المقدّمة
المقدمة
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله الطاهرين.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ 1
سلك الإسلاميون في تصوير الأطروحة الإسلامية لنظام الحكم والإدارة مسالك عدة، لم ينطلق بعضها من أسس شرعية مستنبطة من الكتاب والسنة، وإنَّما كانت مجرد استحسانات، أو أعراف جرت في بعض الحقب التاريخية، ليس لها ما يشيد دعائمها في التشريع الإسلامي. ولا تعدو في أفضل الحالات أن تكون خيارات عقلائية غير حصرية لجأ إليها من لجأ، وأعرض عنها من أعرض.
لكن لا يخفى أنَّ أيَّ نظام اجتماعي أو سياسي أو إداري لا يكتسب الصفة الإسلامية إلا إذا قام في بعديه التشريعي والتنفيذي على أساس المبادئ والقيم والأحكام الإسلامية. ولا عبرة بالتسميات والعناوين التي لا تعبر عن معنونات ومسميات واقعية، وإنَّما العبرة بالواقع نفسه.
وقد امتازت الشيعة الإمامية الإثنا عشرية ببناء رؤيتها في الامامة والنظام السياسي على أسس شرعية،معتمدة على النص القرآني والنبوي
________________________________________
1- النساء: 59.
5
1
المقدّمة
الواضح والمتواتر مستندة في ذلك كله إلى العقل القطعي.
لكن الأمة نتيجة الكثير من العوامل الاجتماعية والسياسية ابتليت بحرمانها من بركات الإمامة وفيوضاتها، وذلك عندما غاب الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام، هذه الغيبة التي طالت وأدى ذلك إلى فتح باب البحث عن الأطروحة الإسلامية للحكم والإدارة في عصر الغيبة، فما هو التصور الواضح لهذه الأطروحة؟.
إنها أطروحة ولاية الفقيه التي هي أطروحة كاملة وشاملة لنظام الحكم والإدارة في عصر الغيبة، وهي تقوم على أسس شرعية قدمها الإمام الخميني الراحل قدس سره نظرياً وعملياً في تجربة رائدة استطاعت أن تصمد أمام كل التحديات، وأن تلبي متطلبات الدولة العصرية، وتجيب على كل الأسئلة، في مجال التشريع والتنفيذ منسجمة مع المبادئ والقيم والأحكام للدين الإسلامي الحنيف.
فما هي ولاية الفقيه ؟ وما هي أسسها الفقهية؟ وما هي حدود صلاحياتها؟
هذه الدراسة المختصرة تحاول الإجابة على هذه الأسئلة إن شاء الله تعالى
6
2
الدرس الأول: أهداف الدرس
أهداف الدرس
1- التعرّف إلى معنى ولاية الفقيه.
2- التعرّف أن لها جذوراً في كلام أهل البيت والعلماء.
3- إثبات أن الولاية بالأصل لله يعطيها لمن يشاء.
4- التعرّف إلى أن الولاية لطف من الله.
7
3
الدرس الأول: أهداف الدرس
تمهيد تاريخي
وردت كلمة الولاية في القرآن الكريم، وفي نصوص أهل البيت عليهم السلام، وفي كلمات العلماء أعلى الله مقامهم، واستخدمت باستخدامات متعددة، منها النصرة والمحبة والسلطة و. . . ، والولاية التي هي موضوع بحثنا هي بمعنى السلطة وبالتحديد سلطة الفقيه على الناس في عصر الغيبة الكبرى، وقد يظن البعض أنَّ هذا البحث ابتدعه الإمام الخميني" وفي الحقيقة إنَّ أدنى ما يمكن أنْ نصف به هؤلاء هو الجهل، إن لم نقل إنّهم من المغرضين، وذلك أنَّ أدنى مطالعة في روايات أهل البيت عليهم السلام وكلمات العلماء تبين أصالة هذا الموضوع في النصوص الإسلامية، وقد رسم المعصومون الأطهار عليهم السلام معالم هذا السبيل وأبرزوا بعضاً من جوانبه، وهو الرجوع إلى من أعمل الفكر والنظر في الأحاديث الصادرة عنهم عليهم السلام، ويمكن رصد عدة من النصوص الواردة عنهم عليهم السلام التي تُرجع إلى الفقيه، فبذور ولاية الفقيه موجودة في صريح أحاديثهم عليهم السلام، وسنتعرض لهذه الأحاديث بشيء من التفصيل في بحث الأدلة على ولاية الفقيه.
ولاية الفقيه في كلام العلماء
ومعالم هذا السبيل تطورت في طول الزمن بعد عصر الغيبة، إنْ من ناحية بحثها العلمي والغوص في التنظير لها وبناء الأدلة، أو من ناحية نموها كتجربة عملية رائدة في سبيل سدِّ الفراغ الحاصل بعد غيبة المعصوم عليه السلام، وهذا ما يظهر جلياً فيما لو تصفحنا كلام علمائنا،
9
4
الدرس الأول: أهداف الدرس
حيث نجد أنَّ موضوع ولاية الفقيه مذكور في أقوالهم منذ بدايات الغيبة الكبرى للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، ويمكن تقسيم الكلام في عرض أقوالهم إلى مرحلتين، وذلك باعتبار ورودها كمصطلح "ولاية الفقيه" في كلامهم:
الأول: من مرحلة الشيخ المفيد قدس سره إلى ما قبل مرحلة الشيخ النراقي قدس سره.
الثاني: من مرحلة الشيخ النراقي قدس سره حتى عصرنا الحالي.
وسنذكر فيما يلي عيِّنةً من كلمات العلماء رضوان الله تعالى عليهم:
1- الشيخ المفيد قدس سره (336-413هـ ) : يقول قدس سره في باب الأمر بالمعروف والجهاد: "فأما إقامة الحدود، فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله تعالى، وهم أئمة الهدى من آل محمد عليهم السلام، ومن نصبوه لذلك من الأمراء والحكام، وقد فوضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان"2.
2- الشيخ الحلي (374 – 447 هـ ): يقول قدس سره في باب القضاء: "تنفيذ الأحكام الشرعية والحكم بمقتضى التعبد فيها من فروض الأئمة عليهم السلام المختصة بهم دون من عداهم ممن لم يؤهلوه لذلك، فإن تعذر تنفيذها بهم عليهم السلام وبالمأهول لها من قبلهم لأحد الأسباب لم يجز لغير شيعتهم تولّي ذلك ولا التحاكم إليه ولا التوصل بحكمه إلى الحق ولا تقليده الحكم من الاختيار، ولا لمن لم يتكامل له شروط النائب عن الإمام في الحكم من شيعته، وهي: العلم بالحق في الحكم المردود إليه، والتمكن من إمضائه على وجهه، واجتماع
________________________________________
2- المفيد – محمد بن محمد بن النعمان -كتاب المقنعة – مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - ص 810.
10
5
الدرس الأول: أهداف الدرس
العقل والرأي وسعة الحلم والبصيرة، وظهور العدالة والورع والتدين بالحكم، والقدرة على القيام به، ووضعه في مواضعه. . . فهو نائب عن ولي الأمر عليه السلام في الحكم، ومأهول له لثبوت الإذن منه وآبائه عليهم السلام لمن كان بصفته في ذلك، ولا يحل له القعود عنه"3.
3- المحقق الكركي ( 868 – 940 هـ): المعروف بالمحقّق الثاني يقول قدس سره: "اتفق أصحابنا رضوان الله عليهم على أنَّ الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى، المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل – وربما استثنى الأصحاب القتل والحدود مطلقاً – فيجب التحاكم إليه والانقياد إلى حكمه، وله أن يبيع مال الممتنع من أداء الحق إن احتيج إليه، ويلي أموال الغياب والأطفال والسفهاء والمفلسين، ويتصرف على المحجور عليهم، إلى آخر ما يثبت للحاكم المنصوب من قبل الإمام عليه السلام"4.
4- الشهيد الثاني (911-966 هـ ): يقول قدس سره: "فالفقيه في حال الغيبة وإن كان منصوباً للمصالح العامة لا يجوز له مباشرة أمر الجهاد بالمعنى الأول"5.
والشهيد الثاني هنا يثبت الولاية للفقيه، ويستثني منها الجهاد الإبتدائي.
________________________________________
3- الحلبي – أبو الصلاح - كتاب الكافي - مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام العامة – أصفهان - ص 421.
4- الكركي – علي بن الحسين (المحقق الثاني)- رسائل الكركي – مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي – قم - ج 1 ص 142.
5- الشهيد الثاني – زين الدين بن علي العاملي- مسالك الأفهام - مؤسسة المعارف الإسلامية - قم - إيران- ج 3 ص 9.
11
6
الدرس الأول: أهداف الدرس
5- المحقق النراقي (متوفى 1244هـ ): يقول قدس سره: "إنَّ كلية ما للفقيه العادل توليه وله الولاية فيه أمران: أحدهما كل ما كان للنبي والإمام- الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام- فيه الولاية وكان لهم، فللفقيه أيضاً ذلك، إلا ما أخرجه الدليل بإجماع أو نص أو غيرهما، وثانيهما أنَّ كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم ودنياهم ولا بدَّ من الإتيان به ولا مفرَّ منه. . ."6.
وكما أشرنا سابقاً، فإنَّ المحقق النراقي هو أول من ظهر في كلماته اصطلاح ولاية الفقيه.
6- المحقق النجفي(متوفى 1266 هـ): يقول قدس سره: "لولا عموم الولاية لبقي كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطلة، فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، بل كأنَّه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمراً، ولا تأمل المراد من قولهم: إنِّي جعلته عليهم حاكماً وقاضياً وحجة وخليفة ونحو ذلك مما يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم. . ."7.
7- الشيخ الأنصاري(1214-1281 هـ ): يقول قدس سره: "وعلى أيِّ تقدير، فقد ظهر مما ذكرنا أنَّ ما دلَّت عليه هذه الأدلة هو ثبوت الولاية للفقيه في الأمور التي يكون مشروعية إيجادها في الخارج مفروغاً عنها. . ."8.
________________________________________
6- النراقي – أحمد بن محمد مهدي - عوائد الأيام - مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي- ص 188 – 189.
7- الجواهري - محمد حسن النجفي - جواهر الكلام - دار الكتب الإسلامية – طهران - ج 12 ص 397.
8- الأنصاري – مرتضى بن محمد أمين - المكاسب- المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري-ج 3 ص 557.
12
7
الدرس الأول: أهداف الدرس
8- الشيخ رضا الهمداني (1240-1322هـ ): يقول قدس سره: "لكنَّ الذي يظهر بالتدبر. . . إقامة الفقيه المتمسك برواياتهم مقامه؛ بإرجاع عوام الشيعة إليه في كل ما يكون الإمام مرجعاً فيه كي لا يبقى شيعته متحيرين في أزمنة الغيبة. . ."9.
9- الإمام الخميني يقول الإمام قدس سره: "ولاية الفقيه من المواضيع التي يوجب تصورها التصديق بها، فهي لا تحتاج لأية برهنة، وذلك بمعنى أنَّ كلَّ من أدرك العقائد والأحكام الإسلامية – ولو إجمالاً – وبمجرد أن يصل على ولاية الفقيه ويتصورها فسيصدق بها فوراً وسيجدها ضرورة وبديهية. . ."10.
ولم يكتفِ الإمام الخميني قدس سره بإقامة الأدلة على ولاية الفقيه، بل نجده قد أقام صرح الحكم الإسلامي، وشيَّد أركانه، وأسسَّه على مبدأ ولاية الفقيه.
ولاية الفقيه في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران
مع قيام الجمهورية الإسلامية المباركة، دخلت مسألة ولاية الفقيه في القانون الأساسي للدولة في تطور تاريخي جديد لهذه المسألة، وقد أحصي ستة عشر مورداً في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران تتناول موضوع ولاية الفقيه، فقد ورد في مقدمة الدستور اعتبار القيادة بيد الفقيه، وأنه ضمانة عدم الإنحراف للأجهزة المختلفة في نظام
________________________________________
9- الهمداني – رضا - مصباح الفقيه - منشورات مكتبة الصدر – طهران - ج 3، ص 160.
10- الخميني – روح الله الموسوي - الحكومة الإسلامية - ص 17.
13
8
الدرس الأول: أهداف الدرس
الجمهورية ووظائفها الأصلية.
كما ورد في المادة الخامسة: في زمن غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل المتقي البصير بأمور العصر الشجاع القادر على الإدارة والتدبير. . .
ما هي ولاية الفقيه؟
كما ذكرنا إنَّ موضوع بحثنا هو الولاية بمعنى السلطة، وقد ورد قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ 11 بهذا المعنى، فالآية تبين أن الولاية في الحقيقة هي لله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل هو الذي خلق الإنسان وأسكنه الأرض وإليه يرجع الأمر كله.
وهذه الولاية الإلهية تتجسد بولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتي شرح القرآن الكريم معناها في قوله تعالى ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ 12. وكون النبي أولى بالمؤمن من نفسه معناه أنه أولى به في جميع الصلاحيات التي يمتلكها الإنسان لنفسه، فهو أولى به في المسائل الاجتماعية وفي القضاء والمسائل الحكومية وغيرها. . . وأنَّ إرادته ورأيه مقدَّمان على إرادة ورأي أي مؤمن.
هذه الولاية التي أكدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأكد على استمرارها بعده في اثني
________________________________________
11- المائدة: 56.
12- الأحزاب: 6.
14
9
الدرس الأول: أهداف الدرس
عشر إماماً من خلال الأحاديث المتعددة، أهمها حديث غدير خم حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أخذ بيد علي عليه السلام : "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ من كنت مولاه، فهذا علي مولاه. . . ."13
وفي غيبة الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، كانت ولاية الفقيه امتداداً لولاية المعصوم ليقوم بسد الفراغ على المستوى الاجتماعي والسياسي وغيرها من الجهات.
فولاية الفقيه التي نحن بصدد البحث عنها هي نيابة عن الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف في قيادة الأمة وإقامة حكم الله تعالى على الأرض مستمدة منه، وهي جذوة من نوره، وشهاب من قبسه، وفرع من فروع دوحته ولذلك عرفت ولاية الفقيه أنها "حاكمية المجتهد الجامع للشرائط في عصر الغيبة".
الولاية لطف
من الجدير بالذكر أنَّ جميع الموارد التي شرّع فيها الدين ولاية لبعض الناس على بعض، فقد راعى فيها مصلحة المولّى عليه واللطف به، ورعاية حاله، ولم ينظر إلى مصلحة الولي ولم يهدف من خلالها أن يمنحه امتيازاً، كما قد يتوهم ذوو النظر القاصر.
فالولاية في نظر الإسلام مسؤولية وتكليف، كيفما كانت وحيثما وقعت. فولاية الأب مثلاً على أبنائه الصغار، لحفظهم ورعايتهم واللطف بهم. وولاية الأب في تزويج ابنته البكر لصيانتها وحفظها من الضياع والاستغلال. وولاية الوقف لرعاية شؤونه ومصالحه والحيلولة دون خرابه
________________________________________
13- الأميني - عبد الحسين - الغدير- دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان-ج 1 ص 40.
15
10
الدرس الأول: أهداف الدرس
وإساءة استعماله. وولاية الحاكم على أموال الغائب والقاصر والسفيه والمجنون كذلك. وولاية الفقيه لحفظ المصالح العامة وصيانة المجتمع من الفساد والانحراف والحقوق من الضياع.
وفي جميع الموارد تقيّد الولاية برعاية مصالح الجهة المولّى عليها، وليس للولي الحق أن يتصرف على وفق أهوائه ومصالحه ورغباته الخاصة، بل تسقط ولايته خارج تلك الحدود ومنه يتبين أنّ الولاية الشرعية، أبعد ما تكون عن الاستبداد والتعنّت والدكتاتورية.
الأسئلة
1- هل مارس الفقهاء السلطة في تاريخنا الإسلامي ؟ ولماذا لم يتولَّ الفقهاء دائماً أمور الحكومة؟
2- على المستوى النظري، هل كان الإمام الخميني هو من أطلق فكرة ولاية الفقيه أم كانت موجودة في الفكر الإسلامي ؟ أعطِ نموذجاً.
3- ما هي الأطروحة الكاملة والشاملة لنظام الحكم والإدارة القائمة على الأسس الشرعية؟
4- هل من الضروري على الإمام أن يحدد من ترجع إليه الناس في غيبته ؟ بيّن ذلك.
5- في نظر الإسلام هل تراعي الولاية مصالح الولي أم مصالح المولّى عليهم؟ بيّن ذلك بالأمثلة.
6- ما هو مفهوم كلمة ولاية الفقيه ؟
16
11
الدرس الأول: أهداف الدرس
للمطالعة
الحكومة وسيلة لتحقيق الأهداف السامية
تولي أمر الحكومة في حد ذاته ليس مرتبةً ومقاماً، وإنَّما مجرد وسيلة للقيام بوظيفة تطبيق الأحكام، وإقامة نظام الإسلام العادل. يقول أمير المؤمنين عليه السلام لابن عباس عن نفس الحكومة: "ما قيمة هذا النعل؟ فقال ابن عباس: لا قيمة لها. فقال عليه السلام : والله لهي أحبُّ إليَّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً (أي اقيم قانون الإسلام ونظامه) أو أدفع باطلاً"14 (أي القوانين والانظمة الجائرة والمحرمة) إذاً فنفس الحاكمية والإمارة مجرد وسيلة ليس إلاّ. وهذه الوسيلة إذا لم تؤدِّ إلى عمل الخير وتحقيق الأهداف السامية، فهي لا تساوي شيئاً عند أهل الله. ولذا يقول عليه السلام في خطبة نهج البلاغة "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر. . . لألقيت حبلها على غاربها"15 (أي لتركت تلك الحكومة والإمارة) وذلك بديهي، فتولي الحكومة هو مجرد تحصيل وسيلةً وليس مقاماً معنوياً. إذ لو كان مقاماً معنوياً لما تمكن أحد من غصبه أو التخلي عنه. فبمقدار ما تكون الحكومة والإمارة وسيلةً لتطبيق الأحكام الإلهية وإقامة النظام العادل للإسلام، بمقدار ما تكون ذات قدر وقيمة، ويكون المتولي لها جليل القدر، سامي المقام. بعض الناس هيمنت عليهم الدنيا، فهم يتوهمون أنّ
________________________________________
14- نهج البلاغة - خطب الإمام علي عليه السلام - ج 1 ص 81.
15- نهج البلاغة - خطب الإمام علي عليه السلام - ج 1 ص 37.
17
12
الدرس الأول: أهداف الدرس
الرئاسة والحكومة بحدِّ ذاتها شأن ومرتبة بالنسبة للأئمة عليه السلام، بنحو لو ثبتت لغيرهم؛ فكأنَّما الدّنيا قد خربت. مع أنَّ رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي أو إنكلترا أو رئيس جمهورية أمريكا عندهم حكومات (ورئاسة) لكنّهم كفرة. فهم كفرة، لكنّهم يملكون السلطة والنفوذ السياسي. وهذه السلطة والنفوذ والقدرة السياسية يجعلونها وسيلة لتحقيق طموحاتهم من خلال تطبيق القوانين والسياسات المعادية للإنسانية.
الأئمة والفقهاء العدول مكلفون بالاستفادة من النظام والتكشيلات الحكومية من أجل تنفيذ الأحكام الإلهية، وإقامة النظام الإسلامي العادل، والقيام بخدمة الناس. الحكومة بحدِّ ذاتها بالنسبة لهم لا تعني سوى المشقة والتعب. لكن ما العمل؟ إنَّهم مأمورون بالقيام بالوظيفة، فمسألة ولاية الفقيه هي مسألة تنفيذ مهمة والعمل بالتكليف16.
خلاصة الدرس
إن أدنى مطالعة في روايات أهل البيت عليهم السلام وكلمات العلماء تبيّن أصالة موضوع ولاية الفقيه في النصوص الإسلاميّة، كما ونجده مذكوراً في أبحاث وأقوال العلماء منذ بدايات الغيبة الكبرى للإمام المهدي عج، حتى زمن الإمام الخميني قدّس سرّه.
الولاية بمعنى السلطة، وهي في الحقيقة لله سبحانه وتعالى، وقد أعطاها للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أكّد على استمرارها بعده في اثني عشر إماماً
________________________________________
16- الخميني – روح الله الموسوي - الحكومة الإسلامية - صفحة 87 - 86.
18
13
الدرس الأول: أهداف الدرس
من خلال الأحاديث المتعدّدة أهمّها حديث الغدير.
وفي غيبة الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، كانت ولاية الفقيه امتداداً لولاية المعصوم ليقوم بسدّ الفراغ على المستوى الاجتماعيّ والسياسيّ وغيرها من الجهات.
وولاية الفقيه هي نيابة عن الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف في قيادة الأمة وإقامة حكم الله تعالى. وقد روعيَ فيها مصلحة المولّى عليهم واللطف بهم، كما في جميع موارد الولاية.
19
14
الدرس الثاني: دليل العقل على ولاية الفقيه
أهداف الدرس
1- تقسيم الأدلة إلى عقلية ونقليّة.
2- التعرّف إلى ضرورة الحكومة الإسلامية.
3- إثبات ولاية الفقيه من خلال التوحيد في الربوبية التشريعية.
4- إثبات ولاية الفقيه من خلال ضرورة النظام.
21
15
الدرس الثاني: دليل العقل على ولاية الفقيه
أدلة الولاية
يستدل على ولاية الفقيه في عصر الغيبة بعدّة أدلة بعضها يحكم به العقل مجرداً، وبعضها مستقى من الروايات والنصوص الشرعية.
دليل العقل
إنَّ مقتضى التوحيد في الربوبية التشريعية هو طاعة الله تعالى في جميع الأحكام الإسلامية، وهذه الطاعة تعني تطبيق جميع هذه الأحكام ووضعها موضع التنفيذ العملي، وهذا الأمر لا يمكن أن يتمّ دون وجود حكومة إسلامية تتبنى الإسلام فكراً وعملاً، ويقف على رأسها شخص عالِمٌ بالإسلام، ومطبق له على نفسه، وقادر على تطبيقه في المجتمع. هذا بنحو الإجمال، وأمّا تفصيل الدليل فيحتاج لبيان مقدمات:
المقدمة الأولى: إنَّ من القواعد العقلائية الثابتة التي لا تتغير بتغير الاتجاهات والمذاهب والأديان، هي الحاجة الضرورية لوجود القانون للمجتمع البشري.
ذلك أنَّ الإنسان اجتماعي، وهو بحاجة لتنظيم علاقاته الاجتماعية ومختلف شؤون حياته لئلا يقع بين أفراد المجتمع اختلاف ونزاع وتعارض وظلم، وليحفظ مصالح الفرد والمجتمع..
المقدمة الثانية: أيّ قانون لا يمتلك ضمانة التنفيذ بنفسه، فمجرد وجود القانون لا يحل المشكلة ولا يحقق الغرض من وجوده، فهو بحاجة إلى قيِّم، يضمن التنفيذ والتطبيق الكامل له، ويقيم العدل على أساسه، ويؤيد ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام في جواب الخوارج عندما سمع
23
16
الدرس الثاني: دليل العقل على ولاية الفقيه
قولهم: "لا حكم إلا لله"، حيث قال: عليه السلام "كلمة حق يراد بها باطل"1، نعم، إنَّه لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون: "لا إمرة إلا لله، وإنه لا بد للناس من أمير.. الخ"2.
وعن الفضل بن شاذان عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، أنه قال في علة تعيين أولي الأمر والأمر بطاعتهم.
".... فإن قال: فَلِمَ جعل أولي الأمر وأَمَرَ بطاعتهم؟ قيل: لعِلَلٍ كثيرة:
ومنها: أنَّ الخلق لمّا وقَفوا على حدٍّ محدود وأُمِروا أن لا يتعدوا ذلك الحدّ لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم، إلا بأن يجعل عليهم فيه أميناً يمنعهم من التعدي والدخول فيما حظر عليهم، لأنّه لو لم يكن ذلك كذلك، لكان أحد لا يترك لذّته ومنفعته لفساد غيره، فجعل عليهم قيماً يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام.
ومنها: أنّا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا إلا بقيّم ورئيس، لما لا بد منه في أمر الدين والدنيا، فلم يجزْ في حكمةِ الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنَّه لا بد لهم منه، ولا قوام لهم إلا به، فيقاتلون به عدوهم ويقسّمون به فيئهم، ويُقيم لهم جُمعتهم وجماعتهم، ويمنع ظالمهم من مظلومهم"3.
المقدمة الثالثة: لا بد للقيّم الذي يتولى مهمة ومسؤولية تنفيذ وتطبيق القانون أن يتصف بالصفات التالية:
________________________________________
1- نهج البلاغة - خطب الإمام علي عليه السلام - ج 4 ص 45.
2- نهج البلاغة - خطب الإمام علي عليه السلام - ج 1 ص 91.
3- المجلسي-محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة - ج 60 ص 6.
24
17
الدرس الثاني: دليل العقل على ولاية الفقيه
1- العلم التام بالقانون، لأنّ العلم بالقانون مقدمة ضرورية لتطبيقه.
2- الحصانة الأخلاقية، لأنَّ القيمومة على الأمر أمانة عظمى، لا نضمن أداءها ما لم يكن القيّم في أعلى مستويات العدالة والورع والتقوى.
3- الكفاءة الإدارية، لأنّ القيام بهذه المسؤولية على أكمل وجه، يتطلب من المهارات والخبرات الإدارية والاجتماعية والسياسية وغير ذلك مما له مدخلية في الوصول إلى الهدف على أكمل وجه.
النتيجة
عندما نتحدث عن الحكم الذي يحقق العدل فقد أكد القرآن الكريم أنّه لا يتحقق العدل إلا من خلال النظام الإسلامي ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ 4. وإذا كان الكلام عن الحكم الإسلامي فهذا يعني أنَّ القيّم يجب أن يكون - كتطبيق للصفات السابقة التي حكم العقل بها - حائزاً على الصفات التالية:
- عالماً بحكم الإسلام، قادراً على معرفة الحكم الشرعي لكل واقعة، وبالتالي فيجب أن يكون فقيهاً مجتهداً.
- صاحب حصانة أخلاقية، بمعنى الالتزام بالحكم الشرعي بشكل كامل، وهو تعبير عن مستوى عالٍ من العدالة والتقوى والورع، يجب توفرها في الولي، هذا بالإضافة إلى الكفاءة الإدارية.
وإذا عيّن الله تعالى من يقوم بالأمر، ونصبه لحمل هذه المسؤولية،
________________________________________
4- المائدة: 45.
25
18
الدرس الثاني: دليل العقل على ولاية الفقيه
فهو المتعين ويجب على الناس طاعته والرجوع إليه، فليس هناك أفضل ولا أولى من القيّم، ومن الجهاز الحاكم الذي يعيّنه الله تعالى، لأنَّه المطلع على سرائر خلقه والخبير بنفوسهم، ولا يختار لهذه المسؤولية العظمى والأمانة الكبرى، إلا من طهرت نفسه وصفت سريرته، وخلصت نيته، وكمل عقله، فيحمله الأمانة ويسدده بالوحي، كما هو الحال بالنسبة للرسل وأنبياء الله الكرام عليهم وعلى نبينا محمد وآله آلاف التحية والسلام، ولقد كان آخرهم وخاتمهم الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكما هو الحال بالنسبة للأئمة الأوصياء المعصومين الذين نصّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر الناس بطاعتهم والتمسك بهم والولاية لهم، وهذا لا بحث فيه.
إنَّما البحث فيما لو غاب الإمام المعصوم المعين، فإن ثبت أنّهم عليهم السلام نصّوا على أحد بعينه فتلزم طاعته والرجوع إليه، وإن ثبت بوصفه وعلامته فكذلك، أما إذا فرضنا انتفاء النص، فهنا يوجد ثلاثة فروض:
1- الإهمال:وهي ترك الحبل على الغارب،وهذا ينكره العقل ضرورة لأنه يؤدي إلى النقص.
2- إفساح المجال أمام أيّ شخص لتولي الأمر دون مراعاة الصفات والشروط، وهذا أيضاً لا يمكن الإلتزام به؛لأنه يؤدي إلى تعطيل الأحكام لأن المتولّي غير جامع للشروط، لأن غير العالم مثلاً لا يستطيع تطبيق الأحكام لعدم معرفته بها.
3- تولّي الفقيه الجامع للشرائط - المتقدّمة - وهذا هو المتعيّن بعد ملاحظة جميع المقدمات المذكورة وبعد بطلان الفرضين السابقين.
26
19
الدرس الثاني: دليل العقل على ولاية الفقيه
الأسئلة
1- هل يمتلك القانون ضمانة التنفيذ بنفسه؟
2- هل يستغني المجتمع البشري عن القانون والنظام؟
3- لماذا قال أمير المؤمنين عليه السلام للخوارج "كلمة حق يراد بها باطل" عندما رفعوا شعار"لا حكم إلا لله"؟
4- ما هو الدليل الذي يفرض كون الحكومة والولاية بيد شخص محدد الصفات دون أن تكون الولاية مطلقة لكل أحد؟
5- ما هي الشروط المفترضة بالولي الفقيه؟
6- لخص الدليل العقلي على ولاية الفقيه.
للمطالعة
السنن الإلهية في إقامة حكومة العدل
﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾ 5.
ثلاثة عناصر تشترك في بناء حكومة العدل، وتتكامل من أجل تحقيق هذا الهدف، الإخلال بأي واحد منها يسقط المشروع، ويحرفه عن الهدف المنشود، تلك العناصر هي:
________________________________________
5- البقرة: 251.
27
20
الدرس الثاني: دليل العقل على ولاية الفقيه
أولاً: المنهج الصحيح، والذي يتمثل في عقيدتنا بالرسالة الإسلامية بفكرها ونظامها وشريعتها.
ثانياً: القيادة الصالحة، المعبّر عنها بالولاية التي تمتد من ولاية الرسل والأئمة المعصومين عليه السلام، حتى ولاية الفقيه الجامع للشرائط.
ثالثاً: الأمة الحاضرة، المتمسكة بالمنهج الصحيح والقيادة الصالحة، فإذا غابت الأمة عن الساحة، وتخلت عن المنهج الصحيح، وتخلفت عن ولاة الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم والانقياد لهم، لم تكتمل المعادلة، ولم يتمكن القادة من إقامة حكومة العدل.
وتاريخنا يثبت ذلك، في الجانب السلبي والجانب الإثباتي. فعندما امتنعت الأمة عن القيام بدورها، وتفرقت عن الحق، وانقادت لأئمة الجور، حرمت بركات الرسالة الإلهية، وبركات القيادة المعصومة، ووقعت المآسي بعد المآسي. وعندما عرفت الأمة طريقها وتمسكت بالحق، وقامت بالدور المطلوب، ذاقت طعم العدل، وتمكن القادة من أهل الصلاح أن يوجهوا المسيرة نحو الهدف، وأنزل الله سبحانه نصره، فأعز دينه. تلك هي السنن الإلهية الثابتة ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا﴾ 6.
فلم يكن أهل البيت عليهم السلام يمنعهم عن القيام بالأمر، وإقامة حكم
________________________________________
6- الأحزاب: 62.
28
21
الدرس الثاني: دليل العقل على ولاية الفقيه
الإسلام، إلا تفرق الناس عنهم، وتخليهم عن دورهم وعن تكليفهم، منذ أمير المؤمنين عليه السلام حتى بقية الله الأعظم أرواحنا لتراب مقدمه الفداء. والكثير من النصوص الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام، تتناول هذا المعنى، ومحاوراته عليه السلام مع سدير الصيرفي، وبريد العجلي، ومأمون الرقي، وغيرهم صريحة في ذلك.
فالمسألة إذاً تدور مدار اكتمال الشروط التي بها تجري السنن الإلهية، وعلى هذا النهج نهضة المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، وليست المسألة مجرد توقيت ومجرد إرادة، فالتوقيت والإرادة الإلهية يأتيان على وفق الحكمة، وبعد تحقق الأسباب وهو مضمون السنة الثابتة.
خلاصة الدرس
إنّ مقتضى التوحيد في الربوبيّة التشريعيّة هو طاعة الله تعالى في جميع الأحكام الإسلاميّة، وهذه الطاعة تعني تطبيق جميع هذه الأحكام ووضعها موضع التنفيذ العمليّ وهذا الأمر لا يمكن أن يتمّ دون وجود حكومة إسلاميّة تتبنى الإسلام فكراً وعملاً، ويقف على رأسها شخص عالم بالإسلام، ومطبق له على نفسه، وقادر على تطبيقه في المجتمع.
والبحث فيما لو غاب المعصوم عليه السلام وفُرض انتفاء النص على شخصٍ بعينه، فهناك ثلاثة فروض:
29
22
الدرس الثاني: دليل العقل على ولاية الفقيه
1- الإهمال؛ وهذا ما تنكره ضرورة العقل.
2- أي شخصٍ يتولّى الأمر من دون رعاية الصفات والشروط؛ وهذا يؤدي إلى تعطيل الأحكام.
3- تولّي الفقيه الجامع للشرائط؛ وهذا هو المتعيّن بعد ملاحظة جميع المقدّمات.
30
23
الدرس الثالث: الدليل النقلي على ولاية الفقيه
أهداف الدرس
1- التعرّف إلى النصوص التي تدل على ضرورة الحكومة الإسلامية.
2- الاستدلال على عدم تخصيص الحكومة بزمن دون آخر.
3- التعرّف إلى الروايات الدالة على ولاية الفقيه.
4- الردّ على الأسئلة المثارة حول مقبولة عمر بن حنظلة.
5- الاستدلال بمكاتبة إسحاق بن يعقوب.
31
24
الدرس الثالث: الدليل النقلي على ولاية الفقيه
تمهيد
تقدّم الدليل العقلي على ولاية الفقيه، ويمكن الاستدلال على الولاية بالدليل النقلي، وقد ذكرت عدة أدلّة نقلية على ولاية الفقيه نذكر منها:
الدليل الأول: ضرورة وجود نظام إسلامي
يمكن إقامة الدليل التالي على ضرورة قيام النظام الإسلامي، وذلك بملاحظة أحكام الإسلام، وهذا الدليل يتألف من مقدمات ثلاث:
الأولى: إنَّ الشريعة الإسلامية تتضمن أحكاماً ترتبط بالفرد، كالوظائف العبادية من صلاة وصيام وغيرها من العبادات، كما تتضمن أحكاماً ترتبط بالجماعة وبالنظام العام كالحدود والديات والقضاء والجهاد ونحوها.
الثانية: إنَّ هذه الأحكام الاجتماعية – التي تتعلق بالجماعة – تدل أنَّ الشريعة المقدسة قد بنت وجود هذه الأحكام على وجود ولاية الأمر كأمر مفروغ عنه مفروض وجوده شرعاً، حيث عمدت إلى تنظيمها وتقنينها ووضع أهدافها وأحكامها الشرعية الخاصة، وبالتالي فالإسلام دين نظام.
الثالثة: هذه الأحكام العامة ثابتة في كل زمان وعلى مرّ العصور، ولو لم يكن الأمر دائماً، كان من اللازم تقييد تلك الأحكام بزمان معين، وهو زمان حضور وحكومة المعصوم، مما يعني تعطيل هذه الأحكام الاجتماعية في زمان غيبته، بينما المتسالم بين الفقهاء، والمعروف عند المتشرّعة أنّه لا يمكن تعطيل هذه الأحكام الإلهية، بل هي باقية في كل عصر إلى يوم القيامة، فوجود هذه الأحكام
33
25
الدرس الثالث: الدليل النقلي على ولاية الفقيه
الاجتماعية يستلزم وجود حكومة إسلامية تسير على هداها وتطبقها.
ومما لا شك فيه أن ولاية الحكام الجائرين والطغاة الفاسقين ليست هي التي يناط بها ذلك الغرض، ولا المأمول منها القيام به، للنهي عن توليهم والركون إليهم، وهذا يكفي في إثبات ولاية الفقيه.
الدليل الثاني: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إنَّ أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعتبر من الأدلة الواضحة على الحكومة الإسلامية، حيث إنَّ الحكومة الإسلامية بكامل سلطاتها تعتبر المصداق الأكمل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فبمقتضى أدلة الأمر بالمعروف يجب علينا تحقيق مصاديق وأفراد الأمر بالمعروف، ومن أوضح هذه المصاديق إقامة أحكام هذا الدين وحدوده وحفظ الحقوق والدماء والأعراض، ورفع راية الإسلام خفّاقةً عزيزة، كذلك بمقتضى أدلة النهي عن المنكر، يجب علينا منع تحقيق مصاديق وأفراد المنكر، من الجور والظلم والفساد في الأرض والخوض في الدماء وتضييع الحقوق وطمس معالم الدين و سلطة الظالمين، وهذا يستلزم بشكل واضح وبيّن إقامة حكومة إسلامية، يكون على رأسها الفقيه الجامع للشرائط، لأنّه الأعرف بتحقيق الأهداف، من إقامة لأحكام الدين، وتحقيق العدل، ومنع الظلم والفساد بما يوافق الشريعة الإسلامية.
الدليل الثالث:الروايات الخاصّة
هناك العديد من الروايات والنصوص الواردة عن المعصومين عليهم السلام، والتي يمكن الاستدلالَّ بها على ولاية الفقيه في عصر الغيبة، ونبحث
34
26
الدرس الثالث: الدليل النقلي على ولاية الفقيه
بها هنا من جهة دلالتها على المطلوب، ومنها:
أولاً: مقبولة عمر بن حنظلة:
أ- نصها:
قال عمر بن حنظلة: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحلُّ ذلك؟
قال عليه السلام: "من تحاكم إليهم في حق أو باطل، فإنَّما تحاكم إلى الجبت والطاغوت المنهي عنه، وما حكم له به فإنّما يأخذ سحتا، وإن كان حقه ثابتا له، لأنَّه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله عزوجل أن يكفر به، قال الله عزو جل " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به".
قلت: فكيف يصنعان وقد اختلفا؟ قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا و عرف حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكم ولم يقبله منه فإنَّما بحكم الله إستخفَّ، وعلينا ردَّ، والرادُّ علينا كالرادِّ على الله، وهو على حدِّ الشرك بالله "1.
ب- السند:
هذه الرواية تلقاها الفقهاء قديماً، وحديثاً بالقبول،لذلك عبّروا عنها بالمقبولة، وهذا يعني اعتمادهم عليها بعد تماميّة الدلالة.
ج - دلالتها:
إنًّ عبارة (قد جعلته عليكم حاكماًً) تدل على أنَّ من اجتمعت فيه
________________________________________
1- المجلسي-محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانية المصححة - ج 101- ص 261.
35
27
الدرس الثالث: الدليل النقلي على ولاية الفقيه
الصفات الواردة في النص (روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا) قد نصّبه الإمام عليه السلام بالنصب العام لمختلف شؤون الحكومة وتولي الأمر.
ومن تلك الأمور التي تندرج تحت الحكومة وتولي الأمر هو القضاء والفصل في النزاعات والخصومات، وصلاحية تنفيذ الحكم القضائي الذي يصدره، وذلك لأنَّ الإمام عليه السلام حرّم رد حكم من نصبه (فإذا حكم بحكم ولم يقبله منه فانما بحكم الله استخف، وعلينا ردّ، والرادَّ علينا كالرادِّ على الله، وهو على حدِّ الشرك بالله)، فيَـلْزم القبول بحكم الحاكم المنصوب من قِبله عليه السلام وبالتالي لهذا الحاكم الفقيه الولاية لتنفيذ الحكم القضائي الذي أصدره.
أسئلة وردود حول هذه الرواية:
السؤال الأول:إنَّ الاستفهام الوارد في الرواية كان عن الحالات التي يحصل فيها النـزاع والتخاصم، فالرواية خاصة بمثل هذه الموارد، فهذا النص أخص مما نريد إثباته، وهي الولاية العامة للفقيه.
والجواب: إنَّ المورد وإن كان مورد تنازع، وهو يستدعي نصب القاضي، إلا أنَّه في صدر الرواية كان موضوع كلام الإمام عليه السلام حول الحكام الظالمين والجائرين الذين كانت بيدهم أمور الناس، وليس فقط خصوص القضاء وفصل النزاعات، فنهى الإمام عليه السلام عن الرجوع إلى هؤلاء الحكام الظالمين والتحاكم اليهم.
وفي المقابل نصّب الإمام عليه السلام من يحوز صفات محددة وجعله منصوباً للحكومة والحاكمية (فإنِّي قد جعلته حاكماًَ)، ومن جملة
36
28
الدرس الثالث: الدليل النقلي على ولاية الفقيه
صلاحياته -كحاكم- القضاء، وفصل الخصومات، وتنفيذ الأحكام القضائية، فيظهر بوضوح أنّ الإمام عليه السلام أعطى للفقيه الجامع للشرائط الولاية، بنحو أعم من خصوص منصب القضاء.
السؤال الثاني: إنّّ الرواية صادرة عن الإمام الصادق عليه السلام، وهذا يعني أنّها ناظرة إلى زمان حضور الإمام عليه السلام، فلا يمكن الاعتماد عليها في زمان الغيبة لإثبات الرجوع إلى الفقيه الحاكم.
وجوابه: إنَّ الذي دعا الإمام الصادق عليه السلام إلى نصب الفقهاء في عصر حضوره هو عدم تمكن جميع الشيعة من أقطار الأرض من الوصول إليه والسؤال منه، وهذا الأمر نفسه – عدم التمكن من الوصول إلى الإمام عليه السلام - يدعو للرجوع إلى الفقهاء في زمن الغيبة، بل يثبت الرجوع إلى الفقهاء بشكل أولى في زمن الغيبة.
السؤال الثالث: إنَّ النصب في هذه الرواية كان من قِبل الإمام الصادق عليه السلام، وبعد وفاته عليه السلام ينعزل المنصوب من قِبله، ولكي يبقى من نُصّب في منصبه نحتاج إلى قيام دليل جديد على نصبه من قِبل الإمام اللاحق.
ويُجاب عليه: بأنّ النصب يستمر حتى لو توفي الإمام عليه السلام ما لم يسقطه الإمام اللاحق، فما لم يُعلم إسقاط النصب وإلغاء الصلاحية من قِبل الإمام اللاحق فالنصب باقٍ ومستمر، لا سيما وأنَّ النصب من قِبل الإمام الصادق عليه السلام لم يكن لشخص باسمه بل كان لعنوان الفقهاء الذين اجتمعت فيهم شرائط وصفات محددة.
37
29
الدرس الثالث: الدليل النقلي على ولاية الفقيه
ثانياً: مكاتبة إسحاق بن يعقوب:
أ-نصها:
قال إسحاق بن يعقوب: سألت محمد بن عثمان العمري رحمه الله (سفير الإمام الحجة عجل الله فرجه) أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه السلام: "... وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجتي عليكم وأنا حجة الله... "2.
ب-السند:
هذه الرواية عبّر عنها بالمكاتبة، وهي كالاستفتاء الخطي في هذا الزمن، حيث كان الفقهاء يبعثون برسائلهم إلى الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريفعبر أحد سفرائه، ويأتي الجواب وعليه ختم الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريفوقد أورد هذه المكاتبة أجلّة الفقهاء، واعتمدوا عليها في الاستدلال.
ج- دلالتها:
وهذه الرواية أوضح من سابقتها في الدلالة على ولاية الفقيه، لأنَّ الحوادث الواقعة المراد بها هنا: الأمور المستجدة التي يرجع فيها الناس عادة إلى أئمتهم ورؤسائهم، وليس الرجوع من أجل معرفة الأحكام فقط، فالرجوع من أجل معرفة الأحكام كان جارياً ومعروفاً وليس بحاجة إلى استفهام وسؤال، فمن المستبعد جداً أن يكون السؤال عن شيء واضح، إنَّما السؤال إلى من يُرْجَع في الأمور المستجدة والحادثة.
وليس المراد من رواة الحديث مجرد نقل الرواية والتحديث، وإنّما
38
30
الدرس الثالث: الدليل النقلي على ولاية الفقيه
المراد "بالرواة" هم الفقهاء الذين يروون الحديث ويطبقونه ويستنبطون منه الأحكام، لأنّهم القادرون على إعطاء الأحكام في الحوادث الواقعة والمستجدة والتعاطي معها.
وقوله عليه السلام: "فإنَّهم حجتي عليكم وأنا حجة الله" يستفاد منه أنَّ معنى الحجة واحد، وذلك لورودها ضمن سياق واحد، فكما أنّ الأئمة عليهم السلام حجة في أوامرهم ونواهيهم وأحكامهم، فكذلك الفقهاء هم حجة في أوامرهم ونواهيهم وأحكامهم باعتبارهم رواةً للأحاديث بالمعنى الذي ذكرناه.
الأسئلة
1- هل هناك أحكام في الإسلام تتوقف على وجود الحاكم؟ وما هي هذه الأحكام وكيف تدل على الولاية للفقيه؟
2- هل يمكن الاستعانة بأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإثبات ولاية الفقيه؟
3- كيف يستدل برواية عمر بن حنظلة على ولاية الفقيه؟
4- هل يؤثِّر صدور الرواية المتقدمة عن الإمام الصادق عليه السلام على دلالتها على ولاية الفقيه في عصر الغيبة؟
5- أثبت ولاية الفقيه من خلال رواية إسحاق بن يعقوب.
6- ما معنى الرواية المقبولة، وما معنى المكاتبة؟
39
31
الدرس الثالث: الدليل النقلي على ولاية الفقيه
للمطالعة
ولاية الفقيه ولاية الله وحاكميته
القرآن يصطلح على كل ولاية غير ولاية الله بالطاغوت. فهو يؤكِّد أنَّ من لا يخضع لولاية الله وحاكميته فهو خاضع لولاية الطاغوت وحاكميته، فما هو الطاغوت؟ الطاغوت مشتق من مادة الطغيان والطغيان هو التعدي والخروج عن الحدود الطبيعية والفطرية للإنسان فلو أنَّ الإنسان الذي خلق ليصل إلى كماله الممكن خرج عن هذا الهدف فهو طاغوت. وعلى الناس أن يعيشوا وفقاً لرسالة الله ودينه. وهذا أمر طبيعي وفطري ومطابق لخلقة الناس، والطاغوت هو ذلك الشخص الذي يستخدم مختلف الوسائل من أجل أن يجعل الناس يسيرون على خلاف نهج الله ورسالته ودينه. وعلى الإنسان أن يسعى بكل ما أوتي من قوة من أجل أن يجعل وجوده مثمراً منتجاً، وكل دافع يتنافى مع جدية الإنسان وجهاده وكدحه ويدعوه إلى الكسل والتواني والخمول وطلب العافية فهو الطاغوت، وعلى الناس أن يخضعوا لشريعة الله ورسالته ومنهجه وكل من يمنع الإنسان عن طاعة أمر الله ويدعوه إلى المعصية فهو طاغوت. إذاً، فليس الطاغوت اسماً خاصاً، وليس صحيحاً ما يتخيله البعض من أنَّ الطاغوت اسم لصنم معين. نعم، يطلق على الصنم ويسمى الصنم به لكنه ليس صنماً معيناً، وقد يكون الإنسان نفسه صنماً، وكذلك ثروته وحياته العاطلة المتراخية
40
32
الدرس الثالث: الدليل النقلي على ولاية الفقيه
المترفة، وكذلك أمانيه وآماله، وقد يضع الإنسان يده بيد إنسان هو صنم يغمض عينيه ويضع كل ما لديه بيده، وقد يكون الصنم هو الذهب والفضة أو النظام الاجتماعي أو القانون. فليس الطاغوت اسماً لشيء محدد خاص. والذي يستنبط من القرآن الكريم أنَّ الطاغوت مقامٌ فوق مقام الملأ وأشراف القوم والمترفين والجبارين والرهبان. وهذا بحث غير بحثنا ولسنا بصدد الحديث عنه، وعلى هذا فكل من يخرج عن ولاية الله وحاكميته فلا بدَّ أن يدخل في ولاية الطاغوت والشيطان3.
خلاصة الدرس
يمكن الإستدلال على ولاية الفقيه بالدليل النقلي وقد ذكرت عدّة أدلة نقليّة عليها:
الدليل الأوّل: ضرورة وجود نظامٍ إسلاميّ، وبيانها: إنّ في الإسلام أحكاماً تتعلّق بالجماعة والنظام العام، وهي تدلّ على ضرورة وجود وليّ للأمر يطبق هذه الأحكام، وهذه الأحكام العامّة مطلقة وغير مقيّدة بزمانٍ دون زمان، وهذا يعني ضرورة وجود حكومة إسلاميّة تسير على هدى هذه الأحكام وتطبقها.
الدليل الثاني: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إنّ الحكومة الإسلاميّة بكامل سلطاتها تعتبر المصداق الأكمل للأمر
________________________________________
3- الخامنئي - علي- الإمامة والولاية - 93 - 92.
41
33
الدرس الثالث: الدليل النقلي على ولاية الفقيه
بالمعروف والنهي عن المنكر.
الدليل الثالث: الروايات الخاصّة؛ كمقبولة عمر بن حنظلة، التي عبّرت (قد جعلته عليكم حاكماً)، ومكاتبة إسحاق بن يعقوب التي عبّرت (وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله).
42
34
الدرس الرابع: الصفات والصلاحيات
أهداف الدرس
1. التعرّف إلى الصفات الأساسية التي يجب توفرها في القائد.
2. الاستدلال على هذه الصفات من خلال النصوص الشرعية.
3. معالجة التفاوت في الصفات بين الأشخاص.
4. التعرّف إلى محل الخلاف في صلاحيات الولي.
5. الاستدلال على الولاية العامة للفقيه.
43
35
الدرس الرابع: الصفات والصلاحيات
صفات الوليّ في عصر الغيبة
مقتضى الأدلة المتقدمة على ولاية الفقيه، أن يؤخذ في ولي الأمر من الشروط والأوصاف ما يحقّق الهدف المنشود لإقامة حكومة العدل والنظام الإسلامي، ولعل دليل العقل يقضي بأن تكون الولاية والحاكمية للأفضل والأولى باعتبار ما يملك من مؤهلات وكفاءات.
ومع ذلك فالنصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام أوضحت بدقة الشروط، ويمكن إرجاعها إلى ثلاثة محاور أساسية كما تقدم:
الأول: الفقاهة أو العلم الواسع الشامل لجميع ما يبتلى به الولي في شؤون الحكم وهذا يقتضي أن يكون:
1-مجتهداً، أيّ قادراً على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية حيث إنّه ما من واقعة إلا ولله فيها حكم، فلا بد أن يكون الفقيه قادراً على استنباط الأحكام في كافة المجالات الخاصة والعامة.
2-عارفاً بأمور زمانه: حيث إنَّ معرفة أمور الزمان تعتبر أمراً ضرورياً في عملية الاستنباط حيث لا بد للفقيه أن يعرف الموضوع معرفة تامة حتى يطبق الحكم على الموضوع وإلا كان اجتهاده ناقصاً. فالأحكام تتغير بتغير الموضوعات.
الثاني: الحصانة الأخلاقية وتعني:
أ- العدالة: وهي ملكة نفسانية بمستوى عالٍ تدفع إلى فعل الواجب وترك الحرام.
ب- التقوى الورع: وهو عدم الانكباب على الدنيا جاهاً أو مالاً.
وقد اشترطت هذه الصفات ليكون أميناً على الأمر بعيداً عن الأهواء
45
36
الدرس الرابع: الصفات والصلاحيات
والمطامع الدنيوية، لأنّ المسؤولية كبرى، وهي مزلّة الأقدام ومظنّة السقوط في شباك الهوى وزينة الدنيا. وقد اشترطوا العدالة في من يستأمن على أبسط الأموال، فكيف بمن يستأمن على الأموال والأنفس والأعراض ونظام الملة وزمام الدين.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: "لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم"1
وروي عن الإمام الحسين عليه السلام: "ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله"2.
الثالث: الكفاءة الإدارية أو القدرة على الأمر، وهذا يتطلب خبرةً إداريةً عاليةً ووعياً سياسياً واسعاً، وضبطاً ودقّة، ويتطلب أيضاً شجاعة وثباتاً، وكل ذلك من البداهة بمكان بحيث لا يحتاج إلى إقامة الدليل عليه، ومع ذلك فقد دلّ عليه عِدّة نصوص:
منها: قول أمير المؤمنين علي بن أبى طالب عليه السلام: "أحقُّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه"3 ولا يكون أقوى إلا بالصفات التي ذكرنا.
ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وقد علمتم أنَّه لا ينبغي أن يكون الولي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين، البخيل فتكون أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلَّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي
________________________________________
1- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية،آخوندي-الطبعة الخامسة /ج 1/ص704/ ابن بابويه- علي- فقه الرضا-مؤسسة أهل البيت عليهم السلام - ج 1 ص 407.
2- المفيد كتاب الارشاد/مؤسسة آل البيت عليهم السلام لتحقيق التراث - الطبعة الثانية 4141-ج2 /ص 93.
3- نهج البلاغة/الإمام علي عليه السلام /خطبة 173/ج 2/ص 86.
46
37
الدرس الرابع: الصفات والصلاحيات
في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة"4.
ومنها: ما روي عن الإمام الرضا عليه السلام: "للإمام علامات: يكون أعلم الناس، وأحكم الناس، وأشجع الناس، وأسخى الناس، وأعبد الناس.."5.
وهذه العلامات وإن كانت للإمام المعصوم عليه السلام إلا أنَّه يفهم منها اعتبار الأعلمية والأفضلية لغيره عند غيبته.
وغير هذه الروايات كثير. وإذا كان بعضها يريد إثبات إمامة الأئمة المعصومين عليهم السلام من خلال تعداد صفاتهم وإبطال إمامة أئمة الجور الذين عاصروهم، فإنَّ الصفات هذه شرط في الولاية مطلقاً، والأئمة عليهم السلام هم أبرز مصاديقها وأكملها.
الكسر والانكسار في الصفات
نتيجة تفاوت الفقهاء بالصفات المتوفرة، فقد نجد من هو أكثر ورعاً وتقوى وأقلُّ فقاهة، أو أكثر فقاهةً وأقلُّ كفاءة في السياسة والتدبير وإدارة الدولة، أو أكثر فقاهة في بعض أبواب الفقه، كالأبواب الخاصة بالعبادات، ولكنَّه أقلُّ فقاهة في الأبواب المرتبطة بالقضاء والجهاد والسياسات.وحينئذٍ، فلمن تكون الولاية للأفقه أو للأتقى أو للأقدر على الأمر؟!.
في هذه الحالة لا بد من إجراء حالة توازن بين الصفات، وملاحظة ما هو أكثر مساساً بالموقع والمسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقه. وهو ما يطلق عليه اسم الكسر والإنكسار في الشروط، وهو أمر متعارف في كافة
________________________________________
4- نهج البلاغة - خطب الإمام علي عليه السلام - ج 2 ص 14.
5- المجلسي-محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانية المصححة - ج 25 ص 116.
47
38
الدرس الرابع: الصفات والصلاحيات
الوظائف والمسؤوليات عند اختيار الأنسب لها.
خاصة أنَّنا لا يمكننا التنازل عن أيَّة صفة من هذه الصفات لمصلحة الأخرى، وإنّما الكلام في التنازل عن الأكمل والأفضل في صفة معيِّنةً، لصالح الأكمل والأفضل في صفة أخرى، فالتفاضل يقع بين مستويات انطباق الصفات لا بين الصفات نفسها.
صلاحيات الولي الفقيه
بعد أن تمّ إثبات أصل الولاية للوليّ الفقيه، وتقدّم أنّ إجماع العلماء قائم على ثبوت أصل الولاية، وقع الخلاف في حدود هذه الولاية ودائرة صلاحيّات الوليّ، والمعروف بين الفقهاء قولان:
أ- القول بالولاية الخاصّة
وهي تعني الولاية في الأمور الحسبيّة وهي عند الفقهاء ولاية القضاء وإقامة الحدود وحفظ الأوقاف ومال الغائب والقاصر والتصرّف بسهم الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف في الخمس وأمثال ذلك ممّا يقع في دائرة ولاية المعصوم، ولا تقام في الأصل إلا بإذنه، لكن ثبت أنّ الشريعة المقدّسة والأئمّة المعصومين عليهم السلام لا يرضون بتركها في عصر الغيبة وتضييعها.
ودليل هذا القول: أصالة عدم ولاية أحد على أحد إلا ما خرج بالدليل، فإنّه بعد عدم تماميّة الدليل على الولاية العامّة - الآتي شرحها - عند أصحاب هذا القول، تبقى الأمور الحسبيّة - السابقة الذكر - بنظرهم هي القدر المتيقّن من ثبوت الولاية.
وقد ردّ هذا القول: بأنّ معنى الأمور الحسبيّة أوسع ممّا تصوّره أصحاب هذا القول، لأنّ إقامة الحكومة الإسلاميّة التي تحيي الشريعة الإسلاميّة، وتحفظ أحكامها، وتحمي مصالح الدين، وأمور المسلمين،
48
39
الدرس الرابع: الصفات والصلاحيات
وتمنع الظلم والفساد، تعتبر من أهمّ الأمور الحسبية التي لا يرضى الله سبحانه، ولا رسوله ولا الأئمّة المعصومون عليهم السلام، بتركها والتخلّي عنها، فمفهوم ومعنى الأمور الحسبيّة يشمل دائر الولاية العامّة أيضاً.
ب- القول بالولاية العامّة
ومعنى الولاية العامّة هي أنّ للوليّ الفقيه إقامة الحكومة الإسلاميّة بكلّ ما تشمله من التصرّفات، لا بخصوص الأمور الحسبيّة السابقة، بل تشمل إضافة إلى ذلك التصرّف بالأموال العامّة والنفوس، كالجهاد، ممّا كان ثابتاً للمعصوم عليه السلام من حيث هو قائد وحاكم، والفقيه يمارس صلاحيّاته في هذه الدائرة الواسعة بحكم كونه نائباً عن المعصوم.
الدليل على الولاية العامة
إنَّ الروايات جعلت للفقيه ولاية بما هو نائب عن الإمام المعصوم الحاكم المفترض الطاعة، بنحو واسع الصلاحية يشمل كل ما ثبت للإمام المعصوم الحاكم، وذلك لأنَّ الروايات والنصوص الشرعية لم تخصص نيابة الفقيه عن المعصوم الحاكم بصلاحيات دون أخرى، بل أثبتتها للفقيه دون قيد، فتكون مطلقة وشاملة، ونافذة في دائرة كل ما كان للمعصوم الحاكم، إلا ما خرج بالدليل، كما إذا علمنا أنَّ الحكم بالجهاد الابتدائي - مثلاً - ثابت للمعصوم عليه السلام بما هو معصوم لا بما هو حاكم فالولاية لا تثبت للفقيه حينئذٍ في هذه الجزئية.
ولذا كان للفقيه كلُّ ما كان للمعصوم فيما يرجع إلى إقامة الحكومة وما تستلزم من تصرفات بالأموال والأنفس وغير ذلك مما كان ثابتاً للمعصوم عليه السلام من حيث هو قائد وحاكم.
49
40
الدرس الرابع: الصفات والصلاحيات
الأسئلة
1- ما هي الشروط الأساسية التي ينبغي توفرها في ولي الأمر؟
2- ما هو الدليل الشرعي على اشتراط الفقاهة والأعلمية في ولي الأمر؟
3- ما المقصود بالكفاءة الإدارية؟
4- إذا تفاوتت صفات الفقهاء الموجودين بين الأكثر ورعاً والأقل فقاهة أو بين الأكثر فقاهة والأقل كفاءة في الإدارة والسياسة فماذا يفعل مجلس الخبراء؟
5- ما هي حدود صلاحيات الولي الفقيه؟ وما المقصود بالولاية العامة؟
6- بيِّن المراد من الأمور الحسبية.
للمطالعة
الولاية الاعتبارية
عندما نثبت نفس الولاية التي كانت للرسول لله والأئمة عليه السلام للفقيه في عصر الغيبة، فلا يتوهمنَّ أحد أنّ مقام الفقهاء نفس مقام الأئمة عليهم السلام والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنَّ كلامنا هنا ليس عن المقام والمرتبة، وإنَّما عن الوظيفة. فالولاية؛ أي الحكومة وإدارة البلاد وتنفيذ أحكام الشرع المقدس هي
50
41
الدرس الرابع: الصفات والصلاحيات
وظيفة كبيرة مهمة، لكنَّها لا تحدث للإنسان مقاماً وشأناً غير عادي، أو ترفعه عن مستوى الإنسان العادي. وبعبارة أخرى فالولاية التي هي محل البحث، أي الحكومة والإدارة والتنفيذ ليست امتيازاً، خلافاً لما يتصوره الكثيرون، وإنّما هي وظيفة خطيرة.
فالقيّم على الأمّة لا يختلف عن القيّم على الصغار من ناحية الوظيفة والدور. وكأنَّ الإمام عليه السلام قد عيَّن شخصاً لأجل "حضانة"الحكومة أو منصب من المناصب. ففي هذه الموارد لا يعقل أن يكون هناك فرق بين الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام والفقيه. فمن الأمور التي هي ضمن ولاية الفقيه تنفيذ الحدود (أي تطبيق القانون الجزائي للإسلام) فهل هناك اختلاف في تنفيذ الحدود بين الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام والفقيه؟ أم أنَّه لأنَّ الفقيه أدنى رتبة، فيجب أن تكون السياط التي يجلدها أقلّ عدداً؟!6
خلاصة الدرس
مقتضى الأدلة المتقدمة على ولاية الفقيه أن يؤخذ في ولي الأمر من الشروط والأوصاف ما يحقق الهدف المنشود لإقامة حكومة العدل والنظام الإسلاميّ. ولعلّ دليل العقل يقضي بأن تكون الولاية والحاكمية للأفضل والأولى باعتبار ما يملك من مؤهلات وكفاءات.
والنصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة الهدى من أهل البيت عليهم السلام
________________________________________
6- الخميني – روح الله الموسوي - الحكومة الإسلامية - 81- 82.
51
42
الدرس الرابع: الصفات والصلاحيات
وضّحت الشروط بدقّة، ويمكن إرجاعها إلى ثلاث محاور أساسية:
الأول: الفقاهة أو العلم الواسع الشامل لجميع ما يبتلى به الولي في شؤون الحكم وهذا يقتضي أن يكون:
1- مجتهداً أي قادراً على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية.
2- عارفا بأمور زمانه : حيث إنَّ معرفة أمور الزمان تعتبر أمراً ضرورياً في عملية الاستنباط.
الثاني: الحصانة الأخلاقية وتعني:
أ- العدالة: وهي ملكة نفسانية بمستوى عالٍ تدفع الى فعل الواجب وترك الحرام.
ب- الورع: وهو عدم الانكباب على الدنيا جاهاً أو مالاً.
الثالث: الكفاءة الإدارية أو القدرة على الأمر، وهذا يتطلب خبرة
إدارية عالية ووعياً سياسياً واسعاً، وضبطاً ودقة، ويتطلب أيضاً شجاعة وثباتاً.
52
43
الدرس الخامس: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
أهداف الدرس
1- الاستدلال على وحدة الولاية بالنصوص الشرعية.
2- التعرف إلى فرضيات تعدد الولي.
3- مناقشة فرضيات التعدد و إثبات بطلانها.
53
44
الدرس الخامس: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
تمهيد
لقد مهَّد الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف لغيبته وانقطاعه عن الناس بما عرف بالغيبة الصغرى، والتي نصَّ فيها على أشخاص بأسمائهم وجعلهم وكلاءه ونوابه، إليهم يرجع الناس وهم يرجعون إلى الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، وأما بعد وفاة السفير الرابع فقد جعل الإمام الولاية من بعده بما دلتنا عليه الروايات المتقدمة لأشخاص يحملون صفات معيِّنةً محددة تقدم ذكرها أيضاً، ولم ينصّ عليها لشخص واحد بعينه، وعند توفر الشروط في واحد من الفقهاء يتعين تلقائياً، لكن لو فرضنا تعدد الفقهاء الذين تتوفر فيهم الشروط المتقدمة، فهل تكون الولاية لكل واحد منهم أو لمجموعهم أو لأحدهم فقط؟ ولعل هذا من أهم أبحاث ولاية الفقيه في العصر الحاضر.
وقبل الدخول في صلب الموضوع ينبغي الإشارة إلى أنَّ البحث عن وحدة الولاية وتعددها سيكون بحسب القاعدة الأوليّة، أي ما ينبغي أن يكون عليه الأمر في الظروف الطبيعية، بعيداً عن الظروف القاهرة التي تفرض التعدد أو تفرض الوحدة. فإذا كانت القاعدة الأولية تقتضي وحدة الولاية، ومنعت الظروف من توحيد الولاية وفرضت التعدد، فعندئذ لا مانع منه، كما هو كل حكم أولي تقتضي الضرورة رفع اليد عنه، وهو أولى من ترك الأمور كلياً. كما أنَّ القاعدة الأولية لو فرضت التعدد، وكان الظرف يقتضي الوحدة فإنَّه لا مانع منها عندئذ.
كما أنّه لا يشك بأنَّ وحدة ولاية الفقيه غالباً ما تكون هي الخيار الأفضل للأمَّة، لكنَّ البحث لن يكون في الأفضل، بل في الأصل ومقتضى القاعدة. وليس البحث بلحاظ شخص استثنائي، أو زمن استثنائي، يلزمنا
55
45
الدرس الخامس: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
بالوحدة أو بالتعدد كما يحدث أحياناً، وإنَّما بقطع النظر عن الأشخاص والخصوصيات الزمانية والمكانية.
أدلة وحدة ولاية الأمر
إذا اتضح ذلك نقول: إنَّ القاعدة الأولية تقتضي وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة ودليل ذلك:
أولا: إنَّ ما يحكم به العقلاء في جميع الأمم والشعوب والأديان أنَّ وجود رأس واحد لهذه الجماعة هو أمر لازم لصالح الجماعة، وأنَّ تعدد القادة سوف يؤدي إلى الإخلال بسير الأمة نحو الرقي والكمال المادي والمعنوي، وسوف يفرض الإنقسام على الناس ويتيح الفرصة لتفكّك الجماعة، واذا كان المسلمون أمة واحدة، تحمل هدفاً واحداً وعقيدة واحدة ومصادر مسيرتها في الحياة واحدة، فلا بد وأن يكون الشخص الذي يسير بها واحدا.
ثانيا: روح الشريعة: فإنَّ الشريعة الإسلامية في كلِّ أحكامها السياسية والاجتماعية والأمنية والعسكرية فرضت الأمة الإسلامية أمة واحدة، فرضت الوطن الإسلامي وطناً واحداً، وليس فيها ما يفرض تعدد الكيانات والأمم الإسلامية، وقد بقي هذا الأمر يعيش في مرتكزات المسلمين في مختلف العصور حتى جاء الاستعمار الحديث بثقافة الكيانات المتعددة، وقسّم الأمم والأوطان، لأهداف سياسية معروفة.
ثالثاً: النصوص الصريحة التي دلت على وحدة القيادة في العالم الإسلامي، منها:
56
46
الدرس الخامس: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
1- الرواية المعتبرة عن الإمام الصادق عليه السلام "إنَّما للمسلمين رأس واحد"1.
2- عن الفضل بن شاذان عن الامام الرضا عليه السلام : "فإن قيل فلم لا يجوز أن يكون في الأرض إمامان في وقت واحد أو أكثر من ذلك؟ قيل لعلل منها: أنَّ الواحد لا يختلف فعله وتدبيره، والإثنين لا يتفق فعلهما وتدبيرهما، وذلك أنَّا لم نجد اثنين إلا مختلفي الهم والإرادة، فإذا كانا اثنين ثمَّ اختلف همهما وإرادتهما وكان كلاهما مفترضي الطاعة لم يكن أحدهما أولى بالطاعة من صاحبه، فكان يكون في ذلك اختلاف الخلق والتشاجر والفساد. ثم لا يكون أحد مطيعا لأحدهما إلا وهو عاصٍ للآخر فتعم المعصية أهل الأرض.."2.
فرضية تعدّد الولي
بالإضافة إلى ما ذكرناه من أدلة تؤكد الوحدة، سنتعرض لاحتمال تعدد الولي، لنرى مبرراته الشرعية ولوازمه العلمية، ويمكن تصور التعدّد من خلال عدّة صور:
الصورة الأولى: ثبوت الولاية الفعلية لكل فقيه تتوفّر فيه الشروط، بحيث يكون لكل فقيه ولاية مستقلة عن ولاية الباقين، مهما كثر عددهم.
إلا أنَّ هذا الاحتمال لا يمكن المصير إليه، لأنَّه يلزم منه الاختلاف والفساد، وانعدام النظام، بينما المفروض أنَّ ولاية الأمر إنَّما تشرَّع لحفظ النظام، وإدارة شؤون الناس، وحفظ الحقوق، وإقامة الدين، فهي لدفع الفساد لا لإحداثه، فهذا الاحتمال ساقط قطعاً.
________________________________________
1- المجلسي-محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانية المصححة - ج 25 ص 326.
2- المصدر السابق، ج 6 ص 61.
57
47
الدرس الخامس: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
الصورة الثانية: ثبوت الولاية الفعلية للمجموع لا للجميع، أي ثبوت ولاية واحدة لمجموع الفقهاء الذين تتوفر فيهم الشروط حال اجتماعهم، دون أن يكون للأفراد ولاية. ومقتضى هذا الاحتمال أن يكون ما أجمعوا عليه حجّة على الناس ملزماً لهم، فلا بد من اجتماعهم وإجماعهم على رأي واحد لتحصل القرارات الملزمة في النظام.
وهذا الاحتمال أيضاً لا يمكن المصير إليه ولا الالتزام به، فهو لا يدل عليه دليل، ولا يمكن استنباطه من أدلة ولاية الفقيه النقلية فضلاً عن الدليل العقلي. أضف إلى أنَّ آلية تحصيل القرارات الملزمة تنحصر في اجتماعهم، وهو أمر لا يتيسّر، وإن تيسّر نادراً فهو لا ينفع في المواقع التي تحتاج إلى متابعات يوميّة وإصدار الأوامر والنواهي والتعليمات كلّما اقتضى الشأن ذلك.
كما أنّ التنازل عن الإجماع والاكتفاء بالأكثريّة حضوراً وآراءً لا دليل على شرعيّته وإنْ اعتمدته الديمقراطيّة الحديثة، ولا يكفي اتفاقهم على اعتماد نظام الأكثرية لأنَّه لا يوجد دليل شرعي على أنَّ من صلاحيتهم ذلك. فهذا الاحتمال أيضاً ساقط كسابقه.
الصورة الثالثة: ثبوت شأنيّة الولاية لجميع الفقهاء الذين تتوفّر فيهم الشروط، بمعنى صلاحيّة كلّ واحد منهم للولاية، وأهليّته لها، إلا أنَّ الولاية الفعليّة لا تكون إلا لواحد منهم فقط في كلّ دائرة من دوائر الأمة الإسلاميّة، فعند تعدّد الفقهاء في الدائرة الواحدة لا تكون الولاية الفعلية إلا لواحد منهم، وعند تعدّدهم بتعدد الدوائر يكون كل واحد منهم ولياً بالفعل في دائرته.
58
48
الدرس الخامس: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
وهذا الاحتمال هو الأشهر عند القائلين بتعدد ولاية الفقيه، حيث يدَّعي أصحابه أنَّه لا يلزم منه الفساد الذي اقتضاه الاحتمال الأول، ولن يكون هناك تعارض بين أولياء الأمور الذين يعمل كل واحد منهم في دائرة مستقلة عن الأخرى، واستدلوا على ذلك بأن الأدلة السابقة الشرعيّة مطلقة بمعنى أنّها تنطبق على كلّ فقيه جامع للشرائط، غير مختصّة بفقيه واحد إلاّ في الحالات التي يلزم من ثبوت الولاية لكلّ واحدٍ(التعدّد)الفساد،وتبقى سائر الحالات على حالها.
وهو ما يصوره هذا الاحتمال، بالضبط كما هو الأمر في القضاء، فإنَّ مقبولة عمر بن حنظلة التي يستدلّ بها على ولاية الفقيه، قد الاستدلال بها الكثير من الفقهاء على ولاية القضاء، وهي ذاتها لم تمنع من تعدد القضاة حتى في البلد الواحد، ما لم يلزم منه الفساد، فلذا منعوا أن ينظر اثنان من القضاة في قضية واحدة مما يفتح الاحتمال على الاختلاف في الحكم وتكوين النزاع.
مناقشة التعدد
إلا أنَّ هذا الاحتمال أيضاً مما لا ينبغي المصير إليه ولا الالتزام به لعدة أمور:
1- إنّنا عندما نريد استفادة الإطلاق من الكلام الوارد من المعصوم لا بد وأن يكون الكلام قدر ورد لبيان جعل الولاية للجميع فعلا، أي نصب كل فقيه للولاية، ولكنَّ الروايات لم تكن بصدد بيان ذلك، بل أرادت بيان الصفات المعتبرة التي ينبغي توفرها في الولي. ثم إننَّا إذا أردنا أن نفهم كلام المعصوم لا بدَّ وأن نفهمه ضمن
59
49
الدرس الخامس: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
القرائن العامة التي يعيشها الناس في عصر الإمام عندما صدر منه الكلام، ومن القرائن العامة ملاحظة المرتكزات الثابتة في أذهان الناس منذ صدر الإسلام حتى العصور القريبة الماضية، وهي التي تتضمن وحدة الولي والقائد ومن بيده الأمر وإليه يرجع الناس في أمورهم العامة، وهذا يمنع من شمول الأدلّة الشرعية السابقة - التي استدلوا بها - لكلّ فقيه بمفرده، وهذا يعني عدم ثبوت التعدّد بنحو فعليٍّ لكلّ فقيه.
2- إنَّ تقسيم الأمة والبلاد الإسلامية إلى دوائر متعدد، يخالف ظاهر كلِّ الأدلة الشرعية التي كانت تنظر إلى الأمة الإسلامية كوحدة غير مجزأة، ولم يلحظ في شيء من الخطابات الشرعية أنَّها فرضت الأمة وحدات متعددة، وقد تقدم.
3- إنَّ تعدد الدوائر لن يقف عند حدٍّ معين، فإنَّ التجزئة إذا أمكنت فلن تتوقف حتى في المدينة الواحدة التي يمكن فرضها أكثر من دائرة، كما هو الأمر في الدوائر البلدية والإدارية، وهذا بالنسبة لولاية الأمر غاية في الفساد، يقطع بعدم رضا الشريعة وصاحبها، والالتزام بتقسيمات محدودة لا معنى له، ولا يمكن تحديد ضابطته، فهل نعتمد أساس الجغرافيا والتجزئة الطبيعية أو الأساس اللغوي أو القومي أو غير ذلك؟! وكل هذه الأسس لا يعترف بها الشرع كمنطلقات للفرز والتقسيم.
4- الكثير من القضايا التي هي بحجم الأمة، وتعني الإسلام ككل، مَن الذي سيبتُّ بها على فرض التعدد؟! فلو دهم المسلمين عدو،
60
50
الدرس الخامس: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
فالأدلة الشرعية تفرض وجوب الدفاع على كلِّ الأمة دون فرق بين القريب والبعيد، فعندئذٍ كيف تكون الولاية ولمن وعلى من؟! ومن الذي يشخص المصلحة والموقف ويصدر الأمر؟!
وهكذا يظهر أنَّ هذا الاحتمال يلزم منه الفساد كما هو الحال في الاحتمال الأول، لا كما ادّعى أصحاب هذا الاحتمال.
5- القياس على القضاء غير صحيح، لوجود الفارق الكبير بين الأمرين، فإنّ قضايا القضاء شخصية خاصة، وقضايا الولاية عامة غير شخصيّة، فإذا أمكن التعدد في القضاء عند تعدد القضايا وانتفاء الترابط بينها فليس الأمر كذلك في قضايا ولاية الأمر المترابطة والشاملة،فإنّ التعدّد فيها يؤدي إلى الخلل والفساد، وبالتالي لا يصح هذا القياس.
الرأي الصحيح
وعليه فإنَّ الإحتمالات الثلاثة التي فرضت التعدد لا مجال لقبول شيء منها ولا الالتزام بها، ولا بدَّ من المصير إلى القول بوحدة ولاية الأمر حتى في عصر الغيبة.
فالنتيجة أنَّ القاعدة الأولية تقتضي وحدة ولاية الفقيه لكل الأمة الإسلامية مهما اتسعت، حتى لو بلغت العالم أجمع.
وعليه فإذا تعدَّد الفقهاء الذين لهم الأهلية والشأنية لولاية الأمر يكون الأولى والمتعين أعلمهم وأقدرهم وأتقاهم، وهذا ما يرجع في شأن تعيينه إلى أهل الخبرة، فإذا تصدى للأمر وجب على الأمة نصرته وطاعته وتوليه.
61
51
الدرس الخامس: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
الأسئلة
1- كيف يمكن إثبات أنّ القاعدة تقتضي وحدة الولي؟ أذكر أحد الأدلّة مفصلاً؟
2- ما هي النتائج التي تترتب على تعدد ولاية الفقيه بحسب الدوائر أو الأقاليم؟
3- لماذا كان قياس القضاء على ولاية الأمر خاطئاً ؟
4- إشرح هذا المقطع من حديث الإمام الرضا عليه السلام :"ثم لا يكون أحد مطيعاً لأحدهما إلا وهو عاص للآخر فتعمّ المعصية أهل الأرض...".
5- لماذا لا يمكن إثبات الولاية الفعلية لجميع الفقهاء في عرض واحد؟
6- ماذا تفهم من قول الإمام الصادق عليه السلام : " إنَّما للمسلمين رأس واحد".
للمطالعة
وحدة الأمة الإسلامية
من أهم المفردات التي تميز بها خط الإمام الخميني قدس سره وأخذت حيزاً مهماً من تفكيره وأسلوب عمله هي مسألة "وحدة الأمة الإسلامية" التي كان طرحها من جانبه كجزء لا يتجزأ من "شمولية الطرح الإسلامي"
62
52
الدرس الخامس: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
الذي يتنافى مع التمزق والتفتيت الذي تعيشه الأمة في واقعها.
ولا شك أنَّ وحدة الأمة هي الأصل الثابت الذي لا محيص عنه.
وقد قال تعالى في كتابه: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ 3.
وقال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ 4.
وفي هذا المجال يقول الإمام الخميني رحمه الله "بحكم الإسلام يجب أن يكون المسلمون يداً واحدة" وكذلك "التكليف الآن هو أن يكون لجميع المسلمين وحدة كلمة".
ومن الواضح أنَّ هذا الطرح الوحدوي للأمة كان شعاراً كما كان هدفاً مباشراً لجهاد الإمام وكفاحه الطويل ويقول في هذا المجال: "إنَّ هدفنا هو الإسلام ووحدة كلمة المسلمين في كل أرجاء العالم، والإتحاد مع الدول الإسلامية كلها".
ومن هنا، لم يكن الاختلاف المتحقق بين المسلمين سبباً لتثبيط عزيمة الإمام قدس سره بل عمل على تجاوز واقع التجزئة الذي تعيشه الأمة وحاربه بكل ما أوتي من قوة من أجل تصحيح مسيرة هذه الأمة العظيمة وإعادة وحدة الكلمة إليها تحت راية التوحيد لله التي تقتضي وحدة المسلمين جميعاً.
ولهذا نجد أنَّ الإمام رضوان الله عليه يعلن عن الاستعداد التام للعمل مع جميع المخلصين على قاعدة"وحدة الأمة" ويقول:"إنَّني أمدُّ يد الأخوَّة
________________________________________
3- الأنبياء: 92.
4- آل عمران: 103.
63
53
الدرس الخامس: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
إلى جميع المسلمين الملتزمين في العالم، وأطلب منهم أن ينظروا إلى الشيعة باعتبارهم أخوة أعزَّاء لهم، وبذلك نشترك جميعاً في إحباط هذه المخططات المشؤومة".
كما يعتبر الإمام رحمه الله أنَّ قيام الدولة الإسلامية في إيران هو وسيلة من وسائل توحيد الأمة نظراً للإمكانات التي تتوفر لها ويقول: "نحن لا نملك الوسيلة إلى توحيد الأمة الإسلامية وتحرير أراضيها من يد المستعمرين، وإسقاط الحكومات العميلة لهم، إلا أن نسعى إلى إقامة حكومتنا الإسلامية، وهذه بدورها سوف تتكلل أعمالها بالنجاح".
ويرى الإمام رحمه الله أنَّ وحدة الأمة هي الطريق لتحرير وإعادة العزة والكرامة والحرية والاستقلال وقطع أيدي المستعمرين والأعداء، ويقول في هذا المجال: "إذا كان المليار مسلم منسجمين مع بعضهم البعض فمن يستطيع أن يكسرهم؟" ويقول: "إنَّكم المسلمين، وما تملكون من الثروات المادية التي لا تُقدَّر، وأهم منها الثروة الإلهية والمعنوية التي هي الإسلام تستطيعون أن تكونوا قوة لا تستطيع القوى الكبرى معها أن تتسلط عليكم، ولن تكونوا معرّضين من اليمين واليسار لهجومهم وسرقة كل ما تملكون"، ويقول أيضاً: "إذا تعامل المسلمون وفق الأوامر الإسلامية وحافظوا على وحدة الكلمة، وتركوا الاختلاف والتنازع الذي هو أساس هزيمتهم، فإنّهم تحت راية لا إله إلا الله سوف يصانون من اعتداءات أعداء الإسلام وناهبي العالم، وسوف يقطعون أيدي الشرق والغرب عن بلاد المسلمين"5.
________________________________________
5- من أنوار العشق الخميني قدس سره - ص 39 - 38.
64
54
الدرس الخامس: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
خلاصة الدرس
إنّ البحث عن وحدة الولاية وتعدّدها سيكون بحسب القاعدة الأوليّة، أي ما ينبغي أن يكون عليه الأمر في الظروف الطبيعيّة، وما هو مقتضى القاعدة، بعيداً عن الظروف القاهرة التي تفرض التعدّد أو تفرض الوحدة.
إنّ القاعدة الأولية تقتضي وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة ودليل ذلك:
أولا: إنّ ما يحكم به العقلاء في جميع الأمم والشعوب والأديان أنّ وجود رأس واحد لهذه الجماعة هو أمر لازم لصالح الجماعة، وأنّ تعدّد القادة سوف يؤدي إلى الإخلال بسير الأمة نحو الرقي والكمال الماديّ والمعنويّ.
ثانيا: إنّ الشريعة الإسلامية في كلّ أحكامها السياسية والاجتماعية والأمنية والعسكرية فرضت الأمة الإسلامية أمة واحدة.
ثالثاً: النصوص الصريحة التي دلّت على وحدة القيادة في العالم الإسلامي.
إنّ احتمالات تعدّد الولي، لا يمكن الاعتماد على مبرراتها الشرعية ولوازمها العلمية، ويمكن تصور التعدد بعدّة صور:
الصورة الأولى: ثبوت الولاية الفعلية لكل فقيه تتوفر فيه الشروط، وهذا يلزم منه الاختلاف والفساد.
65
55
الدرس الخامس: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
الصورة الثانية: ثبوت الولاية الفعلية للمجموع لا للجميع، وهذا لا يدل عليه دليل، ولا يمكن استنباطه من أدلة ولاية الفقيه النقلية فضلاً عن الدليل العقلي، أضف إلى أنّ آلية تحصيل القرارات الملزمة تنحصر في اجتماعهم، وهو أمر لا يتيسّر.
الصورة الثالثة: ثبوت شأنية الولاية لجميع الفقهاء الذين تتوفر فيهم الشروط، إلا أن الولاية الفعلية لا تكون إلا لواحد منهم فقط في كل دائرة من دوائر الأمة الإسلامية، وهذا الاحتمال هو الأشهر عند القائلين بتعدد ولاية الفقيه.
إلا أن هذا الاحتمال أيضاً لا ينبغي المصير إليه ولا الالتزام به لعدة أمور:
1- إن الروايات ليست بصدد بيان جعل الولاية للجميع حتى يتمسّك بإطلاقها، وإنّما وردت لبيان الصفات المعتبرة في الفقيه.
2- إن تقسيم الأمة والبلاد الاسلامية إلى دوائر متعدد يخالف ظاهر كل الأدلة الشرعية التي كانت تنظر إلى الأمة الإسلامية كوحدة غير مجزأة.
3- إن تعدد الدوائر لن يقف عند حدٍّ معيّن.
4- الكثير من القضايا التي هي بحجم الأمة، وتعني الإسلام ككل، فمن الذي سيبت بها على فرض التعدّد؟!
فالنتيجة أن القاعدة الأولية تقتضي وحدة ولاية الفقيه لكل الأمة الإسلامية مهما اتسعت، حتى لو بلغت العالم أجمع.
66
56
الدرس السادس: الولاية ومرجعية التقليد
أهداف الدرس
1- التمييز بين الصفات اللازمة للمرجع وللولي.
2- التعرف إلى فرضيات وحدة الولي والمرجع والتعدد ومنشأ ذلك.
3- التمييز بين شؤون المرجعية وشؤون الولاية.
4- التعرف إلى مجال فتاوى المرجع الذي يقلَّد فيه وحدوده.
5- حلّ إشكاليّة فرضية اختلاف المرجع والولي في الرأي.
67
57
الدرس السادس: الولاية ومرجعية التقليد
مرجعية التقليد
هي عبارة عن رجوع المكلّف إلى الفقيه الجامع للشرائط لمعرفة حكمه الشرعيّ. والدليل على وجوب التقليد:
أولاً:النصوص الشرعيّة:
أ- قوله تعالى ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ﴾
ب- الرواية عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام :
"فأمَّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم"1.
ثانياً: السيرة العقلانية:
على أساس عدة من النصوص القرآنية والحديثية.
فإن سيرة العقلاء قائمة على أساس قاعدة رجوع الجاهل إلى العالم، وقد حددت أحكام التقليد، باعتبار أنَّنا مخاطبون بالتكاليف، وإذا كنَّا لا نملك القدرة على استنباط الأحكام من مصادرها، فلا بدَّ من الرجوع إلى الفقهاء المأمونين ليرشدونا إلى أحكام الشريعة. ومن هنا نشأت وظيفة الإفتاء التي تناط بمراجع التقليد.
شروط مرجعية التقليد
الشروط المطلوبة في مرجعية التقليد ثلاثة:
1- الإجتهاد، وبعبارة أخرى الفقاهة، وهي القدرة على استنباط الحكم الشرعي من مصادره.
________________________________________
1- الحر العاملي - محمد بن الحسن - وسائل الشيعة - مؤسسة أهل البيت - الطبعة الثانية 1414 هـ.ق.- ج 27 ص 131
69
58
الدرس السادس: الولاية ومرجعية التقليد
2- العدالة والورع ليُطَمأَنَّ إلى فتاواه أنَّه يخبر عن حقيقة ما توصل إليه اجتهاده.
3- الضبط ومعناه أن لا يكون الفقيه مبتلى بكثرة النسيان والسهو والاشتباه.
فإنَّ فتوى الفقيه عند توفر الصفات تكون حجة على مقلِّديه، ولا بدَّ من مراعاة الأعلمية فيما لو اختلف الفقهاء في الفتوى.
شروط الولاية
إن الشروط اللاّزمة في الوليّ هي نفس الشروط اللازمة في مرجعيّة التقليد المتقدمة، يضاف إليها شرط القدرة على القيام بالأمر التي تتطلب مستوى من المعرفة السياسية والخبرة الاجتماعيّة والإدارية، تشكل شروط ولاية الأمر في عصر الغيبة وهذا يعني أنَّ صلاحية شخص لولاية الأمر تتوقف على شروط أزيد من شروط مرجعية التقليد.
وقد يحصل أحيانا أن يكون ولي الأمر هو عينه مرجعا للتقليد كما هو بالنسبة للإمام الراحل رحمه الله والسيد القائد دام ظله.
الاجتماع والافتراق بين المرجعيّة والولاية
قد يحصل في حالات أخرى التفريق عندما لا يكون ولي الأمر هو الأعلم في عالم الفقاهة، لكنَّه الأصلح والأقدر على القيام بالأمر فيكون متعيناً لولاية الأمر، بينما مرجعية التقليد لغيره على أساس أنَّه الأعلم استنباطاً.
في هذه الحالة ربَّما يحصل هناك بعض الإرباك لمن يفصل بين مرجع التقليد عنده وولي الأمر، باعتبار أنَّ الفقيه الذي يقلّده قد يختلف مع ولي الأمر في الفتوى على مستوى الحكم الكلي، وقد يكونان متفقين
70
59
الدرس السادس: الولاية ومرجعية التقليد
في الحكم الكلي، إلا أنَّ التطبيق وتشخيص الموضوع عند أحدهما مغاير لما هو عند الآخر، لاختلاف النظر ومعايير التشخيص، وعندئذ فهل يجب على المكلف إطاعة وليِّ الأمر أو أنَّه عليه إطاعة مرجع التقليد؟.
وقبل أن ندخل في الحل، نشير إلى نقطة مهمة، وهي أنَّ الإمام المعصوم عليه السلام هو المرجع في المجالين معاً، وفي عصر الغيبة عندما لم يكن هناك دولة إسلامية، أي لم يكن الفقيه مبسوط اليد، انحصرت وظيفة الفقهاء بشؤون الإفتاء، لكن لم يخلُ الأمر من ممارسة الولاية على مستوى محدود وفي مجال ضيق من قبيل تصريف شؤون الأيتام والقاصرين والأوقاف والتصرف بأموال الإمام المعصوم عليه السلام التي ترد من الخمس والأنفال، ويطلق على مثل هذه الموارد اسم الأمور الحسبية، وأحيانا ممارسة القضاء والفصل بين المتنازعين في الخصومات.
وهذه الشؤون لم تكن تتطلب الكثير من الخبرة، ولذا كان الفقهاء يتصدّون لها من دون رعاية الأَولى والأعرف، نعم في مجال صرف سهم الإمام عليه السلام من الخمس كان كثير منهم يشترط دفعه إلى الأعلم والأعرف بمصارفه.
أما بعد قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبسط يد الفقيه وتمكنه من ممارسة ولاية الأمر على أوسع وجه فإنَّ التمييز بين وظيفة الإفتاء ووظيفة ولاية الأمر بات أمراً ضرورياً، وإن كان اجتماعهما في شخص هو الأرجح.
فتاوى الفقهاء ودور المكلّف
الفتوى عبارة عن الحكم الشرعي الذي يستنبطه الفقيه (المجتهد)
71
60
الدرس السادس: الولاية ومرجعية التقليد
من مصادره الأصلية وقد يكون استنباطه مصيباً للحكم الواقعي وقد لا يكون مصيباً، إلا أنَّه معذورٌ إذا كان قد بذل جهده وأعمل وسعه في الوصول إلى الحكم الواقعي.
إذاً ما يصدره الفقيه غير الولي هو ما يسمى بالفتوى، وميزتهاأنَّها تصدر من الفقيه من ناحية مراجعته للأدلة الشرعية، ولا تكون وظيفة الفقيه تحديد الموضوعات الموجودة في الخارج، وأنَّها من أيِّ نوع هي.
إنَّ الفقيه يبحث في الأدلّة عن حكم المسائل التي يفترض أن يبتلى بها المكلف، ويعطي النتيجة التي يتوصل إليها للمكلف، ومن هنا يقع على المكلف تحديد أنَّ ما يبتلي به وأنَّه ما الذي ينطبق عليه.
مثلاً الفقيه يفتي بحرمة اللعب بالآت القمار،وأما كون الورق من الآت القمار أو الشطرنج من الآت القمار فهذا من شأن المكلف تشخيصه. نعم هناك بعض الموضوعات التي لا بد فيها من الرجوع للفقيه لمعرفة حدودها. وهي الموضوعات الشرعية أي التي حددت من قبل الشريعة إما لأنها مبتكرة منها أو لكونها لوحظت عند أخذ الحكم بخصوصيات معينة ومثال ذلك الغناء المحرم والمباح. نعم تشخيص كونه يطرب أو كونه يختص بمجالس أهل الفسوق فهذا مما لا يرجع فيه إلى الفقيه.
الأحكام الولائية
أما ولاية الأمر فتعطي الفقيه الولي مجالاً جديداً من الأحكام التي يمكن للفقيه إصدارها من موقع كونه وليِّاً للأمر، نسمِّي هذه الأحكام بالأوامر والأحكام الولائية، وهي ترتبط بالموضوعات والعناوين العامة التي ترتبط بالنظام وشؤون المجتمع والأمة والدولة وأمثال ذلك، هذا
72
61
الدرس السادس: الولاية ومرجعية التقليد
النوع من الموضوعات والعناوين يرجع في تحديده والبتِّ به إلى وليِّ الأمر، فهو الذي يحدِّد الضرورات والمصالح والمفاسد ذات الطابع العام، وهو الذي يحدِّد موضوعات الأحكام فيما يرتبط بالجهاد والمصالحة والمعاهدات والأصلح من الأنظمة، وكذلك ما يرتبط بالقضاء وفض النزاعات وأمثال ذلك.
فالحكم الولائي هو حكم يُنشئه الوليُّ من موقع كونه ولياً للأمر، انطلاقاً من تشخيصه للمصالح العامة والعناوين ذات الطابع العام على أساس حفظ النظام وتدبير شؤون الدولة.
فالفقيه قد يصدر فتوى من موقع فقاهته وكونه مرجعاً للتقليد، وقد يصدر أمراً من موقع حاكميته على الأمة، وإلزام الفتوى للمكلف مبنيٌّ على قواعد التقليد وأحكامه المعروفة، أما إلزام الأمر الولائي فهو قائم على أساس ولاية الفقيه.
ولا تتعارض غالباً فتاوى مرجع التقليد مع الأوامر الولائية، وذلك لأنَّ مرتبة الأحكام الولائية أو الأوامر الولائية لا تقع في نفس مرتبة الفتوى الصادرة عن المرجعية. ولو حصل التعارض أحياناً فلا شكَّ أنَّ الأمر الولائي يتقدم على الفتوى ويعطلها فيلزم به الجميع.
أمثلة الأحكام الولائية:
1- إصدار الأمر بالجهاد أو الصلح مع العدو. فإنَّ الفقيه من موقع فقاهته يفتي بوجوب الجهاد إذا توفرت مجموعة من الشرائط، وجواز الصلح إذا توفرت عدة شروط أخرى، لكنَّ تشخيص الشرائط وأنَّها متوفرة أو غير متوفرة فهي من شؤون الوليِّ الذي
73
62
الدرس السادس: الولاية ومرجعية التقليد
بناءً عليها يصدر أمراً بالجهاد أو وقف الحرب أو الصلح وأمثال ذلك، ولو تصدَّى مرجع التقليد لتشخيص الموضوع لا يكون تشخيصه حجة على الناس مع وجود الوليِّ الفقيه.
2- الأنظمة التي تحدُّ من صلاحيات الأفراد الاقتصادية والسياسية وربما تحدَّ من حريتهم في الحركة والسفر والانتقال.
3- لزوم حفظ النظام، وتطبيقاته وخياراته وكيفية حفظ النظام تعتبر أيضا من شؤون الوليّ، و لا يدخل في وظيفة المرجع.
4- الأحكام والأوامر التي يصدرها الولي في موارد يرى أنَّها تحقق حالة أفضل للمسلمين عامة أو لسمعة الإسلام وربما كانت هذه المصلحة معنوية، كما حصل عندما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنع أكل لحوم الحمر الأهلية لا لقساوتها كما يقولون بل لكي لا تقلَّ وسائل النقل وبتعبير الرواية: لكي لا يخفَّ الظهر. وكمنع بيع الحاضر للبادي، ومنع تلقي الركبان، ومنع البيع في السوق بأقلَّ من السعر المتعارف وكالأمر بالخضاب لأنَّ فيه إظهار عنصر الشباب وهو تعبير عن القوة في فترة كانوا بحاجة لذلك.
فقد ورد في مسائل علي بن جعفر لأخيه الكاظم عليه السلام قال: وسألته عن لحوم الحمر الأهلية، قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما نهى عنها لأنَّهم يعملون عليها وكره أكل لحومها لئلا يفنوها".
وعن علي بن الحسين عليه السلام قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في
74
63
الدرس السادس: الولاية ومرجعية التقليد
غزوة غزاها أن يختضبوا بالسواد ليقووا به على المشركين"2.
مهما يكن فإنَّ أوامر الولي، أي الأحكام الصادرة من موقع الولاية، ملزمة ولا يجوز مخالفتها حتى لمن يقلد غير الولي بل حتى للمرجع نفسه. نعم في مجال الاختلاف بالفتوى دون أن يكون هناك أمر ولائي بمضمون الفتوى يكون تكليف المقلد الالتزام بفتوى مرجع التقليد.
ومن هذا البيان ظهر أنَّ الوليَّ الفقيه واجب الطاعة على غير مقلَّديه حتى لو خالف فتوى مرجع التقليد.
الأسئلة
1- بماذا يرجع المكلف إلى مرجع التقليد؟
2- فرّق بين الفتوى والحكم الولائي من خلال تعريفهما.
3- على من تقع مسؤولية تشخيص الموضوعات العامة المرتبطة بالنظام وشؤون المجتمع والدولة وأمنها؟
4- إذا تعارضت فتوى مرجع التقليد مع حكم ولائي للوليِّ الفقيه فأيّهما يقدّم؟
5- عدد الشروط التي يلزم توفرها في مرجعية التقليد.
6- بأيِّ شيء يتميز الولي الفقيه عن مرجع التقليد على مستوى الشروط؟
________________________________________
2- الحر العاملي - محمد بن الحسن - وسائل الشيعة - مؤسسة أهل البيت - الطبعة الثانية 1414 هـ.ق.- ج 2 ص 89
75
64
الدرس السادس: الولاية ومرجعية التقليد
للمطالعة
لا يكفي الاجتهاد المصطلح لقيادة المجتمع الإسلامي
يجب أن يكون باب الاجتهاد مفتوحاً دائماً في الحكومة الإسلامية، وتقتضي طبيعة الثورة والنظام أيضاً أن تُطرح الآراء الاجتهادية الفقهية في المجالات المختلفة بشكل حر ومفتوح، حتى ولو كانت مخالفة لبعضها البعض، ولا يحقُّ لأحد، ولا يمكنه أن يمنعها، ولكن الشيء المهم هو المعرفة الصحيحة للحكومة والمجتمع حتى يتمكن النظام الإسلامي من التخطيط لصالح المسلمين ومن الضروري له وحدة الرأي والعمل، ومن هنا فلا يكفي الاجتهاد المصطلح عليه في الحوزات، بل حتى ولو وجد إنسان هو الأعلم في العلوم المعروفة في الحوزات، لكنَّه غير قادر على تشخيص مصلحة المجتمع، أو لا يقدر على تشخيص الأفراد الصالحين والمفيدين من الأفراد غير الصالحين ويفتقد بشكل عام للرأي الصائب في المجال الاجتماعي والسياسي والقدرة على اتخاذ القرار... فإنّ مثل هذا الإنسان يكون غير مجتهد في المسائل الاجتماعية والحكومية ولا يمكنه التصدّي لاستلام زمام المجتمع3.
________________________________________
3- الخميني – روح الله الموسوي - منهجية الثورة الإسلامية - ص 163
76
65
الدرس السادس: الولاية ومرجعية التقليد
خلاصة الدرس
إنّ مرجعيّة التقليد تعني رجوع المكلّف إلى الفقيه الجامع للشرائط لمعرفة حكمه الشرعيّ، والدليل على ذلك النصوص الشرعيّة.
شروط مرجعيّة التقليد:
1- الاجتهاد وبعبارة أخرى الفقاهة.
2- العدالة والورع ليطمأن إلى فتاواه أنه يخبر عن حقيقة ما توصل إليه اجتهاده.
3- الضبط ومعناه أن لا يكون الفقيه مبتلى بكثرة النسيان والسهو والاشتباه.
أمّا الشروط اللازمة في الوليّ فهي نفس الشروط اللازمة في مرجعية التقليد المتقدّمة، يضاف إليها شرط القدرة على القيام بالأمر التي تتطلّب مستوى من المعرفة السياسيّة والخبرة الاجتماعية والإداريّة.
وقد يحصل أحيانا أن يكون ولي الأمر هو عينه مرجعا للتقليد، وقد يحصل في حالات أخرى التفريق عندما لا يكون ولي الأمر هو الأعلم في عالم الفقاهة، لكنه الأصلح والأقدر على القيام بالأمر فيكون متعيناً لولاية الأمر.
الفتوى عبارة عن الحكم الشرعي الذي يستنبطه الفقيه (المجتهد)
77
66
الدرس السادس: الولاية ومرجعية التقليد
من مصادره الأصليّة، أمّا ولاية الأمر فتعطي الفقيه الوليّ مجالاً جديداً
من الأحكام التي يمكن للفقيه إصدارها من موقع كونه ولياً للأمر، نسمّي هذه الأحكام بالأوامر والأحكام الولائيّة، وهي ترتبط بالموضوعات والعناوين العامة التي ترتبط بالنظام وشؤون المجتمع والأمة والدولة.
78
67
الدرس السابع: تعيين الولي
أهداف الدرس
1- التعرّف إلى آلية تعيين الولي.
2- تمييز دور مجلس الفقهاء ووظيفته.
3- التعرّف إلى صفات أهل الخبرة.
4- القدرة للإجابة عن تساؤلات حول مجلس الخبراء.
79
68
الدرس السابع: تعيين الولي
دور الخبراء في تعيين الولي الفقيه
مما تقدم ظهر أنَّ أدلة ولاية الفقيه تفيد التعيين الوصفي، أي شأنيَّة الفقيه الجامع للصفات المتقدم ذكرها لتولي الأمر وقيادة الأمة، وأنَّ فعليَّة الولاية مع تعدد الجامع للصفات ليست للجميع بل لواحد منهم فقط، وهو الأعلم والأورع والأقدر على القيام بالأمر، أي الأكثر خبرة وكفاءة في إدارة البلاد وسياسة العباد.
لكن كيف تحصل الفعلية؟ وكيف يتم تشخيص الفقيه الأولى بالقيام بالأمر؟
فعندما يكون الفقيه معروفاً ومشهوراً عند الناس بكفاءته وصفاته، ومتعيناً عندهم، فالمسألة محلولة، لأنَّه يجب عليه التصدي للأمر وإقامة الحكم الإسلامي، وإحياء دين الله تعالى في جميع أبعاده، وقيادة الأمة لحفظ نظامها وحقوقها وإقامة العدل فيها، ويجب على الأمة معاونته ومعاضدته ونصرته وتأييده والالتزام بقيادته.
لكنَّ القضية عندما لا يكون معروفاً عندهم بشخصه ولا متعيناً لديهم، مع تعدد أصحاب الشأنية، والأهلية، فكيف يتعرف الناس إليه وكيف يتعين عندهم ومتى يجب عليه التصدي؟.
لحل هذه الإشكالية كان لا بدَّ من الالتجاء لأهل الخبرة في تشخيص الأجدر بالولاية، والأكثر خبرة وأهلية للقيام بالأمر، فإذا توصلوا لمعرفته شهدوا بذلك وقاموا بتعريفه للأمة، وعندها تعيّن عليه التصدي، ووجب على الأمَّة طاعته والالتزام بولايته.
81
69
الدرس السابع: تعيين الولي
من هم أهل الخبرة؟
الخبرة هنا لا بدَّ أن تتناسب مع الموضوع الذي يراد تشخيصه، فينبغي أن تتضمن الأمور التالية:
1- القدرة على تشخيص الأعلم في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية.
2- القدرة على التمييز بين مراتب العدالة والورع والتقوى عند الفقهاء المطروحين للولاية.
3- القدرة على تقييم المهارات الإدارية عند الفقهاء، ومستويات قدرتهم على القيام بالأمر، بما يحتاجه ذلك من خصوصيات ومؤهلات.
وباختصار؛ أهل الخبرة هنا هم القادرون على تشخيص ومعرفة الأقدر والأكثر أهليَّة في كل الصفات اللازمة لولاية الأمر، فلا يكفي مجرد القدرة على معرفة الأعلم في الاستنباط دون غيره، أو تشخيص الأورع والأعدل دون التفات إلى الجوانب الإدارية والسياسية، بل لا بدَّ من توخّي الدقة في اعتماد أهل الخبرة من ذوي العدالة والاطلاع الواسع والمعرفة الشاملة لأمور زمانهم، ليمكن الركون إلى نتائج دراستهم والاعتماد على تشخيصهم وشهادتهم.
وينبغي الالتفات إلى أنَّ قضية التعرف إلى الفقيه الأجدر بالولاية أخطر وأدق وأصعب من قضية التعرف على مرجع التقليد الأعلم، ذلك أنَّ التعاطي في قضية مرجعية التقليد كان يدور في دائرة الهمّ الخاص والفردي غالباً، وهي على أهميتها تبقى انعكاساتها في مجال محدود نسبياً،بينما ولاية الأمر من الشأن العام والخطير فلا يجوز أن تبقى
82
70
الدرس السابع: تعيين الولي
في إطار الهم الفردي، فهي من مسؤولية الأمَّة كلَّ الأمَّة فلا يكتفى بها بشاهدين عادلين من ذوي الخبرة، قد يصيبان وقد يخطئان في التشخيص، وربما عارضهما غيرهما من أهل الخبرة. من هنا نشأت فكرة مجلس الخبراء.
مجلس الخبراء
إذاً لم تنشأ فكرة مجلس الخبراء من الفراغ، وليست من أجل احتكار السلطة وقطع الطريق على بعض الطامحين، بل هي فكرة جاءت استجابة لحاجة فعلية لا غنى عنها لتعريف الأمة على الفقيه الأعرف والأعدل والأقدر على القيام بالأمر دفعاً لمحاذير عدة أهمها:
1- الفوضى التي يمكن أن تنشأ نتيجة لعدم تسمية أهل الخبرة وعدم معرفة الأمَّة لهم.
2- الفراغ الذي يحدث عند رحيل الفقيه واحتياج الأمَّة إلى وقت أطول للتعرف على آراء الخبراء المتفرقين والمشتتين حسب الفرض.
3- إمكانية استغلال هذا الواقع من قبل الطامحين والمغرضين للتأثير على الناس والإخلال بالموازين الصالحة لتشخيص الأولى والأرجح.
فلا يجوز ترك الأمر للصدف والأهواء.
كما أنَّ الفكرة تأتي منسجمة مع النصوص الواردة في بيان تكليف الناس عند مضي إمام حجة وقيام حجة من بعده، من أنَّ عليهم أنَّ يبعثوا من ثقاتهم من ينظر لهم في الأمر ويتعرف إلى الذي صارت الوصية إليه ثم يرجع إلى قومه بذلك.
83
71
الدرس السابع: تعيين الولي
ففي صحيحة يعقوب بن شعيب قال:"قلت لأبي عبدالله عليه السلام :إذا حدث على الإمام حدثٌ كيف يصنع الناس؟ قال عليه السلام: أين قول الله (عز وجل) ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ 1.قال عليه السلام:"هم في عذز ما داموا في الطلب؛ وهؤلاد الذين بنتظروهم في عذر حتى يرجع إليهم إصحابهم"2
ثم إنَّ اختيار الناس للخبراء يدخل في إطار تحمل الأمّة مسؤوليتها، وإقرارها بخبروية الخبراء، وهو بالتالي يختصر المسافات ويتيح فرصة الالتقاء بأسرع وقت، والتباحث والاتفاق على الولي المتعيّن، وتجنب البلاد والعباد مخاطر الفوضى والاضطراب التي يتركها خلو الموقع من صاحبه الأولى به.
مجلس الخبراء في الجمهورية الإسلامية
نص دستور الجمهورية الإسلامية في إيران على أنَّ الخبراء المنتخبين من قبل الشعب يبحثون ويتشاورون بشأن كافة الأشخاص الذين لهم صلاحية القيادة، فإذا وجدوا واحداً يملك امتيازاً خاصاً للقيادة فإنَّهم يعلنونه قائداً.
ومن الواضح أنَّ دور الخبراء هو الكشف عن الفقيه الأجدر والأقدر، وهم لا يقومون بالتعيين إلا بمعناه العلمي، فهم ليسوا مصدر ولايته وليسوا هم الذين ينصبونه، كما يظهر من خلال عبارة "فإنَّهم يعرّفونه للشعب"
________________________________________
1- التوبة: 123.
2- الكليني- الكافي-دار الكتب الاسلامية،آخوندي- الطبعة الخامسة/ج1/ص378، الحديث الأول.
84
72
الدرس السابع: تعيين الولي
وهذا هو الدور الشرعي الذي ورد في بيانه الكثير من التصريحات على لسان الإمام الخميني الراحل رضوان الله عليه، وغيره من الشخصيات النافذة الذين شاركوا في صياغة الدستور.
يقول إمام الأمة رحمه الله:
"ليست ولاية الفقيه أمراً أوجده مجلس الخبراء، إنَّ الله تبارك وتعالى هو الذي أوجد ولاية الفقيه وهي ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...".
ويقول الشيخ جوادي الآملي قدس سره في كتابه الحكومة الإسلامية:
"إنَّ أعضاء مجلس الخبراء يشخِّصون نصب الفقيه الجامع أو عزله، وليسوا سبباً في النصب أو العزل، إنَّ القائد الإسلامي لا ينصَّب ولا يعزل أبداً من طريق الناس أو الخبراء".
فهم مندوبو الأمة ووكلاؤها في البحث والتعرف على من له الولاية، وليسوا من يمنحها للوليِّ، وهذه نقطة دقيقة في أصل ولاية الفقيه.
سؤال عن مجلس الخبراء ووظيفة الناس
يطرح بعض الناس السؤال التالي: لماذا يكون رأي مجلس الخبراء المنتخب من قبل الناس في إيران ملزماً للناس خارج إيران، مع أنَّهم لم يشاركوا في اختيار الخبراء؟ وبعبارة ثانية يقال: إنَّ مجلس الخبراء عندما يختار الوليَّ الفقيه فهو يختاره ضمن دائرة الجمهورية الإسلامية، ولا يختاره وليَّاً لكل المسلمين في العالم، فلماذا يفرض عليهم دون أخذ رأيهم ولا استشارتهم؟.
85
73
الدرس السابع: تعيين الولي
والجواب من جهات:
الأولى: أنَّ دور الخبراء كما قدمنا ليس منح الولاية وإنَّما الكشف عن الأعلم والأورع والأقدر، وهذا الدور يحتاج إلى الخبرة ولا مدخلية للجنسية والانتماء القومي والإقليمي فيه مطلقاً، فيكفي في تحقيقه العدد الموجود فعلاً، وإن كانوا من داخل الجمهورية الإسلامية.
الثانية: أنَّ الخبراء يفترض بهم أن يكونوا على اطلاع تام بأحوال الأشخاص الذين يدور حولهم البحث ليتم تشخيص الأعلم والأقدر من بينهم، ونتيجة الواقع القائم فإنَّ الجمهورية الإسلامية هي البلد الوحيد الذي يتوفر فيه أكبر عدد من الفقهاء المؤهَّلين للقيام بالأمر، ويتوفر فيه عدد كبير من الخبراء بالمستوى الكافي، ومن هو من الخبراء خارج الجمهورية الإسلامية قد لا يكون اطلاعه على خصوصيات الأشخاص المطروحين بالمستوى المطلوب، أو يصعب الاستفادة من خبرته لبعده، مع كفاية العدد الموجود داخل الجمهورية الإسلامية ووفائهم بالمهمة بالشكل المطلوب.
الثالثة: إنَّ مجلس الخبراء لا يعيّن الوليَّ لخصوص الجمهورية الإسلامية كما توهَّم أصحاب الإشكال.
الرابعة: إنَّ مَن يشخصِّ مجلسُ الخبراء أنَّه الأقدر والأجدر يصبح وليّاً لكلِّ المسلمين في العالم على قاعدة وحدة الولاية المتقدم بحثها، وإن لم يصرح بذلك الدستور الإيراني، ولم ينص عليه الخبراء في بيانهم وإعلامهم لاعتبارات سياسية معروفة يمنعهم من التصريح به وإعلانه.
86
74
الدرس السابع: تعيين الولي
الأسئلة
1- ما هي القدرات التي ينبغي توفرها في الخبراء الذين ترجع إليهم الأمة في تشخيص وليِّ الأمر؟
2- ما هي الدواعي لتشكيل مجلس الخبراء؟
3- هل يقوم الخبراء بدور الاكتشاف لوليِّ الأمر أو التنصيب ومنح السلطة نيابة عن الشعب؟
4- كيف تفهم دور الجبراء، وما هو مدى تأثير رأيهم على المكلّف داخل وخارج الجمهوريّة؟
5- لماذا يكون رأي مجلس الخبراء وتشخيصهم ملزماً لكل المسلمين في العالم رغم عدم اشتراكهم في تشكيله وانتخابه؟
6- هل يعيّن مجلس الخبراء الوليَّ الفقيه لخصوص الجمهورية الإسلامية أم لكافَّة المسلمين في العالم الإسلامي؟
للمطالعة
الحكومة الإسلامية هي حكومة مشروطة
الحكومة الإسلامية لا تشبه أشكال الحكومات الموجودة، فليست هي حكومة استبدادية يستبدّ فيها رئيس الدولة برأيه، عابثاً بأموال الناس
87
75
الدرس السابع: تعيين الولي
ورقابهم، ويتصرف بهم كما يحلو له، فيقتل من شاء، وينعم على من شاء، ويهدي أموال وأملاك الشعب إلى من شاء. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام وسائر الخلفاء لم يكن لهم مثل هذه الصلاحيات، فحكومة الإسلام ليست استبدادية ولا مطلقة؛ بل مشروطة، ولكن ليست مشروطة بالمعنى الفعلي المتعارف، وهو تبعية سنّ القوانين بناءاً لآراء الأشخاص والأكثرية، وإنما هي مشروطة بمعنى أنَّ القائمين بالأمر يتقيّدون بمجموعة الشروط والقواعد المبينة في القرآن والسنة، وهي نفس أحكام الإسلام وقوانينه التي يجب مراعاتها وإجراؤها. من هنا كانت الحكومة الإسلامية هي حكومة القانون الإلهي على الناس، ويكمن الفرق الأساسي بين الحكومة الإسلامية والحكومات المشروطة، الملكية منها والجمهورية، في أن ممثلي الشعب أو ممثلي الملك في تلك الأنظمة... هم الذين يشرّعون، في حين تنحصر سلطة التشريع في الإسلام بالله عزّ وجلّ، فالشارع المقدس في الإسلام هو المشرّع الوحيد، وليس لأحد أيّاً كان أن يشرّع، وليس لأحد أن يجري وينفّذ أي قانون غير حكم الشارع. لهذا السبب فقد استبدل الإسلام بالمجلس التشريعي الذي هو أحد المجموعات الثلاث للحكومة مجلساً آخر للتخطيط، يعمل على تنظيم سير الوزارات في أعمالها تحت ظل الإسلام، وفي تقديم خدماتها في جميع المجالات لجميع الناس3.
________________________________________
3- الخميني – روح الله الموسوي - منهجية الثورة الإسلامية - ص 163.
88
76
الدرس السابع: تعيين الولي
خلاصة الدرس
عندما لا يكون الفقيه معروفاً عند الناس بشخصه ولا متعيّناً لديهم، ومع تعدّد أصحاب الشأنيّة، والأهليّة، كيف يتعرف الناس إليه؟ وكيف يتعيّن عندهم؟ ومتى يجب عليه التصدّي؟
والجواب أنّه لا بدّ من الإلتجاء لأهل الخبرة في تشخيص الأجدر بالولاية، والأكثر خبرة وأهلية للقيام بالأمر، فإذا توصلوا لمعرفته شهدوا بذلك وقاموا بتعريفه للأمّة، وعندها تعيّن عليه التصدّي، ووجب على الأمّة طاعته والالتزام بولايته.
وينبغي على أهل الخبرة التحلّي الأمور التالية:
1- القدرة على تشخيص الأعلم في استنباط الأحكام الشرعيّة من مصادرها الأصليّة.
2- القدرة على التمييز بين مراتب العدالة والورع والتقوى عند الفقهاء المطروحين للولاية.
3- القدرة على تقييم المهارات الإداريّة عند الفقهاء، ومستويات قدرتهم على القيام بالأمر.
وفكرة مجلس الخبراء جاءت استجابة لحاجة فعليّة؛ لتعريف الأمّة على الفقيه الأعرف والأعدل والأقدر على القيام بالأمر دفعاً لمحاذير عدة أهمّها:
1- الفوضى. 2- الفراغ الذي يحدث عند رحيل الفقيه. 3- إمكانية
89
77
الدرس السابع: تعيين الولي
استغلال هذا الواقع من قبل الطامحين والمغرضين.
فلا يجوز ترك الأمر للصدف والأهواء.
كما أنّ الفكرة تأتي منسجمةً مع النصوص الواردة في بيان تكليف الناس عند مضيّ إمامٍ حجّةٍ وقيام حجّةٍ من بعده.
س: لماذا يكون رأي مجلس الخبراء المنتخب من قبل الناس في إيران ملزماً للناس خارج إيران، مع أنهم لم يشاركوا في اختيار الخبراء؟
والجواب من جهات:
- إن دور الخبراء كما قدمنا ليس منح الولاية وإنما الكشف عن الأعلم والأورع والأقدر، وهذا الدور يحتاج إلى الخبرة ولا مدخلية للجنسية والانتماء القومي والاقليمي فيه مطلقاً.
- إن الخبراء يفترض بهم أن يكونوا على اطلاع تام بأحوال الأشخاص الذين يدور حولهم البحث ليتم تشخيص الأعلم والأقدر من بينهم.
- إن مجلس الخبراء لا يعيّن الولي لخصوص الجمهورية الإسلامية كما توهم أصحاب السؤال.
90
78
الدرس الثامن: دور الأمة تجاه ولاية الأمر
أهداف الدرس
1- التعرّف على دور الأمّة في تعيين الولي.
2- التعرّف على السنن الإلهيّة في إقامة حكومة العدل.
3- التعرّف على حقّ الراعي وحقّ الرعيّة.
91
79
الدرس الثامن: دور الأمة تجاه ولاية الأمر
تمهيد
بعد كل الذي تقدم، يطرح السؤال التالي:
ما هو دور الأمة؟
ألا يلزم من سلطة الولي الفقيه بالطريقة المتقدمة التحكّم والدكتاتورية؟
ألا يقتضي سلب الأمة سلطتها على نفسها وصلاحياتها في اختيار حكامها اتهامها بالقصور وعدم الرشد؟
والجواب:
إنَّ هذه النقطة أثيرت بعد الثورة الإسلامية وحاول الكارهون لقيام جمهورية إسلامية على أساس نظرية ولاية الفقيه أن يشوهوها من خلال دعوى التلازم بين ولاية الفقيه وبين الدكتاتورية، ولعلها كانت من أخطر وسائل التشويه التي استعملت في حينها، مما دفع الإمام الخميني قدس سره للتصدي لهذه الحرب، وإجراء التصويت الشعبي على مبدأ الجمهورية الإسلامية.
إن مبدأ ولاية الفقيه لا يستلزم الدكتاتورية بمعنى التحكم والاستبداد، بل جاء ليحارب التسلط والاستبداد والدكتاتورية، ومن يدرك حقيقة هذا المبدأ سوف يجد أن ولاية الفقيه تشكل الضمانة من انحراف الحكام وتسلطهم واستبدادهم واتباعهم لأهوائهم، والحماية لحقوق الأمة وحرياتها.
دور الأمة
والأمة في أطروحة ولاية الفقيه تساهم مساهمة فاعلة وتؤدي دوراً
93
80
الدرس الثامن: دور الأمة تجاه ولاية الأمر
مهماً وأساسياً في إقامة حكومة العدل وترسيخ دعائمها، مما يجعل دورها مكملا لدور الولي. بل هي كذلك في عصر الإمام المعصوم عليه السلام أيضاً، ألم نقرأ في التاريخ عن الأمم الذين تخلوا عن مسؤولياتهم وقصروا عن القيام بدورهم مما أدى إلى إخفاق أئمة الحق وتسلط أئمة الضلال.
إذاً.. هناك جملة من المسؤوليات تقع على عاتق الأمة تجاه ولاة الأمر، لا تتحقق الأهداف السامية للدين الإسلامي من دون القيام بها، هذه المسؤوليات في عصر الغيبة ما يلي:
الأول: البحث عن الفقيه الأولى بالقيام بالأمر، والتدقيق في المواصفات والشروط التي تتناسب مع خطورة المسؤولية وعظم الأمانة، والحذر من الوقوع ضحية السياسات الإعلامية التي تزوّر الحقائق وتسلط الأضواء على غير المؤهلين لهذا المنصب الخطير.
ولا شك ان هذه المسؤولية تستدعي الاعتماد على الثقاة والمأمونين من أهل الخبرة، الذين لا يغشون أمتهم ولا يخونون أمانتهم. وأهل الخبرة هم الأقدر على التمييز بين القدرات المتفاوتة للفقهاء وتشخيص الأقوى على القيام بالأمر وتحمل مسؤولية قيادة الأمة، وإذا قصرت الأمة بهذا الدور، ولم تدرك خطورته فأعطت قيادتها لمن ليس أهلاً لذلك، أو أساءت اختيار أهل الخبرة، فتمسكت بمن يغشها، ويساوم عليها، فإنها ستدفع الثمن غالياً، وربما انجرت الأمور إلى كارثة، كما حصل في الحقبات التاريخية العديدة من عمر الأمة.
الثاني: مسؤولية الأمة في التمهيد لولي الأمر ليمارس ولايته، أي تمكينه من القيام بالأمر عبر الانقياد التام، وبذل الطاعة والنصرة، فإن
94
81
الدرس الثامن: دور الأمة تجاه ولاية الأمر
التقصير في هذا المجال يؤدي إلى إضعاف الولي وتعطيل دور الولاية، فيستغل ذلك الطامعون بالتسلط على رقاب الناس، وطلاب الدنيا، وهم كثيرون في كل زمان.
وقد أدّى تقصير الأمة تجاه ولاة أمرها من الأئمة المعصومين عليهم السلام إلى حرمانهم من كثير من بركات الإمامة العظمى لعدة قرون، وفي عصرنا الحاضر وجدنا ان تحمل الأمة لهذا الجانب من مسؤولياتها هو الذي دفع بالإسلام إلى ساحة التطبيق، ومكّن الإمام الخميني" من إعادة الإسلام إلى واجهة الحكم والسياسة، ولا زلنا نعيش بركاته، وسيستمر هذا الأمر دون شك تصاعداً وترسيخاً كلما استمرت الأمة بالقيام بدورها كاملاً.
الثالث: النصيحة والتسديد وبذل المشورة لولاة الأمر عندما يكونون بحاجة إليها، عملاً بالوصية التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بالنصيحة لأئمة المسلمين بغية إنجاح دور القائد وتسديده.
الرابع: الأمة مسؤولة إلى جانب الولي عن تنفيذ المشروع الإسلامي وبناء صرح حكومة العدل الإلهية ورفع راية التوحيد، فكل فرد من أفراد الأمة يقع على عاتقه قسط من هذه المسؤولية، ودور معين عليه ان يؤديه ويخلص في أدائه لتكتمل المسيرة.
من كل ما تقدم يظهر ان الأمة تتحمل مسؤولية كبرى، وتحتاج إلى وعي ويقظة وفاعلية وحضور دائم في الساحة والتزام دقيق بالأدوار الحساسة المهمة المتقدمة.
95
82
الدرس الثامن: دور الأمة تجاه ولاية الأمر
ومنه يظهر أيضاً أن ولاية الفقيه تكون أقدر على الوصول إلى الأهداف مع رشد الأمة ووعيها وحضورها في الميادين السياسية والجهادية، لا كما يتصور أو يتوهم بعض قاصري النظر، من أن هذه الأطروحة تعني عدم بلوغ الأمة رشدها، فالأمر عكس ذلك تماماً، ولذا كان الإمام الخميني " يؤكد على دور الأمة وتعبئتها وضرورة حضورها الدائم والمستمر في الساحة، وهذا ما جعلها ثقلاً وقوة وضمانة لاستمرار الثورة وسلامتها.
السنن الإلهية في إقامة حكومة العدل
السنة الإلهية هي القانون الإلهي الذي أجراه الله على خلقه مهما تبدلت الأمم واختلفت الشعوب بحيث تترتب النتائج على تحقق اسباب خاصة وذلك لقوله تعالى:
﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾ (البقرة: 152).
ثلاثة عناصر تشترك في بناء حكومة العدل، وتتكامل من أجل تحقيق هذا الهدف، الإخلال بأي واحد منها يسقط المشروع، ويحرفه عن الهدف المنشود، تلك العناصر هي:
أولاً: المنهج الصحيح، والذي يتمثل في عقيدتنا بالرسالة الإسلامية بفكرها ونظامها وشريعتها.
ثانياً: القيادة الصالحة المعبر عنها بالولاية التي تمتد من ولاية الرسل والأئمة المعصومين عليهم السلام، حتى ولاية الفقيه الجامع للشرائط.
ثالثاً: الأمة الحاضرة، المتمسكة بالمنهج الصحيح والقيادة الصالحة، فإذا غابت الأمة عن الساحة، وتخلت عن المنهج الصحيح، وتخلفت
96
83
الدرس الثامن: دور الأمة تجاه ولاية الأمر
عن ولاة الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم والانقياد لهم، لم تكتمل المعادلة، ولم يتمكن القادة من إقامة حكومة العدل.
وتاريخنا يثبت ذلك، في الجانب السلبي والجانب الاثباتي. فعندما امتنعت الأمة عن القيام بدورها، وتفرقت عن الحق، وانقادت لأئمة الجور، حرمت بركات الرسالة الإلهية، وبركات القيادة المعصومة، ووقعت المآسي بعد المآسي. وعندما عرفت الأمة طريقها وتمسكت بالحق، وقامت بالدور المطلوب، ذاقت طعم العدل، وتمكن القادة من أهل الصلاح أن يوجهوا المسيرة نحو الهدف وأنزل الله سبحانه نصره، فأعز دينه. تلك هي السنن الإلهية الثابتة ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾.
فلم يكن أهل البيت عليهم السلام يمنعهم عن القيام بالأمر وإقامة حكم الإسلام إلا تفرق الناس عنهم، وتخليهم عن دورهم وعن تكليفهم، منذ أمير المؤمنين عليه السلام حتى بقية الله الأعظم أرواحنا لتراب مقدمه الفداء. والكثير من النصوص الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام، تتناول هذا المعنى، ومحاوراته عليه السلام مع سدير الصيرفي، وبريد العجلي، ومأمون الرقي، وغيرهم صريحة في ذلك.
فالمسألة إذن تدور مدار اكتمال الشروط التي بها تجري السنن الإلهية، وعلى هذا النهج نهضة المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، وليست المسألة مجرد توقيت ومجرد إرادة، فالتوقيت والإرادة الإلهية يأتيان على وفق الحكمة، وبعد تحقق الأسباب وهو مضمون السنة الثابتة.
وفقنا الله لطاعته والتزام أمره ونهيه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
97
84
الدرس الثامن: دور الأمة تجاه ولاية الأمر
خطبة أمير المؤمنين عليه السلام
خطب عليه السلام في صفين، فبين حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي فكان مما قال: "أما بعد.. فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقاً بولاية أمركم ولكم عليّ من الحق مثل الذي لي عليكم" إلى أن قال: "..فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدّت الرعية إلى الوالي حقه، وأدّى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطُمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء.. وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور وكثر الادغال في الدين، وتركت محاجّ السنن، فعُمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثر علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عطّل، ولا لعظيم باطل فُعل، فهنالك تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد.."1
الأسئلة
1- هل تؤدي ولاية الفقيه إلى التحكم السلطوي أو الدكتاتورية؟
2- كيف تتحمّل الأمة مسؤولياتها في إيصال الفقيه الأعلم والأكفأ إلى السلطة الفعلية؟
3- إذا توقفت إقامة الحكم الاسلامي من قبل الفقيه على نصرة الأمة
________________________________________
1- نهج البلاغة خ/612.
98
85
الدرس الثامن: دور الأمة تجاه ولاية الأمر
وتأييدها له فما هو تكليفها؟
4- هل تدخل النصيحة والمشورة في واجبات الأمة تجاه ولاة أمرها؟
5- ما هي العناصر الثلاثة التي تشترك في بناء حكومة العدل؟
6- هل هناك دور آخر يمكن أن تقوم به الأمة غير ما ذكر في الدرس؟
للمطالعة
المستضعفون في المجتمع
مستضعفو الأرض هم أولئك الذين ليس لهم أي تأثير أو رأي في التيارات الاجتماعية وفي المناهج التي تسيّرها. كما أنهم لا يملكون إرادة في حركتهم الاجتماعية، لا يعلمون ماذا يجري لا ولماذا يجري، وأين يجري؟ لا يعلمون أين هم وإلى أين يسيرون، لا يعلمون نقطة الشروع في حركتهم ولا نقطة الانتهاء.
ولا يعرفون من هو الذي يقودهم في هذا التحرك ولا يعرفون كيف يقفون، ولو توقفوا فهم لا يعلمون ماذا يفعلون بعد هذا التوقف، لا يعرفون هذا أساساً ولا يلتفتون إليه ولا يثير انتباههم.
ومن غير أن نشبّههم تشبيهاً حقيقياً نقول أنهم كالحصان الذي شُدّت عيناه بعصابة فهو يحسب أنه يمشي في طريق طويل بينما هو يدور ويدور
99
86
الدرس الثامن: دور الأمة تجاه ولاية الأمر
حول نقطة معينة. فلو قدر لهذا الحيوان أن يفهم، لأوحى لنفسه أنه قريب من باريس.
ولكنه عندما يقرب وقت الغروب تفتح العصابة من عينيه ليرى نفسه في ذات المكان الذي كان فيه أول الصباح، فهو لا يدري أين ذهب، ولا يعلم إلى أين يتحرك، وطبيعي أن هذا مثال للمجتمع الذي لا يحكمه نظام عادل، بل يديره نظام لا يؤمن بأي قيمة للإنسان وإرادته وكرامته، لا يأتي هذا الكلام في مجتمع يقوده النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث يخاطبه القرآن"وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ" فمع أنه نبي ومعصوم لا يحتاج إلى مشورة الناس يأتيه الأمر بأن يشاور المسلمين ليشعرهم بعزتهم وكرامتهم وقيمتهم وشخصيتهم.
مثل هذا المجتمع ليس فيه من لا يعي ولا يفهم ما يجري خلافاً للمجتمعات التي يتسلط فيها نظام فردي أو نظام استبدادي ظالم أو نظام جاهلي، فإن أكثر أفرادها مستضعف، وهؤلاء يقولون كنا مستضعفين في الأرض، نُقادُ ولا ندري إلى أين، كانوا يأخذوننا هنا وهناك، لقد جعلونا نرتكب السوء ونفعل القبيح ونحن لا نعلم. هذا هو تبرير المستضعفين لكن الملائكة يجيبون
﴿قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾.
الإمام الخامنئي دام ظله/الإمامة والولاية/124 - 125.
100
87
الدرس الثامن: دور الأمة تجاه ولاية الأمر
خلاصة الدرس
ألا يلزم من سلطة الولي الفقيه وولاته بالطريقة المتقدمة التحكّم والدكتاتورية؟
إن مبدأ ولاية الفقيه لا يستلزم الدكتاتورية بمعنى التحكم والاستبداد، بل جاء ليحارب التسلط والاستبداد والدكتاتورية، والأمة في أطروحة ولاية الفقيه تساهم مساهمة فاعلة وتؤدي دوراً مهماً وأساسياً في إقامة حكومة العدل وترسيخ دعائمها، مما يجعل دورها مكملا لدور الولي.
وهناك جملة من المسؤوليات تقع على عاتق الأمة تجاه ولاة الأمر:
- البحث عن الفقيه الأولى بالقيام بالأمر.
- التمهيد لولي الأمر ليمارس ولايته، أي تمكينه من القيام بالأمر عبر الانقياد التام، وبذل الطاعة والنصرة.
- النصيحة والتسديد وبذل المشورة لولاة الأمر عندما يكونون بحاجة إليها.
- مسؤوليّة تنفيذ المشروع الإسلامي وبناء صرح حكومة العدل الإلهية ورفع راية التوحيد، على عاتق الأمة إلى جانب الوليّ.
النصيحة لوليّ الأمر من قبل الأمّة تتمثّل في العمل المخلص والمتقن من قبل كلّ فرد من أفراد الأمّة..
101
88