغيره، سُمّي به لأنّه أخلص شيء فيه وأرفعه. وخالص كلّ شيء وأشرفه قلبه3.
 
وجاء في وصيّة النبيّ الأكرم مُحمد صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه: "إنّ الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"4، وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "قلوب العباد الطاهرة مواضع نظر الله سبحانه، فمن طهّر قلبه نظر الله إليه"5.
 
وقال الإمام الصادق عليه السلام: "اعلم: أنّ منزلة القلب من الجسد بمنزلة الإمام من الناس الواجب الطاعة عليهم، ألا ترى أنّ جميع جوارح الجسد شرط للقلب وتراجمة له مؤدّية عنه"6.
 
لأجل ما تقدّم يُمكننا القول إنّ الله تعالى قد جعل مدار السعادة أو الشقاوة على القلب، فإذا لم يتعهّده صاحبه بذكر الله تعالى ومراقبته، ودوام الخشية منه، فإنّ الشهوات سرعان ما تتسرّب إليه، وتبدأ بوادر المرض تغزوه بواسطة المعاصي والذنوب والمخالفات فيمرض القلب ويفسد، وإذا فسد صار مهبط الظلم الذي يحدث صاحبه بباطلات يغيب عنها الرشد، وينتفي معها السعد، وقد ورد في الحديث النبويّ المرويّ عن النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ألا وإنَّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدَت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب"7، وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "أشدّ من مرض البدن مرض القلب، وأفضل من صحّة البدن تقوى القلوب"8.



1 سورة ق، الآية 37.
2 سورة الحج، الآية 32.
3 أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، ج5، ص 17، طبعة دار الفكر 1979 م.
4 الشيخ الطوسي أعلى الله مقامه، الأمالي، ص 536، الطبعة 1: دار الثقافة، قم.
5 الآمدي التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 501، طبعة دار الكتاب الإسلامي، قم.
6 الشيخ الصدوق أعلى الله مقامه، علل الشرائع، ج‏1، ص109، باب علة الطبائع والشهوات والمحبات.
7 أحمد بن الحسين بن علي الخرساني البيهقي، السنن الصغير، ج2، ص237، طبعة:1، جامعة الدراسات الإسلامية، كراتشي، باكستان، والعلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج‏58، ص23، باب حقيقة النفس والروح وأحوالهما.
8 ابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج‏19، ص337، طبعة 1 : مكتبة المرعشي النجفي، قم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

42

الوصيّة الرابعة صحيفة البصر

 القلب البصير

إذا مُلئ القلب إيماناً وتصديقاً وفقهاً وإدراكاً لمراد الله، ومراد الذين عصمهم الله عليهم السلام صار القلب مهبط الوحي والأسرار والأنوار، وأخبر صاحبه بما وراءه وأمامه، ونبّهه على أمور لم يكن ليعلمها بشيء دونه يعرف ذلك صاحب كل قلب صالح ذكي ألهمه الله صحة الفراسة الناتجة عن استنارة القلب، والتي يصير القلب فيها بمنزلة المرآة المجلوة حيث تظهر فيها المعلومات كما هي، هذا وقد روي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إذا أراد الله بعبد خيراً فتح عيني قلبه، فيُشاهد بها ما كان غائباً عنه"1، وقال حفيده الإمام زين العابدين علي بن الحُسين عليهما السلام: "إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له العينين اللتين في قلبه، فأبصر بهما الغيب في أمر آخرته، وإذا أراد غير ذلك ترك القلب بما فيه"2.
 
وهذا ما يُطلق عليه نور عين البصيرة، والذي يتّصل بقضاء الغيب اتصال الشعاع بالزجاجة الصافية حال مقابلتها إلى فيضه، ثم ينصرف نوره منعكساً بضوئه على صفاء القلب، ثم يترقّى ساطعاً إلى عالم العقل فيتّصل به اتصالاً معنوياً له عظيم الأثر في استفاضة نور العقل على ساحة القلب، فيُشرق القلب، وعندها يرى ما خفي عن الأبصار موضعه، ودقّ عن الأفهام تصوّره، واستتر عن الأغيار مرآه، ولا غرابة فإنّ الأمر كما روى مولانا الإمام الصادق عليه السلام عن جدّه أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "وأنّ قلوب المؤمنين مطوية بالإيمان طيّاً، فإذا أراد الله إنارة ما فيها فتحها بالوحي، فزرع فيها الحكمة زارعها وحاصدها"3، وقد قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾4، وقال تعالى: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾5.



1 محمد بن زين الدين بن أبي جمهور، عوالي اللئالي، ج4، ص116، حديث 183، طبعة:1، دار سيد الشهداء للنشر، قم.
2 الشيخ الصدوق محمد بن علي، الخصال، ج1، ص240، حديث رقم 90، طبعة:1، جماعة المدرسين، قم.
3 عبد الله بن جعفر الحميري، قرب الإسناد، ص34-35، طبعة:1، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم.
4 سورة محمد، الآية 17.
5 سورة آل عمران، الآية 198.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

43

الوصيّة الرابعة صحيفة البصر

 فطوبى لمن جعل بصره في قلبه، فإنّه من الذين عناهم الله بقوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾1، على عكس من جعل بصره في عينه، فإنّه يُصيب به حلالاً وحراماً، وقد يعوّده على الحرام والعياذ بالله، وعندها تطبع مرآة بصيرة قلبه بتراكم صدأ الغفلة عن الربّ عزّت آلاؤه، فتتوارى وجوه الحقائق عن بواطن الإفهام، ويمتنع عنها آنذاك إنفاذ نور الإلهام، ولمثل هذا والله أعلم قال السيد المسيح عليه السلام: "طوبى لمن جعل بصره في قلبه، ولم يجعل بصره في عينه" هذا كلامه عليه السلامبعين لفظه، فأمعن النظر فيه، وفيما تلوناه عليك من كلام النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام تجده قد صدر من مشكاة واحدة: ﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُزَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾2.

 
النظر في عيوب الناس
"لا تنظروا في عيوب الناس كالأرباب"، تحذير أطلقه روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم عليها السلام، ومن الملاحظ أنّ السيّد المسيح عليه السلام قد استخدم في هذه الفقرة من وصيّته لفظ "الأرباب"، وكأنّه يريد الذين نزعت أرواحهم إلى دعوى الربوبية بسبب محبّتهم للعلوّ على غيرهم من الخلق، أو أنّه عليه السلام أراد أصحاب العبيد الذين ملكوهم بالاسترقاق أو عبر النخاسة، والله تعالى أعلم بمراد السيّد المسيح عليه السلام، ولكنّنا ذكرنا هذين الاحتمالين لأنّنا نعلم أنّ السيّد المسيح وإخوانه الكرام من أنبياء الله ورسله عليه السلام قد أخبرونا أنّ الله كتب على نفسه الرحمة، وقد روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لمّا رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض: أشرف على رجل على معصية من معاصي الله، فدعا عليه فهلك، ثم أشرف على آخر، فذهب يدعو عليه، فأوحى الله إليه: أن يا إبراهيم إنّك رجل مستجاب الدعوة، فلا تدع على عبادي، فإنّهم



1 سورة الرعد، الآية 29.
2 سورة النور، الآية 35.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

44

الوصيّة الرابعة صحيفة البصر

 منّي على ثلاث: إمّا أن يتوب فأتوب عليه، وإمّا أن أُخرج من صلبه نسمة تملأ الأرض بالتسبيح، وإمّا أن أقبضه إليّ، فإنْ شئتُ عفوتْ، وإن شئتُ عاقبتْ"1.

 
إنّ الله تعالى قد كتب على نفسه الرحمة للمبتلى والمعافى من خلقه، وهو جلّ شأنه يُمهل ولا يُهمل، على عكس الذين يُراقبون الناس ويحصون عليهم عيوبهم، ويستعلون ويتكبّرون عليهم، ولا يُقيمون وزناً للآخرين، ويُسارعون إلى محاكمتهم ومحاسبتهم، فهؤلاء هم من حذّرنا ونهانا السيّد المسيح عليه السلام أن لا ننظر إلى عيوب الناس كنظرتهم حيث إنّ نظرهم هذا مزلّة قدم لا ينزلق فيها إلا جاهل، وخذ إليك مثالاً ما جرى مع سحرة فرعون، وأمرهم لم يكن غائباً عن سيّدنا المسيح عليه السلام عندما أوصى بهذه الوصيّة، فإنّهم قبل لحظات من مواجهتهم وتحدّيهم لكليم الله موسى عليه السلام كانوا لا همّ لهم إلا المال: ﴿وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾2، فماذا يقول من يتسرّع في الحكم عليهم؟ سيقول هؤلاء كذا وكذا، وينعتهم بأبشع الأوصاف، ويصدر عليهم أقسى الأحكام، والحقّ أنّهم ما إنْ عرفوا الحقّ حتى وقعوا سجّداً، وهم يقولون: ﴿آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾3، فتأمّل قولهم لما تهدّدهم وتوعّدهم فرعون قائلاً: ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾4، ردّ عليه هؤلاء الأولياء بقولهم: ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾5.
 
الناس مبتلى ومعافى
ثم وجّهنا السيّد المسيح عليه السلام قائلاً: "وانظروا في عيوبهم كهيئة العبيد، إنّما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا المبتلى، واحمدوا الله على العافية"، والنظر في عيوب الناس كهيئة



1 جلال الدين السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، ج3، ص302، طبعة دار الفكر، بيروت.
2 سورة الأعراف، الآيتان113-114.
3 سورة طه، الآية 70.
4 سورة طه، الآية 71.
5 سورة طه، الآيتان 72-73.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

45

الوصيّة الرابعة صحيفة البصر

 العبيد يوجب الستر عليهم، ورحمتهم، والاستفادة من هذا النظر بأخذ العبرة ممّا ابتلوا به، فبعد أنْ نحمد الله تعالى على أنْ عافانا ممّا ابتلى به غيرنا، يجب علينا أن نسعى لإصلاح عيوب أنفسنا، وقد رُوي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "طوبى لمَن منعه عيبه عن عيوب المؤمنين"1، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك"2، أي: ليمنعك عن أذى الناس والنظر في عيوبهم. ما تعلمه من نقصك في حقّ نفسك، وأنّك في حاجة إلى إصلاحها، فعليك أنْ تشتغل بهذا عن النظر إلى عيوب الناس، وقد أجاد القائل:

إذا شئتَ أن تحيا ودينك سالم      وحظُّك موفور وعرضك صَيِّنُ
لسانك لا تذكُرْ به عورة امرئ        فكلُّك عورات وللناس ألسُنُ
وعينك إن أبدتْ إليك مساوئاً        فصُنْها وقل يا عينُ للناس أعينُ
 
وفي الختام نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإيّاكم ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج8، ص169.
2 الشيخ الصدوق، الخصال، ج2، ص526، والشيخ الطوسي، في الأمالي، ص541.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

46

الوصيّة الخامسة تاج المكارم

 نصّ الوصيّة

من جملة ما أوصى به مولانا الإمام أبو عبد الله جعفر بن مُحمد الصادق عليه السلام صاحبه النجيب عبد الله بن جندب أن قال له: "يا ابن جندب، صل من قطعك، وأعط من حرمك، وأحسن الى من أساء إليك، وسلّم على من سبّك، وأنصف من خاصمك، واعف عمّن ظلمك كما أنّك تُحبّ أن يعفي عنك، فاعتبر بعفو الله عنك، ألا ترى أنّ شمسه أشرقت على الأبرار والفجّار، وأنّ قطره ينزل على الصالحين والخاطئين"1.



1  الفقيه المُحدّث الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني، تحف العقول، ص305، طبعة:2، جماعة المدرسين، قم.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

47

الوصيّة الخامسة تاج المكارم

 الأسوة الحسنة

إنّ مكارم الأخلاق في دين الله عظيم شأنها عالية مكانتها، ولذلك دعا الله تعالى أهل الإسلام إلى التحلّي بها وتنميتها في نفوسهم، وقد نالت العناية الفائقة الكبرى، والمنزلة العالية الرفيعة في كتاب الله عزّ وجلّ، وسنّة النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من أهل بيته  عليهم السلام، وإنّ المتأمّل في التعاليم التي جاء بها الإسلام يجد أنّ القسم الأكبر منها يهدف إلى تنظيم علاقة الناس بعضهم ببعض، ووضع الأطر لهذه العلاقة، وفي ذلك دلالة واضحة على أنّ هذه العلاقة بذاتها قيمة سامية في الشريعة الإسلامية، وتنظيم هذه العلاقة على أسس متينة وقواعد رصينة، يدخل ضمن مصاديق هذه القيمة، ولأنّ أنبياء الله تعالى من أوّلهم إلى خاتمهم المصطفى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة من أهل بيته  عليهم السلام أفضل من دعا إلى الله تعالى بأخلاقهم الكريمة الحميدة وصفاتهم الحسنة، فحاجة المؤمن إلى الاقتداء بهم أعظم من حاجته للطعام والشراب والهواء، قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾1.
 
ولقد استخدم أنبياء الله تعالى وصفوة رسله وأئمّة الهدى المعصومون  عليهم السلام كلّ ما هيّئهم بارئهم به لتربية وتزكية نفوس أهليهم وأصحابهم، وأتباعهم ومريديهم في السير والسلوك لنيل مقام القرب، ورضا الرب، وإنَّ من أهمّ الطرق التي استخدموها في هذا الشأن العظيم تربية الفضائل في النفوس، والإرشاد إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ومعالي الأمور، وسُبل التقوى لما لذلك من آثار جليلة في الدنيا والآخرة أكَّدتها الآيات القرآنية الكريمة، والروايات الشريفة كما أسلفنا، فضلاً عن أنّ الأخلاق الكريمة تدعو إليها 



1 سورة الأحزاب، الآية 21.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

48

الوصيّة الخامسة تاج المكارم

 أصحاب الفطر السليمة، والعقلاء يُجمعون على أنّ الصدق في كلّ المواطن والوفاء بالعهد، والجود والصبر والشجاعة، ونصرة المظلوم وبذل المعروف أخلاق كريمة فاضلة يستحقّ صاحبها الثناء والتكريم والتبجيل، وأنّ الكذب والعُجب والكِبر، والغدر والجبن والبخل أخلاق سيّئة يُذمّ صاحبها ويُنبذ.

 
صلاح ذات البين هو الأصل
في كلّ زمان من الأزمنة يوجد أناس يتصوّرون، ويصوّرون لأهل الإسلام أنّ الأخلاق الحميدة محصورة في الكلمة الطيّبة والمعاملة الحسنة فقط. ولبيان خطأ هؤلاء القوم لا بد من توضيح الأمر عبر استشارة أئمّة العترة1 النبويّة الطاهرة الذين بيّنوا أنّ مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال أوسع من ذلك بكثير.
 
فهي تعني إضافة إلى الكلمة الطيّبة والمعاملة الحسنة، التواضع وعدم التكبّر ولين الجانب، واحترام الكبير، ورحمة الصغير، ودوام البشر، وحسن المصاحبة، وصدق الحديث وأداء الأمانة وإصلاح ذات البين، والصبر والحلم والصدق والوفاء، ... وغير ذلك من الأخلاق الحسنة، والأفعال الحميدة التي حثّ عليها الإسلام ورغب فيها، والإمام الصادق  عليه السلام وكونه إمام المسلمين ووراث النبيّ الأمين صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يكون صلاح ذات البين هو الشائع داخل المجتمع الإسلامي، ويريد من المؤمن الذي يتحلّى بما ذكرناه من مكارم الأخلاق أن يفوز بكرائم الدنيا والآخرة لذلك بادر بإيصائه في أن "يصِل من قطعه، ويُعطي من حرمه، ويُحسن إلى من أساء إليه، ويُسلّم على من سبّه، ويُنصف من خاصمه، ويعف عمّن ظلمه".
 
وقال  عليه السلام: "إنّ اللّه تبارك وتعالى أوجب عليكم حبّنا وموالاتنا، وفرض عليكم طاعتنا. ألا ، فمن كان منّا فليقتد بنا، وإنّ من شأننا الورع والاجتهاد، وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر، وصلة الرحم وإقراء الضيف، والعفو عن المسيء، ومن لم يقتدِ بنا فليس منّا، وقال: لا تسفهوا فإنّ أئمّتكم ليسوا بسفهاء"2.



1 أحد معانيها: العين الصافية.
2 الشيخ المفيد، الإختصاص، ص241.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

49

الوصيّة الخامسة تاج المكارم

 صِل من قطعك

إنّ تهذيب المسلمين وتربيتهم تربية صالحة كما يريدها الله تعالى كان همّ الأئمة من أهل البيت  عليهم السلام. فكانوا يبذلون قصارى جهدهم في تعليم أهل الإسلام أحكامه الشرعية، وتلقينهم المعارف المحمّدية، وكانوا يُعرّفون المسلم المؤمن ما له وما عليه كي يبقى في ساحة رحمة الله تعالى، وألا يخرج منها إلى ساحة الشيطان. وهذا الإمام الصادق  عليه السلام يوجّه كلّ مسلم، فيقول له بقول مطلق: "صِل من قطعك"، مع أنّ الذي يتبادر إلى أذهان أكثر الناس أنّ الصلة تكون تلقائياً لمن وصلك، وتكون أيضاً للأرحام لأنّها تُزكّي الأعمال وتُنمّي الأموال وتدفع البلوى وتُيسّر الحساب وتُنسئ في الأجل، فلماذا طلب حفيد الرسالة في قوله هذا أن نصل كلّ من قطعنا سواء كان من الأقارب أو الأباعد؟
 
طلب منّا ذلك كي نبقى في ساحة رحمة الله تعالى، وألّا نخرج منها إلى ساحة الفاسقين الخاسرين كما تقدّم. وبيان ذلك في ما قاله الله سبحانه، فتأمّله وتدبّره، فإنّه عزّت آلاؤه يقول: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾1، ويقول تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾2، وإنّ من تأمّل هذه الآيات يجد أنّ القطيعة صفة من صفات الفاسقين، ومصاحبة لنقض عهد الله وميثاقه، وقرينة الفساد في الأرض لا تفترق عنه. وأنّ عاقبة من يعمل بها الخسران واللعنة وسوء الدار. بينما نجد الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل قد وصفهم الباري بأجمل صفات أهل الإيمان وأوجبَ لهم سكنى الجِنان، فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ 



1 سورة الرعد، الآية 25.
2 سورة البقرة، الآيتان 26-27.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

50

الوصيّة الخامسة تاج المكارم

 * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾1، ولأهمّية هذه الوصيّة تركها مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإمام أمير المؤمنين علي  عليه السلام في قائم سيفه، وقد وجدها الإمام لمّا ضمّ إليه سلاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم، روى ذلك الحسين ذو الدمعة2 ابن حليف القرآن زيد الشهيد، عن الإمام جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه، عن علي  عليهم السلام قال: وجدتُ في ذؤابة أو علاقة سيفه صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أحرف: "صِل من قطعك، وقل الحق ولو على نفسك، وأحسن إلى من أساء إليك"3.

 
وأعطِ من حرمك
هذه الكلمة دعوة من الله ورسوله نقلها لنا الإمام الصادق  عليه السلام، يوجهنا بها إلى الإحسان لأن الإحسان هو الدين كله، وتكليفنا يكمن في أن نحسن عبادتنا، ونحسن صنعتنا، ونحسن علاقاتنا، ونحسن إلى كل من حولنا نحسن كما أحسن الله إلينا، فإذا أحسنت إلى أحد، ولم يقابل إحسانك بإحسان، أو لم يشكرك أو أساء إليك. لا ترغب عن الإحسان إليه وإلى غيره بسبب الكفران، فإنه إذا لم يشكرك فقد يشكرك غيره، ولو لم يشكرك أحد، فأنت تعد أحد المحسنين، والله تعالى يحب المحسنين كما نطق بذلك الكتاب المبين، فأنت ممن يحبهم الله تعالى، وكفي بذلك شرفاً وفضلاً على عملك بخير خلائق الدنيا، فقد روى الإمام الصادق  عليه السلام فقال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته: "ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا 



1 سورة الرعد، الآيات 19-22.
2 يكنى أبا عبد الله، ويُلقّب ذا الدمعة لكثرة بكائه، وهو من كبار رجالات العترة النبويّة الطاهرة، قد شهد حرب محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن ثم توارى، وكان مقيماً في منزل الإمام جعفر بن محمد الصادق  عليه السلام، والإمام  عليه السلام هو الذي تولّى تربية الحُسين ذي الدمعة منذ شهادة أبيه، وأخذ عن الإمام الصادق  عليه السلام علماً كثيراً، فلما لم يذكر فيمن طُلب من قِبل سلطات بني العباس ظهر لمن يأنس به من أهله وإخوانه، ثم ظهر بعد ذلك بالمدينة ظهوراً تامّاً إلّا أنه كان لا يُجالس أحداً، ولا يدخل إليه إلّا من يثق به، يراجع مقاتل الطالبيين لأبو الفرج المرواني الأموي الأصبهاني، ج1، ص331، طبعة: دار المعرفة، بيروت، بتصرف.
3 أبو سعيد أبن الأعرابي أحمد بن محمد بن زياد بن بشر بن درهم البصري، معجم أبن الأعرابي، ج2، ص744، حديث رقم 1507، طبعة: 1، دار ابن الجوزي، وروى هذا الحديث أيضاً حافظ بغداد ومسندها عثمان بن أحمد أبو عمرو بن السماك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

51

الوصيّة الخامسة تاج المكارم

 والآخرة. العفو عمن ظلمك، وأن تصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك، وفي التباغض الحالقة1 لا أعني حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين"2.

 
روى أحمد بن عيسى العلوي، قال قال لي جعفر بن محمد  عليه السلام: "إنّه ليعرض لي صاحب الحاجة، فأُبادر إلى قضائها، مخافة أن يستغني عنها صاحبها، ألا وإنّ مكارم الدنيا والآخرة في ثلاثة أحرف من كتاب الله عزّ وجلّ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْعَنِ الْجَاهِلِينَ﴾3، وتفسيره أن تصل من قطعك، وتعفو عمّن ظلمك، وتُعطي من حرمك"4.
 
عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: سمعته يقول: "إذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثم يُنادي منادٍ: أين أهل الفضل؟ قال: فيقوم عنق من الناس فتلقاهم الملائكة فيقولون: وما كان فضلكم؟ فيقولون: كُنّا نصل من قطعنا ونُعطي من حرمنا ونعفو عمّن ظلمنا، قال: فقال لهم: صدقتم ادخلوا الجنّة"5.
 
وأحسن إلى من أساء إليك
إنّ من أسباب السعادة أن تعفو عمّن ظلمك، وتُعطي من حرمك، وتُحسن إلى من أساء إليك، فإنّ العفو والصفح يُنقّي القلب من الغيظ والحقد والعداوة، كذلك الصفح والتجاوز يُطهّر القلب، ويجلب له السعادة والمسرّات، فلا يُسَرّ الإنسان وقلبه ممتلئ غيظاً وحقداً، والله تعالى يقول في مُحكم كتابه: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ 



1 قال الإمام أمير المؤمنين علي  عليه السلام في وصيته: "إنّي أُوصيك يا حسن، وجميع أهل بيتي، وولدي، ومن بلغه كتابي بتقوى الله ربّكم ولا تموتُنّ إلّا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا، فإنّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام، وأنّ المُبيرة الحالقة للدين . فساد ذات البَيْن، ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم"، يراجع الشيخ الكليني، الكافي، ج7، ص51.
2 الشيخ المفيد، الأمالي، ص181، والشيخ المُحدث الحسين بن سعيد الكوفي الأهوازي، الزهد، ص15، باختلاف ألفاظ.
3 سورة الأعراف، الآية 199.
4 الشيخ الطوسي، الأمالي، ص644.
5 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص108، والشيخ المُحدث الحسين بن سعيد الكوفي الأهوازي، الزهد، ص93.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

52

الوصيّة الخامسة تاج المكارم

 إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾1. فتأمّل كيف أعطاهم شرف النسبة إليه سبحانه مثلما قال: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾2،  وَقُلْ ﴿لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.

 
فإذا جاءك إنسان، فقال لك: فلان قد أساء إليك ويقول فيك كذا وكذا، فهناك حسن، وهناك أحسن، ولم يقل الله: قولوا حسنى، بل أمر: بأن يقولوا التي هي أحسن "أفعل التفضيل"، وهذا ممّا يدلّ على أنّ عباد الله حقّاً لا يُبادلون الإساءة بالإساءة، مع أنّ الحقّ لك إذا أساء الغير، أن تردّ الإساءة بالإساءة، ولكن الأحسن أنّ ترد الإساءة بالإحسان: ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾3.
 
هذا ويُعلّمنا مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم درساً عظيماً في ردّ الإساءة بالإحسان، وذلك في اليوم العصيب الذي شخبت فيه جراحاته وكسرت رباعيته، وقُتل عمّه سيّد الشهداء حمزة رضوان الله عليه، ومع كلّ ما أصابه من الأذى لم يزد على أن قال: "اللهم اغفر لقومي، فإنّهم لا يعلمون"4، فتأمّل كيف لم يمنعه سوء صنيعهم به عن إرادته الخير وطلب المغفرة لهم.
 
وإليك نموذج من عباد الله الذين أدّبهم هذا النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، فكان من الرجال الذين لا تهزّهم إساءة، ولا تستفزّهم جهالة، لأنّ لغو السفهاء يتلاشى فى رحابهم كما تتلاشى الأحجار في أغوار البحر المحيط، عنيتُ أبا ذر الغفاري رضي الله عنه، فقد شتمه رجل ذات يوم، فقال له أبو ذر: "يا هذا لا تغرق في شتمنا، ودع للصلح موضعاً، فإنّا لا نُكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نُطيع الله فيه"5.
 
إنّ المؤمن ذو قلب رحيم، عطوف حنون يُسامح ويكظم الغيظ، ويعفو عن الناس وإن أساؤوا، ويحترمهم وإن أهانوا، والمؤمن أسمى من أن يصدر عن غيظ، وينطلق عن غضب أو حقد، وكيف يعرف قلبه الأحقاد، وقد تمكّنت فيه هداية الله وحبّ المؤمنين؟



1 سورة الإسراء، الآية 53.
2 سورة الفرقان، الآية 63.
3 سورة فصلت, الآية 34.
4 أبو القاسم الطبراني، المعجم الكبير، ج6، ص120، حديث 5694، طبعة:2، مكتبة العلوم والحكم، الموصل.
5 أبو سعد منصور بن الحسين الآبي، نثر الدر، ج2، ص55، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت، ومحمد بن مفلح الصالحي الحنبلي، الآداب الشرعيَّة، والمنح المرعيَّة، ج2، ص11، طبعة: عالم الكتب، والتذكرة الحمدونية، وغيرهم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

53

الوصيّة الخامسة تاج المكارم

 وسلّم على من سبّك

لقد ضرَب الله لنا فى كتابه العزيز نماذج مِن حلم رسله الكرام وسعة صدورهم في مواجهة ما لاقوه من سباب وإيذاء وابتلاء من قَومهم، قال تعالى عن نَبيّه هُود  عليه السلام: ﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَومِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِى سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوم لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّى وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾1.
 
صوَّرت لنا هذه الآيات جزءاً من مقدار الحلم الذى اتصف به نبيّ الله هود  عليه السلام، وسعة صدره الشريف، حيث لم يعبأ بهذا السباب، وبهذه السخرية والشتائم، ولم يطش لها حلمه، بل قابل هذه الشتائم والسباب والسخرية بأن دعى أصحابها إلى الله، ووضَّح لهم مهمّة رسالته، ونصحهم وبَيَّن لهم أنَّه أمين على ذلك.
 
والإمام الصادق  عليه السلام عندما أوصى بهذه الوصيّة المباركة "وسلّم على من سبّك" فإنّه كان وما زال يريد منّا أن نكون من عباد الله السالكين مسالك الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولأنّ تبادل السباب ونشوب الخلاف غير المحمود يؤدّي إلى انتشار العداوة بين أهل الإسلام بذلك أخبرنا النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه عنه حفيده الإمام أبو جعفر الباقر  عليه السلام حين قال: إنّ رجلاً من بني تميم أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أوصني، فكان فيما أوصاه أن قال له: "لا تسبّوا الناس، فتكتسبوا العداوة بينهم"2، وكي لا يحصل ذلك وَجَّهَنا الإمام الصادق  عليه السلام بقوله: "وسلّم على من سبّك" لنكون من العاملين بقول سبحانه: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾3



1 سورة الأعراف، الآيات 66-68.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص360. 
3 سورة فصلت، الآية 34.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

54

الوصيّة الخامسة تاج المكارم

 وأنت أيّها القارئ الكريم إذا تأمّلت قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: "سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر"1، فإنّك ستجد السباب صورة من صور الظلم الذي يكون باللسان، وهو من أكثر أنواع الظلم شيوعاً، والإمام الصادق  عليه السلام عندما وَجَّهَنا بقوله: "وسلّم على من سبّك" لا يريد لأحد من أهل الإسلام أن ينخرط في صفوف الظالمين، وعلاوة على ذلك يريد منّا أن نكون أولى الخلق بالله ورسوله، وفي مقدّمة الحاصلين على الأجر الجزيل والفضل العميم، فإنّه  عليه السلام قد قال: "البادئ بالسلام أولى بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم"2.

 
وأنصف من خاصمك
إنّ الاعتراف بالحقّ وإعلانه أيضاً لا يُنقص من قيمة الإنسان، فكونك تقول ولو في مناظرة، أو محاورة، أو محاضرة: أنا أخطأتُ في كذا، هذا لا يُعيبك، بل بالعكس هذا يرفع منزلتك عند الناس، ويدلّ على شجاعتك وقوّتك، وثقتك بنفسك، والله تعالى يقول: ﴿َولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾3. فما أروع أن يكون الإنسان منصفًا لخصمه، فإذا وقع هو في خطأ سهل عليه الاعتراف به، وإذا كان دليله ضعيفًا اعترف بذلك، والرجوع إلى الحقّ خير من التمادي في الباطل، والإنصاف أمر عظيم يطلبه الشرع ويحثّ عليه، والإمام الصادق  عليه السلام عندما وَجَّهَنا بقوله: "وأنصف من خاصمك" كان يعلم أنّ إنصاف الخصم شيء عزيز بين الناس، فلا يتحلّى به منهم إلا القليل، ولكنّه  عليه السلام يريد من كلّ مسلم أن يُجاهد نفسه ليكون المستفيد الأكبر من ذلك، فيستفيد الإنسان المنصف البراءة أمام الله، وكذلك يستفيد من حالة شعوره بأنّه قد أدّى ما عليه، ويستفيد أيضاً فراراً محموداً، وهو الفرار من الظلم والإجحاف بالغير، هذه كلّها مكاسب لا تُقدّر بثمن عند المؤمنين الشرفاء من أبناء الأمة الإسلامية.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص360.
2 م.ن، ج2، ص645.
3 سورة المائدة، الآية 8.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

55

الوصيّة الخامسة تاج المكارم

 ومن الجدير ذكره أنّ للانصاف والايثار دوراً كبيراً في خلق الأجواء الروحية والنفسية لنموّ حركة التربية، حيث يرتبط الناس روحياً وعاطفياً بمن يتّصف بهاتين الصفتين، ويشعرون بأنّ المربّي أو المصلح غاية في الكمال والتسامي، وأنّه عادل في تعامله مع الآخرين وفي تقييمهم، وبهذا الشعور وبهذا الانشداد يجد المربّي لرأيه ولإرشاده قبولاً، وهو مقدّمة أساسية للتربية والإصلاح.

 
واعف عمّن ظلمك
لا شكّ ولا ريب أنّ من صبر على الأذى وعفى عمّن ظلمه يكون قد فعل أمراً مشكوراً، وفعلاً حميداً، له عليه ثوابٌ جزيل، وثناءٌ جميل، والله تعالى يقول: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾1 أليس لك في هذا عوض؟ فانظر في كتاب الله تعالى وتأمّل الأجر الذي أعدّه الله للمتّقين، فضلاً عن أنّ عفو المظلوم مريحٌ لقلبه في هذه الحياة الدنيا، والله تعالى يقول: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾2، وقد عبّر مولانا الإمام أمير المؤمنين علي  عليه السلام عن العفو بتعبيرٍ يُبيّن فيه أنّ العفو والصفح له المقام الأسنى بين الفضائل الأخلاقية، فقال  عليه السلام: "العفو تاج المكارم"3، والتاج كما هو معلوم علامة العظمة والعزّة، وهو زينة الملوك حيث يوضع على أشرف موضع من بدن الإنسان وهو الرأس.
 
قال الإمام الصادق  عليه السلام: "العفو عند القدرة من سنن المرسلين والمتّقين، وتفسير العفو أن لا تلزم صاحبك فيما أجرم ظاهراً، وتنسى من الأصل ما أصبت منه باطناً، وتزيد على الاختيارات إحساناً، ولن يجد إلى ذلك سبيلاً إلاّ من قد عفى الله عنه، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وزيّنه بكرامته وألبسه من نور بهائه، لأنّ العفو والغفران صفتان من صفات الله عزّ وجلّ أودعهما في أسرار أصفيائه ليتخلقّوا مع الخلق بأخلاق خالقهم وجعلهم كذلك. قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ



1 سورة البقرة، الآية 237.
2 سورة الشورى، الآية 43.
3 التميمي الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص36، وعلي بن محمد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص19، طبعة:1، دار الحديث، قم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

56

الوصيّة الخامسة تاج المكارم

 اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾1، ومن لا يعفو عن بشر مثله، كيف يرجو عفو ملك جبّار"2.

 
كلّ مؤمن يعلم أنّ الدنيا هيّنة على الله، ومن هوانه عليه جلّ شأنه أنّها لو كانت تساوي عنده جناح بعوضة لما سقى الكافر شربة ماء، ولكن ألا ترى أنّ شمسه أشرقت على الأبرار والفجّار، وأنّ قطره ينزل على الصالحين والخاطئين، فما الفائدة في أن نجعل هذا القلب الصغير يحمل كلّ ألوان البغضاء والعداوات، ونحن نملك أن نملأه بالذكر والمحبّة والوفاء، وسلامة القلب، وطيب الأنفس، فاعفوا أيّه المؤمن واعتبر بعفو الله عنك.



1 سورة النور، الآية 22.
2  مصباح الشريعة، منسوب للإمام الصادق  عليه السلام ص158-159، طبعة:1، مؤسسة الأعلمي، بيروت.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

57

الوصيّة السادسة: هوان الدنيا

 نصّ الوصيّة

من جملة ما أوصى به مولانا الإمام أبو عبد الله جعفر بن مُحمد الصادق عليهما السلام صاحبه النجيب عبد الله بن جندب أن قال له: "يا ابن جندب، إنْ أحببت أن تُجاور الجليل في داره، وتسكن الفردوس في جواره، فَلْتَهُنْ عليك الدنيا، واجعل الموت نصب عينيك، ولا تدّخر شيئاً لغدٍ، واعلم أنّ لك ما قدّمتَ، وعليك ما أخّرتَ"1.



1 الفقيه المُحدث الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني، تحف العقول، ص304، طبعة:2، جماعة المدرسين، قم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

58

الوصيّة السادسة: هوان الدنيا

 مقدّمة

الحمد للّه الذي جعل البلايا تمييزاً للطيّبين عن الخبيثين‏، ونكالاً للظالمين، وجعل تقلّبات الأحوال، اختباراً لطويّات الرجال، فمن دار فناء وزوال، قد مُلئت بالهموم والغموم، وعجّت بالمحن والآلام، إلى ارتحال وانتقال، ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ﴾1. فالشقيّ من غرّته ولم يعتبر بمن سكنها قبله من الماضين، الذين كانوا أطول أعماراً، وأبقى آثاراً، وأبعد آمالاً، والسعيد من اعتبر بها، واستفاد من تجاربها، فصغُرت في عينه وهانت عليه، وأحبّ مجاورة الجليل‏ في‏ داره‏، وسكنى الفردوس في جواره، وصلّى اللّه على أشدّ الناس ابتلاءً، وأكثرهم صبراً على إيذاء، وأوفرهم شكراً على ما جرى به القضاء، محمّد وآله الأوصياء الأصفياء، الحجج على العباد، والهادين للرشاد ﴿أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾2.
 
كلّنا يعلم أنّ الراحة التامّة، والسعادة الدائمة، لن تكون إلا في الدار الآخرة، دار الخلود والبقاء، وأمّا هذه الدنيا، فدار ابتلاء وشقاء، ومن أجل ذلك كان عيش الإنسان فيها مشقّة في مشقّة، ولولا ما فيها من رحمة الله، وعبادة الله، واللجوء إليه، والاستئناس والاطمئنان بذكره، لما أطاق المؤمن البقاء فيها، ولله جلّ شأنه في ذلك حكمة بالغة، إذ لو صفت الدنيا لأهلها من الأكدار والأخطار لاطمأنّوا بها، وركنوا إليها، ولما اجتهدوا في الأعمال الموصلة إلى دار النعيم والخلود المقيم، ولكن الاجتماع في هذه الدنيا مآله إلى الفراق، فراق الجميع بلا استثناء، جاء جبرائيل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: "يا محمد، عش ما شئت فإنّك ميت، وأحبب 



1 سورة آل عمران، الآية 140.
2 سورة البقرة، الآية 157.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

59

الوصيّة السادسة: هوان الدنيا

 ما شئت، فإنّك مفارقه،.."1، وقال مولانا أمير المؤمنين  عليه السلام:

 
المَوتُ لا وَالِداً يُبقي وَلا وَلَداً               هَذا السَبيلُ إِلى أَن لا تَرى أَحَدا
كانَ النَبِيُّ وَلَم يَخلُد لِأُمَّتِهِ                  لَو خَلَّدَ اللَهُ خَلقاً قَبلَهُ خَلَدا
لِلمَوتِ فينا سِهامٌ غَيرُ خاطِئَةٍ               مَن فاتَهُ اليَومَ سَهمٌ لَم يَفُتهُ غَدا
 
جيران الله تعالى
في الفقرة الأولى من هذه الوصيّة المباركة يقول مولانا الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق  عليه السلام: "إنْ أحببتَ أنْ تُجاور الجليل في داره، وتسكن الفردوس في جواره..."، وهذه دعوة من الإمام  عليه السلام ليس مثلها دعوة، وقد ترك لنا الخيار في أن نستجيب لها أو لا نستجيب، ثم ما الذي يتوجّب علينا إن أجبنا هذه الدعوة؟ ولكن قبل الإجابة على هذا السؤال ألا ينبغي لنا أن نتعرّف على قائمة المدعوّين الكرام، ومكان هذه الدعوة المباركة؟ إنّ المدعوّين، هم جيران الله تعالى، ويكفيهم شرفاً ومنزلة أن أُضيفوا إلى ذاته العليّة، ونُسبوا إليها تفخيماً وتعظيماً لهم، كما قيل للحُجَّاج زُوَّار الله، ومن ذلك ما كان يقوله جدّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هاشم بن عبد مناف، فإنّه كان إذا حضر الحاج قام في قريش خطيباً، فقال: "يا معشر قريش إنّكم جيران الله وأهل بيته، وإنّه يأتيكم في موسمكم هذا زوّار الله تبارك ذكره يُعظّمون حرمة بيته، وهم أضيافه وأحقّ الناس بالكرامة، فأكرموا أضيافه وزوّار كعبته"2.



1 الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج1، ص472، باب ثواب صلاة الليل .
2 أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري، أنساب الأشراف، ج1، ص60، طبعة:1، دار الفكر، بيروت.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

60

الوصيّة السادسة: هوان الدنيا

 دار الله تعالى

مكان الدعوة: دار البقاء ودار السلامة. لا موت فيها، ولا هرم، ولا سقم، ولا مرض، ولا آفة، ولا زوال‏، ولا زمانة، ولا غمّ، ولا همّ، ولا حاجة، ولا فقر. وأنّها دار الغنى، والسعادة، ودار المقامة والكرامة، لا يمسّ أهلها فيها نصب، ولا يمسّهم فيها لغوب‏1، لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، وهم فيها خالدون‏. وأنّها دارٌ أهلها جيران‏ اللّه‏، وأولياؤه، وأحبّاؤه، وأهل كرامته‏2، وكلّ نعت للجنّة جاء في كتاب الله تعالى، فهو وصف لهذه الدار، وقد قال الإمام أمير المؤمنين  عليه السلام: "واعلموا أنّ من يتّق الله يجعل له مخرجاً من الفتن ونوراً من الظلم، ويُخلّده فيما اشتهت نفسه، ويُنزله منزل الكرامة عنده في دار اصطنعها لنفسه، ظلّها عرشه، ونورها بهجته، وزوّارها ملائكته، ورفقاؤها رسله"3.
 
من أعمال جيران الله؟
روى الإمام أبو جعفر الباقر عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ثمّ يُنادي منادٍ من عند الله عزّ وجلّ يسمع آخرهم كما يسمع أولهم: أين جيران الله جلّ جلاله في داره، فيقوم عنق من الناس، فتستقبلهم زمرة من الملائكة، فيقولون: ماذا كان عملكم في دار الدنيا فصرتم به اليوم جيران الله في داره؟ فيقولون: كنّا نتحاب في الله عزّ وجلّ، ونتباذل في الله، ونتزاور في الله تعالى، قال: فينادي منادٍ من عند الله تعالى: صدق عبادي خلّوا سبيلهم لينطلقوا إلى جوار الله في الجنّة بغير حساب. قال: فينطلقون إلى الجنّة بغير حساب"4.
 
وروى أبو حمزة الثمالي، فقال: قال لي علي بن الحسين عليهما السلام: "إذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثمّ يُنادي منادٍ: أَيْنَ جِيرَانُ‏ اللهِ‏ فِي دَارِهِ، فَيَقُومُ عُنُقٌ آخَرُ مِنَ النَّاسِ، فَتَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: بِمَ جَاوَرْتُمُ اللهَ؟ فَيَقُولُونَ: (كُنَّا 



1 العبارة اشارة إلى الآية 35 من سورة فاطر.
2 الشيخ الصدوق محمد بن علي، إعتقادات الإمامية، ص76، طبعة:2، مؤتمر الشيخ المفيد، قم.
3 ابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج10، ص116، طبعة:1، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم.
4 الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، الأمالي، ص103، طبعة:1، دار الثقافة، قم.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

61

الوصيّة السادسة: هوان الدنيا

 نَتَبَادَرُ فِي اللهِ‏) نَتَبَاغَضُ فِي اللهِ، وَنَتَحَابَبُ فِي اللهِ، وَ(نَتَشَارَكُ‏) نَتَبَاذَلُ فِي اللهِ، وَنُحَاسِبُ فِي اللهِ، وَنَتَبَارَكُ فِي الله"1. تبيّن من خلال هذين الحديثين الشريفين أنّ أعمال هؤلاء الملأ الكرام كلّها بسم الله، ومن الله، وإلى الله، وفي سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 
هوان الدنيا على المؤمن
في هذا القسم من الوصيّة الشريفة يُحدّد الإمام الصادق  عليه السلام بعض المعايير والشروط اللازمة لإجابة الدعوة الكريمة، والظفر بذلك المقام السامي، فيقول  عليه السلام في هذا الصدد: إنْ أحببتَ أن تجاور الجليل في داره، وتسكن الفردوس في جواره، فَلْتَهُنْ عليك الدنيا،.. إذاً هذا هو الشرط الأوّل لحضور الدعوة، والإمام  عليه السلام أراد من المؤمن عبر وضع هذا الشرط أن يكون فيه سنّة من الله تعالى، وذلك أنّ الدنيا هيّنة على الله تعالى، ومن هواها عليه جلّ شأنه أنّها لو كانت تساوي عنده جناح بعوضة لما سقى الكافر شربة ماء، والسؤال المطروح هاهنا كيف يتم هذا الشرط الذي وضعه الإمام الصادق عليه السلام؟
 
يُجيب عن معرفة تمام هذا الشرط مولانا الإمام أمير المؤمنين علي  عليه السلام فيقول: "من كرم دينه عنده هانت الدنيا عليه"2، وقال عليه السلام "ما كرمت على عبد نفسه إلا هانت الدنيا في عينه"3. ولا ننسَ كذلك نتاج التفكّر السليم، فإنّ من تفكّر أبصر الحقّ وطرقه الموصلة إليه، وهانت‏ الدنيا وما فيها عنده لما رأى من كثرة انقلابها على أهلها وعدم الوفاء لهم، فيحصل له كمال الميل الى المولى الحقّ، وغاية الخشوع والطاعة له والشوق الى لقائه لعلمه بأنّ الوصول الى الدرجة العليا، والبلوغ الى السعادة العظمى، والتخلّص عن أهوال العقبى، والتقرّب الى مقام الزلفى إنّما يحصل بترك الدنيا والتزام العبادة والتقوى، فيصرف نفسه عن ميدان الطغيان ويُجريها في مضمار الطاعة ومرضاة الرحمن، ويُقدّم لنفسه ما ينفعه في دار الجنان والتوفيق من اللّه الملك المنّان4.



1 الثقة الجليل الحسين بن سعيد الكوفي الأهوازي من أصحاب الأئمة الرضا والجواد والهادي  عليهم السلام، الزهد، ص93.
2 الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص625، وعلي بن محمد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص460.
3 م.ن، ص701، و عيون الحكم والمواعظ، ص482.
4 المولى صالح المازندراني، شرح الكافي، ج8، ص171، طبعة:1، الدار الإسلامية، طهران.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

62

الوصيّة السادسة: هوان الدنيا

 كيف يتعامل المؤمن مع الدنيا؟

والدنيا كما أخبر الله سبحانه بقوله: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ وإنّ من عظيم الأسف أن يظلّ الكثيرون منّا في غفلة وتعامٍ عن ذلك، وقد قال الخالق تبارك وتعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾2.
 
قال النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "كُنْ في الدنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل"3، يوجّهنا الذي ما ينطق عن الهوى صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الحديث الشريف إلى أنّ المؤمن لا ينبغي له أن يتّخذ الدنيا داراً يطمئنّ فيها لأنّها دار هدنة أي: "دار بلاغ وانقطاع"، ونحن على ظهر سفر والسير بنا سريع، وقد رأينا الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كلّ جديد، ويُقرّبان كلّ بعيد، ويأتيان بكلّ موعود، فالواجب إعداد الجهاز لبُعد المجاز، وقد اتفقت على ذلك وصايا أنبياء الله تعالى وأوصيائهم، وقال تعالى حاكياً نداء مؤمن آل فرعون: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾4.
 
لقد نام سيّد ولد آدم صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم على حصير، فقام وقد أثّر في جنبه، فقالوا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاءً؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما لي وللدُّنيا، ما أنا في الدنيا إلاّ كراكبٍ استظلّ تحت شجرة ثمَّ راحَ وتركها"5.
 
وخاطب مولانا الإمام علي بن الحسين عليهما السلام أصحابه قائلاً: "إخواني أوصيكم بدار الآخرة ولا أوصيكم بدار الدنيا، فإنّكم عليها حريصون، وبها متمسّكون، أما بلغكم ما 



1 سورة الحديد، الآية 20.
2 سورة الأنعام، الآية 32.
3 الشيخ الطوسي، الأمالي، ص 381، المجلس الثالث عشر.
4 سورة غافر، الآية 39.
5 محمد بن عيسى الترمذي، الجامع الصحيح، ج 4 ص 508، حديث 2377، باب 44، طبعة دار الفكر.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

63

الوصيّة السادسة: هوان الدنيا

 قال عيسى ابن مريم عليهما السلام للحواريّين. قال لهم: الدنيا قنطرة، فاعبروها ولا تعمروها، وقال: أيّكم يبني على موج البحر داراً تلكم الدار الدنيا، فلا تتّخذوها قراراً"1.

 
واجعل الموت نصب عينيك
أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: "أكثروا من ذكر هادم اللذّات، فقيل: يا رسول اللّه، وما هادم اللذّات ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: الموت، فإنّ أكيس المؤمنين أكثرهم ذكراً للموت، وأحسنهم للموت استعداداً"2.
 
وقال الإمام أمير المؤمنين علي  عليه السلام: "من صوّر الموت بين عينيه هان أمر الدّنيا عليه"3، وقال  عليه السلام: "اتّقوا باطل الأمل، فربّ مستقبل يوم ليس بمستدبره، ومغبوط في أول ليلهِ . قامت بواكيه في آخره"4.
 
والواقع أنّ أصحاب العقول لا يُمكن أن يغترّوا بطول الآمال، وهم يرون في كلّ يوم وفي كلّ صباح وفي كلّ مساء أجناس الناس الذين ينتقلون إلى الدار الآخرة، ممّن هم أقوى منهم أبداناً وأكثر أموالاً كلّ هؤلاء يُدفنون جميعاً يُشيّعون ليُدفنوا في المقابر، وكلّنا صائرون إلى ذلك المصير، وقد قال مولانا أمير المؤمنين علي  عليه السلام: "من أيقن أنّه يُفارق الأحباب، ويسكن التراب ويواجه الحساب، ويستغني عمّا خلف، ويفتقر إلى ما قَدّم، كان حريّاً بقصر الأمل وطول العمل"5.
 
إنّ المسلم إذا استحضر الموت وجعله نصب عينيه اجتهد في الطاعة، ونشط في العبادة، ومن يفعل ذلك أُكرم بتعجيل التوبة، وقناعة القلب، وأمّا أهل الغفلة الذين نسوا الموت وذكره، فحالهم لم يعد خافياً على أكثر عباد الله، لأنّ جُلّ أحوالهم أصبحت تُرى وتُشاهد، وأهل النظر السليم يرون كيف قد عوقب الذين نسوا الموت بتسويف التوبة، وعدم الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة.



1 الشيخ المفيد أبو عبد الله محمَّد بن محمَّد بن النعمان العكبري، الأمالي، ص 43، المجلس السادس، طبعة 1: قم .
2 ابن الأشعث محمد بن محمد، الجعفريات، ص 199، باب ذكر الموت، ط 1، مكتبة نينوى الحديثة، طهران.
3 الآمدي، غرر الحكم و درر الكلم، ص625.
4 م.ن، الفصل السابع "الأماني"، رقم: 7231.
5 محمد بن علي الكراجكي، كنز الفوائد، ج 1، ص 351، طبعة 1: دار الذخائر، قم.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

64

الوصيّة السادسة: هوان الدنيا

 واعلم أنّ لك ما قدّمت

لبيان هذه الكلمة المباركة التي نطق بها الإمام الصادق  عليه السلام أثرنا المجيء بمثالين عظيمين يُبيّنان هذا المطلب بأوضح بيان، وأفصح لسان، فقد روى سويد بن غفلة، فقال: دخلتُ على أمير المؤمنين  عليه السلام داره، فلم أر في البيت شيئاً، فقلتُ فأين الأثاث يا أمير المؤمنين؟ فقال: "يا بن غفلة، نحن أهل البيت لا نتأثّث في الدنيا. نقلنا أجلّ متاعنا إلى الآخرة، فإنّ مثلنا في الدنيا كراكب تحت شجرة ثم راح وتركها"1.
 
ودخل رجل على أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، فجعل يُقلّب بصره في بيته، فقال: "يا أبا ذر! أين متاعكم؟ فقال أبو ذر: إنّ لنا بيتاً نوجّه إليه صالح متاعنا، فقال الرجل: إنّه لا بدّ لك من متاع ما دمت هاهنا، فقال أبو ذر: إنّ صاحب المنزل لا يدعنا فيه"2.
 
دعوتنا فانصح لنا
روي عن الإمام أبي جعفر  عليه السلام قال: "قام أبو ذر رضي الله عنه بباب الكعبة، فقال: أنا جندب بن جنادة الغفاري هلمّوا إلى أخٍ ناصح شفيق، فاكتنفه الناس، فقالوا: قد دعوتنا فانصح لنا، فقال: لو أنّ أحدكم أراد سفرا لأعدّ فيه من الزاد ما يُصلحه، فما لكم لا تزوّدون لطريق القيامة وما يُصلحكم فيه، قالوا: كيف نتزوّد لذلك؟ فقال: يحجّ الرجل حجّة لعظام الأمور، ويصوم يوماً شديد الحر ليوم النشور، ويُصلّي ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور، ويتصدّق بصدقة على مسكين لنجاة من يوم عسير، ويتكلّم بكلمةحقّ فيُجيره الله بها يوم يستجير، ويسكت عن كلمة باطل فينجو بذلك من عذاب السعير. يا ابن آدم اجعل الدنيا مجلسين مجلساً في طلب الحلال، ومجلساً للآخرة، ولا تزد الثالث، فإنّه لا ينفعك، واجعل الكلام كلمتين كلمة للآخرة، وكلمة في التماس الحلال، والثالثة تزرك، واجعل مالك درهمين درهم تُنفقه على عيالك، ودرهماً لآخرتك والثالث لا ينفعك، واجعل الدنيا ساعة 



1 ووارم بن أبي فراس مسعود بن عيسى، تبيه الخواطر ونزهة النواظر، ج2، ص22، وحسن بن محمد الديلمي، إرشاد القلوب، ج1، ص20، طبعة:1، الشريف الرضي، قم.
2 أحمد بن الحسين البيهقي، شعب الإيمان، ج 7، ص 378، رقم (10651)، طبعة 1: دار الكتب العلمية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

65

الوصيّة السادسة: هوان الدنيا

 من ساعتين ساعة مضتْ بما فيها، فلست قادراً على ردّها، وساعة آتية لستَ على ثقةٍ من إدراكها، والساعة التي أنت فيها ساعة عملك، فاجتهد فيها لنفسك واصبر فيها عن معاصي ربّك، فإنْ لم تفعل، فقد هلكت، ثم قال: قتلني همّ يوم لا أُدركه"1.

 
وعليك ما أخّرت
حذّرنا الله تعالى والنبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الدنيا، وطلبا منّا أن تكون أعمالنا أعمال أبناء الآخرة، كي لا نُسأل فيها عن ما أخّرنا من الأعمال في دار الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله يُعطي الدنيا من يُحبّ ويُبغض. وإذا أحبّ الله عبداً أعطاه الإيمان. ألا إنّ للدين أبناء وللدنيا أبناء، فكونوا من أبناء الدين، ولا تكونوا من أبناء الدنيا. ألا إنّ الدنيا قد ارتحلت مولية، والآخرة قد ارتحلت مقبلة . ألا وإنّكم في يوم عمل ليس فيه حساب. ألا وإنّكم توشكون في يوم حساب وليس فيه عمل"2.
 
ولأنّ القضية قضية حساب ونحن نريد تقريب معنى قول الإمام إلى الأذهان، نقول: إنّ المطلوب من المسلم الحرص على أن لا تكن له أسوة بالمغرورين في جمع المال على المال، فكم من جامع لبعل حليلته، أو زوج ابنته. وتقتير المرء على نفسه، توفير لخزانة غيره، إنّما يجمع المرء المال لأحد ثلاثة، إمّا لزوج امرأته، أو زوج ابنته، أو لولده فإن كان غير صالح ضيّعه، فالعاقل هو: الناصح لنفسه الذي يأخذ معه زاداً لآخرته، ولا يؤثر هؤلاء على نفسه كي لا يكون يوم القيامة عبرة للناظرين.
 
قال الإمام أمير المؤمنين  عليه السلام: "رحم الله أمرأً قصّر الأمل، وبادر الأجل، واغتنم المهل، وتزوّد من العمل"3، وقال  عليه السلام: "طوبى للراغبين في الآخرة الزاهدين في الدنيا، أولئك قوم اتخذوا مساجد الله بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طهوراً، والقرآن شعاراً، والدعاء دثاراً، ثم قرضوا من الدنيا تقريضاً على منهاج عيسى بن مريم  عليه السلام"4.



1 الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج2، ص282، ورواه في الخصال أيضاً، وكذلك رواه الشيخ المفيد في الأمالي، ص215، ووارم بن أبي فراس مسعود بن عيسى، تبيه الخواطر ونزهة النواظر، ج2، ص20، واللفظ لوارم.
2 وارم بن أبي فراس مسعود بن عيسى، تبيه الخواطر ونزهة النواظر، ج1 ، ص 271، طبعة 1: مكتبة الفقيه .
3 الآمدي التميمي، غرر الحكم و درر الكلم، الفصل الثالث، آثار الاعتقاد بالمعاد، رقم: 2734 .
4 الشيخ الصدوق مُحمد بن علي بن بابويه القمي، الخصال، ج 1، ص 337، طبعة 1: جماعة المدرسين، قم.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

66

الوصيّة السادسة: هوان الدنيا

 نتيجة أعمال جيران الله

لقد بدأ الإمام الصادق  عليه السلام هذه الوصيّة بالدعوة إلى جوار الجليل جلّ جلاله، وقد ذكرنا شيئاً من مواصفات وأعمال جيران الله تعالى، ولم نُشير إلى تفاصيل عوائد الله الكريم عليهم، وقد أرتأينا تأخير ذلك لنختم به هذه الفقرة من وصية الإمام أبي عبد الله الصادق  عليه السلام، ولنبدأ بقول جدّه الإمام أمير المؤمنين علي  عليه السلام: ".. جيران الله يتمنّون عليه فيُعطيهم ما تمنّوه، ولا يُردّ لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيباً من اللذّة، فإلى هذا يا عباد الله يشتاق إليه من كان له عقل، ويعمل له بتقوى الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله.."1.
 
وقال  عليه السلام: ".. فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران الله، رافق بهم رسله، وأزارهم ملائكته، وأكرم أسماعهم عن أن تسمع حسيس نارٍ أبداً، وصان أجسادهم أن تلقى لغوباً ونصباً، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.."2.
 
قال الإمام أبو جعفر الباقر  عليه السلام: ".. جيران الله في داره يخاف الناس ولا يخافون، ويُحاسب الناس ولا يُحاسبون"3.
 
ومن حديث للإمام الصادق  عليه السلام: "نحن جيران الله غداً في داره، فمن قبِل منّا وأطاعنا فهو في الجنّة"4.



1 الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان العكبري، الأمالي، ص263، طبعة: 1، مؤتمر الشيخ المفيد، قم.
2 ابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج10، ص123، طبعة:1، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم.
3 الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، الأمالي، ص103، طبعة:1، دار الثقافة، قم.
4 القاضي ابن حيون النعمان بن محمد المغربي، دعائم الإسلام، ج1، ص50، طبعة:2، مؤسسة آل البيت  عليهم السلام، قم.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

67

فضل القرآن الكريم

 فضل القرآن الكريم



- ما هو القرآن الكريم
- الهدف من تنزيل القرآن
- التمسّك بالقرآن الكريم
- آثار التمسّك بالقران
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

68

فضل القرآن الكريم

 ما هو القرآن الكريم

القرآن الكريم أساسُ الدِّين وبابُ الإسلام، وهو كتابُ الله الذي أودع فيه شريعته وحقائق دينه، أنزله للنَّاس هادياً وسراجاً منيراً ليُخرجهم من الظلمات إلى النور. وأمرهم بالتمسّك به لأنّه كلمة الله التامة وإرادته الكاملة للبشرية في كلّ زمان ومكان، ﴿وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ واتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾1، فمن أراد الوصول إلى الله ما عليه إلا أنْ يسلك سبيله ويهتدي بهداه، ومن اهتدى إنّما يهتدي به، ومن ضلّ فهو الذي يزيغ عنه.
 
1- كلام الله:
فالقرآن المجيد كلام الله تعالى إلى خلقه، وهذا ليس أمراً عادياً، فأنْ يُكلِّمَنا اللهُ تعالى نحن البشر ولو بالحروف والألفاظ فهذا ليس بالأمر البسيط، بل هو الكرامة بعينها والشرف العظيم. فمن نحن حتَّى يُكلِّمنَا ربُّ السَّموات السَّبع والأرضين، وإله العالمين الذي لا حدَّ لقدرته ولا منتهى لعظمته!؟ لذا كان عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار إلينا بأنْ نحفظه ونُراعي حدوده فلا نُضيِّعها أبداً، لأنّه نعمة الله الكبرى التي من تمسّك بها فاز، ومن تخلّف عنها خسر.
 
فقد سُئل إمامنا الرضا  عليه السلام: ما تقول في القرآن؟ فقال  عليه السلام: "كلام الله لا تتجاوزوه ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا"2.



1 سورة الأنعام، الآية 155.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 89، ص 117.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

69

فضل القرآن الكريم

 وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنْ أَردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة يوم الحشر والظلّ يوم الحرور والهدى يوم الضلالة فادرسوا القرآن فإنَّه كلام الرحمن وحرز من الشَّيطان ورجحان في الميزان"1.

 
2- الكمال الحقيقي:
وهو الكمال الحقيقي والغنى الذي لا غنى بعده. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "القرآن غنى لا غنى دونه ولا فقر بعده"2. فمن أُعطي القرآن فقد أُعطي الخير المطلق والكمال الذي لا حدّ له وأفضل ما في الوجود، لأنّه لا غنى ولا كمال فوقه على الإطلاق، ففيه علم الأوّلين والآخرين، ومن تحقّق به كان من حملة القرآن وأولياء الحقّ المقرّبين. فعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "لا ينبغي لحامل القرآن أنْ يظنَّ أَنَّ أَحداً أُعطيَ أَفضل ممّا أُعطي، لأنّه لو ملَك الدُّنيا بأسرها لكان القرآن أَفضل ممَّا ملكه"3.
 
3- مأدبة الله:
وهو مأدبةُ الله تعالى إلى خلقه، التي زيَّنها بأنواعٍ لا تُعدُّ ولا تُحصى من الأطعمة العمليَّة والمعنويّة التي هي غذاء الرُّوح وكمالها الحقيقي، ووضع على هذه المأدبة كلَّ ما يحتاجه الإنسان وما ينفعه. ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنا للنَّاس في‏ هذَا القرآن مِنْ كلّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾4. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنَّ هذا القرآن مأدبة الله فتعلّموا مأدبته ما استطعتم"5.
 
4- خزائن علم الله:
وفيه خزائن العلم الإلهيّ، التي من استفاض منها كان من عرفاء أهل الجنَّة. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "حملة القرآن عرفاء أهل الجنَّة"6. وعن الإمام زين العابدين  عليه السلام: "آيات القرآن خزائن العلم فكلَّما فُتحت خزانةٌ، فينبغي لك أنْ تنظر ما فيها"7.



1  الميرزا النوري، حسين بن محمد تقي، مستدرك‏ الوسائل، ج4، ص 232. مؤسسة أهل البيت عليهم السلام، قم، الطبعة الأولى، 1408 ه ق.
2 الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج6، ص168.
3 الميرزا النوري، مستدرك‏ الوسائل، ج 4، ص 237.
4 سورة الزمر، الآية 27.
5 الميرزا النوري، مستدرك‏ الوسائل، ج 4، ص 232.
6 م.ن، ج 4، ص 243.
7 م.ن، ج 4، ص 238.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

70

فضل القرآن الكريم

 الهدف من تنزيل القرآن

إنَّ لإنزال القرآن الكريم أهدافاً عديدةً ومتنوِّعةً ذكرها الله تعالى في هذه الصَّحيفة السَّماويَّة، ومن جُملة هذه الأهداف والمقاصد الشَّريفة والتي ذكرها عزّ اسمه:
1- هدايةُ النَّاس: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذي أُنْزِلَ فيهِ القرآن هُدىً للنَّاس وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى‏ وَالْفُرْقان﴾1
 
2- إنذارُ النَّاس: ﴿وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى‏ وَمَنْ حَوْلَها﴾2. ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ في‏ لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرينَ﴾3.
 
3- رحمةُ للنَّاس: ﴿هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون﴾4.
 
4- موعظةُ للنَّاس: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقينَ﴾5.
 
5- دفعُ النَّاس إلى تقوى الله: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فيهِ مِنَ الْوَعيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ﴾6.
 
6- حثُّ النَّاس على التفكُّر والتعقُّل: ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾7. ﴿وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ للنَّاس ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾8.
 
7- تذكيرُ النَّاس وحثُّهم على التدبّر: ﴿كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ﴾9.
 
8- تبليغ الأحكام الإلهيّة للنَّاس: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ 



1 سورة البقرة، الآية 185.
2 سورة الأنعام، الآية 92.
3 سورة الدخان، الآية 3.
4 سورة الأنعام، الآية 155.
5 سورة النور، الآية 34.
6 سورة طه، الآية 113.
7 سورة يوسف، الآية 2.
8 سورة النحل، الآية 44.
9 سورة ص، الآية 29.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

71

فضل القرآن الكريم

 النَّاس بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنينَ خَصيماً﴾1

 
9- الحكم بين النَّاس: ﴿وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾2
 
التمسّك بالقرآن الكريم
في حديث الثقلين المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما وإنّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليّ الحوض"3. التمسّك بالقرآن الكريم من أعظم التكاليف الإلهيّة. والتمسُّكُ الصحيح بكتاب الله كما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لن يكون متاحاً بالشكل المطلوب إلا من خلال مراعاة مجموعة من الآداب الظاهريَّة والمعنويّة، والتي بمراعاتها تتحقّقُ الاستفادة الحقيقية من كتاب الله العزيز. من آداب القرآن الظاهرية المواظبة على تلاوته بعد مراعاة آداب الطهارة والاستعاذة من الشيطان الرجيم. ومن أهمّ آثار قراءة القرآن:
 
1- جلاءُ القلوب:
قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل عبادة أمّتي قراءة القرآن"4، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد فقيل: يا رسول الله وما جلاؤها؟ فقال قراءة القرآن وذكر الموت"5، وقال: صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أحبّ أحدكم أنْ يُحدِّث ربّه فليقرأ القرآن"6.
 
2- كفَّارةُ للذُّنوب:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا سلمان،عليك بقراءة القرآن، فإنَّ قراءته كفّارة للذنوب وستر في النَّار وأمان من العذاب"7.



1 سورة النساء، الآية 105.
2 سورة النحل، الآية 64.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج5، ص 68.
4 الهندي، علي المتقي، كنز العمال، ج1، ص526, مؤسسة الرسالة، بيروت، 1989م.
5 مستدرك الوسائل، ج2، ص104.
6 المتقي الهندي، كنز العمال،ج1، ص510.
7 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج89، ص17.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

72

فضل القرآن الكريم

 3- إحياء للقلوب:

وعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا تغفل عن قراءة القرآن فإنَّ القرآن يُحيي القلب وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي"1.
 
4- دفع البلاء:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يُدفع عن قارئ القرآن بلاء الدُّنيا ويرفع عن مستمع القرآن بلاء الآخرة"2.
 
آثار التمسّك بالقران
القرآن الكريم كلام الله وللتمسّك بكلامه آثار طيّبة ومتنوّعة منها:
1- الهداية من الضلالة:
القرآن الكريم مظهر هداية الله، وسرّ النجاة من الضلالة: ﴿إِنَّ هذَا القرآن يَهْدي لِلَّتي‏ هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنينَ الَّذينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبيراً﴾3. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي تارك فيكم الثقلين ما إنْ تمسكتم بهما لن تضلُّوا كتاب الله وعترتي أَهل بيتي وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض"4.
 
2- الارتقاء في مراتب الآخرة:
كلُّ آيةٍ من آيات القرآن الكريم تُمثِّلُ درجةً من درجات الجنَّة، وكلَّما تحقَّقَ الإنسانُ بآيةٍ من آيات الكتاب الإلهيّ، كلَّما ارتقى في مراتب الجنَّة. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "عدد درج الجنَّة عدد آيات القرآن، فإذا دخل صاحب القرآن الجنَّة قيل له، اقرأ وارق لكلِّ آية درجة فلا تكون فوق حافظ القرآن درجة"5.



1 المتقي الهندي، كنز العمال،ج2، ص291.
2 م. ن،ج2، ص290.
3 سورة الإسراء، الآية 9.
4 الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج27، ص33.
5 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج4، ص231.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

73

فضل القرآن الكريم

 3- الشِّفاءُ:

القرآن هو الشافي الحقيقي لأمراض النفوس المزيل لأمراض القلوب، وهو إكسيرُ السعادة في الدَّارين. فمن أراد أنْ يُطهِّر باطنه من الأمراض والرذائل الأخلاقية والذُّنوب الممحقة ما عليه سوى التَّمسك بهذا النور الإلهيّ. قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن ماهُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنينَ وَلا يَزيدُ الظَّالِمينَ إِلاَّ خَساراً﴾1
 
وعن أمير المؤمنين  عليه السلام في خطبة له قال: "واعلموا أنَّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد قبل القرآن من غنى فاستشفوه من أَدوائكم واستعينوا به على لأوائكم فإنَّ فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال"2. وعنه  عليه السلام أيضاً قال: "وتعلّموا القرآن فإنَّه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنَّه شفاء الصدور"3.
 
4- حملته يحشرون مع الأنبياء:
من كرامة الله على حامل القرآن أنْ يرزقه ثوابَ الأنبياء ويحشره معهم، فعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنَّ أَكرم العباد إلى الله بعد الأنبياء العلماء، ثمَّ حملةُ القرآن يخرجون من الدُّنيا كما يخرج الأنبياء ويُحشرون من قبورهم مع الأنبياء، ويمرّون على الصراط مع الأنبياء ويأخذون ثواب الأنبياء، فطوبى لطالب العلم وحامل القرآن ممّا لهم عند الله من الكرامة والشرف"4.
 
5- النجاة من العذاب:
لأنّ الله تعالى لا يُعذِّبُ من تلبَّسَ برداء القرآن ظاهراً وباطناً، لأنّه صار مظهراً للقرآن خَلقاً وخُلقاً، ولأنّ القرآن هو الجنَّة نفسها. فعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اقرؤوا القرآن واستظهروه فإنَّ الله تعالى لا يُعذّب قلباً وعى القرآن"5.



1 سورة الإسراء، الآية 82.
2 السيد حسين البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج15، ص63.
3 الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 6، ص167.
4 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج4، ص244.
5 م.ن، ج4، ص245.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

74

فضل القرآن الكريم

 6- الخروج من الظلمات إلى النور:

فهو الكتاب السماوي الوحيد الذي يهدي إلى سبل الخير والسَّلام، وهو نور الله المتّصل بين الأرض والسماء، والصراط المستقيم الذي من سلكه نجا ومن تخلَّفَ عنه هلك: ﴿قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبينٌ * يَهْدي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلام وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْديهِمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقيم﴾1.
 
7- الشفاعة:
من نعم الله السَّابغة على المتمسِّكِ بالقرآن الكريم، أنْ يرزقَه الشَّفاعةَ التي هي من أهمّ خصائص الأنبياء والأولياء والشُّهداء، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من استظهر القرآن وحفظه، وأحلّ حلاله، وحرّم حرامه، أدخله الله به الجنَّة وشفَّعه في عشرة من أهل بيته كلّهم قد وجب له النَّار"2.
 
8- الإيمان:
تجذُّر الإيمان في النفس وتكامله، هو من أهمّ الآثار المترتّبة على التمسّك الحقيقي بالقرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إيماناً وَعَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾3.
 
9- الخشوع:
من المواهب السَّنـيَّة التي يهبها الله تعالى للمتحقِّق بآيات القرآن، أنْ يلين قلبه ويجعلَهُ خاشعاً من خشيته: ﴿لَوْ أَنْزَلْنا هذَا القرآن عَلى‏ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ الله﴾4.‏ وقال عزَّ اسمه: ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَديثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثمَّ تَلينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى‏ ذِكْرِ الله﴾5.



1 سورة المائدة، الآيتان 15 – 16.
2 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج4، ص245.
3 سورة الأنفال، الآية 2.
4 سورة الحشر، الآية 21.
5 سورة الزمر، الآية 23.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

75

كيف نتعلّم من القرآن؟

 كيف نتعلّم من القرآن؟



- النَّظر إلى القرآن نظرة تعلّم
- ما هو التفكُّر؟
- الهدف من التفكُّر
- التفكُّر في الآيات والرِّوايات
- آثار التفكُّر في القرآن
- التفكُّر وضرورة التطبيق على النفس
- أمثلة على كيفيَّة التطبيق
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

76

كيف نتعلّم من القرآن؟

 النَّظر إلى القرآن نظرة تعلّم

من آداب التمسّك بهذه الصَّحيفة الإلهيّة العظيمة ومطالبها المهمَّة التي يكشفُ التَّوجّه إليها أهمَّ طريقٍ للاستفادة الحقيقيَّة من الكتاب الشّريف، والذي يفتح على قلب الإنسان أبواب المعارف والحكم، هو أنْ يكونَ نظرُ الإنسان إلى الكتاب الإلهيّ الشّريف نظرَ التَّعلُّم، وأن يراه كتاب التعليم والاستفادة، وأن يرى الإنسان نفسَه مكلّفاً بالتعلّم والاستفادة منه.

وليس المقصود من التعلّم والاستفادة أنْ نتعلَّم منه الجهات الأدبية والنّحو والصَّرف، أو نأخذ منه جهة الفصاحة والبلاغة والنِّكات البيانيَّة والبديعيَّة، أو ننظرَ في قصصه وحكاياته بالنَّظر التاريخيّ والاطّلاع على الأمم السالفة... فليس شيءٌ من هذا داخلاً في مقاصد القرآن، بل هي أمور بعيدة عن المقصد الأصلي والحقيقي للكتاب الإلهيّ.

والذي أوجب أنْ تكون استفادتُنا من هذا الكتاب العظيم قليلةً جدّاً هو هذا الفهم الخاطئ. فإمّا أنَّنا لا ننظرُ إليه نظرةَ تعلُّمٍ وتعليمٍ كما هو الغالب علينا، أو أنَّنا نقرأه للثواب والأجر فقط، فينصبُّ جهدنا على تجويده وقراءته، وعليه يُمكن لأحدنا أنْ يكون قد قرأ القرآن لأكثر من أربعين سنة، ولكن دون أنْ تحصل الاستفادة منه إلا من جهة الأجر وثواب القراءة.

وإمّا أنْ نحصُرَ اهتمامنا إنْ كان هدفنا التعلّم والاستفادة، بالنّكات البديعيّة والبيانية ووجوه إعجازها، أو أعلى من هذا بقليل بالجهات التاريخية وسبب نزول الآيات وأوقات النزول، وكون الآيات والسُّور مكيَّة أو مدنيَّة، واختلاف القراءات واختلاف المفسِّرين من العامّة والخاصّة وسائر الأمور العرضية الخارجة عن المقصد الحقيقي للكتاب المنزل. حتَّى صارت هذه الأمور بنفسها سبباً للاحتجاب عن القرآن والغفلة عن الذكر الإلهيّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

77

كيف نتعلّم من القرآن؟

 فهذا الكتاب الشّريف الذي هو بشهادةٍ من الله تعالى كتابُ الهداية والتَّعليم ونورُ طريق سلوك الإنسانيَّة، على الإنسان أنْ يجلس على مأدبته ليتعلَّمَ من كلّ قصّةٍ من قصصه، بل من كلّ آية من آياته جهة الاهتداء إلى عالمِ الغيبِ وإلى طريق السَّعادة والكمال الإنساني. فعلى القارئ الحقيقي للقرآن الكريم أنْ يفهمَ المقصد من نزول الآيات لا السبب من النُّزول.

 
فكتاب الله هذا هو كتاب المعرفة والأخلاق والدعوة إلى السَّعادة والكمال، وعلى القارئ أنْ لا يصرف النَّظر عنها ويهتمَّ بما هو أقل أهمّية منها، لأنّ الغافل عنها غافل عن مقصود القرآن والهدف الأساسي لإنزال الكتب وإرسال الرُّسل.
 
وهذا هو الخطأ الذي حرَمَنا الاستفادةَ من القرآن الشّريف وسدَّ طريق الهداية على النَّاس، ولا بدَّ لنا أنْ نأخذ المقصود من تنزيل الآيات من خلال التفكّر والتدبّر في مضامينها وأهدافها وغاياتها التعليمية والتربوية. فالهدف الأساس هو أنْ يفتح للنَّاس طريق الاستفادة من هذا الكتاب الشّريف الذي هو الكتّاب الوحيد في السّلوك إلى الله، والكتاب الأحدي في تهذيب النفوس والآداب والسنن الإلهيّة، وأعظم وسيلة للربط بين الخالق والمخلوق والعُروة الوثقى والحبل المتين للتمسّك بعزّ الربوبيَّة من خلال تصحيح نظرتنا إليه، فهذا الكتاب المقدّس هو كتاب لتربية البشر وتعليمهم لا للتبرّك ونيل الثواب فقط، وعملية التربية والتعليم تحصل من خلال التفكّر والتدبّر في القرآن، من أجل تطبيقه على النفس، ليُصبح الإنسان معلّماً بتعاليم القرآن حقيقة ومتخلّقاً ومتأدّباً بأخلاقه وآدابه.
 
ما هو التفكُّر؟
من آداب قراءة القرآن المهمَّة، التفكُّر. والمقصود من التفكُّر أن يبحث في الآيات الشّريفة عن المقصد والمقصود من كلّ آية. وأحسن التعبير فيه ما قاله الخواجة عبد الله الأنصاري ، حيث عرَّف التفكُّر بأنّه: "تلمّس البصيرة لاستدراك البغية"1، يعني أنَّ التفكُّر 



1 عبد الله الأنصاري، منازل السائرين، باب التفكُّر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
108

78

كيف نتعلّم من القرآن؟

 هو التجسّس والبحث بواسطة نور البصيرة1 للوصول إلى المقصد والمقصود من كلّ آية شريفة. ومن المعلوم أنّ المقصد الأساسي من وراء القرآن ومن وراء كلّ آية فيه هو الوصول إلى السَّعادة المطلقة التي تحصل بالكمال العلمي والعملي.

 
الهدف من التفكُّر
من مقاصد القرآن الكريم كما تُبيِّنُ هذه الصَّحيفة النُّورانية هو الهداية إلى سبل السَّلام والخروج من جميع مراتب الظلمات إلى عالم النور، والهداية إلى الطريق المستقيم: ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾2، وتحصيل هذه الهداية ومراتب السَّلامة تبدأ من المرتبة الدَّانية الرَّاجعة إلى قوى الإنسان الحسّية إلى منتهى النهاية، وهي الوصول إلى مقام القلب السليم، الذي على ما ورد ذكره عن أهل البيت  عليهم السلام أنّ حقيقته أن يُلاقيَ الإنسان الحقّ وليس في قلبه غيره عزّ وجلّ3. وتحصيل هذه الهداية غير ممكن إلا من خلال التفكُّر. فتكون سلامة القوى الحسّية والمعنويّة ضالة قارئ القرآن، فإنّها موجودة في هذا الكتاب السماوي ولا بدّ أن يستخرجها بالتفكُّر. وإذا صارت قوى الإنسان الحسّية والمعنويّة سالمة من التصرّف الشَّيطاني وسلك طرق السلامة وعمل بها، فإنَّه في كلّ مرتبة من السلامة تحصل له ينجو من الظلمة ويتجلّى فيه النور الإلهيّ الساطع قهراً، حتَّى إذا خلص من جميع أنواع الظلمات التي أوّلها ظلمات عالم الطَّبيعة بجميع شؤونها وآخرها ظلمة التوجّه إلى غير الحقّ عزّ وجلّ، يتجلّى النور المطلق في قلبه ويهديه إلى طريق الإنسانية المستقيم وهو في هذا المقام طريق الربّ: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾4 .




1 وهي بصر القلب لا بصر العين.
2 سورة المائدة، الآيتان 15 – 16.
3 عن أبي عبد الله  عليه السلام "سألتُه عن قَول الله عزّ وجلّ إلا من أتى الله بقَلب سَلِيمٍ؟ قال، القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه". بحار الأنوار، ج67، ص 239.
4 سورة هود، الآية 56.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

79

كيف نتعلّم من القرآن؟

 التفكُّر في الآيات والرِّوايات

لقد كثُرت الدعوة إلى التفكُّر وتمجيده وتحسينه في القرآن الشّريف حيث قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾1.
 
ففي هذه الآية مدح عظيم للتفكّر، لأنّها جعلت غاية إنزال الكتاب السماوي العظيم والصَّحيفة النُّورانية المجيدة احتمال التفكُّر، وهذا من شدّة الاعتناء به حيث إنّ مجرّد احتماله صار موجباً لهذه الكرامة العظيمة. وقال تعالى في آية أخرى: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾2.
 
والآيات من هذا القبيل أو ما يقرب منها كثيرة، والرِّوايات في التفكُّر كثيرة أيضاً. فقد نقل عن الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه لمّا نزلت الآية الشّريفة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ﴾3 إلى آخرها.. قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها"4.
 
وقد وردت روايات كثيرة في خصوص التفكُّر في معاني القرآن والاتعاظ به والتأثّر به، كما في الكافي الشّريف عن الإمام الصادق  عليه السلام قال: "إنّ هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدّجى فليجل جال بصره ويفتح للضياء نظره، فإنَّ التفكُّر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور"5. ومقصوده  عليه السلام أنّ الإنسان كما أنَّه بحاجة إلى النور الظاهري إذا كان يمشي في الظلمة حتَّى يصون نفسه من خطر السقوط في المهاوي، كذلك السالك طريق الآخرة وطريق الحقّ سبحانه وتعالى عليه أن يتمسّك بالقرآن الكريم الذي هو نور الهداية والمصباح المنير ويتفكّر فيه، كي لا يقع في المزلاّت المهلكة.



1 سورة النحل، الآية 44.
2 سورة الأعراف، الآية 176.
3 سورة آل عمران، الآية 190.
4 الشيخ الحويزي، نور الثقلين، ج1، ص350. مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، قم، الطبعة الرابعة، 1412 ه ق.
5 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 600.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
110

80

كيف نتعلّم من القرآن؟

 وعن أمير المؤمنين  عليه السلام أنَّه قال: "الفقيه من لا يترك القرآن رغبة عنه ويتوجّه إلى غيره، ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم، ولا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، ولا خير في عبادة ليس فيها تفقّه"1.

 
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "حملة القرآن عرفاء أهل الجنَّة"2. ولا يخفى أنّ المراد من هذا "الحمل" هو حمل معارف القرآن، الأمر الذي سيجعل الإنسان في الآخرة من أهل المعرفة وأصحاب القلوب، وإلا فإنَّ حمل ظاهر القرآن دون الاتعاظ بمواعظه، وإدراك معارفه وحكمه والعمل بأحكامه وسننه فسوف يكون مصداقاً من مصاديق الآية الشّريفة: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾3.
 
آثار التفكُّر في القرآن
الهدف والمقصد من وجود الإنسان في هذه الحياة الدُّنيا هو الوصول إلى السعادة المطلقة والكمال الإنساني المطلق، والقرآن الكريم من مصاديق هذه السعادة والكمال الذي لا حدَّ له ولا منتهى. لذا على الإنسان التائق إلى نيل السعادة الإنسانية الحقيقية أن يبحث عنها في الآيات الشّريفة للكتاب الإلهيّ وفي قصصه وعبره. وحيث إنَّ السعادة تكمنُ في الوصول إلى السلامة المطلقة وعالم النور والطريق المستقيم، فعلى الإنسان أنْ يطلب من القرآن المجيد سبل السلامة ومعدن النور المطلق والطريق المستقيم كما أُشير إليه في الآية الشّريفة السابقة.
 
فإذا أدرك القارئُ المقصدَ الحقيقيَّ وميَّزه عن المقاصد الأخرى والوهميَّة والزَّائفة، صار بصيراً في تحصيله وانفتح له طريقُ الاستفادة من القرآن الشّريف وفُتحت له أبواب رحمة الحقّ، ولم يصرفْ عمره القصير ورأسمالَ تحصيل سعادته على أمور ليست مقصودة لرسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.



1 الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص 226.
2 م. ن، ص 323.
3 سورة الجمعة، الآية 5.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

 


81

كيف نتعلّم من القرآن؟

 وإذا أشخص بصيرته مدّة إلى هذا المقصود، وصرف نظره عن سائر الأمور، فسوف ينفتح عين قلبه ويكون بصره حديداً، ويُصبح التفكُّر في القرآن للنفس أمراً عادياً، فتنفتح أمامه طرق الاستفادة وتفتح له أبواب لم تكن مفتوحة لحينها، وينهل من مطالب ومعارف القرآن التي ما كان لينالها من قبل. حينها يفهم معنى كون القرآن شفاء للأمراض القلبية، ويُدرك مفاد الآية الشّريفة: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا﴾1، ومعنى قول أمير المؤمنين  عليه السلام: "وتعلّموا القرآن فإنَّه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنَّه شفاء الصدور"2. ولا يُطلب من القرآن شفاء الأمراض الجسمانية فقط بل يُجعل عمدة المقصد شفاء الأمراض الروحانية التي هي مقصد القرآن. فإنَّ القرآن ما نزل لشفاء الأمراض الجسمانية وإن كان يحصل به. كما أنَّ الأنبياء  عليهم السلام لم يبعثوا للشفاء الجسماني وإن كانوا يشفون، فهم أطباء النفوس والشافون للقلوب والأرواح.

 
التفكُّر وضرورة التطبيق على النفس
من الآداب المهمَّة أيضاً لقراءة القرآن والتي تُكسب الإنسان نتائجَ كثيرةً وفوائدَ لا تُحصى هو التَّطبيق. وكيفيَّتُه أنَّه عندما يتفكّر الإنسان في كلّ آية من الآيات الشّريفة عليه أثناء التفكُّر وبعده أن يُطبّق مفاد هذه الآيات الشّريفة على حاله ونفسه، فيرفع نقصانه بواسطة هذا التطبيق ويشفي أمراضه من خلاله.
 
وبإمكاننا القول إنّ وظيفة وتكليف القارئ الحقيقي والسالك إلى الله هي أن يعرض نفسه على القرآن الشّريف من خلال تطبيق ما قرأهُ وتفكَّرَ فيه على نفسه. فكما أنَّ الميزان في صحَّة الحديث وعدم صحّته واعتباره وعدم اعتباره في أن يعرضَه على كتاب الله، فما خالف كتاب الله فهو باطل وزخرف وما وافق فهو حقّ. كذلك فإنَّ الميزان في الاستقامة والاعوجاج والشقاء والسعادة هو أن يكون مستقيماً وصحيحاً في ميزان كتاب الله. وكما أنّ خُلق رسول الله هو القرآن فعليه أن يجعل خُلقه موافقاً للقرآن حتَّى يكون مطابقاً 



1 سورة الإسراء، الآية 82.
2 نهج البلاغة، خطبة 109.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

82

كيف نتعلّم من القرآن؟

 لخُلق الوليّ الكامل أيضاً. وأمّا الخُلق الذي يكون مخالفاً لكتاب الله فهو زخرف وباطل. وكذلك جميع معارف الإنسان وأحوال قلبه، وأعمال الباطن والظاهر لا بدّ أن يُطبّقها على كتاب الله ويعرضها عليه حتَّى يتحقّق بحقيقة القرآن ويكون القرآن صورته الباطنية.

 
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "أنا أول وافد على العزيز الجبّار يوم القيامة وكتابه وأهل بيتي ثمَّ أمّتي ثمَّ أسألهم ما فعلتم بكتاب الله وبأهل بيتي"1.
 
وإذا لم يُحيي الإنسان أحكام القرآن ومعارفه من خلال العمل بها والتحقّق بحقيقتها، فإنَّه لن يتمكَّن من أنْ يُجيبَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك اليوم عمّا فعله بهذه الأمانة، لأنّه لا توجدُ إهانةٌ أعظمُ من أن ينبذَ الإنسان مقاصد القرآن ودعواته وراء ظهره. فليس إكرام القرآن وأهله وهم أهل بيت العصمة والطهارة  عليه السلام بتقبيل جلده أو أضرحتهم المطهّرة فقط، فهذه مرتبة ضعيفة من الاحترام والتكريم، وهي تُصبح مقبولة إذا عملنا بأوامره وأوامرهم  عليهم السلام، وإلا فهو ضرب من الاستهزاء واللعب.
 
وقد حذّرت الأحاديث الشّريفة بشدّة من قارئ القرآن الذي لا يعمل به ولا يُطبّقه على نفسه، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال في حديث: "من تعلّم القرآن فلم يعمل به وآثر عليه حبّالدُّنيا وزينتها استوجب سخط الله وكان في الدرجة مع اليهود والنصارى الذي ينبذون كتاب الله وراء ظهورهم، ومن قرأ القرآن وأراد به السمعة والوصول إلى الدُّنيا لقي الله ووجهه عظم لا لحم فيه وزجّه القرآن على قفاه حتَّى يدخل النَّار ويسقط في النَّار مع الذين سقطوا، ومن قرأ القرآن ولم يعمل به حشره الله يوم القيامة أعمى فيقول: ﴿رَبِّ لِمَ حَشَرْتَني‏ أَعْمى‏ وَقَدْ كُنْتُ بَصيراً * قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى﴾2 فيؤمر به إلى النَّار، ومن قرأ القرآن ابتغاء وجه الله وتفقّهاً في الدِّين كان له من الثواب مثل جميع ما يُعطى الملائكة والأنبياء والمرسلون، ومن تعلّم القرآن يريده رياءً وسمعة ليُماري به السفهاء ويُباهي به العلماء ويطلب به الدُّنيا بدّد الله عزّ وجل عظامه يوم القيامة ولم يكن في النَّار أشدّ عذاباً منه، وليس نوع من أنواع العذاب إلا ويعذّب 



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص600.
2 سورة طه، الآيتان 125-126.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

83

كيف نتعلّم من القرآن؟

 من شدّة غضب الله عليه وسخطه، ومن تعلّم القرآن وتواضع في العلم وعلّم عباد الله يريد ما عند الله لم يكن في الجنَّة أعظم ثواباً منه ولا أعظم منزلة منه ولم يكن في الجنَّة منزلة ولا درجة رفيعة ولا نفيسة إلا كان له فيها أوفر النصيب وأشرف المنازل"1.

 
أمثلة على كيفيَّة التطبيق
1. التدبّر في قصة آدم  عليه السلام:
مثلاً في قصة آدم الشّريفة على الإنسان أنْ يتفكَّر في الأسباب التي أدَّت إلى طرد الشَّيطان من جناب القدس مع تلك السجدات والعبادات الطويلة، فيُطهّر نفسه منها، لأنّ مقام القرب الإلهيّ محلّ المطهّرين، ومع الأوصاف والأخلاق الشَّيطانية لا يمكن التقدّم إلى ذلك الجناب الرفيع. ويُستفاد من هذه الآيات الشّريفة أنّ مبدأ عدم سجود إبليس هو رؤية النفس والعجب بها حيث قال: ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾2.
 
فإنَّ رؤيةَ إبليس لنفسه صارتْ سبباً للعُجب والكبر، وهذا الكبر صار سبباً للاستقلال مقابل الحقّ وعصيان الأمر فصار مطروداً من الحضرة المقدّسة. وما كان سبباً في مطرودية إبليس من جناب القدس، إذا كان موجوداً في أيّ شخص فهو مطرود مثله أيضاً، فلا قيد يجعلها تشمل الشَّيطان دون غيره. وما كان سبباً في إبعاده عن جناب القدس سيؤدّي إلى الحيلولة بينه وبين الوصول إلى تلك الحضرة الإلهيّة.
 
2- التدبّر في أوصاف المؤمنين:
قلنا إنَّه من أراد أن ينال من القرآن الشّريف الحظّ الوافر والفائدة الكافية، عليه أنْ يُطبّق كلّ آية من الآيات الشّريفة على حالات نفسه حتَّى تحصل له الاستفادة الكاملة. مثلاً يقول الله تعالى في سورة الأنفال في الآية الشّريفة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾3،



1 الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج6، ص183.
2 سورة الأعراف، الآية 12.
3 سورة الأنفال، الآية 2.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

84

كيف نتعلّم من القرآن؟

 فعلى الإنسان المتدبِّر أنْ يُلاحظ هل هذه الأوصاف الثلاثة تنطبق عليه؟ هل أنّ قلبه يوجِلُ ويخاف إذا ذكر الله؟ وإذا تُليت عليه الآيات الشّريفة الإلهيّة هل يزداد نور الإيمان في قلبه؟ وكذلك اعتماده وتوكّله على الحقّ تعالى؟ أم أنَّه عن كلّ هذه المراتب متأخّر، ومن كلّ هذه الخصائص محروم؟ من أراد أن يفهم أنَّه من الحقّ تعالى خائفٌ وقلبه من خوف الله وَجِلٌ، فلينظر إلى أعماله. فالإنسان الخائف من الله لا يتجاسر عليه في محضره، ولا يهتك الحرمات الإلهيّة في حضوره.


وإذا قويَ نورُ الإيمان في القلب بتلاوة الآيات الإلهيّة، فإنَّ نور الإيمان سوف يسري إلى ظاهر الإنسان أيضاً. فمن غير الممكن أن يكون القلب نورانياً ولا يكون اللسان والأذن والعين والسمع نورانياً. فالإنسان النوراني هو الذي تشعّ قواه الظاهرة الحسّية والباطنة الملكوتية بأسرها بالنور. وهو في هذه الحالة مضافاً إلى أنَّه اهتدى إلى السعادة والطريق المستقيم إلا أنَّه يكون مضيئاً لسائر الخلق أيضاً ويهديهم إلى طريق الإنسانية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

85

حبّ أولياء الله

 حبّ أولياء الله



- المحبّة ودورها في حياة الإنسان
- القلب أمير البدن
- أثر الحبّ على الروح
- من نُحبّ واقعاً؟
- أهل البيت  عليهم السلام  هم مظاهر الحبّ الواقعي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

86

حبّ أولياء الله

 المحبّة ودورها في حياة الإنسان

الحبّ من الميول الفطرية المودعة في كلّ إنسان، وهو كامنٌ في نفوس الجميع، ولا يمكن أن يخلو منه أيّ إنسان. وحقيقة الحبّ عبارة عن التعلّق الخاص والانجذاب المخصوص بين المرء وكماله. وكلّ واحدٍ منّا يعلم حضوراً بوجود تعلّقٍ وانجذابٍ في قلبه، وإنْ اختلف هذا المتعلّق بين شخصٍ وآخر. فالثابت والمشترك بين الجميع هو أنّهم يتعلّقون بالكمال أو الكامل الذي يرونه بحسب اعتقادهم وتصوّرهم. أمّا دور الحبّ فهو لا ينحصر فقط في طمأنينة الباطن وسكينته، بل للحبّ دور آخر أكثر أهميّة. إنّ هذا الحبّ هو المسؤول عن جميع توجّهات البشر وتحرّكاتهم.
 
لأنّ الحبّ كما يُعرّفه العلّامة نصير الدين الطوسي: "هو الذي يكون مبدؤه مشاكلة العاشق لنفس المعشوق في الجوهر. وهو يجعل النفس ليّنة شيّقة ذات وجد ورقّة منقطعة عن الشواغل الدنيوية"1.
 
فالمحبّ سوف يسعى على الدوام إلى مشاكلة محبوبه في صفاته وشمائله وأفعاله. فإذا كان المحبوب كاملاً تامّاً، وشمائله عظيمةً رفيعة، اتّجه وجوده وصفاته نحو المشاكلة التامّة. فلا يبقى بينه وبين المحبوب أيّ فارق، فلا يعصيه ولا يُخالف له أمراً. ذلك لأنّ الحبّ الذي لا ينطلق من الأنا وحبّ النفس (وهذا هو الحبّ الحقيقي)، هو عبارةٌ عن النظر إلى المحبوب وإلى ما يُريده وما يرتضيه.



1 أبو علي سينا، الإشارات والتنبهيات، ج 4، ص 602، تحقيق وشرح نصير الدين محمد بن الحسن الطوسي، شرح الشرح للعلّامة قطب الدين محمد بن محمد أبي جعفر الرازي، الناشر نشر البلاغة – قم، مطبعة القدس – قم، 1383ش، الطبعة 1.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

87

حبّ أولياء الله

 القلب أمير البدن

للقلب دور مركزيّ في صدور الأفعال من الإنسان، وهذا الدور مرتبط بالشيء المحبوب الذي يتعلّق به قلب الإنسان. من هنا يُمكن أن نستنتج أنّه إذا صلح القلب صلح الإنسان بصلاح أعماله واستقامتها، ويُمكن أنْ نفهم معنى كلام الإمام الصادق  عليه السلام: "وهل الدّين إلا الحبّ"1. وجواب الإمام الباقر لسائل يسأله عن كيفية معرفة إنْ كان على خير فقال له  عليه السلام: "إذا أردتَ أن تعلم أنّ فيك خيراً، فانظر إلى‏ قلبك‏، فإنْ كان يُحبّ أهل طاعة الله ويُبغِض أهل معصيته، فَفِيكَ خَيرٌ والله يُحبّك، وإِنْ كان يُبغِضُ أهل طاعة الله ويُحِبّ أهل معصيته، فليس فيك خير والله يُبغِضك، والمرء مع من أحب‏"2. والسبب في ذلك أنّ حبّ أهل الخير سوف يكون مدعاة لاتباعهم والاقتداء بأعمالهم، وحبّ أهل السوء سوف يكون كذلك أيضاً.
 
من هنا كان الحبّ من أهمّ العوامل التي تُسهّل سبيل الطاعة. بل بإمكاننا القول أيضاً إنّ الطاعة ليست سوى أحد لوازم الحبّ، فبمقدار الحبّ تكون الطاعة. ذلك لأنّ القلب هو أمير البدن كما في حديث النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "...إنّ الله تعالى ما فرض الإيمان على جارحة من جوارح الإنسان إلا وقد وُكِلَت بغير ما وُكِّلَت به الأخرَى، فمنها قلبه الذي يعقل به ويفقه ويفهم ويحلّ ويعقد ويريد وهو أمير البدن‏"3. وكلّ الأعمال التي تصدر عن الأعضاء والجوارح، إنّما تكون بإمرة القلب، وليس العقل كما يُتصوّر أحياناً. فعقولنا ليست سوى مصباح، يُضيء لنا طريقنا. أمّا المحرّك الواقعي والمسؤول الحقيقي عن أيّة حركة وفعل مهما كان بسيطاً فهو القلب. وإذا أردنا أن نعرف كيفيّة صدور العمل عن الإنسان ينبغي الالتفات إلى المراحل التالية:
1. مرحلة التصوّر: عندما يستحضر صورة العمل مستعيناً بالخيال، ويتصوّره في نفسه.
 
2. مرحلة التصديق: فيقوم العقل بتحليل هذا العمل ومدى فائدته. فإذا كان العقل أسير الأهواء فسوف يبقى معطّلاً، فتكون الأهواء هي الحاكمة وفق ما تراه ودون الأخذ بعين الاعتبار رضا الحقّ سبحانه أو موافقة شريعته.



1 السيد حسين البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج26، ص716.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص 328.
3 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 66، ص73.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

88

حبّ أولياء الله

 3. مرحلة التعلّق: وهنا يأتي دور القلب، حيث ينظر إلى العمل ويزنه على أساس ما يُحبّ. فإذا كان حبّ الدنيا مسيطراً على القلب، فإنّ القلب سيتعلّق به، ويُحرّك البدن باتجاهه. وإذا كان القلب متعلّقاً بالله، فلن يتعلّق القلب بهذا العمل، بل سينفر منه لأنّه سيُبعده عن محبوبه، ولن تتحرّك الأعضاء نحو العمل المذكور.

 
4. مرحلة التنفيذ: وهي مرحلة ظهور العمل بواسطة الآلات والجوارح في الخارج.
 
أثر الحبّ على الروح
الحبّ يوصل النفس إلى كمالها ويظهر المواهب الكامنة المحيّرة. إنّه يُلهم القوى المدركة، ويقوّي مشاعر الإرادة والعزيمة. وإذا ما تسامى في العلى صنع الكرامات وخوارق العادات.إنّه يُطهّر الروح من الأخلاط والشوائب. فالحبّ، بعبارة أخرى، يُصفّي. إنّه يمحو الصفات الرذيلة الناشئة من الأنانية أو من البرود وانعدام الحرارة، كالبخل، والتقتير، والجبن، والكسل، والتكبّر والعجب. إنّه يزيل الحقد والحسد، وإنْ قيل إنّ الحرمان والإخفاق في الحبّ يمكن أن يخلقا بدورهما الحقد والعقد.
 
أثر الحبّ على الروح إعمارٌ وبناء، وعلى الجسم تذويبٌ وتخريب. إنّ أثره في الجسم عكس تأثيره في الروح، فهو في الجسم باعثٌ على خرابه واصفراره ونحوله وسقمه واختلال هامته وأعصابه، وغير ذلك من صور الهدم والتخريب.. ولكنّه في الروح ليس كذلك، بحسب موضوع الحبّ، وما يريده المحب منه. فإذا تجاوزنا آثار الحبّ الاجتماعيّة، فإنّه من حيث آثاره الروحية الفردية تكميليّ، لأنّه يولّد القوّة والرقّة والصفاء والاتّحاد والهمّة، ويقضي على الضعف والجبن والكراهية والتفرّق والبلادة، ويُنقّي الروح والشوائب التي هي "الدسّ"بتعبير القرآن، ويُزيل الغشّ ويجعل العيار خالصاً1.
 
من نُحبّ واقعاً؟
كما لاحظنا سابقاً إنّ للقلب الدور المركزيّ في صدور الأفعال كافّة. وهذا الدور مرتبطٌ بالشيء المحبوب الذي تعلّق القلب به. ولهذا إذا صلح القلب صلح الإنسان بصلاح أعماله واستقامتها. ومن هنا نعرف معنى كلام الإمام الصادق  عليه السلام: "وهل الدين إلَّا الحبّ"2.

ونقترب من جواب الإمام الباقر  عليه السلام لسائل سأله إذا كان فيه خيرٌ أم لا، فقال  عليه السلام له: "إذا أردت أنّ تعلم أنّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك..."3. وسيكون من نتائج هذا الفهم وضوح أحد معاني الآية الكريمة: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَليمٍ﴾4.



1 الشهيد مطهري، علي في قوتيه الدافعة والجاذبة.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج8، ص79.
3 م. ن، ج2، ص126.
4 سورة الشعراء، الآيتان 88 – 89.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

89

حبّ أولياء الله

 فالحبّ بدوره المركزي أضحى أحد أهمّ مميّزات الإسلام. والتركيز على الحبّ ودوره في حياة الإنسان ومصيره ليس أمراً هامشياً أو عبثياً، لأنّ الإسلام أراد إصلاح الإنسان من خلال إصلاح مركز وجوده ومعدنه. هذا الإصلاح يتحقّق عندما يتعلّق القلب بالكمال الحقيقي الذي تعشقه الفطرة الإنسانية وتميل إليه.

 
فقلب الإنسان بحسب الفطرة التي فُطر عليها لا يمكن أن يتعلّق بالنقص أو بما يُسبّب له الضرر. بل ولا يُمكن أن يتعلّق بالكمال المحدود والفاني، ففي أعماق كلّ إنسان فطرةٌ ينبثق منها هذا الحبّ، وهي لا تريد ولا تطلب سوى الكمال المطلق اللامتناهي. وقد أرسل الله تعالى الأنبياء إلى النّاس، ليس لأجل وضع الفطرة فيهم أو إنشائها في بواطنهم، بل من أجل هدايتهم إلى ما تصبو إليه هذه الفطرة الكامنة فيهم، كما قال أمير المؤمنين  عليه السلام: "فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويُذكّروهم مَنسِيّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويُثيروا لهم دفائن العقول"1.
 
بعبارةٍ أخرى بُعثوا ليدلّوهم على المصداق الواقعي للكمال الذي ينشدونه، وهو الحقّ جلّ وعلا، حتى إذا سيطرتْ محبّته على القلب زالت كلّ التعلّقات الأخرى وعلى رأسها 



1 نهج البلاغة، ج 1، ص 23.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
124

90

حبّ أولياء الله

 حبّ الدنيا على قاعدة "عظُم الخالق في أنفسهم فصغُر ما دونه في أعينهم"1، فيزول الانجذاب والتعلّق بالكمال الزائل الفاني، ولا تتعلّق قلوبهم إلَّا بما يرتبط بمحبوبهم.

 
أهل البيت  عليهم السلام هم مظاهر الحبّ الواقعي
ولكن لأنّ طبيعة الناس ونفوسهم مستغرقةٌ في عالم الدنيا والظاهر، ولا يُمكنهم في البداية أن يتعرّفوا إلى المصداق الحقيقي للكمال المطلق وهو الله، فقد أنزل الحقّ تعالى إليهم مظاهر هذا الكمال بجلباب البشرية لكي يتعرّفوا إليه من خلالها. فكان أعظم ما في هذا الوجود هو خلق هذا الخليفة لله بصورة البشر ﴿إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَةً﴾2 فكان هذا الخليفة الواقعي هو المظهر والممثّل الحقيقي للمستخلف. أي مظهر إرادة الحقّ وكمالاته المطلقة في هذا العالم. ولهذا كان خُلق أهل البيت  عليهم السلام حيث يشاهد الناس أمامهم بشراً يمشون في الأسواق، ويأكلون الطعام، وينامون، ويتزوّجون، ومع ذلك فهم مظاهر تامّة للكمال الإلهي اللامتناهي. وهذا ممّا سيُلهب وجدانهم ويزيد من شوقهم ويُلقي الحجّة التامّة عليهم.
 
فعن الإمام الباقر  عليه السلام: "إذا أردتَ أنّْ تعلم أنّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك. فإذا كان يُحبّ أهل طاعة الله، ويُبغض أهل معصيته، ففيك خيرٌ، والله يُحبّك. وإذا كان يُبغض أهل طاعة الله، ويُحبّ أهل معصيته، فليس فيك خيرٌ، والله يُبغضك، والمرء مع من أحبّ"3.
 
وفي رواية أخرى أنّ رجلاً يُدعى أبا عبد الله دخل على أمير المؤمنين  عليه السلام فقال له الإمام: "يا أبا عبد الله: ألا أُخبرك بقول الله عزّ وجلّ ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾4، قال: بلى يا أمير المؤمنين. فقال الإمام  عليه السلام: "الحسنة معرفة 



1 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 64، ص 315.
2 سورة البقرة، الآية 30.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج2،ص126.
4 سورة النمل، الآيتان 89-90.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

91

حبّ أولياء الله

 الولاية، وحبّنا أهل البيت، والسيّئة إنكار الولاية، وبغضنا أهل البيت"1.

 
وفي حديثٍ آخر عن الإمام الصادق  عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لأصحابه: "أيّ عرى الإيمان أوثق؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. وقال بعضهم الصلاة، وقال بعضهم الزكاة، وقال بعضهم الحج والعمرة، وقال بعضهم الجهاد في سبيل الله. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لكلّ ما قُلتم فضلٌ وليس به، ولكن أوثق عرى الإيمان الحبّ في الله، والبغض في الله، وتولّي أولياء الله والتبرّي من أعداء الله"2.
 
وقال أمير المؤمنين  عليه السلام: "لو ضربتُ خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أنْ يُبغضني ما أبغضني. ولو صببتُ الدنيا بجمّاتها على المنافق على أن يُحبّني ما أحبّني، وذلك أنّه قُضي فانقضى على لسان النبيّ الأميّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: يا عليّ لا يُبغضك مؤمنٌ، ولا يُحبّك منافق"3.
 
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من رزقه الله حبّ الأئمّة من أهل بيتي فقد أصاب خير الدنيا والآخرة. فلا يشكّنّ أحدٌ أنّه في الجنّة. فإنّ في حبّ أهل بيتي عشرين خصلة، عشر منها في الدنيا، وعشر في الآخرة. أمّا في الدنيا فالزهد، والحرص على العمل، والورع في الدين، والرغبة في العبادة، والتوبة قبل الموت، والنشاط في قيام الليل، واليأس ممّا في أيدي الناس، والحفظ لأمر الله (عزّ وجلّ) ونهيه، والتاسعة بغض الدنيا، والعاشرة السخاء. أمّا في الآخرة: فلا يُنشر له ديوان، ولا يُنصب له ميزانٌ، ويُعطى كتابه بيمينه، ويُكتب له براءة من النّار، ويُبيّض وجهه، ويُكسى من حلل الجنّة، ويُشفّع في مئة من أهل بيته، وينظر الله عزّ وجلّ إليه بالرحمة، ويُتوّج من تيجان الجنّة، والعاشرة يدخل الجنّة بغير حساب"4.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص185
2 م. ن، ج2، ص125.
3 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج34، ص50.
4 م. ن، ج27، ص78.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
126

 


92

السبيل إلى محبّة أولياء الله

 السبيل إلى محبّة أولياء اللهالسبيل إلى محبّة أولياء الله




- محبّة أهل البيت  عليهم السلام  هي السبيل إلى الله
- كيفية تحصيل محبّة أهل البيت  عليهم السلام
- الحذر من الوقوع في الغلو
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

93

السبيل إلى محبّة أولياء الله

 محبّة أهل البيت  عليهم السلام هي السبيل إلى الله

إذا تأمّلنا في حياة الأنبياء  عليهم السلام وسيرتهم مع أقوامهم نجدهم يعرضون أثمن ما عندهم وهو الهداية إلى الله بدون طلب الأجر والمقابل، لأنّ أجرهم كان على الله تعالى دوماً. فكلّ واحدٍ منهم كان إذا سُئل يقول: يا قومي لا أسألكم على ما أقوم به من أجرٍ إن أجري إلَّا على الله ﴿قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهيدٌ﴾1.
 
لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امتاز عن جميع الأنبياء والرسل بطلبه الأجر على الرسالة والدعوة الكبرى التي ضحّى في سبيلها بكلّ غالٍ ونفيس، وحصر هذا الأجر في أمرٍ واحدٍ هو المودّة والمحبّة لأهل بيته  عليهم السلام أجمعين، ﴿قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى﴾2 ولكي لا يتصوّر أنّ هذا الأجر يعود بالنفع على رسول الله شخصيّاً، عاد النبيّ مجدّداً ليُبيّن لقومه أنّ ما سيُقدّمونه سيعود على أنفسهم بالفائدة: ﴿قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهيدٌ﴾3, ولبيان النفع يقول ﴿قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبيلاً﴾4.
 
إذاً، تُصرّح الآية بما لا لبس فيه ولا شكّ أنّ السبيل إلى الله وطريق الوصول إليه، إنّما يمرّ من خلال مودّة أهل البيت ومحبّتهم، فهي السبيل للوصول إلى الغاية النهائيّة للإنسان. فالصلاة والصيام والجهاد والحج والزكاة وجميع الفرائض الإلهية لن تكتسب روحها التي بها يحصل 



1 سورة سبأ، الآية 47.
2 سورة الشورى، الآية 23.
3 سورة سبأ، الآية 47.
4 سورة الفرقان، الآية 57.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

94

السبيل إلى محبّة أولياء الله

 القرب، وبها تصبغ بالقبول إلَّا بهذه المودّة. فلا عجب إذاً أن يكون الأجر على الرسالة الخاتمة محبّة أهل البيت  عليهم السلام لأنّ هذه المحبّة ستكون سبباً لحفظ الرسالة وبقائها حيّة بين الناس.

 
آثار محبّة أهل البيت  عليهم السلام
قال الله عزّ وجل في محكم كتابه: ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾1. وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها"2. إنّ الدخول إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو دخول في الإسلام الأصيل لا يحصل واقعاً بدون الإمام علي بن أبي طالب  عليه السلام، وأهل البيت  عليهم السلام، لأنّ حبّ أهل البيت  عليهم السلام له وجهان في الإسلام:
الوجه الأوّل: يطلّ على العقيدة فيُصحّحها. وهو ما يظهر في مثل هذا الحديث الشريف المرويّ عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "يا عليّ لولاك أنت لم يُعرف المؤمنون من بعدي"3، والحديث المعروف بشأن عليّ  عليه السلام: "حبّك إيمان، وبغضك نفاق وكفر"4.
 
الوجه الثاني: يطلّ على الأعمال، فيأخذها إلى وجهتها المطلوبة وموقعها الصحيح. وإلى هذا المعنى أشار حديث الإمام الصادق  عليه السلام عن محمد بن الفضيل قال: "سألتُه عن أفضل ما يتقرّب به العبد إلى الله (عزّ وجلّ) فقال: طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر، ثمّ قال: حبّنا إيمان، وبغضنا كفر"5.
 
فالإيمان بالله تعالى أمرٌ قد يدّعيه أيّ إنسان. ولكنّ الإيمان الواقعي هو الذي يتجلّى في الدنيا بصورة حبّ الإنسان الكامل، لأنّه مظهر الارتباط الواقعي بالله تعالى. والعمل الصالح وأداء الفرائض أمر قد يقوم به أيّ إنسان. ولكن الصلاح الحقيقي والعبادة الواقعيّة تتجلّى في الدنيا بصورة ولاية الإنسان الكامل. وأهل البيت  عليهم السلام هم مظهر الإنسان الكامل على الأرض.
 
فعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ألا ومن أحبّ عليّاً، فقد أحبّني. ومن أحبّني فقد 



1 سورة البقرة، الآية 189.
2 الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج27، ص34.
3 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج37، ص272.
4 م. ن، ج39، ص42.
5 الشيخ الكليني، الكافي، ج1،ص187.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

95

السبيل إلى محبّة أولياء الله

 رضي الله عنه. ومن رضي الله عنه كافاه الجنّة. ألا ومن أحبّ عليّاً لا يخرج من الدنيا حتّى يشرب من الكوثر، ويأكل من طوبى، ويرى مكانه في الجنّة. ألا ومن أحبّ عليّاً فُتِحت له أبواب الجنّة الثمانية، يدخلها من أيّ بابٍ شاء بغير حساب. ألا ومن أحبّ عليّاً أعطاه الله كتابه بيمينه وحاسبه حساب الأنبياء. ألا ومن أحبّ عليّاً هوّن الله عليه سكرات الموت وجعل قبره روضة من رياض الجنّة.ألا ومن أحبّ عليّاً أعطاه الله بكلّعِرقٍ في بدنه حوراء، وشُفّع في ثمانين من أهله. ألا ومن مات على حبّ آل محمّدٍ فأنا كفيله بالجنّة مع الأنبياء.ألا ومن مات على بغض آل محمدٍ لم يشمّ رائحة الجنّة"1.

 
ومن الآثار المترتّبة على محبّة أهل البيت  عليهم السلام أيضاً:
1-  استكمال الدين: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "حبّ أهل بيتي وذرّيتي استكمال الدين"2.
 
2- التمسّك بالعروة الوثقى: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مخاطباً أمير المؤمنين علي  عليه السلام: "يا علي، من أحبّكم وتمسّك بكم، فقد تمسّك بالعروة الوثقى"3.
 
3- اطمئنان القلب وطهارته: قال أمير المؤمنين  عليه السلام: "إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لمّا نزلت هذه الآية ﴿ألا بِذكرِ الله تَطمَئنُّ القُلوبُ﴾4 قال: ذاك من أحبّ اللّه ورسوله، وأحبّ أهل بيتي صادقاً غير كاذب، وأحبّ المؤمنين شاهداً وغائباً، ألا بذكر اللّه يتحابون"5.
 
وعن الإمام الباقر  عليه السلام: "لا يُحبّنا عبد ويتولّانا حتى يُطهّر اللّه قلبه، ولا يُطهّر اللّه قلب عبدٍ حتى يُسلّم لنا ويكون سلماً لنا، فإذا كان سلماً لنا سلّمه اللّه من شديد الحساب، وآمنه من فزع يوم القيامة الأكبر"6.
 
4- الاغتباط عند الموت : قال أمير المؤمنين  عليه السلام للحارث الأعور: "لينفعنّك حبّنا عند ثلاث: عند نزول ملك الموت، وعند مساءلتك في قبرك، وعند موقفك بين يدي اللّه"7.



1 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج7، ص221.
2  الصدوق، الأمالي، ج1، ص 161.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج36، ص302.
4 سورة الرعد، الآية 28.
5 المتقي الهندي، كنز العمال، ج2، ص442.
6 الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص194.
7 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج27، ص164.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

96

السبيل إلى محبّة أولياء الله

 5- الشفاعة يوم القيامة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الزموا مودّتنا أهل البيت ، فإنّه من لقي اللّه يوم القيامة وهو يودّنا دخل الجنّة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينتفع عبد بعمله إلّا بمعرفة حقّنا"1.

 
6- التوبة والمغفرة وقبول الأعمال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "من مات على حبّ آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حبّ آل محمد مات مغفوراً له، ألا ومن مات على حبّ آل محمد مات تائباً، ألا ومن مات على حبّ آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان..."2. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "حبّنا أهل البيت يُكفّر الذنوب ويُضاعف الحسنات"3.
 
7- الحشر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "يرد عليَّ الحوض أهل بيتي ومن أحبّهم من أُمّتي كهاتين"4، يعني السبّابتين.
 
وعن أمير المؤمنين  عليه السلام قال: "إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد الحسن والحسين، فقال: من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأُمهما، كان معي في درجتي يوم القيامة"5.
 
وغيرها من الروايات الشريفة التي ذكرت ثمار محبّتهم والتمسّك بهم عليهم أفضل الصلاة والسلام.فإنّ قضيّة حبّ أهل البيت  عليهم السلام ودوره في إيصال الإنسان إلى لقاء الله والجنّة وغفران الذنوب، لم ترد في بضعة أحاديث متناثرة مقطوعة أو مجهولة السند. فإنّ ما روي عن الفريقين يصل إلى حدّ التواتر. وقد يتساءل البعض متعجّبين عن سرّ هذا الأمر، إذ كيف يكون مجرّد حبّ شخصٍ أو مجموعة أشخاص سبباً لهذه الكرامات والكمالات العظيمة؟! ولكن من أدرك دور المحبّة وتأثيرها على حياة الإنسان وعلى توجّهاته في الحياة الدنيا، اطّلع على حقيقة الأمر وانكشف له السر.



1 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج27، ص91.
2 م. ن، ج23، ص233.
3 م. ن، ج65، ص100.
4 م. ن، ج44، ص60.
5 م. ن، ج23، ص116.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
132

97

السبيل إلى محبّة أولياء الله

 كيفية تحصيل محبّة أهل البيت  عليهم السلام

إنّ طريق تحصيل محبّة أهل البيت  عليهم السلام ذو شقّين: علميّ وعمليّ.
أما الأوّل: فيكون من خلال معرفتهم ودراسة علومهم وتتبّع آثارهم. ولا شكّ بأنّنا منذ البداية معترفون بالعجز عن الإحاطة بمقامهم. فهم معدن الفضل، وكنوز الرحمن، وأصول الكرم، وباب الله الذي منه يؤتى. وأفضل النصوص الشريفة التي تحدّثت عن صفاتهم "الزيارة الجامعة"1، وإنّ المواظبة على قراءتها والتأمّل في معانيها يفي بالغرض إلى حدٍّ كبير، لما تضمّنته هذه الزيارة من الحقائق والأسرار ما لم تذكره المطوّلات من الكتب والمخطوطات.
 
أمّا الثاني: فهو العمل من خلال اتّباعهم واتّباع أوامرهم والتحرّك وفق خطّتهم العامّة للبشريّة، والتأسّي بهم. قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني‏ يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾2 فالحبّ الحقيقي لا يُحفظ إلَّا من خلال التقوى والطاعة. فالحبّ يدعو إلى الطاعة والطاعة تزيده قوّةً في القلب. وإذا لم يستجب البدن لدعوة الحبّ، سيرتحل من القلب عمّا قريب. من هنا فإنّ الدعوة إلى التقوى والورع لأمرين أساسين: الأوّل: للحفاظ على الحبّ الموجود. الثاني: لتهيئة الأرضية لتحصيل هذا الحبّ إنْ لم يكن موجوداً:
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه           هذا لعمري فـي الفعال بديع
لو كان حبّك صادقاً لأطـعتَه            إنّ المحبّ لمن يُحبّ مطيع3
 
عن الإمام الباقر  عليه السلام أنّه قال: "لن تنالوا ولايتنا إلَّا بالورع، ولن تنالوا ما عند الله تعالى إلَّا بالعمل، وإنّ أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة لمن وصف عدلاً وخالفه إلى غيرهِ"4.



1 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 7، ص 221.
2 سورة آل عمران، الآية 31.
3 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 47، ص 42.
4 م. ن، ج68،ص187.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

98

السبيل إلى محبّة أولياء الله

 وعنه  عليه السلام أيضاً أنّه قال: "يا جابر: لا تذهب بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول أُحبّ علياً وأتولّاه ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالاً! فلو قال إنّي أحبّ رسول الله، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرٌ من عليّ  عليه السلام ثمّ لا يتّبع سيرته، ولا يعمل بسنّته، ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً"1.

 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم في حديثٍ آخر يقول: "يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلَّا من اتّقى الله وأطاعه.. إلى أن قال: فاتّقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله ولا بين أحدٍ قرابة، أحبّ العباد إلى الله تعالى وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر: والله ما نتقرَّب إلى الله تعالى إلَّا بالطاعة، ما معنا براءة من النّار، ولا على الله لأحدٍ من حجّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلاَّ بالعمل والورع"2.
 
كما وإنّ أشرف الأعمال وأقواها تأثيراً في النفس على صعيد الحبّ أيضاً طاعة وليّهم  عليه السلام واتّباعه. كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لبعض أصحابه ذات يوم: "يا عبد الله: أحبب في الله وأبغض في الله، ووال في الله وعاد في الله. فإنَّه لا تُنال ولاية الله إلَّا بذلك. ولا يجد رجلٌ طعم الإيمان، وإن كثُرت صلاته وصيامه، حتى يكون كذلك. وقد صارت مؤاخاة الناس في يومكم هذا أكثرها في الدنيا، عليها يتوادّون، وعليها يتباغضون، وذلك لا يُغني عنهم من الله شيئاً. فقال له: وكيف لي أن أعلم أنّي قد واليتُ وعاديتُ في الله عزّ وجل؟ ومن وليّ الله عزّ وجلّ حتى أُواليه؟ ومن عدوّه حتى أُعاديه؟ فأشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمإلى علي  عليه السلاموقال: أترى هذا؟ قال: بلى.. قال  عليه السلام: "وليّ هذا وليّ الله فواله، وعدوّ هذا عدوّ الله فعاده.. وال وليّ هذا ولو أنّه قاتل أبيك وولدك. وعاد عدوّ هذا ولو أنّه أبوك أو ولدك"3.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص74.
2 الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج15، ص234.
3 م.ن، ج16، ص178.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

99

السبيل إلى محبّة أولياء الله

 وفي حديثٍ آخر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب  عليه السلام أنّه قال: "يا حبيش، من سرّه أن يعلم أمحبٌّ لنا أم مبغض، فليمتحن قلبه، فإنْ كان يُحبّ وليّاً لنا فليس بمبغض لنا. وإنْ كان يُبغض وليّاً لنا فليس بمحبّ لنا، إنّ الله تعالى أخذ الميثاق لمحبّينا بمودّتنا، وكتب في الذكر اسم مبغضنا.. نحن النجباء وأفراطنا أفراط الأنبياء"1. فأهل البيت  عليهم السلام وإنْ غابوا، فإنّ أولياءهم موجودون بيننا، وقد قامت حجّتهم. فهذا الإمام القائد الخامنئي حجّة الله على المسلمين حامل راية الولاية. وهذا هو السيّد حسن في لبنان رافع لواء الجهاد والمقاومة. وهؤلاء هم المجاهدون المضحّون الذين سلكوا طريق الشهادة.

 
ومن الأعمال الصالحة والشريفة أيضاً، الدعاء بالفرج لقائمهم عجل الله تعالى فرجه الشريف والمواظبة على زيارتهم والتوسّل بهم، فممّا لا شكّ فيه أنّ له أثراً بالغاً في تأجيج المحبّة في القلب.
 
الحذر من الوقوع في الغلو
في الختام نُشير إلى مسألة مهمّة ينبغي التوقّف عندها وهي مسألة الغلو في محبّة أهل البيت  عليهم السلام. فالبعض يذهب إلى حدّ المبالغة والإفراط في محبّتهم إلى حدّ الوقوع في الشرك، وإلحاق البدع بتعاليم هذا الدِّين الحنيف وشرعه المنير، فحلّلوا حرامه وحرّموا حلاله باسم محبّة الأطهار  عليهم السلام. وفي المقابل كانت روايات وتعاليم أهل بيت العصمة والطهارة في المرصاد لتضع الأمور في مواضعها الصحيحة فلا إفراط ولا تفريط في محبّتهم  عليهم السلام. فقد روي عن الإمام علي  عليه السلام أنّه قال: "لا تتجاوزوا بنا العبوديَّةَ ثمّ قولوا ما شئتم ولا تَغُلُّوا وإِيّاكم والْغُلُوَّ كَغُلُوِّ النَّصَارَى‏ فَإِنِّي بَرِي‏ءٌ مِنَ الْغَالِين"2.
 
وعن الإمام الصادق  عليه السلام قال: "لعن اللّه من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا، لعن اللّه من أزالنا عن العبودية للّه الذي خلقنا، وإليه مآبنا ومعادنا ، وبيده نواصينا"3.



1 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج27، ص53.
2 م.ن، ج4، ص303.
3 م. ن، ج 25، ص297.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

 


100

السبيل إلى محبّة أولياء الله

 هذه الأحاديث وغيرها تُعتبر ميزاناً دقيقاً لكلّ الآراء والأفكار والتوجّهات حول أهل البيت  عليهم السلام. فمن اتبع كلامهم بصدق وإحسان، وسلك درب الطاعة والعبودية لهم، وعرف بدقّة الحدّ بين العبد والرب، أي بين المخلوق والخالق لم يقع في الحيرة والضلالة والبدع أبداً.

 

 

 

 

 

 

136


101

المساجد بيوت الله تعالى

  المساجد بيوت الله تعالى



المساجد وشرف نسبتها لله تعالى
المسجد وعناية آدم والخليل  عليهما السلام
المسجد وآل عمران  عليهم السلام
المسجد بعد الهجرة النبويّة
أذِن الله أن تُرفع
المساجد وروّادها وشهادة الإيمان
أفضل الأماكن وأفضل الناس
المساجد وشباب الإسلام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

102

المساجد بيوت الله تعالى

 مقدّمة

إنّ المساجد بيوت الله ومهابط رحمته، فيها يُعبد وفيها يُذكر اسمه، وزوّاره فيها عُمَّارُها، فهي ملتقى المؤمنين من عباده وصفوته، وهي أحبُّ البقاع إلى الله تعالى، ومنارات الهدى وأعلام الدين، ومنطلق إعلان التوحيد لله سبحانه، وقلاع الإيمان كما أنّها مجالس للذكر، ومحراب للعبادة، ومواضع تسبيح وابتهال وتذلّل بين يدي الله سبحانه، ورغبة فيما عنده من الأجر الكبير، ومقام تهجّد وترتيل لكتاب الله وحفظ له، وغوص وراء معانيه، والناس يتعلَّمون فيها مبادئ دينهم وتعاليمه. بل هي أول المؤسسات التي انطلق منها شعاع العلم والمعرفة في الإسلام، وهي ميدان الشورى والتعارف والتآلف، والموئل الإيمانيّ الّذي تطمئنّ القلوب المؤمنة بارتياده، وتسكن النفوس النقيّة في كنفه.
 
المساجد وشرف نسبتها لله تعالى
يكفي المساجد شرفاً ومنزلة أنّ الله سبحانه وتعالى أضافها إلى ذاته العليّة، ونسبها إليه، فقال في فرقانه: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا﴾1، فتعلّقت قلوب المحبّين لله عزّ وجلّ بها، لنسبتها إِلَى محبوبهم، وارتاحوا إِلَى ملازمتها لإظهار ذكره فيها هذا مع أنّ جميع البقاع وما فيها ملك لله تعالى، ولكن المساجد لها زيادة مزيّة وشرف حيث تختصّ بالعبادات والطاعات والقربات، فإضافتها إلى الله تعالى تقتضي احترامها، واعتراف المسلمين بفضلها، فهي من خصائصهم، وفي فضلها وعظيم منزلتها ورد الكثير من النصوص الشريفة، فقد أولى القرآن الكريم للمساجد عناية كبيرة، ومن وجوه شتّى حيث 



1 سورة الجن، الآية 18 ، وأحد الأقوال في تفسيرها أن المراد بالمساجد في الآية أماكن الصلاة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

103

المساجد بيوت الله تعالى

 تكرّر ذكر المسجد أو المساجد، والمسجد الحرام، ولفظ البيوت التي أذن الله أن تُرفع في ثمان وعشرين آية من كتاب الله.

 
وقد روي عن رجالات العترة النبويّة الطاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "قال الله تبارك وتعالى: ألا إنّ بيوتي في الأرض المساجد، تُضيء لأهل السماء كما تُضيء النجوم لأهل الأرض.."1.
 
وقال مولانا الإمام علي بن الحُسين عليهما السلام في جوابه لولده زيد الشهيد: "يا بني: المساجد بيوت الله، فمن سعى إليها، فقد سعى إلى الله، وقَصَدَ إليه، والمصلّي ما دام في صلاته، فهو واقف بين يدي الله جلّ جلالـه، وإنّ لله تعالى بقاعاً في سماواته، فمن عُرج به إلى بقعة منها، فقد عُرج به إليه ألا تسمع الله عزّ وجلّ يقول: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾2، ويقول في قصة عيسى  عليه السلام: ﴿بَلْ رَفَعَهُ الله إِلَيْهِ﴾3، ويقول عزّ وجلّ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾4"5.
 
المسجد وعناية آدم والخليل عليهما السلام
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾6، والمرويّ عن أهل بيت النبوّة أنّ أبا البشر آدم  عليه السلام هو الذي بنى بيت الله الحرام، ومن ذلك ما ورد عن مولانا الإمام جعفر بن محمد الصادق  عليه السلام قال: "إنّ آدم  عليه السلام هو الذي بنى البيت، ووضع أساسه، وأوّل من كساه الشعر، وأوّل من حجّ إليه،.."7.
 
وبعد أن وهب الله تعالى لخليله إبراهيم ولديه إسماعيل وإسحاق  عليهم السلام حمد الله تعالى، وتوجّه إليه مبتهلاً بابتهالات عديدة، وكان من أمره أن أنزل أمّنا هاجر وولدها



1 الشيخ الصدوق محمد بن علي، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص28، طبعة:2، دار الشريف الرضي للنشر، قم، ورواه أبو القاسم الطبراني من حديث بن عباس موقوفاً، المعجم الكبير، ج10، ص262، طبعة:2، دار العلوم والحكم، الموصل.
2 سورة المعارج، الآية 4.
3 سورة النساء، الآية 158.
4 سورة فاطر، الآية 10.
5 الشيخ الصدوق أبو جعفر محمد بن علي بن الحسبن بن موسى بن بابويه القمي، من لا يحضره الفقيه، ج1، ص199-200، طبعة:2، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم.
6 سورة آل عمران، الآية 96.
7 الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج‏2، ص229، باب في حج الأنبياء والمرسلين.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
142

104

المساجد بيوت الله تعالى

  إسماعيل  عليهم السلام في جوار أسس البيت الحرام، وابتهل إلى الله قائلاً: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ...﴾1، وفيما بعد ذلك رفع الخليل إبراهيم وصادق الوعد إسماعيل عليهما السلام قواعد البيت الحرام، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾2.

 
قد جعل الله تعالى بيته الحرام أفضل المساجد وأقدمها في الأرض، قِبلةً لأفضل الأمم وخير الأديان، فالمسلمون في كلّ المساجد، يتّجهون بصلاتهم إلى ذلك المسجد، فهو بالنسبة للمساجد، كالإمام بالنسبة للمصلّين، والمسلم عندما يتوجّه إلى البيت الحرام لأداء الصلاة، فإنه يلبّي قول الله جلّ وعلا: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن ربِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾3.
 
ولعلّ في هذا التوجيه والتوحيد دلالة كبيرة على عِظم الأهميّة الّتي يُريد الله تعالى أن يزرعها في قلب كلّ مسلم للمسجد: ﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾4.
 
المسجد وآل عمران  عليهم السلام
ممّا يدلّ على عظمة مقام المساجد عند الله تعالى ما حكاه عزّ وجلّ عن امرأة عمران حنة أم البتول الطاهرة مريم عليها السلام وأنّها لمّا حملت بها نذرتْ لله تعالى أن يكون ما في بطنها محرّراً، يعني عتيقاً يخدم المسجد الأقصى في أورشليم (القدس)، ولا يكون لأحد عليه سبيل، ولولا أنّ خدمة المساجد ممّا يُتقرّب به إلى الله تعالى لما نذرتْ حنة امرأة عمران هذا النذر المبارك الميمون الذي خلّده الله تعالى في قرآن يُتلى آناء الليل وأطراف النهار: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *



1 سورة إبراهيم، الآية 37.
2 سورة البقرة، الآية 127.
3 سورة البقرة، الآية 144.
4 سورة الأعراف، الآية 29.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

105

المساجد بيوت الله تعالى

 فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾1.

 
المسجد بعد الهجرة النبويّة
بعد الهجرة النبويّة المباركة على مهاجرها الكريم وأهل بيته أفضل الصلاة وأزكى السلام كان المسجد أوّل المؤسّسات التي انطلق منها نور التوحيد وضياء العلم والمعرفة إلى الآفاق، وقد حمل المسجد خاصيّة عظيمة بالنسبة للمجتمع المسلم، وأضحى مصدراً أساس لانطلاقة الدعوة الإسلامية، ونبعاً للهداية الربّانية، فمِنْ على منبره يُعلّم الإيمان والعمل الصالح، وعلى أرضه الطاهرة تؤدّى العبادات والطاعات، ومن على دكّة قضائه يُحكم بالعدل ويُدفع الظلم، ويُصلح الفاسد، ويُحارب المنكر، وهو ميدان الشورى والتعارف والتآلف، والمرتكز الذي تسير منه قوافل المجاهدين المخلصين في سبيل الله، والمحور الذي تلتفّ حوله الأفكار والعواطف، والحضن الذي يُربّي الروّاد النجباء الذين يحملون مشاعل النور والهداية، ويطوفون بها البلاد حاملين صفات المسجد، وعبقه وطهره.
 
ولقد أثبت تاريخ المسجد في الإسلام أنّ منه انبعثتْ أشعّة النور والهداية للمسلمين وغيرهم، وفيه ترعرعت بذور الحضارة الإسلامية ونمت، وهل كان عظماء التاريخ الإسلامي كسلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، والمقداد الكندي، وعمّار بن ياسر العبسي، وبلال الحبشي، وعلي الهاشمي القرشي إلا تلامذة المدرسة المحمّدية التي كان مقرها المسجد النبوي الشريف.



1 سورة آل عمران، الآيات 35-37.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
144

106

المساجد بيوت الله تعالى

 أذِن الله أن تُرفع

لمّا أراد الله تعالى أن يضرب مثلاً لنوره - ولله المثل الأعلى- قال تعالى: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾1.
 
في أيّ موضع جعل الله هذه الأمثال التي ضربها؟
قال: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ..﴾2، نعم في مساجد أنبياء الله تعالى وبيوت رسله الكرام، فقد روى بريدة الأسلمي، وأنس بن مالك أنّه لمّا نزلت هذه الآية المباركة سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيّ بيوت هذه؟
 
فقال: "بيوت الأنبياء"، فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول الله، هذا البيت منها - بيت علي وفاطمة؟
 
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نعم، من أفاضلها"3.
 
ولكرامة هذا البيت الطاهر، ومن فيه من شموس الهداية ومنارات التقى وأعلام اليقين - الذين يُسبِّحون لله بالغدوّ والآصال، ولا تُلهيهم تجارة أو بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة - فقد استثناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما أمر بسدّ الأبواب الشارعة إلى المسجد دونه، وكان ذلك بأمر من الله تعالى4، ليُبيّن بذلك عظيم منزلتهم ومنتهى درجتهم .



1 سورة النور، الآية 35.
2 سورة النور، الآية 36 .
3 جلال الدين السيوطي، الدر المنثور، ج6، ص203، طبعة دار الفكر، وقال: أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة. أهـ، وكذلك رواه عنهماأحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري، الكشف والبيان، ج7، ص107، طبعة:1، دار إحياء التراث العربي، وذكره الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل، وشهاب الدين الآلوسي في روح المعاني، وغيرهم .
4 عن زيد بن أرقم قال كان لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبواب شارعة في المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "سدّوا هذه الأبواب إلا باب علي، فتكلّم في ذلك الناس، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعد، فإنّي أمرتُ بسدّ هذه الأبواب إلا باب علي، وقال فيه قائلكم، وإنّي والله ما سددتُ شيئاً ولا فتحته، ولكنّي أُمِرْتُ بِشَيْءٍ فَاتَّبَعْتُهُ"، يراجع أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج7، ص15، طبعة: دار المعرفة، بيروت، وقال ابن حجر العسقلاني بعد أن ساق هذا الحديث: أخرجه أحمد والنسائي والحاكم، ورجاله ثقات.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

107

المساجد بيوت الله تعالى

 المساجد وروّادها وشهادة الإيمان

قد ظلّ المسجد على امتداد تاريخ أهل الإسلام مؤسسة تعليميّة للصغار والكبار، وأوّل الأمكنة التي تُحقّق الأهداف العملية لتربية الناس عامّة والناشئة والشباب خاصّة، فالمساجد متعدّدة الأغراض متشعّبة المهام، وكان الرجال الأوائل الذين حملوا اللواء ولبّوا النداء إلى عزّ الأبد هم أشبال المساجد وعمّار بيوت الله تعالى، كذلك كان العلماء والفقهاء، والأدباء والبلغاء، والأتقياء والصلحاء من أفضل خرّيجيها، فكم نَوّرتْ المساجد قلوباً وعَمّرتْ أفئدة وأزالتْ عنها حميّة الجاهلية وغبش المعاصي، وانتزعتْ منها جذور الزيغ والضلال، وجعل منها بحول الله تعالى وقوّته أجيالاً مؤمنة تقية نقية، فائزة في الآخرة بضمان الملك الديّان1، فنعم البيوت المساجد، فهي أنوار الله2، ومجالس الأنبياء  عليهم السلام3، وبيت كلّ مؤمن4. وهي بيوت الله في الأرض، فمن أتاها متطهّراً طهّره الله من ذنوبه، وكُتب من زوّاره، فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء5. ومن كان المسجد بيته بنى الله له بيتاً في الجنّة6، وإنّ نقل الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة تغسل الخطايا غسلاً7، وتزيد من الحسنات8، لذلك قد وجّهنا بتوجيه إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان9، لأنّ الله سبحانه يقول: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَن بِالله﴾10.
 
وإذا سُئِلتْ عمّن لم يشهد الجماعة فقل لا أعرفه11. وإنَّ بين الكفر والإيمان ترك الصلاة12.
 
وقد جعل الله سبحانه الجماعة في الصلاة لكي يُعرف من يُصلّي ممّن لا يُصلّي، ومن يُحافظ على مواقيت الصلاة ممّن يُضيّعها، ولولا ذلك لم يمكن لأحد أن يشهد على أحد



1 من حديث سلمان المحمدي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : "المسجد بيت كلّ تقيّ، وقد ضمن الله عزّ وجلّ لمن كان المساجد بيوته الروح والرحمة والجواز على الصراط"، يراجع المعجم الكبير للطبراني، ج6، ص254، حديث رقم 6143، طبعة:2، مكتبة العلوم والحِكم، الموصل.
2 المحدّث النوريّ، مستدرك الوسائل، ج3، ص448، حديث رقم 20.
3 م. ن، ج3، ص 363، ضمن الحديث 18.
4 حسام الدين المتّقي الهنديّ، كنز العمّال، ج7، ص650، حديث رقم: 20736.
5 الشيخ الصدوق، الأمالي، ص293، حديث رقم 8.
6 ثواب الأعمال، ص 27، والنهاية للشيخ الطوسي، ص108.
7 القاضي النعماني، دعائم الإسلام، ج 1، ص 154.
8 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 88، ص 7، ضمن الحديث 9.
9 ابن أبي جمهور، غوالي اللئالي، ج2، ص32، ح 79.
10 سورة التوبة، الآية 18.
11 الشهيد الأوّل محمّد بن مكّي العاملي، الألفيّة، والنفليّة، ص139.
12 محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، سنن الترمذي، ج 4، ص 125.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
146

108

المساجد بيوت الله تعالى

  بصلاح أو خير، لأنّ من لم يُصلّ في جماعة، فلا صلاة له بين المسلمين، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا صلاة لمن لم يُصلّ في المسجد مع المسلمين إلّا من علّة"1.

 
أفضل الأماكن وأفضل الناس
لا شكّ أنّ الأزمنة والأمكنة متفاوتة من حيث الأجر والتقرّب إلى الله تعالى، ومن حيث الأهمّيّة، فبعضها محبوب أكثر إلى الله تعالى من بعض، وبعضها يُستجاب فيه الدعاء أكثر من البعض الآخر، ومن هنا كان للمسجد حظّ من ناحية المحبوبيّة لله تعالى أكثر من غيره من البقاع.
 
وكما أنّ هناك أزمنة وأمكنة محبوبة لله كذلك هناك أناسٌ محبوبون عند الله، فإنّ لله خواصاً في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وقد قضى الله تعالى أن يكون من هؤلاء الأشخاص روّاد المساجد وعُمّارها - أوّل الداخلين إليها وآخر الخارجين منها- قال مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأمين جبريل  عليه السلام: "يا جبرائيل أيّ البقاع أحبّ إلى الله عزّ وجلّ؟ قال: المساجد، وأحبّ أهلها إلى الله أوّلهم دخولاً وآخرهم خروجاً منها"2.
 
وورد عن حفيد الرسالة الإمام أبي عبد الله الصادق  عليه السلام: "ما من مسجد بُني إلّا على قبر نبيّ ،أو وصيّ نبيّ قتل، فأصاب تلك البقعة رشّة من دمه، فأحبّ الله أن يُذكر فيها، فأدِّ فيها الفريضة والنوافل، واقضِ فيها ما فاتك"3.
 
والمساجد هي الأماكن التي إليها يرجع المسافر أول ما يصل إلى بلده شاكراً الله سلامة العودة مستفتحاً أعماله بعد العودة بالصلاة في المسجد إشعاراً بأهمّيته وتقديمه على المنزل، وتذكيراً بنعمة الله سبحانه وتوثيقاً للرابطة القوية للمسجد، هكذا كان دأب خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم فإنّه "كان إذا قدِم من سفَر بدأ بالمسجد، فَصلّى فيه ركعتين، ثم يُثَنّي بفاطمة عليها السلام، ثم يأتي أزواجه، وفي لفظ آخر: ثم بدأ ببيت فاطمة عليها السلام، ثم أتى بيوت نسائه"4.



1 الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج1، ص325 .
2 الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج3، ص489.
3 م. ن، ، ج3، ص371.
4 أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد، المعجم الكبير، ج22، ص 225، حديث رقم 595، ورقم 596.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

109

المساجد بيوت الله تعالى

 المساجد وشباب الإسلام

إنّ أحبّ الخلائق إلى الله عزّ وجلّ الشاب حدث السنّ الذي جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، وذلك الّذي يُباهي الله به ملائكته الكرام1، والشابّ المتعبّد هو من السبعة الذين ذكرهم الله في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه... وشابّ نشأ في عبادة الله2. وإنّ أهل الجنّة شباب كلّهم3، وإنّ أصحاب الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرجه الشريف شباب4 أيضاً.
 
من هنا كانت المساجد تدعو الشباب إليها، فَهُم باكورة الحياة، وصدى العيش، وسنام المجد، ومصدر الحركة والعمل، لم تُلوّث قلوبهم حبائلُ الشياطين، ولم تفتنهمُ الدنيا بغرورها، ولم تُعمِ أبصارهم بزخارفها. وشيئان لا يُعرف قدرهما إلّا من بعد فقدهما: الشباب والعافية5.
 
وكان من دعاء وارث سيّدي شباب أهل الجنة مولانا الإمام علي بن الحُسين عليهما السلام: "اللهم .. لا تحل بيني وبين المساجد التي يُذكر فيها اسمك، ولا تجعلني من الغافلين عن ذكرك وشكرك"6.
 
وممّا تقدّم يتوضّح لنا تماماً أنّ مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي تجعله مصدر التوجيه الفكري والروحي، فهو جامعة للعلم، ومدرسة للرشد وندوة للأدب، وهو ساحة للعبادة التي تنصهر فيها النفوس، وتتجرّد من علائق الدنيا وفوارق الرتب والمناصب، وحواجز العُجب والكبر، وسكرة الأهواء والشهوات لتتلاقى في ساحة العبودية والإخلاص للباري جلّ شأنه.
 
لذلك يجب أن يكون المسجد مكاناً للوحدة لا للفرقة، ومركزاً للعبادة الخالصة لله، ويكون بنيانه من الأساس على التقوى، قال سبحانه وتعالى: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾7.



1 حسام الدين المتقي الهندي، كنز العمّال، ج15، ص785، حديث رقم: 43103.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 84، ص2، والخصال، ص343، ضمن الحديث: 2.
3  ابن شهر آشوب، المناقب، ج3، ص164.
4 غيبة الطوسي، ص284، حديث رقم: 18.
5 شرح غرر الحكم، ج4، ص183.
6 السيد أبن طاووس علي بن موسى، إقبال الأعمال، ج1، ص443، طبعة:2، دار الكتب الإسلامية، طهران.
7 سورة التوبة، الآية 108.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
148

110

المساجد بيوت الطاعة والعبادة

 المساجد بيوت الطاعة والعبادة






عُمّار المساجد صفوة خلق الله
المسجد أوّل ثمار التمكين
على خطى النبيّ الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم
بيوت الجنّة
وصية النبيّ الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم  لأبي ذر الغفاري
صلاة الجماعة في المساجد
فضل المشي إلى صلاة الجماعة
من فضائل صلاة الجماعة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

111

المساجد بيوت الطاعة والعبادة

 مقدّمة

لا أدلّ على عظيم مكانة المساجد عند الله تعالى من جعلها مكاناً لإقامة تلك العبادة "الصلاة" التي عندما أراد سبحانه فرضها لم يُرسل الأمر مع جبريل  عليه السلام ككلّ الفرائض الأخرى، ولكنّه أسرى بنبيّه الأكرم ورسوله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من مسجد إلى مسجد: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾1، ثم عرج به إلى السموات العلى وخاطبه سبحانه في ذاك المقام الشريف، وفرض عليه وعلى أمّته هذه الشعيرة العظيمة التي اختصّها الله من بين سائر شرائع الإسلام بذلك، ولمّا كان السجود أشرف أجزاء الصلاة، وموضع القرب، وبه يتجلّى التواضع والخضوع، والتذلّل لله جلَّ وعلا . اشتُقّ اسم المكان منه، فقيل : مسجد، ولم يقل مركع أو غير ذلك.
 
عُمّار المساجد صفوة خلق الله
وممّا يدلّ كذلك على مكانة المسجد عند الله أنّه جلّ شأنه جعل عمّاره مادّياً ومعنوياً هم صفوة خلقه من الأنبياء والمرسلين، وأتباعهم من عباده المؤمنين، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ*رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾2.



1 سورة الإسراء، الآية 1.
2 سورة البقرة، الآيات 127-129.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

112

المساجد بيوت الطاعة والعبادة

 وقد جعل الله سبحانه بنّاءها وعُمّارها يكتسبون عظيم ثنائه عليهم، ويوصف ـ من وجه آخر ـ خرّابها وهدّامها بأقبح الصفات وأشنعها.

 
قال الله جلّ شأنه ممتدحاً بُنّاءها وعُمّارها: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾1.
 
وقال سبحانه ذاماً خُرّابها وهُدّامها: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾2.
 
المسجد أوّل ثمار التمكين
كان مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فترة الدعوة المكّية يُعلّم أهل بيته ومواليه في دار أمّ المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام، ويُعلّم أصحابه في منازلهم أيضاً إلى أن خُصّت دار الأرقم ابن أبي الأرقم لتجمُّعهم، ولم يكن المسجد الحرام ينال حظّه من التْعليم والتزكية، لصدّ المشركين فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإيذائهم له، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يُصلّي ويدعو الله فيه منفرداً، ويصبر على أذى أئمّة الشرك.
 
ولمّا هاجر المصطفى الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنوّرة تغيّر الحال عمّا كان عليه، وإنّ ممّا ينبغي الاهتمام به والتنبيه عليه ولفت النظر له أنّ رسول الله مُحمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو معلّم الناس الخير بقوله وفعله وهدايته للناس فيما يهمّهم في أمر دينهم ودنياهم ومعاشهم ومعادهم - وهو الرؤوف بأمّته الرحيم بها-، كان أوّل عمل قام به صلى الله عليه وآله وسلم بعد هجرته إلى المدينة المنوّرة تأسيس المسجد لما له من رسالة سامية وغاية عظيمة، وهدف نبيل وعاقبة حميدة في الدنيا والآخرة، ومنه انطلقت جحافل الإيمان لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ملتزمة بملّة إبراهيم  عليه السلام ودين مُحمد صلى الله عليه وآله وسلم تتأدّب بآدابه، وتسير على نهجه القويم، وسيرته الفذّة المباركة الميمونة،وقد قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا 



1 سورة التوبة، الآية 18.
2 سورة البقرة، الآية 114.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
152

113

المساجد بيوت الطاعة والعبادة

 الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾1، فجعل الله تعالى الصلاة أول تطبيق متى تمّ التمكُّن، وكان المسجد النبويّ هو أول ثمار تمكين الله للمسلمين في الأرض، ومنه بدأ تاريخهم الحضاري، وكان الشريان المغذّي لدولة الإسلام في أطوار نموّها المختلفة.

 
على خطى النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
على خطى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم درج المسلمون الأوائل، ومن خَلفهم من أهل الخير باهتمامهم بالمسجد وكانوا إذا أرادوا الإقامة في بلد من البلدان أول ما يشتغلون به بناء المسجد، لِما سمعوه وبلغهم من قول النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: "ومن بنى لله مسجداً ولو - كمفحص قطاة2- بنى الله له بيتاً في الجنّة"3.
 
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث الذي أوردناه: "ولو كمفحص قطاة" أراد المبالغة في الصغر، حتى لا يحتقر أحد ما بناه من المساجد ولو في غاية الصغر، وقد يدخل في ذلك من ساهم في بنائه ولو باللبن أو الطين، أو عمل فيه بيده، أو دفع أجرةالعاملين ونحو ذلك من العمل الذي يُنسب إلى صاحبه أنّه ساعد في بناء المسجد بنفسه أو ماله، احتساباً عند الله تعالى، وطلبَاً للأجر المترتّب على هذه الأعمال.
 
روى الإمام الكاظم موسى بن جعفر عن آبائه الكرام  عليهم السلام عن أمير المؤمنين علي  عليه السلام قال: "إنّ الله إذا أراد أن يُصيب أهل الأرض بعذاب، قال: لولا الّذين يتحابّون بجلالي، ويعمرون مساجدي، ويستغفرون بالأسحار، لأنزلتُ عذابي"4.



1 سورة الحج، الآية 41.
2 المفحص ‏في الأصل: الموضع الذي تبحثه القطاة "نوع من أنواع الطيور" لتجثم عليه أو لتبيض فيه، وإنّما قيل له: " مفحص‏" لأنّها لا تجثم فيه إلّا بعد أن تفحص التراب عنه، توطئة لمجثمها، وتمهيداً لجسمها.
3 شيخ الطائفة أبو جعفر مُحمد بن الحسن الطوسي، الأمالي، ص183، حديث رقم 306، المجلس السابع، طبعة:1، دار الثقافة، قم، عن إبي قلابة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ورواه محمد بن حبان التميمي البستي، صحيح ابن حبان، ج4، ص490، طبعة:2، مؤسسة الرسالة، عن أبي ذر الغفاري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
4 الحرّ العامليّ،وسائل الشيعة، ج5، ص205.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

114

المساجد بيوت الطاعة والعبادة

 بيوت الجنّة

قال الله عزّ وجلّ في مُحكم كتابه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾1، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا﴾2، في هذه الآيات المباركة بيان واضح في أنّ بيوت الجنّة وقصورها تُبنى بالإيمان والصالحات من الأعمال، ومن أعظمها: أن يبني الإنسان لله جلّ وعلا بيتاً يُعبد فيه ويُذكر اسمه سبحانه وتعالى. ومن الروايات اللطيفة الّتي حثّت على عمران المساجدما رواه أبو عبيدة الحذاء، وهو أحد أصحاب إمامنا الصادق جعفر  عليه السلام، وقد سمعه في إحدى المرّات ينقل عن جَدّه النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "من بنى مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنّة، قال أبو عبيدة، فمرّ بي أبو عبد الله  عليه السلام في طريق مكّة، وقد سوّيت بأحجار مسجداً، فقلتُ له: جُعلتُ فداك نرجو أن يكون هذا من ذلك، فقال: نعم"3.
 
وصية النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر الغفاري
تكتسِب أيّ وصيّةٍ أهميتّها الخاصّة - غالباً - من سببَيْن: الشَّخص المُوصي، ومضمون الوصيّة، وقد يُسهِم سببٌ ثالث في هذه الأهميَّة، هو الشخص المُوصَى، وفي هذه الوصيّة المباركة كان الشخص المُوصي، أمين الله في أرضه، وحجّته على خلقه خاتم النبيين وقائد المرسلين رسول الله مُحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الشخص المُوصَى هو العبد الذي قال فيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أقلّت الغبراء، ولا أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر"4، وعنه رضي الله عنه نُقلت هذه الوصيّة المباركة إلينا:



1 سورة النحل، الآية 97.
2 سورة النساء، الآية 122.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص368، وشيخ الطائفة أبو جعفر محُمد بن الحسن الطوسي، تهذيب الأحكام، ج3، ص264، حديث رقم 68، طبعة:4، دار الكتب الإسلامية، طهران، الجمهورية الإسلامية.
4 الشيخ الطوسي، الأمالي، ص53، المجلس الثاني، والشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه القمي، علل الشرائع، ج1، ص176، حديث 141، طبعة:1، مكتبة داوري، قم، والحديث مما رواه ابن ماجة في سننه، وأحمد بن حنبل في مسنده، وابن أبي شيبة في مصنفه، والبزار في مسنده، والطبراني في معجمه الكبير، وغيرهم الكثير.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
154

 


115

المساجد بيوت الطاعة والعبادة

 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أبا ذرّ، من أجاب داعي الله، وأحسن عمارة مساجد الله، كان ثوابه من الله الجنّة، فقلتُ: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله، كيف تُعمّر مساجد الله؟ قال: لا تُرفع فيها الأصوات، ولا يُخاض فيها بالباطل، ولا يُشترى فيها ولا يُباع، واترك اللّغو ما دمتُ فيها، فإنْ لم تفعل فلا تلومنّ يوم القيامة إلاّ نفسك .

 
يا أبا ذرّ، إنّ الله تعالى يُعطيك ما دمتَ جالساً في المسجد بكلّ نفس تنفّس فيه درجة في الجنّة، وتُصلّي عليك الملائكة، وتُكتب لك بكلّ نفس تنفّستَ فيه عشر حسنات، وتُمحى عنك عشر سيّئات.
 
يا أبا ذرّ، أتعلم في أيّ شيء أُنزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾1؟ قلت: لا فداك أبي وأُمّي . قال: في انتظار الصلاة خلف الصلاة.
 
يا أبا ذرّ، إسباغ الوضوء في المكاره من الكفّارات، وكثرة الاختلاف إلى المساجد، فذلكم الرباط. يا أبا ذرّ، يقول الله تبارك وتعالى: إنّ أحبّ العباد إليّ المتحابّون بجلالي، المتعلّقة قلوبهم بالمساجد، والمستغفرون بالأسحار, أُولئك إذا أردتُ بأهل الأرض عقوبة ذكرتهم فصرفت العقوبة عنهم"2.
 
صلاة الجماعة في المساجد
إنّ من أعظم شعائر الإسلام صلاة الجماعة في المساجد، فقد شرع الله لهذه الأمّة الاجتماع في بيوته في أوقات معلومة لأداء هذه الشعيرة، فالمسلمون يجتمعون في اليوم والليلة خمس مرّات لأداء هذه الصلاة، وقد اتّفق المسلمون على أنّ أداء الصلوات الخمس في المساجد من أوكد الطاعات وأعظم القربات، بل هي من أعظم وأظهر شعائر الإسلام، ولقد أثنى الله تعالى على الذين يعمرون مساجد الله وشهد لهم بالإيمان، وعمارتها تكون بالعمارة الحسّية وهي بناؤها، وبالعمارة المعنوية وهي عمارتها بالذكر والطاعة والعبادة، ومن ذلك إقامة الصلاة فيها مع المسلمين، فيجب على المسلم أن يُحافظ عليها في جماعة إلا من عذر.



1 سورة آل عمران، الآية 200.
2 الحسن بن الفضل الطبرسي، مكارم الأخلاق، ص467-468، طبعة:4، الشريف الرضي، قم.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

116

المساجد بيوت الطاعة والعبادة

 ولقد كان سيّدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج إلى المسجد في أيّام مرضه الشديد، وهو بين أمير المؤمنين علي، وعمّه العبّاس بن عبد المطلب، وقدماه تخطّان في الأرض، لا يمنعه ذلك من أن يُقيم للمسلمين الصلاة جماعة، ويُبيّن للناس أنّ رسالة المسجد في الإسلام تتركّز في الدرجة الأولى على التربية الروحية. ولصلاة الجماعة دور فعّال في هذا الشأن ويشهد لذلكعظيم مكانتها وجليل منزلتها، فهي من واجبات الدين، وسنن الهدى، يجتمع للمصلّي فيها شرف المناجاة لله تعالى، وشرف العبادة، وشرف البقعة، ولقد رتّب الإسلام على حضور صلاة الجماعة في المساجد أجراً عظيماً تحدّثت عنه الكثير من النصوص الشريفة.

 
فضل المشي إلى صلاة الجماعة
قال الله العظيم في كتابه الكريم: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾1, المشي لأداء الصلاة جماعةً من الأعمال الصالحة ومن أعظم الطاعات والقربات، وقد ثبت في ذلك فضائل عظيمة وكثيرة، منها: ما رواه الإمام أبو جعفر الباقر  عليه السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لجبرئيل عليه السلام: "يا جبرئيل أيّ البقاع أحبّ إلى الله تعالى؟ قال: المساجد، وأحبّ أهلها إلى الله أوّلهم دخولاً وآخرهم خروجاً منها"2.
 
وجاء عن الإمام الصادق عن آبائه الكرام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ومن مشى إلى مسجد يطلب فيه الجماعة كان له بكل خطوة سبعون ألف حسنة، ويرفع له من الدرجات مثل ذلك"3.



1 سورة النحل، الآية 97.
2 الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج3، ص554 ، باب 68، حديث 2.
3 م. ن، ج8، ص287 .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156

117

المساجد بيوت الطاعة والعبادة

 صغر خطاك إذا غدوت لمسجد

فلربما غفرت ذنوبك بالخطى
تمشي ومشيك للمساجد قربة
تسمو بشأنك للجنان وللتقى
المشّائين في الظُّلَم إلى المساجد
 
لا يخفاكم أنّ الله جلَّ وعلا رتّب على وجود المساجد أجوراً عظيمة، وخيرات عميمة، وعَظّم منزلة المشَّائين إليها، فجعل سبحانه المشي إليها سبيلاً لرفعة الدرجات، فقد روى عبدالله بن جعفر بن محمد، عن أبيه عن آبائه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: ألا إنّ بيوتي في الأرض المساجد، تُضيء لأهل السماء كما تُضيء النجوم لأهل الأرض، ألا طوبى لمن كانت المساجد بيوته، ألا طوبى لعبدٍ توضّأ في بيته ثمزارني في بيتي، ألا إنّ على المزور كرامة الزائر، ألا بشّر المشّائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة"1.
 
من فضائل صلاة الجماعة
المصلّي في المسجد مع الجماعة يحصل له من صلاة الجماعة مثل أجر صلاة المنفرد خمس وعشرين مرّة، وقد روى أبو سعيد الخدري عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة"2.
 
وروي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّ الله يستحي من عبده إذا صلّى في جماعة ثم سأله حاجته أن ينصرف حتى يقضيها"3.
 
فعن الصادق عن آبائه  عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من صلّى المغرب والعشاء الآخرة وصلاة الغداة في المسجد في جماعة، فكأنّما أحيى الليل كلّه"4.



1 الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج1، ص381، باب استحباب الطهارة لدخول المساجد .
2 الشيخ الصدوق، الخصال، ج2، ص521.
3 العلامة المجلسي ، بحار الأنوار، ج ‏85، ص4، باب 1: فضل الجماعة.
4 الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج8، ص295
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157

118

المساجد بيوت الطاعة والعبادة

 وقد سأل زرارة الإمام الصادق  عليه السلام: عن ما يروي الناس أنّ الصلاة في جماعة أفضل من صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين صلاة، فقال  عليه السلام: "نعم، صدقوا، فقلتُ: الرجلان يكونان جماعة، قال  عليه السلام: نعم ويقوم الرجل عن يمين الإمام"1.

 
وتزداد عظمة صلاة الجماعة في المسجد ويزداد ثوابها،لذا ورد الحثّ الشديد عليها في الأحاديث الشريفة وروى الشيخ الصدوق بسنده إلى الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين  عليه السلام: "وإنّ الله عزّ وجلّ ليهمّ بعذاب أهل الأرض جميعاً حتى لا يُحاشي منهم أحداً، فإذا نظر إلى الشُّيّب ناقلي أقدامهم إلى الصلوات، والولدان يتعلّمون القرآن رحمهم الله، فأخّر ذلك عنهم"2.
 
وإذا كان حضور الجماعة بهذه المنزلة، فإنّه يجب على قاصد المسجد لأداء هذه العبادة العظيمة أن يتحلّى بأشرف الصفات، وأحسن الخصال، واعلم أيّها القارئ الكريم: أنّ الله أمر نبيّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأمّته بصلاة الخوف جماعة في حال الحرب، وهو وقت عصيب، يواجه المسلمون فيه عدوّهم، فقال عزّت آلاؤه: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾3، فهل تظنّ يا أخي الحبيب أنّ صلاة الجماعة تجب على هؤلاء في هذه الظروف الحالكة، ولا تجب على رجل يتقلّب في فراشه الناعم آمناً مطمئنّاً معافى؟!
 
فيا أخي المسلم حافظ على صلاة الجماعة، وكن من عُمّار بيوت الله تعالى، وبادر لحضور المسجد، ففي ذلك الأجر العظيم، والخير الكثير في الدنيا والآخرة، وإيّاك والكسل في عبادة عظيمةهي أشرف العبادات وأفضل الطاعات، وستجد إنْ شاء الله ثواب صلاتك، ومحافظتك على الجماعة أحوج ما تكون إليه.
 
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإيّاكم ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص371، باب فضل الصلاة في الجماعة.
2 الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص39، ثواب نقل الأقدام إلى الصلاة وتعليم القرآن .
3  سورة النساء ، الآية 102 .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
158

119
طلائع القلوب