التربية الجهادية


الناشر: دار المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2018-02

النسخة: 2017


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


مقدمة

 بسم الله الرحمن الرحيم

 


الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وآله الطيبين الطاهرين، وبعد...

الجهاد هو: "بذل النفس وما يتوقّف عليه من المال في محاربة المشركين أو الباغين على وجه مخصوص، أو بذل النفس والمال والوسع في إعلاء كلمة الإسلام وإقامة شعائر الإيمان"1. وحدّد الإمام الخامنئي دام ظله معنى الجهاد ومعياريّته، حيث قال: "الجهاد هو كلّ كفاح من أجل تحقيق هدف سامٍ مقدّس. والملاك في صدق الجهاد هو أن تكون هذه الحركة موجّهة، وتواجه عقبات تنصبّ الهمم على رفعها. فهذا هو الكفاح. والجهاد هو مثل هذا الكفاح الذي إذا كان ذا منحى وهدف إلهيّ فسيكتسب بذلك طابعاً قدسياً"2.

وعندما نتأمّل في آيات القرآن الكريم نجد أنّه قلّما نزلت آيات بشأن فرعٍ من فروع الدين الإسلاميّ كما هو الحال بشأن الجهاد. فقد نزلَ البعضُ منها بلسان صريح، مستعملاً مفردات الجهاد والقتال، في حين نزل البعض الآخر بلسان غير مباشر وبقصد تفصيل المسائل الجانبية المتعلّقة به.
 

1- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، تحقيق وتعليق الشيخ عباس القوجاني، تصحيح الشيخ محمد الآخوندي، دار الكتب الإسلامية، إيران ـ طهران، 1362 هـ.ش، ط3، ج 21، ص 3.
2- الجهاد من وجهة نظر الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله. نقلاً عن: WWW.KHAMENEI.IR.
 
 
 
 
11

1

مقدمة

 ولأجل أن يبيّن القرآن المجيد أهمّيّة الجهاد يَعُدُّ اللّه نفسه مشتري أرواح المؤمنين الذي يجاهدون وأموالهم، حيث يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ1, كما أشار تعالى إلى أنّهم أحباؤه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ2, وقد وعدهم بأجر عظيم: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا3, واعتبرهم الفائزين في هذا العالم وبشّرهم برحمة منه ورضوان، وجنّات تجري من تحتها الأنهار، وخصّهم بها دون العالمين: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ4..


وقد نُقلت بهذا الشأن روايات كثيرة أيضاً، منها:
- أنّ أبا ذرّ الغفاري سأل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله عزّ وجلّ؟ فقال: "إيمان بالله، وجهادٌ في سبيله". قال: قلتُ: فأيّ الجهاد أفضل؟ قال: "من عقرَ جواده وأُهريقَ دمُه في سبيل الله"5.

وليس الجهاد بمعنى التواجد في سوح الحرب فقط، فأيّة مواجهة للعدوّ يمكن أن تعدّ جهاداً. وطبعاً قد يعمل البعض عملاً معيّناً ويبذلون جهداً ويسمّون ذلك جهاداً. بيد أنّ هذا التعبير غير صائب. إذ من شروط الجهاد أن يكون في مقابل الأعداء. فتارة 
 

1- سورة التوبة، الآية 111.
2- سورة الصف، الآية 4.
3- سورة النساء، الآية 74.
4- سورة التوبة، الآيتان 20-21.
5- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، تحقيق محمد مهدي السيد، حسن الموسوي الخرسان، السيد إبراهيم الميانجي، محمد الباقر البهبودي، مؤسّسة الوفاء، لبنان ـ بيروت، 1403هـ.ق- 1983م، ط2 (المصحّحة)، ج 97، ص 11.
 
 
 
 
12

2

مقدمة

 تجري فصول هذه المواجهة في ساحة السياسة ويسمّى ذلك جهاداً سياسياً، وتارة تكون في ساحة الشؤون الثقافية وتسمّى جهاداً ثقافياً، وأحياناً تكون في ميدان البناء فتسمّى جهاد البناء. وثمة جهاد بعناوين أخرى في ميادين أخرى.


إذن، ليس المعيار الجهاد بالسيف في ساحات القتال، وإنّما المعيار هو الكفاح. ولا بدّ للكفاح من أمرين لازمين: أحدهما أن يكون فيه جدّ وجهد وحركة، والثاني أن يكون في مقابل الأعداء.

والحمد لله رب العالمين
مركز المعارف للتأليف والتحقيق
 
 
 
 
 
13

3

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى فضل الجهاد في الآيات والروايات.
2- يدرك أهمية القيام بالجهاد كتكليف إلهيّ وشرعيّ.
3- يفهم الحكمة من فرض الجهاد مع شدّته وكراهيته.
 
 
 
 
17

4

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 الجهاد في اللغة والاصطلاح

الجهاد في اللغة:
اشتقّت كلمة "الجهاد" من "الجَهْد" و"الجُهْد" بمعنى "المشقّة والعناء"1 وبمعنى "الوسع والطّاقة"، وعليه، يكون معنى الجهاد: هو بذل الوسع والطّاقة أو تحمّل العناء والمشقة.

الجهاد والقتال في القرآن:
استخدم القرآن المجيد في آياته التي تحدّثت عن موضوع بذل الجهد والوسع في قتال العدوّ، مفردتين اثنتين هما: الجهاد والقتال، في قوله تعالى ﴿انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ2, وقوله عزّ وجلّ ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ3.


وتطلق كلمة الجهاد غالباً على عملية صَدِّ العدوّ عن طريق الحرب، إلاّ أنّ معناها يتّسع ليشمل دفع كلّ ما يمكن أن يصيب الإنسان بالضرر، كالمواجهة مع الشيطان الذي يُضلّ الإنسان، أو النفس الأمّارة التي تدعو إلى ارتكاب السيئات وترك العمل بالطاعات، حيث وصف بعض الروايات مخالفة هوى النفس بالجهاد الأكبر، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:
 

1- الزبيدي، تاج العروس، تحقيق علي شيري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان ـ بيروت، 1414ه.ق - 1994م، لا.ط، ج 4، ص 407-409.
2- سورة التوبة، الآية 41.
3- سورة البقرة، الآية 244.
 
 
 
 
19
 
 

5

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 "مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر"1.


وقد اعتبر بعض المفسِّرين أنّ آيات الجهاد الواردة في القرآن الكريم ناظرة في الواقع إلى هذين النوعين من الجهاد: جهاد النفس وجهاد العدوّ. فعلى سبيل المثال، فسّر العلامة الطبرسي قدس سره معنى الجهاد في قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ2 بجهاد الكفار، وبمجاهدة أهواء النفس3. أمّا كلمة "القتال" فهي بمعنى الحرب، ولم تستعمل في القرآن المجيد سوى للإشارة إلى الحرب مع العدوّ الظاهريّ والخارجيّ.

الجهاد في الاصطلاح:
وأمّا اصطلاحاً فقد عرّف الفقهاء مصطلح الجهاد بأنّه: "بذل النفس وما يتوقّف عليه من المال في محاربة المشركين أو الباغين على وجهٍ مخصوص أو بذل النفس والمال والوسع في إعلاء كلمة الإسلام، وإقامة شعائر الإيمان"4.

أمّا من حيث معنى الجهاد ومعياره، فقد شرح الإمام الخامنئي دام ظله بعض ذلك حينما قال: "الجهاد هو كلّ كفاح من أجل تحقيق هدف سامٍ مقدّس. والملاك في صدق الجهاد هو أن تكون هذه الحركة موجّهة، وتواجه عقباتٍ تنصبّ الهمم على رفعها. فهذا هو الكفاح. والجهاد هو مثل هذا الكفاح الذي إذا كان ذا منحىً وهدفٍ إلهيّ فسيكتسب بذلك طابعاً قدسياً"5.
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، تحقيق السيد ابراهيم الميانجي ومحمد باقر البهبودي، دار احياء التراث، لبنان ـ بيروت، 1403ه.ق - 1983م، ط 2، باب مراتب النفس، ج 67، ص 65، ح7.
2- سورة العنكبوت، الآية 69.
3- الشيخ الطبرسي، تفسير مجمع البيان، تحقيق وتعليق لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان ـ بيروت، 1415ه.ق - 1995م، ط 1، ج 8، ص 41.
4- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، تحقيق وتعليق الشيخ عباس القوچاني، دار الكتب الإسلامية، إيران ـ طهران، 1365 ه.ش، ط 2، ج 21، ص 3.
5- الجهاد من وجهة نظر الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله. نقلاً عن: WWW.KHAMENEI.IR
 
 
 
 
20

6

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 فضل الجهاد وأهميّته في الآيات والروايات

1- في الآيات:
عندما ننظر إلى آيات القرآن الكريم نجد أنّه قلّما نزلت آيات بشأن فرعٍ من فروع الدين الإسلاميّ كما هو الحال بشأن الجهاد. ثم نجد أنّه نزلَ البعضُ منها بلسانٍ صريحٍ، ينصّ على الجهاد والقتال، والبعض الآخر بلسانٍ غير مباشر، يتعرّض إلى المسائل الجانبية المتعلّقة به.

ولأجل أن يبيّن القرآن المجيد أهمّيّة الجهاد، عمد إلى مقارنته بخدمة الحجّاج وعمارة المسجد الحرام اللذين كانا محلاً للافتخار والمباهاة في الجاهلية، ثم صرّح بأفضلية الجهاد عليهما، حيث قال تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *  الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ1.

كما أنّ سورة "العاديات" تشير إلى عظمة الحركة الجهادية حيث أقسم القرآن الكريم بخيول المجاهدين وقدح النار من تحت حوافرها وسنابكها، قال تعالى: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا2, إنّ هذه الآيات لشاهد قويٌّ على عظمة الجهاد لأنَّه تعالى لا يُقسم إلّا بالأمر العزيز.

ويلاحظ المرء أنَّ كلّ الآيات التي تحدّثت عن فضل وعلوّ منزلة المجاهدين في سبيل الله، تحكي في الوقت نفسه عن أهمّيّة الجهاد وفضله، حيث إنّ الجهاد يتقوّم بالمجاهدين ولا ينفكّ عنهم كما في قوله تعالى: ﴿فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾3.
 

1- سورة التوبة، الآيتان 19-20.
2- سورة العاديات، الآيات 1- 4.
3- سورة النساء، الآية 95.
 
 
 
 
21

7

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 وفي آية أخرى جعل الله تعالى نفسه مشتريَ أرواحِ المؤمنين المجاهدين وأموالهم، في صورة تدلّل على قبول الله تعالى لجهاد المجاهدين المؤمنين، فهو تعالى يمتدحهم ويقدّم الوعد الجميل، حيث يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ1.


كما أشار تعالى إلى أنّ المجاهدين هم أحبّاؤه واقعاً: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ2, ووعدهم بالأجر العظيم والجزيل: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا3, واعتبرهم الفائزين في هذا العالم وبشّرهم برحمةٍ منه ورضوان، وجنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، وخصّهم بها دون العالمين: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ  يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ4.

ويكفي لمعرفة أهمّيّة الجهاد الالتفات إلى ما وعد الله تعالى به من الأجر العظيم حيث قال عزّ من قائل: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا5. إذ أطلق الله تعالى لفظ الأجر العظيم ولم يحدّد ماهيته وقدره، لكي يوضح لنا أنّ هذا الأجر هو فوق ما يتصوّره الإنسان، فقال عزّ اسمه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ6, لأجل تحريك العواطف الإنسانية وقال عزّ وجلّ: ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ
 

1- سورة التوبة، الآية 111.
2- سورة الصف، الآية 4.
3- سورة النساء، الآية 74.
4- سورة التوبة، الآيتان 20-21.
5- سورة النساء، الآية 74.
6- سورةالبقرة، الآية 216.
 
 
 
 
22

 


8

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ1, ثمّ بلسان الأمر في نهاية المطاف لما للجهاد من بركاتٍ وفوائد يعجز الإنسان نفسه عن إحصائها، قال: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ2.


2- في الروايات:
لقد أوضحت الروايات الكثيرة أهمّية الجهاد وحقيقته وفضله، ومنها:
- أنّ أبا ذرّ الغفاري سأل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله عزّ وجلّ؟ فقال: "إيمان بالله، وجهادٌ في سبيله". قال: قلتُ: فأيّ الجهاد أفضل؟ قال: "من عقرَ جواده وأُهريقَ دمُه في سبيل الله"3.

- وفي حديث آخر رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الخير كلّه في السيف، وتحت ظلّ السيف"4.

- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنّه قال: "من مات ولم يغز، ولم يحدّث به نفسه، مات على شعبةٍ من نفاق"5.

- وفي رواية أنّ رجلاً أتى جبلاً ليعبد الله فيه، فجاء به أهله إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فنهاه عن ذلك، وقال: "إنّ صبر المسلم في بعض مواطن الجهاد يوماً واحداً خير له من عبادة أربعين سنة"6.
 

1- سورة التوبة، الآية 13.
2- سورة البقرة، الآية 244.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 97، ص 11.
4- المصدر نفسه، ص 9.
5- الحاكم النيسابوري، المستدرك، تحقيق وإشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي، ج 2، ص 79.
6- ميرزا حسين النوري الطبرسي، مستدرك الوسائل، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، لبنان - بيروت، 1408 ه.ق - 1987م، ج 11، ح 12324، ص 21.
 
 
 
 
23

9

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 وعنه صلى الله عليه وآله  وسلم: "إنّ الجهاد أشرف الأعمال بعد الإسلام، وهو قوام الدين، والأجر فيه عظيم مع العزَّة والمنعة، وهو الكَرَّةُ، فيه الحسنات والبشرى بالجنّة بعد الشهادة"1.


- وروي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعث بسريّةٍ كان فيها ابن رواحة، وتحرّك الجيش مع الفجر نحو المنطقة المحدّدة، ولكنّ ابن رواحة تخلّف عنه ليصلّي وراء النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وبعد الصلاة، رآه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "ألم تكن في ذلك الجيش؟" فأجاب: بلى، ولكنّي أحببتُ أن أصلّي خلفك هذه الصلاة ثمّ ألحقَ بهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الذي نفسُ محمدٍ بيده لو أنفقتَ ما في الأرض جميعاً ما أدركتَ فضلَ غدوتهم"2.

- ومن خطبة خطبها أمير المؤمنين عليه السلام في أواخر عمره، يقول: "إنّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنّة، فتحهُ الله لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودِرعُ الله الحصينةُ، وجُنّتهُ الوثيقة"3.

- وعن الإمام الباقر عليه السلام قال لأحد أصحابه: "ألاَ أُخبرك بالإسلام وفرعه وذروته وسنامه؟" قال: قلتُ: بلى جعلت فداك، قال عليه السلام: "أمّا أصله فالصلاة، وفرعه فالزكاة، وذروته وسنامه الجهاد"4.

وبالإضافة إلى ما ذُكِرَ منَ الآيات والروايات، فإنّ التدقيق في دور الجهاد في الإسلام، ومنزلته بالنسبة لسائر الواجبات الدينية، يطلعنا أيضاً على أهمّيّته وعظمته. فالجهاد الدفاعيّ سبب في توفير الأمن، والذي في ظلّه فقط يمكن إقامة سائر الواجبات والحدود الإلهية. وفي الجهاد الابتدائيّ أيضاً رفع للموانع من أجل تبليغ الدين الإلهيّ، وهو موجب لميل عددٍ من المجتمعات البشرية نحو الدين الحقّ، ومن الواضح أنّه مع تحقّق هذا الميل وازدياد عدد المسلمين يصبح بالإمكان إرساء قواعد حكومة العدل وتنفيذ الأحكام الإسلامية
 

1- الشيخ الحويزي، تفسير نور الثقلين، تصحيح وتعليق السيد هاشم الرسولي المحلاتي، مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، إيران ـ قم، 1412ه.ق - 1370 ش، ط 4، ج 1، ص 408.
2- الترمذي، سنن الترمذي، تحقيق وتصحيح عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1403ه.ق - 1983م، ط 2، ج 2، ص 20.
3- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، شرح الشيخ محمد عبده، دار الذخائر، إيران - قم، 1412ه.ق - 1370 ش، ط 1، ج1، ص67، الخطبة 27.
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق ج 66، ص 392.
 
 
 
 
24

10

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 بشكلٍ أوسع. وباختصار، إنّ تبليغ أصول الدين والعمل بفروعه، وحفظ الكرامات والدماء والأعراض والأرض وسائر المقدّسات مرهون في كثيرٍ من الموارد بأداء هذه الفريضة الإلهية الكبرى، وهو ما يدلّ بدوره على عظمتها وفضلها. وخير شاهدٍ على هذا في هذا العصر جهاد الثورة الإسلامية في إيران والمقاومة الإسلامية في لبنان.


الجهاد تكليف إلهيّ وواجب شرعيّ
في بداية الدعوة كان المسلمون في مكّة يتعرّضون لأذى المشركين كثيراً، وكانوا يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين مشجوجٍ ومضروبٍ يشكون إليه ما يعانون من قهرٍ وأذى، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول لهم: "اصبروا فإنّي لم أُؤمر بالقتال"1. واستمرّ الحال كذلك حتّى هاجر صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل اللّه عليه قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ2. فبعد طول انتظارٍ أذن الله تعالى - لمن يتعرّض لعدوان الأعداء - بالقتال والجهاد، والسبب في ذلك أنهم قد وصلوا في نهاية الأمر إلى مرحلة لا يمكنهم فيها دفع الأذى والظلم عنهم إلّا بالجهاد والقتال.

إذاً فجهاد المظلوم ضدّ الظالم - الذي يريد محو ذكر الله وجعل الناس عبيداً له - من الحقوق الطبيعيّة التي يؤكّدها عقل الإنسان وفطرته كما سوف يأتي معنا في حقِّ الدفاع. ولقائلٍ أن يقول: لماذا أُجيز للمسلمين استخدام القوّة وخوض الحرب لتحقيق أهدافهم؟! ألم يكن بالإمكان تحقيق الأهداف الإسلاميّة باللجوء إلى العقل والحوار والمنطق؟!

ولكن هل يمكن أن يكون الحوار والمنطق مفيداً لظالمٍ ترَك لغة الحوار واستبدل اللسان بالسنان وراح يهجّر المسلمين من ديارهم لا لذنبٍ اقترفوه سوى اعتقادهم بتوحيد اللّه، وتراه يستولي على منازلهم وأموالهم، ولا يلتزم بأيّ قانونٍ ومنطقٍ تجاههم؟! فهل يمكن ردع هؤلاء الطغاة بغير لغة السلاح والقوّة بعد استنفاد كلّ الوسائل السلمية؟!
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 19، ص 157.
2- سورة الحج، الآيتان 39 - 40.
 
 
 
 
25

11

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 وبعد الإذن بالجهاد أصبح الجهاد واجباً وتكليفاً إلهيّاً على كلّ مؤمنٍ مستطيع: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ1.


فقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ إشارةٌإلى أن القتال حكمٌ وتشريعٌ إلهيٌّ حتميٌّ ومقطوع، وهوفرضعلىكافّةالمؤمنينبدليلأن الخطاب متوجّه إليهم جميع، إلا من كان معذوراً.

والقتال المكتوب يستبطن في داخله شدّةً لا بدّ منها على المؤمنين، فالقتال مستلزمٌ لإفناء النفوس، وتعب الأبدان، وتلف الأموال، وذهاب الأمن والراحة والرفاهية، لاقترانه بأنواع المشقّات والمصائب، وغير ذلك ممّا تكرهه النفس الإنسانية وتجده شاقّاً ومتعباً.

وبعد إعلان تشريع التّكليف الإلهيّ بالجهاد والقتال وعدم جواز الرّضوخ للظّالمين من الكفّار والمشركين وغيرهم مهما كانت الظروف قاسيةً وصعبة، حتّى لو اضطرّ المجاهد المسلم الواحد أن يقاتل العشرة في المرحلة الأولى، ويقاتل الاثنين بعد أن خفّف الله تعالى عنهم.

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾2.

هذا إضافة إلى الآيات التي حثَّت على الإعداد الإيمانيّ والبنيويّ للجهاد والقتال، وتهيئة المسلمين لما يمكن أن يُصابوا به من الخسائر والأذى والألم بسبب القتال في سبيله. فالواضح من هذا التّكليف الإلهيّ في القرآن، ومن سيرة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وأمير المؤمنين عليه السلام وأبي عبد الله الحسين عليه السلام في الجهاد والحرب والقتال، أنّ الجهاد يرتبط بالدِّفاع عن الدِّين والمقدَّسات والأعراض والكرامات حتّى لو كانت التَّضحيات كبيرة وغالية. وفي كلّ
 

1- سورة البقرة، الآية 216.
2- سورة الانفال، الآيتان 65-66.
 
 
 
 
26

12

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 الحالات يجب أن يلبّي المجاهدون نداء الدّفاع عن الحقّ والقتال في سبيل الله حتّى لو أدّى ذلك إلى المشقّة وترك الأعزّاء، أو كرهته النّفوس التزاماً وتعبّداً بالتّكليف الشرعيّ الإلهيّ.


ما الحكمة من وجوب القتال مع كراهيته؟
فلسائلٍ أن يسأل أنّه إذا كان الجهاد أحد أركان الشّريعة المقدّسة والأحكام الإلهيّة، فكيف أصبح مكروهاً في طبع الإنسان، مع أنّنا نعلم أنّ الأحكام الإلهيّة أمور فطريّة وتتوافق مع الفطرة؟! فالمفروض في الأمور التي تتوافق مع الفطرة أن تكون مقبولة ومطلوبة؟!

في البداية يجب أن نعرف أن الأمور الفطريّة إنّما تنسجم وتتوافق مع طبع الإنسان فيما لو اقترنت بالمعرفة. فصحيح أن الإنسان يطلب النّفع ويتجنّب الضرر بفطرته، ولكنّ هذا يتحقّق في الموارد التي يعرف الإنسان فيها مصاديق النفع والضرر. أمّا لو اشتبه عليه الأمر في تشخيص المصداق، ولم يميّز بين الموارد النافعة والضّارّة، فمن الواضح في هذه الحالة أنّ فطرته وبسبب هذا الاشتباه سوف تكره الأمر النافع، والعكس صحيح أيضاً.

وفي مورد الجهاد فإنّ الذين لا يرون فيه سوى الآلام والمصائب، والقتل والجرح، من الطبيعيّ أن يكون مكروهاً لديهم.

أمّا بالنسبة إلى الأفراد الّذين ينظرون إلى أبعد من هذا المدى المحدود فإنّهم يعلمون أنّ شرف الإنسان وكرامته وحريّته تكمن في الجهاد، لذا هم يرحّبون به ويستقبلونه بفرحٍ وشوق. كما هو حال الّذين لا يعرفون آثار الأدوية المرّة والمنفّرة، فهم في أوّل الأمر يظهرون عدم رغبتهم فيه، إلّا أنّهم بعد أن يروا تأثيرها الإيجابيّ على سلامتهم وصحّتهم يتقبّلونها برحابة صدر.

من هنا يشير الحقّ تعالى في هذه الآية الكريمة إلى مبدأ أساسٍ حاكم على القوانين التكوينيّة والتشريعيّة الإلهيّة فيقول تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى
 
 
 
 
27

13

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ1. فلا عبرة بكرهكم وحبّكم لأنكم ربما تخطئون الواقع لجهلكم فلا تقدرون على الاهتداء بأنفسكم إلى حقيقة الأمر.


وفي الختام يؤكّد الخالق جلّ وعلا بشكلٍ حاسم أنّه لا ينبغي للبشر أن يحكّموا أذواقهم ومعارفهم الخاصّة في الأمور المتعلّقة بمصيرهم، لأنّ علمهم محدود من كلّ جانب، وما علموه بالنسبة إلى ما يجهلونه كقطرةٍ في البحر، لذا يقول عزّ وجلّ: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ2. فالناس لأنّهم لم يدركوا إلّا القليل من أسرار الخلقة ومن القوانين التكوينيّة الإلهيّة، تجدهم في بعض الأحيان يهملون أمراً ما ولا يعيرونه الاهتمام المطلوب، في حين أنّ أهميّته وفائدته قد تكون كبيرة.

والكلام هو نفسه بالنسبة إلى القوانين التشريعيّة، فالإنسان لا يعلم بكثيرٍ من المصالح والمفاسد الموجودة فيه، لذا فقد يكره شيئاً في حين أنّ سعادته تكمن فيه، أو يفرح بشي‏ءٍ ويطلبه في حين أنّه يستبطن شقاوته. وعليه فلا يحقّ للإنسان مع الالتفات إلى علمه المحدود والناقص أن يعترض على علم الحقّ اللامحدود، ولا على أحكامه الإلهية، بل عليه أن يعلم يقيناً أنّ الله تعالى، الرحمن والرحيم، عندما يشرّع تشريعاً ما كالجهاد مثلاً؛ فإنه لا يشرّعه إلّا لأنّه يرى فيه الخير والسعادة والنجاة. لذا على المؤمن أن ينظر إلى الأوامر والأحكام الإلهية على أنّها كالأدوية الشافية له من كل علّة، وعليه أن يطبّقها بمنتهى الرضا والقبول والتسليم.

إذاً، إن التزم الإنسان بأحكام الحقّ فالنفع يعود إليه لا إلى الحقّ، كما أخبر تعالى في قوله: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون﴾3.

فاللّه تبارك وتعالى وجود غير متناهٍ من جميع الوجوه وهو الكمال المطلق، وغير مفتقر لأيّ شي‏ء، ولا ينقصه شي‏ء حتّى يكمله الآخرون، بل كلّ ما عندهم منه، وليس لهم شي‏ء من أنفسهم!! إذاً، فجميع منافع الجهاد ترجع إلى الشخص المجاهد نفسه، فهو بجهاده
 

1- سورة البقرة، الآية 216.
2- سورة البقرة، الآية 216.
3- سورة العنكبوت، الآيتان 6-7.
 
 
 
 
28

14

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 سيفوز بخير الدنيا والآخرة. والفائدة الكبيرة الأولى لجهاده هي تكفير الذنوب والعفو عنها وستره، كما أنّ الثواب سيكون من نصيبه كما يقول تعالى في نهاية هذه الآية المباركة: إنّه سيرفع درجة المجاهدين إلى ما يناسب أحسن أعمالهم. فإذا كان بعض أعمالهم تشوبه المشاكل فإنه تعالى سيعاملهم في كل واحد منها معاملة من أتى بأحسن الأعمال، فتحتسب صلاتهم أحسن الصلاة وإن اشتملت على بعض الشوائب وهكذا...


الجهاد وتهذيب النَّفس
تعدَّدت الأخبار التي تصف جهاد النَّفس بأنّه أكبر من جهاد العدوّ، وأنّ من غلب نفسه وجاهدها، فهو الشّديد والمنتصر. ومن الواضح أنّ منشأ أرجحيّة جهاد النَّفس على جهاد العدوّ، هو أنّ جهاد العدوّ مع ما فيه من صعوباتٍ ومحن إنَّما ينهض به المجاهد بعد أن يغلب نفسه، ويطوّعها على حمل تلك المشاقّ وتجاوز تلك الصُّعوبات والمحن، ولو غلبته نفسه وأبت عليه أنْ يُجاهد لما جاهد، فجهاد العدوّ ما هو إلّا فرعٌ من أصلٍ بالنِّسبة إلى جهاد النّفس.

ومع هذا يجب أن نلتفت إلى أنّ الجهاد العسكريّ في سبيل الله الذي يكون لنشر الإسلام وإعلاء كلمة التوحيد والدفاع عن المستضعفين هو إحدى العبادات الكبرى الموجبة لتكامل النّفس، والتقرّب إلى الله، والارتقاء إليه. وهذا ما يفهم من الآيات والروايات الكثيرة التي تحدَّثت عن الدّرجات العظيمة، والمنزلة الرّفيعة للمجاهدين، من الفوز والبشرى برحمة الله تعالى، والخلود في جنّته في الآخرة. فالله تعالى يعطي الذي يجاهد ويقتل في سبيله أفضل المقامات وأرفعه، كلّ ذلك لأنّ المجاهد لا ينطلق في جهاده لتأمين أهدافٍ شخصيّةٍ أو ماديّة، بل إنّه يستثمر أكثر الأشياء قيمةً في سبيل السّير والسّلوك إلى الله والوصول إلى الهدف، فهو يضحّي بروحه وكلّ وجوده ويسلّمه إلى الله مخلصاً، تاركاً كلّ متعلِّقات الدّنيا والمادّة والشّهوات باختياره ويسلّم روحه دفعةً واحدةً إلى الله. بل يمكن القول إنّ ما يصل إليه المجاهد في خنادق الجهاد قد لا يحصل على ما يشابهه في العبادات الأخرى، فهو يحطّم قفص المادّة، ويحلّق في عالم رضوان الله، ويرتقي عبر أرفع المقامات نحو ربّه بنحو أشرع وأقوى.
 
 
 
 
29

15

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 المفاهيم الرئيسة


1- الجهاد في اللغة من "الجَهْد" و"الجُهْد" بمعنى "المشقّة والعناء" وبمعنى "الوسع والطّاقة"، وعليه، يكون معنى الجهاد: هو بذل الوسع والطّاقة أو تحمّل العناء والمشقّة.

2- كلمة الجهاد غالباً ما تستعمل للدلالة على عملية صَدِّ العدوّ عن طريق الحرب، غير أنّ معناها قد يتّسع ليشمل دفع كل ما يمكن أن يصيب الإنسان بالضَّرر (كالشيطان، أو النفس الأمّارة).

3- يبيِّن القرآن المجيد أهمّيّة الجهاد في مواطن كثيرة، فيقول على سبيل المثال: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾.

4- لقد أوضحت رواياتٌ كثيرةٌ أهميةَ الجهادِ وحقيقتَه وفضلَه، ومنها حين سَأل أبو ذرّ الغفاري النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله عزّ وجلّ؟ فقال: إيمان بالله، وجهادٌ في سبيله - قال: قلتُ: فأيّ الجهاد أفضل؟ قال: من عقرَ جواده وأُهريقَ دمُه في سبيل الله".

5- الجهاد في الإسلام والشريعة المقدّسة هو تكليف إلهيّ وواجب شرعيّ.

6- أمر الله تعالى رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد فقال له: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ *  الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾.

7- مع أنّ الجهاد فريضة فيها مشقّة كبيرة، إلّا أنّ الله تعالى فرضها على الإنسان - وكراهية الإنسان لها نتيجة عدم رؤية الصورة الكاملة للجهاد، والاعتقاد بأن الجهاد هو تعب وخسائر مادية فقط، بينما الإسلام ينظر إلى النتائج البعيدة للجهاد من النصر والعزّة والكرامة.
 
 
 
 
 
30

16

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشخّص ملاك تشريع الجهاد وفلسفته.
2- يبيّن ويوضح منطلقات الصراع بين الحقّ والباطل.
3- يحدّد أهم الأهداف الفردية والاجتماعية للجهاد.
 
 
 
 
 
31

17

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 فلسفة تشريع الجهاد

من الأسئلة التي تخطر في ذهن من يطّلعُ على حكم الجهاد في الإسلام، ومن أكثرها أهمّيّة، هي تلك التي تدور حول فلسفته: ما هو الهدف من تشريع حكم الجهاد؟ وهل يسعى الإسلام وراء فتح البلدان والسيطرة عليها؟ وهل الهدف الحقيقيّ هو جمع الغنائم؟ وهل الأهداف المادية هي التي تدفع بالمسلمين نحو الجهاد؟...

والصواب أنّ أيّاً من الأمور المذكورة آنفاً لم يكن من أهداف الجهاد أصلاً. فالجهاد في الإسلام ليس مشابهاً لحروب طواغيت التاريخ وحملاتهم العسكرية، بل إنّ ما دفع لتشريع هذا الحكم في الحقيقة هو أمر فطريٌّ مغروسٌ ومتجذِّرٌ في نفوس جميع الموجودات، إنّه حقُّ الدفاع. فكلّ موجودٍ حيٍّ، سواء كان إنساناً أم غير إنسان، يرى في الدِّفاع عن نفسه مقابل العدو حقاً طبيعياً له، وخالق العالم قد أودع في جميع الموجودات وسائل استيفاء هذا الحقّ.

وإنّ الحقّ الفطريّ للدفاع عن النفس هو حقّ يتوسّل به حتى المتسلّطون والظَّالمون - ولو بغير حقّ - للدِّفاع عن نتائج أعمالهم وإنجازاتهم. وعليه، ليس هناك من شكٍّ ولا شُبهةٍ بشأن أصل الاستفادة من هذا الحقّ، وقد متَّنه الإسلامُ من خلال تشريعه لحكم الجهاد.

الصراع بين الحقّ والباطل
في الواقع ليس من الممكن إلغاء شيءٍ اسمه صراع من على وجه هذه الأرض، طالما أنّ هنالك "حقاً" و"باطلاً". فالصراع قائم بين الحقّ والباطل منذ بدء الخليقة وهو موجود
 
 
 
 
33

18

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

  ومستمرّ، والحياة قائمة على معادلة الصراع كما يقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ1.


فطبيعة الحياة إذاً قائمة على مبدأ الصراع، فالحيوانات مثلاً في حالة صراعٍ دائمٍ فيما بينها، ولهذا السبب هي مجهّزة بوسائل الهجوم والدفاع الطبيعية، مثل الأنياب، والمخالب، والقوة البدنية. أمّا الإنسان فيختلف في معركته عن الحيوان، فإذا كان الأخير يدخل الصراع دخولاً عشوائياً وبلا هدف، فإنّ الإنسان إنّما يخوض الصراع من أجل هدف وخطة مرسومة. وبالطبع قد تختلف الأهداف عند هذا الإنسان وذاك، وقد يكون بعضها نبيلاً والبعض الآخر سيئاً وقبيحاً.

فالبعض يدخل الحرب من أجل نشر رسالات الله، والدفاع عن المستضعفين والمحرومين، ومن أجل إقامة العدل والحرية. والبعض الآخر قد يشعل نار الحرب ويهلك الحرث والنسل من أجل المصالح الدنيوية كحبّ السيطرة والتملّك، والوصول إلى دفّة الحكم. أي أنّ هنالك صراع حقٍّ وصراع باطل، وهناك معركة بين الحقّ والباطل.

إنّ الصراع الحقّ - بحسب مفهوم الدين الإسلاميّ - هو من أجل إنهاء كلّ الصراعات الزائفة والباطلة التي تهدف إلى سلب حقوق الإنسان، وبالتالي هو دفاع عن الإنسان والإنسانية، وهو يهدف إلى تحقيق السلام والعدل والمساواة والحرية والرفاه الشامل، بما فيه مصلحة الإنسان فرداً وجماعة في الدنيا والآخرة. ومن هنا كان الجهاد في الشريعة الإسلامية فريضة واجبة مقدسة، بل و من أوجب الواجبات والفرائض حتّى صار ذروة الإسلام كما في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "ألا أخبرك بالإسلام أصله وفرعه وذروة سنامه؟" قلت: بلى جعلت فداك، قال: "أمّا أصله فالصّلاة وفرعه الزّكاة وذروة سنامه الجهاد"2. وقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "فوق كلّ ذي برّ برّ حتّى يُقتلَ الرّجل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه برّ"3.
 

1- سورة البقرة، الآية 251.
2- الشيخ الكليني، الكافي، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، إيران ـ طهران، 1363 ش، ط 5، ج 2، ص 23، ح15.
3- المصدر نفسه، ج 2، ص 348.
 
 
 
34

19

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 أهداف الجهاد في سبيل الله

إنّ معرفة الأهداف الواقعية للجهاد ووضعها نصب أعيننا من الأمور الهامّة والضرورية لنجاح أيّ عمل جهاديّ. فالعمل الذي لا يملك هدفاً إلهيّاً واضحاً ومشخّصاً هو عمل عبثيٌّ في أغلب الأحيان، واحتمالات الفشل فيه أكثر بكثير من فرص النجاح، ناهيك عن أنّه لو سجّل نجاحاً مرحلياً فهو بعيد عن مشروع العدالة ومصلحة الإنسانية. قال الله تعالى ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ1. فلمعرفة الهدف من أيّ عمل أو تكليف دور أساسيّ في تحقيق النتائج المرجوّة، وبالتالي تفادي حصول التعدّي ووقوع الإهمال أو التداخل في الوظائف والمهمّات والتي لن تعود بالفائدة في نهاية المطاف على أحدٍ بل الجميع سيكون خاسراً!

وللجهاد في سبيل الله نوعان من الأهداف، فهناك أهداف على المستوى الفرديّ وأخرى على المستوى الاجتماعيّ.

الأهداف الشخصية والفردية للجهاد
قد تتعدّد الأهداف الشخصية للجهاد وتختلف من شخصٍ إلى آخر، فأبواب طاعة الله تعالى كثيرة، ولكن يمكن أن نختصر هذه الأهداف الفردية بثلاثة أهداف أساسية، وكلّ الأهداف الأخرى في الحقيقة ترجع إليها وهي:
1- الدفاع عن النفس:
من حق ّكلّ نفس بشرية أن تدافع عن كلّ ما كان المساس به مهدّداً لوجودها، وعن المال والعرض والأرض والكرامة والوطن. فقد ورد في كتاب الله تعالى قوله: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ2. ولهذا جاء في حديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من مات دون عقال من ماله مات شهيداً"3. وقد أفتى فقهاء المسلمين جميعاً
 

1- سورة الملك، الآية 22.
2- سورة البقرة، الآية 190.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، تحقيق وتصحيح وتذييل الشيخ عبد الرحيم الرباني الشيرازي، دار إحياء التراث العربي، لبنان - بيروت، 1403ه.ق - 1983م، ط 5، ج 11، ص 93، باب جواز قتال المحارب...، ح5.
 
 
 
 
35

20

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 بوجوب الدفاع عن النفس، فلا إشكال في أنّه من حقّ الإنسان أن يدفع المحارب والمهاجم واللصّ ونحوهم عن نفسه وحريمه وماله ما استطاع، حتّى لو أدّى ذلك إلى قتل المهاجم1.


2- نيل رضى الله تعالى:
وهو الهدف الأسمى والأساسيّ الذي تتمحور حوله كلّ حركة يقوم بها الإنسان المؤمن أو سكون يلتزم به. وإذا غدا الجهاد طريقاً لتحقيق رضى الله تعالى، وباباً للتقرّب منه، فأيّ نعمة وأيّ توفيق لمن أتيح له الدخول إلى هذا الميدان الذي عبّر عنه أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً: "أمّا بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصة أوليائه، ... والجهاد هو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنّته الوثيقة"2.

3- الفوز بمقام الشهادة:
إنّ الشهادة كانت أمنية الصلحاء والجائزة التي يرغب بها كلّ مجاهد بعد طول عناء وجهاد في سبيل الله تعالى.

بل نجد الأئمة المعصومين عليهم السلام ينتظرون لحظة الشهادة ويعتبرونها كرامة من الله تعالى، فهذا الإمام زين العابدين عليه السلام يقول مخاطباً ابن زياد: "أبالقتل تهدّدني يا ابن زياد؟! أما علمت أنّ القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة؟"3. هذا هو النهج الإسلاميّ الصحيح الذي يؤكّد على حبّ الشهادة. فكما أنّ النصر والظفر هما أمنيته فكذلك الشهادة هي أمنية له. يقول تعالى في كتابه الحكيم: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ4. إنها حقاً لكرامة ليس دونها كرامة أن تُختم حياة الإنسان بالشهادة في سبيل الله!
 

1- الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، دار الكتب العلمية، العراق ـ النجف، 1390ه، ط 2، ج 1، ص 487.
2- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 5، ص 4.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 45، ص 118.
4- سورة التوبة، الآية 52.
 
 
 
 
36

21

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 الأهداف الدينية والاجتماعية للجهاد ‏

إنّ أهداف الجهاد لا تقف عند الأفراد أو عند أعتاب الحالة الفردية، بل للجهاد دوره الاجتماعيّ وآثاره العامة التي تطال المجتمع والبيئة العامّة. ويمكن اختصار مصالح المجتمع ضمن الأهداف التالية:
1- حفظ الدين وحمايته:
كتب الإمام الباقر عليه السلام في رسالة إلى بعض خلفاء بني أميّة يحدّثهم عن ذلك فقال: "...ومن ذلك ما ضَيَّع الجهاد الذي فضَّلهُ الله عزّ وجلّ على الأعمال وفضّل عَامِلَهُ على العُمَّال تفضيلاً في الدّرجات والمغفرة والرّحمة، لأنّهُ ظهر به الدّين، وبه يُدفَع عن الدّين، وبه اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنّة بَيْعاً مُفْلِحاً مُنْجِحاً اشترط عليهم فيه حِفْظَ الحدود"1.

فحماية الدين وحفظ حدوده الشرعية من أن تُعطّل أحكامه، والحفاظ على منهج الإسلام وعلى حدود الأمّة الإسلامية وحماية استقلالها وحماية الإنسان من تلاعب الظالمين، كلّها أمور تدعونا إلى الجهاد، الذي هو طريق لصلاح الدين والدنيا على حدٍّ سواء، لا كما يُظنّ بأنّه على خلاف صلاح الدنيا وإعمارها، كما قال الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ الله فرض الجهاد وعظّمه وجعله نصره وناصره والله ما صلح الدنيا ولا دين إلّا به"2. لذا أكّدت الروايات على هذا المنطلق والهدف الأساسيّ للجهاد كما ذكر أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام في قوله: "اللهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيءٍ من فضول الحطام، ولكن لنَرِدَ المَعَالِم من دينك، ونُظهِر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المُعَطَّلَةُ من حدودك"3.
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 5، ص 3.
2- المصدر نفسه، ج 5، ص 8.
3- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام-، مصدر سابق، خطبة 131، ج 2، ص 13.
 
 
 
 
37

22

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 2- إحقاق الحقّ:

من الأهداف المهمّة والأساسية لتشريع الجهاد كونه الوسيلة الأنجع لذلك، إحقاق الحقّ وجعل كلمة الله تعالى هي العليا، وإبطال الباطل وجعل كلمته هي السفلى بعد اليأس من الوسائل السلميّة الأخرى، حيث يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ1.

يبيّن الله تعالى في هذه الآية نعمه ومننه على عباده، فهو وعد المسلمين بإحدى الطائفتين إمّا "العير" والسيطرة على القافلة التجارية لقريش، أو "النفير" ومواجهة جيش قريش، والأولى كان يتمنّاها المسلمون وقد اختار لهم الله سبحانه المواجهة العسكرية مع قريش وهي "الشوكة" والتي هي تعبير يرمز إلى الحدّة والشدّة، وأصلها مأخوذ من الشوك، واستعملت هذه الكلمة أيضاً في نصول الرماح، ثمّ استعملت توسّعاً في كلّ نوع من الأسلحة، لما تمثّله هذه الأسلحة من القوّة والقدرة والشدّة.

إنّ الثمرة العملية من الحرب التي يخوضها المؤمنون في سبيل الله تعالى تظهر بعد أن تضع تلك الحرب أوزارها، إذ يرى المراقب أنَّ الخير والصلاح كان يكمن في تحطيم قوّة العدوّ العسكرية لتصبح الطريق أسهل أمام انتصارات كبرى في المستقبل.

3- القضاء على الشرك:
من أهداف تشريع الحقّ تعالى للجهاد أيضاً، أنّه يريد أن يكون المعبود الأوحد في كلّ أرجاء الأرض، حيث يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ2. إنّ المراد بالفتنة هنا الشرك بالله. وكفّار قريش كانوا يقبضون على المؤمنين بالنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وبرسالته ويعذّبونهم ويجبرونهم على ترك الإسلام والرجوع إلى الكفر، فعُرف عملهم هذا بالفتنة. وعندها أُمر
 

1- سورة الانفال، الآيتان 7-8.
2- سورة الانفال، الآية 39.
 
 
 
 
38

23

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 المسلمون بقتالهم حتّى يطهّروا الأرض من عبادة غير الحق، ويكون الإيمان بالله الواحد الأحد هو الحاكم دون غيره.


إنّ الناس في جميع المجتمعات البشريّة لهم الحقّ في أن يسمعوا مقالة الحقّ لأنهم أحرار في قبول دعوة الأنبياء. ولو تصدّى فرد أو جماعة لسلب هذا الحقّ المشروع منهم أو منع صوت الحقّ من الوصول إلى الناس ليتحرّروا من قيود الأسر والعبوديّة الفكريّة والاجتماعيّة، لاعتبر هذا العمل عدوانياً بنظر كلّ عقلاء العالم فضلاً عن شريعة الأديان، وكان للمعتدى عليه حقّ الاستفادة من جميع الوسائل المتاحة لتهيئة هذه الحريّة، ولو كان ذلك عبر استخدام القوّة المشروعة كالجهاد والقتال العسكريين.

4- إزالة الظلم والعدوان:
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا1.

إنَّ المؤمن المجاهد أبعد ما يكون عن الأنانية والعيش ضمن دائرة الهموم الشخصيّة الخاصّة الضيّقة بل إنَّه إنسان رساليّ يحمل همّ الإنسانية كلّها، ويستشعر أكثر من غيره معاني ومفردات الظلم وتأثيره الهدّام على الفرد والمجتمع، ولذا تراه يبادر ومن دون أدنى خوفٍ أو وجلٍ أو تردّدٍ إلى قلع جذور الفساد والظلم. وأمّا جهاده فإنَّه لا يعرف الحدود الجغرافية ولا القوميّات ولا التكتّلات العرقية، بل هو يحمل همَّ نصرة المظلوم وتحقيق العدل، وكما ترى فإنّ الآية المباركة تحثّ المؤمنين على نصرة المستضعفين ومواجهة الظلم والعدوان كجزءٍ من مفهوم الحركة الاجتماعية الناهضة.

5- إعلاء ذكر الله:
من الأهداف الأساسيّة لتشريع القتال في سبيل الله، إعلاء ذكر الحقّ كما يقول عزّ اسمه في كتابه المجيد: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ
 
 

1- سورة النساء، الآية 75.
 
 
 
39

24

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ1.


تشريع القتال إنّما هو لحفظ المجتمع من شرّ أعداء الدين الذين يسعون إلى إطفاء نور الله وذكره. ولولا ذلك لهُدّمت المعابد الدينية والمشاعر الإلهية ونسخت العبادات والمناسك، لأن اللّه تعالى لو لم يدفع بعض الناس ببعضهم بعضاً عن طريق الإذن بالجهاد، لهدّمت أماكن العبادة والمساجد التي يذكر فيها اسم اللّه. ولو تكاسل المؤمنون وغضّوا الطرف عن فساد الطواغيت والمستكبرين ومنحوهم الطاعة، لما أبقى هؤلاء أثراً لمراكز عبادة اللّه. إذ إنّهم سيجدون الساحة خالية من العوائق فيعملون على تخريب المعابد، لأنّها تبثّ الوعي في الناس، وتعبّئهم في مجابهة الظلم والكفر والانحراف. وإنّ كلّ دعوةٍ لعبادة اللّه وتوحيده تعارضها دعوة المتجبّرين الذين يريدون أن يعبدهم الناس من دون الله تعالى تشبُّهاً منهم بالحقّ تعالى، والذين يعملون على هدم أماكن توحيد اللّه وعبادته.

إنّ الصراع قائم وباستمرار بين الدعوتين، وطبيعيّ أن يقوم المؤمنون بصدّ الدعوة المقابلة والوقوف في وجهها، طبقاً لتعاليم الإسلام العزيز الذي شرَّع الجهاد بهذا الغرض والذي يتمحور حول إعلاء ذكر الله وعلى كلّ المستويات.

6- كفّ بأس الكفّار:
من أهداف الجهاد في سبيل الله أيضاً ردّ كيد الكفّار إلى نحورهم وكفّ بأسهم، حيث يقول تعالى في القرآن الكريم: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً2.

بعد أن أمر الله تعالى نبيّه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بمواجهة أعدائه وجهادهم، رغم قلّة الناصر، بيّن له أحد الأهداف الأساسية لهذا التكليف المقدّس، ألا وهو الجهاد في سبيل الله والذي هو الطريق لكسر شوكة الظالمين وقوّتهم، وكفّ أذاهم وشدّتهم وبأسهم عن المؤمنين الموحّدين. كما أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالالتزام بهذا التكليف ولو كان وحيداً فريداً، معتمداً على الله
 

1- سورة الحج، الآية 40.
2- سورة النساء، الآية 84.
 
 
 
 
40

25

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 تعالى مصدر كلّ قدرة وقوّة في هذا العالم، إذ هو عزَّ اسمه أقوى من كلِّ ما يدبِّرُهُ الأعداء من مكائد ودسائس بوجه دعوة الحقّ.


7- الاستقلال والحرية:
الاستقلال والحرية لهما الأهمية الكبرى في الحياة الاجتماعية الناجحة، بل يشكّلان الدافع نحو الإبداع والتطوّر في كلّ الميادين، ولذلك عملت القوى المستعمرة على حرمان الشعوب منها كي يسهل لها السيطرة والتسلّط على البلاد والعباد. إنّ كلّ حضارة وكل مجتمع يحتاج إلى عناصر القوة كي تبقى لديه حالة الاستقلال والحرية، وأهمّ عناصر القوّة هي القوات المسلّحة المقتدرة، التي تمنع طمع الطامعين وتضمن عدم تقدّمهم وتجاوزهم.

ومع غياب مثل هذه القوّة سيكون من غير الممكن المحافظة على الاستقلال والحرية. ومجرّد وجود طاقات علمية واقتصادية عالية لا يعتبر لوحده ضماناً لاستقلال الدول والشعوب، بل القوات المسلحة وحضورها الدائم وقيامها بواجباتها في الميادين اللازمة هي التي تضمن الاستقلال والحرية وتضمن بقاء وتفعيل الطاقات العلمية والاقتصادية. وعليه، فالحركة الجهادية من جملة أهدافها تحقيق وحماية الاستقلال والحرية.

8- استنهاض الشعوب:
عندما تعيش المجتمعات نوعاً من الإحباط واليأس والاسترخاء والتراجع عن مواجهة الأعداء، فإن العدوّ سيتمكّن من السيطرة على مقدّراتها وسيفرض هيمنته وتسلّطه عليها وستكون ذليلة أمامه مهما كانت تمتلك من طاقات ومن نقاط قوة في مواجهته، لذلك وقبل كل شي‏ءٍ لا بدّ من تأمين إرادة المواجهة والحضور في الميادين اللازمة، واستئصال حالة الإحباط والتحييد والاسترخاء. وهذا لا يتأتّى إلّا من خلال تقديم القدوة المجاهدة بشكلها المشرق والصحيح، لتستثير كوامن الجهاد في ضمير الأمّة وتعيدها إلى ساحة الحضور. إذاً لا بدّ من إثبات القدرة الجهادية والإمساك بزمام المبادرة لتعود الأمة إلى الثقة بنفسها، وهذا ما يعبّر عنه بالعمل الجهاديّ لاستنهاض الشعوب.
 
 
 
 
 
41

26

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 المفاهيم الرئيسة


1- الهدف من تشريع الجهاد هو الحفاظ على النفس والدين، ويسمى بحقّ الدفاع.

2- إنّ الصراع في المفهوم الدينيّ هو الصراع لإرساء الحقّ الذي يريد تحقيق حكم الله على الأرض وما سواه صراع زائف وباطل.

3- من أهداف الجهاد الأساسية حماية الدين وحفظ حدوده الشرعية، خوفاً من أن تُعطّل أحكامه، والحفاظ على منهج الإسلام وعلى حدود الأمّة الإسلامية وحماية استقلالها وحماية الإنسان من ظلم الظالمين.

4- الجهاد هو طريق لصلاح الدين والدنيا على حدٍّ سواء، إذ قد يظنّ البعض أنّه على خلاف صلاح الدنيا وإعمارها، قال الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ الله فرض الجهاد وعظّمه وجعله نصره وناصره - والله ما صلح الدنيا ولا دين إلا به".

5- إنَّ للجهاد أهدافاً منها الشخصية التي تتعلَّق بذات الإنسان وما يطمح إليه من أهدافٍ خاصّة هي نتيجة خصوصيّة شخصيته الفكرية والمعنوية - ومن هذه الأهداف الشخصية: الدفاع عن النفس، الفوز بمقام الشهادة.

6- للجهاد أهداف اجتماعية هي بمجموعها تحافظ على الصالح العام للمسلمين في الدنيا والآخرة - ومن هذه الأهداف الدينية والاجتماعية: إحقاق الحقّ، القضاء على الشرك، إزالة الظلم والعدوان، إعلاء ذكر الله تعالى، كفّ بأس الكفار، الاستقلال والحرية، استنهاض الشعوب.
 
 
 
 
 
42

27

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يدرك أنَّ للجهاد في الإسلام آثاراً دنيوية وأخرويّة.
2- يتعرّف إلى أهمّ الآثار الدنيوية للجهاد.
3- يتعرّف إلى أهمّ الآثار الأخروية للجهاد.
 
 
 
 
43

28

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 آثار الجهاد

الجهاد في سبيل الله له آثارٌ بالغةُ الأهمية على النفس والمجتمع تحتّم علينا الوقوف عندها والتفكّر فيها. إنّ الحقّ تبارك وتعالى لم يشرّع شيئاً إلّا لمصلحة البشر وسعادتهم، فكيف إذا كان هذا التكليف هو الجهاد والتضحية في سبيله بأغلى ما يملكه هذا الإنسان وهي حياته ووجوده في هذا العالم؟! وهو الذي أمر عباده صراحة: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ1. وطلب من أولئك الذين يريدون الحياة الآخرة أن يسعوا في شرائها: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا2. هي إذاً مسألة بيعٍ وشراءٍ في أسمى تجارةٍ مع الله تعالى، فما عساها أن تكون الفوائد والآثار المترتّبة على هذه التجارة؟! يمكن تقسيم هذه الآثار والنتائج الناتجة عن الجهاد إلى آثار ونتائج دنيوية وأخروية:
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "بقية السيف أبقى عدداً وأكثر ولداً"3، وفيه إشارة واضحة إلى أنّ بقية السيف، وهم الذين يبقون بعد الذين قتلوا في حفظ شرفهم والدفاع عن الدين والمقدّسات وفضَّلوا الموت على الذلّ، فيكون الباقون شرفاء وعددهم أبقى، وولدهم أكثر، بخلاف الأذلّاء، فإنّ مصيرهم إلى المحو والفناء. وأبرز مثال على ذلك علي بن الحسين عليه السلام بقيّة السّيف من أبناء الحسين عليه السلام، والذي به حفظ نسل أبي الشهداء عليه السلام. فلم يتمكّن لا السّيف ولا القتل أن يقضي على هذه السّلالة الطّاهرة،
 
 

1- سورة التوبة، الآية 29.
2- سورة النساء، الآية 74.
3- السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، مصدر سابق، ج 4، ص 19.
 
 
 
 
45

29

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 ومن يسير على نهجها، بل كلّما استشهدت في هذه القافلة كوكبة من الشهداء كانت بقيّة السيف تجد طريقها سريعاً نحو النموّ والتّكاثر، وهذه سنّة مستمرّة لا تختصّ بزمان دون آخر، ونعيشها اليوم في لبنان بشكل واضح في جهادنا ضدّ العدوّ الإسرائيليّ، حيث النمو وازدياد القوة دائمان وفي تطوّر وتصاعد مستمرّ بتوفيق الله وفضله.


الآثار الدنيويَّة للجهاد
1- العزّة والرفعة:
ترتبط حياة المجتمع بحياة أفراده. فالمجتمع الذي يتواجد فيه أشخاصٌ مجاهدون بفعاليةٍ، يبقى في حالةٍ دائمةٍ من النشاطِ والتقدُّم السَّريع، ويحافظ على دوامه واستمراريّته. ولكنّ المجتمع الذي يحوي أفراداً ضعافاً وخاملين وبلا تأثير، هو مجتمعٌ ميّتٌ وفاشل.

ومن هنا، يُعدُّ حفظ المجتمع عزيزاً ومنيعاً من أفضل آثار الجهاد بنظر الإسلام العزيز، حيث يكونُ الجميع فيه مستعدين للدفاع عن الدين الإلهيّ وعن المظلومين وعن مشروع العدالة، وإلحاق الهزيمة بالعدوّ في الفرصة المناسبة؛ لإبطال كيده وإضعافه أو القضاء عليه.

إنّ فضل الجهاد كبيرٌ من هذه الجهة، وطالما يحافظ المجتمع على روحيته هذه فلن يبتلى بالذلّ أبداً، ويبقى دائراً بين إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة. وقد بيّن القرآن الكريم المنشأ لصيانة المجتمعات الإيمانية في أمره لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد، قال تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً1.

إنّ تاريخ صدر الإسلام هو خير شاهد على هذا المدّعى. فإلى الزَّمن الذي تمسّك فيه المسلمون بالجهاد، وحافظوا على كون زمام المبادرة بالهجوم في أيديهم ضمن الشرائط العامَّة، كانوا يعيشون مكلّلين بالنصر والعزّة. وإنّ تاريخنا المعاصر الذي تخطّه المقاومة الإسلامية في لبنان لهو شاهد قويّ على هذه العزّة والرفعة أيضاً. فبعد سنوات طويلة
 

1- سورة النساء، الآية 84.
 
 
 
 
 
46

30

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 ومديدة من الاستضعاف انقلبت المعادلة وصارت قوّة هذه الثلّة المستضعفة في الأرض بحجم أمّة كبيرة مترامية الأطراف، بفضل الجهاد والتضحية والإيثار في سبيل الدين ونصرة المستضعفين.


كما أنَّ العزّة والرفعة اللذين يحدثان من أثر الجهاد يمتدُّ أثرهما أحياناً إلى الأجيال اللاحقة، ولا يقتصران على الجيل الحاضر. وعلى هذا الصعيد، يقول النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أُغزوا تُورِّثوا أبناءكم مجداً"1.

2- تقوية روح المبادرة والعزيمة:
إنَّ حصول الحرب وما ينتج عنها من مشكلاتٍ يدفع الناسَ إلى التحرّك، فتصير سبباً لاهتمام الجميع بالسُّبل الآيلة إلى صدِّ العدوّ.

إنّ الحرب تمنعُ أكثر أفراد المجتمع من الخوض في الأمور الجزئية وغير المفيدة، وتبدّل روحيّة حبِّ الاسترخاء والرفاه إلى روحيّة السعي والجدّ وارتفاع المعنويات القتالية. ومن المعلوم أنَّ الجهود والقدرات العسكرية تعدُّ أيضاً من أفضل الآثار التي تنشأ على أثر تحرّك قوى العدوّ.

وفي سياق بيان أنّ الحرب تخرج الناس من حالة الخمود وتجبرهم على التحرّك، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "تعدّ الحرب أمراً جيداً من بعض النواحي، وذلك أنّها تُبرِز الشجاعة الموجودة في داخل الإنسان، وتؤدّي إلى تحريكه وإخراجه من حالة الخمود... فإنّ قوى الإنسان تتّجه دائماً نحو الخمود، وأولئك الذين يعتادون على الرخاء والرفاهية خصوصاً، سيكون حالهم أسوأ، ولكن عندما تقع حرب ما وتتجلّى خلالها الملاحم، ولا يبقى إلاّ صوت المدافع، فكلُّ ذلك يُخرج الإنسان من حالة الخمود والضعف، فتظهر حقيقة الإنسان وتبرز فعاليته وطاقاته إلى العلن"2.
 

1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج 15، ص 15.
2- بلاغ، سخنان موضوعى إمام خميني قدس سره، ج 3، ص 272.
 
 
 
 
47

31

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 3- تقوية روح الاكتفاء الذاتي:

إنّ الحربَ تؤدِّي إلى إيجاد صعوبات جمّة، وإلى وقوع المجاهدين تحت وطأة الحصار. وهذه الضغوط نفسُها تدفع بالشعب إلى قطع يد الاعتماد على الأجانب، والاعتماد على النفس في المقابل.

فعامل الاعتماد على النفس والسعي لأجل رفع الاحتياجات عن طريقه، يؤدّي إلى نموّ الأدمغة ونضجها، ولهذا السبب قال إمام الأمة قدس سره: "لقد كانت هذه الحرب وهذا الحصار الاقتصاديّ وإخراج الخبراء الأجانب هدية إلهية كنّا غافلين عنها. واليوم، مع توجّه الحكومة والجيش لحظر بضائع ناهبي العالم، وللسير في طريق الابتكار بكلّ جدٍّ ونشاط، فإنّ الأمل معقود على حصول البلد على الاكتفاء الذاتي، والنجاة من الفقر والتبعية للأعداء. ولقد رأينا بأمّ العين كيف أنّ كثيراً من المصانع والوسائل المتطوّرة - كالطائرات وغيرها من الوسائل - والتي لم يكن يُتصوّر أن يتمكّن المتخصّصون الإيرانيون من تشغيلها، في وقت كان الجميع قد مدّوا أيديهم إلى الغرب أو الشرق من أجل أن يدير متخصّصوهم هذه المصانع والوسائل. ورأينا كيف أنّه وعلى أثر الحصار الاقتصاديّ والحرب المفروضة، قام شبابنا أنفسُهم بصنع قطع الغيار الضرورية وبقيمة أقلّ من المعروض، وسدّوا باب الحاجة، وأثبتوا أنّنا إن عزمنا فنحن قادرون على القيام بكلّ شيء"1.

4- فصل الحقّ عن الباطل:
من الآثار الأخرى المهمّة للجهاد، فصل خطّ النفاق عن المجتمع الإسلاميّ ومعرفة الصديق من العدوّ. ففي كلِّ مجتمع يعيش المؤمنون الخُلّص جنباً إلى جنب مع ضعاف الإيمان والمنافقين من الناس، ومن الصَّعب جداً في زمن السِّلم والصُّلح تمييز هذه الفئات، إذ كثيراً ما يُظهر المنافقون وضعاف الإيمان أنفسهم بصورة المدافعين عن الحقّ أكثر من المؤمنين الحقيقيين. ولكن في الشدائد، وخاصّة في أوقات الحرب والجهاد، تُعرف معادن
 

1- بلاغ، سخنان موضوعى إمام خميني قدس سره، ج 3، ص 454.
 
 
 
48

32

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 الرجال وتمتاز صفوف الحقّ عن الباطل، فيبقى المؤمنون الحقيقيون، الصابرون والأوفياء في الساحة حتّى النهاية، في الوقت الذي يُخلي الآخرون الميدان ويفرّون.


ولقد أشار القرآن المجيد إلى هذه الحقيقة بشكلٍ متكرِّرٍ، وبيَّن أنّ اللهَ أراد أن يمتاز الخُلّص عن غير الخُلّص في ساحة الحرب ضمن قاعدة الأسباب والمسبّبات: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾1.

وفي آية أخرى، ولأجل توبيخ المنافقين، يخاطب تعالى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، قائلاً: ﴿عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ2, ومعنى الآية، أنّه قد عفا الله عنك "وهو دعاء له بالعفو" لم أذنت لهم في التخلّف والقعود؟ ولو شئت لم تأذن لهم وكانوا أحقّ به، حتّى يتبيّن لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين، فيتميّز عندك كذبهم ونفاقهم "لو خرجوا معك إلى الحرب"، والآية في مقام دعوى ظهور كذبهم ونفاقهم وأنّهم مفتضحون بأدنى امتحان3.

5- الوحدة والتماسك:
إنّ الشَّعب الذي يكون مُبتَلىً في أيام الصُّلح والهدوء بالمشاكل الداخلية، ومشغولاً بالاختلافات الجزئية، يتوحّد على أثر اشتعال الحرب وظهور العدوّ، ويحوّل كلّ طاقاته نحو المواجهة. فإنّ الحرب تقود جميع الطاقات والقوى في اتجاه واحد، وتجعلها تنضوي تحت راية واحدة، وتوجِدُ روح التعاون فيما بينها، وتصير سبباً في بروز الإيثار والتسامح وعشرات الصفات الأخلاقية السامية، والله تعالى أشار إلى هذه الحقيقة بوضوح في كتابه المكرَّمِ عندما قال: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا4.
 

1- سورة محمد ، الآية 31.
2- سورة التوبة، الآية 43.
3- العلامة الطباطبائي، السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران ـ قم، 1417هـ.، ط 5، ج 9، ص 284-285.
4- سورة آل عمران، الآية 103.
 
 
 
49

33

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 6- النصر:

يُعدّ الانتصار على العدو، في بعض الموارد، أحد أفضل آثار الجهاد، لأنّه مع عدم بذل الجهد في ساحة الحرب لا يتحقّق الانتصار، والشعب الذي قد جلس منتظراً النصر دون تحمّل العناء وتقديم الجهود، لن يقطف سوى الحسرة جرّاء ذلك ويعيش الهوان والذلّ.

والقرآن المجيد، بعد تعداد الآثار المعنوية والأخروية للجهاد، يشير في سورة الصف المباركة إلى هذا الأثر الدنيويّ، حيث يقول تعالى: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ1.

وممّا ينبغي الإشارة إليه أنّ المجاهدين في سبيل الله منتصرون وأعزاء حتماً، سواء عن طريق الانتصار الظاهريّ وهزيمة العدوّ، أم بنيل الشهادة والوصول إلى جوار رحمة الحقّ سبحانه، حيث قد أثنى القرآن الكريم على هاتين النتيجتين: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ 2.

الآثار الأخروية للجهاد
1- البشرى والفوز العظيم:
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ3.

عرّف اللّه سبحانه وتعالى نفسه في هذه الآية بأنّه مشتر، والمؤمنين بأنّهم بائعون، ولمّا كانت كلّ معاملة تتكوّن في الحقيقة من خمسة أركان أساسيّة، وهي عبارة عن: المشتري، والبائع، والمتاع، والثمن، وسند المعاملة أو وثيقتها، فقد أشار اللّه سبحانه إلى كلّ هذه الأركان، فجعل نفسه مشترياً، والمؤمنين بائعين، وأموالهم وأنفسهم متاعاً وبضاعة، والجنّة
 

1- سورة الصف، الآية 13.
2- سورة التوبة، الآية 52.
3- سورة التوبة، الآية 111.
 
 
 
 
50

34

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 ثمناً لهذه المعاملة. وأما طريقة تسليم البضاعة فبواسطة القتال. والحقّ سبحانه وتعالى حاضر في كلّ مكان وبالأخصّ في ميدان الجهاد لتقبّل هذه الصفقة، سواء كانت روحاً أم مالاً يبذل، وإذا كان هذا القتال في سبيله فهو تعالى سوف يكون المشتري فيقبل هذه الأرواح والجهود والمساعي التي تبذل وتصرف في سبيله، أي سبيل إحقاق الحق والعدالة، والحريّة والخلاص لجميع البشر من قبضة الكفر والظلم والفساد.


وثمن هذه المعاملة وإن كان مؤجّلاً، إلّا أنّه مضمون، لأنّ اللّه تعالى لقدرته واستغنائه عن الجميع، لا يوجد من هو أوفى بعهده منه. فلا هو ينسى، ولا يعجز عن الأداء، ولا يفعل ما يخالف الحكمة ولا يخلف وعده والعياذ باللّه، وعلى هذا فلا يبقى أيّ مجال للشكّ في وفائه بعهده. والأروع من كلّ شي‏ء أنّه تعالى قد بارك للطّرف المقابل صفقته، وتمنّى له أن تكون صفقة وفيرة الربح، تماماً كما هو المتعارف بين التجّار، والأكثر من ذلك وعده بالبشرى والفوز العظيم على هذه المعاملة العظيمة والصفقة الكبيرة. فهل يتصوّر الإنسان رحمة ومحبّة أعلى من هذه؟!

ويقول الله عزّ وجل في آية أخرى من كتابه العزيز: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ 1.

الآيات الكريمة هي في مقام بيان أجر المجاهدين في سبيل الله من أجل الذود والحفاظ على دينهم السماويّ المقدَّس. فالمؤمنون الذين ‏صدّقوا بوحدانية اللّه تعالى وهاجروا عن أوطانهم التي هي ديار الكفر، وجاهدوا الكفّار في طريق مرضاة اللّه وإعلاء كلمة الحقّ، وبذلوا المال والنفس في سبيل الله حتّى الشهادة، وتحمّلوا المشاقّ من جرّاء ذلك كلّه، هم أَعظم درجة عند اللَّه من سواهم من المؤمنين الّذين لم يكن لهم نصيب من ذلك كلّه، وهم المستحقّون للفوز بثواب الله الموعود ما داموا قد استمرّوا على عقيدتهم وإيمانهم. والله تعالى يزفّ إليهم البشرى - بما صبروا واحتسبوا في جنبه - بالفوز والرحمة والرضوان.
 

1- سورة التوبة، الآيات 20-22.
 
 
 
51

35

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 ويبشّرهم أيضاً بالجنّة خالدين فيها إلى الأبد، مع ما فيها من النّعم الدائمة التي لا حدّ لها ولا انقطاع. هذا هو أجر وثواب من يهب نفسه وماله لله ويجاهد في سبيله ويضحّي بأغلى ما يملك من أجله.


2- المغفرة والجنة:
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ1.

لقد شبّه القرآن الكريم في مواضع عديدة عمل الإنسان في الحياة الدنيا بالتجارة، وأنّ الناس في الحياة الدنيا تجّار يأتون إلى هذا المتجر الكبير برأس مال وهبه اللّه سبحانه وتعالى لهم، فمنهم من يربح ويسعد، ومنهم من لا يجني سوى الخيبة والخسران. والمجاهدون في سبيل اللّه هم من الصنف الأول.

إنّ الهدف الأساسيّ لهذه الآيات المباركة هو الدعوة إلى الإيمان والجهاد في سبيل اللّه، وهما وإن عُدّا من الواجبات المفروضة، إلّا أنّ الآيات هنا لم تطرحهما بصيغة الأمر، بل قدّمتهما بعرض تجاريّ مقترن بتعابير تبيّن اللطف اللامتناهي للبارئ عزّ وجلّ.

فممّا لا شكّ فيه أنّ النجاة من العذاب الأليم أمنية كلّ إنسان، وهذه النجاة موقوفة كما يقول تبارك وتعالى على أمرين أساسييّن: الإيمان، والجهاد.

فالإيمان بالله وبرسوله، والجهاد بالنفس والمال هما رأس مال هذه التجارة المنجية من العذاب، فالإيمان بالرّسول لا ينفصل عن الإيمان باللّه تعالى، كما أنّ الجهاد بالنفس لا ينفصل عن الجهاد بالمال، ذلك أنّ جميع الحروب تستلزم‏ وجود الوسائل والإمكانات المالية، وعند التدقيق في الآية المباركة نلاحظ أنّ الله تعالى قد قدّم الجهاد بالمال على
 

1- سورة الصف، الآيات 10-13.
 
 
 
 
 
52

36

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 الجهاد بالنفس، لا باعتباره أكثر أهميّة، بل بلحاظ أنّه مقدّمة للجهاد بالنفس، لأنّ مستلزمات الجهاد لا تتهيّأ إلّا عند توفّر الإمكانات الماديّة.


أمّا العوض لهذه المعاملة العظيمة والترجمة العمليّة لهذه النجاة الموعودة فهي المغفرة والجنة. إذ إنّ أوّل هدية يتحف اللّه سبحانه بها عباده الذين جاهدوا في سبيل طريق الحقّ وباعوا مهجهم في سبيل الدين العظيم، هي مغفرة جميع الذنوب، لأنّ هذه المغفرة مقدّمة للدخول في جنّة الخلد ولا معنى لدخولها مع بقاء بعض الذنوب.

ثمَّ إنَّ مقابلة المال والنفس المبذولين وهما المتاع القليل، بجنّات عدن الخالدة، مما تطيب به نفسُ المؤمن وتقوى إرادته لبذل النَّفس والتضحية بها، واختيار البقاء على الفناء. ثم يبشّرهم الحقّ تعالى في نهاية المطاف بنعمة يحبّونها وهي النصر القريب. فيا لها من تجارة مباركة مربحة تشتمل على النجاة من العذاب، والمغفرة والجنة، والفتح القريب. ولذلك عبّر عنها البارئ سبحانه بالفوز العظيم، وزفَّ لهم بشراها.

3- هداية السبيل:
قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ1.

بالرغم من كلّ المشاكل التي تحيط بطريق المسير إلى اللّه إلّا أنّ هناك حقيقة ثابتة، وهي أنّ اللّه يمنح الهداية والقوّة والاطمئنان مقابل هذه المشاكل للذين يجاهدون فيه. والجهاد هو بذل الجهد ولا يكون إلّا فيما يخالف هوى النَّفس ومقتضى الطَّبع. وله معنى واسع ومطلق فهو يشمل كلّ سعيٍ وجهدٍ في سبيل اللّه ومن أجل الوصول إلى الأهداف الإلهية. سواء كان في سبيل كسب المعرفة أو جهاد النفس، أو مواجهة الأعداء، أو الصبر على الطاعة، أو الصبر عن المعصية، أو في إعانة الضعفاء، أو في الإقدام على أيّ عملٍ حسن وصالح! ولكن هذه الهداية مشروطة بأمر أساسيٍّ وهي أن تكون في الله فقط، بمعنى أن تكون خالصة له. والمراد بالسبل الطرق المتعدّدة التي تنتهي إلى اللّه.
 

1- سورة العنكبوت، الآية 69.
 
 
 
53

37

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 وعليه، فإنّ الجهاد في أيّ طريق كان من هذه الطرق إذا كان خالصاً لوجه الله فهو سبب للهداية إلى الطريق الذي ينتهي إلى اللّه. وهذا وعدٌ وعده اللّه لجميع المجاهدين في سبيله، وأكّده بأنواع التأكيدات، فجعل الهداية والتوفيق والانتصار والرقيّ في أمرين أساسييّن هما "الجهاد" و"خلوص النية".


4- محبّة الحقّ تعالى:
يقول الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ1. تبيّن الآية الكريمة وتؤكّد بشكل واضح أنّ الذين يقاتلون في سبيل الله هم مورد محبّته. وكما نلاحظ أنّ التأكيد هنا ليس على القتال فحسب، بل على القتال الذي هو "في سبيله" تعالى وحده، أضف إلى ذلك خاصّية أخرى ينبغي أن يتمتّع بها المجاهدون لكي ينعموا بمحبة الحقّ، وهي ثباتهم ووقوفهم بشكل قويّ وراسخ أمام العدوّ بصورة تعكس قوة صفّهم الذي ليس فيه تصدُّع أو تخلخل. فالانسجام ووحدة الصفوف أمام الأعداء في ميدان القتال من العوامل المهمّة والمؤثّرة في تحقيق النصر.

وهذا المبدأ لا يجدر بنا الالتزام به في الحروب العسكرية فحسب، بل علينا تجسيده في الحروب الثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وإلّا فلن يكون النصر التامّ حليفنا. فتشبيه القرآن العدوّ بأنّه كالسيل العارم والمدمّر والذي لا يمكن صدّه والسيطرة عليه إلّا من خلال سدّ حديديّ محكم ومنيع، والتعبير بأنّ على المؤمنين أن يكونوا كالبنيان المرصوص من أروع التعابير عن الوحدة والرسوخ. وممّا لا شكّ فيه أنّ لكلّ جزء في السدّ، دوراً معيّناً في مواجهة السيل، وهذا الدور مهمّ ومؤثّر على جميع الأجزاء الأخرى، وفي حالة قوّته وتماسكه وعدم وجود تشقّقات أو ثغرات فيه، سيصعب عندئذٍ نفوذ العدوّ منه، وهكذا هو حال المؤمنين في تراصّهم ووحدتهم إذا ما حاول العدوّ النيل منهم فإنّه سيرى المواجهة القوية وسيعود خائباً.
 
 

1- سورة الصف، الآية 4.
 
 
 
54

38

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 وإذا كان البارئ عزّ وجلّ يعلن حبّه للمجاهدين المتراصّين الذين يشكّلون وحدة متماسكة، فإنّه يلزم من ذلك أنّه سبحانه وفي نفس الوقت يعلن سخطه وغضبه على الجموع المسلمة إذا كانت متمزّقة ومشتّتة، ونتيجته هو ما نراه الآن متجسّداً في تسلّط مجموعة صغيرة من الصهاينة على أرضنا الإسلامية وعددنا يربو على المليار مسلم1!!

 


1- يقول السيد الطباطبائي في تفسير الميزان (ج9، ص249): والآية تعلِّل خصوص المورد ـ وهو أن يعِدوا الثبات في القتال ثم ينهزموا ـ بالالتزام كما أن الآية السابقة ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون﴾ تعلِّل التوبيخ على مطلق أن يقولوا ما لايفعلون،وذلك أن الله سبحانه إذا أحب الذين يقاتلون فيلزمون مكانهم ولايزولون كان لازمه أن يبغض الذين يعِدون أن يثبتوا ثم ينهزمون إذا حضروا المعركة.

 

55


39

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 المفاهيم الرئيسة


1- للجهاد في سبيل الله آثار مشرقة على صعيدي الفرد والمجتمع.

2- من الآثار الدنيويَّة للجهاد: العزّة والرفعة، وتقوية روح المبادرة والعزيمة، وتقوية روح الاكتفاء الذاتيّ.

3- من الآثار الدنيويَّة للجهاد: فصل الحقّ عن الباطل، والوحدة والتماسك، فالشَّعب الذي يكون مُبتَلىً في أيام الصُّلح والهدوء بالمشاكل الداخلية، ومشغولاً بالاختلافات الجزئية، يتوحّد على أثر اشتعال الحرب وظهور العدوّ، ويحوّل كلّ طاقاته نحو المواجهة.

4- من الآثار الدنيويَّة للجهاد: النصر، إذ يُعدّ الانتصار على العدوّ، أحد أفضل آثار الجهاد، فالشعب الذي قد جلس منتظراً النصر دون تحمّل العناء وتقديم الجهود، لن يقطف سوى الحسرة جرّاء ذلك ويعيش الهوان والذلّ.

5- من الآثار الأخروية للجهاد: البشرى والفوز العظيم، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.

6- من الآثار الأخروية للجهاد: الفوز بالثواب، يقول الله تعالى: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾.

7- من الآثار الأخروية للجهاد: هداية السبيل، يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

8- من الآثار الأخروية للجهاد: محبّة الحقّ، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾.
 
 
 
 
56

40

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشخّص الشروط اللازمة التي يتوقّف عليها الجهاد.
2- يميّز الشروط المعنوية للجهاد.
3- يبيّن كيفيّة تحقيق المجاهد للشروط المعنوية للجهاد.
 
 
 
 
 
59

41

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 مدخل

إنّ الجهاد عمليةٌ هدفها تحقيقُ إحدى الحسنيين: إمّا النَّصر والغلبة على العدوّ وبالتالي رفع ظلمه وردّ عدوانه وبسط العدالة ورفع لواء الحرية عالياً، وإمّا الفوز بوسام الشهادة في سبيل الله والذي يؤدّي إلى الفوز بالجنة. ولكي تتمّ هذه العملية بأبهى صور النجاح والكمال، كان لا بدّ من وجود مجموعة من الشروط والظروف المعنوية والعقائدية، بحيث يصير الوصول إلى الأهداف الإلهية الكبرى متيسّراً بفعل هذه الشروط مجتمعة.

الإخلاص لله تعالى
الإخلاص يعني تخليص النيّة أو الدّافع نحو العمل من كلّ شيءٍ عدا الله سبحانه وتعالى، بحيث لا يكون للإنسان قصد أو دافع من وراء أيّ فعل أو حركة أو حتّى تفكير وميل سوى رضا الله والتقرّب إليه، وهو روح العبودية لله تعالى وجوهرها. وهو من الصفات الهامّة التي ينبغي أن يتحلّى بها المجاهد لأنّها منشأ وأصل كلّ هداية وتوفيق. ولكي يصدق على الإنسان أنّه مجاهد في سبيل الله لا بدّ أن يكون دافعه نحو الجهاد هو الله عزّ وجل فقط دون أحد سواه. فالله عزّ اسمه أمر الناس ودعاهم إلى عبادته حيث قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ1, ولكنه لم يأمر بأيّ عبادة بل أمر عزّ وجلّ بالعبادة الخالصة له التي لا يشاركه فيها أحد، قال تعالى:
 

1- سورة يوسف، الآية 40.
 
 
 
 
61

42

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾1, لذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه"2.


مخاطر ترك الإخلاص
إنّ الأعمال مرهونةٌ بالنيّات وإذا لم تكن النوايا خالصة فهذا يعني أنّه يشوبها الشرك بحسب ما صرّحت به الروايات، والله تعالى لا يقبل إلّا ما كان له خالصاً له كما في الحديث القدسيّ المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "يقول قال اللَّه عزّ وجلّ: أَنا خير شريك، من أَشرك معي غيري في عملٍ عمله لم أَقبله إلّا ما كان لي خالصاً"3.

ويعرّف الإمام الصادق عليه السلام الإخلاص فيقول: "والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا الله عزّ وجلّ، والنيّة أفضل من العمل، ألا وإنّ النّيّة هي العمل. ثمّ تلا قوله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾4 يَعْنِي عَلَى نِيَّتِهِ"5.

فإن جعل العمل والعبادة والحياة لله لا يكون بمجرّد تطبيقها على ما يريده الله في الظاهر فقط، وليس بموافقتها لأحكامه فحسب، بل بمعنى أن لا نطلب من ورائها إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الإخلاص الذي يتوقّف عليه قبول الأعمال عند الله تعالى. فالإخلاص هو تصحيح النيّة وتوجيهها نحو الله وما يريده منّا في كل حركة وسكنة وقول وفعل: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ6.

فالمجاهد في سبيل الله عند أدائه لواجباته وتكاليفه الشرعيّة هو في حالة عبادة، ولأعماله بعدٌ إلهيّ يمكن أن يرفعه إلى أعلى عليّين ويقرّبه من الحق نجيّاً في حال اتّسمت أعماله ونواياه بالإخلاص. أمّا إذا لم تكن النوايا خالصةً ولم يكن الدافع الأساسيّ من وراء الجهاد رضا الله وأداء التكليف الشرعيّ فلن تكون الأعمال مقبولةً، وبالتالي لن ينال الأجر والثواب
 

 
 
 
 
 
62

 


43

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 الذي يستحقّه المجاهد. لأنّ الذاهب إلى ميادين الجهاد لن يصدق عليه وصف المجاهد في سبيل الله ما لم تكن هجرته إلى الله، وما لم يكن دافعه الأساسيّ وهدفه النهائيّ هو الحقّ سبحانه وتعالى لا غير: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا1.


أمثلة على عدم الإخلاص
أ- حبّ المدح: من أهم علامات الإخلاص عدم انتظار المديح من أحد، كما في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "العمل الخالص، الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله"2.

ب- الرِّياءُ: وهو إظهار الأعمال الصالحة والصفات الحميدة والعقائد الحقّة لأجل الحصول على منزلة في قلوب الناس، والاشتهار بينهم، وهذا من الرياء المبطل للعبادة. قال الله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ3

وفي رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ الجنّة تكلّمت، وقالت: إنِّي حرامٌ على كلَّ بخيلٍ ومراءٍ"4.

وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "كلُّ رياءٍ شركٌ، إنّه من عملَ للنَّاس كان ثوابه على النَّاس، ومن عمِلَ لله كان ثوابُهُ على الله"5.

ج- العُجْب: وهو تعظيم العمل واستكثاره والسرور به والتغنّج والدلال بواسطته من دون أيّ هدفٍ إلهيّ. عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من دخله العُجْبُ هلك"6.

وعن عليّ بن سويد عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن العجب الذي يُفسد العمل
 

1- سورة الكهف، الآية 110.
2- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 16.
3- سورة البقرة، الآية 264.
4- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 1، ص 107.
5- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص293.
6- المصدر نفسه، ج 2، ص 313.
 
 
 
 
63

44

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 فقال: "العجب درجات، منها أن يزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيعجبه ويحسب أنّه يُحسِن صنعاً. ومنها أن يُؤمِن العبد بربّه فيَمُنَّ على الله عزّ وجلّ ولله عليه فيه المَنُّ"1.


د- حبّ الرئاسة: قال الله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ2. وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "حُبُّ الرّئاسة رأس المحن"3. وعنه عليه السلام أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خبر المعراج قال: "قال الله تبارك وتعالى: يا أحمد لو صلّى العبد صلاة أهل السماء والأرض، ويصوم صيام أهل السماء والأرض، ويطوي عن الطعام مثل الملائكة، ولبس لباس العابدين، ثم أرى في قلبه من حبّ الدنيا ذرّةً أو سمعتها أو رئاستها أو صيتها أو زينتها، لا يجاورني في داري، ولأَنزعنّ من قلبه محبّتي، ولأُظلمنّ قلبه حتّى ينساني، ولا أذيقه حلاوة محبّتي"4.

الذكر الدائم لله
من الأوامر الأخرى التي أوصى بها القرآن المجيدُ المؤمنينَ المجاهدين هي أن يذكروا الله في ساحة الحرب والقتال، حيث يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ﴾5.

فذكر الله يوجّه المؤمنين نحو القدرة الإلهية اللامتناهية، وهو ما يؤدّي بدوره إلى تقوية معنويّاتهم وثباتهم. يقولُ الإمام عليّ عليه السلام بشأن ذكر الله في الحرب: "إذا لقيتم عدوّكم فأقلّوا الكلام وأكثروا ذكر الله عزّ وجلّ"6.

ومن الممكن أن يكون المراد من "ذكر الله" في ساحة الحرب، هو استحضار المعارف الإلهية التي تتناسب مع روحيّة طلب العون والمساعدة الموجودة لدى كلّ مجاهد خلال القتال.
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 313.
2- سورة القصص، الآية 83.
3- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 11، ص 383.
4- المصدر نفسه، ج 12، ص 36.
5- سورة الانفال، الآية 45.
6- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 93، ص 154.
 
 
 
64

45

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 وإنّ ترك التعلّق بالدنيا وزخارفها هو الآخر ثمرة جميلة لذكر الله في الحرب، حيث يؤدّي التعلّق بها إلى ضعف المقاتلين. ولذا، يطلب الإمام السجّاد عليه السلام من الله في دعائه أن يُنسي حماةَ الثغورِ هذه الزينة الدنيوية، فيقول عليه السلام: "اللهم صلّ على محمد وآله وأَنسِهم عند لقائهم العدوَّ ذكر دنياهم الخدّاعة الغرور، وامحُ عن قلوبهم خطراتِ المال الفَتُون، واجعلِ الجنَّةَ نُصبَ أعينِهِم، ولوِّحْ منها لأبصارهمْ ما أعدَدتَ فيها من مساكنِ الخُلدِ ومنازلِ الكرامةِ والحورِ الحسانِ والأنهارِ المطّردةِ بأنواعِ الأشربةِ والأشجارِ المتدلّيةِ بصفوفِ الثّمرِ، حتى لا يَهُمَّ أحدٌ منهم بالإدبارِ ولا يُحدِّثَ نفسَهُ عن قِرْنِهِ بفرار"1.


الصبر
من العوامل والشروط الأخرى للتوفيق في الجهاد، وتحقيق الغايات منه، هو تحلِّي المجاهد بالصَّبر، الذي وصفته الروايات الشريفة بأنه رأس الإيمان. فقد سُئل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن الإيمان ما هو؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "الصبر"2. وعن الإمام عليّ عليه السلام قال: "الصبر أن يحتمل الرجل ما يَنُوبه ويكظم ما يُغضبه"3.

والصبر كما عُرِّف "الصبر هو حبس النفس عن الجزع عند المصيبة وعن ترك الطاعة لمشقّتها وعن ارتكاب المعصية لغلبة شهوتها، والشكر مكافاة نعم الله في جميع الأحوال باللسان والجنان والأركان والحلم ضبط النفس عن المبادرة إلى الانتقام فيما يحسن لا مطلقاً"4.

وتبرز قيمة الصبر وأهميّته في حياة المجاهدين من خلال ما ورد من آيات تشير إلى أنّ الصبر من أرقى الطرق التي يمكن معها تحصيل الرضا الإلهيّ والوصول إلى مقام التقوى، كما يقول الله تعالى: ﴿بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ


1- الامام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجادية، دعاء أهل الثغور.
2- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 50.
3- علي بن محمد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، الشيخ حسين الحسيني البيرجندي، دار الحديث، لا.م، لا.ت، ط1، ص 56.
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 67، ص 372.
 
 
 
65

46

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ1. فنرى كيف أنّ الله سبحانه وتعالى ربط الإمداد بالملائكة والوصول إلى مقام التقوى بالصبر فقدّمه، وما ذلك إلّا للعلاقة الجوهريّة به.


فالخروج من العبوديّة للنفس إلى تحصيل الرضا الإلهيّ لا يكون إلّا بواسطة الصبر، لذلك نرى الإمام المقدّس روح الله الموسوي الخميني قدس سره يقول: "من النتائج الكبيرة والثمار العظيمة لتحرّر الإنسان من عبوديّة النفس، الصبر في البلايا والنوائب"2. وهل هناك موطنٌ أعظم للتحرّر من عبوديّة النَّفس من ساحة الجهاد وساحة الاستشهاد، والتي هي ساحة الصبر؟ وعليه فالتحرّر من عبوديّة النفس ينتج صبراً وإيماناً، كما أنّ الصبر في ساحات الجهاد ينتج عبودية لله وتحرراً من عبودية النَّفس.

الصبر وتحقّق النصر
ولأهميّة الصبر في تحقيق النصر كان لا بدّ من أن نُفرد له بحثاً خاصّاً كونه أحد أهم أسباب النصر، فقد قال الله تعالى: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ3. كما أنّه تعالى قيّد الغلبة بالصبر، فقال تعالى: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ4.

فلم يعطِ الله تعالى أيّ اهتمام للعدوّ حتّى لو كان كثيراً ببركة الصبر الذي يعتبر شرطاً رئيساً للانتصار، وبالتالي، نرى أنّ الله أخبر عن حالة المسلمين في حُنين عندما راهنوا على عددهم فقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا﴾5.

وهذا ما نفهمه من السنّة الإلهية التي تعتبر النصر من الله تعالى، ولكن بعد تحقّق الشرط الأساسيّ له وهو الصبر: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾6.
 

1- سورة آل عمران، الآية 125.
2- الامام الخميني، الأربعون حديثاً، تعريب محمد الغروي، دار التعارف، لبنان، 1996م، ط6، ص 306، باب الصبر.
3- سورة البقرة، الآية 249.
4- سورة الانفال، الآية 65.
5- سورة التوبة، الآية 25.
6- سورة محمد، الآية 7.
 
 
 
 
66

47

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 ويقول الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ1.


الشجاعة
الشجاعة من أهمّ الصفات التي تميَّز شخصية المقاتل في سبيل الله، والتي بها يقتحم الموت بجسده ولا يستشعر الضعف أمام مقدّرات الأعداء، ويكون ببركة الشجاعة والإقدام جديراً بإحدى الحسنيين النصر أو الشهادة.

والشجاعة في اللغة "هي شدَّةُ القلب عند البأس والحرب، والشّجاع هو من قويَ قلبه، واستهان بالحروب، وكان جريئاً ومقداماً"2.

فالشجاعة صفة في النفس تدفع بالمجاهد إلى الثبات في ميادين الحرب والجهاد في مواجهة أعداء الله تعالى وأعداء الإنسانية، وتؤهّله لتحمُّل الشدائد والصعاب وأعباء القتال ولوازمه.

قال تعالى: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ3.

وفي الحديث: قيل للحسن بن عليّ عليه السلام: ما الشجاعة؟ قال: "موافقة الأقران والصبر عند الطِعان"4.

كيف يتحلّى المجاهد بصفة الشجاعة؟
إنّ تكوين صفة الشجاعة هو أمر ميسور وسهل، لأنّها من الصفات والسجايا المرتكزة في جبلّة الإنسان وفطرته وغرائزه، وهي تعود إلى ضبط الغريزة الغضبيّة وجعلها معتدلة بين الإفراط والتهوّر والزيادة، وبين التفريط والنقص والشلل.

قال الإمام عليّ عليه السلام "الفضائل أربعة أجناس: أحدها الحكمة وقوامها في الفكرة،
 

1- سورة آل عمران، الآية 142.
2- الشيخ فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، نشر مرتضوي، إيران، 1362 ش، ط2، مادة شجع، ج 4، ص 351.
3- سورة الفتح، الآية 29.
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 75، ص 104.
 
 
 
 
67

48

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 والثاني العفّة وقوامها الشهوة، والثالث القوّة وقوامها الغضب، والرابع العدل وقوامها في اعتدال قوى النفس"1.


إن قوّة الاعتدال مخلوقةٌ فينا، وهي تتحكّم بقوّة الشهوة والغضب والوهم، وتجعل هذه القوى في حدِّها الأوسط من دون إفراطٍ أو تفريط، وتعتمد هذه الصفة (العدل) على ميزان العقل والشرع اللذين تلطّف الله بهما على الإنسان بمنِّه وكرمه ورحمته.

وعليه فغريزة الاعتدال تضبط القوّة الغضبيّة وتربِّي الإنسان على الشجاعة التي هي الحدّ الوسط الممدوح، فلا يكون خمولاً يعيش الخوف والضعف والكسل وقلَّة الصبر والاستسلام للمصائب وعدم الغيرة والخمود وعمل الظلم وقبول الرذائل وعدم الثبات في المواقف الحسّاسة وميادين الحروب، وكذلك لا يكون متهوّراً ومفرطاً في قوّته الغضبيّة بحيث يتوتّر لأَتفه الأسباب وينفعل لأيِّ استفزاز، فقد يقتل النفس المحترمة بغير الحقّ وقد يتسرّع بأخذ قرار مخالفة القيادة الحكيمة، فلا يُقوّم في الوقت المناسب، ولا يتراجع في الوقت المناسب، فهو انفعاليّ من دون تثبُّت، ويدور في دائرة وحاله أشبه بالجنون.

إنّ تربية النفس على الاعتدال والشجاعة أمر ميسور ومقدور، فمتى رأى المجاهد في نفسه الشجاعة فليحمد الله على هذه النعمة. وإن رأى في نفسه خلاف ذلك من إفراط أو تفريط فليعمل على ترويض نفسه وتهذيبها ضمن نقطتين:
العلاج العلميّ:
وهو عملية إقناع النفس بآثار الشجاعة العظيمة وبركاتها الكبيرة، ويعلم أنّ هذه الخصلة نعمة من الله ليدافع بها عن كرامته وكرامة المسلمين، وليدافع بها عن دينه وشرفه ووطنه، وأنّ الشجاع هو على خطى الأئمة الأطهار عليهم السلام، وعلى رأسهم الإمام عليّ عليه السلام الكرّار في الحروب ذو البأس والثبات كثبات الجبال أمام الرياح العاتية، ويكفي في ذلك أنّ الشجاعة تفتح أعظم باب لرحمة الله تعالى وهو باب لقاء الله جلَّ شأنه.
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 75، ص 81.
 
 
 
 
68

49

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 ومن الأمور المفيدة والمهمة التي ينبغي أن يعلمها المجاهد الشّجاع أنّ الجهاد ليس سبباً في تقصير العمر أو الحدّ منه، كما وأن اعتزال الجهاد وتركه ليس هو الآخر سبباً لطول العمر ومدّته، لأنّ ساعة الإنسان إذا ما حان وقتها فلا مبدّل لها كما قال عزّ وجلّ: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ1. ونفهم أيضاً، من كلام أمير المؤمنين عليه السلام مع ولده محمد ابن الحنفية في معركة الجمل عندما أمره بالتقدّم فقال له: "احمل على القوم"، فقال: لا أجد متقدّماً إلّا على سهمٍ أو سنان، فقال عليّ عليه السلام: "يا بنيّ احمل بين الأسنّة فإنّ للموت عليك جُنّة"2.


والظاهر أنّ ضربات الأسنّة ورشقات السّهام، منعته من التقدّم فوقف قليلاً، فسرعان ما وصل إليه الأمير عليه السلام قائلاً: "احمل بين الأسنّة" بإشارة واضحةٍ إلى أنّ خوضَ غمار الحرب في أوجها ليس سبباً مباشراً للخوف أو الموت.

العلاج العمليّ:
ويكون في أمور:
- الإقدام على الأمور العظيمة والمخيفة مرّة بعد أخرى، فإنّ ذلك يبطل الخوف والتردّد.
- الذهاب إلى ميادين الحرب، فإنها أمكنة تربّي القلب على الثبات والعناد والتحدِّيات.
- الجهاد والمشاركة العمليّة في القتال مع أعداء الله فإنّها ساعات تصقل النفس بالشجاعة والإقدام.
 
 

1- سورة النساء، الآية 78.
2- الشيخ المحمودي، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج 1، ص 317.
 
 
 
 
69

50

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 المفاهيم الرئيسية


1- الجهاد لا يتمّ بأبهى صور النجاح والكمال، إلّا بتحقيق مجموعة من الشروط والظروف المعنوية والعقائدية، بحيث يصير الوصول إلى الأهداف الإلهية الكبرى متيسّراً بفعل اجتماع شروطها.

2- من شروط الجهاد المعنوية، الإخلاص - وهو يعني تخليص النيّة أو الدّافع نحو العمل من كلّ شيءٍ ما عدا الله سبحانه وتعالى.

3- من علامات فقدان الإخلاص لدى المرء: حبّه للمدح، ووجود الرِّياء، والعُجْب، وحبّ الرئاسة.

4- من شروط الجهاد المعنوية: الذكر الدائم لله، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ﴾.

5- من شروط الجهاد المعنوية: الصبر، يقول الله تعالى: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾, وهو "حبس النفس على المكروه امتثالاً لأمر الله تعالى".

6- من شروط الجهاد المعنوية: الشجاعة، يقول الله تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾.

7- الشجاعة هي شدَّةُ القلب عند البأس والحرب، والشّجاع هو من قويَ قلبه، واستهان بالحروب، وكان جريئاً ومقداماً.

8-  تحصيل صفة الشجاعة من خلال الإقدام على الأمور العظيمة والمخيفة مرّة بعد أخرى فإن ذلك يبطل الخوف والتردّد.
 
 
 
 
 
 
70

51

الدرس الخامس: الشروط الماديّة للجهاد

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن الحكمة من توقّف الجهاد على تحقّق الشروط المادية.
2- يدرك أنّ الاستعداد المادّي للحرب واجب شرعيّ.
3- يتعرّف الى بعض التوصيات العسكرية المهمّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام.
 
 
 
 
 
71

52

الدرس الخامس: الشروط الماديّة للجهاد

 وجوب الإعداد والاستعداد

إنّ عقل الإنسان يحكم كما فطرته وغريزته بضرورة توفير الاستعداد الكافي في أيام الصلح والسلّم، للتمكّن من الدفاع ومواجهة العدوّ وصدّه إن هو قام فجأةً بهجوم خاطف وسريع.

وقد دلّت التجارب على أنّ الشعوب اليقظة والمستعدّة تمكّنت على الدوام من صدّ الحملات المفاجئة للعدوّ، وحفظت بقاءها واستمرار وجودها. وعلى العكس من ذلك، فإنّ الشعوب التي كانت تعيش الغفلة واللامبالاة، كانت تسقط دائماً ضحيّة لغفلتها وتتعرّض للهزيمة.

والإسلام يأمر أتباعه أن يُعدّوا ما استطاعوا من قوّة لأجل الدفاع عن أنفسهم وأن يبقوا في جهوزيّة تامّة، وذلك قبل وقوع الحرب وظهور الحاجة إلى مستلزمات الدفاع. فقد صرّح القرآن الكريم بوجوب التجهّز والاستعداد، في قوله تعالى ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ1.

فهذه الآية هي بلسان التحذير البليغ لكلّ المجتمعات الإسلامية من الغفلة عن الأعداء المعروفين بل وغير المعروفين أيضاً، ومن عدم الجهوزيّة المسبقة حتّى على مستوى
 

1- سورة الانفال، الآية 60.
 
 
 
 
73

53

الدرس الخامس: الشروط الماديّة للجهاد

  التخطيط في مواجهة العدوّ. لأنّنا إن غفلنا فالعدوّ لن يدعنا وشأننا، وسيتحيّن الفرص للهجوم والانقضاض على البلاد الإسلامية. وإلى هذا أشار أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "من نامَ لم يُنَم عنه"1.


فهذه الآية تريد أن تشير إلى أنّ هذا الأمر الإلهيّ بضرورة الإعداد شامل لآحاد المسلمين تماماً كما يشمل الحالة الاجتماعية وعلى رأسها الحكومة الإسلامية والعاملين عليها. وقد استخدمت الآية في بيانها لمعنى الجهوزيّة المطلوبة مفردتين اثنتين هما: "القوّة" و"رباط الخيل".

والمقصود من "القوّة" هو كلّ شيء يؤدّي إلى تقوية المجاهدين في كامل تخصّصاتهم سواء على الصعيد الماديّ أم المعنويّ. ولأنّ هذا التعبير هو تعبير مطلق، نستنتج منه أنّه لا حدَّ لتنّوع هذه القوّة ومقدارها، وهي تشمل تهيئة كلّ الإمكانات اللازمة لتعلّم فنون القتال المختلفة، وهي تتبدّل بتبدّل الأزمنة، والميزان فيها أن تكون مناسبة لمواجهة العدوّ وفي الزمان والمكان المناسبين.

وهذا ما يستفاد من الروايات التي تبيّن مصاديق هذه القوّة وبيان اتّساع معناها وشموله. فقد عُبّر عن هذه القوة في بعضها بتعبير "الرماية"، كما قيل أيضاً أنّ المقصود من القوّة هو "وحدة الكلمة والثقة بالله تعالى والرغبة في الثواب الإلهيّ"، وفُسِّرت بمعنى "الحصن"، وأحياناً فُسِّرت - كما في بعض الروايات - بالسلاح والسيف والترس، وحتّى بصبغ الشعر الأبيض للمجاهدين2.

أمّا التَّعبير الثَّاني في الآية، وهو تعبير "رباط الخيل" (أي الخيل المربوطة والمستعدّة)، فيُعَدُّ أيضاً من مصاديق تلك القوّة. ولأنّ الخيل الأصيلة والسَّريعة كانت هي أفضل وسيلة للركوب والقتال في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ذُكِرَت بعنوان النموذج الأفضل. وذِكْرُ هذا المصداق يستطيعُ أن يُرشدنا أيضاً إلى ضرورة إعداد أكثر العتاد الحربيّ تقدّماً وتأثيراً.
 

1- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام-، مصدر سابق، ج 3، ص 121، الرسالة 62.
2- الشيخ الحويزي، تفسير نور الثقلين، مصدر سابق، ج 2، ص 164-165.
 
 
 
 
 
74

54

الدرس الخامس: الشروط الماديّة للجهاد

 حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إعداد القوّة

ولأجل تحقّق وجود هذه القوّة والجهوزية عملياً، كان النبيُّ الأكرمُ صلى الله عليه وآله وسلم يشجّع المسلمين على إقامة مسابقات الرماية وسباق الخيل، كما كان يرافقهم بنفسه لمشاهدتها، وأحياناً كان يشارك شخصياً فيها4. وقد أولى صلى الله عليه وآله وسلم استمرارية هذا التعليم لفنون القتال عناية خاصة، حيث كان يطلب من أصحابه أن لا يغفلوا عن ذلك، كما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من تعلّم الرمي ثمّ تركه فقد عصاني"1.

ومن المعروف أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عندما علِم في أيام حرب "حُنين" باختراع سلاح جديد في اليمن أرسل على الفور رجلاً كي يشتري هذا السلاح للمجاهدين2.

وبناءً عليه، يمكن في هذا الزمان أن نعتبر إعداد الوسائل العسكرية المتطوّرة كالدبابات المتنوّعة، والطائرات، والسفن الحربية، والتدريب المتواصل للقوات العسكرية، هو من مصاديق إعداد هذه القوَّة.

وفي هذا الصدد يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "يجب أن تكونوا دائماً في حالة تقدّم، لأنّ العدوّ ينتظر الأرضية الملائمة للنفوذ، وهو ينتظر تأخّركم ليشنّ هجومه. وأفضل طريقة لصدّ هجومه هو الهجوم عليه. وإنّ تقدّمكم وتطوّركم هو هجوم على العدوّ. فالبعض يتصوّر أنّ الهجوم على الأعداء معناه حمل المدفع والأسلحة إلى مكان ما أو التصدّي السياسيّ من خلال الخطابات، ولا شكّ بأنّ هذا لازم في محلّه، ولكنّ الهجوم لا يكون بهذه الأمور فحسب، فإنّ بناء الإنسان لنفسه ولأبنائه ولمن ولِّيَ عليهم من أفراد هذه الأمّة الإسلامية هو من أعظم الأعمال"3.
 

1- المتقي الهندي، كنز العمال، ضبط وتفسير الشيخ بكري حياني - تصحيح وفهرسة الشيخ صفوة السقا، مؤسسة الرسالة، لبنان - بيروت، 1409ه.ق - 1989م، لا.ط، ح10812، 10841، 10844، 10847.
2- محمد بن يزيد القزويني، سنن ابن ماجة، تحقيق وترقيم وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان، لا.ت، لا.ط، ج2، ص 241.
3- مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، لا.م، لا.ن، لا.ت، لا.ط، ج 5، ص 472.
4- جمهوري إسلامي، 25، 9، 1375هـ.ش 1996م .
 
 
 
 
75

55

الدرس الخامس: الشروط الماديّة للجهاد

 توصيات جهاديّة من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام

إنّ سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام عابقة بالعديد من المواقف الجهادية، ولا سيّما أمير المؤمنين عليه السلام الذي خاض غمار الحروب. حيث نجد في كلامه العديد من التوصيات العسكرية التي تصلح لكلّ زمان ومكان، وهي نتيجة أيضاً لخبرته عليه السلام وقدراته وبعد نظره.

فثمّة صفات ضرورية، يجب تربية المجاهد عليها مثل: هدوء الأعصاب، والسرعة، والحسم، والدقّة، والقدرة على التنسيق والضبط...

يقول الإمام عليّ عليه السلام: "معاشر المسلمين استشعروا الخشية، وتجلببوا السكينة، وعضّوا على النواجذ، فإنه أنبى للسيوف عن الهام"1.

فالخشية هي الخشية من الله تعالى، والسكينة هي الهدوء في الأعصاب، والعضّ على الأسنان يزيل توتر الأعصاب. ومن يتحلَّ بهذه الصفات يكن مقداماً، حاضر الذهن، ثابت الجنان، وبالتالي يستطيع أن يكون بعيداً عن متناول السيوف، بعد أن يتخلّص منها بسيطرته على أعصابه وهدوئه. 

ويقول الإمام عليّ عليه السلام وهو يبيّن بعض مبادئ القتال التي يجب أن يأخذها بعين الاعتبار كلّ مجاهد: "وأكملوا اللامّة، وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلّها، والحظوا الخزر، واطعنوا الشزر، ونافحوا بالظّبى، وصلوا السيوف بالخطى"2.

ويقول عليه السلام في مجال اختيار ساحة الحرب والموقع الاستراتيجي: "فإذا نزلتم بعدوّ أو نزل بكم:
- فليكن معسكركم في قبل الإشراف (المواقع المرتفعة) أو سفاح الجبال، أو أثناء الأنهار، كما يكون لكم رداءً، ودونكم مردّاً.
 
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 32، ص 557.
2- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام-، مصدر سابق، ج 1، ص 114. الخزر: النظر كأنه من أحد الشقين، وهو علامة الغضب. اطعنوا الشّزر: بالفتح الطعن في الجوانب يميناً وشمالاً. نافحوا: كافحوا وضاربوا . والظبا: بالضم جمع ظبة طرف السيف وحده . صلوا: من الوصل أي اجعلوا سيوفكم متصلة بخطى أعدائكم، جمع خطوة، أو إذا قصرت سيوفكم عن الوصول إلى أعدائكم فصلوها بخطاكم.
 
 
 
 
76

56

الدرس الخامس: الشروط الماديّة للجهاد

 - ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين.

- واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال، ومناكب الهضاب، لئلاّ يأتيكم العدوّ من مكان مخافة أو أمن.
- واعلموا أنّ مقدّمة القوم عيونهم، وعيون المقدّمة طلائعهم.
- وإياكم والتفرّق، فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً.
- وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كِفَّة، ولا تذوقوا النوم إلا َّ غِراراً أو مَضْمَضَة"1.

فالجيوش الجرّارة، والأسلحة الفتّاكة، والقوّة الجبّارة، لا يمكن ردّها وإلحاق الهزيمة بها، إلّا بالتفوّق عليها ، ليس عبر الكلمة ، وإنّما بإعداد الرجال وامتلاك القوّة التي ترهب العدوّ وتردّه خاسئاً على أعقابه.

وههنا بعض التوصيات العسكرية المهمّة التي نقلت عنهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهي في موارد:
مباغتة العدوّ
وهو أسلوب المفاجأة، ووضع الكمائن في أماكن لا يتوقّعها العدوّ، أو شنّ غارات وعمليات عسكرية سريعة ومباغتة لضرب الخصم. وفي هذا الشأن يقول الإمام عليّ عليه السلام: "اغزوا القوم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غُزِيَ قوم قطّ في عقر ديارهم إلا ذلّوا"2.

الرصد والاستطلاع والحراسة
وهو من الأمور الروتينية الأساسية التي لا تنفكّ الجيوش تستعدّ لها باستمرار من قبيل تجهيز أفراد وفرق مدرّبة على الرصد والاستطلاع، لأنّ الجيش بدون معلومات يكون أعمى، وبدون معرفته بأماكن تواجد العدوّ وبدون درايته بالطرق والمسالك الأسلم يكون قد وضع نفسه في معرض الخطر المحدق. وفي هذا المورد يقول الإمام عليّ عليه السلام - في وصيّته لزياد بن النضر-: "اعلم أن مقدّمة القوم عيونهم، وعيون المقدّمة طلائعهم، فإذا
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 33، ص 411.
2- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 5، ص 5.
 
 
 
 
77

57

الدرس الخامس: الشروط الماديّة للجهاد

 أنت خرجت من بلادك ودنوت من عدوك فلا تسأم من توجيه الطلائع في كلّ ناحية وفي بعض الشعاب والشجر والخَمَر1 وفي كلّ جانب، حتّى لا يغيركم عدوّكم، ويكون لكم كمين"2.


هذا إضافة إلى الحراسة المشدّدة والواعية للأفراد، ولكلّ التجهيزات والعتاد العسكريّ والمواقع العسكرية المختلفة، فقد روي أنّ جيش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد سار يوم حنين فأطنبوا السير، حتّى كان عشيةً، ثم قال: "من يحرسنا الليلة؟" قال أحد أصحابه: أنا يا رسول الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "فاركب"، فركب فرساً له، وقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "استقبل هذا الشّعب حتّى تكون في أعلاه، ولا نغرّنّ من قبلك الليلة"3.

قوة النفس
ومن ضمن التوجيهات التي يسوقها أمير المؤمنين عليه السلام للحفاظ على كلّ مصادر القوّة لديه، وبالأخصّ شحن الثقة في شخصيّة المقاتل، يقول عليه السلام "فقدّموا الدارع، وأخّروا الحاسر، وعضّوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح فإنه أمْوَرُ للأسنّة، وغضّوا الأبصار، فإنّه أربط للجأش وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات، فإنّه أطرد للفشل"4.

مساعدة رفاق القتال
وهو أمرٌ أساسيّ في الجبهة، إذ لا بدّ للمقاتل من أن يكون حاضراً في جنب إخوته يساعد ضعيفهم إذا رآه عرضة للخطر أو القتل.. فعن الأمير عليه السلام: "وأيّ امرئ منكم
 

1- الخَمَر: كل ما يستتر به.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 33، ص 465.
3- الحاكم النيسابوري، المستدرك، مصدر سابق، ج2، ص 84.
4- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 5، ص 39. الدارع: لابس الدرع . والحاسر: الذي لا مغفر له ولا درع. وأنبأ: أي أبعد وأشد دفعاً. قيل: الوجه في ذلك إن العضّ على الأضراس يشدّ شؤون الدماغ ورباطاته فلا يبلغ السيف مبلغه. والهام: جمع هامة وهي الرأس. قيل: أمرهم بأن يلتووا إذا طعنوا لأنهم إذا فعلوا ذلك فبالحري أن يمور السنان أي يتحرك عن موضعه فيخرج زالقاً وإذا لم يلتووا لم يمرّ السنان ولم يتحرك عن موضعه فينخرق وينفذ ويقتل. وأمرهم بغضّ الأبصار في الحرب لأنه أربط للجأش أي أثبت للقلب لأن الغاضّ بصره في الحرب أحرى أن لا يدهش ولا يرتاع لهول ما ينظر. وأمرهم بإماتة الأصوات وإخفائها لأنه أطرد للفشل وهو الجبن والخوف وذلك لأنَّ الجبان يرعد ويبرق والشجاع صامت.
 
 
 
 
78

58

الدرس الخامس: الشروط الماديّة للجهاد

 أحسّ من نفسه رباطة جأش عند اللقاء، ورأى من أحد من إخوانه فشلاً، فليذبّ عن أخيه بفضل نجدته التي فُضّل بها عليه كما يذبُّ عن نفسه، فلو شاء الله لجعله مثله"1.


اعتماد التكتيكات العسكرية المناسبة:
كالخدعة مثلاً، واعتماد الأساليب الأمنيّة أو الإعلامية أو حتّى التمويهات الميدانية المناسبة، وهي بالتالي تحمي المجاهدين وتقرّب لهم النصر، وتخدع العدو وتوهمه بأشياء غير حقيقية فتتأثر تحضيراته للمعركة تبعاً لنوعية هذا الأسلوب ومداه. قال الامام علي عليه السلام "إنّما الحرب خدعة"2. وفي مجال الحرب الإعلامية والنفسية يقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "قل ما بدا لك، فإنّ الحرب خدعة"3. وعن عديّ بن حاتم: يوم التقى أمير المؤمنين عليه السلام ومعاوية بصفّين قال ورفع بها صوته ليسمع أصحابه: "والله لأقتلنّ معاوية وأصحابه" ثمّ يقول في آخر قوله: "إن شاء الله" - يخفض بها صوته - وكنت قريباً منه فقلت: يا أمير المؤمنين! إنك حلفت على ما فعلت ثم استثنيت، فما أردت بذلك؟! فقال لي: "إنّ الحرب خدعة، وأنا عند المؤمن غير كذوب، فأردت أن أحرّض أصحابي عليهم لكيلا يفشلوا وكي يطمعوا فيهم فأفقّههم بها بعد اليوم إن شاء الله"4.

كما أنّ استخدام الخدعة في الميدان أثناء القتال لا حدود له، كأن يستعمل المقاتل وسائل لإثارة الدخان أو الضباب أو الأصوات ليوهم العدوّ فيأتيه من مكان آخر أو غير ذلك.

تفقّد السلاح والجهوزيّة الدّائمة
عندما نتدبّر في الإجراءات العسكرية التي كان يتّخذها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام في المعارك المختلفة التي خاضها المسلمون ضد الكفّار والطواغيت، نجد أنّهم كانوا يخطّطون
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 32، ص 172.
2- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 7، ص 460.
3- المتقي الهندي، كنز العمال، مصدر سابق، ج 4، ص 358.
4- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 7، ص 460.
 
 
 
 
79

59

الدرس الخامس: الشروط الماديّة للجهاد

 للمعركة، ويؤمّنون كل الوسائل والمستلزمات بما فيها المادية منها. فنلاحظ مثلاً أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر بحفر الخنادق لحماية المدينة والمسلمين، وأنّ الإمام الحسين عليه السلام حفر خندقاً في بعض أطراف المعركة، بهدف توجيه ميدان المعركة من جهة واحدة وتأمين الحماية للمقاتلين، وتوفير أفضل مدىً للحركة لهم داخل الميدان. وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: "ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين"1.


وعندما نضمّ هذه الأفعال من قبلهم عليهم السلام إلى الروايات التي تؤكّد على اليقظة الدائمة وعدم الغفلة عن السّلاح طرفة عين، ندرك تماماً أنّ الاستعداد والاحتياط واليقظة والاهتمام بالسلاح والعناية به من الثوابت العسكرية في أيّة حرب.

فهذا أمير المؤمنين عليه السلام يأمر بتفقّد السّلاح قبل الحرب كما ذكرنا في الحديث المتقدّم "وأكملوا اللاّمة وقلقلوا السّيوف في أغمادها و..."2. وكلّ ذلك إشارةٌ واضحةٌ إلى ضرورة تفقّد السّلاح وإبقائه في حالة جهوزيّة. فالسّيف قد يصدأ ويعيق الاستفادة منه في الحرب.

ونقرأ في السّيرة الحسينيّة أنّ أصحاب الحسين عليه السلام كانوا يصلحون سيوفهم ودروعهم ليلة العاشر من المحرّم مع أنّ معركتهم استشهاديّة.

وكذا الحال في يوم العاشر، مع أنّ الإمام قد بشّرهم بالجنّة، فكانوا يلبسون الدّروع، والبيضة، ويحملون اللاّمة، كلّ ذلك في سبيل تأكيد مبدأ عسكريّ هامّ، وهو الاستفادة من جميع التقنيات والوسائل المادية، بالإضافة إلى الإيمان والتّسليم والتوكّل على الله تعالى.

استخدام مختلف الأسلحة في الحرب
فعن الإمام عليّ عليه السلام أنَّه قال: "يُقتل المشركون بكلّ ما أمكن قتلهم به، من حديد أو حجارة أو ماء أو نار أو غير ذلك"، فذكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف، وقال عليه السلام: "إن كان معهم في الحصن قوم من المسلمين فأوقفوهم معهم،
 
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 33، ص 411.
2- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام-، مصدر سابق، ج 1، ص 114.
 
 
 
 
 
80

60

الدرس الخامس: الشروط الماديّة للجهاد

 ولا يتعمّدهم بالرمي وارموا المشركين، وأنذروا المسلمين إن كانوا أقيموا مكرهين، ونكّبوا عنهم ما قدرتم"1.


القتال في كلّ مكان حتّى البحر
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من جلس على البحر احتساباً ونية احتياطاً للمسلمين، كتب الله له بكل قطرة في البحر حسنة"2. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم "من لم يدرك الغزو معي فليغز في البحر"3.

الإسعاف الحربيّ
لقد كان المسلمون يُخرجون معهم للحرب من يقوم بتطبيب جريحهم وإسعاف مصابهم. ولقد كانوا يستعينون بالنساء حينها لقلّة عديد الرجال وعدم القدرة على تخصيص عدد منهم لمهامّ الإسعاف، فسقوط وجوب الجهاد عن النساء لا يلغي بالضرورة السماح لهنّ بالخروج مع الجيوش الإسلامية لمهام التَّمريض والإسعاف، على أن يكون ذلك بإذن الحاكم وتحت نظره المقدَّس. فعن أحد الإمامين الباقرين عليهما السلام: "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج بالنساء في الحرب حتّى يداوين الجرحى، ولم يقسم لهنّ من الفيء، ولكنّه نفلهنّ"4.
 

1- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 11، ص 42.
2- المتقي الهندي، كنز العمال، مصدر سابق، ج 4، ص 334.
3- المصدر نفسه، ج 4، ص 335.
4- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 5، ص 45.
 
 
 
 
81

61

الدرس الخامس: الشروط الماديّة للجهاد

 المفاهيم الرئيسة


1- يأمر الإسلام أتباعه أن يُعدوّا ما استطاعوا من قوّة لأجل الدفاع عن أنفسهم وأن يبقوا في جهوزيّة تامّة، وذلك قبل وقوع الحرب وظهور الحاجة إلى الدفاع.

2- المقصود من "القوّة" هو كلّ شيء يؤدّي إلى تقوية المجاهدين، فلا حدَّ لتنّوع هذه القوّة ومقدارها، والميزان فيها أن تكون مناسبة لمواجهة العدوّ وفي الزمان والمكان المناسبين.

3- من التوصيات العسكرية المهمّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام:
أ- مباغتة العدوّ. فعن الأمير عليه السلام: "اغزوا القوم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قطّ في عقر ديارهم إلا ذلّوا".
ب- العمل على الرصد والاستطلاع.
ج- الالتزام بتوجيهات قتالية ميدانية لتجنّب الخسائر.
د- مساعدة رفاق القتال وتقديم العون لهم عند الحاجة.
هـ اعتماد التكتيكات العسكرية المناسبة، كالخدعة مثلاً وغيرها.
و- استخدام مختلف أنواع الأسلحة المناسبة في الحرب.
ز- تخصيص عدد من الأشخاص مهمّتهم تقديم المعونة الطبية.
 
 
 
 
 
 
82

62

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن أهمّية امتلاك المجاهد للوعي والبصيرة.
2- يعرض أهمّ العناصر التي تميّز صفاء بصيرة المجاهد.
3- يدرك أنّ نجاح الجهاد مرتبط بتحقّق البصيرة السليمة.
 
 
 
 
 
83

63

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 مدخل

من وجهة نظر الإسلام يجب على المجاهد المسلم إضافة إلى ضرورة حيازة الشروط والصفات المعنوية والأخلاقية وحتّى الجسمية اللازمة، أن يتمتّع ببصيرة صائبة تمكّنه من اتّخاذ القرارات الصائبة، والتعامل مع أمور الحياة بحكمة وروية. وهذه البصيرة هي بعينها تلك التصوّرات العميقة التي أظهرها الدين الحنيف، وقامت عليها دعوة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي1.

ويقول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في خطبة يبيّن فيها حال المجاهدين الأوائل زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حملوا بصائرهم على أسيافهم، ودانوا لربّهم بأمر واعظهم"2. وفيما يلي أهمّ مظاهر البصيرة والوعي المطلوبين عند المجاهدين:
الإيمان بالله تعالى
إنّ المجاهدَ الذي ينظر إلى هذا العالم بعين مخلوقٍ يعترف ويُقرّ بوجود الخالقٍ، لا يربط ظهور العالم بلطفه وفيضه فحسب، بل يعتبر أنّ ديمومة الوجود والحياة مرتبطة به تعالى في امتداد الزمن لحظة بلحظة أيضاً، لأنّه الخالق ولا يوجد منبع للقدرة والكمال في العالم سواه، ولا معتمَد غيرُهُ، وهو الذي وصفَ نفسه بأنّه ناصرُ المؤمنين والمجاهدين في سبيله، وهو أيضاً عدوُّ الظالمين والمشركين...إلخ.
 

1- سورة يوسف، الآية 108.
2- السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، مصدر سابق، ج 2، ص 36، خطبة 150.
 
 
 
 
85

64

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 فالمجاهد الذي يمتلك مثل هذه الاعتقادات الواعية، سوف يكون من عشّاق الوصال وتكون غايته قرب الله وجلب رضاه. وما الإيمانُ، وأداءُ الأعمال الصالحة - ومن جملتها ذهابُه إلى الجبهة وقتالُه - إلّا لأجل نيل جوار الحقِّ سبحانه ولقائه.


ومن خلال هذا المفهوم الارتقائيّ، لا يسعى هذا المجاهد وراء الأهداف المادية الرخيصة، ولا يحول شيء من مغريات الدنيا دون عشق الوصال بالمحبوب، وتكون تطلّعاته دوماً منحصرة في سبيل الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا1.

ومثل هذا المجاهد قد رضي بقضاء الله وقدره لأنّه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وأمله الوحيد في مصاعب الحرب وشدائدها هو الله الذي كتب على نفسه الرحمة، وعليه يتوكّل وهو نعم المولى ونعم النصير، فلا يستمدّ العون من غيره، ويعتقد أنّ كل ما يظهر في ساحة الوجود ليس سوى إرادة المولى تبارك وتعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ2. وهذا هو معنى التوحيد العمليّ في حياة الإنسان المؤمن المجاهد.

والمجاهدون في عقيدتهم التوحيدية، لو نالوا نصراً فإنّهم يرونه من عند الله، ويعتبرون أنّ الله هو الناصر ومن وراء كلّ سببٍ، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ به: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾3.

وعليه فإنّ بصيرة هؤلاء المجاهدين قد أوصلتهم إلى مرحلة لا يُبتلون معها بالغرور والعجب والمفاسد الأخلاقية، لأنّهم - وبناءً على التوحيد الأفعاليّ - يرون كلَّ الأسباب والمسبّبات في العالم تحت نظر الحقّ وسلطته، ويعتقدون بأنّ جميع الأمور هي بيد الله تعالى، وأنّهم ليسوا سوى وسائط قبلها الله برحمته، فإن هزموا العدوّ في الحرب، كانوا مجرّد عباد منفّذين لإرادته: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ4.
 

1- سورة النساء، الآية 76.
2- سورة التوبة، الآية 51.
3- سورة آل عمران، الآية 126.
4- سورة الانفال، الآية 17.
 
 
 
 
86

65

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 روحيّة الطَّاعة وأداء التَّكليف الشرعيّ

إنَّ الطَّاعة لأولي الأمر والتسليم لأمرهم ونهيهم، من أوَّليات قيام نظام العدالة في المجتمع. ومن المعلوم بالضرورة أنَّ القائد ولو كان على مستوى المعصوم، فإنَّ فعالية قيادته وإمامته تكون بطاعة الأمة له، وانقياد الناس لأوامره، فإذا ما انعدمت الطَّاعة اختلّ النِّظام وتهاوى وفُتحت الأبواب للفتن الدَّاخلية والعبث بالحقوق وقيام الأنظمة الظَّالمة والمستبدّة ولو تلبَّست بزيّ الدّيمقراطية والحريّة. والطاعة هي الانقياد والموافقة في العمل طبقاً للأمر المتوجّه من الآمر باتجاه المأمور.

والأصل بحكم العقل هو طاعة الله فقط، لأنَّ الله هو المولى ونحنُ العبيد الضيوف على مائدة رحمته ولطفه، ووظيفة العبد هي الطاعة لمولاه والتسليم لحكمه، وعلى هذا قامت سيرة العقلاء في مورد طاعة العبيد لمواليهم.

أمَّا طاعة المخلوق لمخلوقٍ مثله فالأصل بحكم العقل هو المنع، لأنَّ الناس كلّهم سواسية بين يدي الخالق المقتدر الحكيم.

قال الإمام عليّ عليه السلام: "يا مالك ... ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنَّهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"1.

وإنّما جاءت الطاعة بحكم الشرع ورسالة السماء للأنبياء عليهم السلام والأولياء عليهم السلام والفقيه النائب عن المعصوم عليه السلام بالأدلّة الخاصة التي أظهرت مقام القيادة فيهم ومقام الطاعة لهم، حفظاً للنظام العام القائم لحماية مصالح الفرد والجماعة. وعلى مستوى الجسد والروح وعلى مستوى الدنيا والآخرة.

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾2.

ثمَّ إنَّ الطاعة للإمام في زمن الغيبة هي للفقيه الجامع للشرائط المعتبرة، وهي في نفس مستوى طاعة الإمام المعصوم.
 

1- السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، مصدر سابق، ج 3، ص 84، كتاب 53.
2- سورة النساء، الآية 59.
 
 
 
 
87

66

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 والنظام العسكريّ الذي يقيمه الوليّ الفقيه قائم على وجود القائد لهذه المجموعة أو تلك المجموعة، والطاعة للقيادة العسكرية يكمن فيها سرُّ النَّجاح وتحقيق النَّصر، ومن دون الطَّاعة لا بدّ وأن يقع التنازع والفشل والخسارة.


ففي سؤال وجِّه للإمام الخمينيّ قدس سره: "يُلحظ أحياناً أنّ بعض الإخوة المقاتلين لا يراعون بدقَّة المقرّرات المعيّنة من قبل القادة، ولا يستخدمون الوسائل المؤمِّنة والواقية كخوذتهم ونظّاراتهم الخاصَّة وما شابه ذلك، وعدم الاعتناء هذا ينجرُّ أحياناً إلى الشهادة وجرح هؤلاء أو مقاتلين آخرين غيرهم، وهم يتصوَّرون أنّ ذلك عملٌ صحيح لأنه يؤدّي إلى الشهادة، فهل هذا العمل جائز أم لا؟ نتمنَّى بيان رأيكم المبارك؟".

قال قدس سره في الجواب: "يجب على المقاتلين الأعزَّاء العمل بحسب مقرّرات الجبهة وأوامر مسؤوليها، ومراعاة الوسائل المؤمِّنة والواقية، ولا يجوز التخلُّف"1.

وقانون طاعة أولياء الأمر، والذي هو من التكاليف الكبرى، يستبطن التسليم لحكم الله سبحانه الذي أوصله لنا الأنبياء العظام والأولياء المعصومون والمراجع المحترمون، كما قال تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا2.

وفي هذا المورد قال العلامّة الطباطبائي قدس سره: "وهذا موقف من مواقف الإيمان، يتلبّس فيه المؤمن بعدة من صفات الفضيلة أوضحها التسليم لأمر الله، ويسقط فيه التحرُّج والاعتراض والردّ من لسان المؤمن وقلبه، وقد أطلق في الآية التسليم إطلاقاً"3.

وعن الإمام الباقر عليه السلام في حديثه لخيثمة: "أبلغ شيعتنا أنّا لا نُغني من الله شيئاً، وأبلغ شيعتنا أنَّه لا يُنال ما عند الله إلّا بالعمل، وأبلغ شيعتنا أنّ أعظم الناس حسرةً
 

1- الإمام الخميني، أحكام الإسلام، ص 408.
2- سورة النساء، الآية 65.
3- العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج 4، ص 405.
 
 
 
88

67

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 يوم القيامة من وصف عدلاً ثمّ خالفه إلى غيره، أبلغ شيعتنا أنَّهم إذا قاموا بما أُمِروا أنَّهم هم الفائزون يوم القيامة"1.


وقال الإمام الخميني قدس سره: "محبُّ أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم هو الذي يشاركهم في أهدافهم، ويعمل على ضوء أخبارهم وآثارهم، إنّ ما ذُكر في الأخبار الشريفة من أنّ الإقرار باللسان والعمل بالأركان من دعائم الإيمان، فهو بيان لسرّ طبيعي، ولسنّةِ الله الجارية، لأنّ حقيقة الإيمان تلازم العمل والتنفيذ"2.

المعرفة بالزمان والمكان
من لوازم العقيدة الصحيحة، وجود البصيرة السياسية التي تصون الإنسان المؤمن من السقوط ضحيّة للمؤامرات. يقول الإمام الرضا عليه السلام: "المؤمن العارف بأهل زمانه لا تهجم عليه اللّوابس"3.

وعليه، فمعرفة الزمان والظروف الخاصّة لكلّ عصر، ومعرفة الصديق من العدوّ، ومعرفة خطط العدوّ الشيطانية، تعدُّ كلُّها جزءاً من البرامج الأساسية للمؤمن.

وإنّ تبديل العدو لأساليبه لا يجعلُ المؤمنَ يشتبه، ولا تؤثّر فيه دعايات العدوّ، ولا يُسئمه طول مدّة الحرب أو يتعبه.

ومثل هذا المجاهد يأخذ العبر من الحوادث المُرَّة والحلوة التي تقع، ويَجِدُّ من أجل اكتساب التجارب، ولا تزلزله وساوس المثبّطين، بل يقف بثبات وشجاعة، ففي واقعة الجمل، نشاهد من هؤلاء المجاهدين، حيث وقف أشخاصٌ في وجه طلحة والزبير، ولم تستطع سابقتهما في الإسلام، أن ترمي بهم في أحضان الخديعة، وقد كان هذا العمل أمراً صعباً جداً. يقول الإمام عليّ عليه السلام واصفاً الموقف آنذاك: "ولا يحملُ هذا العلمَ إلاّ أهل البصر والصبر والعلمِ بمواقع الحقّ"4.
 

1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج1، ص93.
2- الامام الخميني، الأربعون حديثاً، مصدر سابق، ص 512.
3- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 1، ص 27.
4- السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، مصدر سابق، ج 2، ص 87، الخطبة 173.
 
 
 
 
89

68

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 فإنّ سطوع نور هذه العناصر الواعية قياساً بضعاف النفوس الذين وقعوا في حيرة الضياع والشبهة خلال المعركة، ولم يعرفوا الحقّ وإلى جانب من كان، لهو ظاهر بوضوح. فأحدُ الأشخاصِ جاء إلى الإمام عليٍّ عليه السلام وسأله: أيمكن أن يكون طلحة والزبير على الباطل؟ فأجابه عليه السلام بجواب بيّن له فيه طريق اكتساب البصيرة، وقال: "إنّك لملبوس عليك، إنَّ الحقَّ والباطل لا يُعرفان بأقدار الرِّجال، اعرف الحقّ تعرف أهله واعرف الباطل تعرف أهله"1. وعليه، فالميزان الحقيقيُّ هو معرفة الحقّ، ثمَّ عرضُ الناسِ عليه، وليس العكس. وإنّ معرفة الزمان وأحداثه في العالم المعاصر، ومعرفة المكانة الواقعية للمقاومة والثورة الإسلامية وكلّ ظواهر الحقّ، وكذلك معرفة الحيل المعقّدة والخبيثة للاستكبار العالميّ إضافة إلى معرفة أعداء الداخل والخارج، جميعها تفرض علينا ضرورة امتلاك تصوّر صحيح بواسطة بصيرة ثاقبة عن الزمان الذي نعيش فيه وما يجري فيه من مسائل سياسية.


النظرة الصحيحة إلى الموت والشهادة
إنّ المجاهد المؤمن الذي ينظر إلى هذا العالم وعالم الآخرة على ضوء العقيدة الإلهية، ويرى أنّ الموت ما هو إلاّ جسر العبور من الدار المحدودة الفانية إلى دار رحمة الله الخالدة، فهو ليس فقط لا يخشى الموت، وإنّما يسرع إلى استقباله إذا ما تطلّب الواجب منه ذلك.

إنّ المجاهدين المؤمنين بخطّ الشهادة قد أعدّوا أنفسهم لأيّ نوع من أنواع الموت الذي قُدِّرَ لهم، وعلى رضاً من أنفسهم، وعشقهم أن يكون خروجهم من هذا العالم عن طريق الشهادة، وأن تختم حياتهم في هذا العالم بهذا الشرف العظيم. والإمام عليّ عليه السلام نفسه كان يَعدُّ الأيام شوقاً إلى هذه الأمنية، حيث يقول: "إنّ أكرمَ الموتِ القتلُ، والذي نفسُ ابن أبي طالب بيده لألفُ ضربة بالسيف أهونُ عليَّ من ميتة على الفراش في غير طاعة الله"2.
 

1- أحمد بن يحيى بن جابر (البلاذري)، أنساب الأشراف، تحقيق الدكتور محمد حميد الله، معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالاشتراك مع دار المعارف بمصر، مصر، 1959م، لا.ط، ج 2، ص 238-239.
2- السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، مصدر سابق، ج 2، ص 2، الخطبة 123.
 
 
 
 
90

69

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 وفي آخر عهده لمالك الأشتر، يتمنّى من الله لنفسهِ ولصاحبه الوفيّ أن يرزقهما الشهادة في سبيله، فيقول عليه السلام: "وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قُدرته على إعطاء كلّ رغبة... وأن يختمَ لي ولك بالسعادة والشهادة"1.


وإنّ التسابق إلى الشهادة بين جُندِ صدر الإسلام المضحّين، وكذلك بين أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، ومجاهدي الإسلام خلال الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية المباركة، كان ناشئاً من إدراك هذه الحقيقة، التي استلهموها من آيات القرآن الكريم وسيرة المعصومين عليهم السلام، حيث كانوا يعلمون أنَّ الشَّهادة هي أفضلُ أنواع الموت بين يدي الله تبارك وتعالى.

إنّ أفضل صورة على الإطلاق تبيّن حقيقة نظرة المؤمن إلى الشَّهادة، هو حديث السيدة زينب الكبرى عليها السلام في مجلس ابن زياد لعنه الله، عندما سألها قائلاً: كيف رأيتِ فعلَ الله بأخيك وأهل بيتك؟ فأجابته: "ما رأيت إلاّ جميلاً"2.

ومعنى كلمتها المباركة هو أنّ شهادة جميع الشهداء في كربلاء، وسبيَ النساء والأطفال، وكلّ مشاهد المأساة هي جميعاً من وجهة نظر السيدة زينب عليها السلام، أمورٌ جميلة لأنّها من أروع آيات التضحية والفداء والإيثار على أعتاب الرضا الإلهيّ، ويجب على كلّ مؤمن تصادفُه أن يستقبلها ويتقبّلها بصدر واسع، ويراها حسنة وجميلة.

معرفة حقيقة النصر
في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾3, دلالة واضحة على أن تحقّق النصر الإلهيّ شرطه الأول والأساسيّ هو نصرة دين الله من خلال العمل الصالح والطاعة والالتزام بالتكاليف الشرعية التي يحددها الله أو وليّه في الأرض بجد وإخلاص وتفانٍ، والنتيجة: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ4.
 

1- السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، مصدر سابق، ج 3، ص 111، الرسالة 53.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 45، ص 116.
3- سورة محمد، الآية 7.
4- سورة آل عمران، الآية 160.
 
 
 
91

 


70

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 إنّ المجاهدَ المؤمنَ يرى أن المبدأ الأساسيّ والأصل الحاكم في المسيرة الجهادية هو الطاعة والعبودية لله سبحانه التي تتجلّى من خلال ثقافة وروحية أداء التكليف الشرعيّ، سواء وصل إلى النتيجة الظاهرية لجهاده أم لا. لأنّ النصر الحقيقيّ يكمن في الالتزام بالتكليف الشرعيّ وبلوغ رضا الله جلّ شأنه، وعلى أيّ حال كان، لأنَّه امتحان لله لنا في عبوديتنا الخالصة له من دون أيّ شائبة حتّى ولو كانت على نحو الاغترار بالنصر الماديّ على العدوّ. فإنّ القرآن الكريم يعلّمنا كيف ننظر إلى النَّصر الحقيقيّ، وكيف نجيب من يتربّص بالمجاهدين الدوائر والهزيمة من أهل الفسق والنفاق، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾1.


وعليه، لا معنى للهزيمة بالنسبة للمجاهد، المطمئنّ إلى وعد الله بالنصر وبعلوّ شأنه وأصحابه بفضل من الله وقوّة. كما أشار القرآن المجيد إلى هذا الوعد بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ2, وهذا العلوّ متحقّق حتماً في كلا الحالين - النصر أو الشهادة - والغلبة دوماً هي للمؤمنين على الكافرين ما دامت الطريق تعبّد بمرضاة الله وألطافه.
 
 

1- سورة التوبة، الآية 52.
2- سورة آل عمران، الآية 139.
 
 
 
 
92

71

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 المفاهيم الرئيسة


1-على المجاهد المسلم إضافة إلى حيازة الشّروط والصّفات المعنويّة والأخلاقيّة وحتّى الجسميّة اللازمة، أن يتمتَّع ببصيرة صائبة تمكّنه من اتّخاذ القرارات الصّائبة.

2- من غير الصحيح أن يتقدّم المجاهد نحو ميدان المعركة من دون وعي وبصيرة وتفكّر في أسباب الجهاد ونتائجه وأهمية ما يقوم به من طاعة لله تعالى.

3- المجاهد في سبيل الله يعتقد ويؤمن بأنّ كلّ ما يظهر في ساحة الوجود ليس سوى إرادة المولى تبارك وتعالى ولسان حاله: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

4- الطاعة هي الانقياد والموافقة في العمل طبقاً للأمر المتوجّه من الآمر باتّجاه المأمور - والمجاهد عليه أن يطيع الله تعالى وأولي الأمر من أجل الحفاظ على النظام العام ومصالح المجتمع، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾.

5- ينبغي أن يكون لدى المجاهد معرفة بالزمان الذي يعيش فيه - فمن لوازم العقيدة الصّحيحة وجود البصيرة السياسية التي تصون الإنسان المؤمن عن السقوط ضحية للمؤامرات كما يقول الإمام الرّضا عليه السلام: "المؤمن العارف بأهل زمانه لا تهجم عليه اللوابس".

6- من الأمور التي تميّز الإنسان المؤمن امتلاكه للنظرة الصحيحة إلى الموت والشهادة، فالمجاهد المؤمن يرى أنّ الموت ما هو إلاّ جسر العبور من الدار المحدودة الفانية إلى دار رحمة الله الخالدة.

7- المجاهد الحقيقيّ يرى أن النصر الحقيقيّ يكمن في الالتزام بالتكليف الشرعيّ وبلوغ رضا الله جلّ شأنه - أما لو قصّر في أداء تكليفه، فإنّه يعدّ نفسه مهزوماً ولو تمكّن من الانتصار على العدوّ في الظاهر.
 
 
 
 
93

72

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 المفاهيم الرئيسة


1-على المجاهد المسلم إضافة إلى حيازة الشّروط والصّفات المعنويّة والأخلاقيّة وحتّى الجسميّة اللازمة، أن يتمتَّع ببصيرة صائبة تمكّنه من اتّخاذ القرارات الصّائبة.

2- من غير الصحيح أن يتقدّم المجاهد نحو ميدان المعركة من دون وعي وبصيرة وتفكّر في أسباب الجهاد ونتائجه وأهمية ما يقوم به من طاعة لله تعالى.

3- المجاهد في سبيل الله يعتقد ويؤمن بأنّ كلّ ما يظهر في ساحة الوجود ليس سوى إرادة المولى تبارك وتعالى ولسان حاله: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

4- الطاعة هي الانقياد والموافقة في العمل طبقاً للأمر المتوجّه من الآمر باتّجاه المأمور - والمجاهد عليه أن يطيع الله تعالى وأولي الأمر من أجل الحفاظ على النظام العام ومصالح المجتمع، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾.

5- ينبغي أن يكون لدى المجاهد معرفة بالزمان الذي يعيش فيه - فمن لوازم العقيدة الصّحيحة وجود البصيرة السياسية التي تصون الإنسان المؤمن عن السقوط ضحية للمؤامرات كما يقول الإمام الرّضا عليه السلام: "المؤمن العارف بأهل زمانه لا تهجم عليه اللوابس".

6- من الأمور التي تميّز الإنسان المؤمن امتلاكه للنظرة الصحيحة إلى الموت والشهادة، فالمجاهد المؤمن يرى أنّ الموت ما هو إلاّ جسر العبور من الدار المحدودة الفانية إلى دار رحمة الله الخالدة.

7- المجاهد الحقيقيّ يرى أن النصر الحقيقيّ يكمن في الالتزام بالتكليف الشرعيّ وبلوغ رضا الله جلّ شأنه - أما لو قصّر في أداء تكليفه، فإنّه يعدّ نفسه مهزوماً ولو تمكّن من الانتصار على العدوّ في الظاهر.
 
 
 
 
93

73

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت والهوى

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يفهم معنى الجبن وأسبابه ودوافعه.
2- يبيّن حقيقة الموت والأسباب الكامنة وراء الخوف منه.
3- يتعرّف الى سبل علاج كلّ من الجبن والخوف من الموت.
4- يدرك حقيقة اتّباع الهوى وكونه مخالفة للتكليف الإلهيّ.
 
 
 
 
 
 
97

74

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت والهوى

 الجبن

1- حقيقة الجبن:
من الرذائل الأخلاقية التي قد يُبتلى بها الإنسان صفة الجبن، وهو الخوف غير المنطقيّ. وهو يقابل الشجاعة والجرأة الّتي تُعدّ مفتاحاً للنصر والفلاح في حركة الإنسان الاجتماعية، وعنصر العزّة والعظمة للمجتمع البشريّ سواءً في ميدان الحرب والجهاد أو في ميدان السياسة والاجتماع، وحتّى في الميادين العلمية. ففي الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام: "لا يكون المؤمن جباناً ولا حريصاً ولا شحيحاً"1.

وهي صفة تورث الإنسان المذلّة والمهانة وسوء العيش، وتحطّ من منزلة صاحبها، وتؤدّي إلى هدر طاقاته، وتفضي إلى أن يتسلّط عدوّه عليه. والمجتمع الذي يتّصف أفراده بالجبن يكون مجتمعاً خنوعاً ذليلاً خاضعاً لسياسة الظالمين غير قادرٍ على مواجهة التحدّيات الكبرى وتقديم الحلول الناجعة، ولا يُرجى له الرقيّ والتكامل في كافة مجالات الحياة، ويكون بعيداً عن تحقيق الأهداف الإلهية الكبرى من قبيل بسط الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.

وهذا ما سجّلته صفحات التاريخ الإسلاميّ في الفترة الأخيرة التي أعقبت وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والفتنة الصخياء التي حلّت بالأمة آنذاك، حيث جبن البعض ولم يلتزم بالوصايا الصريحة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحفظ أهل بيته عليهم السلام، فلم يلتزم بمبايعة خليفته أمير المؤمنين عليه السلام وأبنائه المعصومين عليهم السلام المنصوص عليهم بالاسم، بل وعمد إلى التآمر عليهم من خلال
 
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 72، ص 301.
.
 
 
 
99

75

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت والهوى

 محاربتهم والتَّنكيل بهم وبأصحابهم بهدف القضاء الماديّ والمعنويّ عليهم.


والمراد بالجبن هنا هو الخوف غير المنطقيّ من المواقف أو المظاهر التي لا تستبطن خطراً حقيقياً، بل يتصوّرها الإنسان الجبان ويتوهّم أنها أمور خطيرة، مع أنها ليست كذلك. وهذا بخلاف الخوف من الأمور التي تتضمّن خطراً واقعياً على حياة الإنسان أو أنّها يمكن أن تسبّب الضرر والأذى له، فإنّ الاندفاع نحو هذا النوع من المخاطر دون تفكيرٍ ورويّة يوقع الإنسان في مفسدة أخرى لا تقلّ خطراً عن الجبن وهي التهوّر، وهو القائل في كتابه العزيز: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾1.

2- دوافع الجبن:
أ. سوء الظنّ بالله: لأنّ الشخص الذي يعيش الإيمان بالله والثقة به وينطلق في حياته من موقع التوكّل على الله والتصديق بوعده، لن يذوق طعم الذلّة والمهانة والضعف، ولن يتردّد أو يخاف أمام الحوادث الصعبة، ولن يتزلزل أمام التحدّيات، ولن يهاب أحداً من الأعداء لأنّه يرى أن قدراتهم محدودة ولا تعادل شيئاً أمام قدرة الله المطلقة. فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ البخل والجبن والحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظنّ بالله"2.

ب- ضعف الإيمان واليقين: من أهمّ خصائص الإنسان الجبان ضعف نفسه وعجزها عن مواجهة الصعاب والتحدّيات المختلفة، لذا نراه يلجأ دائماً إلى التذرّع بالأعذار الواهية هرباً من المسؤوليات أو الواجبات المطلوبة منه. والمنشأ الرئيسيّ لهذا العجز هو ضعف الإيمان بالله تعالى. عن أمير المؤمنين عليه السلام: "شدّة الجبن من عجز النفس وضعف اليقين"3

فالجبن لا ينسجم مع روح الإيمان، لأنّ المؤمن يتوكّل في جميع أموره على الله تعالى، ومن كان يملك مثل هذا الأساس المتين في حركة الحياة لا يمكن أن يكون للجبن طريق إلى قلبه لأنّه يعيش الأمل برحمة الله وفضله فلا يتعلّق قلبه بكل ما سوى الله تعالى. وبالعودة
 

1- سورة البقرة، الآية 195.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 33، ص 602.
3- التميمي الآمدي، عبد الواحد بن محمد، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق وتصحيح مصطفى درايتي، مكتب الإعلام الإسلامي، إيران ـ قم، 1407هـ، ط 1، ص 263.
 
 
 
 
 
100

76

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت والهوى

 مجدّداً إلى حديث الإمام الباقر عليه السلام: "لا يكون المؤمن جباناً ولا حريصاً ولا شحيحاً"1، نستنتج منه أيضاً أنّ الجبن لا يجتمع مع الإيمان.


ج- الخوف من قوّة العدوّ: إن قوّة العدوّ المادية وعديده وعدّته وحجم الخسائر في صفوف المسلمين، كلّها عوامل ومؤثّرات قد تقود أحياناً إلى الرهبة والخوف التي قد يتبعها الهزيمة والفشل لا سمح الله. وهذا ما يحاول العدوّ تحقيقه والوصول إليه في دعايته الإعلامية وحربه النفسية. ونحن لو رجعنا إلى عديد جيش الإسلام الأول في معاركه، فسنجد أن التوازن العدديّ مفقود: ففي معركة بدر كان عدد جيش المسلمين 313 رجلاً مقابل 950 مشركاً على سبيل المثال، ولكن الأمر كان ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ2. وفي معركة الخندق كان المشركون على بعض التقديرات أكثر من عشرة آلاف مقاتل، والمسلمون لم يتجاوز عددهم ثلاثة آلاف3. لكن المسلمين الأوائل لم يهابوا كثرة الأعداء ولم يخشوا قوّتهم على الإطلاق، بل زادهم الأمر بأساً وتوكّلاً على الله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾4. وقال الله تعالى مخاطباً نبيّه موسىعليه السلام عندما أمره بالذهاب إلى فرعون لمواجهته: ﴿يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ5.

د- الجهل وقلّة المعرفة: حيث غالباً ما يسبّب للإنسان الخوف الموهوم، كما يلاحظ في حالة خوف الإنسان من الموارد التي لا يعرفها جيداً. أمّا عندما تتّضح له الصورة جيداً فإنّ حالة الخوف ستذهب من نفسه تدريجياً.
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 72، ص 301.
2- سورة الانفال، الآية 65.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 20، ص 228.
4- سورة آل عمران، الآية 173.
5- سورة النمل، الآية 10.
 
 
 
 
101

77

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت والهوى

 ـ طلب الراحة والعافية: وهو أحد الأسباب التي تكون منشأً للخوف غير المبرّر، لأنّ خوض أيّ معتركٍ يتطلّب من الإنسان أن يُقحم نفسه في دوامة من المشاكل والصعاب، ممّا يعني أن يتخلّى عن حظوظه من الراحة.


و- الآثار الناجمة عن خوض تجارب مؤلمة: فالحوادث المرّة غالباً ما تترك في نفس الإنسان حالةً من الخوف والرعب لأنّها تترسّخ في ذهنه وتحول دون إقدامه على خوض تجارب جديدة.

ز- الإفراط في توخّي الحذر: إنّ الإفراط في سلوك طريق الحذر من شأنه أن يورث الخوف أيضاً لأنّه يدفع بالإنسان إلى توقّي كل ما يحتمل فيه الخطر، فيعيش التردّد والخوف من الإقدام دائماً.

3- كيفيّة معالجة الجبن:
إنّ أحد الطرق لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية كما في سائر الرذائل الأخرى هي التفكّر في آثارها السلبية وعواقبها الوخيمة على صعيد الفرد والمجتمع. فعندما يتعرّف الإنسان إلى الآثار السلبية للخوف الموهوم وما يترتّب عليه من مذلّة وحقارة وتخلّف وحرمان، فإنه سيتحرّك حتماً لإزالة هذه الرذيلة من نفسه.

أمّا الطريق العمليّ لعلاج هذه الآفة فهو بالسعي إلى قطع كلّ دوافع وجذور هذه الرذيلة من النفس. فعندما تزول السحب المظلمة لسوء الظن بالله من سماء القلب، وتشرق شمس الإيمان والتوكّل على الله في فضاء الروح الإنسانية، فإنّ ظلمات الخوف الموهوم ستزول بسرعة من النفس. ومن الطرق الأخرى المفيدة في العلاج أيضاً، أن يورّط الإنسان نفسه في الميادين المثيرة للخوف والوحشة، ويعمل على إقحام نفسه فيها مرات عديدة، ومع تكرار التجربة سيزول الخوف من النفس حتماً. ونجد هذا المعنى بصورة جميلة في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: "إذا هبت أمراً فقع فيه، فإنّ شدّة توقّيه أعظم ممّا تخاف منه"1.
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج68، ص 362.
 
 
 
 
102

78

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت والهوى

 الخوف من الموت

1- حقيقة الموت:
ما هو الموت؟ وهل الموت يعني الفناء والعدم أم أنّه تحوّل وانتقال من مكان إلى مكان ومن عالم إلى عالم آخر؟ هذا السؤال كان على الدوام ولا يزال يجول في خاطر جميع البشر، وكلّ إنسان من دون استثناء يودّ أن يحصل على الجواب الصحيح لهذه المسألة.

الموت في نظر القرآن الكريم ليس عدماً بل هو انتقال من حياة إلى حياة أخرى، ومن عالم إلى عالم آخر، هو انتقال من دنيا محدودة وفانية إلى عالم واسع خالد وغير محدود. يقول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في وصيته لابنه الإمام الحسن عليه السلام: "واعلم يا بنيّ أنّك إنّما خلقت للآخرة لا للدنيا"1. فالموت في واقعه مرحلة من السير التكامليّ للإنسان نحو الآخرة والرجوع إلى الله عزّ وجلّ، كالجنين الذي يعيش مدّةً من الزمن في ظلمات الرحم ثم يخرج إلى الحياة لتبدأ رحلة جديدة من التكامل. وقد أجاب الإمام الجواد عليه السلام لمّا سئل عن حقيقة الموت بالقول: "هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة إلا أنّه طويل مدّته، لا ينتبه منه إلّا يوم القيامة، فمن رأى في نومه من أصناف الفرح ما لا يُقادِر قدره ومن أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره، فكيف حال فرح في النوم ووجل فيه؟! هذا هو الموت فاستعدّوا له"2.

وقال رجلٌ لجعفر بن محمّد عليه السلام: يا أبا عبد الله إنّا خُلِقنا للْعَجَبِ، قال: "وما ذاك الله (لله‏) أنت؟" قال: خُلِقنا للفناء، فقال: "مه يا ابن أخ خُلِقنا للبقاء وكيف تفنى جنَّة لا تبيد ونار لا تخمد؟ ولكن قل إنّما نتحوّل من دار إلى دار"3.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً في حقيقة الموت قال: "أيها النّاس وإنّا خُلِقنا وإيّاكم للبقاء لا للفناء ولكنّكم من دار إلى دار تُنقلون فتزوّدوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه"4.
 

1- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام-، مصدر سابق، ج 3، ص 48، الخطبة 31.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 6، ص 155.
3- المصدر نفسه، ج 5، ص 313.
4- المصدر نفسه، ج 68، ص 264.
 
 
 
 
103

79

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت والهوى

 يقول إمامنا الخمينيّ قدس سره: "وإذا كنتم في خدمة الإسلام وطاعة الله تبارك وتعالى فإنّ هذه الأنفس ستصبح أنفساً طاهرة وزكيّة وسعيدة، أينما كانت وعلى أيّة هيئة كانت. إنّ موت الإنسان - الإنسان الطاهر - هو بداية حياته الإنسانية، فهنا حياته الحيوانية وحياته المحدودة، أمّا تلك الحياة الإنسانية فهي غير محدودة وعالم غير محدود. ولو نزّهتم أنفسكم وطهّرتموها، ولو جعلتم أعمالكم منسجمة مع القرآن الكريم ومع أحكام الإسلام، وجعلتم أخلاقكم قرآنية، إذاً طهّرتم أنفسكم، فلا تخافوا شيئاً. إنّ الموت أمر يسير وليس بذي بال، فإنّ أمير المؤمنين سلام الله عليه مولى الجميع حينما يقول: "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل بثدي أمّه"1 فلأنّه فهم حقيقة الدنيا وحقيقة ما وراءها، وفهم حقيقة الموت وحقيقة الحياة"2.


2- الخوف من الموت وحبّ البقاء:
شكّل التخويف من الموت أحد أهمّ الحجج التي اعتمدها المنافقون والكافرون لمنع المؤمنين من التوجّه إلى الجهاد، حيث يقول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ3. إنّ هذا الكلام يزعزع الإيمان، ويُضعف المعنويات، ويزلزل روحيّة المسلمين، ولكنّه في نهاية المطاف يعبِّرُ عن غريزةٍ أساسيَّةٍ في الإنسان وجبلَّتِهِ، ألا وهي حُبُّ البقاء والخوفُ من الموت.

على الرغم من هذه الغريزة وحضورها القويّ في حياة الإنسان، إلا أنّ التربية الإسلامية أبت أن تجعلها حاكمة ومتسلّطة على تفكير الإنسان وأفعاله، فوضعت لها قواعد عامّة ومحكمة، وأخضعتها للتهذيب والتوجيه.

لقد بيّن الإسلام رؤيته الواقعية للموت، فالموت في نهاية الأمر واقعٌ لا محالة على كلّ
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج28، ص234.
2- صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج 6، ص 248.
3- سورة آل عمران، الآية 156.
 
 
 
 
104

80

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت والهوى

 إنسان كما يقول تعالى في القرآن الكريم ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾1. وما من أحد بإمكانه أن يفرّ من الموت أو أن يحدّد أجله، بل هو أمر بيد الله وحده: ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾2.


ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: "أيُّها الناس إنّ الموت لا يفوتُه المُقيم، ولا يُعجِزه الهارب، ليس من الموت محيد ولا محيص، من لم يُقتل مات، إنّ أفضل الموت القتل"3. وفي حديث آخر يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الله كتبَ القتل على قومٍ والموت على آخرين... فطوبَى للمجاهدين في سبيلِه والمقتولين في طاعتِه"4.

ويؤكِّد أمير المؤمنين عليه السلام أن الموت هو حالة انتقال من دنيا المحدودية والفناء إلى عالم الخلود والبقاء كما في الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام حيث قال: "إنما الدّنيا دار مجاز، والآخرة دار قرار، فخذوا من ممرّكم لمقرِّكم"22. والإنسان لم يخلق إلّا للخلود والبقاء كما ورد في وصية الإمام عليّ عليه السلام لابنه الإمام الحسن عليه السلام: "واعلم أنّك إنّما خلقت للآخرة لا للدنيا"5.

إنَّ كلَّ من يعرف حقيقة هذه الحياة الفانية والمتصرّمة ومفارقة روحه لجسده، ويؤمن بالحياة الخالدة في دار الآخرة، حيث ينتقل إليها روحاً وجسداً، فسوف تتبلور الرؤية أمامه وتتوضّح أكثر حقيقة هذه المرحلة الانتقالية المهمّة التي اسمها الموت، والتي هي بمثابة القنطرة التي سوف يعبر من خلالها إلى جنان الله الفسيحة والخالدة وستتبدّد مخاوفه ويسلّم أمره إلى الله ولا يكلّف إلّا الصّبر، كما قال الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه قبل واقعة الطفّ: "صبراً بني الكرام فما الموت إلا قنطرة يعبر بكم عن البؤس والضّرّاء إلى الجنان الواسعة والنّعيم الدّائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ وما هو لأعدائكم إلّا
 

1- سورة الأنبياء، الآية 35.
2- سورة الأحزاب، الآية 16. 
3- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص54.
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 32، ص 203.
5- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، مصدر سابق، ج2، ص 183، خطبة 203.
6- المصدر نفسه، ج 3، ص 48، الخطبة 31.
 
 
 
 
 
105

81

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت والهوى

 إنسان كما يقول تعالى في القرآن الكريم ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ1. وما من أحد بإمكانه أن يفرّ من الموت أو أن يحدّد أجله، بل هو أمر بيد الله وحده: ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾2.


ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: "أيُّها الناس إنّ الموت لا يفوتُه المُقيم، ولا يُعجِزه الهارب، ليس من الموت محيد ولا محيص، من لم يُقتل مات، إنّ أفضل الموت القتل"3. وفي حديث آخر يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الله كتبَ القتل على قومٍ والموت على آخرين... فطوبَى للمجاهدين في سبيلِه والمقتولين في طاعتِه"4.

ويؤكِّد أمير المؤمنين عليه السلام أن الموت هو حالة انتقال من دنيا المحدودية والفناء إلى عالم الخلود والبقاء كما في الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام حيث قال: "إنما الدّنيا دار مجاز، والآخرة دار قرار، فخذوا من ممرّكم لمقرِّكم"5. والإنسان لم يخلق إلّا للخلود والبقاء كما ورد في وصية الإمام عليّ عليه السلام لابنه الإمام الحسن عليه السلام: "واعلم أنّك إنّما خلقت للآخرة لا للدنيا"6.

إنَّ كلَّ من يعرف حقيقة هذه الحياة الفانية والمتصرّمة ومفارقة روحه لجسده، ويؤمن بالحياة الخالدة في دار الآخرة، حيث ينتقل إليها روحاً وجسداً، فسوف تتبلور الرؤية أمامه وتتوضّح أكثر حقيقة هذه المرحلة الانتقالية المهمّة التي اسمها الموت، والتي هي بمثابة القنطرة التي سوف يعبر من خلالها إلى جنان الله الفسيحة والخالدة وستتبدّد مخاوفه ويسلّم أمره إلى الله ولا يكلّف إلّا الصّبر، كما قال الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه قبل واقعة الطفّ: "صبراً بني الكرام فما الموت إلا قنطرة يعبر بكم عن البؤس والضّرّاء إلى الجنان الواسعة والنّعيم الدّائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ وما هو لأعدائكم إلّا
 

1- سورة الأنبياء، الآية 35.
2- سورة الأحزاب، الآية 16. 
3- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص54.
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 32، ص 203.
5- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، مصدر سابق، ج2، ص 183، خطبة 203.
6- المصدر نفسه، ج 3، ص 48، الخطبة 31.
 
 
 
 
105

82

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت والهوى

 كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب. إنّ أبي حدّثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الدّنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاءِ إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم"1.


3- علّة الخوف من الموت:
علّة الخوف من الموت ترجع إلى ضعف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، والنظر إلى الموت على أنه فناء وإعدام للإنسان، مع أنّ الصحيح خلاف ذلك كما بيّنّا. ومن جهة ثانية سببه أيضاً أعمال الإنسان السّيئة في الدنيا وما احتطبه الإنسان على ظهره من الآثام والمعاصي والأعمال السيئة التي بطبيعة الحال سوف يخاف من نتائجها وعواقبها عند حلول الموت والحياة الآخرة. ففي الحديث عن الإمام الصادق قال: "أتى إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رجلٌ فقال: ما لي لا أحبّ الموت؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم له: ألك مال؟ قال: نعم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: فقدّمته؟ قال: لا، قال صلى الله عليه وآله وسلم: فمن ثم لا تحبّ الموت!"2.

وجاء رجلٌ إلى الإمام الحسن عليه السلام فقال له: يا ابن رسول الله ما لنا نكره الموت ولا نحبّه؟ قال عليه السلام: "إنكم أخربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم، فأنتم تكرهون النُقلة من العمران إلى الخراب"3.

إننا لو فكّرنا قليلاً لماذا يكره معظم الناس الموت وينفرون منه لوجدنا أنّ السبب يكمن في نظرتهم للموت حيث يرون فيه خسارة وزوال النعم الدنيوية. فالإنسان الذي يرى أنّ سعادته وكماله يكمنان في الدنيا وكمالاتها، كيف سيرضى بتركها والانتقال عنها إلى عالم آخر لم يمهّد له من قبل؟! فالذي كان محور همّه وتعلّق قلبه بالنساء والأولاد والمال والجاه وغيرها من ملذّات الدنيا الفانية وشهواتها البالية كيف يمكنه أن يستغني عن مصدر سعادته هذه ويستأنس بالموت؟! في الحقيقة لو رجع أولئك الذين يفرّون من الموت إلى أنفسهم وسألوها عن السبب الحقيقيّ والخفيّ لنفورهم من الموت لأدركوا حتماً أنّ علّة هذا الأمر هي تعلّق قلوبهم بالدنيا وانعقاد آمالهم على لذائذها فكانت
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 6، ص 154.
2- المصدر نفسه، ج 6، ص 127.
3- المصدر نفسه، ج 6، ص 129.
 
 
 
 
106

83

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت والهوى

 النتيجة أن غفلوا عن الآخرة والسعي الصالح لها: ﴿إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾1.


إنّ من كانت همّته للدنيا ومن أجل تحصيل كمالاتها ومناصبها وجاهها وسمعتها لن يتعدّى أقصى طيرانه نيل هذه الملذّات الفانية والمشوبة بالمنغّصات حتماً. ومن كانت همّته لله وفي سبيل الله رأى الدنيا قفصاً ضيّقاً يمنعه من التحليق إلى كماله الحقيقي فيسعى للتحرّر منه والفرار من أسره كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الدّنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر"2.

وحدهم أولئك الذين أدركوا أنّ "الدنيا ساعة"3، وأنها "مزرعة الآخرة"4 والذين لا يرضون بالسعادة المحدودة عن المطلقة بدلاً، هم الذين يجعلون دنياهم سفراً دائماً نحو محبوبهم حيث الكمال الحقيقي والسعادة الحقيقية والراحة الأبدية.

4- كيفيّة الخلاص من هذا الخوف:
أما كيفيّة التخلّص من الخوف من الموت فعبر خطوات أولاها تكمن في إدراك حقيقة الموت كما تقدّم، لأنه يقلّل إلى حدٍّ كبير عامل الخوف منه. والخطوة الثانية بعد معرفة حقيقة الموت هي بالاستعداد كما في الحديث "هذا هو الموت فاستعدّوا له"5. والاستعداد للموت يكون من خلال الإيمان والاعتقاد الصحيح بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح الذي لا يبتغي منه المرء إلّا وجه الله تعالى والتقرّب إليه، كذلك وتذكّر الموت دائماً والاتّعاظ به وبمجرياته.

وفي رواية أخرى عن الإمام الجواد عليه السلام قال: "والذي بعث محمداً بالحقّ نبياً إنّ من استعدّ للموت حقّ الاستعداد فهو أنفع له من هذا الدواء لهذا العلاج، أما إنّهم لو عرفوا
 
 

1- سورة يونس، الآية 7.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 44، ص 297.
3- المصدر نفسه، ج 1، ص 151.
4- ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلي، تقديم السيد شهاب الدين النجفي المرعشي - تحقيق الحاج آقا مجتبى العراقي، مطبعة سيد الشهداء، ريران ـ قم،، 1403ه.ق - 1983م، ط1، ج 1، ص 267.
5- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 6، ص 155.
 
 
 
107

 


84

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت والهوى

 ما يؤدي إليه الموت من النّعم لاستعدوه وأحبّوه أشدّ ما يستدعي العاقل الحازم الدواء لدفع الآفات واجتلاب السلامات"1.


وعن كيفيّة الاستعداد للموت يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول أكثروا ذكر الموت فإنّه هادم اللذّات، حائل بينكم وبين الشّهوات"2.

وعنه عليه السلام: "إنّما الاستعداد للموت تجنّب الحرام وبذل النّدى والخير"3.

وفي رواية أخرى، قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: ما الاستعداد للموت؟ قال عليه السلام: "أداء الفرائض واجتناب المحارم والاشتمال على المكارم ثمّ لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه، والله ما يبالي ابن أبي طالب أوقع على الموت أم وقع الموت عليه"4.

الهوى
1- حقيقة اتّباع الهوى خطر عظيم:
الهوى هو حبّ الشيء والميل إليه والتعلّق به واشتهاؤه، من دون فرقٍ بين أن يكون متعلّقه أمراً حسناً أو قبيحاً. وهوى النفس هو عبارة عن حبّ النفس وميل الإنسان إلى اتّباع الأوامر الصادرة عنها سواء كانت خيراً أم شراً. واتّباع أوامر النفس في غير مرضاة الله تعالى يعدّ شركاً به لأنّ المطاع فيه هو النفس وليس الله.

وإنّ الأمر الصادر من النفس إن كان خيراً فلا ضير فيه ما دام في طاعة الله وضمن الأهداف الإلهية ولو في دائرة المباحات، وإن كان شراً فهو باطل لأنّه صادرٌ عن النفس الأمّارة بالسوء التي تأمر الإنسان بالسوء دائماً وتدفعه إلى معصية الرب ومخالفة أمره. وقد تحدّث الله تعالى عن هذه الحقيقة وأشار إلى أن المتّبع لهواه في طريق الضلال هو
 
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج6، ص155.
2- المصدر نفسه، ج 68، ص 264.
3- الحر العاملي، الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج 9، ص 409.
4- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 2، ص 100.
 
 
 
 
108

85

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت والهوى

 عابدٌ لغير الله: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾1.


فالآية واضحة الدلالة على أنّ الإنسان يمكن أن يتسافل إلى الحدّ الذي تصبح فيه نفسه هي المعبودة والمطاعة وليس الحقّ عزّ وجلّ، والمشكلة الكبرى في هذه التبعيّة للنفس تكمن في أنها تضلّ الإنسان عن جادّة الحق والصّراط المستقيم، كما قال عزّ اسمه: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾2.

2- مخالفة الهوى تكليف إلهيّ:
الأخطر في اتّباع الهوى هو أنّه يصدّ عن سبيل الحقّ، ويحول دون الوصول إليه. وهل بعد سبيل الحقّ إلّا الضلال!؟ فعن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قال: "إنّما أَخاف عليكم اثنتين‏؛ اتّباع الهوى وطول الأَمل أَما اتّباع الهوى فإنّه يصدّ عن الحق وأَما طول الأَمل فينسي الآخرة"3.

لقد صرّح القرآن الكريم بضرورة تجنّب هوى النفس وعدم طاعتها، لأنّها لن تورث الإنسان إلّا العذاب والضّلال، قال تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾4, وعن الإمام عليّ عليه السلام أيضاً أنّه قال: "إنّ طاعة النّفس ومتابعة الهوى أسُّ كلّ محنة ورَأس كلّ غواية"5.

إنّ اتّباع هوى النفس الذي يتخوّفه علينا الإمام عليّ عليه السلام يكون بطاعتها واتّباع الأوامر الصادرة عنها دون الله والانصياع التامّ لتلبية رغباتها، والحلّ لا يكون إلّا بمخالفة هذا الهوى كما قال الباري عزّ وجلّ: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *
 
 

1- سورة الجاثية، الآية 23.
2- سورة الانعام، الآية 119.
3- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 355.
4- سورة ص، الآية 26.
5- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 12، ص 114.
 
 
 
 
109

 


86

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت والهوى

 فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى1. والسبيل الوحيد لنهي النفس عن الهوى والخروج من سلطان طاعتها يكمن في مخالفتها وعدم طاعتها. بمعنى آخر إنّ الحلّ الوحيد يكمن في مخالفة هذه الأوامر النابعة من النفس والاحتكام عوضاً عنها إلى أحكام الشريعة والعقل في كافّة شؤون حياتنا، بالإضافة إلى تقوية رادع الإيمان والتقوى في النفس.

 


3- كيفيّة مخالفة الهوى:
من يشعر بوجود الله دائماً في حياته ويراه حاضراً وناظراً إلى سلوكياته وأفعاله، ويرى محكمة العدل الإلهية يوم القيامة بعين البصيرة لا يمكن أن يتجرّأ على كسر طوق الحدود الإلهية ويتجاوز التشريعات الدينية ويتلوّث بمفاسد الشهوات والرذائل ولا يرتدع برادع العقل.

والمجاهد في ميدان المعركة يصطدم دائماً بحاجز حبّ النفس والهوى، فهو في كلّ حركة وخطوة تحدّثه نفسه بالسلامة والحفاظ على النفس وتوقّي الجهد والتّعب والمشقَّة، وربما إلقاء ذلك على كاهل الآخرين، وبالتالي الوقوع في مخالفة الأوامر والتكاليف. وهذا الأمر غالباً ما يؤدي إلى تصدّع جبهة الحقّ وبالتالي الهزيمة والفشل العسكريّ القاتل، كما في قصة خذلان بعض الجنود المكلّفين بحماية ظهر الجيش الإسلاميّ في معركة "أحد" طلباً للغنائم وحباً للدنيا، وبالتالي اتِّباعاً للهوى النفسيّ، حيث سبّب ذلك نكسة للمسلمين، وطعناً في قلب الرسول الأعظم محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذا عبرة وموعظة لمن ألقى السمع وهو شهيد.

لذا ينبغي أن يكون نظر المجاهد شاخصاً دائماً نحو تكليفه الشرعيّ فلا يحيد عنه قيد أنملة، لأنّ النظر الدائم للتكليف الشرعيّ والعمل به هو الضمانة الوحيدة والوسيلة الشرعية المُثلى للتفلّت من أهواء النفس واتّباع أوامرها. لأنّه من جهة لا يدرك ما عند الله إلّا بطاعته، ومن جهة ثانية لا يمكن التفلّت من أسر الهوى ونيل الدرجات العلى إلّا بالطاعة.
 
 

1- سورة النازعات، الآيتان 40-41.
 
 
 
 
110

87

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت والهوى

 عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "فإنّ الله لا يُدرك شي‏ء من الخير عنده إلّا بطاعته واجتناب محارمه التي حرّم الله في ظاهر القرآن وباطنه فإنّ الله تبارك وتعالى قال في كتابه وقوله الحقّ ﴿وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾1"2.


وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "رحم الله امرأً أقمع نوازع نفسه إلى الهوى فصانها وقادها إلى طاعة الله بعنانها"3، وقال عليه السلام: "من أحبّ نيل درجات العلى فليغلب الهوى"4، وقال عليه السلام: "أفضل النّاس من عصى هواه وأفضل منه من رفض دنياه"5.

فالمجاهد الذي يصارع هواه ويبحث عن الدرجات العلى لا يحتاج إلى كثير عناء ليقوم بالتضحيات متى ما نودي إليها. كذا كان الأمير عليه السلام جاهزاً دائماً لأداء الواجب الشرعيّ وللشَّهادة في سبيل المولى تعالى، خصوصاً في المواقف الحرجة والمصيرية كما فعل عليه السلام عندما فدى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه حينما بات على فراشه، فأثنى عليه ربّ العالمين حينما قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ6.
 
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 8، ص 7.
2- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 8، ص 7.
3- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 11، ص 255.
4- المصدر نفسه، ج 12، ص 115.
5- المصدر نفسه، ج 12، ص 114.
6- سورة البقرة، الآية 207.
 
 
 
 
 
111

 


88

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت والهوى

 المفاهيم الرئيسة


1- الجبن هو الخوف غير المنطقيّ وهو يقابل الشجاعة والجرأة.

2- صفة الجبن لا تنسجم مع الإيمان القويّ والراسخ بالله، وهو يورث الإنسان المذلّة والهوان.

3- للجبن دوافع عديدة أهمّها: ضعف الإيمان والنفس، الخوف من قوّة العدوّ، الجهل والاعتقادات الخاطئة، حبّ الراحة، الحوادث السلبية والتجارب الحياتية المؤلمة، الإفراط في توخّي الحذر.

4- للجبن علاجان، الأول علميّ عبر التفكّر في الآثار السلبية له، وعلاج عمليّ يكمن بقطع كل دوافع وجذور هذه الرذيلة من النفس من خلال إقحامها في المواقف الخطيرة حتّى تتعوّد.

5- بيّن الإسلام رؤيته الواقعية للموت إذ هو في نهاية الأمر واقعٌ لا محالة على كل إنسان، يقول تعالى ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾.

6- لا يمكن لأحد أن يفرّ من الموت أو أن يحدّد كيفيّته، بل هو أمر بيد الله وحده ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾.

9- كيفية التخلّص من الخوف من الموت تكمن في إدراك حقيقة الموت، لأنه يقلّل إلى حدٍّ كبير عامل الخوف منه، كما في الحديث عن الأمير عليه السلام: "إنّما الاستعداد للموت تجنّب الحرام وبذل النّدى والخير".

10- هوى النفس عبارة عن حبّها وميل الإنسان إلى اتّباع الأوامر الصادرة عنها سواء كانت خيراً أم شراً.

11- إنّ اتّباع أوامر النفس في غير مرضاة الله تعالى يعدّ شركاً به لأنّ المطاع فيه هو النفس وليس الله.

12- تحدّث الله تعالى عن اتّباع الهوى في القرآن وبيّن أنَّ المتَّبع لهواه هو في الحقيقة عابدٌ لنفسه لا لربّه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾.

13- اتّباع الهوى يصدّ عن سبيل الحقّ، وينسي الآخرة.

14- إنّ السبيل الوحيد لنهي النفس عن الهوى والخروج من سلطان طاعتها يكمن في أمر أساسيّ وجوهريّ وهو طاعة الله واتّباع شريعته.

15- المجاهد في ميدان المعركة يصطدم دائماً بفتنة حبّ النفس والهوى، لذا ينبغي أن يكون نظره شاخصاً دائما نحو الله وتكاليفه الشرعية.
 
 
 
 
 
 
112

89

الدّرس الثامن: حبّ الدنيا

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يفهم حقيقة الدنيا ومنشأ الركون إليها.
2- يعتقد أنّ الركون إلى الدنيا من مثبّطات الجهاد الأساسية.
3- يتعرّف الى سبل الوقاية التي يمكن أن تقي الإنسان من هذه الفتنة.
 
 
 
 
115

90

الدّرس الثامن: حبّ الدنيا

 المشكلة في حبّ الدنيا

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾1. وفي الحديث المشهور المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام: "حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة"2.

تبيّن هذه النصوص الشريفة بشكل واضح أنّ الاكتفاء والرضا بالحياة الدنيا والاطمئنان إليها يمكن أن يكون سبباً للكثير من المشاكل والتي منها دخول النار والعياذ بالله، لأنّ الرضا بالحياة الدنيا يكشف عن غفلة الإنسان عن الله والحياة الحقيقيّة في الآخرة.

وما العذاب في الآخرة إلّا بسبب هذه الغفلة. فالآية لم تذمّ الذين يعيشون في الدنيا، يأكلون ويشربون ويتمتّعون، بل الذين تعلّقت قلوبهم بالدنيا واطمأنّوا بها، واختاروها بدلاً عن رضا الله والحياة الآخرة وتشبّثوا بها حتى نسوا الله والدار الآخرة: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ3. والمجاهد في سبيل الله هدفه الأول والأخير هو الله سبحانه وتعالى والحياة الخالدة في جنان القرب عند المليك المقتدر، حيث لا تعب ولا نصب، بل روح وريحان، سرور لا ينتهي وحبور دائم.

لذا فإنّ كلّ ما يشغل المجاهد عن هدفه الأصليّ هو عنده مذموم ولا قيمة له، بل ولا يستحقّ منه أدنى التفاتة وانتباه. من هنا كانت الدنيا عند المجاهد لا تساوي عفطة
 

1- سورة يونس، الآيتان 7-8.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج 16، ص 9.
3- سورة الأعراف، الآية 51 .
 
 
 
 
117

91

الدّرس الثامن: حبّ الدنيا

 عنز كما هي عند سيّده ومولاه إمام المجاهدين عليّ عليه السلام وهو القائل: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله سبحانه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها و لألفيتم دنياكم هذه عندي أزهد من عفطة عنز"1. وهو سلام الله عليه القائل أيضاً: "يا دنيا أبي تعرّضت أم إليّ تشوّقت؟ هيهات هيهات غرّي غيري"2.


حبّ الدنيا في الآيات والروايات
لقد استفاضت الآيات والروايات في الحديث عن الدنيا والتحذير من مغبّة التعلّق بها وحبّها والاكتفاء بها، لأنّ ذلك يحرف الإنسان عن جادّة الحقّ وصراطه المستقيم، ومن هذه الأدلّة ما يلي:
قوله تعالى: ﴿وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ3.

وقوله عزّ اسمه: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾4.

وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾8, وقوله تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى5.

وقوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾6, وقوله تعالى: ﴿وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ7. وفي هذا إشارة واضحة إلى
 

1- السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، مصدر سابق، ج 1، ص 36، الخطبة 3.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 33، ص 274.
3- سورة ابراهيم، الآيتان 2-3.
4- سورة البقرة، الآية 86.
5- سورة النازعات، الآيات 37-39.
6- سورة الأعلى، الآيتان 16-17.
7- سورة الانعام، الآية 32.
8- سورة آل عمران، الآية 185.
 
 
 
118

92

الدّرس الثامن: حبّ الدنيا

 أنّ ما لا يتوصّل به من أمور الدنيا إلى سعادة الآخرة أمور وهمية عديمة النفع وسريعة الزوال، وهي لعبٌ يُتعب الناس به أنفسهم إتعاب الصبيان في الملاعب من غير فائدة، ولهذا فهي لهو يلهون به أنفسهم عمّا يهمّهم. وهذه الحالة ترافق الإنسان في مراحل حياته المختلفة، لكنّه كلّما ارتقى من مرحلة عمرية إلى أخرى أدرك أن تعلّقه بالدنيا كان وهماً ولعباً.


وفي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خبر المعراج قال: "قال الله تبارك وتعالى: يا أحمد لو صلّى العبد صلاة أهل السماء والأرض ويصوم صيام أهل السماء والأرض ويطوي عن الطعام مثل الملائكة ولبس لباس العابدين ثم أرى في قلبه من حب الدنيا ذرّة أو سمعتها أو رئاستها أو صيتها أو زينتها لا يجاورني في داري ولأَنزعنّ من قلبه محبتي ولأُظلمنّ قلبه حتّى ينساني ولا أذيقه حلاوة محبتي"1.

وعن الصّادقِ عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾2 قال: "هو القلب الذي سلِم من حبّ الدنيا"3.

وعن الإمام عليّ عليه السلام قال: "إن كنتم تحبّون الله فأخرجوا من قلوبكم حبّ الدنيا"4، وعنه عليه السلام أيضاً أنّه قال: "إنّك لن تلقى الله سبحانه بعمل أضرّ عليك من حبّ الدنيا"5.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "في مناجاة موسى عليه السلام: يا موسى إنّ الدنيا دار عقوبة، عاقبتُ فيها آدم عند خطيئته، وجعلتها ملعونة، ملعون ما فيها إلّا ما كان فيها لي. يا موسى إنّ عبادي الصالحين زهدوا في الدنيا بقدر علمهم، وسائر الخلق رغبوا فيها بقدر جهلهم، وما من أحد عظّمها فقرّت عيناه فيها، ولم يحقّرها أحد إلّا انتفع بها"6.
 

1- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 12، ص 36.
2- سورة الشعراء، الآية 89.
3- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 12، ص 40.
4- المصدر نفسه، ج 12، ص 40.
5- المصدر نفسه.
6- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 317.
 
 
 
 
119

93

الدّرس الثامن: حبّ الدنيا

 منشأ حبّ الدنيا

منشأ حبّ الدنيا والتعلّق بها والاستغراق في ملذّاتها وشهواتها يعود إلى أمرين أساسيّين:
الأول: توهّم الإنسان أنّ كماله وسعادته وراحته في هذه الحياة الدنيا وشهواتها من دون إعطاء أهميّة لرضا الله ولقائه.
الثاني: جهل الإنسان بحقيقة الحياة الدنيا الفانية، وبدورها الحقيقيّ والمرحليّ في حياة الإنسان، وأنها دار ممرٍّ وامتحان وتكليف، دون أن يخطر في بال هذا المسكين أنّ الدنيا فانية وزائلة لا محالة كما أخبر الله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾1, وأنّها لم تدم لغيره حتّى تبقى له. فكيف يجد الإنسان سعادته في أمر فان؟! وكيف يعلّق آماله على شيء زائل ووضيع؟! فكلّ من يركن إلى الحياة الدنيا وينجذب إليها ولا يتورّع عن الدخول في حرامها ويسرف في حلالها لن يلبث أن يقع في المعصية التي إن أصرّ عليها أهلكته لا محالة. لذا كان بغض الدنيا بمعنى عدم الركون إليها والاغترار بها هو من أفضل الأعمال كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ما من عمل أَفضل عند اللَّه بعد معرفة اللَّه ومعرفة رسوله وأَهل بيته من بغض الدنيا"2.

الدنيا مزرعة الآخرة
إنّ الحياة الحقيقيّة والأبديّة للإنسان ميسّرة في عالم الآخرة فقط، أمّا الحياة الدنيا فمتاعها قليل وهي فانية وزائلة: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً3، ولكنّ هذا لا يعني أن لا قيمة لهذه الحياة الدنيا.

فإذا عرف الإنسان حقيقة الحياة الدنيا ودورها وأدرك أنّها مقدّمة للحياة الحقيقيّة الخالدة في عالم الآخرة، والتفت إلى أنّ اللحظات القصيرة التي جعلها الله تعالى له في الدنيا ستكون مفتاحاً لكنوزه الأخرويّة الأبديّة، وإذا فهم ماهيّة العلاقة بين الدنيا والآخرة وتأثير حياته الدنيويّة على حياته الأخرويّة الخالدة، وعرف أنه لا بدّ من الزراعة هنا حتى يتمّ
 

1- سورة الرحمن، الآية 26.
2- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 12، ص 36.
3- سورة النساء، الآية 77.
 
 
 
 
120

94

الدّرس الثامن: حبّ الدنيا

 الحصاد هناك كما قال عيسى عليه السلام: "بحقٍّ أقول لكم إنّ الدنيا خلقت مزرعة يزرع فيها العباد الحلو والمرّ والشر"1، وأنّ أولي النعمة هناك هم الذين أنجزوا أعمالاً هنا وسعوا وجدّوا من أجل تلك الحياة وتحصيل السعادة فيها، عندها سوف يدرك الإنسانُ أنَّ للدنيا دوراً وتأثيراً إيجابياً جدّاً في ارتقائه وتكامله، فعن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قال: "إنّما الدنيا دار ممرّ والآخرة دار مستقرّ، فخذوا من ممرّكم لمستقرّكم"2.


والإنسان الذي يتمتّع بهذه المعرفة لن يعادي الحياة الدنيا لأنه سيدرك هذه الحقيقة، وهي أنّه كلّما استمرّ وجوده في الدنيا أكثر كان قادراً على التكامل أكثر، وإنجاز المزيد من الأعمال الصالحة وبالتالي بلوغ مقامات أخرويّة أسمى.

فالروايات والأدعية المرويّة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام والتي تتحدّث عن طلبهم طول العمر من الله قائمة على هذه الرؤية والاستنتاج المذكور. لقد كانوا على علم بأنّ الحياة الدنيا يمكن أن تكون وسيلة لنيل السعادة الأخرويّة.

والتعابير الواردة في الروايات نظير "الدنيا مزرعة الآخرة"3 تشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ على الإنسان أن يعمل في الدنيا لكي ينال السعادة الدائمة في الآخرة. فهذه الحياة مرحلة لا بدّ أن نجتازها ووسيلة ينبغي أن نستخدمها في مجالها وبصورة صحيحة، وأداة يجب الاستفادة منها بدقّة كي ننال سعادتنا والحياة اللائقة بنا في العالم الخالد. وفي هذه الحالة فقط يرغب الإنسان أن تطول فترة حياته الدنيويّة كي يوفّق للمزيد من الأعمال الصالحة. لذا وحدهم الشهداء يتمنّون الرجوع إلى الدنيا للقتال والجهاد لما يرونه من ثواب الله وفضله. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما من أحد يدخل الجنّة فيتمنّى أن يخرج منها إلّا الشّهيد فإنّه يتمنّى أن يرجع فَيقتل عشر مرّات ممّا يرى من كرامة الله"‏4.
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 14، ص 312.
2- التميمي الآمدي، تصنيف غرر الحكم، مصدر سابق، ص 149.
3- ابن ابي جمهور الاحسائي، عوالي اللالي، مصدر سابق، ج 1، ص 267.
4- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 11، ص 13.
 
 
 
 
121

95

الدّرس الثامن: حبّ الدنيا

 أما تمنّي الموت من قبل أولياء الله وشهدائه كما قال مولى الموحّدين علي بن أبي طالب عليه السلام: "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه"1 فهو من أجل لقاء محبوبهم بعد الموت حيث فصلتهم الحياة المادّية عنه، وبالموت يرتفع هذا المانع وينالون لقاء محبوبهم. وهذا لا يتنافى مع طلبهم البقاء والدوام في هذا العالم كما ذكرنا، فهم من جهة يطلبون بقاءهم لكي يستعدّوا بنحوٍ أفضل للّقاء، ويتمنّون الموت من جهة أخرى شوقاً للقاء محبوبهم. فالمقصود الأصليّ للإنسان هو النعم الأخرويّة والكرامات الإلهية ورضا الله تعالى.


الدنيا الممدوحة والدنيا المذمومة
في الحديث المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة"2. ولكن ينبغي التنبيه إلى أنه ليس المقصود من حبّ الدنيا والتعلّق بها، حبّ الطبيعة من الجبال والأنهار وغيرها أو حبّ الناس، بل المراد بحبّ الدنيا تعلّق القلب بهذه الأمور بحيث تشكّل عائقاً أمام ارتقاء الإنسان وسفره نحو الآخرة والحقّ. وبشكل أدقّ إن تعلّق القلب بملذّات الدنيا وشهواتها وأموالها وزينتها الى الحدّ الذي يحول دون توجّه عقل الإنسان وقلبه وفكره وعمله إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى الحدّ الذي يدفعه إلى الوقوع في الحرام ومن دون اعتبار للوقفة في المحكمة الإلهية هو الأمر القبيح والمذموم، وهو الذي قالت عنه الروايات الشريفة أنه رأسُ كلّ ذنبٍ وخطيئة، ففي الحديث أنَّه ممّا وَعظ به الله تعالى عيسى عليه السلام: "يا عيسى.. واعلم أَن رأس كلّ خطيئة وذنب هو حبّ الدنيا فلا تحبّها فإنّي لا أحبّها"3. وذلك لأن الدنيا والآخرة لا يجتمعان، وحبّها وحبّ الله في القلب لا يلتقيان كما جاء عن مولى الموحّدين عليه السلام أنه قال: "كما أَن الشمس والليل لا يجتمعان كذلك حبّ اللَّه وحبّ الدنيا لا يجتمعان"4.
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 28، ص 234.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج 16، ص 9.
3- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 8، ص 131.
4- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 12، ص 42.
 
 
 
 
 
122

96

الدّرس الثامن: حبّ الدنيا

 وإذا أردنا أن نختصر الأمر نقول إنّ الدنيا في الحقيقة دنياءان: دنيا ممدوحة ودنيا مذمومة، كما قال إمامنا السجاد عليه السلام: "الدنيا دنياءان: دنيا بلاغ، ودنيا ملعونة"1. وليس طلب مطلق الدنيا وطيّباتها حراماً ومذموماً: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ2.


ذات يوم جاء رجل إلى الإمام الصادق عليه السلام وقال له: إنّا لنطلب الدنيا ونحبّ أن نؤتاها، فقال: "تحبّ أن تصنع بها ماذا؟"، قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصل بها وأتصدّق، وأحجّ وأعتمر، فقال أبو عبد الله عليه السلام: "ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة"3.

وورد في نهج البلاغة أن شخصاً ذمّ الدنيا في محضر الإمام عليّ عليه السلام فعارضه الإمام عليه السلام بشدّة قائلاً: "أيها الذامّ للدنيا، المغترّ بغرورها، المخدوع بأباطيلها، أتغترّ بالدنيا ثم تذمّها؟" - إلى أن قال - "إنّ الدنيا دار صدق لمن صدّقها ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها، مسجد أحباء الله، ومصلّى ملائكة الله ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله..."4.

فالحياة الدنيا بنفسها غير مذمومة بل إنّ علاقة الإنسان بها وانخداعه واغتراره بها وغفلته عن الآخرة وانشغاله بالدنيا إلى الحدّ الذي ينسى معه الله تعالى ولقاءه هو المذموم. فالذمّ يتوجّه أوّلاً إلى سلوك الإنسان وعلاقته بالدنيا، هذه العلاقة التي قد تقوده إلى الوقوع في الحرام أو الإسراف في طلب حلال الدنيا دون حسيب أو رقيب، ودون الرجوع إلى الحدود والضّوابط الشرعيّة والأحكام الإلهية، والله تعالى هو القائل في كتابه
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 131.
2- سورة الأعراف، الآية 32.
3- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 5، ص 72.
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 70، ص 100.
 
 
 
 
123

97

الدّرس الثامن: حبّ الدنيا

 الكريم: ﴿كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ1, ﴿كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾2.


‏فإنّ نقطة الانحراف الأساس والتي تنشأ منها كلّ العيوب هي الإفراط في اهتمام الإنسان بالدنيا وتعلّق قلبه بها وابتغاؤها بصورة مستقلّة وجعلها المنتهى والهدف.

علاج حبّ الدنيا
يجب على الإنسان المجاهد أن يحرص وبكلّ قواه على نبذ كل تعلّق له بالدنيا، لأنَّ القليل من هذا التعلّق المحرّم ربّما يؤدّي به إلى الحرمان والعذاب الأليم ولعنة الاستبدال، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ3.

ولك أنْ تُلاحظ مدى دقّة كلمة ﴿اثَّاقَلْتُمْ﴾ في الخطاب القرآنيّ، إذ إنّ التعلّق بالدنيا دون الحياة الأخرى الأصيلة يثقل كاهل الإنسان ويعمي بصيرته في رضى بما هو زائل وتافه أمام الدائم الأبديّ! ولاحظ أيضاً أنّ الخطاب موجّه إلى خصوص المجاهدين، وهو صريح في بيان مراده من تعرية حقيقة الدنيا أمام المجاهد ليسهل عليه ترك تعلّقه المدمر بها. والسبيل إلى ذلك من خلال ثلاثة أمور:
الأول: أن يعرف أنّ الدنيا ليست هي الهدف ولا الغاية، وأنّ السعادة فيها وضيعة وزائلة وغير باقية أصلاً: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾4.

روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه رأى جابر بن عبد الله وقد تنفّس الصعداء فقال عليه السلام: "يا جابر
 

1- سورة الأعراف، الآية 31.
2- سورة طه، الآية 81.
3- سورة التوبة، الآيتان 38-39.
4- سورة القصص، الآية 60.
 
 
 
 
124

98

الدّرس الثامن: حبّ الدنيا

 على ما تنفسك.. أعلى الدنيا؟"، فقال جابر: نعم. فقال له الإمام: "يا جابر ملاذ الدنيا سبعة: المأكول والمشروب، والملبوس، والمنكوح، والمركوب، والمشموم، والمسموع. فألذّ المأكولات العسل وهو بصق ذبابة (نحلة)، وأحلى المشروبات الماء وكفى بإباحته وسباحته على وجه الأرض، وأعلى الملبوسات الديباج وهو من لعاب دود، وأعلى المنكوحات النساء، وهو مبال في مبال، وإنّما يراد أحسن ما في المرأة لأقبح ما فيها، وأعلى المركوبات الخيل وهو قواتل، وأجلّ المشمومات المسك وهو دم من سرّة دابة، وأجلّ المسموعات الغناء والترنّم وهم إثم. فما هذه صفته لم يتنفّس عليه عاقل!!" قال جابر بن عبد الله: فوالله ما خطرت الدنيا بعدها على قلبي1.


الثاني: على الإنسان العاقل أن يتذكّر الموت دائماً، ويعتبر منه، ويحدّث نفسه به بالليل والنهار، لأنه أبلغ حقيقة وأقوى برهان على أنّ الإنسان لم يُخلق لهذه الحياة الدنيا، ولا للبقاء فيها. سأل أحدهم الإمام الباقر عليه السلام: "حدّثني بما أَنتفع به فقال: يا أَبا عبيدة أَكثر ذكر الموت فإنّه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلّا زهد في الدنيا"2.

الثالث: على المجاهد أن يصحّح نظرته إلى الدنيا ويدرك أنّ حياته ليست محصورة بهذه الحياة، بل هناك حياة أخرى خالدة وراءها. وأن يكتشف العلاقة الواقعيّة بين الدنيا والآخرة، من خلال المقارنة بينهما ليدرك أنّ علاقة الدنيا بالآخرة هي علاقة الطريق بالهدف، أو الوسيلة بالغاية، فالدنيا "دار ممرّ إلى دار مقرّ"3 كما قال مولى الموحّدين علي بن أبي طالب عليه السلام. أمّا لو نظر إليها نظر إعجاب وافتتان بزينتها واتّخذها هدفاً نهائيّاً له، فسوف تكون رؤيته الخاطئة هذه منشأً للكثير من الأخطاء الفكريّة والسلوكيّة في المستقبل، لأنّه اتّخذ الوسيلة هدفاً والطريق مقصداً. إنّ حال صاحب هذه الرؤية حال من يوفّر مستلزمات السفر إلى بلد ما لأداء عمل ما ضروريّ، وفي أثناء الطريق ينجذب إلى الخُضرة والمشاهد الجميلة حتّى ينسى هدفه الأساس من الرحلة.
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 75، ص 11.
2- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 131.
3- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام-، مصدر سابق، ج 4، ص 33.
 
 
 
 
125

99

الدّرس الثامن: حبّ الدنيا

 الرابع: الزهد، فالذين يزهدون في الدنيا، لا يتخلّفون أبداً عن الجهاد. يقول الإمام علي عليه السلام: "من زهد في الدنيا أعتق نفسه، وأرضى ربه"1. وحقيقة الزهد يوضحها القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾2. فالمجاهد لا بّد وأن لا يتأثر ولا يعير اهتماماً لأعراض الدنيا الفانية، سواء ما خسر منها أو ما سيحصل عليه. فهو يتعامل مع الدنيا من موقع القوة، أي من موقع المعرفة بحقيقتها والعالِم بحدودها، ولذا فهو لا يمكنه أن يتمسّك ويتعلّق بشيء منها مقابل طاعة الله تعالى. وهذه المعرفة والقوة، هي بوابة الحرية الحقيقية للإنسان المجاهد الذي يأبى الخضوع للاستكبار والظلم والتعدّي، وفي ذات الوقت فإنَّهُ يأبى الخضوع للدنيا وكلِّ زينتها الآنية.

 


1- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص 462.

 

2- سورة الحديد، الآية 23.

 

 

126


100

الدّرس الثامن: حبّ الدنيا

 المفاهيم الرئيسة


1- الاكتفاء والرضا بالحياة الدنيا والاطمئنان إليها يمكن أن يكون سبباً للكثير من المشاكل والتي منها دخول النار والعياذ بالله، لأنّ ذلك يكشف عن غفلة الإنسان عن الله.

2- منشأ حب الدنيا أمران: الأول: توهّم الإنسان أنّ كماله وسعادته وراحته فيها، والثاني: جهل الإنسان بحقيقة الحياة الدنيا الفانية، وبدورها الحقيقيّ.

3- إنّ الدنيا في الحقيقة دنياءان: دنيا ممدوحة ودنيا مذمومة - قال السجّاد عليه السلام: "الدنيا دنياءان: دنيا بلاغ، ودنيا ملعونة".

4- إنّ طلب الدنيا وطيّباتها ليس حراماً ومذموماً على نحو الإطلاق، يقول الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾، ولكنّ المشكلة هي في التعلّق القلبيّ بها الذي ينسي الآخرة ويجعل الإنسان غافلاً عنها.

5- يجب على الإنسان المجاهد أن يحرص وبكلّ قواه على نبذ كل تعلّق له بالدنيا، فالقليل من هذا التعلّق المحرّم يؤدّي به إلى الحرمان والعذاب الأليم ولعنة الاستبدال، يقول تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾.

6- إنّ تعرية حقيقة الدّنيا أمام المجاهد تسهّل عليه ترك تعلّقه بها، والسّبيل إلى ذلك من خلال ثلاثة أمور:
أولاً: أن يعرف أنّ الدّنيا ليست هي الهدف ولا الغاية.
ثانياً: أن يتذكّر الموت دائماً، ويعتبر منه، ويحدِّث نفسه به بالليل والنهار.
ثالثاً: أن يصحّح نظرته إلى الدنيا ويدرك أنّ حياته ليست محصورة بهذه الحياة، بل هناك حياة أخرى خالدة وراءها.
رابعا: الزهد.
 
 
 
 
 
127

101

الدرس التاسع: سوء الظنّ بالله واليأس من روحه

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى سوءِ الظنِّ بالله عزّ وجلّ وحقيقة اليأس من روحه تعالى.
2- يعرض حقيقة البلاءِ وعلاقته بتربية المجاهد.
3- يحدّد آثار حُسن الظنِّ بالله تعالى، ودوره في توجيه حقيقة البلاء.
 
 
 
 
 
 
129

102

الدرس التاسع: سوء الظنّ بالله واليأس من روحه

 مدخل

الجهاد في سبيل الله طريق ذات الشوكة الذي لا يُعدم فيه الإنسان المشقّات والشدائد والآلام التي تحيط به من كلّ جانب. فظروف الجهاد صعبة وليست بالأمر السهل، وإذا لم يكن المجاهد ذا ثقة بالله تعالى، وبأنّه لا تصدر أحكامه وتكاليفه الشرعية إلّا عن حكمة ومصلحة، لأنّه الودود العطوف الرحيم بخلقه الذين خلقهم لكي يصلوا إلى كمالهم الإنسانيّ فإنّه سوف يحرم من بركات الجهاد وثماره الطيّبة. أما لو تسلّل اليأس وسوء الظن بالله وبأحكامه الشرعية إلى قلب المجاهد والعياذ بالله فإنّه يخشى عليه من الوقوع فيما لا تحمد عقباه...

الحكمة والعدالة في الخلق والإيجاد
خلق الله سبحانه وتعالى الدنيا وأطبق عليها بسلطانه وأحكامه، وجعل ذلك كلّه مبنّياً على تقدير وحكمة إلهية تراعي مبدأ النظام والعدالة في كلّ شيء، بحيث وضع كلّ شيء في مكانه المناسب والصحيح بحسب قابلياته واستعداداته المودعة: ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ1, فإن الله عزّ وجلّ يعطي كلّ موجود بحسب لسان استعداده وسؤاله ولا يظلم أحداً: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ2.

والله أجرى الأمور بأسبابها، والتغيير الفرديّ والاجتماعيّ نحو الأفضل لا بدّ أن ينطلق من إصلاح ما في النفس، لأنّه سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ
 

1- سورة ابراهيم، الآية 34.
2- سورة الانفال، الآية 51.
 
 
 
 
131

103

الدرس التاسع: سوء الظنّ بالله واليأس من روحه

مَا بِأَنْفُسِهِمْ1, وهذه قاعدة أساسية في البناء العقائديّ والأخلاقيّ في الإسلام، فالله هو: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ2 وهو: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا3.

فهذا الكون المبنيّ بأفضل طريقة وأحسن صورة، هو نظام كامل لا يمكن أن تجد فيه عيباً ولا عوجاً، أو تدّعي فيه نقصاً، وهو يمثل في الواقع أفضل عدّة وضعها الله تعالى للإنسان في مرحلته الانتقالية، كي يستفيد منها في صقل طاقاته وتنميتها لكي يصل إلى الهدف الحقيقيّ من خلقه وإيجاده. فالخلق له هدفٌ وليس أمراً عبثياً: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ4, وهذا الهدف ليس سوى أن يكون الإنسان خليفة الله في أرضه كما تبيّن الآية الشريفة: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾5. وهذا الهدف السامي للحياة بدوره لن يكون أمراً قابلاً للتحقّق إلا من خلال أمر واحد وهو العبودية الحقّة والمطلقة لله سبحانه، وهو عزَّ اسمُه القائل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾6.

وعليه فأيَّة ذرّة شكّ وريب تحصل لدى الإنسان بأنّ بعض الأمور التي تحدث معه هي خارجة عن هذا النظام الكونيّ العامّ المسخّر لخدمته وتحقيق كماله، هي إشارات لخلل في اعتقاده الذي يمكن أن يكون فيما بعد سبباً في ظهور مرض خطير اسمه سوء الظنّ بالله واليأس من روحه، وهو أمر خطير لأن عاقبته قد تكون الكفر والعياذ بالله، يقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا7, ﴿وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾8, وفي النهاية يأتي التحذير
 
 

1- سورة الرعد، الآية 11.
2- سورة السجدة، الآية 7.
3- سورة الفرقان، الآية 2.
4- سورة الأنبياء، الآية 16.
5- سورة البقرة، الآية 30.
6- سورة الذاريات، الآية 56.
7- سورة الأحزاب، الآية 10.
8- سورة النجم، الآية 28.
 
 
 
 
132

104

الدرس التاسع: سوء الظنّ بالله واليأس من روحه

 الإلهيّ: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾1.


لذا ينبغي للإنسان المؤمن والمجاهد الصادق أن يحسن الظنّ دائماً بالله سبحانه وتعالى، وأن يكون على يقين: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾2, وأنّ كلّ ما يجري ويحصل هو لخيره وصلاحه، وأنّ الظلم إن وقع فالمسؤول عنه هو الإنسان نفسه لا الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ3, ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ4.

القاعدة الأساسية في العلاقة مع الله
إنّ المجاهد في ميدان المعركة لا بدّ وأن يحقق في ذاته علاقة صافية مع الله تعالى وخالية من أية شائبة، وعمدة هذه العلاقة هو اليقين بأنّ حضوره في ساحة المعركة هو أمرٌ لا يمكن أن يحمل له إلا كل منفعة وبركة، لأنّه - أي المجاهد - إنّما يقوم بعمله الجهادي أداءً للتكليف وانتصاراً لله تعالى، فلا يمكن أن يجازيه الله تعالى إلّا بأفضل جزاء: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ5.

هذه هي القاعدة الأساسية في العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، أي أن يحسن الإنسان الظنّ بالله تعالى في كلّ ما يحصل معه وأن يثق به وبوعده وفيما يأمر به في جميع الأمور وأن لا يتجرّأ على الله فيما يظنّ أنّ فيه صلاحه، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "قال الله جلّ جلاله يا ابن آدم أطعني فيما أمرتك ولا تعلّمني ما يُصلِحك"6.

ففي ميدان الجهاد وأثناء أداء المجاهد للتكاليف والواجبات الشرعية الموكلة إليه، من الطبيعيّ أن يكون المجاهد عرضة للإصابات الجسدية أو الضرر الماديّ الذي يلحق بممتلكاته، أو للجوع والعطش والخوف والقلق وغيرها من البلاءات، والتي هي كلّها أمورٌ
 

1- سورة يوسف، الآية 87.
2- سورة النساء، الآية 40.
3- سورة يونس، الآية 44.
4- سورة النساء، الآية 79.
5- سورة الرحمن، الآية 60.
6- الحر العاملي، وسائل ‏الشيعة، مصدر سابق، ج 15، ص 235.
 
 
 
 
133

105

الدرس التاسع: سوء الظنّ بالله واليأس من روحه

 تصيب المجاهد دوماً بل هي من أهمّ سمات الجهاد في سبيل الله. ولكن كلّ هذه البلاءات والمنغّصات والآلام يجب أن لا تثني من عزيمة المجاهد ولا أن تكون سبباً في تزلزله أو شكّه لا سمح الله، في حين أنَّ كلّ ما شرّعه الله وأمر به إنّما هو لأجل خيره وصلاحه. ولو تبدّلت هذه القناعة في نفسه أو تغيّرت أو ضعفت في أيّ لحظة فإنّ الخسارة المادية والمعنوية هي التي ستكون الحاضر الأكبر في حياة هذا المجاهد. يقول تعالى: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ1.


وفي قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ2, تصريح واضح بأنّ الله تعالى سوف يفتتن عباده الصالحين بأنواع الفتن والبلاءات لكي يرى صدق الإيمان في نفوسهم، ولا ضير ولا بأس في ذلك طالما أنّ العوض هو حياة الخلد في جنان الله الفسيحة.

لذا يقول الله تعالى في آية أخرى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ3. فالامتحان والفتنة من السمات والسنن الإلهية في هذه الحياة الدنيا، بل إنّ الله تعالى لم يخلق الناس إلّا لأجل أن يمتحن إيمانهم وصدقهم. والآية الكريمة تشير بوضوح إلى أنّ الهدف من الفتن والبلاءات في الحياة والحوادث المؤلمة إنّما هو لأجل:
- تمييز المؤمنين حقاً عن أولئك الذين يدّعون الإيمان.
- تخليص إيمان الناس من شائبة الشرك والنفاق والكذب.
- تمييز المجاهدين والصابرين على الضرّاء والبأساء عن غيرهم.

وينبغي أن نعرف أنّه لولا البلاءات والحوادث المؤلمة في الحياة لما تبيّن الخبيث فيها من الطيّب، فالنعم الدائمة والانتصارات لوحدها مثلاً قد تخدع الإنسان وتغريه وتصيبه
 

1- سورة فصلت، الآية 23.
2- سورة البقرة، الآيات 155 -751.
3- سورة آل عمران، الآيتان 141- 142.
 
 
 
 
134

106

الدرس التاسع: سوء الظنّ بالله واليأس من روحه

 بالغفلة فيكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا1. من هنا يكون للشدائد والبلاءات في بعض الأحيان أو حتّى للهزائم والنّكسات الجزئية الأثر البالغ في تربية النفوس وإصلاحها، وصياغة المجتمعات الإنسانية وتصحيح مسار بما يفوق أثر الانتصارات الظاهرية. وبعد مرحلة التمييز بين المؤمنين وغيرهم لا بدّ من اختبارهم مجدّداً لتمحيصهم وتخليصهم من العيوب والشوائب التي يمكن أن تطرأ على إيمانهم من حيث لا يعلمون، ليروا ما هم مبتلون به من نقاط ضعف. فالنعم الإلهية والانتصارات الكبرى لا يمكن أن تتحقّق في المستقبل ما لم يدخل المؤمنون في بوتقة الاختبارات ليقيّموا أنفسهم على أساسها، لتكون منطلقاً لتطهير النفوس وبناء المجتمعات الإنسانية الصالحة بشكل أفضل، فهناك علاقة متقابلة بين طهارة النفس وطهارة المجتمع. فالمؤمنون إذا امتازوا عن غير المؤمنين، وعُرِف المجاهد منهم والصابر، وطهّروا نفوسهم وبواطنهم من الشوائب والخبائث، فسوف يحصلون على القدرة الكافية للقضاء التدريجيّ على الشرك والكفر والإلحاد، وتطهير مجتمعهم من الفساد والظلم، وهذا يعني أنّه لا بدّ أولاً من تطهير النفوس ثم تطهير الغير. وعليه فهناك علاقة متقابلة بين تمحيص المؤمنين وارتقائهم في مدارج الخلوص والطهر ومراتب الصفاء والتقوى وبين زوال الكفر والشرك واندثار معالمهما وآثارهما من ساحة الحياة الاجتماعية. وإنّ ساحة الجهاد المقدسة والقتال هي التي ستقوم فيها عملية التمييز والتمحيص بشكل أساسيٍّ لما لهذه الساحة من قدرة تغييرية جذرية فاعلة ومؤثّرة. هذه هي الحقيقة الكبرى والخالدة التي يلخّصها القرآن لنا: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ2, لتكون النتيجة والثمرة العملية الطيبة لهذه الفتنة رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا3.

 


1- سورة الكهف، الآية 104.

2- سورة العنكبوت، الآية 3.

 

3- سورة الأحزاب، الآية 23.

 

 

 

135


107

الدرس التاسع: سوء الظنّ بالله واليأس من روحه

 آثار حسن الظنّ وعدمه وثماره

على المجاهد في سبيل الله أن يحافظ على يقينه الكامل بالله سبحانه وحسن الظنّ به، ولو لم يقدّر أحدٌ على وجه الدنيا كلها جهده وتعبه، ولو بقي كلّ ما فعله في الحرب مجهولاً، ينبغي أن يبقى يقينه بحسن جزاء الله موجوداً. وإذا ما عاودت الحرب أدراجها مجدّداً، وكان هذا اليقين موجوداً، فإنه سيبقيه نشيطاً وفاعلاً ومدافعاً عن ساحة حرمة الله ومقدّساته. وذلك بعكس ما لو سيطر اليأس وسوء الظنّ عليه، فإنّه سيجبن ويضعف ويبخل على الله ببذل أي شيء ولو بمقدار فلسٍ من طين. وهذه حقيقة يقرّرها الإمام عليّ عليه السلام حين يقول: "البخل بالموجود سوء الظنّ بالمعبود"1.

ويقول عليه السلام في مورد آخر: "الجبن والحرص والبخل غرائز سوء يجمعها سوء الظنّ بالله سبحانه"2.

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "والذي لا إله إلّا هو، لا يحسن ظنّ عبد مؤمن بالله إلّا كان الله عند ظنّ عبده المؤمن، لأنّ الله كريم بيده الخيرات، يستحيي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظنّ ثم يخلف ظنّه ورجاءه، فأحسنوا بالله الظنّ وارغبوا إليه"3.

من خفايا ودقائق حسن الظنّ بالله تعالى، أنّ الذي يحسن الظنّ به لا يخاف غيره ولا يرجو إلّا إيّاه، لأنّه يعلم علم اليقين ويعرف معرفة علمية وعملية أنّ تعلقه بالله القادر والعظيم مالك السماوات والأرضين هو تعلّق لن يكسره عدوّ ولا جبّار ولن يؤثّر عليه فاقة ولا فقر، ولا جهالة ولا ظلم من الناس. وهذا المعنى من المعاني التي يُفسَّرُ بها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ4. وعن الإمام الصادق عليه السلام: "حسن الظنّ بالله أن لا ترجو إلّا الله، ولا تخاف إلّا ذنبك"5.
 

1- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص 18.
2- المصدر نفسه، ص 22.
3- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 72.
4- سورة محمد، الآية 7.
5- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 72.
 
 
 
 
136

108

الدرس التاسع: سوء الظنّ بالله واليأس من روحه

 إنَّ مقتل المجاهد وموضع هلاكه الأكبر، هو عندما يتعلّق قلبه وطموحه وتفكيره بما سيقوله الناس عنه، وبمنزلته عندهم، وبما سيربحه من نوالهم وعطاياهم، وطريقة تقييمهم وتقديرهم لجهوده وجهاده. فهذا التوجّه وهذا التفكير متّى ما حصل عند المجاهد، عليه أن يعلم أنّ بوصلة قلبه ووجدانه ووجوده قد انحرفت عن الله سبحانه وتعالى، فالمعبود والمطلوب هو غيره، وشاغل القلب لم يعد ربّه، وهذا هو مكمن الشرك وآية عدم الإخلاص، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "أصل الإخلاص اليأس ممّا في أيدي الناس"1.


وقد يحصل كثيراً أن يشعر المجاهد بالحاجة الملحّة للظهور أمام الناس بمظهر أنّه الرجل الذي ضحّى وقدَّم وجاهد و...إلخ، وهذا أمر ربّما يتماشى مع الطبع، لأنّ من طبع الإنسان وميوله حبّ الظهور، وأن يبدو عزيزاً وذا شأنٍ أمام الناس. غير أن المنهج الإلهيّ يقوم على خلاف هذا المنطق الشيطانيّ المغلوط والخاطئ، فالأمر في الحقيقة معاكس تماماً كما يقول الإمام الصادق عليه السلام: "لا يزال العزّ قلقاً حتّى يأتي داراً قد استشعر أهلها اليأسَ ممَّا في أيدي النَّاس فيوطنها"2.

المنافقون وسوء الظنّ بالله تعالى
إنّ الآية الكريمة: ﴿بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا 3, تحوي درساً عملياً من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حول مخاطر سوء الظنّ وآثاره.

إذ تتحدّث الآية عن المنافقين من موقع الذمّ والتوبيخ، وهم الذين امتنعوا من السير في ركب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والخروج معه في واقعة الحديبية، بل وتوهّموا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الذين انطلقوا إلى مكّة سوف لا يعودون إلى أهليهم أبداً، بل سيقتلون عن آخرهم بأيدي المشركين من قريش في حين أنّ القضية انعكست تماماً وعاد المسلمون بذلك النَّصر الباهر في صُلح الحديبية وهم سالمون لم يُصب أحدٌ منهم بأذىً.
 
 

1- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص 112.
2- العلامة المجلسي، بحار الانوار، مصدر سابق، ج 75، ص 206.
3- سورة الفتح، الآية 12.
 
 
 
 
137

109

الدرس التاسع: سوء الظنّ بالله واليأس من روحه

 ومفردة (بور) في الأصل بمعنى شدّة الكساد، وبما أنّ شدّة الكساد باعثة على فساد الشيء كما في المثل المعروف لدى العرب (كسد حتّى فسد) فإنّ هذه الكلمة تأتي بمعنى الفساد، ثمّ أطلقت على معنى يتضمّن الهلكة والاندثار، وأطلقت على الأرض الخالية من الشجر والنبات فيقال (بائر) لأنّها في الحقيقة فاسدة وميتة.


وهكذا نجد أنَّ هذه الفئة من المنافقين الذين عاشوا هذا الظنّ السيّئ في واقعة صلح الحديبية لم يكونوا قلّة، ومن المعلوم أنّه لم يصبهم الهلاك بمعنى الموت بل هلاكٌ خاصٌّ وهو الهلاك المعنويّ والمحروميَّة من الثواب، ذلك لأنّ (بور) إمّا هي بمعنى الهلاك المعنويّ والمحرومية من الثواب الإلهيّ وخلوّ أرض قلوبهم من أشجار الفضائل الأخلاقية والشجرة الطيّبة للإيمان، أو يكون المراد بها الهلاك الأخرويّ بسبب العذاب الإلهيّ، والهلاك الدنيويّ بسبب الفضيحة. وعلى أيّة حال فالآية الشريفة تدلّ بوضوح على النهي عن سوء الظنّ بالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأوصيائه المعصومين عليهم السلام وقادة الأمة العظماء فكيف الحال إذاً مع الله عزّ وجلّ1.
 

 
1- راجع: ناصر مكارم الشيرازي، الأخلاق في القرآن الكريم، مصدر سابق، ج 3، ص 287. (بتصرّف).
 
 
 
138

110

الدرس التاسع: سوء الظنّ بالله واليأس من روحه

 المفاهيم الرئيسة


1- حسن الظنّ بالله عبارة عن الاعتقاد بأنّ الله تعالى قد خلق النظام الكونيّ بأفضل صورة تحقّق صالح الإنسان والإنسانية.

2- إنّ أدنى شكّ بأنّ بعض الأمور التي تحدث مع الإنسان هي خارجة عن هذا النظام الكونيّ العامّ، مؤشّر سلبيّ لخللٍ في اعتقاده والذي يمكن أن يكون فيما بعد سبباً في ظهور مرض خطير اسمه سوء الظنّ بالله تعالى.

3- يقول الله تعالى في بيان خطورة سوء الظنّ به: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.

4- المجاهد في ميدان المعركة لا بدَّ وأن يتيقَّنَ من أنَّ حضوره في ساحة المعركة هو أمرٌ لا يمكن أن يحملَ له إلا كلَّ منفعةٍ وبركة، لأنّه إنما يقوم بعمله الجهاديّ أداءً للتكليف وانتصاراً لله تعالى ولدينه وهو عزّ اسمه القائل: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾.

5- من الطبيعيّ أن يكون المجاهد عرضة للإصابات الجسدية أو الضرر الماديّ، أو غيرها من البلاءات، لكن رُغم ذلك يجب أن لا تنثني عزيمة المجاهد ويسوء ظنه بأداء الجهاد كتكليف شرعيّ، لأن ما شرّعه الله وأمر به إنّما هو لأجل خيره وصلاحه.

6- لولا البلاءات والحوادث المؤلمة في الحياة لما تبيّن الخبيث فيها من الطيّب، فالنعم الدائمة والانتصارات لوحدها قد تخدع الإنسان وتغريه وتصيبه بالغفلة، فيكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾.

7- الذي يحسن الظنّ بالله لا يخاف غيره ولا يرجو إلّا إيّاه، لأنّه يعلم أن تعلّقه بالله هو تعلّق لن يكسره عدوّ ولا جبّار ولن يؤثّر عليه فاقة ولا فقر.
 
 
 
 
 
139

111

الدرس العاشر: عواقب الفرار من الزحف

 معنى الفرار من الزحف وضوابطه

تعرّفنا في الدّروس السابقة إلى أهمّية الجهاد في سبيل الله وآثاره على الفرد والمجتمع، وبيّنّا أهمّ الموانع التي تمنع الإنسان وتحول بينه وبين أداء هذا الواجب المقدّس. ولو فرضنا أن أحداً ما وقع في شرك هذه الموانع التي تصدّ عن ساحات الوغى، وبالتالي صار عرضة للحرمان من هذا التوفيق العظيم، في هذه الحالة قد تسوّل له نفسه بترك الجهاد والفرار من الزحف والقتال الذي حرّمه الله تعالى لما فيه من وهن في الدنيا، "والفرار من الزحف هو الهروب من المعركة، وهو من أكبر الكبائر إن لم يكن له داع شرعيّ"1. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ2. وبيّن وليّ أمر المسلمين الإمام السيد عليّ الخامنئيّ دام ظله الضابطة الفقهية في الفرار من الزحف بالقول:
- "لا يجوز الفرار من جبهة القتال في أيّ حال من الأحوال"3.

- "لا يجوز الانسحاب من أرض المعركة على خلاف الأوامر الصادرة من القيادة، إلّا في بعض الموارد الاستثنائية التي تقتضيها الضرورة وكان الانسحاب من أرض المعركة من صلاحيات الإخوة المجاهدين"4.
 
 

1- المشكيني ، معجم مصطلحات الفقه، ص 380.
2- سورة الانفال، الآية 15.
3- من استفتاءات الإمام الخامنئي دام ظله، ج 3، ص 42، س3.
4- المصدر نفسه، ج 3، ص 53، س43.
 
 
 
 
135

112

الدرس العاشر: عواقب الفرار من الزحف

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف معنى الفرار من الزحف وأهمّ ضوابطه الشرعية.
2- يتعرّف إلى الآثار السلبية والعواقب الوخيمة لترك الجهاد.
3- يدرك أنّ الفرار من الزحف سببٌ أساسيٌّ في الهزيمة وتسلُّط الظَّالمين على المؤمنين.
 
 
 
 
 
 
 
143

113

الدرس العاشر: عواقب الفرار من الزحف

 وللفرار من الزحف آثار سلبية وعواقب وخيمة جداً وردت في الآيات الكريمة والروايات الشريفة نذكر منها:

العذاب الأليم
الفرار من الزحف من الكبائر التي وعد الله تعالى أصحابها سوء العاقبة في الدنيا والآخرة. في الدنيا عاقبة المتخلّفين عن ركب المجاهدين والشهداء الخزي والعار والفضيحة، وفي الآخرة العذاب الأليم ونار الجحيم. لأنّهم خالفوا أمر الله ورسوله وركنوا إلى الملذّات الفانية والشهوات الزائلة. ولم يكتف الفارّون الذين وصفهم الحقّ تعالى بالمنافقين بالهروب والتنصّل من الواجب، بل عملوا على إعانة الأعداء من خلال بثّ اليأس والخوف في قلوب المؤمنين لمنعهم عن أداء واجبهم، علّهم يجدون بذلك من يشاركهم قعودهم وتخلّفهم فترتاح نفوسهم قليلاً من عذاب الوحدة الموحشة ونظرات الناس المؤلمة إليهم. وهو ما كان يصبّ في مصلحة العدوّ، حيث وجد له أعواناً من داخل صفوف المسلمين يثبّطون العزائم ويبثّون الشائعات المفرّقة والمشتّتة للصفوف، لذا كان عذابهم أليماً وعاقبتهم سيّئة جداً.

قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ1.

تستمرّ هذه السلسلة من الآيات في الحديث عن الأعمال الشيطانية للمنافقين، وتزيح الستار عنها الواحد تلو الآخر، وتحذّر المسلمين من الانخداع بريائهم أو الوقوع تحت تأثير كلماتهم المعسولة. وهذه الآيات نزلت في جماعة من المنافقين يبلغ عددهم ثمانين رجلاً، أمر النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لمّا رجع من غزوة تبوك أن لا يجالسهم أحد ولا يكلّمهم. فلمّا رأى
 

1- سورة التوبة، الآيتان 94-95.
 
 
 
 
 
146

114

الدرس العاشر: عواقب الفرار من الزحف

 هؤلاء هذه المقاطعة الاجتماعيّة الشديدة بدأوا يعتذرون عمّا بدر منهم، فنزلت هذه الآيات لتبيّن حال هؤلاء وحقيقتهم، وتأمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يقبل اعتذارهم ولا يصدّقهم، لأنّ الله تعالى قد فضح أمرهم وأخبر عن كذبهم ونفاقهم فيما يعتذرون منه، وأن الله ورسوله يشاهدان ما يعملون ولا يخفى عليهما شيء، وأنّهم سوف يردّون إلى الله الذي يعلم الغيب والشهادة في يوم القيامة فيخبرهم بحقائق أعمالهم ونيّاتهم.


ثم تبيّن الآية الكريمة إيمان المنافقين الكاذب وتنبّه المسلمين إلى أن هؤلاء لن يتورّعوا عن اليمين الكاذبة لتغفروا لهم خطيئاتهم وتصفحوا عنهم وتعرضوا عما فعلوه، ثم تخاطب المؤمنين بلسان الحال: عليكم في هذه الحالة أن تعرضوا عنهم، ولا تعاتبوهم أو توبّخوهم لأنهم أرجاس لا ينفع فيهم التأنيب ولا يقبلون الطهارة. ومصيرهم النار لأنّها المكان الطبيعيّ لهم الذي سوف يتكفّل بأمرهم، وكل ما سيلقونه هناك هو نتيجة ما كسبوه بأيديهم في الحياة الدنيا. ولشدّة نفاقهم فإنّهم سيحلفون لكم لكي يجلبوا رضاكم بدل أن يكون همّهم كسب رضا الحقّ تعالى.

وفي آية أخرى يقول الله تعالى مبيّناً بشكل صريح عاقبة من يتولّى عن الجهاد: ﴿قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ1, ﴿وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا﴾2.

الاستبدال
يحذّر الله تعالى أن من يرتدّ عن دينه والإيمان الصادق به ويكفر بتعاليمه وبأنبيائه ورسله، ولا يطيعه في أمره ولا يلتزم بأحكامه الجهادية وغيرها ولا يعمل بإرادته، بل يستغني ويتولّى معرضاً عن الدين الحنيف والملّة الحقّة، فسوف يستبدل الله به من هو أحقّ منه بهذه المكرمة.
 

6- سورة الفتح، الآية 17.
7- سورة الفتح، الآية 17.
 
 
 
 
147

115

الدرس العاشر: عواقب الفرار من الزحف

 إنّ الله يستبدل بهؤلاء من يحبّون الله ويحبّون أن يعبد في أرضه، ولا يرتدّون عن دينه، ولا يتخلّفون عن الجهاد والتضحية بكلّ ما يملكون في سبيله، بل يقبلون على الجهاد بصدر رحب وقلب مستبشر بلقاء الله ورضوانه، لا يخافون من لوم الناس والمنافقين عند أدائهم لواجباتهم والدفاع عن الحقّ.


إنّ هؤلاء المستبدل بهم على ثقة بالله وبدينه الحقّ. وعليه فإنّ المستبدَلين لن يضرّوا الله شيئاً بل هم المتضرّرون لأنهم حرموا من هذا الفضل العظيم والنعمة الكبرى. يقول عزّ وجلّ في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾1.

المقت الإلهيّ
الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر، لما يورثه هذا الإيمان من صفة التقوى. فالمؤمن التقيّ على بصيرة من جهة وجوب الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه، فلا يتثاقل ولا يستأذن في القعود. أمّا المنافق الفاقد للإيمان والتقوى فقلبه مرتاب ومتردّد يبحث دائماً عن المعاذير للتخلّف والقعود عن الجهاد كما قال تعالى: ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ2.

إنَّ عدم مساهمة مثل هؤلاء الأفراد في ساحة الجهاد ليس مدعاة للأسف، بل هو مدعاة للسرور، لأنّهم لن يكونوا ذوي نفع، بل سيكونون بنفاقهم ومعنويّاتهم المتزلزلة وانحرافهم الفكريّ والخلقيّ مصدراً للكثير من المشاكل. هذا مع فرض نية مشاركتهم، ولكنهم لم يوفّقوا لمثل هذه النية ولو قرّروا الخروج لتأهّبوا واستعدّوا له وأعدّوا السلاح والمركب كما قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ
 
 

1- سورة المائدة، الآية 54.
2- سورة التوبة، الآيتان 44-45.
 
 
 
 
148

116

الدرس العاشر: عواقب الفرار من الزحف

 فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ1.


نعم كره الله تعالى خروجهم مع المؤمنين ولم يوفّقهم لذلك لمعرفته بنفاقهم وبأنهم سيكونون عيوناً للمشركين على المسلمين، فضررهم أعظم من فائدتهم، فثبَّطهم (أي قلّل عزيمتهم على الخروج) لما علمه من فساد نيّتهم نتيجة كفرهم وتباطئهم عن المشاركة وميلهم للنميمة وكرههم للمؤمنين وزرع الشكّ والفتنة بين صفوف المقاتلين، وخصوصاً لدى ضعاف العقيدة والإيمان.

إنّ الآية في الحقيقة تعطي درساً مهمّاً جداً للمسلمين؛ بأن لا يكترثوا لكثرة المقاتلين أو قلّتهم وكمّيّتهم وعددهم، بل عليهم أن يفكّروا في اختيار المخلصين المؤمنين وإن كانوا قلّة ويعملوا من أجل تربية الجيل المخلص. إنّ هذا درس بالغ الأهمية لمسلمي الحاضر والمستقبل.

الفضيحة في الدنيا
من أهمّ آثار الحرب تمييز المؤمنين عن المنافقين، فقبل معركة أحد مثلاً لم يكن المنافقون مكشوفين عند الناس، ولا متميّزين عن المؤمنين، فجاءت واقعة أحد لتكشف زيف إيمانهم وتفضح حقيقة نواياهم السيّئة. إنّ الله تعالى يريد أن يميّز الخبيث من الطيّب، والمؤمن من المنافق فأمر بالخروج مع الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لملاقاة المشركين في أحد، إلّا أنّ فئة من الذين خرجوا مع رسول الله عادوا أدراجهم أثناء الطريق، ولما سُئلوا عن سبب انكفائهم وقيل لهم إنّه إن لم تريدوا القتال في سبيل الله فبالحدّ الأدنى دافعوا عن أنفسكم وحرمكم وأموالكم، تذرّعوا بأنّ الأمر بين المسلمين والمشركين لا يتعدّى المناورة وعرض العضلات، ولن يصل الأمر إلى حدّ الحرب والقتال لقلّة عدد المسلمين، وكان لسان حالهم في الجواب لو تأكّدنا من أنّ الحرب واقعة لا محالة لحاربنا معكم. وهذا الواقع للمنافقين يحكيه قوله تعالى: ﴿وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ
 

1- سورة التوبة، الآيتان 46-47.
 
 
 
 
149

117

الدرس العاشر: عواقب الفرار من الزحف

 قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾1.


إنّ المنافقين أرادوا أن يوحوا بجوابهم هذا، أنّ مجابهة المسلمين للمشركين ليست من نوع القتال والحرب في شي‏ء، وإنّما هي عملية انتحار، لتفوّق العدوّ عدّة وعدداً. وأرادوا بقولهم هذا أن يخفوا نفاقهم، ولكن ما حصل فضَحهم، لأنّ كلامهم كان أقرب إلى نصرة الأعداء منه إلى نصرة المؤمنين، وإلى تثبيط العزائم عن الحرب مع الرسول، لذا كانوا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان لأنّهم خالفوا أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. فضلاً عن أنّ كلامهم يُستشمّ منه الاستهزاء بالزحف والاستهتار بما يمضي إليه المسلمون، فانخذالهم عن القتال إمارة تؤذن بكفرهم وفساد باطنهم وقلوبهم. فهم في الواقع كانوا يظهرون الإيمان عبر ألسنتهم ويسرّون الكفر في قلوبهم، فسرّهم غير متطابق مع جهرهم والله تعالى يعلم ما يخفونه من كفر وما يبدونه من إيمان كاذب، لأنّه عالم لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماء والأرض وهو بكلّ شيء محيط. إذاً، من عواقب التخلّف عن الجهاد وعدم المشاركة فيه الافتضاح في الدنيا قبل الآخرة.

الطرد والإبعاد
يتحدّث القرآن الكريم عن المنافقين الذين يتذرّعون دائماً بالحجج والأعذار الواهية لأجل الفرار من ساحات القتال: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾2.

ويخاطب الله تعالى نبيّه إنّك لو دعوتهم إلى عرض أيّ إلى غنيمة أو مال دنيويّ زائل، أو إلى سفر قصير هيّن قريب المسافة قليل الجهد لاتّبعوك دون تأخّر أو تردّد طمعاً في الكسب. ولكن صعب عليهم الأمر لما يحتاجه من تضحية بالنفس والمال، وبعدت عليهم
 

1- سورة آل عمران، الآيتان 167.
2- سورة التوبة، الآية 42.
 
 
 
150

118

الدرس العاشر: عواقب الفرار من الزحف

 المسافة لما فيها من مشقّة وتعب، فتشبّثوا بالباطل وراحوا يحلفون كذباً: "لو استطعنا لخرجنا معكم"!


وسيعتذرون عن عدم خروجهم بعدم استطاعتهم، وسيقسمون الأيمان على عدم قدرتهم، ولكنهم يهلكونَ أَنفسهم ويخسرونها لما أضمروه حين أقسموا بالأيمان الكاذبة واعتذروا بالباطل الذي لا حقيقة له، واللَّه يعلم إنّهم كاذبون وغير صادقين في اعتذارهم وفي أيمانهم.

وهذا هو حال الذين ينتهزون الفرص وقطف النتائج يغير وجه حق دائماً، ففي كلّ مجتمع فئة على غرار المنتهزين من الكسالى والطامعين والانتهازيّين الذين ينتظرون لحظات الانتصار ليقحموا أنفسهم في الصفوف الأولى، ويصرخوا بأعلى الصوت أنّهم كانوا مع المجاهدين الأوائل والمخلصين البواسل، لينالوا ثمرات جهود الآخرين دون أن يبذلوا أيّ جهد يذكر!! والمطلوب من القادة والصفوة من النّاس أن يعرفوا هذه الفئة من بداية الأمر، وإن لم يكن لديهم قابليّة الإصلاح فينبغي إخراجهم وطردهم من صفوف المجاهدين.

وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾1.

في هذه الآية التي هي محلّ البحث إشارة إلى طريقة أخرى دقيقة وخطرة من طرق المنافقين، وهي أنّهم عندما يخالفون القانون الإسلاميّ، يقومون بأعمال مدمجة بالمراوغة والشيطنة فيحاولون من خلالها جبران ما صدر منهم، وتبرئة ساحتهم ممّا يستحقّون من العقوبة، كأن يطلبوا الإذن بالجهاد من جديد للإيحاء بأنّهم مع المجاهدين، وبهذه الأعمال المتناقضة والمخالفة لمراد الحقّ وأوامره، فإنّهم يخفون وجوههم الحقيقيّة. لكنّ
 

1- سورة التوبة، الآيتان 83-84.
 
 
 
151

119

الدرس العاشر: عواقب الفرار من الزحف

 الله تعالى أظهر طردهم وإبعادهم عن رحمته وأمر نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يعطيهم الإذن ولا يسمح لهم بالخروج معه للقتال لأنّ أمرهم قد افتضح وحيلتهم هذه لن تنطلي على أحد ولن ينخدع بها أحد. فهم رضوا بالتخلّف عن الجهاد والقعود في المرّة الأولى ولو كانوا قد ندموا على تخلّفهم وتابوا منه وأرادوا الجهاد حقّاً في ميدان آخر لقبل الله تعالى منهم ذلك ولما ردعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.


إنّ طردهم وإبعادهم لم يقف عند حدّ حرمانهم من المشاركة في القتال وافتضاح أمرهم بين الناس، بل تعدّاه إلى أمرٍ أشدّ وأصعب، فصدر الأمر الإلهيّ صراحة بعدم الصلاة على أحد منهم إن مات، وعدم الوقوف على قبره للدعاء له والترحّم عليه، لكي يعلم المنافقون أنّه لا مكان لهم في المجتمع الإسلاميّ، لأنّ حرمان أحدهم من هذه المراسم الخاصّة بالدفن يعني طرده من المجتمع الإسلاميّ، وإذا كان الطارد هو النّبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ الصدمة وأثرها على نفسيّة المنافقين ووجودهم سيكونان شديدَين جداً.

الحرمان من الهداية الإلهية
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ1.

تخاطب الآية الكريمة النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ليعنّف أولئك الذين لا يرغبون في جهاد المشركين بسبب تعلّقهم وحبّهم لأرحامهم وأموالهم ومساكنهم. لأن ترجيح مثل هذه الأمور على رضا اللّه تعالى والجهاد في سبيله، يعدّ نوعاً من العصيان والفسق البيّن. فمن تشبّث قلبه بالدنيا وزخرفها وزبرجها غير جدير بهداية اللّه كما يقول تعالى في الختام.

فهذه الآية ترسم بشكل واضح خطوط الإيمان الأصيل وتميّزها عن الإيمان المشوب بالشرك والنفاق، وتقول بشكلٍ صريح أنّ كلّ من يقدّم الحياة المادية ومتعلّقات هذه الحياة المادية من الأرحام والأقارب، والعشيرة، والمال، والاكتساب والتجارة، والمساكن،
 

1- سورة التوبة، الآية 24.
 
 
 
152

120

الدرس العاشر: عواقب الفرار من الزحف

 على الجهاد في سبيل الله، بمعنى أنّها كانت أعزّ على قلبه وأغلى على نفسه من الله ورسوله وامتثال أمره بالجهاد في سبيله، ولم يكن مستعدّاً للتضحية بها من أجل الله ورسوله والجهاد، فإيمانه الواقعيّ لم يكتمل بعد، لأنّ حقيقة الإيمان وروحه وجوهره تتجلّى بالتضحية بمثل هذه الأمور من دون أدنى تردّد. ومن لا يرغب بالتضحية بها، فسوف يظلم نفسه ومجتمعه، لأنّ الأمّة التي تتلكّأ في اللحظات الحسّاسة من تأريخها المصيريّ، وفي المآزق الحاسمة، فلا يضحّي أبناؤها، فستواجه الهزيمة عاجلاً أو آجلاً، ومن ثمّ ستكون هذه الأمور المادية التي تعلّقت القلوب بها عرضة لخطر الضياع والتلف بيد الأعداء.


وفي ختام الآية تهديد صريح لأولئك الذين يقدّمون منافعهم المادية ويفضّلونها على رضا اللّه، ويطلب الحقّ منهم الانتظار ليروا عاقبة أفعالهم: ﴿فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾, لأنّكلّ من يخرج من زيّ العبودية لله تعالى والطاعة له فاسق عن أمر الله، ولا يستحقّ منه الهداية. وأيّ عاقبة أسوأ من أن يحرم المرء من هداية الحق له؟ ولمّا كان هذا التهديد مجملاً ﴿فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ﴾ كان أثره أشدّ وحشة، وهذا التعبير يشبه قول القائل: إذا لم تفعل ما آمرك، فسأقوم بما ينبغي لي القيام به.

خراب دُور التوحيد ومحالّ العبادة
من التبعات المضرّة لترك الجهاد، زوال دور التوحيد ومَحَالُّ عبادة الإنسان لله. فقد حذّر القرآن المجيد من أنّ الناس ما لم يقوموا بتكليفهم في الدفاع، فسوف تتهدّم دور عبادة المسلمين، بل جميع دور عبادة الأديان التوحيدية الأخرى، قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾1. ومن الممكن أن يكون ذكر المساجد إنّ وخامة ترك الجهاد وإهماله، والفرار من الزحف، والتي هي من معاني فلسفة ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ﴾ لسوف تظهر في هدم بيوت العبادة وأماكن التوحيد والتي لها المردود الخطير على تطوّر الناس وتكاملهم المعنويّ والفكريّ.
 

1- سورة الحج، الآية 40.
 
 
 
153

121

الدرس العاشر: عواقب الفرار من الزحف

 الذلّة والمهانة

من العواقب الملموسة للإعراض والتخلِّي عن الجهاد، عاقبةُ الذلَّة والمهانة، في الدُّنيا والآخرة، والتي تشملُ كلَّ أمّةٍ تركت الجهاد في سبيل الله. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من ترك الجهاد ألبسه الله ذلّاً في نفسه، وفقراً في معيشته، ومحقاً في دينه، إنّ الله تبارك وتعالى أعزّ أمّتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها"1.

ونرى أيضاً أنّ أمير المؤمنين عليه السلام وبعد تشجيعه على الجهاد وبيان فضله في خطبته المشهورة حول الجهاد، فإنه يشير إلى تبعات التهاون والقعود عن القيام بالجهاد، حيث يقول: "فمن تركَهُ رغبةً عنهُ ألبسَهُ اللهُ ثوبَ الذلِّ وشمْلَةَ البلاءِ ودُيِّثَ بالصَّغارِ والقَماءَة"2.

ومن المشكلات الكبيرة التي واجهت أمير المؤمنين عليه السلام طوال مدّة حكمه، عدم استعداد الناس للدفاع عن دين الله، وخلوّ عزائمهم من القوة والعزم على القيام لله تعالى. وقد بيّن الإمام عليّ عليه السلام في العديد من الكلمات والخطب عدم رضاه عن أصحابه وموقفِهم من مسألة الجهاد، موجّهاً انتقاداته لهم، وموضّحاً عواقب الضعف عن القيام بهذا الواجب في السياق.

وفي أحد هذه الموارد، يشير الإمام عليه السلام إلى أنّ القعود عن الجهاد يؤدّي إلى انتصار العدوّ وانفلات زمام إدارة المجتمع من يد الحكّام، حيث يقول عليه السلام: "فتواكلتم وتخاذلتم حتى شُنّت الغاراتُ عليكم ومُلكتْ عليكمُ الأوطان"3.

ومن مظاهر هذه الذلّة التي تشملهم نتيجة ترك الجهاد، أنّهم يعجزون عن أن يكونوا قوّة يُنتقم بها من الباطل، أو يستفاد منها في تحقيق أيّ من أهداف الإسلام، حيث يقول عليه السلام: "فما يدركُ بكم ثارٌ ولا يُبلغُ بكم مُرام"4.
 
 

1- الشيخ الصدوق، الأمالي، قم، مؤسسة البعثة قسم الدراسات الإسلامية، 1417ه، ط 1، ص 736.
2- السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، ج 1، ص 67، الخطبة 27.
3- م.ن.
4- م.ن، ج 1، ص 90، الخطبة 39.
 
 
 
154

122

الدرس العاشر: عواقب الفرار من الزحف

 وفي مثل مجتمع كهذا لا يتوقّع حدوث التوفيق والتقدّم، ويوماً بعد يومٍ يزدادُ الضَّعفُ وتقلُّ الاستفادة من المعارف الإلهية، ويُبتلى هذا المجتمعُ بسقوط القِيَمِ والانحطاطِ، بل يكون أكلة سائغة في فم الأعداء.


وتشهدُ تجاربُ التاريخ على أنّ المجتمعَ الذي كان أمير المؤمنين عليه السلام يعيشُ فيه، والذي كان قد تركَ الجهاد، عانى من عواقب وخيمة وظلمٍ شديد، إلى الحدّ الذي تسلّط عليه - وخلال مدّة قصيرة - أشخاص خنقوا كلّ صوت يرتفع مطالباً بالحقّ، وقتلوا وسجنوا وعذّبوا المؤمنين وقادتهم!

وقد أشار القرآن الكريم في أحد المواطن، وبشكل صريح، إلى عاقبة الذلّة في الدنيا عند ترك الجهاد، حيث ذكر أنّ بني إسرائيل قد عوقبوا بالتيه أربعين سنة على أثر عصيان هذا الأمر الإلهيّ: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ1. وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بشأن الإعراض عن الجهاد والانشغال بالدنيا، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لئن أنتم اتّبعتم أذناب البقر وتبايعتم بالعِينَة وتركتم الجهادَ في سبيل الله، ليلزمنّكُم الله مذلّة في أعناقكم ثمّ لا تُنزعُ منكم حتّى ترجعوا إلى ما كنتم عليه أو تتوبوا إلى الله"2.

تسلّط الظالمين وفقدان القوّة والعزّة
إنّ الأثر الكبير الذي يظهر مباشرةً جرَّاء ترك الإنسان للجهاد وتقاعسه عنه، هو خذلانه لأولياء الله تعالى وقادة المؤمنين وتركه لهم وحيدين في ميدان المواجهة والصراع، وبالتالي خذلانه للمبادئ والأسس التي قام من أجلها هؤلاء الناس.

إنّ التاريخ مملوء بأمثال هؤلاء، ومنهم المنافقون والفاسقون الذين كانوا يعرفون أنّ دعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هي حقّ ونور، لكنهم خذلوه وقت الشدة، ومنهم من قاتله وصارعه، محبةً منهم وولاية للكفّار والمشركين وطمعاً بالحفاظ على المال والأولاد والأملاك من
 
 

1- سورة المائدة، الآية 26.
2- الإمام أحمد بن حنبل، مسند أحمد، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج 2، ص 42.
 
 
 
 
155

123

الدرس العاشر: عواقب الفرار من الزحف

 بطش قريش. فهؤلاء رأوا بأمّ العين كيف انقلب عليهم ظهر المجنّ، وذاقوا طعم الفضيحة والخسران في الدنيا: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ويقول الله تعالى عنهم: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾2.


ثمّ حصل هذا الأمر مع الإمام عليّ عليه السلام، حيث أصاب جيشه الإحباط في الهمم والفتور عن القتال والجهاد ضد معاوية وجيشه الظالم، ولذلك كان الأمير عليه السلام يعاني الأمرّين في شحذ هممهم وبث روح الشجاعة والحميَّة في نفوسهم، رغم أنّه عيَّرهم بتفوّق الأعداء عليهم وانتهاكهم أعراض المسلمين، فيقول عليه السلام في خطبته المشهورة في الجهاد "ألا وإنّي قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم في عقر دارهم إلّا ذلّوا. فتواكلتم وتخاذلتم حتّى شنّت الغارات عليكم وملّكت عليكم الأوطان. وهذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار، وقد قتل حسان بن حسان البكريّ وأزال خيلكم عن مسالحها. ولقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها، ما تمتنع منه إلّا بالاسترجاع والاسترحام، ثمّ انصرفوا وافرين، ما نال رجلاً منهم كلمٌ ولا أُريق لهم دم"3. ولك أن تلاحظ أنّ أمير المؤمنين عليه السلام يلوم المتخاذلين بما فعله العدوّ بهم ويذكّرهم بأولئك الضحايا الذين قتلوا نتيجة تخاذلهم، وهو بالتالي كأنه يقول لهم إنّ هذه الحالة ستكون حالتهم أيضاً فيما لو تركوا الجهاد مرَّةً أخرى، بل هو يترقّى في تهديده لهم بقوله: "فلو أنّ امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديراً، فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يرمى يغار عليكم ولا تغيرون"4. إنها نتيجة الخذلان والتقاعس، حيث يصبح المجتمع بلا هيبة ولا قوة ولا منعة ولا عزة!
 
 

1- سورة النمل، الآية 5.
2- سورة النمل، الآية 14.
3- السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، مصدر سابق، ج 1، ص 90.
4- المصدر نفسه.
 
 
 
 
 
156

124

الدرس العاشر: عواقب الفرار من الزحف

 ومن الأمثلة التي تضرب على تسلّط الظالمين كنتيجة لترك الجهاد في سبيل الله مع الإمام العادل أو وليّه، هو ما حصل لأهل المدينة بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء حيث وفدوا على يزيد بعد جريمته الكبرى، فوجدوه يعيش في حالات متطرّفة من الفسق والفجور فأبوا أن يقرّوا له بالبيعة. عندها أرسل جيشه إلى المدينة وعلى رأسه مسلم بن عقبة الفاجر الكافر، فقاتله أهل المدينة قتالاً شديداً، لكنّهم هزموا، فدخل جيش يزيد المدينة ثلاثة أيام مستبيحاً لكلّ حرمة فيها، فقتل فيها سبعمائة من قرّاء القرآن، وأربعة من صحابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فلم يبق بعدها بدريٌّ على وجه الأرض، وافتضَّت من بنات أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألف عذراء، وكثر فيها قتل الناس حتّى بلغ القتلى عشرات الآلاف، ثم أُرغم الناس على مبايعة يزيد على أنّهم عبيد عنده! هذه هي نتيجة خذلان الإمام الحسين عليه السلام وتركه غريباً في المدينة، فلو أنّهم ناصروه وقاموا بوظيفتهم الجهادية بين يديه، لربّما انقلب الحكم إلى أهله ولما حلّ ظلم على أحد على وجه الأرض وحتّى قيام الساعة.


إنّ هذه الحقيقة التي حصلت مع أهل المدينة هي عبرة لنا، فلو تركنا الجهاد وفررنا من الزحف في مواجهة العدوّ الإسرائيليّ لأمعن في قرانا ومدننا القتل والأسر والانتهاك لكلّ الحقوق!

إذاً، لا بدّ للمجاهدين المؤمنين أن يجعلوا هذه الحوادث والعبر عنواناً يظلّ ماثلاً أمام أعينهم، فلا يغفلوا عن نصرة الحقّ ولو أدّى ذلك إلى قتلهم وإبادتهم، وكما قال الأمير عليه السلام: "الموت في حياتكم قاهرين، والحياة في موتكم مقهورين"1.

العاقبة السيّئة
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ2.
 

1- الحسينى الموسوي، محمد بن أبي طالب‏، تسلية المُجالس وزينة المَجالس (مقتل الحسين عليه السلام)، تحقيق وتصحيح كريم فارس الحسون، ‏قم - إيران، مؤسسة المعارف الإسلامية، 1418 هـ، ط 1، ج 1، ص 420.
2- سورة التوبة، الآيتان81-82.
 
 
 
 
157

125

الدرس العاشر: عواقب الفرار من الزحف

 تتحدّث الآية الكريمة عن حال المنافقين الذين تخلّفوا عن الجهاد في غزوة تبوك1 وخالفوا تكليفهم الشرعيّ وكرهوا الجهاد بأموالهم وأنفسهم، ثمّ اعتذروا بالأعذار الواهية، وفرحوا بالسلامة والجلوس في البيت بدل المخاطرة بأنفسهم والاشتراك في الحرب، بدل أن يضعوا كلّ وجودهم وإمكاناتهم في سبيل اللّه ليفوزوا بشرف الجهاد وعنوان المجاهدين.


ولم يكتفوا بتخلّفهم وتركهم للواجب بل سعوا في بثّ وساوسهم الشيطانيّة بين المسلمين، محاولين إخماد جذوة الحماسة الملتهبة في صدورهم، وتشبّثوا بكلّ عذر يحقّق لهم هذا الهدف حتّى لو كان العذر هو الحرّ!! فهم كانوا يطمعون من جهة في إضعاف إرادة المسلمين، ومن جهة أخرى كانوا يحاولون سحب أكبر عدد ممكن من المسلمين إلى صفوفهم حتى لا ينفردوا وحدهم بالجرم. فأمر الله تعالى النبيّ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجيبهم بلهجة شديدة وأسلوب قاطع أن نار جهنّم أشدّ حرّاً من الرمضاء، فشرارة واحدة من تلك النّار أشدّ حرارة من جميع نيران الدّنيا وأشدّ حرقة وألماً، ولكنّهم وللأسف لضعف إيمانهم، ولقلّة إدراكهم لا يعلمون أيّة نار تنتظرهم!

وهؤلاء ظنّوا أنّهم بتخلّفهم وتخذيلهم المسلمين وصرف أنظارهم عن الجهاد قد فازوا وحقّقوا نصراً، فضحكوا لذلك وقهقهوا بمل‏ء أفواههم، إلّا أنّ القرآن حذّرهم من عاقبة ما اجترحته أيديهم وحذّرهم من العذاب الشديد الذي ينتظرهم، وسيندمون على ما أنفقوا من قدراتهم وعمرهم الثّمين، وما اشتروا من الخزي والفضيحة وسوء العاقبة. إنّها النَّتيجة الطَّبيعيّة لما كسبوه بأيديهم في الحياة الدُّنيا.

الحسرة والندامة
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ
 

 1- هي غزوة حصلت في السنة التاسعة للهجرة قام بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لكي يصدّ تقدم جيش كبير أعدّه ملك الروم للقضاء على الإسلام.
 
 
 
 
158

126

الدرس العاشر: عواقب الفرار من الزحف

 لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ 1.


الآيات الكريمة توجّه الخطاب إلى المؤمنين وتحذّرهم من مغبّة الوقوع في شراك المنافقين وخداعهم وتدليسهم. فلا يقولوا بمقالة المنافقين الذين لا همّ لهم سوى النيل من روحيّة المسلمين وإضعاف معنويّاتهم وزعزعة أسس إيمانهم. لأنهم إذا وقعوا تحت تأثير هذه الكلمات المضلّة الغاوية، وكرّروا نظائرها فستضعف معنويّاتهم، وسيمتنعون عن الخروج إلى ميادين الجهاد في سبيل الله، وعندها سيتحقّق للمنافقين ما يصبون إليه. بل عليكم أن تتقدّموا إلى سوح الجهاد وميادين القتال بمعنويّات عالية، وعزم أكيد ودون تردّد ولا كلل، ليجعل اللّه ذلك حسرة في قلوب المنافقين المخذولين أبداً. والآية تردّ على خبث المنافقين وتسويلاتهم بثلاثة أجوبة منطقيّة:
الأول: إنّ الموت والحياة بيد اللّه على كلّ حال، وإنّ الخروج والحضور في ميدان القتال لا يغيّر من هذا الواقع شيئاً، وإنّ اللّه عالم بأعمال عباده جميعها وبصير بها.

الثاني: إنكم حتّى إذا متّم أو قتلتم، وبلغكم الموت المعجّل كما يظنّ المنافقون فإنّكم لن تخسروا شيئاً، لأنّ رحمة اللّه وغفرانه أعظم من كلّ ما تجمعه أيديكم أو يجمعه المنافقون من مال وثروة. بل لا مجال للمقارنة بين الأمرين، لأن ما يحصل عليه المؤمنون عن طريق الشهادة أو الموت في سبيل اللّه، أفضل من كلّ ما يجمعه الكفّار والمنافقون عن طريق حياتهم الموبوءة، المليئة بالشهوات الرخيصة وعبادة المال والدنيا.

الثالث: بغضّ النظر عن كلّ ما قلنا فإنّ الموت لا يعني الفناء والعدم حتّى يُخشى منه هذه الخشية ويُخاف منه هذا الخوف، ويُستوحش منه هذا الاستيحاش، بل هو نقلة من حياة إلى حياة أوسع وأعلى وأفضل، حياة موصوفة بالبقاء والخلود. إذاً، في كلّ الأحوال المؤمنون هم المستفيدون رغم أنف المنافقين وهذا ما يزيد الحسرة لديهم ويضاعفها فيهم.
 

1- سورة آل عمران، الآيات 156-158.
 
 
 
 
159

127

الدرس العاشر: عواقب الفرار من الزحف

 الطبع على القلوب

يقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ1.

الآيات تتحدّث عن حال المنافقين إذا ما دعا الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى الثبات على الإيمان، والجهاد في سبيل اللّه، فإنّهم رغم ما يتمتّعون به من طَوْلٍ أي من قدرات جسمانية ومالية، إلا أنّهم يطلبون العذر والإذن بعدم المشاركة والبقاء مع ذوي الأعذار الذين لا قدرة لديهم على الحضور والمشاركة في الجهاد. فهم على الرغم من توفّر كلّ الشروط فيهم، وامتلاك كلّ المستلزمات المطلوبة للجهاد، مع ذلك يحاولون التملّص من أداء هذا الواجب الإلهيّ الحسّاس والخطير، فجاءوا إلى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يطلبون الإذن في الانصراف. فوبّخهم القرآن وقبّح فعلهم لأنّهم رضوا بأن يكونوا مع الخوالف أي المعذورين عن المشاركة في الحرب بسبب ضعفهم وعجزهم. وهم لكثرة ذنوبهم ونفاقهم طبع الله تعالى على قلوبهم فسلبهم القدرة على التفكير والإدراك والمعرفة الصحيحة، فهم الجاهلون.
 

1- سورة التوبة، الآيتان 86-87.
 
 
 
 
 
160

128

الدرس العاشر: عواقب الفرار من الزحف

 المفاهيم الرئيسة


1- يعتبر الفرار من الزحف من الكبائر التي وعد الله تعالى أصحابها سوء العاقبة في الدنيا والآخرة.

2- لقد حصل في صدر الإسلام أن تخلّى بعض الناس من المنافقين عن الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عن الإسلام، فنزلت آيات قرآنية عديدة تفضحهم وتلزم النبيّ والمسلمين بمقاطعتهم وعدم قبول ما يدّعونه من توبة وندم، وذلك عقاباً لهم وتأديباً لغيرهم ممن تسوّل له نفسه ترك الجهاد.

3- يحذّر الله تعالى من يرتدّ عن الدين والإيمان الصادق به، ولا يلتزم بالجهاد، إذ سوف يستبدل الله به من هو أحقّ منه بهذه المكرمة.

4- إنّ الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر، لما يورثه هذا الإيمان من صفة التقوى.

5- إن المنافق الفاقد للإيمان والتقوى قلبه مرتاب ومتردّد يبحث دائماً عن المعاذير للتخلّف والقعود عن الجهاد، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾.

6- من أهمّ آثار الحرب التَّمييز بين المؤمنين والمنافقين، فقبلَ معركة أحُد مثلاً لم يكن المنافقون مكشوفين عند الناس، ولا متميّزين عن المؤمنين، فجاءت واقعة أحد لتكشف زيف إيمانهم وتفضح حقيقة نواياهم السيّئة.

7- من عواقب الفرار من الزحف الحرمان من الهداية الإلهية، فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾, فترجيح المال والولد والزوجة على رضا اللّه تعالى والجهاد في سبيله، يعدّ نوعاً من العصيان والفسق البيّن، ومن يتشبّث قلبه بتلك الأمور هو غير جدير بهداية اللّه تعالى.

8- من التبعات المضرّة لترك الجهاد، زوال دور التوحيد ومَحَال عبادة الإنسان لله، قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.

9- من العواقب الملموسة للإعراض والتخلِّي عن الجهاد، عاقبةُ الذلَّة والمهانة، في الدُّنيا والآخرة، والتي تشملُ كلَّ أمّةٍ تركت الجهاد في سبيل الله، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من ترك الجهاد ألبسه الله ذلّاً في نفسه، وفقراً في معيشته، ومحقاً في دينه".

10- من تبعات ترك الجهاد، خذلان الإنسان لأولياء الله تعالى وقادة المؤمنين وتركه لهم وحيدين في ميدان المواجهة والصراع، وبالتالي خذلانه للمبادئ والأسس التي قام من أجلها هؤلاء الناس.

11- من علامات المنافق أنّك إذا دعوته للجهاد في سبيل الله تذرّع لك بعدم القدرة وطلب الإذن والعذر بعدم المشاركة رغم ما يتمتّع به من قدرات جسمانية ومالية، والقرآن قبّح فعل هذا الصنف من الناس بشدّة لأنّهم رضوا بأن يكونوا مع الخوالف أي المعذورين عن المشاركة.
 
 
 
 
 
 
161

129

الدرس الحادي عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن: 
1- يتعرّف إلى منزلة الشهيد وفضل الشهادة في الإسلام.
2- يتعرّف إلى روحيّة الشهيد ورسالته التي يحملها للناس.
3- يتعرّف إلى جزاء الشهيد وثوابه الأخرويّ.
 
 
 
 
 
165

130

الدرس الحادي عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 معاني الشهادة

إنَّ بلوغ الأهداف الكبرى في الحياة يستلزم تضحيات كبرى مكافئة لها. وقد تكون هذه التضحيات على مستوى التضحية بالمال والجهد والوقت، وقد تصل في نهاية الأمر إلى بذل النَّفس والتضحية بالروح، وهو الذي يسمّى في ثقافتنا الإسلامية بالشهادة. من الناحية الفقهية يقول إمامنا الخمينيّ قدس سره: "الشهيد هو المقتول في الجهاد مع الإمام عليه السلام أو نائبه الخاصّ بشرط خروج روحه في المعركة حين اشتعال الحرب أو في غيرها قبل أن يدركه المسلمون حيّاً، ويلحق به المقتول في حفظ بيضة الإسلام"1.

يقول الإمام السيّد عليّ الخامنئيّ دام ظله في معنى الشهيد وحقيقته: "الشهيد هو الإنسان الذي يقتل في سبيل الأهداف المعنويّة ويضحّي بروحه - التي هي الجوهر الأصلّي لكلّ إنسان - لأجل الهدف والمقصد الإلهيّ. والله المتعالي يردّ على هذا الإيثار والتضحية العظيمة بأن يجعل ذكر ذلك الشخص وفكره حاضراً دائماً في أمّته ويبقى هدفه السامي حيّاً. هذه هي خاصيّة القتل في سبيل الله. فالأشخاص الذين يقتلون في سبيله يحيون، أجسادهم تموت ولكن وجودهم الحقيقيّ يبقى حيّاً"2.

وقد ورد للشهادة والشهيد معان عديدة أيضاً، منها3:
 
 

1- الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، ج 1، ص 66، غسل الميت.
2- عطر الشهادة، ص 13.
3- ابن حجر، لسان الميزان، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1971م، ط 2، ج 3، ص 241-246.
 
 
 
 
167

131

الدرس الحادي عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 الشهادة هي الحضور ويقابلها الغيب والضياع

وهي عبارة عن حضور الإنسان في المحضر الإلهيّ باختياره وإرادته حيث يصل المجاهد في عشقه لله إلى درجة من الشوق والوله للقاء المحبوب لا يرى معها الدنيا إلّا سجناً وقيداً ومانعاً من الوصول إلى السعادة المطلقة. فيرفع حجاب الجسم المادّي عن وجه الروح المعنويّ وحياتها الأبدية: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾1.

الشهيد هو من عرف أسرار الحياة
فشهد الدنيا بعين الحقيقة دار الغرور والقرية الظالم أهلها، ولم يغفل عن الآخرة التي هي دار الحيوان2 أي الحياة الحقيقية: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ3, فصار الموت عنده أمنية لأنه باب الوصول إلى تلك الحياة، وباتت دنياه جهاداً للقاء المحبوب.

الشهيد هو الشاهد على أمّته ومجتمعه وزمانه: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا﴾4. الشهيد هو الذي سلك الطريق الأسرع والأقصر للقاء الله ونيل رضوانه: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾5. فهل هناك أسرع من القتل في سبيل الله للانتقال إلى عالم الحقيقة والآخرة وشهود الله تعالى، هذا الشهود الذي هو غاية منى العاشقين وآمالهم، وأقصى مراد الطالبين، وهو ثمرة حتميّة للشهادة؟
 

1- سورة آل عمران، الآية 169.
2- هي دار الحياة الدائمة والخالدة كما ورد في: الزبيدي، تاج العروس، تحقيق علي شيري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1994م، لا.ط، ج 19، ص 356.
3- سورة العنكبوت، الآية 64.
4- سورة النساء، الآية 41.
5- سورة البقرة، الآية 249.
 
 
 
168

132

الدرس الحادي عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 فضل الشهادة في الإسلام

إنّ قطرة من دماء الشهداء ليست كباقي القطرات، إنّها تختصر كلّ شيء، إنّها التوحيد العمليّ والحقيقيّ الذي نطق به لسان العمل والفعل والتضحية، وإن تلك القطرات لأكبر شاهد على الإخلاص لله تعالى ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾1. من هنا يقول الإمام الخمينيّ قدس سره إنّه: "لا يمكن للألفاظ والتعابير وصف أولئك الذين هاجروا من دار الطبيعة المظلمة نحو الله تعالى ورسوله الأعظم وتشرّفوا في ساحة قدسه تعالى"2. وقد زخر تراثنا الإسلاميّ بفيض الآيات والروايات التي تتحدّث عن الجهاد والشهادة وفضلهما والتي تكاد تنضح لكثرتها وتنوّعها وسعة معانيها وأبعادها.

من الآيات الكريمة قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ3, وفيها إشارة واضحة إلى أن الله تعالى يصطفي من هذه الأمة ثلّة من المؤمنين يتّخذهم شهداء، لما لديهم من الفضل والكرامة عند الله. وقوله تعالى أيضاً: ﴿وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾4 الخاص بهم والذي خصّهم المولى عزّ وجلّ به لأنّهم ببساطة أبوا إلّا أن يشتروا (أي يبيعوا الحياة الدنيا بالآخرة) الدنيا بالآخرة فكان أجرهم عند الله عظيماً وعظيماً جداً: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾5.

ومن الروايات الشريفة: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أشرف الموت قتل الشهادة"6، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "فوق كل ذي برٍّ برٌّ حتّى يُقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله
 

1- سورة الانعام، الآية 162.
2- صحيفة النور، مصدر سابق، ج 19، ص 40.
3- سورة آل عمران، الآية 140.
4- سورة الحديد، الآية 19.
5- سورة النساء، الآية 74.
6- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 97، ص 8.
 
 
 
 
169

 


133

الدرس الحادي عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 فليس فوقه برّ"1. والبرّ هو الخير وهو الطّاعة، وكمال الخير ومظهر الطّاعة الحقيقيّة لله تعالى هما مرتبة الشّهادة.


وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصفّ الأوّل، فلا يلفتون وجوههم حتّى يقتلوا، أولئك يتلبَّطون في الغرف العلى من الجنة، يضحك إليهم ربك، فإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه"2.

وعن الإمام زين العابدين عليه السلام قال: "ما من قطرةٍ أحبُّ إلى الله عزّ وجلّ من قطرتين: قطرة دم في سبيل الله، وقطرة دمعة في سواد الليل لا يريد بها العبد إلّا الله عزّ وجلّ"3. ولذلك كان الأئمة عليهم السلام يتمنّون دائماً الشهادة في سبيل المولى تعالى لمعرفتهم بأهمّيتها وفضلها العميم، ففي الدعاء عن الإمام السجاد عليه السلام: "حمداً نسعدُ به في السّعداء من أوليائه، ونصيرُ به في نظم الشهداء بسيوف أعدائه"4. وها هم أصحاب الإمام الحسين عليه السلام يتحلّقون حوله كالفراشات ورغم أنه أذن لهم بالانصراف إلا أنّهم أبوا وكان لسان حالهم جميعاً ما قاله سعد بن عبدالله الحنفي للإمام عليه السلام: "والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيكم، والله لو أعلم أنّي أقتل ثمّ أحيا ثمّ أحرق ثمّ أذرى ويفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتَى ألقى حمامي دونك وكيف أفعل ذلك وإنّما هي موتة أو قتلة واحدة ثمّ هي بعدها الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا"5. هذا هو العشق الحقيقيّ لله ولوليّه في الأرض، هذا هو الحبّ الخالص الذي لا حدود له ولا أمد.

الشهادة موت الأذكياء
ينبغي أن نميّز بين نوعين من الموت قد يتمنّاهما الإنسان، أوّلهما الشهادة والثاني الانتحار. ففي حين يمثّل الأوّل أعلى درجات الإنسانية وأرقاها وأسماها، يمثّل الثاني قمة
 
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 348.
2- الإمام أحمد، مسند أحمد، مصدر سابق، ج 5، ص 287.
3- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 11، ص 247.
4- الإمام علي بن الحسين عليه السلام، الصحيفة السجادية، قم، نشر الهادي، 1418ه، ط 1، ص 32.
5- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 45، ص 70.
 
 
 
 
170

134

الدرس الحادي عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 التسافل والانحطاط. الشهيد يتمنّى الموت والأمل يخالجه على الدوام ويحيط به من كلّ حدب وصوب لأنّه يتمنّاه حباً بالآخرة وطلباً للقاء الله، أمّا المنتحر فيتمنّى الموت هروباً ويأساً من هذه الحياة، وحزناً عليها كونها تشكّل أقصى مراده وغايته ومناه.


أمّا الشهيد فإنّه يرى الدنيا حجاباً ومانعاً يحول بينه وبين مراده الفعليّ وغايته الحقيقية وهي لقاء الله ومجاورة أوليائه وأنبيائه. والمنتحر يرى الدنيا غايته التي يأسف لعدم الوصول إليها فيترجم هذا الأسف من خلال قتله لنفسه ظناً منه أنّه بذلك سوف يرتاح من آلامه وعذاباته. فالفناء بالنسبة له يصبح أفضل من إعراض الدنيا عنه وعدم حصوله على مبتغاه منها، إنّه يطلب الموت أسفاً على الشهوات والملذّات الدنيوية التي لم تصل يده إليها. أمّا الشهيد فإنه يطلب الموت إقامة للدين ونصرة للحق. الشهيد إنسان واع، صاحب مبادئ وقيم إنسانية سامية، هدفه خدمة الناس ورفع الظلم عن البشرية ونصرة المستضعفين، قد ربح الدنيا والآخرة، أمّا المنتحر فأنانيٌّ ومجرم بحقّ نفسه قد خسر الدنيا والآخرة.

إذاً، قد يتشابه العملان (الشهادة والإنتحار) في الدنيا من حيث الظاهر، ولكن في الحقيقة والواقع هناك فرق جوهريّ بينهما، فمرّة يقتل الإنسان في سبيل الله وشوقاً إليه، وأخرى يقتل في سبيل نفسه وحسرة عليها وانتقاماً لهواها!!! يقول الإمام الخامنئي دام ظله: "الموت للجميع ونحن إذا توفّينا في سبيل الله لم نفقد شيئاً بحسب الموازين المادية الظاهرية، والموت هو المصير الذي لا مفرّ منه لكلّ واحد منّا، وهذا المتاع (أي الروح) سنفقده لكنّ فقدانه يكون على نحوين: الأول أن نضيّعه والثاني أن نبيعه فأيهما أفضل؟! أولئك الذين لم يقتلوا في سبيل الله قد أضاعوا أرواحهم وفي المقابل لم يحصلوا على شيء. بينما الذين قدّموا هذا المتاع في سبيل الله وبذلوا أرواحم لأجل الله هم الأشخاص الذي باعوا واستعاضوا بذلك: فالشهيد يبيع روحه وفي المقابل يحصل على الجنّة والرضا الإلهيّ الذي هو أفضل الأجور، علينا أن ننظر إلى الشهادة في سبيل الله من هذا المنظار. الشهادة هي موت الأذكياء الفطنين الذين لا يفقدون هذه الروح بدون
 
 
 
 
 
171

135

الدرس الحادي عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 ثمن، فهي رأسمالهم الأصليّ"1. من هنا نفهم معنى ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: "أشرف الموت قتل الشهادة"2.


روحيّة الشهادة
يقول سماحة الإمام الخامنئيّ دام ظله: "للشهداء حركتان وموقفان في منتهى الروعة والعظمة، وكلّ واحد منهما يحمل نداءً عميقاً: أحدهما موقف من الإرادة الإلهية المقدّسة وإزاء دين الله وعباده الصالحين، والموقف الآخر أمام أعداء الله. ولو أنّكم وضعتم موقف الشهيد ومعنويّاته ودوافعه موضع التمحيص والدراسة لاتّضح لكم هذان الموقفان"3.

الموقف الأول: والذي يرتبط بالله وعباده ونصرة دينه فإنه يتجلّى ويظهر عند الشهيد بواسطة أمرين أساسيين هما التضحية والإيثار. إنّ المبدأ الأول الذي يحكم حياة الشهيد ومسيرته الجهادية هو إنكاره لذاته وعدم إدخالها في حساباته على الإطلاق، لأنّ همّه أبداً ودائماً هو الله وعباده لا نفسه، وهذا هو الإيثار بعينه. فالمجاهد الذي ترك الأهل والأولاد وانطلق إلى ميادين القتال لا لشيء إلّا لإعلاء كلمة الدين وقتال أعداء الله والإنسانية الذين استباحوا الأرض والحرم والمقدّسات أوقعوا أشدّ الظلم بالمسلمين، هذا المجاهد قد ضحّى بنفسه وراحته ودنياه وقرّر أن يسخّر وجوده النافع في سبيل الله وابتغاء لنيل محبته مرضاته على القاعدة التي سنّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: "الخلق كلّهم عيال الله، فأحبّهم إلى الله عزّ وجلّ أنفعهم لعياله"4. ألم يضحّ أصحاب الحسين عليه السلام بكلّ ما يملكون في سبيل نصرة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحفاظ على دين الإسلام؟ ألم يضحّ الشعب الإيرانيّ المسلم في إيران بالآلاف من أبنائه من أجل نصرة دين الله وحماية الجمهورية الإسلامية الفتيّة؟ ألم يضحّ اللبنانيون المجاهدون بأغلى ما لديهم من أجل طرد
 
 

1- عطر الشهادة، ص 15.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 74، ص 115.
3- عطر الشهادة، ص 25.
4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج 16، ص 344.
 
 
 
 
172

136

الدرس الحادي عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 الغزاة الصهاينة أعداء الدين والإنسانية عن ديارهم وحرمهم؟ إنّ موقف الشهيد ولسان حاله إلى كل الأحرار أن: يا أيها الناس من أراد أن يعمل لله وينال رضوانه فلينكر ذاته، لينسَ أهواءه ويضع نصب عينيه الأهداف الإلهية فقط.


الموقف الثاني: للشهيد هو صموده وثباته أمام أعداء الله بحيث يصير مصداقاً حقيقياً لما أوصى به أمير المؤمنين عليه السلام ابنه محمد ابن الحنفية حين أعطاه الراية يوم الجمل قائلاً: "تزول الجبال ولا تَزُل، عَضَّ على ناجِذِكَ، أَعِر الله جمجمتك، تِدْ في الأرض قدمك، ارْمِ ببصرك أقصى القوم، وغُضّ بصرك واعلم أنّ النّصر من عند الله سبحانه"1.

بهذه الصفات يوصي أمير المؤمنين عليه السلام أن يكون المجاهد أمام أعداء الله، والشهيد يوصل لنا هذا النداء من خلال عمله وسعيه. فهو الصامد، الثابت القدم في ميادين القتال، وهو على الدوام في طليعة المجاهدين وأوائل المضحّين، المطمئنين على الدوام في أصعب المواقف، الذين لا يتّخذون المواقف الانفعالية، وتراهم مستعدّين دائماً لمواجهة العدوّ بكلّ ما أوتوا من قوّة دون أي استخفاف أو استهانة بقوّة العدوّ في الوقت عينه. ويوصي سماحة الإمام الخامنئي دام ظله المجاهدين قائلاً: "الشهادة هي دليل الصلابة، والشهداء غالباً من يكونون العناصر الفولاذية في جبهة الحرب، عليكم أن تظهروا هذه الروحية والإرادة ذاتها أنتم أيضاً".

هذا هو النداء الثاني للشهيد لأمّته بأن لا تخضع لإرادة عدوّ الدين والإنسانية، وأن لا تهابه في محضر الله ووجوده المقدّس: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾2 فتدرك بذلك نفحة من أسرار التوكّل عليه في جميع الأمور، والاستمداد الدائم منه للمواجهة إلى أقصى الحدود: ﴿بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ3.
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 32، ص 195.
2- سورة الحديد، الآية 4.
3- سورة آل عمران، الآية 125.
 
 
 
173

137

الدرس الحادي عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 هذه الروحية عند الشهداء هي التي حقّقت وما زالت تحقّق الانتصارات، وتصون هذه المسيرة الإيمانية والجهادية حتّى بلوغ الأهداف والغايات الإلهية، وتحافظ على عزّة وشرف ومناعة هذه الأمّة.


جزاء الشهيد وثوابه
إنَّ الشهيد في ديننا الإسلاميّ ذو منزلة عظيمة عند الله، وهذا ما يتبيّن لنا من خلال أنواع الجزاء الأخرويّ الذي سوف يلقاه ويحصل عليه الشهيد.
1- سبع خصال من الله:
هي أول ما يناله الشهيد وهو في اللحظة الأخيرة من عالم الدنيا واللحظة الأولى للمرحلة التي بعده، قال سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم "للشَّهيد سبع خصال من الله:
من أول قطرةٍ من دمه مغفورٌ له كلّ ذنب.

والثانية يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين، وتمسحان الغبار عن وجهه، وتقولان: مرحباً بك ويقول هو مثل ذلك لهما.

والثالثة يُكسى من كسوة الجنة.

والرابعة تبتدره خزنة الجنة بكل ريح طيّبة أيّهم يأخذه معه.

والخامسة أن يرى منزله.

والسادسة يقال لروحه: اسرح في الجنّة حيث شئت.

والسابعة أن ينظر في وجه الله وإنها لراحة لكل نبيّ وشهيد"1.

2- ثلاث مواهب سنيّة:
يقول الله سبحانه وتعالى في سياق بيانه لمقام الشهيد: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ *  وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ 2, تذكر الآية الشريفة ثلاث مواهب خصّ الله تعالى بها الشهداء وهي:
 

1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج 15، ص 16.
2- سورة محمد، الآيات 4-7.
 
 
 
 
174

138

الدرس الحادي عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 - أنّه تعالى سيهديهم إلى منازل السعادة والكرامة، والكمالات الإنسانية، والمقامات السامية، والفوز العظيم، ورضوانه.


- أنّه سيصلح حالهم بالمغفرة والعفو فيصلحون لدخول الجنة، ويحييهم حياةً يصلحون بها للحضور عند ربّهم بانكشاف الغطاء، ويهبهم هدوء الروح، واطمئنان الخاطر، والنشاط المعنويّ والروحيّ.

- أنّه سيدخلهم الجنّة التي وعدهم بها وادّخرها لهم، والتي سبق وأن عرّفها لهم إمّا في الدنيا عن طريق الوحي والنبوّة، وإما بالبشرى عند القبض.

3- الحياة الحقيقية:
إن الله تعالى خصَّ الشهداء في سبيله بمرتبة الحياة بعد الموت فيقول تعالى: 
﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ1، لكن ليس المقصود من هذه الحياة الحياة العادية، إذ إنّ الآخرين من الناس هم أحياء في عالم البرزخ، مؤمنين منعّمين أو كفارا معذّبين. بل لهم حياة خاصّة لأن الشهداء يدخلون البرزخ أحياء ولا يغفلون عن حوادث الدنيا بل هم يطّلعون على أحوال الذين يسعون سعياً حثيثاً لحفظ النهج المحمديّ الأصيل، ويستبشرون بهم كما قال تعالى: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ2.

4- تكفير كلّ الذنوب سوى الدَّيْن:
قال الله تعالى: ﴿وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ3, وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الشهادة تكفّر كلّ شيء إلّا الدَّيْن"4.

وعن الإمام الصادق عليه السلام "من قتل في سبيل الله لم يعرّفه الله شيئاً من سيئاته"5.
 

1- سورة آل عمران، الآية 169.
2- سورة آل عمران، الآية 170.
3- سورة آل عمران، الآية 157.
4- الشيخ الكليني، الكافي، ج 5، ص 54.
5- المصدر نفسه، ج 5، ص 54.
 
 
 
 
175

139

الدرس الحادي عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 5- لا يفتتن الشهيد في القبر:

فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من لقي العدوّ فصبر حتّى يقتل أو يغلب لم يفتن في قبره"1، والمقصود من عدم الافتتان في القبر، هو عدم تخلّي الميّت عن دينه وعقائده الحقّة التي كان يحياها في الدنيا، ذلك أن شدّة الموت والنزع وهول المطّلع والرهبة من منكر ونكير لا يثبت أمامها إلّا من كانت عقائده ثابتة في قلبه، والشهيد الذي لم ترهبه الأسلحة ولا هول الحروب أجدر بأن يُؤمَن خطر الافتتان في القبر.

6- الدخول إلى عرصة القيامة بمراسم البهاء:
ورد عن الإمام عليّ عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "فوالذي نفسي بيده لو كان الأنبياء على طريقهم لترجَّلوا لهم ممّا يرونَ من بهائهم..."2.

ويجب أن لا يغيب عن البال أنّه مع هذا التكريم الخاصّ للشّهداء في يوم القيامة إلّا أنّ حال عامّة النّاس مختلفٌ كثيراً، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "مثل النّاس يوم القيامة إذا قاموا لربّ العالمين مثل السّهم في الْقُربِ ليس له من الأرض إلّا موضع قدمه كالسّهم في الكِنَانَةِ3 لا يقدر أن يزول ها هنا ولا ها هنا"4. أي كما تُسطر السهام وتُرصُّ في الكِنانة جنباً إلى جنب، بحيث لا يمكن تحريكها لشدّة تماسكها ببعضها بعضاً من التضايق والتزاحم.

وقال تعالى ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء5, فمهطعين أي مسرعين، ومقنعي يعني رافعي رؤوسهم إلى السماء فلا يرى الرجل مكان قدميه من شدّة رفع الرأس، وذلك من هول يوم القيامة. وفي تصوير آخر لهذه الحالة يكون الناس في يوم القيامة ناكسي رؤوسهم لا يرتدّ إليهم طرفهم، فلا ترجع إليهم أعينهم ولا يطبّقونها ولا يغمضونها، وقلوبهم خالية من كلّ شيء فزعاً
 
 

1- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 2، ص 119.
2- المصدر نفسه، ج 11، ص 12.
3- الكنانة، جعبة السهام.
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 7، ص 111.
5- سورة ابراهيم، الآيتان 42 ـ 43.
 
 
 
 
176

140

الدرس الحادي عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 وخوفاً. وقد فصّلت الآيات الكريمة حال الناس في العديد من السور إلى أن قالت في وصف تلك اللحظات الشديدة: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *  وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾1.


7- الشفاعة:
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاثة يشفعون إلى الله فيُشفّعهم: الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء"2. فقد اتّفقت الإمامية على أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر والذنوب من شيعته، وأنّ المؤمن البرّ يشفع لصديقه المؤمن المذنب، فتنفعه شفاعته ويشفّعه الله3.

8- مرافقة الأنبياء والصدّيقين والصالحين:
وهي قول الله تعالى: ﴿فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا4.
 
 

1- سورة عبس، الآيات 34 -73.
2- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 11، ص 20.
3- الشيخ المفيد، أوائل المقالات، الشيخ إبراهيم الأنصاري، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1993م، ط 2، ص 29.
4- سورة النساء، الآية 69.
 
 
 
 
177

141

الدرس الحادي عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 المفاهيم الرئيسة


1- للشهادة معان عديدة تبدأ من الحضور في محضر الحقّ تعالى وتنتهي بلقاء الله.

2- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله "أشرف الموت قتل الشهادة" وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على عظمة الشهادة وعلوّ منزلتها عند الله.

3- للشهيد موقفان أساسيان: الأول التضحية والإيثار بالنفس نصرة للدين، والثاني الثبات والقوّة بوجه أعداء الدين.

4- الشهادة موت الأذكياء لأنّ الإنسان لا محالة ميّت، والفطن هو الذي يختار أفضل وسيلة للموت وأشدّها كرامة وفضلاً عند الله، وأكثرها أجراً وثواباً.

5- للشهيد في الإسلام منزلة عظيمة وأجر جزيل وثواب يكاد لا يحصى: فمن المغفرة إلى الحور العين ودخول جنّة النعيم إلى الهداية والنظر إلى وجه الله ومرافقة الأنبياء والصدّيقين إلى الحياة الحقيقية والرزق المعنويّ الذي لا ينقطع ولا ينتهي أبداً.
 
 
 
 
 
178

142

الدرس الثاني عشر: طريق الشهادة

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يدرك حقيقة الشهادة في مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
2- يبيّن كيفية سلوك درب الشهادة وطريقها.
3- يعدّد الشروط الأساسيّة التي بتحقّقها يصبح طريق الشهادة سهلاً يسيراً ومحقّقاً.
 
 
 
 
 
 
179

143

الدرس الثاني عشر: طريق الشهادة

 الشهادة في مدرسة أهل البيت عليهم السلام

لقد منّ الله علينا ببركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام بأن شرّع لنا باب القتل في سبيل الله، وجعل سياحة أمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجهاد الذي تشكّل الشهادة ثمرته الناضجة كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "سياحة أمّتي ورهبانيّتهم الجهاد"1.

فأضحى باب الوصال والقرب الإلهيّ مفتوحاً على مصراعيه أمام المريدين، ولم يعد تهذيب النفس والتخلّص من الأنانية وحبّ الدنيا وغيرها من الحجب المانعة من نيل الفيض الإلهيّ، والتحقّق بالكمال الإنسانيّ موقوفاً على ذلك السفر الشاقّ والطويل والمجاهدات العظيمة والسنوات العديدة.

لم يعد الإنسان يحتاج إلى خمس وعشرين سنة من عمره ليتخلّص من الرياء أو إلى ثمانين سنة ليقول بعدها: الآن زال حبّ الدنيا من قلبي، أو أن يعتزل الناس والمجتمع داخل صومعته ليبلغ الكمال وما هو ببالغه!

لقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ أمّته لا تحتاج إلى زمان مديد ومكان بعيد لتنال القرب الإلهيّ، فها هو قد اختصر بثلاث وعشرين سنة من عمره الشريف دعوة جميع الأنبياء والمرسلين، بل وبلغ ما لم يبلغه أحد ممّن سبقه منهم، فصار الدين عند الله الإسلام. وها هو حفيده الإمام الحسين عليه السلام الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حسين منّي وأنا من حسين أحبّ الله من أحبّ حسيناً"2 يختصر تلك العشرين والنيّف من السنوات بعشرة أيام، بل بيوم واحد، لا بل بعدّة ساعات من نهار فيحيي إسلام جدّه صلى الله عليه وآله وسلم من جديد
 

1 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 16، ص 53.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 43، ص 261.
 
 
 
 
181

 


144

الدرس الثاني عشر: طريق الشهادة

 ويجسّد في تلك الواقعة دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكلّ ما فيه، فيصير الاستشهاد في سبيل الله شرفاً يحقّق مراد الصالحين: "إن لك في الجنّة درجات لن تنالها إلّا بالشهادة"1.


ومع شهادة الإمام الحسين عليه السلام صارت كربلاء هي المكان أبداً وصارت عاشوراء هي الزمان دوماً وأضحت خطى أبي عبد الله عليه السلام منهاج الحياة: "إني لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً"2، من هنا كان: "كلّ يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء"، وهو أيضا ما أكّده حفيد الأئمة الأطهار الإمام الخمينيّ قدس سره قولاً وعملاً: "إن كلّ ما لدينا من الإمام الحسين وثورة عاشوراء"3.

درب الشهادة
الشهادة هي غاية آمال العارفين ومطلوب المجاهدين وهي إحدى الحسنيين التي يشتاق إليها الصالحون ويدعون ربّهم لنيلها في ليلهم ونهارهم كما في الدعاء "وَقَتْلًا فِي سَبِيلِكَ مَعَ وَلِيِّكَ فَوَفِّقْ لَنَا"4. غير أنّ الشهادة مقام لا ينال بالتمنّي والدعاء فقط. إنّ الشهادة هي منهج حياة وسلوك عمليّ. إنّها عزم وطاعة وهجرة وجهاد. إنّها تزكية نفس وتقوى وإخلاص.

إنّ نيل مقام الشهادة والقتل في سبيل الله حقاً له شروط ومقدمات وهو ثمرة مراحل يعبرها المسافر إلى الله في هذه الدنيا ونشير إجمالاً إلى بعض هذه الشروط:
تمنّي الموت في سبيل الله
يعتبر القرآن الكريم أنّ تمنّي الموت هو دليل على المحبّة والولاية لله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ
 
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 44، ص 328.
2- المصدر نفسه، ج 44، ص 192.
3- وعشقوا الشهادة، ص 9.
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 95، ص 117.
 
 
 
 
182

145

الدرس الثاني عشر: طريق الشهادة

 صَادِقِينَ1. وأولياء الله هم المشتاقون دوماً لرؤيته والكادحون للقائه، الذين صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى، الذين "لولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثّواب وخوفاً من العقاب"2، كما يصفهم أمير المؤمنين عليه السلام. فأولياء الله أدركوا حقيقة هذه الدنيا وأنّها دار الفراق والهجران، وعالم التصرّم والزوال. واستيقنوا هذه الحقيقة بعدما ذاقوا حلاوة القرب الإلهيّ واطّلعوا على عوالم الغيب والبقاء، فصارت الآخرة مطلوبهم لا طمعاً في الجنات والنعيم بل لأن الجنّة هي ساحة لقاء الحبيب، ولأن المحبّ يرضى ما يرضاه حبيبه، ويستعينون على ذلك بالصبر والجهاد المستمرّ في هذا السجن، لأنّ المحبوب قد كتب لهم أجلاً محدداً ولولاه لكانت أرواحهم الهائمة بحبّ بارئها قد عرجت إليه بلمح البصر.


عدم الانشغال بالدنيا
يسأل الله سبحانه تعالى عباده مستنكراً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾3! لأنّ حياتكم الحقيقية ليست هنا، بل شأنكم أعظم من هذه الدنيا وما فيها، بل: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ4.

وحدهم أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة وباعوا أرواحهم وأجسادهم لله ولم يرضوا بهذا العرض الأدنى قد تنبّهوا لتحذير الحقّ تعالى، فكان منطقهم ولسان حالهم ورسالتهم إلى قومهم على الدوام: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ5, وإلى أعداء
 

1- سورة الجمعة، الآية 6.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج64، ص 315.
3- سورة التوبة، الآية 38.
4- سورة الحديد، الآية 20.
5- سورة غافر، الآية 39.
 
 
 
 
183

146

الدرس الثاني عشر: طريق الشهادة

 الله وأعدائهم لسانهم أبداً: ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾1


فأهل الآخرة والسائرون على درب الشهادة يعيشون لله في كلّ آن من آناء أيامهم ولياليهم، والدنيا عندهم بكلّ ما فيها لا تساوي عندهم شيئاً، بل كلّ ما يهمهم هو رضا الله تعالى والعمل وفق إرادته. لذا فهم منذ نهوضهم وحتّى نومهم متفرّغون لخدمة دينه تعالى وخدمة عياله. همّهم دائماً في كيفيّة أداء التكليف بأفضل صورة وأكمل وجه وأخلص نيّة، وهم لا يرتبطون بالدنيا إلّا على هذا الأساس. فالدنيا عندهم هي المكان الذي من خلاله ينشرون دين الله، ويدعون الناس إلى الهداية والصلاح فيها، وهي المكان الذي يخدمون فيه عباد الله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويحاربون الباطل. الدنيا عندهم ميدان لإعلاء كلمة الله وجعلها هي العليا، ميدان لقتال أعداء الدين والإنسانية، قطّاع طريق الهداية وسبيل الله: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ2. فهذا هو سبيلهم إلى الله ومنها زادهم إلى جنّات اللقاء والنعيم المقيم.

وعليه من أراد أن يسلك درب الشهداء ويتّبع سبيلهم فما عليه إلّا أن يصحّح علاقته بالدنيا ونظرته إليها وأن يقلع عن طلب الدنيا وحبّها وبالتالي تعلّقه القلبيّ بها لأن الله سبحانه وتعالى: ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾3. فإمّا أن يتعلّق قلبه بالدنيا ويتوجّه إليها وإمّا أن يتعلّق قلبه بالله. ولا يمكن أن يجتمع حبّ الله ولقائه مع حبّ الدنيا. بل عليه أن يقلع حبّ الدنيا من قلبه وذلك من خلال عدم الاشتغال بها، فالاشتغال بأمور الدنيا يؤدّي إلى تقوية الطلب والتعلّق ويعطي إبليس المنافذ الكثيرة التي يمكن أن يتسلّل عبرها من حيث لا ندري أو نشعر فنقع في حبائله.

لذلك أهل الله لا شغل لهم بالدنيا، وهم إذا عملوا فيها فلأنّ ذلك مقتضى تكليفهم وواجبهم الشرعيّ لا أكثر. حتّى إذا استدعاهم خالقهم لنصرة دينه والقتل في سبيله
 
 

1- سورة طه، الآية 72.
2- سورة يوسف، الآية 108.
3- سورة الأحزاب، الآية 4. 
 
 
 
 
184

 


147

الدرس الثاني عشر: طريق الشهادة

 تسابقوا لتلبية النداء وكانوا خير الملبين: ﴿أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ1. وإذا ما فتحت أبواب السماء ولاحت بشرى الآخرة ودعتهم إليها تركوا كلّ ما يملكون وأسرعوا إلى لقاء المحبوب الأوحد الذي انتظروه كلّ حياتهم.


خلوص النيّة
تكتسب الشهادة معانيها العالية وقدسيّتها من الغاية التي يُقتل الإنسان المجاهد لأجلها, ﴿سَبِيلِ اللّهِ﴾. وهذا ما يعبّر عنه بلغة الدين بـ "النيّة"، التي هي في الواقع سبب قبول الأعمال وشرافتها وقيمتها كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما الأعمال بالنّيّات ولكلّ امرئ ما نوى‏2". هذه النيّة إذا كانت لله خالصة من هوى النفس والتعلّقات الدنيوية، فإنّها تجعل العمل مقبولاً عند الله سبحانه وتعالى لأنّه تعالى لم يأمر إلا بالإخلاص: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء﴾3 كما أسلفنا سابقاً.

فالمنزل الأول والمقدمة الأساسية لطلب الشهادة هما تطهير النيّة وصبغها بالصبغة الإلهية. وهذا يتطلّب الصدق والمراقبة الجادّة بشكل دائم ومستمرّ، لأنّ الإبقاء على العمل حتّى يخلص أشدّ صعوبة من القيام به كما في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "الإبقاء على العمل حتّى يَخلُص أشدّ من العمل"4. فإذا صفّى المجاهد نيّته من غير الله تعالى فإنّ باب التوفيق للشهادة سوف يغدو مشرّعاً، عندها سوف تهون عليه كلّ الصعاب والمصائب، وتصير البلاءات عنده نعماً وآلاءً إلهية طالما أنّها ستقوده إلى أمله ومناه إلى لقاء الله تعالى. وسيصبح الجهاد الذي هو كره للناس حلواً وعذباً عنده، والقتل والشهادة غايته إذ فيها لقاء المحبوب الأوحد الذي لا محبوب عنده سواه ولا مطلوب غيره، فتصبح ترنيمة عشقه كما هو لسان حال أبي عبد الله الحسين عليه السلام:
 
 

1- سورة المؤمنون، الآية 61.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 67، ص 212.
3- سورة البينة، الآية 5.
4- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 16.
 
 
 
 
185

148

الدرس الثاني عشر: طريق الشهادة

 إلهي تركت الخلق طراً في هواك    وأيتمت العيال لكي أراك

فلو قطعتني في الحب إرباً            لما مال الفؤاد إلى سواك

تذكّر الشهداء وزيارتهم
لا معنى لأن يحتذي المرء حذو إنسان ما بهدف التأسّي به دون استذكاره واستحضار اسمه وأعماله ومنجزاته. والأمر بعينه ينطبق على من يسعى إلى الاقتداء بالشهداء والسير على منهاجهم. فالذكر الدائم للشهداء من خلال زياراتهم، والسَّلام عليهم، وتذكّر تضحياتهم وتفانيهم وصبرهم واحتسابهم، يترك بالغ الأثر في النفوس، فيحملها طوعاً على اتّباع طريقتهم المثلى.

فالآيات والروايات بالإضافة لما ذكرته من فضل الشّهادة وقدسيّتها قد ذخرت بالأدعية والزيارات الخاصة للشّهداء والمروية عن أهل بيت العصمة والطهارة. فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام في زيارة العباس بن علي عليه السلام قوله: "سلام الله وملائكته المقرّبين وأنبيائه المرسلين...عليك يا ابن أمير المؤمنين...أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء...أشهد أنّك قتلت مظلوماً وأنّ الله منجز لكم ما وعدكم...وأشهد أنّك مضيت إلى ما مضى به البدريون والمجاهدون في سبيل الله...أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة وأعطيت غاية المجهود...(ثم يقول سلام الله عليه) فبعثك الله في الشهداء وحشرك مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً"1. وما كان ليصل الشهداء إلى هذه المنزلة الرفيعة لولا صبرهم وبصيرتهم كما يقول الإمام عليه السلام في بقية الزيارة: "وأشهد أنّك لم تهن ولم تنكل، وأنّك مضيت على بصيرة من أمرك مقتدياً بالصالحين".

ونقرأ في زيارة الإمام الصادق عليه السلام للشهداء أيضاً: "السلام عليكم يا أولياء الله وأحبّائه، السلام عليكم يا أصفياء الله وأودّاءه، السلام عليكم يا أنصار دين الله وأنصار
 
 

1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات‏، تحقيق وتصحيح عبد الحسين‏ الأميني، دار المرتضوية، النجف الأشرف، ‏1397 هـ، ط 1، ص 256-258، زيارة العباس بن علي عليهما السلام.
 
 
 
186

149

الدرس الثاني عشر: طريق الشهادة

 نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وأنصار أمير المؤمنين عليه السلام وأنصار فاطمة سيدة نساء العالمين"1. وهكذا يرتقي الشهيد ليفوز الفوز العظيم، وليكون مدرسة للمريدين والتائقين إلى لقاء الله ومجاورة الأنبياء والصدّيقين.


التآسّي الدائم بالإمام الحسين عليه السلام وأصحابه
إنّ للقدوة والأسوة الحسنة في الحياة الأثر البالغ والعميق في تحديد الوجهة والخيارات التي ينبغي أن يتّخذها الإنسان لنفسه ويعمل عليها، خصوصاّ إذا كانت هذه الخيارات مصيريّة ومفصليّة في الحياة وعليها يتأسّس بنيان الإنسان. قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾2, فالأمر الإلهيّ واضح وصريح بضرورة التأسّي بفكر ونهج الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لمن كان يرجو لقاء الله واليوم الآخر. هذا الفكر الذي عماده توحيد الله كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أيها النّاس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"3، ونهجه الجهاد والتضحية في سبيل الله: "سياحة أمّتي الجهاد"4. هذا الفكر والنهج الذي تجسّد بأجلى صوره وأسمى آياته في بضعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال بشأنه: "أنا من حسين وحسين منّي"‏5، حيث كان سلام الله عليه مجمعاً للتوحيد والجهاد والذي ظهر بشكله العمليّ في كربلاء ليرسم معالم الطريق لسالكي درب الشهود والحضور في محضر الله تعالى، درب اللقاء بالمحبوب الأوحد الذي إليه تهفو قلوب الصادقين، وأفئدة المريدين. فغدت كربلاء مدرسة ينهل من معينها كلّ تائق للقاء الله والخلاص من أسر هذا السجن الفاني والجسد البالي، وبالتالي صار الترجمان العمليّ والتطبيق الواقعيّ لرسالة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم متجسّداً في الإمام الحسين عليه السلام وكربلاء.
 

1- ابن طاووس، علي بن موسى، الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرة في السنة، تحقيق وتصحيح جواد قيومي الأصفهاني، نشر مكتب الإعلام الإسلامي‏، إيران ـ قم، 1418 هـ‏، ط 1‏، ج 2، ص 65، زيارة الحسين في يوم عرفة.
2- سورة الأحزاب، الآية 21.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 18، ص 202.
4- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 11، ص 14.
5- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 43، ص 296.
 
 
 
 
187

150

الدرس الثاني عشر: طريق الشهادة

 فعندما ندقّق في كلّ موقف من مواقف كربلاء، وفي كلّ مشهد من مشاهدها، وفي كلّ حادثة من حوادثها نجد أنّ ما يجمعها جميعاً هو الحبّ الخالص لله ولوليه الممزوج بفرحة لقاء الله. هذا الحبّ الذي حوّل الموت عند الحسين عليه السلام وأهل بيته وصحبه إلى سعادة لا تضاهيها سعادة: "إنّي لا أرى الموت إلّا سعادة"1، حتّى غدا الموت عندهم أحلى من العسل، كما كان حال أصغرهم؛ القاسم بن الحسن عليه السلام عندما سأل إمامه مستفهماً: "...وأنا فيمن أقتل؟ فأشفق عليه الإمام عليه السلام وقال له: يا بنيّ كيف الموت عندك؟ فقال القاسم بن الحسن: يا عمّ أحلى من العسل!"2.


وعندما أذن الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه بالانطلاق وجعلهم جميعاً في حلّ من أمرهم، وأن ليس عليهم أدنى حرج منه ولا ذمام طالما أنّ الأعداء لا يطلبون غيره، كيف كان ردّ فعلهم؟! وبماذا أجابوا إمامهم؟! وبأيّ حال توجهوا إليه سلام الله عليهم أجمعين؟!

ينتفض مسلم بن عوسجة من مكانه بعد سماع كلام إمامه ويقول: "والله لو علمت أنّي أقتل ثمّ أُحيى ثمّ أحرق ثمّ أحيى ثمّ أحرق ثمّ أذرّى يفعل بي ذلك سبعين مرة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي من دونك. وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟ ثمّ قام زهير بن القين رحمه الله وقال: والله لوددت أنّي قتلت ثمّ نشرت ثمّ قتلت حتّى أقتل هكذا ألف مرّة وأنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك لفعلت"3.

فأيّ روح هي هذه التي كانت تسكن جنبات هؤلاء النجباء والأصفياء الذين عندما بشّرهم إمامهم بالموت والقتل حمدوا الله وشكروه على هذه الكرامة والمنزلة!؟ إنها باختصار روحية الاستشهاد وتمنّي الموت التي يقول الباري عزّ وجل بشأنها: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾4,
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 44، ص 19.
2- السيد هاشم البحراني، مدينة المعاجز، الشيخ عزة الله المولائي الهمداني، مؤسسة المعارف الإسلامية، إيران ـ قم، 1413هـ، ط 1، ج 4، ص 215.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 44، ص 392.
4- سورة الجمعة، الآية 6.
 
 
 
 
188

151

الدرس الثاني عشر: طريق الشهادة

 فغدوا بحقّ أولياء لله واستحقّوا قول إمامهم فيهم ومدحهم لهم: "اللهمّ إنّي لا أعرف أهل بيت أبرّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحاباً هم خير من أصحابي"1.


وهذا درس مهمّ لمن يريد السير على هدي هؤلاء الأصحاب الأوفياء الذين وبعد أن وجد سلام الله عليه فيهم العزم على ملاقاة الحتوف والرضا بالمقدور قام عليه السلام وبشّرهم: "إنّكم تقتلون غداً كلّكم ولا يفلت منكم رجل"، قالوا الحمد لله الذي شرّفنا بالقتل معك، ثمّ دعا فقال لهم: "ارفعوا رؤوسكم وانظروا" فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنّة وهو يقول لهم: "هذا منزلك يا فلان"، فكان الرّجل يستقبل الرّمّاح والسّيوف بصدره ووجهه ليصل إلى منزلته من الجنّة"2. هو درس لنا جميعاً عنوانه أنّ من أراد الفوز في الدنيا والآخرة ما عليه إلّا تحصيل روحية الاستشهاد، وعماد هذه الروحية هو تمنّي الموت: ﴿فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، الموت الذيت عقبه الحياة الحقيقية، سواءعلى المستوى الفرديّ أوالإجتماعيّ لأنّ الشهيد بشهادته سوف يحيا بالحياة الحقيقية، وسوف يحيي أمّته ومجتمعه ويبثّفيهما روحا لأمل من جديد.

فكربلاء هي مدرسة لتعليم الشهداء وتخريج الشهداء. وقد أراد أهل بيت العصمة والطهارة من خلالها فتح باب الشهادة على مصراعيه ليغدو كلّ يوم من أيام الموالين لخطّ أهل البيت عليهم السلام عاشوراء، وكل أرض تقلّهم كربلاء. فطالما أن أمر هذا الدين لن يستقيم إلّا بالاندفاع نحو الموت والشهادة كما يندفع المرء للقاء أحبّته دون تردّد أو وجَلٍ فمرحىً به "إن كان دين محمّد لم يستقم إلّا بقتلي فيا سيوف خذيني" لأنّ أعداء الدين والإنسانية كان سلاحهم على الدوام تخويف الناس بالموت وحرمانهم من نعمة الحياة الغالية على قلوبهم، وما من سلاح فتّاك يمكن أن يواجه تثبيط الأعداء وتخويفهم إلّا سلاح الشهادة وحبّ الموت في سبيل الله.
 

1- الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 220.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 44، ص 298.
3- السيد مرتضى العسكري، معالم المدرستين، مؤسسة النعمان للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1990م، لا.ط، ج 3، ص 303.
 
 
 
 
189

152

الدرس الثاني عشر: طريق الشهادة

 فمن كان يرغب بالانتساب إلى هذه المدرسة الحسينية والتزود من علومها، عليه الجلوس على مقاعدها متعلماً ومتأسياً وعاملاً لعله يوفّق في نهاية المطاف ليكون في ركب من أنعم الله عليهم ووفّقهم لتلبية نداء حجّة الله في الأرض عجل الله تعالى فرجه الشريف بصدق ووفاء، هذا النداء الذي صدح في كربلاء وما يزال يصدح في كلّ زمان ومكان "هل من ناصر ينصرنا". هذا النداء الذي ما زال غضّاً طرياً في هذا العصر أيضاً، وباب التلبية فيه مفتوح لمن حاز على روحية الشهادة حتّى استحوذت على كلّ كيانه ووجوده.

 

 

 

190


153

الدرس الثاني عشر: طريق الشهادة

 المفاهيم الرئيسة

 


1- منّ الله علينا ببركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام بأن شرّع لنا باب القتل في سبيل الله.
2- الشهادة في حقيقتها تشكّل ثمرة الجهاد الناضجة والتي يبحث عنها المجاهد ويطلبها حثيثاً.
3- مع شهادة الإمام الحسين عليه السلام صارت كربلاء هي المكان أبداً وصارت عاشوراء هي الزمان دوماً.
4- إنّ نيل مقام الشهادة والقتل في سبيل الله له شروط ومقدّمات لا بدّ من تحقّقها.
5- يعتبر القرآن الكريم أن تمنّي الموت هو دليل على المحبّة والولاية لله سبحانه وتعالى وهو شرط الشهادة الأول.
6- من أراد أن يسلك درب الشهداء ويتّبع سبيلهم عليه أن يصحّح علاقته بالدنيا ونظرته إليها وأن يقلع عن طلبها وحبّها.
7- المنزل الأوّل والمقدمة الأساسية لطلب الشهادة يكمن في تطهير النيّة وصبغها بالصبغة الإلهية.
8- من أراد الفوز في الدنيا والآخرة ما عليه إلّا تحصيل روحية الاستشهاد، وعماد هذه الروحية هو التأسّي بالإمام الحسين عليه السلام وأصحابه النجباء.
 
 
 
 
 
 
191

154

الدرس الثالث عشر: أسباب النصر

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعدّد العوامل المادية والمعنوية المؤدّية إلى النصر في الحرب.
2- يدرك أهمّيّة هذه العوامل في تحقيق النصر، والسعي لتهيئة أسبابها ومسبّباتها.
3- يفهم أبرز العوامل المعنوية المؤدّية إلى النصر في الحرب.
 
 
 
 
 
 
195
 

155

الدرس الثالث عشر: أسباب النصر

 عوامل النصر في الحرب

يمكن تقسيم عوامل النصر في الحرب إلى قسمين: عوامل مادية، وعوامل معنوية. وسنتعرّض في هذين الدرسين القادمين إلى كلا هذين القسمين بالشرح والتفصيل:
1- العوامل المادية
تعتبر الجهوزية القتالية، وتوافر الإمكانات والعتاد الحربيّ، والاستمرار في التدريب العسكريّ والتخصّصيّ من العوامل المادية المؤثّرة في انتصار قوّة عسكرية ما.

وقد سبقت الإشارة إلى أنّ توفير هذه العوامل بالشكل الكامل والمطلوب كان بوحي من قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ1, وهو ما يُثبت بدوره أنّ القرآن الكريم قد رأى في تأمين كافة العوامل المادية سبباً من أسباب تحقيق الانتصار في الحرب.

ولأجل أن يتمكّن المسلمون من الحصول على هذه العوامل المادية المؤثّرة في صناعة النصر ومن القيام بالتكليف الملقى على عاتقهم، ينبغي لهم من جهة أن يتعلّموا كلّ العلوم والفنون الحربية، ويزيدوا من قدراتهم العسكرية يوماً بعد يوم. كما ينبغي عليهم من جهة أخرى أن يُؤمِّنُوا، وعلى قدر استطاعتهم، أحدث الأسلحة وأكثرها تقدّماً، مثلما كانت سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والتي لا يخالفها جميع العقلاء والخبراء العسكريين.
 

1- سورة الأنفال، الآية 60.
 
 
 
 
197

156

الدرس الثالث عشر: أسباب النصر

 وكذلك، تُعدّ القوات البشرية الكافية أحد الأركان الأولى للحرب، والتي ليس هناك من شكٍّ في ضرورة تهيئتها وتربيتها. ويدرك الاختصاصيون العسكريون أهمّيّة مثل هذه العوامل - كمّاً وكيفاً - وهم يعملون على القيام بما يلزم لتأمينها.


وفي هذا الصدد يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "على القوّات المسلّحة تقوية بنيتها من الناحية العلمية والإعدادية والانضباطية والنظامية، كما يجب أن تكون في أعلى درجات المعنويات وتثبيت القلوب على الإيمان"1.

2- العوامل المعنوية
إنّ ما يجب إيلاؤه أهمّيّة أكبر في هذا البحث، هو العوامل المعنوية للنصر ، نظراً لكونها العوامل الرئيسة في تحقيقه. وفيما يأتي شرح مفصّل لها:
الإمدادت الغيبية
المراد من "الإمداد" هو "تقديم المساعدة"، ومن "الإمدادات الغيبية" هو "إيصال النصرة الخفية"، من قبل الله تعالى، ويعدُّ أحد العوامل المهمة لانتصار المسلمين.

وقد ذُكِرَت في العديد من آيات القرآن المجيد، نماذج من الإمدادات الغيبية الإلهية التي كانت تفاض على المجاهدين طوال التاريخ الماضي، وخصوصاً تاريخ صدر الإسلام، قال تعالى ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ2 ولقد تجلّت - ولا تزال - الإمدادات الإلهية للمجاهدين بصور مختلفة، ومن أهمّها:
أ- إيجاد الخوف في قلوب العدوّ:
إنّ الأشخاص الذين لديهم اطّلاع على شؤون الحرب وأحوالها، يعلمون أن تحلّي المقاتلين بالشجاعة وعدم الخوف هو أحد أهم عوامل الانتصار. ولأجل تقديم النصر للمؤمنين، فقد نزع الله تعالى هذه الروحية من العدوّ، وألقى بدلاً عنها الخوف والرعب
 

1- جمهوري إسلامي، 5/8/1370هـ.ش1991م-.
2- سورة آل عمران، الآية 124.
 
 
 
198

157

الدرس الثالث عشر: أسباب النصر

 من قدرة المسلمين في قلوبهم، مثلما شاهدنا ذلك جلياً في معارك صدر الإسلام المختلفة، حيث يقول تعالى متحدّثاً عن أوّل معركة بين الإيمان والكفر، معركة بدر، فيقول تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ1.


وبعد إثارة حماسة المسلمين للمشاركة في غزوة "حمراء الأسد"2، يقول تعالى أيضاً: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ3.

والسبب الأساس في انتصار المسلمين على يهود "بني قريظة" كان أيضاً الإمداد الإلهيّ، حيث يقول تعالى: ﴿وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا4.

كما أنّه كان السبب كذلك في الانتصار على يهود "بني النضير" فدفعهم ليخربوا بيوتهم بأيديهم، حيث يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾5.

ولقد كان انتصار المسلمين عن طريق إلقاء الخوف في قلوب الأعداء من الأهمّيّة بمكان.

ب- نصرة الملائكة:
يُقدَّم النوع الثاني من الإمداد الإلهيّ بواسطة الملائكة، حيث يرسلهم تعالى لمساعدة المسلمين، وليسرّع في انتصار المؤمنين على المشركين من خلال تقوية معنوياتهم. وقد
 
 

1- سورة الأنفال، الآية 12.
2- اسم مكان على بُعدِ ثمانية أميال من المدينة، حيث أُمر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من قبل الله أن يتعقب المشركين إليه، مباشرة بعد معركة أُحد.
3- سورة آل عمران، الآية 151.
4- سورة الأحزاب، الآية 26.
5- سورة الحشر، الآية 2.
 
 
 
 
199

158

الدرس الثالث عشر: أسباب النصر

 تحدّث القرآن المجيد عن مثل هذا الإمداد الغيبيّ في معركة بدر، فقال تعالى: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ1.


ولأجل دفع المسلمين وحثّهم على الاشتراك في غزوة "حمراء الأسد" يعدهم الله بمثل هذه النصرة، فيقول تعالى: ﴿بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ2.

كما ويصف نصرة المسلمين عن طريق الملائكة في معركتي الأحزاب وحنين، فيقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا3.

ويقول تعالى أيضاً: ﴿ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ﴾4.

ج- إنزال السكينة على المؤمنين:
انطلاقاً من أنّ عوامل مختلفة كالخوف والشكّ في الهدف، تؤدّي إلى تخريب روحية المجاهدين ومعنوياتهم، فإنّ الله تعالى لا يخرج ذلك من قلوبهم فحسب، بل يُلقِي بدلاً منها السكينة والطمأنينة.

فخلال أحداث "صلح الحديبية" مرّ المسلمون في ظروف صعبة أوجدت التزلزل في نفوس ضعاف الإيمان. فقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يبشّر بدخول المسجد الحرام ولكنّ المسلمين لم يدخلوه حينها، وكانوا قد أَحْرَمُوا للعمرة، فمنعهم المشركون من أداء مناسكها، فاضطرّوا للخروج من إحرامهم، إلى ذبح أضحية. كما أنّ قبول بنود الصلح كان ثقيلاً وصعباً على البعض منهم.

وفي مثل تلك الأوضاع، كان أن أنزلَ اللهُ سكينتَهُ على قلوبهم، حيث أشار القرآن المجيد
 
 

1- سورة آل عمران، الآية 124.
2- سورة آل عمران، الآية 125.
3- سورة الأحزاب، الآية 9.
4- سورة التوبة، الآية 26.
 
 
 
 
200

159

الدرس الثالث عشر: أسباب النصر

 إلى هذا بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا1.


والمراد من السكينة هو الهدوء والاطمئنان، والتي يزول معها كلّ نوع من أنواع الشكّ والتردّد والخوف، وتثبّت قدميه في خضمّ الحوادث الصعبة.

وكذلك كان الأمر في معركة "حنين" التي فرّ فيها كثير من المسلمين، حيث عُدَّ نزول السكينة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين منَ الإمدادات الإلهية التي تُضاف إلى الإمدادات الغيبية الأخرى، حيث يقول تعالى: ﴿ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ﴾2.

د- النصرة بواسطة العوامل الطبيعية:
نظراً إلى أنّ فعالية جميع الأشياء ومن جملتها العوامل الطبيعية، هي بيد القدرة الإلهية المطلقة، فيسخّر الله تعالى في بعض الأوقات هذه العوامل لمصلحة المسلمين وضدّ الكفار.

وعن طريق إنزال المطر على المسلمين وإلقاء النعاس عليهم، وفّر الله لهم في معركة بدر أسباب الدعم الماديّ والمعنويّ، فضلاً عن الطهارة الجسمية. وفي هذا المجال يقول تعالى: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ﴾3.

وفي معركة الأحزاب، كان أحد عوامل الانتصار هو الريح العاصف التي هبّت على المشركين واقتلعت خيامهم ودبّت الرعب فيهم، حيث يقول تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا﴾4.
 
 

1- سورة الفتح، الآية 4.
2- سورة التوبة، الآية 26. طبعاً يعتبر بعض المفسرين، أنّ نزول السكينة في حنين اختصّ بالأشخاص الذين استقاموا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثبتوا.
3- سورة الأنفال، الآية 11.
4- سورة الأحزاب، الآية 9.
 
 
 
 
201

160

الدرس الثالث عشر: أسباب النصر

 العوامل المعنوية للنصر

أ- الإيمان والإخلاص:
حيث يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله في هذا الصدد: "إنّ قيمة هذه التضحية وهذا الإيثار والإيمان والإخلاص والمعرفة التي تمتلكونها تعود إلى التغلّب على الشيطان الباطنيّ. وكل ما ترونه يزلزل أسس هذا الإخلاص، ويلوّث صفاء أرواحكم وقلوبكم بالظنون السيئة والأفكار المنحرفة، ويشوب إخلاصكم ببواعث الأنانية يعتبر أمراً خطراً يهدّد استمراركم في هذا الخطّ"1.

ب- الوعي والمعرفة الصحيحة:
إنّ المجاهد الذي يسير للقاء العدوّ باعتقادات صحيحة وأصيلة، فيرى في الله الخالق والربّ والمؤثّر الوحيد في عالم الوجود، الذي له الإحاطة التامة بجميع الموجودات وسائر ما خفي أو ظهر، ويعتبر نفسه وليّاً للمؤمنين وعدواً للكافرين، مثل هذا الشخص ينظر إلى الدنيا كمنزل مؤقّت، ويرى في الآخرة دار الخالدين، وفي الشهادة فوزاً عظيماً، وفي الجهاد في سبيل الله عملاً يحبّه الحقّ سبحانه، ويعزو سبب الانتصار إليه وحده تبارك وتعالى، ولا تجرّه النتيجة الظاهرية للحرب - سواءً كانت نصراً أم هزيمة - نحو الغرور أو اليأس، ولا تمنعه من أداء التكليف.

فإنّ إنساناً يحمل فكراً كهذا، يصير راسخاً كما الجبل، فلا يفقد ثباته أمام الأحداث والمشاكل الصعبة للحرب، ويستقيم على طريق الهدف حتّى نهاية العمل.

ومن المعلوم أنّ أمثال هؤلاء، قياساً إلى من يرون موتهم في الدنيا زوالاً لكلّ وجودهم، هم أشدّ مقاومة، وفي النتيجة هم أقرب إلى النصر.

فالقرآن المجيد بدوره يصرّح بأنّ علّة هزيمة القوى الكافرة أمام المؤمنين الصابرين هي عدم إدراكهم الصحيح للمسائل المتعلّقة بهذا الوجود، حيث يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم
 
 

1- حديث ولايت، ج 5، ص 236.
 
 
 
 
202

161

الدرس الثالث عشر: أسباب النصر

 مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ1.


وعن طريق المقارنة بين صفات المؤمنين والكافرين يمكن أن نفهمَ أنّ القرآن يعتبرُ الوعي، والمعرفة الصحيحة والعميقة بعالم الوجود وحقائقه، عاملاً من عوامل انتصار المؤمنين.

وفي هذا الصدد يقول الإمام الخامنئي دام ظله: "أوج عظمتكم المعنوية الملفتة هو في هذه الناحية الخفية، حيث كنتم تعون ماذا تفعلون وتعرفون لأيّ شيء تقاتلون. وإذا كان هذا سند عملكم الوحيد فسيرتجف العدو عندئذ من سماع اسمكم، فكيف وأنتم أرفع من ذلك، حيث سمعتم بآذانكم المعنوية النداء القرآني السماويّ: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ2"3.

من الأوامر الأخرى التي أوصى بها القرآن المجيدُ المؤمنينَ المجاهدين هي أن يذكروا الله في ساحة الحرب والقتال، حيث يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ﴾4.

فذكر الله يوجّه المؤمنين نحو القدرة الإلهية اللامتناهية، وهو ما يؤدّي بدوره إلى تقوية معنويّاتهم وثباتهم، وفي النتيجة إلى انتصارهم.

ويقولُ الإمام عليّ عليه السلام بشأن ذكر الله في الحرب: "إذا لقيتم عدوّكم فأقلّوا الكلام وأكثروا ذكر الله عزّ وجلّ"5.

وقال عليه السلام أيضاً: "رأيت الخضر في المنام قبل بدرٍ بليلة فقلتُ له: علّمني شيئاً أُنصرُ به على الأعداء، فقال: يا هو يا من لا هو إلاّ هو فلمّا أصبحتُ قصصتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لي: يا عليّ عُلِّمتَ الاسم الأعظم؛ وكان على لساني يوم بدر"6.
 
 

1- سورة الأنفال، الآية 65.
2- سورة سبأ، الآية 46.
3- پيام انقلاب، ص 49 -05.
4- سورة الأنفال، الآية 45.
5- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 93، ص 154.
6- المصدر نفسه، ج 19، ص 310.
 
 
 
 
203

162

الدرس الثالث عشر: أسباب النصر

 ومن الممكن أن يكون المراد من "ذكر الله" في ساحة الحرب، هو استحضار المعارف الإلهية التي تتناسب مع روحية طلب العون والمساعدة الموجودة لدى كلّ مجاهد خلال القتال، حيث يقول العلامة الطباطبائي قدس سره: "... وهذا أقوى قرينة على أنّ المراد بذكر الله كثيراً أن يذكر المؤمن ما علّمه تعالى من المعارف المرتبطة بهذا الشأن، وهو أنّه تعالى إلهه وربّه الذي بيده الموت والحياة وهو على نصره لقدير، وأنّه هو مولاه، نعم المولى ونعم النصير، وقد وعده النصر، إذ قال: إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم وأنّ الله لا يُضيّع أجرَ من أحسن عملاً، وأنّ مآل أمره في قتاله إلى إحدى الحسينيين: إمّا الظفر على عدوه ورفع راية الإسلام وإخلاص الجوّ لسعادته الدينية، وإمّا القتل في سبيل الله والانتقال بالشهادة إلى رحمته، والدخول في حظيرة كرامته، ومجاورة المقرّبين من أوليائه، وما في هذا الصفّ من المعارف الحقيقية التي تدعو إلى السعادة الواقعية والكرامة السرمدية"1.


وإنّ ترك التعلّق بالدنيا وزخارفها هو الآخر ثمرة جميلة لذكر الله في الحرب، حيث يؤدّي التعلّق بها إلى ضعف المقاتلين. ولذا، يطلب الإمام السجّاد عليه السلام من الله في دعائه أن يُنسي حماةَ الثغورِ هذه الزينة الدنيوية، فيقول عليه السلام: "اللهم صلّ على محمد وآله وأَنسِهم عند لقائهم العدوَّ ذكر دنياهم الخدّاعة الغرور وامحُ عن قلوبهم خطراتِ المال الفَتُون واجعلِ الجنَّةَ نُصبَ أعينِهِم ولوِّحْ منها لأبصارهمْ ما أعدَدتَ فيها من مساكنِ الخُلدِ ومنازلِ الكرامةِ والحورِ الحسانِ والأنهارِ المطّردةِ بأنواعِ الأشربةِ والأشجارِ المتدليةِ بصفوفِ الثّمرِ حتى لا يَهُمَّ أحدٌ منهم بالإدبارِ ولا يُحدِّثَ نفسَهُ عن قِرْنِهِ بفرار"2.

ويقول الإمام الخامنئي دام ظله: "ميدان الجبهة هو ميدان التعبّد. وفيه لا يوجد دخالة لأيّ عامل آخر حتّى العقل. وإذا كنّا ملتفتين إلى هذه المسألة وجعلنا التقوى هدفنا والتحرّك لمرضاة الرب غايتنا، ستتحقّق عندها كل غاياتنا"3.
 
 

1- العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج 9، ص 95.
2- الإمام علي بن الحسين عليه السلام، الصحيفة السجادية، مصدر سابق، ص 126، دعاء أهل الثغور.
3- حديث ولايت، ج 5، ص 179.
 
 
 
 
 
204

163

الدرس الثالث عشر: أسباب النصر

 د- إطاعة القيادة

في إطار تعداده لعوامل النصر، أشار القرآن الكريم إلى عامل إطاعة الله ورسوله، وطلب من المؤمنين المجاهدين أن يطيعوا الأوامر الإلهية، وأوامر رسول الإسلام العظيم صلى الله عليه وآله وسلم الذي قد تحمّل على عاتقه مسؤولية قيادة الحرب، حيث يقول تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ1.

وتتّضح أهمّيّة هذا الموضوع أكثر حينما نلتفت إلى أنّ هذا الطلب قد تكرّر ثلاث مرات، ضمن سورة الأنفال: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ2, ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ﴾3, ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ضمن الآيات التي نزلت بشأن معركة بدر.

وإطاعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تعني أن ينفِّذ المؤمنون أوامره، وأن يبتعدوا عن كلّ أشكال التسرّع أو التباطؤ، فضلاً عن الامتناع عن تنفيذها. ويعتقد العلامة الطباطبائي قدس سره أنّ المقصود من الطاعة في هذه الآية - بقرينة السياق - هو إطاعة أوامر تصدر عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بشأن الجهاد والدفاع عن حريم الإسلام، من قبيل أنّ على المجاهدين أن يُتمّوا الحجّة في البداية، وأن لا يتعرّضوا حال المعركة لنساء الأعداء وأطفالهم، وأن لا يُغِيرُوا على العدوّ بليلٍ دون أن يعلموهم4.

وإنّ إطاعة القيادة، تمنح القائد قدرة أن يحرّك قواته بمنتهى الفعّالية، وذلك بواسطة إيجاد الوحدة والانسجام في ما بينها، كما تقرّبُه من النصر. ولقد كان أحد أسرار انتصار قلّة قليلة من المسلمين في صدر الإسلام على أعدائهم الكُثر، هو إطاعتهم غير المشروطة للقيادة.

ففي إحدى المعارك، استشار النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في أمر القتال، فقام المقدادُ
 
 

1- سورة الأنفال، الآية 46.
2- سورة الأنفال، الآية 1.
3- سورة الأنفال، الآية 20.
4- يُراجع: العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج 9، ص 95.
 
 
 
 
205

164

الدرس الثالث عشر: أسباب النصر

 وقال: "يا رسول الله! إمضِ لأمر الله فنحن معك, والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيّها: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ1, ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون"2.


في هذا الصدد يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "إذا جعل الإنسان الشريعة أمامه، وسار في كلّ خطواته طبق التكليف الشرعيّ الإسلاميّ، فيقينًا سينتصر"3.

ويقول دام ظله أيضاً: "عندما يأمر القائد أحد عناصره بالذهاب لملء دلو بالماء تحت دويّ القذائف التي يطلقها العدوّ، ويقول له يجب عليك أن تذهب وتعود راكضاً، ولا يحقّ لك أن تستريح إذا تعبت وسط الطريق، وإذا فعلت ذلك سأعاقبك، فإذا فعل القائد ذلك فلا إشكال. فهذا النوع من النظام الشديد والانضباط الخشن يمكن استخدامه. وليس فيه تصرّف طاغوتيّ، وهو أمر إسلاميّ تماماً"4.

الصبر والثبات
لقد جاء القرآن على ذكر الصبر في سياق حديثه عن الجهاد والمواجهة، أو عن مقاومة الأنبياءعليهم السلام والقادة الإلهيين للمشاكل التي كانت تنزل على رؤوسهم من الصديق والعدوّ، في أكثر من ثلاثين آية5. وفيما يلي نُشير إلى البعض منها، والتي قد أكّدت على الدور المباشر للصبر في تحقيق الانتصار.

ففي سياق إصدار أوامره لمجاهدي معركة بدر، أشار الله تعالى إلى أمرين اثنين على صعيد الصبر، حيث يقول تعالى في بداية إحدى الآيات: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ6.

وفي نهاية الآية التي تليها يوصي تعالى من جديد: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ
 
 

1- سورة المائدة، الآية 24.
2- الواقدي، المغازي، تحقيق الدكتور مارسدن جونس، نشر دانش اسلامي، لا.م، 1405هـ، لا.ط، ج 1، ص 48.
3- حديث ولايت، ج 5، ص 177.
4- پيام انقلاب، العدد 112، ص 54.
5- يُراجع: طاهري خُرّم آبادي، الجهاد في القرآن، منشورات بيام آزادى، إيران، لا.ت، لا.ط، ص 121.
6- سورة الأنفال، الآية 45.
 
 
 
 
206

165

الدرس الثالث عشر: أسباب النصر

 فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ1.


وللثبات من الناحية اللغوية معنى أوسع من الصبر، ولكنّ المراد هنا هو عدم الفرار من وجه العدوّ، وفي ذلك تأكيد على قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ2.

وقد ورد الحديث عن الصبر أيضاً بوصفه سبب انتصار القوات المسلمة القليلة العدد، على قوات المشركين والكفّار الكثيرة العدد، حيث قال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ3.

وطبعاً، من المهمّ أن نشير إلى أنّ الصبر الذي يكون عاملاً في الانتصار هو الصبر الذي ينشأ من عمق معرفة المجاهدين، حيث ترتبط درجة هذا الانتصار بدرجة الإيمان والصبر الذي يمتلكونه ويبدونه. ولهذا، نلاحظ أنّه في الآية التالية، ونظراً لتراجع معنويات قوّات المجاهدين، تضاءلت نسبة غلبة المؤمنين على الكافرين من واحد على كلّ عشرة، إلى واحد على كل اثنين. والسبب في ذلك هو ضعف الإيمان الذي أصيبوا به، وإلاّ فمن الناحية المادية لم يكن هناك من داعٍ لهذا التضاؤل، حيث كان عدد المجاهدين يزداد يوماً بعد يوم، ويمتلكون أسلحة أكثر عن طريق الغنائم التي كانت تصل إلى أيديهم، حيث يقول تعالى: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾4.

فإنّ التوأمة بين الصبر والنصر إحدى السنن الإلهية التي جرت بحقّ الأقوام السابقة أيضاً، حيث إنّ انتصار بني إسرائيل على الفراعنة كان بسبب صبرهم واستقامتهم: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى
 

1- سورة الأنفال، الآية 46.
2- سورة الأنفال، الآية 15.
3- سورة الأنفال، الآية 65.
4- سورة الأنفال، الآية 66.
 
 
 
 
207

166

الدرس الثالث عشر: أسباب النصر

 عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ1.


وهي سنّة دائمة ينقلها القرآن على لسان مؤمني جيش طالوت، فيقول: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ2.

وبعد أن أمر الإمام عليّ عليه السلام جنود جيشه بجمع العدّة والعتاد، نجده يوصيهم بالصبر، والذي يعدّهُ أفضل عاملٍ لتحقيق النصر: "... واستشعروا الصبر فإنّه أدعى إلى النصر"3.

وفي هذا الصدد يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "لا تسمحوا لأيّ شيء من أن يزيلكم عن الجهاد. فأفضل الأشخاص معرّضون للسقوط والانزلاق. واعلموا أنّ جميع الأشخاص حتّى الصالحين منهم والمسدّدين والحكماء العلماء الأتقياء معرّضون لخطر السقوط. لهذا وفي أيّ منصب كنتم وبأيّ مستوى إلجأوا إلى الله"4.
 
 

1- سورة الأعراف، الآية 137.
2- سورة البقرة، الآية 249.
3- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام-، مصدر سابق، ج 1، ص 67، خطبة 26.
4- پيام انقلاب، ص 81.
 
 
 
 
208

167

الدرس الثالث عشر: أسباب النصر

 المفاهيم الرئيسة


1- يمكن تقسيم عوامل النصر في الحرب إلى قسمين: عوامل مادية، وعوامل معنوية.

2- العوامل المادية: حيث تعتبر الجهوزية القتالية، وتوافر الإمكانات والعتاد الحربيّ، والاستمرار في التدريب العسكريّ والتخصّصيّ من العوامل المادية المؤثّرة في انتصار قوّة عسكرية ما.

3- على القوات المسلحة تقوية بنيتها من الناحية العلمية والإعدادية والانضباطية والنظامية، كما يجب أن تكون في أعلى درجات المعنويات وتثبيت القلوب على الإيمان.

4- من العوامل المعنوية: الإمدادت الغيبية: والمراد من "الإمداد" هو "تقديم المساعد" ومن "الإمدادات الغيبية" هو "إيصال النصرة الخفية". والإمداد يَحدثُ من قبل الله تعالى، ويعدُّ أحد العوامل المهمة لانتصار المسلمين.

5- ذُكِرَت في العديد من آيات القرآن المجيد، نماذج من الإمدادات الغيبية الإلهية، أهمّها إيجاد الخوف في قلوب العدوّ، نصرة الملائكة، إنزال السكينة على المؤمنين، النصرة بواسطة العوامل الطبيعية.

6- يعتبر الإيمان والإخلاص من أهم العوامل المعنوية للنصر في الميادين الجهادية المختلفة.

7- الوعي والمعرفة الصحيحة من العوامل المعنوية المهمة والأساسية في تحقيق النصر أيضا. فالمجاهد الذي يسير للقاء العدو باعتقادات صحيحة وأصيلة، يصبح راسخاً كالجبل، فلا يفقد ثباته أمام الأحداث والظروف الصعبة.

8- ذكر الله تعالى يوجّه المؤمنين نحو القدرة الإلهية اللامتناهية، وهو ما يؤدّي بدوره إلى تقوية معنويّاتهم وثباتهم، وفي النتيجة إلى انتصارهم أيضاً.

9- إطاعة القيادة تمنح القائد قدرة أن يحرّك قواته بمنتهى الفعّالية، وذلك بواسطة إيجاد الوحدة والانسجام في ما بينها، لذا عدّ من أهم عوامل النصر أيضاً.

10- الصبر والثبات من عوامل النصر حيث ذكر القرآن الكريم أنّ الصبر والثبات من مسبِّبات النصر.

11- المراد بالصبر الذي يكون عاملاً في الانتصار هو الصبر الذي ينشأ من عمق معرفة المجاهدين.

12- إنّ السبب الرئيسيّ للنصر والتقدّم يكمن في التضحية النابعة من التديّن الثوريّ، لا ذلك التديّن الفاقد للروحية الثورية. فالتدّين الثوريّ هو التديّن القرآنيّ الأصيل الخالص، والذي تلازمه التضحية والإيثار والابتكار واستصغار العوائق، والتي بدورها تؤدّي إلى التفوّق.
 
 
 
 
 
209

168

الدرس الرابع عشر: عوامل الهزيمة

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف العوامل المؤدّية إلى حصول الهزيمة في الحرب.
2- يستفيد من الأحداث السابقة والعمل على سدّ الثغرات التي يمكن أن تسبِّب الهزيمة.
 
 
 
 
 
 
211

169

الدرس الرابع عشر: عوامل الهزيمة

 عوامل الهزيمة

يستفاد من منطق القرآن المجيد أنّ لعوامل الهزيمة جذوراً تضربُ في أعمال الإنسان وسلوكه، حيث يقول تعالى: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا1.

فالمراد من الحسنة والسيّئة في هذه الآية هو النصر والهزيمة، إذ هي في صدد الردّ على الأشخاص الذين ينسبون الهزيمة إلى غير أنفسهم، ويبحثون عن منشئها في مكان آخر2.

وبناءً عليه، فمن اللازم للمجاهدين أن يسارعوا بعد كلّ هزيمة أو فشل إلى تقويم نتائج أعمالهم والوقوف على نقاط ضعفهم وتقصيرهم، ويعمدوا إلى رفعها وجبرانها، لا أن ينسبوها إلى الله أو أشخاص آخرين، فيغفلوا عن إصلاحها، فيتعرضون للهزيمة مرّة ثانية لتلك الأسباب نفسها. وتنقسم عوامل الهزيمة إلى عاملين اثنين: ماديّ ومعنويّ.

العوامل المادية
كما هو الحال في العوامل المادية للنصر، تبحث العوامل المادية للهزيمة في إطار العلوم العسكرية. ولهذا سوف نتعرّض في هذا الدرس لأهمّ العوامل المعنوية للهزيمة.
 
 

1- سورة النساء، الآية 79.
2- يُراجع: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، لا.م، لا.ن، لا.ت، لا.ط، ج 4، ص 20-21.
 
 
 
 
213

170

الدرس الرابع عشر: عوامل الهزيمة

 العوامل المعنوية

1- فقدان البصيرة:
يؤدّي عدم المعرفة الحقيقية بمبدأ القدرة في عالم الوجود، وعدم التوكّل عليه، إلى تزلزل المعنويات وإلى الاضطراب في أوقات الشدّة والمصاعب. كما ويؤدّي إلى وقوع الإنسان في التردّد والحيرة حينما يجب عليه أن يختار بين الدنيا والآخرة طريقاً يسلكه، ومن ثمّ إلى أن يعزمَ على أمر خاطئ.

ومن جانب آخر، وعلى أثر حدوث الانتصارات الظاهرية، يؤدّي عدم المعرفة هذا إلى بروز الغرور والعجب، وتبدّل الانتصارات إلى هزائم، أو إلى سوء الاستفادة من هذه الانتصارات، ومنع النتائج المترتّبة عليها من أن تكون من نصيب المجاهدين.

وفي هذا الصدد يقول الإمام الخامنئي دام ظله: "قوات الحرس يجب أن تعرف دورها وموقعها، وتكون على بصيرة، وتتمتّع بالوعي السياسيّ، والاطّلاع على الزمان والمكان، وتمتلك التحليل السياسيّ الصحيح حول الأحداث الداخلية والخارجية"1.

2- التفرقة:
لقد نهى القرآن المجيد المجاهدين عن التفرقة والخلاف، واعتبرها سبباً لزوال قدرتهم وشوكتهم: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾2.

ويشير أمير المؤمنين عليه السلام إلى أنّ الهزيمة هي من نصيب أولئك الأشخاص الذين تخلّفوا عن الاتّحاد ونصرة بعضهم البعض، حيث يقول عليه السلام: "غُلِبَ والله المتخاذلون"3.

وفي مورد آخر، أبرز الإمام عليه السلام انزعاجه وقلقه جرّاء اتّحاد مخالفي الحقّ، وتفرّق أهله ونزاعهم فيما بينهم، فقال: "والله يميتُ القلبَ ويجلِبُ الهمَّ اجتماع هؤلاء القومِ
 

1- جمهوري إسلامي، 28/6/1370هـ.ش (1991م).
2- سورة الأنفال، الآية 46.
3- السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، مصدر سابق، ج 1، ص 83، الخطبة34.
 
 
 
 
214

171

الدرس الرابع عشر: عوامل الهزيمة

 على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم"1.


فالأشخاص المُبتَلُون بالخلافات الداخلية لا يُفيدهم وجود العوامل المادية ولا المعنوية، ولذا نجد أمير المؤمنين عليه السلام يقول بهذا الشأن: "إنّه لا غَنَاء في كثرة عددِكم مع قلّة اجتماع قلوبكم"2.

وقد أشار القرآن الكريم على هذا الصعيد، إلى ما جرى مع المسلمين في معركة أُحد، وكيف أنّ الإمدادات الغيبية رُفِعَت من بينهم عندما تنازعوا فيما بينهم واختلفوا، حيث قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ3.

وفي هذا الصدد يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "علينا أن نقصي روح الفرقة من أعماقنا، وأن نتجنّب إثارة المسائل التي تجلب الاختلاف، وعلينا أن نَعدّ ذلك من الممنوعات الدينية والشرعية"4.

ويقول أيضاً دام ظله: "عليكم استبدال حالة التشنّج بحالة المحبّة والتفاهم. فإنّ المحبّة سترتقي بالعمل إلى درجة الكمال. وإذا غابت وحلّ مكانها التنافر، فلن يبقى للعمل أي وجود"5.

3- العصيان:
مثلما تُعدُّ طاعةُ القائد في الحرب سبباً من أسباب النصر، كذلك يُعدُّ عصيان أوامره علّة لهزيمة المجاهدين. وقد نقل عن الإمام عليّ عليه السلام بهذا الشأن قوله: "آفّةُ الجُند مخالفةُ القادة"6.

وبالالتفات إلى هذا الأصل، نجده أيضاً يكتبُ إلى عامله عثمان بن حُنيف فيقول
 
 

1- السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، مصدر سابق، ج 1، ص 69، الخطبة 27.
2- المصدر نفسه، ج 1، ص 232، الخطبة 119.
3- سورة آل عمران، الآية 152.
4- حديث ولايت، ج 1، ص 143.
5- المصدر نفسه، ج 1، ص 257.
6- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص 182.
 
 
 
 
215

172

الدرس الرابع عشر: عوامل الهزيمة

 ".. فانهَد بمنْ أطَاعكَ إلى منْ عصَاكَ، واستغنِ بمنْ انقادَ معكَ عمَّن تَقاعسَ عنكَ، فإنَّ المتكَارِهَ مَغِيبُهُ خيرٌ من مَشهَدِهِ، وقُعودُهُ أَغنَى مِن نُهوضِهِ"1.


حيث إنّ عصيان القوات الموضوعة تحت أوامر أحد القادة، يسلب هذا القائد القدرة على القيام بأيّ عملٍ، ويضعفه عن النهوض بمسؤولياته، ولقد كانت أكثر شكايات الإمام عليّ عليه السلام من جنده، ترجع إلى عدم طاعتهم له2. ولهذا السبب، كان يتمنّى أن يعاوضَ عشرة من جنده لقاء جنديّ واحد من الجنود المطيعين3، ولو كانوا من جنود معاوية كانوا يطيعون معاوية مع عصيانه لله، بينما كان جنود الإمام عليّعليه السلام يعصونه مع طاعته لربِّه.

وأحدُ انتقاداتِ القرآن المجيد لبني إسرائيل كانت أنّهم تمرّدوا على طاعة موسى عليه السلام واتّباعه في حربه لدخول بيت المقدس، واعتبروه وحده المسؤول عن الحرب، قال تعالى: ﴿قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾4.

وتعود علّة الهزيمة في بعض معارك صدر الإسلام إلى عصيان الأوامر أيضاً، مثلما حدث في معركة أُحد، حيث هُزِمَ المسلمون لعدم عملهم بما طلبهُ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم منهم؛ إذ كانوا مأمورين أن لا ينزلوا عن الجبل حتى ولو رأوا المسلمين ينتصرون، ولكنّهم مع مشاهدتهم بشائر النصر تتحقّق، سارعوا في طلب الغنائم، وعصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسبّبوا هزيمة المسلمين في المعركة.

وكذلك الأمر في صفّيّن، فإنّ عدم وصول الحرب فيها إلى نتيجتها المرجوة، وما لحق المؤمنين من خسائر بعدها، يَرجعُ جميعه إلى عدم طاعة أمير المؤمنين عليه السلام. كما أن تمرّد الجُند وعصيانهم هو الذي أجبر الإمام الحسن عليه السلام على إقامة الصلح مع معاوية.

4- المفاسد الأخلاقية:
 
 

1- السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، مصدر سابق، ج 3، ص 6، الرسالة 4.
2- الذين كان القسم الأعظم منهم من سكان الكوفة. المتحدرين من مختلف القبائل بحيث لم يكن يسودهم الانسجام والانضباط المطلوب مع جهلهم بمقام الإمام عليه السلام ومنزلته.
3- المصدر نفسه، ج 1، ص 188، الخطبة 97.
4- سورة المائدة، الآية 24.
 
 
 
 
216

173

الدرس الرابع عشر: عوامل الهزيمة

 يعدُّ شيوع المفاسد الأخلاقية بين القوات العسكرية المجاهدة سبباً آخراً لضعف القوى المعنوية، وفي النتيجة لهزيمة هذه القوات. وإحدى هذه المفاسد التي لها دور أبرز من غيرها، والتي أشار القرآن المجيد إليها صراحة، هي مفسدة العجب والغرور.


فإنّ عُجُبَ الإنسان وغروره يعميانه عن مشاهدة الوقائع والحقائق، ويجعلانه يظنّ أنّ جميع الظروف والمعطيات هي تحت سيطرته وتعمل لمصلحته. فالإنسان المغرور والمعجب بنفسه، يغفلُ عن التدقيق في الجوانب المختلفة لمسألة من المسائل، وهو ما يؤدّي إلى نزول الضربات به. وكذلك يسبّب العجب الاعتماد على النفس بدلاً من الاعتماد على الله. وبفقدان هذا المعتَمد الراسخ، يصير السقوط والتراجع أمراً حتمياً وغير قابل للاجتناب.

وكنموذج من التاريخ، يمكن أن نُدقّق النظر في وقعة حُنين. فقد أصاب المسلمين الغرورُ لِمَا رأوه من كثرة عددهم، وتوقّعوا أن يكون النصر الحتميّ حليفهم جرّاء ذلك. وللمثال، فقد قال أبو بكر لمن كانوا معه: "لن نُغلَب اليوم من قلّة"1.

وفي هذه الحالة، جعلتهم لا يُراعون الأصول العسكرية، فما أن نزلوا الوادي حتى أُخذوا على حين غرّة، وانفرط عقدُ صفوفهم عند أول هجوم للعدوّ وفرارِ عدد من طلائع الجيش ومقدّمته، وما لبث أن فرّ أغلبهم أيضاً. وقد تحدّث القرآن المجيد عن هذه الواقعة، حيث قال تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ2.

لقد كان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد الانتصارات في بدر، وفتح مكة...، يحرص كثيراً على شكر الله على النصر الذي منّ به على الإسلام والمسلمين، ويُعلِّم المجاهدين أن يتّقوا من العجب والغرور، وأن يعتبروا أنّ النصر من عند الله تعالى.
 
 

1- المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، تحقيق وتصحيح مؤسسة آل البيت عليهم السلام‏، قم، نشر مؤتمر الشيخ المفيد، إيران ـ قم، 1413هـ، ط 1، ج 1، ص 140.
2- سورة التوبة، الآية 25.
 
 
 
217

174

الدرس الرابع عشر: عوامل الهزيمة

 المفاهيم الرئيسة


1- يستفاد من منطق القرآن المجيد أنّ لعوامل الهزيمة جذوراً تضربُ في أعمال الإنسان وسلوكه - وبناءً عليه، فمن اللازم للمجاهدين أن يسارعوا بعد كلّ هزيمة أو فشل إلى تقويم نتائج أعمالهم والوقوف على نقاط ضعفهم وتقصيرهم، ويعمدوا إلى رفعها وجبرانها.

2- تنقسم عوامل الهزيمة إلى عاملين اثنين: ماديّ ومعنويّ.

3- العوامل المادية: تبحث العوامل المادية للهزيمة في إطار العلوم العسكرية.

4- العوامل المعنوية هي:
- فقدان البصيرة: حيث يؤدّي عدم المعرفة الحقيقية بمبدأ القدرة في عالم الوجود، وعدم التوكّل عليه، إلى تزلزل المعنويات وإلى الاضطراب في أوقات الشدّة والمصاعب.

- التفرقة: حيث نهى القرآن المجيد المجاهدين عن التفرقة والخلاف، واعتبرها سبباً لزوال قدرتهم وشوكتهم.

- العصيان: عدُّ عصيان أوامر القائد علّة لهزيمة المجاهدين، حيث إنّ عصيان القوات الموضوعة تحت أوامر أحد القادة، يسلب هذا القائد القدرة على القيام بأي عملٍ، ويضعفه عن النهوض بمسؤولياته.

- المفاسد الأخلاقية: يعدُّ شيوع المفاسد الأخلاقية بين القوات العسكرية المجاهدة سبباً آخراً لضعف القوى المعنوية، وفي النتيجة لهزيمة هذه القوات. وإحدى هذه المفاسد التي لها دور أبرز من غيرها، والتي أشار القرآن المجيد إليها صراحة، هي مفسدة العجب والغرور.
 
 
 
 
 
218

175

الدرس الخامس عشر: السيرة العسكرية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف بعض مظاهر رعاية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للأصول العسكرية.
2- يتبنّى مراعاة الأصول العسكرية في الحرب اقتداءً بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
3- يعرف مظاهر السيرة العسكرية لأمير المؤمنين عليه السلام والأصول المستفادة منها.
 
 
 
 
 
219

176

الدرس الخامس عشر: السيرة العسكرية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام

 تمهيد

كان المسلمون قبل الهجرة جماعة قليلة وضعيفة، لا يوجد من يحميها أو يساندها، وليس لها من تشكيلات بارزة، وعرضة لظلم قريش واضطهادها.

ومع حدوث الهجرة إلى المدينة، شُكِّلت النواة الأولى للحكومة الإسلامية، وأصبح للمسلمين نظام وتشكيلات، صدر على أثرها الإذن بالدفاع والجهاد، فشارك المسلمون في معارك كثيرة لأجل تحقيق الأهداف الإلهية والدفاع عن النظام الإسلاميّ في مواجهة الهجمات المتكرّرة للمعتدين، والتي تولّى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نفسُه قيادة العديد منها، كما عيّن القائد بنفسه للبعض الآخر.

والتعمّق في دراسة هذه الحروب والسيرة العسكرية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلّمنا دروساً كثيرة، ونشير فيما يأتي إلى بعض منها:
رعاية الأصول العسكرية
كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يستخدم كلّ الأصول والتكتيكات العسكرية كي يتمكّن بأقل الخسائر أن يحقّق أعلى المكاسب والانتصارات. ومن بين هذه الأصول والتكتيكات:
1- جمع المعلومات:
كان جميع المسلمين والقبائل المتحالفة معهم، بما فيهم القبائل المشركة، يعتبرون أنفسهم مكلّفين بمراقبة تحرّكات العدوّ. ولهذا السبب كانت العيون بمجرّد أن تنوي أيّ قبيلة أو جماعة أن تباشر تحرّكاً ما ضدّ مصالح المسلمين، يَقدُمون على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمفي المدينة، ويُعلِمُونه بذلك. ولقد كان الهجوم السريع والمباغت للمسلمين على العدوّ
 
 
 
 
 
 
221

177

الدرس الخامس عشر: السيرة العسكرية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام

 مرهوناً في الغالب لهذا الجهاز الأمنيّ الشعبيّ.


فعلى الرغم من كثرة أعداء الإسلام، الممتلئين حقداً والجادّين في العمل ضدّ دين الله، والذين كانوا يسعون ليأخذوا المسلمين على غفلة من أمرهم ويمحوا وجودهم بالكامل، لم يوفّق هؤلاء طوال عشر سنوات مضت بعد الهجرة من تحقيق ما يصبون إليه، وهذا راجع إلى خصوصية القدرة على جمع المعلومات المسبقة عن تحرّكاتهم من قِبَل الجهاز العامل تحت يد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

وحتّى لو أنّ بعض الأشخاص تجرّؤوا أحياناً على شنّ هجوم ما في محيط المدينة، كانوا يسارعون إلى الفرار خوفاً من ردّ فعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم السريع والشديد.

وكذلك، عندما كان العدوّ يخرج إلى قتال المسلمين، كان المسلمون يجمعون المعلومات اللازمة عن نوعية عتادهم وكمّيّته، وسائر المسائل الأخرى، بواسطة إرسال العيون والجواسيس.
 
وعلى ضوء تلك المعلومات، كانوا يضعون خطّة العمليات الدفاعية وينفّذونها.

2- السرية والكتمان:
كما تمتاز مسألة جمع المعلومات عن العدو بأهمّيّة خاصة، تتمتّع أيضاً مسألة المحافظة على سرّيّة المعلومات المتعلّقة بالجبهة الداخلية (خاصة بالمسلمين) بدرجة الأهمية نفسها، إن لم نقل بدرجة أكبر. فالعدوّ مثلنا، يسعى لجمع المعلومات ويجب علينا أن نَحرِمه بيقظتنا من فرصة كهذه. وفي سيرته العسكرية، كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يولي هذا الأمر أهمّيّة فائقة. وفيما يأتي نشير إلى نماذج من ذلك:
أ- خرج عبد الله بن جحش على رأس سَريةٍ لتنفيذ مهمّة عسكرية، ولأجل أن لا يُفشي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقصدَ السرّية وهدفها فيصلَ خبر ذلك إلى العدوّ، أعطى عبد الله كتاباً مختوماً وقال له: "أخرج أنت وأصحابك حتّى إذا سرت يومين افتح كتابك وانظر فيه وامضِ لما أمرتك" فلما سار يومين وفتحَ الكتاب فإذا فيه: "أن امضِ حتّى تنزل "نخلة" فتأتينا من أخبار قريش بما يصل إليك منهم"1.
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 19، ص 189. (نخلة اسمُ منزلٍ بين مكة والطائف).
 
 
 
 
222

178

الدرس الخامس عشر: السيرة العسكرية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام

 ب- عندما عزم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على فتح مكّة، أعلن التعبئة العامة دون أن يكشف عن مقصده. فتصوّرت طائفة من المسلمين جراء ذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يريد الهجوم على "ثقيف" وأخرى ظنّت أنّه يريد "الشام"..، في حين أنّه حتّى المقرّبين منه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكونوا على علمٍ بمقصده. فحينما رأى أبو بكر ابنته عائشة مشغولة بإعداد ما يلزم للسفر، سألها: أين يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فأجابت: لا أعلم، لعلّه يريد بني سُليم أو هوازن أو ثقيفاً أو مكاناً آخر.


وفي الكتب التي كان بعث بها إلى زعماء القبائل، أمرهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجمعوا قوّاتهم دون أن يبيّن لهم المقصد، وطلب من كلّ قبيلة أن تلتحق بالجيش عند نقطة محدّدة، وأن تخفي هي بدورها كلّ ما أمرها به.

وكذلك، وضعت جميع طرق المدينة تحت رقابة دقيقة، وحيل بين الأفراد والمسافرين وبين الدخول أو الخروج منها، وعلى ضوء هذه التدابير، لم يستطع أحد أن يطّلع على مقصد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويُخبر قريشاً به، سوى رجل اسمه حاطبُ بن أبي بلتعة، الذي استطاع من خلال القرائن التي اجتمعت لديه أن يُحدّد مقصد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكتب إلى قريش بذلك. ولكنْ بالإضافة إلى منعه وصول الرسالة، فقد أنّب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حاطباً بشدّة1.

3- الاستتار والمباغتة:
كانت التحرّكات العسكرية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تُرسم وتنفّذ بدرجة عالية من الدقّة، بحيث لم يكن العدوّ في كثير من الموارد، وبالرغم من وجود فرصٍ عديدة لجمع المعلومات، ليحيط بها علماً. وقد بُوغِت العدوّ بالكامل، وتعرّض لهجوم مفاجئ من المجاهدين، كلّ ذلك بسبب الرعاية الدقيقة لأصل الاستتار والمباغتة.

فقد صادف كثيراً وصول خبر استعدادِ جماعة أو قبيلة ما للهجوم على المدينة، ولذا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يهيّئ قوّاته بسرعة، ويباغت العدو ويشتّته قبل أن ينهي استعداداته.
 

1- يُراجع: الواقدي، المغازي، ج 2، ص 797. والسيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، ج 1، ص 275. والحلبي، السيرة الحلبية، ج 3، ص 74. واليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 58.
 
 
 
 
223

179

الدرس الخامس عشر: السيرة العسكرية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام

 وعندما أرسل جيشاً لاحتلال "خيبر" فقد تحرّك بسرعة ودقّة إلى حدّ أنّ أهل "خيبر" لم يطّلعوا على ما يجري، حيث تمّت السيطرة في الليل على جميع النقاط الحساسة وسائر الطرق والمعابر، من قِبَل المجاهدين، وذلك قبل أن ينتبه أحد إلى ما يحدث. وكان في اليوم التالي، عندما خرج اليهود من قلاعهم كالمعتاد من أجل متابعة أمور حرثهم وزراعتهم، أن علموا بوجود المسلمين وحصارهم لهم1.


ولأجل فتح مكة، وُضِعَت ونُفِّذَت بشكل دقيق ومنظّم خطة من هذا القبيل لتحرّك الجيش، بحيث إنّ قريشاً مع نقضها الصلح وتوقّعها لهجوم المسلمين، لم تتمكّن من أن تطّلع على أيّ خبر عن تحرّكهم إلى أن وصلوا إلى القرب من مكّة. إلاّ أنّهم حينما علموا بتواجد جيش المسلمين على المرتفعات المحيطة بمكّة، لم يكن بإمكانهم أن يغيّروا في الأمر شيئاً.

4- مراعاة أصول التنظيم والإدارة:
كان للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سياسة وبرنامجٌ محدّدان في كيفية اختيار المجاهدين وإدارة تحرّكهم. ففي بداية الهجرة، حيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسعى وراء مناورة العدو، وإظهار قدرته، وإثبات وجوده في مواجهة مشركي مكة، كان يختار في أغلب الأوقات أشخاصاً مجاهدين وأقوياء للمشاركة في السرايا القتالية، لأنّهم كانوا قد لاقوا الظلم والتعذيب من قريش، وصدورهم مليئة بالبغض لهم والحنق عليهم، وهو ما كان يمثّل عاملاً لصمود زائدٍ منهم.

وفي كلّ مرّة كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتولّى بنفسه قيادة الجيش، كان ينصّب مكانه أحداً من المسلمين ليخلفه في غيابه ويدير شؤون المدينة. وأمّا حينما لم يكن يخرج صلى الله عليه وآله وسلم على رأس الجيش، فقد كان يعيّن قائداً محنّكاً وذا تجربة لقيادته.

وعندما كانت بعض المهمّات على درجة من الخطورة ويحتمل فيها مقتل القائد، كان يعيّن أيضاً نائباً للقائد يخلفه في حال استشهاده، وذلك كي لا تتشتّت صفوف الجيش.

وبالنظر إلى النسيج القبليّ الموجود، وطبيعة الثقافية والألفة السائدين آنذاك، كان المجاهدون يعمدون في إدارتهم للحروب عادة إلى اتّخاذ إجراءات تزيد من الوحدة
 

1- الواقدي، المغازي، مصدر سابق، ج 2، ص 643.
 
 
 
 
224

180

الدرس الخامس عشر: السيرة العسكرية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام

 والانسجام فيما بينهم. 


ولهذا، وجدنا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقسّم الجيش في معركة أُحُد إلى ثلاث فرق، ويعقد لكلّ منها راية: راية مع أُسيد بن حُضير قائد الأوس، وراية مع سعد بن عبادة قائد الخزرج، وراية مع الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قائد المهاجرين1.

وفي حفر الخندق نشاهد مثل هذا التقسيم والتنظيم أيضاً: المهاجرون والأنصار وبنو عبد الأشهل وبنو الدينار2.

وفي فتح مكّة، نُظّم وضع كلّ قبيلة على حدة، وعقد من الرايات لكلّ منها بحسب تعدادها.

وعند الخروج من المدينة، قُسِّم الجيش على شكل مقدّمة وميمنة وميسرة، بالإضافة إلى القلب. ووضع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الزبير على ميسرة الجيش، وخالد بن الوليد على ميمنته، وأبا عبيدة على مقدّمته، وتولّى هو قيادة الجيش كلّه بعد أن ثبت في القلب.

فهذا الأسلوب من التنظيم، والذي قام على أساس الارتباط القَبليّ، وأدّى إلى وضع كلّ الأفراد الذين تجمعهم معرفة سابقةٌ وحميمة معاً، هو أسلوب يلقى اليوم استحساناً واهتماماً ضمن الأجهزة التي تُعنى بالتشكيلات التنظيمية العسكرية.

وكان الجند مكلّفين برعاية النظام والانضباط بشكل كامل، وكلّ من قصّر تتخذ تدابير بحقّه.

وفي معركة بدر كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتولّى تنظيم الصفوف بنفسه مستخدماً عصاه التي يحملها، حيث كان يضعهم في صفّ واحد، مستقيم ومرصوص، من خلال تقديم البعض وتأخير البعض الآخر3.

5- التموضع المناسب:
على أثر الاطّلاع الكامل والدقيق على الطبيعة الجغرافية لمنطقة العمليات، وتحديد النقاط التي يمكن أن ينفذ منها العدوّ فيؤذي جيش المسلمين، كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يبادر قبل
 

1- يُراجع: تاريخ بيامبر، آيتى، ص 285.
2- المصدر نفسه، ص 352.
3- المصدر نفسه، ص 239.
 
 
 
 
225

181

الدرس الخامس عشر: السيرة العسكرية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام

 نشوب المعركة إلى التموضع في مكانٍ، وبنحوٍ معيّن، يُقلّل الأذى إلى أدنى درجة ممكنة.


وفي غزوة بدر، نزلَ صلى الله عليه وآله وسلم في البداية عند أول آبار بدر، ولكنّه بعد التشاور مع أصحابه لم يجد المكان مُناسباً، فتقدّم ونزلَ عند آخر آبارها (البئر الأقرب إلى العدوّ) وسدّ الآبار من خلفه1.

وفي معركة أُحُد، بعد أن خرج المسلمون من المدينة ووصلوا إلى القرب من جبل أُحُد نزل صلى الله عليه وآله وسلم في مكان يحدّه جبل أُحدٍ من جهة، والمدينة من جهة ثانية و"عينين" من جهة ثالثة، وهو ما جعل العدوّ لا يستطيع المواجهة والتقدّم إلاّ على جبهة واحدة2.

وفي معركة الأحزاب، كان يجب على المسلمين إمّا أن يخرجوا للقاء العدوّ فيقاتلوا على مسافة بعيدة من المدينة أو أن يبقوا في المدينة ويدافعوا من داخلها، ولكن عندما بحثوا المسألة بشكل أدقّ وجدوا أنّ المدينة عُرضَة للخطر والأذى من جهة واحدة فقط، فحفروا خندقاً في تلك الناحية، وتموضعوا ما بين المدينة والخندق - خلفَ جبل "سلع"- حتّى إذا استطاع العدوّ أن يقفزَ من فوق الخندق، عمدوا من خلال إلقاء الحجارة في طريقه، إلى إعاقة تحرّكه، وبالتالي استفادوا من الحجارة كسلاح ضدّ العدو، إضافة إلى توفير فرصة للاشتباك من جهة واحدة، فيكونوا في مأمنٍ من خلفهم3.

السيرة العسكرية لأمير المؤمنين عليه السلام
أمضى الإمام عليّ عليه السلام شطراً طويلاً من عمره الشريف في جبهات الحرب والجهاد في سبيل الله، حيث سارع خلال هذه المرحلة إلى الحفاظ على الإسلام بمنتهى الإيثار والتضحية، حتّى أضحى له الفضل الأكبر في النجاحات التي حقّقها هذا الدين الإلهيّ.

فخلال حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، شاركَ عليه السلام في غزوات وسرايا عديدة، كان له في أغلبها شرفُ تحقيق الغلبة والنصر.
 
 

1- تاريخ بيامبر، آيتى، ص 238.
2- المصدر نفسه، ص 287.
3- يُراجع: الواقدي، المغازي، مصدر سابق، ج 2، ص 445-446.
 
 
 
 
 
226

182

الدرس الخامس عشر: السيرة العسكرية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام

 وفي أيام خلافته، حيث بادر الأعداء إلى إشعال نار الحرب، واستمرّوا في قتاله طوال السنوات الخمس لحكومته، تُعدُّ جهوده لمواجهة أعداء الإسلام، ومشاركاته الفعّالة في ميادين القتال، وشجاعته وقيادته الفريدة، من الأمور الواضحة لدى كلّ المطّلعين على التاريخ.


ويمكن الاطّلاع على سيرته العسكرية من خلال أحاديثه وأعماله في جميع هذه الحروب، ولا سيّما الحروب التي وقعت زمان خلافته. فكلمات الإمام عليه السلام التي خرجت على صورة خُطبٍ ورسائل، تحكي عن أنّه كان أشدّ الناس معرفة بالشأن العسكريّ.

وبالنظر إلى شمولية أحاديث الإمام عليه السلام على هذا الصعيد، وسعة المنقولات التاريخية حول سيرته العسكرية، سعينا إلى أن نشير إشارة عابرة إلى بعض من جوانب هذه السيرة.

الدعوة إلى الصلح وعدم البدء بالقتال
يُعدّ هذان الأصلان من الأصول الدائمة والقطعية التي سار عليها الإمام عليّ عليه السلام في حربه مع أعدائه، لأنّ هدفه الأساس كان هداية الناس جميعاً، بما فيهم أولئك الأعداء.

فقبل أن يشتعل فتيل القتال، كان أمير المؤمنين عليه السلام يدعوهم دائماً إلى الصلح، حيث لعلّه في ظلّ الصلح والسلام، وبالاستفادة من تبادل وجهات النظر بين الفريقين يستطيع أن يهديهم إلى الحقّ، ويمنع وقوع الخسارة في مال المسلمين وأرواحهم. وقد كان في بعض الحروب يبادر شخصياً إلى طرح هذه الدعوة، وفي بعضها الآخر كان يُرسل من ينوب عنه في ذلك.

ففي حرب الجمل، أرسل في بادئ الأمر بعضاً من أصحابه ومنهم صاحب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم القعقاع بن عمرو لمكالمة القوم، ثم توجّه بعد ذلك بنفسه إلى العدو وكلّمهم في أمر القتال، فاستطاع بنصائحه أن يَردّ الزبير عن عزمه.

وفي حرب الخوارج، بذل الإمام عليه السلام جهوداً كبيرة لردعهم عن سفك دماء المسلمين، ولردّهم إلى صفوفهم، حيث كان على الدوام - وأكثر من أيّ شيء آخر - يفكّر في وحدة المجتمع الإسلاميّ، ولهذا كان يرجّح السلم على الحرب، كما صرّح بذلك مرات عدّة، منها:
 
 
 
 
 
227

183

الدرس الخامس عشر: السيرة العسكرية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام

 ما قاله بعد مسألة التحكيم في صفّين: "وليس رجل - فاعْلَم - أحرص على جماعة أمّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأُلفتها منّي، أبتغي بذلك حسن الثواب وكرمَ المآب"1.


وإذا لم تنفع الدعوة إلى الصلح، وعزم العدو على الحرب، كان يأمر القادة على الجند أن لا يكونوا البادئين بالقتال، بل أن يصبروا حتى يبدأهم القوم بذلك. وقد بيّن عليه السلام علّة هذا الأمر قبل شروع المواجهة في صفين، موجّهاً الخطاب إلى عسكره: "لا تقاتلوهم حتّى يبدؤوكم، فإنّكم بحمد الله على حجّة وترككم إيّاهم حتّى يبدؤوكم حجّة أخرى لكم عليهم..."2.

وفي حرب الجمل، فعل الشيء نفسه وطلب من جنده أن لا يكونوا البادئين أيضاً، إلى أن استُشهد بعض أصحابه على يد جيش أهل الجمل، فتوجّه إلى الله قائلاً: "اللهم اشهد" ثمّ بدأ القتال3.

الإدارة القوية في تجهيز القوات وتنظيمها
يعتبر الإمام عليّ عليه السلام ضمن هذا المجال أكثر قادة الحرب فعالية، وقد خلّد التاريخ ذكره في الخالدين. ونحن فيما يأتي نعرض لهذه الخاصية في شخصية أمير المؤمنين عليه السلام، على صورة نقاط:
1- الاهتمام بعديد القوات وعتادها:
لقد حرص الإمام عليه السلام على هذين الأمرين، لما لهما من دور في تشكيل قوة عسكرية رادعة، وكلّما كان يعزم على الخروج إلى القتال كان عليه السلام يسعى في تأمين العديد والعتاد المطلوب والكافي، وذلك من خلال إرسال مبعوثين له إلى المدن والقبائل، للقيام بإنفار الجند وجمعهم. وأحياناً كان يخطب بنفسه في الناس ليعبّئ أكبر عدد من المقاتلين.

وحينما كان يُرسل الجند لإطفاء الفتنة والعدوان، كان يولي مسألة عدد المقاتلين أهمّيّة خاصة، حيث يعمل على تأمين ما يكفي للغلبة على العدوّ. وللمثال، عندما بدأ يتهيّأ
 

1- السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، مصدر سابق، ج 3، ص 137، الرسالة 78.
2- المصدر نفسه، ج 3، ص 14، الرسالة 14.
3- يُراجع: الشيخ المفيد، الجمل، مكتبة الداوري، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ص 182.
 
 
 
 
228

 


184

الدرس الخامس عشر: السيرة العسكرية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام

 لحرب أهل الجمل الناكثين، بعث بهاشم بن عتبة أول الأمر إلى أبي موسى الأشعريّ وإلى الكوفة لإنفار الناس إليه. ولكن بعدما وصله الخبر بأنّ أبا موسى لم يعمل بكتابه، وأساء معاملة مبعوثه إليه، قام بإرسال الإمام الحسن عليه السلام وعمار بن ياسر وقيس بن سعد، حيث استطاعوا بمساعدة مالك الأشتر أن يعبّئوا حوالي عشرة آلاف مقاتل ليلتحقوا بجيش الإمام عليه السلام بذي قار1.


وفي حرب صفّين، سعى الإمامعليه السلام لأشهرٍ، وأرسل رسائل كثيرة إلى عماله على المناطق، كي يتمكّن عن طريق إخراج الناس إلى القتال، من زيادة عدد الجند، حتّى يكون مؤهّلاً لمواجهة جيش معاوية.

ومن الناحية الكيفية، بذل الإمام عليه السلام جهوداً كبيرة أيضاً من أجل رفع جهوزيّة جيشه العسكرية، وذلك من خلال تعليم قواته فنون القتال المختلفة. وسوف نشير إلى أهمّيّة هذا الأمر في نظره الشريف، في نقطة مستقلّة.

2- اختيار القادة اللائقين:
من الأمور التي أخذها الإمام عليه السلام بعين الاعتبار، ضرورة أن يتحلّى القادة في أيّ مؤسسة عسكرية بالتجربة والخبرة والمهارة والحنكة والاستقامة والالتزام بأعلى درجاتها. ولهذا السبب، فقد أشار في مطاوي خطبه ورسائل إلى خصوصيات القائد اللائق بتولّي المسؤولية، وممّا ذكره على هذا الصعيد:
أ- أن يكون من أهل الحرب البواسل.
ب- أن يكون ممّن مُحّصوا بالشدائد والبلاءات.
ج- أن يكون ذا تجربة ومن أهل الشورة.
د- لا يخشى الهزيمة ولا يُقعده الضعف.
هـ- لا يتباطأ عمّا ينبغي الإسراع إليه، ولا يسرع إلى ما ينبغي الإبطاء عنه.
و- أن تكون له مكانة ومنزلة في نفوس جنده.
 
 
 

1- الشيخ المفيد، الجمل، مصدر سابق، ص 130-138، ملخّصة.
 
 
 
229

185

الدرس الخامس عشر: السيرة العسكرية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام

 ز- أن يكون من أهل النُّصح (لله وللرسول وللإمام).

ح- أن يكون من ذوي المروءات والأحساب والبيوتات الصالحة.
ط- أن يتّصف بالشجاعة والسخاء والكرم1.

3- تنظيم القوات العسكرية:
وحين الحرب، كان الإمام عليّ عليه السلام يقوم بتنظيم صفوف قوّاته، ويقسِّمها إلى مقدّمة الجيش والصفوف المختلفة، ميمنة الجيش، ميسرة الجيش، قلب الجيش، وإلى قوات المشاة والفرسان، وأحياناً كان يقتطع قسماً من الجيش ويبقيه كذخيرة ليمدّوا العسكر بالقوة2.

4- إصدار التوجيهات:
كان الإمام عليّ عليه السلام، بوصفه القائد العامّ للجيش، يوجّه قواته بشأن القضايا الاجتماعية والسياسية والعسكرية...، ويرسي علاقة فكرية عميقة معهم. وكان يحذّرهم من التفرّق, لأنّ التفرّق بين العسكر آفة عظيمة جداً للجيش.

وقد أشار إلى هذا الأمر في وصية له عليه السلام وصّى بها جيشاً بعثه إلى العدو، فقال: "...وإيّاكم والتفرّق: فإذا نزَلتم فانزلوا جميعاً، وإذا ارتحلتُم فارتحلوا جميعاً..."3.

من السيرة العسكرية لأمير المؤمنين عليه السلام
أ- تعليم الأصول والفنون العسكرية:
كان الإمام عليّ عليه السلام إذا أراد الخروجَ أو بعثَ بجيشٍ لقتال العدوّ، شَرع بتعليم عسكره أصول الحرب وفنونه. وقد ورد في العديد من الخطب والرسائل تفصيل هذه الأصول والفنون، والتي يمكن تلخيصها في النقاط الآتية:
1- تقديم الدَّارِع (لابس الدرع).
 

1- يُراجع: السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، مصدر سابق، ج3، ص 14، و ص82- 111، الرسالتان 13 و53.
2- المصدر نفسه، ج 1، ص 97-98، الخطبة 48.
3- المصدر نفسه، ج3، ص 12-13، الرسالة 11.
 
 
 
 
230

 


186

الدرس الخامس عشر: السيرة العسكرية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام

 2- تأخير الحَاسِر (من لا درع له).

3- العضُّ على الأضراس (لأنّه يجعل السيف أضعف على التأثير في الرؤوس إذا وقع عليها).
4- القتالُ في ظلِّ الرّماح.
5- غَضُّ الأَبصار (لأنّه أربطُ للجأش).
6- إماتةُ الأصوات (أي خفضُها).
7- نشرُ الرايات وعدم التفرّق من حولها.
8- جعل الرايات بأيدي الشجعان (وأهل المروءة).
9- ضرورة أن يكفي كلّ مجاهد كُفْؤَهُ من أعدائه فيقتلَهُ.
10- إذا قتل كفؤَه فعليه أن يسرع إلى أخيه فيعينه.
11- الثبات وعدم الفرار من ميدان القتال.
12- الخوف من الله.
13- استشعار الخشية وتجلبُب السكينة.
14- قلقلة السيوف في أغمادها (أي تحريكها للتأكد من سهولة خروجها منها).
15- النظر إلى العدو من طرف العين (لإرعابه).
16- الضربُ بالسيف في الجوانب يميناً وشمالاً، وأن يكون الضرب بحدِّ السيف.
17- التضحية بالنفس في سبيل الله.
18- الخَطْوُ (المشيُ) بثبات.
19- عدم السماح للخوف بأن يأخذ طريقه إلى النفوس.
20- التراجع التكتيكيّ ومعاودة الكرّ (الهجوم)...1.
 
 

1- يُراجع: السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، مصدر سابق، ج 1، ص 114-115، وج 2، ص 3-4، الخطبتان 66 و124.
 
 
 
 
231

187

الدرس الخامس عشر: السيرة العسكرية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام

 ب- تكتيكات أمير المؤمنين عليه السلام الحربية:

كان الإمام عليه السلام يستفيد من تكتيكات خاصة تتلاءم مع أوضاع الجبهات وظروفها. فعلى سبيل المثال، كان يلجأ في كثير من الحروب إلى القتال رجلاً لرجل، حتّى أنّه كان يخرج بنفسه أحياناً ليبارز عدداً من خصومه فيرديهم1. وفي بعض الأحيان، كان يأمر عدداً من جنده للخروج ومبارزة عددٍ من جيش العدوّ. وقد استخدم عليه السلام هذا الأسلوب من القتال في بداية حرب الجمل وأثناء حرب صفّين. وفي موارد أخرى، كان الإمام عليه السلام يبدّلُ تكتيكه هذا، فيأمر بهجوم شامل لكلّ قواته، كما حصل في ليلة الهَرير، حيث توجّه الجيش بأكمله لقتال جيش الشام، نزولاً عند أوامر الإمام عليّ عليه السلام2.

وأحياناً، كان عليه السلام يختار موضعاً خاصاً لدى العدوّ، ويوجّه كلّ قواته نحوه، كي يتمكّن من خلال هزيمة هذا القسم من الجيش (عادة هو القلب)، أن يُفشل خطة العدوّ. ففي حرب صفّين سعى لاستهداف خيمة معاوية، حيث كانت تدار المعركة منها. ولكن في حرب النهروان اختلف أسلوب الإمام عليعليه السلام بشكل كامل. فقد لجأ إلى محاصرة العدوّ بواسطة الخيّالة من كلّ جانب، واستطاع في ظلّ هذه الخطوة القضاء المبرم على الخوارج3.

ج- رعاية الآداب والأصول الإنسانية في الحرب:
كان الإمام عليه السلام يحرص حرصاً تاماً على مثل هذه الرعاية في سيرته العسكرية. وفيما سبق، أشرنا إلى أنّ الإمام عليه السلام كان يدعو دائماً إلى الصلح والسلام قبل المبادرة إلى القتال، ويسعى عن طريق كلماته واستدلالاته المنطقية لنزع أسباب الخلاف والمواجهة، وفي كلّ مرّة كان العدو يصرُّ فيها على باطله، لم يكن ليبدأهم بالقتال، وهذا ما دلّ على أنّ الإمام عليه السلام لم يخترِ الحربَ كحلٍّ أوّل، وإنّما كان يلجأ إليها عند الاضطرار.
 

1- يُراجع: ابن مزاحم المنقري، وقعة صفين، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، المؤسسة العربية الحديثة للطبع والنشر والتوزيع، مصر ـ القاهرة، 1382ه.ق، ط 2، ص 272.
2- يُراجع: المصدر نفسه، ص 475.
3- يُراجع: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار صادر للطباعة والنشر، لبنان ـ بيروت، 1966م، لا.ط، ج 3، ص 346.
 
 
 
232

188

الدرس الخامس عشر: السيرة العسكرية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام

 وكان الإمام عليه السلام يأمر عسكره برعاية تلك الأصول والآداب، وأن لا يظلموا أحداً. فمن كتاب له إلى العمّال الذين يطأ الجيش عَمَلَهُمْ (أي إلى الولاة على المناطق الذين يمرُّ الجيش بأراضيهم) قال عليه السلام: "مِنْ عبدِ الله عليٍّ أميرِ المؤمنينَ إلى مَنْ مَرَّ بهِ الجيشُ من جُباةِ الخَرَاجِ وعُمَّالِ البِلادِ. أمّا بعدُ؛ فإنّي قد سَيّرتُ جُنوداً هي مارَّةٌ بكُم إنْ شاءَ اللهُ، وقدْ أَوصيتُهُم بما يجبُ للهِ عليهِمْ من كفِّ الأَذَى، وصرفِ الشَّذىَ1، وأنا أبرأُ إليكُم وإلى ذِمّتِكُمْ مِنْ مَعَرَّةِ2 الجيشِ، إلاّ من جَوْعَةِ المضطَرِّ، لا يَجِدُ عَنْها مذهباً إلى شَبَعِهِ. فَنَكِّلُوا3 مَنْ تناولَ مِنهُم شيئاً ظُلْماً عنْ ظُلْمِهِمْ، وكُفُّوا أيديَ سُفَهائكُمْ عنْ مُضارَّتِهِمْ4، والتَّعرُّضِ لهُمْ فيما استثنَينَاهُ مِنْهُم. وأنا بَينَ أَظْهُرِ الجيشِ، فارفَعُوا إليَّ مَظالِمَكُمْ، وما عَراكُمْ5 مِمّا يَغلِبُكُمْ منْ أَمرِهِمْ، وما لا تُطيقونَ دفعَهُ إلاّ باللهِ وبي، فأنَا أُغَيِّرُهُ بِمعونةِ اللهِ، إنْ شاءَ اللهُ"6.


وخلال القتال أيضاً، كان الإمام عليّ عليه السلام يُراعي هذه الآداب والأصول الإنسانية. ففي حرب صفّين مثلاً، بعد أن سيطر عسكره على ماء الفرات، وعلى الرغم من أنّ جيش الشام كان قد منعهم الماء حينما كانت الشريعة تحت سيطرته، أجاز الإمام عليه السلاملأعدائه أن يستفيدوا منه.

وكذلك، أوصى جنوده بوصايا لازمة إن هم انتصروا، مشدّداً عليهم أن يراعوها. ومن ذلك ما قاله لعسكره قبل لقاء العدو بصفّين: "...فإذا كانتِ الهزيمةُ بإذنِ اللهِ فَلا تقتُلوا مُدبِراً، ولا تُصيبُوا مُعْوِراً7 ولا تُجهِزُوا على جَريحٍ، ولا تَهِيْجوا النساءَ بأذىً، وإنْ شَتَمْنَ أعراضَكُم وسَبَبْنَ أمراءكم..."8.
 

1- الشذى: الضرب والشر.
2- معرّة: أذى.
3- نكّلوا: عاقبوا.
4- مضارتهم: الاضرار بهم.
5- عراكم: أصابكم.
6- السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، مصدر سابق، ج 3، ص 117، الرسالة 60.
7- مُعْوراً: الذي أمكنَ من نفسه وعجز عن حمايتها. وأصله أعوَرَ أي أبدى عورته.
8- المصدر نفسه، ج 3، ص 15، الرسالة 14.
 
 
 
233

189

الدرس الخامس عشر: السيرة العسكرية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام

 وما ذكرناه كان نماذج قليلة من رعايته عليه السلام للأصول الإنسانية في الحرب. وإنّ التأمّل في الأخلاق الكريمة لذلك الإمام العظيمعليه السلام يثبت أنّ أحداً من الناس لم يسبقه أو يَفُقْهُ على هذا الصعيد.

 

 

 

234


190

الدرس الخامس عشر: السيرة العسكرية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام

 المفاهيم الرئيسة


1- إنّ التعمّق في دراسة حروب صدر الإسلام والسيرة العسكرية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلّمنا دروساً كثيرة.

2- كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يستخدم كلّ الأصول والتكتيكات العسكرية كي يتمكّن بأقلّ الخسائر أن يحقّق أعلى المكاسب والانتصارات، ومن بين هذه الأصول والتكتيكات:
- جمع المعلومات: حيث كان جميع المسلمين والقبائل المتحالفة معهم، يعتبرون أنفسهم مكلّفين بمراقبة تحرّكات العدوّ. ولقد كان الهجوم السريع والمباغت للمسلمين على العدوّ مرهوناً في الغالب لهذا الجهاز الأمنيّ الشعبيّ.

- السرية والكتمان: لما لهما من دور في مباغتة العدوّ في الحروب، لجهة عدم معرفته بمقدّرات جيش الإسلام.

- الاستتار والمباغتة: حيث كانت التحرّكات العسكرية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تُرسم وتنفّذ بدرجة عالية من الدقّة، فلم يكن العدوّ في كثير من الموارد، وبالرغم من وجود فرصٍ عديدة لجمع المعلومات، ليحيط بها علماً.

- مراعاة أصول التنظيم والإدارة: حيث كان للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سياسة وبرنامجٌ محدّدان في كيفية اختيار المجاهدين وإدارة تحرّكهم. كما كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعتمد أسلوباً في التنظيم يقوم على أساس الارتباط القَبليّ، بهدف وضع كلّ الأفراد الذين تجمعهم معرفة سابقةٌ وحميمة معاً.

- التموضع المناسب: على أثر الاطّلاع الكامل والدقيق على الطبيعة الجغرافية لمنطقة العمليات، وتحديد النقاط التي يمكن أن ينفذ منها العدوّ فيؤذي جيش المسلمين، كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يبادر قبل نشوب المعركة إلى التموضع في مكانٍ، وبنحوٍ معيّن، يُقللّ الأذى إلى أدنى درجة ممكنة.

3- أمضى الإمام عليّ عليه السلام شطراً طويلاً من عمره الشريف في جبهات الحرب والجهاد في سبيل الله، حيث سارع خلال هذه المرحلة إلى الحفاظ على الإسلام بمنتهى الإيثار والتضحية، حتى أضحى له الفضل الأكبر في النجاحات التي حقّقها هذا الدين الإلهيّ.

4- يمكن الاطّلاع على سيرته العسكرية من خلال أحاديثه وأعماله في جميع هذه الحروب، ومن مظاهر هذه السيرة:
أ- الدعوة إلى الصلح وعدم البدء بالقتال: حيث يُعدّ هذان الأصلان من الأصول الدائمة والقطعية التي سار عليها الإمام عليعليه السلام في حربه مع أعدائه، لأنّ هدفه الأساس كان هداية الناس جميعاً، بما فيهم أولئك الأعداء.

ب- الإدارة القوية في تجهيز القوات وتنظيمها: ومن مظاهر هذه الإرادة القوية في تجهيز القوات وتنظيمها:
1- الاهتمام بعديد القوات وعتادها.
2- اختيار القادة اللائقين.
3- تنظيم القوات العسكرية.

ج- تعليم الأصول والفنون العسكرية: حيث كان الإمام عليّ عليه السلام إذا أراد الخروجَ أو بعثَ بجيشٍ لقتال العدوّ، شَرع بتعليم عسكره أصول الحرب وفنونه. وقد ورد في العديد من الخطب والرسائل تفصيل هذه الأصول والفنون.

د- تكتيكات أمير المؤمنين عليه السلام الحربية: فقد كان الإمام عليه السلام يستفيد من تكتيكات خاصة تتلاءم مع أوضاع الجبهات وظروفها.

هـ- رعاية الآداب والأصول الإنسانية في الحرب: حيث كان الإمام عليه السلام يحرص حرصاً تاماً على مثل هذه الرعاية في سيرته العسكرية.
 
 
 
 
 
235

191
التربية الجهادية