إلا رحمة للعالمين


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-04

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين أبي القاسم محمّد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين.

روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "إلى أن بَعَثَ الله سُبحانَهُ مُحمّدا رَسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم مَأخوذا عَلَى النَّبِيِّينَ ميثاقُهُ، مَشهورَةً سِماتُهُ، كَريما ميلادُهُ، وأهلُ الأرضِ يَومَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وأهواءٌ مُنتَشِرَةٌ، وطَرائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَينَ مُشَبِّهٍ للّه‏ بِخَلقِهِ، أو مُلحِدٍ في اسمِهِ، أو مُشيرٍ إلى غَيرِهِ, فَهَداهُم بِهِ مِنَ الضَّلالَةِ، وأنقَذَهُم بِمَكانِهِ مِنَ الجَهالَةِ"1

كانت قد تصرّمت قرون طويلة على مبعث نبيّ الرحمة والصدق والمحبّة، عيسى المسيح عليه السلام ، وكان المجتمع البشري قد تعرّض لتغييرات فكرية وعقيدية، وتحوّلات أخلاقية واجتماعية عجيبة.

في مثل هذه الظروف وبعد عصور مرّت على نشر عيسى المسيح عليه السلام للهداية الإلهيّة، بعث الله تعالى محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم بدين مبين، وقوانين ثابتة، وآيات محكمة، وأنوار مشرقة، ومشعل متوقّد، وعلم غزير مزيل للجهل ومحقِّق للوعي والفطنة والمعتقدات


1- نهج البلاغة، السيّد الرضي، ج1، ص25. 

 

 

5

 


1

المقدمة

العميقة الصلبة، كي يؤسّس مجتمعاً قرآنيّا مفعماً بالقيم الإلهيّة الإنسانيّة، ومليئاً بالمكارم الأخلاقية، ويقود الإنسان نحو الهدف الأسمى والمقصد الأعلى. وقد كان نبيّنا الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه مظهر هذه الحقائق السماوية، ومجسّداً للتعاليم القرآنية والقيم الإلهيّة الأخلاقية. 

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الوجوه الإنسانيّة وأكملها وأقربها إلى القلوب. والتأمّل في سيرته والنظر في شخصيته والتدبّر في خُلقه وخصاله، يوقع الإنسان في الدهشة والحيرة.

يقول الإمام عليّ عليه السلام:
"مَن رَآه بُدَيهَةً هابَهُ، ومَن خالَطَهُ مَعرِفَةً أحَبَّهُ، يَقولُ ناعِتُهُ: لَم أرَ قَبلَهُ ولا بَعدَهُ مِثلَهُ"1

وهكذا، فمن الطبيعي أن تكتسب هذه الشخصيّة المشرقة البعد العالميّ، وأن تضمر جميع شخصيّات العالم تحت ظلّ نوره، وأن يطأطئ جميع الأبطال والعظماء الّذين يمثّلون القمم الشاهقة في تاريخ البشريّة، رؤوسهم أمام عظمته وسموّه، وتتمهّد أرضية تحقّق الوعد الإلهيّ في عولمة هذه الشريعة، وسيادة تعاليم الدِّين الّذي جاء به هذا الرجل العظيم الّذي لا نظير له في التاريخ، حيث قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾2

وهكذا فقد أذعن أصحاب القلوب الطاهرة أمام الحقّ، وتحلّقوا كالفراشات حول شمعة وجود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، واستماتوا في الدفاع عنه. وأمّا أصحاب القلوب المريضة والنفوس المظلمة فقد اصطفّوا في ذلك العصر وما بعده وعلى مرّ التاريخ معلنين الحرب على تعاليمه السامية، وسعوا بأساليب مختلفة من أجل النيل من شخصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم 
 

1- أمالي الطوسي، الشيخ الطوسي، ص341.
2-  سورة التوبة، الآية: 33.
 
 
6
 

 


2

المقدمة

وتحريف وقلب صورته الجميلة، ولم يألوا جهداً منذ أقدم العصور حتّى القرون الأخيرة، حيث ظهرت واتّسعت دراسات المستشرقين وبحوثهم في‏ اختلاق الأكاذيب والأساطير والأقاويل الباطلة ونشرها، وبذلوا ما استطاعوا من جهد في هذا الاتّجاه. 

من هنا فقد كان هذا الكتاب "إلّا رحمة للعالمين" محاولة للتعريف برسول الرحمة ونبيّ الأمة صلى الله عليه وآله وسلم ودفاعاً عنه وذكراً لمحامده وخصاله، فيه ذكرى للمؤمنين، وتوعية للباحثين، وزاد إلى يوم الدين، نتقرّب من خلاله إلى الله تعالى، ونسأله سبحانه أن يعجّل بتحقيق وعده وأن يظهر خلَف نبيّه الحجّة بن الحسن المهديّ عجل الله فرجه الشريف وأن يجعلنا في جنده إنّه سميع مجيب. 
 
مركز نون للتأليف والترجمة

  

7
 

3

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾1
 
﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾2.
 

1- سورة الأنبياء، الآية: 107.
2- سورة التوبة، الآية: 128.
 
 
9
 

4

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

تمهيد

نبيّ الرحمة في سطور: ولد خاتم النبيّين محمّد بن عبدالله بن عبدالمطّلب صلى الله عليه وآله وسلم في السابع عشر من شهر ربيع الأوّل من عام الفيل، توفيّ أبوه وهو جنين، ثمّ استرضع في بني سعد، ورُدّ إلى أمّه وهو في الرابعة أو الخامسة من عمره. وقد توفّيت أمّه حين بلغ السادسة فكفله جدّه عبد المطلب واختصّ به وبقي معه سنتين ثمّ ودّع جدّه الحياة بعد أن أوكل أمر رعايته إلى عمّه الحنون أبي طالب، حيث بقي مع عمّه إلى حين تزوّج من خديجة وهو في ريعان شبابه، وكان قد عُرف بالصادق الأمين، وقد ارتضته القبائل المتنازعة لنصب الحجر الأسود لحلّ نزاعها فأبدى حنكةً وإبداعاً رائعاً أرضى به جميع المتنازعين، وحضر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حلف الفضول بعد العشرين من عمره. وبُعث بالرسالة وهو في الأربعين، وبعد مضي ثلاث سنوات من بداية الدعوة إلى الله، أمره الله بإنذار عشيرته الأقربين ثمّ أمره بأن يصدع بالرسالة ويدعو إلى الإسلام علانية ليدخل من أحبّ الإسلام في سلك المسلمين والمؤمنين وأسّس النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم أوّل دولة إسلامية فأرسى قواعدها في السنة الأولى بعد الهجرة وبنى المسجد النبويّ الّذي أعدّه مركزاً لدعوته وحكومته.. وكان العام العاشر عام حجّة الوداع وآخر سنة قضاها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع أمّته وهو يمهّد لدولته العالمية ولأُمّته الشاهدة على سائر الأمم، وتوفّي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في 28 صفر سنة
 
11

5

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

إحدى عشرة هجرية بعد أن بلّغ الرسالة وأحكم دعائم دولته الإسلامية حيث عيّن لها القيادة المعصومة الّتي تخلفه متمثّلة في شخص الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام. 

1- محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الهدى والرحمة 
تسعى بعض وسائل الإعلام الغربية في السنوات الأخيرة - بحجّة حرّية الرأي والتعبير- للنيل من أعظم شخصية إنسانية في الوجود وهي شخصية النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، الّذي تصوّره وسائل الإعلام الغربية بوسائل وأساليب ساخرة بأنّه رجل حرب وقتل ونهب وسلب، وأنّه كان غليظ القلب، وأنّ الإسلام دين العنف والرهبة والقتال.

هذه الشخصيّة الّتي نالت القدر الأوفى من كلّ الشمائل الحسنة والخلال النبيّلة، والقيم الإنسانيّة العليا، وحرّرت الإنسان ورفعت عنه إصر عبوديات وأغلال كثيرة كانت منتشرة في العالم، فلقد شكّلت شخصية النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الرجل الّذي اكتملت فيه كلّ الأخلاق الحميدة، وانتفت عنه كلّ الأخلاق الذميمة، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾1. فشكّلت حياة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم المثل الأعلى للإنسانية في جميع أحوال الحياة وأوجهها؛ في السلم والحرب، في الحياة الزوجية، مع الأهل والأصحاب، في الإدارة والرئاسة والحكم والسياسة، في البلاغ والبيان، فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو المثل الكامل. قال الله تعالى: ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ2، ﴿.....لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة........ ﴾3.

فكان صلى الله عليه وآله وسلم يفيض رحمة في خلقه وسلوكه وأدبه وشمائله، فلا يحمل عبء بلاغ هذه الرحمة إلى العالمين إلّا رسول رحيم ذو رحمة عامّة شاملة فيّاضة طبع عليها ذوقه ووجدانه، وصيغ بها قلبه وفطرته. قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- سورة يسن، الآيتان: 3 4.
3- سورة الأحزاب، الآية: 21.
 
 
12
 

6

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ 1

فهو مثل أعلى للرحمة الإلهيّة لذلك وصفه الله تعالى بأنّه رؤوف رحيم يستطيع المؤمنون الاستفادة من الرحمة الّتي كان يُمثّلها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ذلك لأنّه "بالمؤمنين روؤف رحيم" ويستطيع الكافرون والمنافقون أيضاً -إلى جانب المؤمنين - الاستفادة من هذه الرحمة كذلك، فعندما قيل له: ادع على المشركين قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي لم أُبعث لعّانًا، وإنّما بُعثت رحمة"2

2- النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الإنسان العطوف والمحبّ
وإذا التفتنا إلى حياته الخاصّة صلى الله عليه وآله وسلم في بيته ومع أولاده وأهل خاصّته لوجدنا بأنّ الرحمة والشفقة من أبرز أخلاقه وخصاله صلى الله عليه وآله وسلم وقد وصفه الله في القرآن الكريم بذلك، فقال تعالى عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾3. وقال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾4

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يُحبّ الأطفال، ويُقبّل أولاده، ويعطف عليهم، ويأمر بالمساواة في المحبّة بينهم، كما كان يحبّ أهله وزوجاته، وهو القائل: "حبّب إليّ من دنياكم: الطيب والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة". وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"5. وكان صلى الله عليه وآله وسلم رحيماً بالجميع، بل إنّه يسمع بكاء الصبيّ فيسرع في الصلاة مخافة أن تُفتتن أمّه. و كان صلى الله عليه وآله وسلم يمرّ بالصبيان فيسلّم عليهم. وجاء الحسن والحسين مرّة، وهما ابنا ابنته وهو يخطب الناس فجعلا يمشيان ويعثران فنزل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من المنبر، فحملهما حتّى وضعهما بين يديه، ثمّ قال صدق الله ورسوله: 

1- سورة التوبة، الآية: 128.
2 ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 4، ص 274. 
3- سورة الأنبياء، الآية: 107.
4- سورة آل عمران، الآية: 159.
5- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 3، ص 555.
 
 
13


 



  
 

7

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ1 نظرت إلى هذين الصبيّين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتّى قطعت حديثي ورفعتهما. وفي رواية "ما ضرب رسول الله شيئًا قطّ بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلّا أن يجاهد في سبيل الله"2

وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يُقَبِّلُ ابنه إبراهيم عند وفاته وعيناه تذرفان بالدموع؛ فيتعجّب بعض الحاضرين ويقول: وأنت يا رسول الله! فيقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "يابن عوف، إنّها رحمة، إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلّا ما يُرضي ربّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون"3

ومن تواضعه وشكره: قال الإمام عليّ عليه السلام "كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا سُئل شيئاً فأراد أن يفعله قال: نعم، وإذا أراد أن لا يفعل سكت، وكان لا يقول لشيء لا"، وأمّا علاقته بأصحابه، فقد قال تعالى: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ4، وعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُقسّم لحظاته بين أصحابه، فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسويّشة؛ وقال: ولم يبسط رسول الله رجليه بين أصحابه قطّ، وإن كان ليصافحه الرّجل فما يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده من يده حتّى يكون هو التارك..."5

3- رحيم في الحرب والسلم 
و كان صلى الله عليه وآله وسلم في الحرب يقاتل بشجاعة، ولكنّه أيضاً كان صاحب شفقة عظيمة، كان سياسيّاً، ولكنّه في الوقت نفسه صاحب مروءة كبيرة وقلب كبير. ففي غزوة
  

1- سورة الأنفال، الآية: 28.
2-  ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 4، ص 3231. 
3- المحلى، ابن حزم، ج 5، ص 146.
4- سورة التوبة، الآية: 128.
5- الكافي، ج2، ص671.
 
 
 
14
 
 

8

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

أحد استشهد عمّه حمزة أسد الله ورسوله رضي الله عنه، ومُزّق جسده تمزيقاً، وشُجّ رأس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكُسِرت رباعيّته، وغطّى الدم جسده الشريف، وكان يدعو في مقابل أذى أهل مكّة له: "اللهمّ اغفر لقومي إنّهم لا يعلمون"1. فهل يوجد أرحم من النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في مثل هذه اللحظات. 

وفي فتح مكّة كيف تعامل مع من أخرجوه وظاهروا على إخراجه وإيذائه؟ وكيف تعامل مع من حاصروه في شعب أبي طالب وتسبّبوا في وفاة أحبّ زوجاته إليه خديجة الكبرى رضي الله عنها، وفي وفاة عمّه أبي طالب؟ فلقد دخل مكّة بعشرة آلاف مقاتل، دخل على مركبه، والدرع على صدره، والسيف في يده، ولكنّه مع كلّ مظاهر النصر هذه كان أنموذجاً للرحمة، فسأل أهل مكّة: "ما ترون أنّي فاعل بكم؟" فأجابوه: "خيراً أخٌ كريمٌ وابن أخ كريم" فقال لهم ما قاله يوسف عليه السلام لإخوته: "لا تثريبَ عليكم اليوم يَغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين"2. لقد قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطُلَقاء"3

4- رسالة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم دين المحبّة والرحمة
الدِّين الإسلامي هو دين الرحمة والمحبّة والسلام والدعوة إلى الخير، وما عالميّته وتشريعه للقتال والجهاد إلّا أحد مظاهر هذه الرحمة، إذ لا يمكن إيجاد الرحمة كخُلق للأفراد والمجتمعات إلّا بدفع الظالم ورفع ظلمه عن المظلومين.

يقول الله تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ4. ويقول الله تعالى: ﴿فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾5، ونحن دائمًا نُردّد في أوّل أعمالنا:
  

1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 95، ص 167.
2- سورة يوسف، الآية: 92، الكافي، ج 4، ص 225.
3- الكافي، ج 3، ص 513.
4- سورة الأنعام، الآية: 54.
5- سورة يوسف، الآية: 64.
 
15
 

9

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾1. ويقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لمّا خلق الله الخلق كتب عنده فوق عرشه: إنّ رحمتي سبقت غضبي"2

فرحمة الله سبحانه واسعة، ولا يعلم مداها إلّا هو، فهو القائل سبحانه: 
﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾3.

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "جعل الله الرحمة مائة جزءٍ، فأمسك تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق؛ حتّى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه"4

رحمة البشر:
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "ارحم من في الأرض، يرحَمْك من في السماء"5 و "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"6 فالمسلم رحيم في كلّ أموره؛ يعاون أخاه فيما عجز عنه, فيأخذ بيد الأعمى في الطرقات ليجنِّبه الخطر، ويرحم الخادم؛ بأن يحسن إليه، ويعامله معاملة كريمة، ويرحم والديه، بطاعتهما وبرّهما والإحسان إليهما والتخفيف عنهما.

الغلظة والقسوة:
حذَّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الغلظة والقسوة، وعدَّ الّذي لا يرحم الآخرين شقيّاً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تُنْزَعُ الرحمةُ إلّا من شَقِيّ"7 وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يرحم اللهُ من لا يرحم الناس"8.
  

1- سورة الفاتحة، الآية: 1.
2- الكافي، ج 2، ص 375.
3- سورة الأعراف، الآية: 156.
4- كنز العمال، المتقي الهندي، ج 4، ص 250.
5- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 4، ص 379.
6- كنز العمال، المتقي الهندي، ج 1، ص 149.
7- م. ن، ج 3، ص 163
8- م. ن.
 
 
16


 

10

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

ولا مجال في هذه العجالة لعرض كلّ نماذج الرحمة في الدِّين الإسلامي وسيرة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حيث شملت كلّ خلق الله تعالى من الإنسان والحيوان.

عن الإمام أبي جعفر عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقامي بين أظهركم خيرٌ لكم، فإنّ الله يقول: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ1 ومفارقتي إيّاكم خيرٌ لكم. فقالوا يا رسول الله، مقامك بين أظهرنا خيرٌ لنا، فكيف تكون مفارقتك خيراً لنا؟ قال: أما أنّ مفارقتي إيّاكم خيرٌ لكم، فإنّ أعمالكم تُعرض عليّ كلّ خميس وإثنين، فما كان من حسنة حمدتُ الله عليها، وما كان من سيّئةٍ استغفرت الله لكم"2

يقول الشاعر: 
ارحم بُنَي جمـيــع الخـلـق كُلَّـهُـمُ                          وانْظُرْ إليهــم بعين اللُّطْفِ والشَّفَقَةْ
وَقِّــرْ كبيـرَهم وارحم صغيـرهــم                         ثم ارْعَ في كلّ خَلْق حقَّ مَنْ خَلَـقَـهْ
  

1- سورة الأنفال، الآية: 33.
2- تفسير القمي، ج1، ص276.
 
 
17

11

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

للمطالعة
 
خصائص النبيّ في القرآن الكريم (1)
بعض الصفات الّتي سنذكرها مشتركة بين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبين غيره لكنّها موجودة فيه في أعلى درجاتها.
أ- أنّ ذكره صلى الله عليه وآله وسلم متقدّم على غيره.
ب- أنّه أولى بالاتّصاف بها من غيره.
ج- أنّه أكثر اتّصافاً بها من غيره. فمثلاً قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾1 فإنّ العزّة العليا لله عزّ و جلّ لا يشاركه فيها أحد. ثمّ هي لرسوله لا يشاركه في مرتبته أحد. ثمّ هي بعد ذلك للمؤمنين جميعاً.

قال الله سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾2.
 
فهو صلى الله عليه وآله وسلم: 
1 - الشاهد على الخلق في أنّهم هل يطيعون التعاليم الّتي جاء بها أو يعصوها.
2 - و هو المبشّر بالجنّة لمن أطاع الله سبحانه.
3 - و هو النذير بالعقاب لمن عصى الله سبحانه.
4 - و هو الداعي إلى الله بإذن الله سبحانه، أي الداعي إلى طاعته و رحمته.
5 - و هو السراج المنير بالعلم و الحقّ و الهدى.
6 - و هو المرسل رحمة للعالمين. قال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾3.

1- سورة المنافقون، الآية: 8.
2- سورة الأحزاب، الآيتان: 45 46.
3- سورة الأنبياء، الآية: 107.
 
 
 
18

 

12

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

7- و هو المرسل إلى كافّة الناس قال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾1. و هو بمعنى الجميع: يعني أرسلناك إلى الناس جميعاً.

8- و هو رسول الله قال سبحانه: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ﴾2. و قال جلّ جلاله: ﴿رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ3. يعني فيها كتابات ذات قيمة عظيمة و يراد بها القرآن الكريم.

9 - و هو الذكر. قال الله سبحانه: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾4.

10 - و هذه الآية الكريمة و عدد آخر تدلّ أيضاً على أنّه صلى الله عليه وآله وسلم: التالي. لأنّه يتلو علينا آيات الله مبينات.

11 - و هو أيضاً يخرج الّذين آمنوا و عملوا الصالحات، من ظلمات الغواية والجهل إلى نور الحقّ و العدل. كما سمعنا من الآية نفسها.

12 - و طاعته مقرونة بطاعة الله سبحانه و كلاهما واجبة. قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ﴾5.

13 - بل طاعته صلى الله عليه وآله وسلم هي طاعة الله سبحانه، قال تعالى: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ﴾6.

14 - و الاستجابة إليه مقرونة بالاستجابة لله سبحانه. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ


1- سورة سبأ، الآية: 28.
2- سورة الفتح، الآية: 29.
3- سورة البينة، الآيتان: 2 3.
4- سورة الطلاق، الآيتان: 10 11.
5- سورة النساء، الآية: 59.
6- سورة النساء، الآية: 80.
 
19

13

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ﴾1. و قال جلّ جلاله: ﴿اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾2.

15 - و الإيمان به صلى الله عليه وآله وسلم مقرون بالإيمان بالله جلّ جلاله قال سبحانه: ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا3.

16 - و ولايته مقرونة بولاية الله تعالى. قال جلّ جلاله: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ4. و قال سبحانه: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾5.

17 - و فضله مقرون بفضل الله قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ﴾6. و قال سبحانه: ﴿وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ﴾7.

18 - و صدقه مقرون بصدق الله سبحانه. قال سبحانه: ﴿وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ8.

19 - و نصره مقرون بنصر الله سبحانه، قال جلّ جلاله: ﴿وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾9.
20 - و عزّته مقرونة بعزّة الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ10.


1- سورة آل عمران، الآية: 172.
2- سورة الأنفال، الآية: 24.
3- سورة النور، الآية: 47.
4- سورة المائدة، الآية: 55.
5- سورة المائدة، الآية: 56.
6- سورة التوبة، الآية: 59.
7- سورة التوبة، الآية: 74.
8- سورة الأحزاب، الآية: 22.
9- سورة الحشر، الآية: 8.
10- سورة المنافقون، الآية: 8.
 
 
20

 

14

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

21 - والكفر به مقرون بالكفر بالله سبحانه. قال جلّ جلاله: ﴿إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ1.

22 - وعصيانه مقرون بعصيان الله سبحانه قال تعالى: ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾2.

23 - و شقاقه، أي المعاندة ضدّه، مقرونة إلى الشقاق ضدّ الله سبحانه، قال الله عزّ و جلّ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ3.

24 - و محادته، أي الكيد له و العمل ضد أهدافه، مقرونة بمحادة الله تعالى.

قال جلّ جلاله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ﴾4. و قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ5.

25 - و حربه مقرون بحرب الله سبحانه، قال تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ﴾6. أي توقّعوا ذلك.

26 - و محاربته مقرونة بمحاربة الله سبحانه. قال جلّ جلاله: ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا﴾7.

27 - و براءته مقرونة ببراءة الله سبحانه، قال تعالى: ﴿بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾8.


1- سورة التوبة، الآية: 84.
2- سورة الجن، الآية: 23.
3- سورة الحشر، الآية: 4.
4- سورة المجادلة، الآية: 20.
5- سورة المجادلة، الآية: 5.
6- سورة البقرة، الآية: 279.
7- سورة المائدة، الآية: 33.
8- سورة التوبة، الآية: 1.
 
21

15

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

28- ورضاؤه مقرون برضاء الله جلّ جلاله، قال تعالى: ﴿وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ﴾1.

29- وإيذاؤه مقرون بإيذاء الله سبحانه، قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾2.

30- وعهده مقرون بعهد الله تعالى، قال جلّ جلاله: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ﴾3.

(ستأتي تكملة لبعض الخصائص في الدرس التاسع "دفاعٌ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم " ص116)
 

1- سورة التوبة، الآية: 62.
2- سورة الأحزاب، الآية: 57.
3- سورة التوبة، الآية: 7.
 
22

16

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

 يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ1 
  

1- سورة آل عمران، الآية:31.
 
 
23
  

 






 
 

17

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

تمهيد
ورد في سبب النزول أنّه ادعى جمع من الحاضرين في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّهم يحبّون الله، مع أنّ العمل بتعاليم الله كان أقلّ ظهوراً في أعمالهم. فنزلت هاتان الآيتان بشأنهم1.

تقول الآية أنّ الحبّ لا يكون بالارتباط والميل القلبيّ فحسب، بل يجب أن تظهر آثاره في عمل الإنسان. فإنّ دعوى الحبّ لله إذا كانت صادقة ينبغي أن تظهر وتتجلّى في أعمال الشخص الّذي يدّعيه، هل يتبع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حقّاً أم لا: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي2.

فإنّ من آثار الحبّ واقعاً ميل وانجذاب المحبّ نحو المحبوب، في أقواله وأفعاله وأعماله، بحيث يستجيب المحبّ للمحبوب في كلّ أوامره ونواهيه، وإلّا لو كان المحبّ للمحبوب عاصياً ومتمرّداً، فهذه علامة على أنّ حبّه غير حقيقيّ بل ادعائيّ لا يتجاوز لسانه.
  

1-  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل, الشيخ ناصر مكارم الشيرازي, ج2، ص 468.
2- سورة آل عمران، الآية:31.
 
 
25
 



 

18

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

وهذا ليس خاصّاً بمن نزلت فيهم الآيتان، بل يعمّ جميع العصور والشعوب، فإنّ الذّين يدّعون محبّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام والمجاهدين والشهداء والصالحين والمتّقين, ولكنّ أعمالهم أبعد ما تكون عن مشابهة أولئك, هم كاذبون. 

ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "ما أحبّ الله عزّ وجلّ من عصاه".

ثمّ قرأ الأبيات: 
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه               هذا لعمرك في الفعال بديع
لو كان حبّك صادقاً لأطعته                  إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع1


إذا كنّا حقّاً نحبّ الله بحيث ظهرت آثار ذلك الحبّ في أعمالنا وأخلاقنا، من خلال اتباع من فرض الله طاعته: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي2, فإنّ الله تعالى سيحبّنا أيضاً بالمقابل: ﴿يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾3, وسوف تظهر آثار حبّه لنا من خلال غفران الذنوب، وشمولنا برحمته الّتي وسعت كلّ شيء: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾4، وهذا معنى شفاعة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم.

فما هو معنى الحبّ؟
معنى الحبّ
فالحبّ: هو الوداد والمحبّة5 والميل الشديد، ويُقابله البغض والتنفّر. والتحبّب هو إظهار الودّ والحبّ.

فالحبّ: هو الميل القلبيّ والباطنيّ نحو المحبوب، فلا يكون الشيء محبوباً إلاّ إذا
  

1- البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني، ج 1، ص611.
2- سورة آل عمران، الآية:31.
3- سورة آل عمران، الآية:31.
4- سورة آل عمران، الآية:31.
5- لسان العرب لابن منظور، ج 1، ص 289. 
 
 
 
26
 

 

19

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

 مالت النفس إليه. وهذا الميل ذو درجات ومراتب، فإذا قوي هذا الميل واشتدّ سُمّي عشقاً1.

أي أنّ الحبّ هو تعلّق خاصّ وانجذاب مخصوص شعوريّ بين الإنسان وبين كماله2.

فمحبّة العبد لله تعالى لِما أنّ الذّات الإلهيّة هي الكمال المطلق غير المتناهي، والإنسان مفطور على حبّ الكمال والميل نحو كماله المطلق، ولا يرضى بكمال محدود حتّى يطلب كمالاً آخر أشدّ وجوداً وأكثر كمالاً.

وأما محبّة الله عبده فلِما أنّ الذات تحبّ آثارها، وصاحب الكمالات والأسماء الحسنى يحبّ مظاهر كماله وتجلّيات أسمائه، وكلّما كان الأثر أكثر دلالةً على ذي الأثر، والمظاهر على الكامل المطلق، اشتدّ الحبّ، والأثر لا يكون أكثر دلالةً على الذات إلّا بالطاعة والفناء بها، وكذا المظاهر والتجلّيات لا يشتدّ تجلّيها وظهورها إلّا بالقرب من المتجلّي والظاهر. فأحبّ الموجودات إلى الله تعالى هو أقربهم إليه من حيث الكمال والمظهريّة والتجلّي، وهو النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
 
درجات الحبّ
لمّا كان الحبّ عبارة عن تعلّق وجوديّ بين المحبّ والمحبوب، فهو يسري في جميع الموجودات، وهو من المفاهيم المشكّكة أي له مراتب متفاوتة من حيث الشدّة والضعف والدرجة والمرتبة، لذا مراتب الحبّ عديدة ويمكن ذكر بعضها: 
الدرجة الأولى: وهي ادعاء الحبّ على مستوى اللسان. وهذا ليس حبّاً حقيقيّاً، وليس درجة أو مرتبة حقيقيّة.
  

1- مـجمع البحرين للشيخ فخر الدين الطريحي، ج1، ص 442.
2- تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج1، ص 410.
 
 
 
27
 

 

20

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

الدرجة الثانية: وهي الحبّ بمعنى التعلّق القلبي والميل النفسيّ، وهذا قد يكون منشؤه العصبيّة والشعور بالانتماء، وليس هذا هو الحبّ المطلوب.

الدرجة الثالثة: الحبّ القلبيّ الحقيقيّ، بحيث يسري الحبّ من القلب إلى سائر الجوارح، فتظهر آثار هذا الحبّ في عمل الإنسان وأخلاقه وسيرته، وهذا هو الحبّ المطلوب.

وقد يشتدّ هذا الحبّ من خلال المتابعة والالتزام بالتعاليم النبويّة، حتّى يصير المحبوب مقدمّاً على الأولاد والعشيرة والممتلكات والتجارات وغير ذلك، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾1، وقال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾2.
 
حب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالعمل بأخلاقه
لما كان النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب الله تعالى, فكلّ من يدّعي المحبّة لله لزمه حبّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم واتباعه -كما سبق, ومحبّته إنّما تكون بمتابعته وسلوك سبيله, قولاً وعملاً وخُلُقاً وسيرةً وعقيدةً، ولا تصدق دعوى المحبّة إلّا بهذا, فمن لم يكن له من أخلاقه وسيرته‏ صلى الله عليه وآله وسلم نصيب، لم يكن له من المحبّة نصيب، وإذا تابعه حقّ المتابعة ناسب باطنه وسرّه وقلبه ونفسه باطن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسرّه وقلبه ونفسه.
 
من تجلّيات الحبّ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 
إنّش لحبّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تجلّيات وعلامات عدّة، منها: 

1- طاعة الله والعمل الصالح الموصل لمحبّة الله
يقول الله تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾3.
  

1- سورة البقرة، الآية: 165.
2- سورة المجادلة، الآية: 22.
3- سورة آل عمران، الآية:32.
 
 
28
 
 

21

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

أي ما دمتم تدّعون الحبّ لله, إذاً اتبعوا أمر الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم, وإن لم تفعلوا فلستم تحبّون الله, والله لا يحبّ هؤلاء ﴿فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾1.

ويستفاد من الآية أنّ إطاعة الله وإطاعة رسوله لا تنفصلان, وأن إطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي إطاعة الله, وإطاعة الله هي إطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولطاعة الله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم آثار عديدة، منها: 
أ- دخول الجنّة، قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ2.

ب- مرافقة النبيّين عليهم السلام والصدّيقين والشهداء، قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ﴾.
ج- الفوز، قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾3.

2- العمل بتعاليم وآداب الإسلام
فإنّ من علامة المحبّ العمل بما يحبّه محبوبه ويقرّبه منه، روى جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال لي: "يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلّا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلّا بالتواضع والتخشّع والأمانة، وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء".

قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة، فقال:
 

1- سورة آل عمران، الآية:32.
2- سورة النساء، الآية:13.
3- سورة النور، الآية: 52.
 
29
  

22

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

"يا جابر لا تذهبنّ بك المذاهب حسب الرجل أن يقول: أحبّ عليّاً وأتولاه ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالاً؟ فلو قال: إنّي أحبّ رسول الله، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرٌ من عليّ عليه السلام ، ثمّ لا يتّبع سيرته ولا يعمل بسنّته، ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ (وأكرمهم عليه) أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر والله ما يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلّا بالطاعة وما معنا براءة من النار ولا على الله لأحد من حجّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع"1.

يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنّ ادعاء المحبّة من دون دليل وبيّنة لا يكون مقبولاً، إذ لا يمكن أن أكون صديقك وأضمر لك الحبّ والإخلاص، ثمّ أقوم بكلّ ما هو مناقض لرغباتك وأهدافك. إنّ شجرة المحبّة تنتج وتثمر في الإنسان المحبّ، والعمل حسب درجة المحبّة ومستواها. فإذا لم تحمل تلك الشجرة هذه الثمرة فلا بدّ من معرفة أنّها لم تكن محبّة حقيقيّة، وإنّما هي محبّة وهميّة.. فمحبّ أهل البيت عليهم السلام هو الّذي يشاركهم في أهدافهم، ويعمل على ضوء أخبارهم وآثارهم... وإنّ المؤمن إذا لم يعمل بمتطلّبات الإيمان وما تستدعيه محبّة الله وأوليائه، لما كان مؤمناً ومحبّاً، وإنّ هذا الإيمان الشكليّ والمحبّة الجوفاء من دون جوهر ومضمون"2.

3- زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 
لا يخفى على أحد ما للزيارة من ترسيخ علاقة أو ارتباط وتعلّق بمن نزوره، فكيف لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنّه الوسيلة إلى الله والشعيرة الّتي أُمرنا بتعظيمها: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾3.


1- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص75.
2- الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 512.
3- سورة الحجّ، الآية: 32.
 
30
 

23

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

وقد ورد في فضل وثواب زيارة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم روايات عدّة، منها ما عن الإمام الرضا عليه السلام: يا أبا الصلت إنّ الله فضّل نبيّه محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم على جميع خلقه من النبيّين والملائكة، وجعل طاعته طاعته، ومتابعته متابعته، وزيارته في الدنيا والآخرة زيارته، فقال: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ1، وعن: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾2، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله"3.

وعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أتاني زائراً كنت شفيعه يوم القيامة"4.

وعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "بينا الحسين بن عليّ في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ رفع رأسه فقال: يا أبه ما لمن زارك بعد موتك؟ فقال: يا بنيّ من أتاني زائراً بعد موتي فله الجنّة، ومن أتى أباك زائراً بعد موته فله الجنّة، ومن أتى أخاك زائراً بعد موته فله الجنّة. ومن أتاك زائراً بعد موتك فله الجنّة"5.

عن الإمام محمّد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من زارني أو زار أحداً من ذريّتي زرته يوم القيامة فأنقذته من أهوالها"6.

4- دفع الأذى عنه صلى الله عليه وآله وسلم 
يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت"7.
 
فقد نال صلى الله عليه وآله وسلم من أمّته- أعمّ من كفّارهم ومؤمنيهم ومنافقيهم- من المصائب
  

1- سورة النساء، الآية: 80.
2- سورة الفتح، الآية: 10.
3- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج14، ص 325.
4- م.ن، ج14، ص 333.
5- م. ن، ج14، ص 329.
6- م. ن، ج14، ص 332.
7- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج39، ص 56.
 
 
31









 

24

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

والمحن وأنواع الزجر والأذى ما ليس في وسع أحد أن يتحمّله إلّا نفسه الشريفة1.

وهو - أرواحنا فداه - ما زال يتمّ توجيه الأذى والإساءة إليه حتّى بعد رحيله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما في زماننا هذا، سواء من قبل أعدائه أم من قبل بعض ممّن يدّعون اتباعه ومحبّته.

وكذلك ما نال عترته صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته بعد ارتحاله من قتل وظلم وجور.

فمن كان يدّعي الاتباع والمحبّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا ينبغي أن يظلم ويكفّر غيره من المسلمين باسم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الّذي قال الله عنه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ2، وعلى المسلمين منع إساءة المنكرين لنبوّته صلى الله عليه وآله وسلم ، فكيف يقومون هم بالإساءة؟! 
 
من آثار اتباع ومحبّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم 
1- محبّة الله
النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو مظهر المحبّة الإلهيّة، فيلزم أن يكون للمتابع والمطيع للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قسط من محبّة الله تعالى بقدر نصيبه من المتابعة والطاعة، فيلقي اللّه تعالى محبّته عليه بواسطة محبّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فيصير محبوباً لله، ومحبّاً له، ولو لم يتابع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بل خالفه، ابتعد عن وصف المحبوبيّة وزالت المحبّة عن قلبه، إذ لو لم يحبّه اللّه تعالى لم يكن محبّاً له، فيقع في الكفر: ﴿فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ3.

عن الإمام الصادق عليه السلام: "من سرّه أن يعلم أنّ الله يحبّه فليعمل بطاعة الله وليتّبعنا، ألم يسمع قول الله عزّ وجلّ لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ4؟، والله لا يطيع الله عبد أبداً إلّا أدخل الله عليه
  

1- تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج6، ص 53.
2- سورة الأنبياء، الآية: 107.
3- سورة آل عمران، الآية:32.
4- سورة آل عمران، الآية:31.
 
 
32
 

25

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

في طاعته اتباعنا، ولا والله لا يتبعنا عبد أبداً إلّا أحبّه الله، ولا والله لا يدع أحد اتباعنا أبداً إلّا أبغضنا، ولا والله لا يبغضنا أحد أبداً إلّا عصى الله، ومن مات عاصياً لله أخزاه الله وأكبّه على وجهه في النار"1

وعنه عليه السلام: "فمن أحبّ الله أحبّه الله عزّ وجلّ، ومن أحبّه الله عزّ وجلّ كان من الآمنين"2.

2- غفران الذنوب
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ3.

إذا أحبّ الله عبداً غفر له ذنوبه وشملته رحمته، لأنّ محبّة الله عبده رضاه عنه، وهو سبب لغفران ذنوبه وكمال فوزه بالسعادة العظمى وكمال نور إيمانه ووجوب الجنّة له، فإذاً من آثار محبّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم غفران الذنوب.

عن الإمام أبي جعفر عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام - في خطبة له - قال: "وقال في محكم كتابه: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾4 فقرن طاعته بطاعته، ومعصيته بمعصيته، فكان ذلك دليلاً على ما فوّض إليه، وشاهداً له على من اتبعه وعصاه. وبيّن ذلك في غير موضع من الكتاب العظيم، فقال تبارك وتعالى في التحريض على اتباعه، والترغيب في تصديقه والقبول لدعوته: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾5 فاتباعه صلى الله عليه وآله وسلم محبّة الله، ورضاه غفران الذنوب وكمال الفوز ووجوب الجنّة، وفي التولي عنه والإعراض محادّة الله وغضبه وسخطه. والبعد منه سكن
  

1- الكافي، الشيخ الكليني، ج8، ص 14.
2- الخصال، الشيخ الصدوق، ص188.
3- سورة البقرة، الآية: 222.
4- سورة النساء، الآية: 80.
5- سورة آل عمران، الآية:31.
 
34

26

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

مطالعة
 
حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 
كان أبو ذرّ رحمه الله تخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيّام، وذلك أنّ جمله كان أعجف، فلحق بعد ثلاثة أيّام ووقف عليه جمله في بعض الطريق، فتركه وحمل ثيابه على ظهره، فلمّا ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل، فقال رسول الله: كن أبا ذر، فقالوا: هو أبو ذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أدركوه بالماء فإنّه عطشان، فأدركوه بالماء ووافى أبو ذرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه إداوة1 فيها ماء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا ذرّ معك ماء وعطشت؟ فقال: نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمّي انتهيت إلى صخرة عليها ماء السماء فذقته فإذا هو عذب بارد، فقلت: لا أشربه حتّى يشربه حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا ذر رحمك الله تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، وتدخل الجنّة وحدك، يسعد بك قوم من أهل العراق، يتولّون غسلك وتجهيزك والصلاة عليك ودفنك2.
 

1- الإدواة: هي آلة لوضع الماء كالجراب.
2- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج21، ص215.
 
 
35
 
 
  
 

27

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مكارم الأخلاق

  
يقول الله تعالى في محكم كتابه: 

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا1.
  

1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
 
37
 

28

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مكارم الأخلاق

تمهيد
إنَّ أهمّ قدوة للإنسانية الأنبياء الكرام عليه السلام ، قال سبحانه: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾1.


ويقول سبحانه في خصوص نبيّنا الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾2.

وقد تعرّضت القدوة الحسنة من أعداء الإنسانيّة على مرّ التاريخ إلى الإساءة وحملات التشويه، ولم يستطيعوا ولن يستطيعوا حجب الشمس مهما حاولوا جاهدين.

فنور الأنبياء عليهم السلام ونور خاتمهم النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لم ولن ينطفىء. ونحن ذاكرون شيئاً من قبس نوره الّذي أضاء ظلمات عصره ولا يزال يُضيء عصرنا وإن تجاهله المتجاهلون والمتعصّبون وقصّر المقصّرون. 

بعض مكارم أخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم 
سلوكه الشخصي
أ-زهده صلى الله عليه وآله وسلم: 
إذا أردنا أن نكوِّن فكرة واضحة عن زهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علينا أن نعرف طعامه، ولباسه ومسكنه ومدّخراته.
 

1- سورة الأنعام، الآية: 90.
2- سورة الأحزاب، الآية: 21.
 
 
39

29

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مكارم الأخلاق

أمّا طعامه: فقد كان خبز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبز الشعير في أكثر أحيانه، وما أكل خبز طحين منخول حتّى قبض بل ما شبع من خبز الشعير قطّ.

أمّا طعامه: فقد كان خبز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبز الشعير في أكثر أحيانه، وما أكل خبز طحين منخول حتّى قبض بل ما شبع من خبز الشعير قطّ.

فعن العيص بن قاسم قال: قلت للصادق جعفر بن محمّد عليه السلام: حديث يروى عن أبيك‏ عليه السلام أنّه قال: "ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خبز برّ قط"، أهو صحيح؟ فقال: "لا، ما أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خبز برّ قط، ولا شبع من خبز شعير قط"1.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "ذُكر اللحم عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما ذقته منذ كذا"2.

ولشدّة زهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالدنيا تروي إحدى زوجاته فتقول: "ما زالت الدنيا علينا عسرة كدرة حتّى قُبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما قُبض صُبّت الدنيا علينا صبّاً"3.

وقالت: "والذي بعث محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحقّ ما كان لنا منخل ولا أكل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خبزاً منخولاً منذ بعثه الله إلى أن قُبض"4

وأمّا لباسه: فيكفينا أن نعلم أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كما تقول إحدى زوجاته: "ما اتّخذ من شي‏ء زوجين، لا قميصين ولا رداءين ولا إزارين، ولا من النعال، وكثيراً ما كان يلبس المرقّع من الثياب"5.

وأما مسكنه
يروي أمير المؤمنين عليه السلام فيقول: "كان فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عباءة وكانت مرفقته أدم حشوها ليف.. وكان كثيراً ما يتوسّد وسادة له من أدم حشوها ليف، ويجلس عليها، وكانت له قطيفة فدكيّة يلبسها يتخشّع بها، وكانت له قطيفة مصرية قصيرة الخمل، وكان له بساط من شعر يجلس عليه"6.
  

1-  الأمالي، الشيخ الصدوق ص 398.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 18، ص30.
3- م.ن، ج 16، ص 244.
4- سنن النبيّ، السيد الطباطبائي، ص 226.
5- امتاع الاسماع، المقريزي، ج2،ص 289.
6- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج16، ص 252.
 
 
40
 


 

30

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مكارم الأخلاق

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ رجلاً من الأنصار أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاعاً من رطب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للخادمة الّتي جاءت به: أُدخلي فانظري هل تجدين في البيت قصعة أو طبقاً فتأتيني به؟ فدخلت ثمّ خرجت إليه فقالت: ما أصبت قصعة ولا طبقاً، فكنس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثوبه مكاناً من الأرض ثمّ قال لها: ضعيه ها هنا على الحضيض! ثمّ قال: والّذي نفسي بيده لو كانت الدنيا تعدل عند الله مثقال جناح بعوضة ما أعطى كافراً ولا منافقاً منها شيئاً"1.

وأمّا مدّخراته: فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يدّخر شيئاً من المال ولا من الأشياء.

قال أنس بن مالك: "كان رسول الله لا يدخر شيئاً لغد"2

ويكفي أن نعلم أنّه صلى الله عليه وآله وسلم لمّا توفّي ما ترك إلّا سلاحه وبغلته ودرعاً مرهونة.

فعن ابن عباس قال: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توفّي ودرعه مرهونة عند رجل من اليهود على ثلاثين صاعاً من شعير أخذها رزقاً لعياله"3.

ب- منطقه صلى الله عليه وآله وسلم 
لقد اتّفق جميع الّذين وصفوا منطق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان أحسن الناس منطقاً.

وإذا أردنا أن نبحث عن مكوّنات حلاوة منطقه صلى الله عليه وآله وسلم وحسنه لحصلنا من ذلك على العناصر التالية: 
ترك الفاحش من القول: فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبّاباً ولا فحّاشاً. فقد روي أنّه قيل له: يا رسول الله أدع على المشركين! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنّي لم أُبعث لعّاناً وإنّما بُعثت رحمة4

وعن أنس بن مالك قال: "خدمت النبيّ تسع سنين فما قال لشي‏ء صنعت أسأتَ، ولا بئس ما صنعْتَ"5.


1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج16، ص 284.
2- الشفا بتعريف حقوق المصطفى، عياض الاندلسي، ج 1، ص 94.
3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج16، ص 239.
4- الدر المنثور، جلال الدين السيوطي، ج4، ص 342.
5- البداية والنهاية، ابن كثير، ج6، ص 26.
 
 
41
 

31

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مكارم الأخلاق

تبسّمه أثناء التكلّم: قال أبو الدرداء: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حدّث بحديث تبسّم في حديثه1.

تكليمه للناس على قدر عقولهم: وإلى هذا أشار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "إنَّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نُكلّم الناس على قدر عقولهم"2

سلوكه الاجتماعي 
أ- تواضعه صلى الله عليه وآله وسلم 
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النموذج المثالي الرائع في التواضع وبساطة العيش.

عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس حين يقعد"3.

وعنه عليه السلام أيضاً قال: "ما أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متّكئاً منذ أن بعثه الله عزّ وجلّ حتّى قُبض، وكان يأكل أكلة العبد ويجلس جلسة العبد"، قلت: ولم ذاك؟ قال: "تواضعاً لله عزّ وجلّ"4

وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلس على الأرض ويأكل على الأرض ويعتقل الشَّاة ويُجيب دعوة المملوك على خبز الشعير5

ومن تواضعه أنّه كان يبدأ بالسلام على الناس، وينصرف إلى محدّثه بكلّه: الصغير والكبير والمرأة والرجل.وكان آخر من يسحب يده إذا صافح، وإذا أقبل جلس حيث ينتهي به المجلس، لم يكن يأنف من عمل يعمله لقضاء حاجته أو حاجة صاحب أو جار أو مسكين، وكان يذهب إلى السوق، ويحمل بضاعته بنفسه، ولم يستكبر عن المساهمة في أيّ عمل يقوم به أصحابه وجنده، فقد ساهم في بناء المسجد في


1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج16، ص 298.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج1، ص 23.
3- م.ن، ج2، ص 662.
4- م. ن، ج6، ص 270.
5- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج12، ص 109.
 
42
  
 
 

 

32

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مكارم الأخلاق

المدينة وعمل في حفر الخندق في غزوة الأحزاب، وشارك أصحابه في جمع الحطب في أحد سفراته، وعندما قال له أصحابه نحن نقوم بذلك عنك قال صلى الله عليه وآله وسلم: "قد علمت أنّكم تكفوني ولكن أكره أن أتميّز عنكم، فإنّ الله يكره من عبده أن يراه متميّزاً عن أصحابه"1

ب- مدرسة الحلم والعفو
من أبرز ما اتّصفت به الأخلاق النبويّة هو الحلم عن أخطاء الآخرين والعفو عن سيّئاتهم.

قال أنس بن مالك: خدمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنين، فما سبَّني سبَّة قطّ، ولا ضربني ضربة، ولا انتهرني، ولا عبس في وجهي، ولا أمرني بأمر فتوانيت فيه فعاتبني عليه، فإن عاتبني عليه أحد من أهله قال: دعوه، فلو قُدّر شي‏ء كان2

وروي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما ضرب امرأة قطّ، ولا ضرب خادماً قطّ، ولا ضرب بيده شيئاً قطّ، إلّا أن يجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ، ولا نِيل منه فانتقم من صاحبه إلّا أن تُنتهك محارمه فينتقم3

وعن أنس أيضاً قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فأخذ بردائه فجبذه (جذبه) جبذة شديدة حتّى نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أثّرت به حاشية الرّداء من شدّة جبذته. ثمّ قال: يا محمّد مر لي من مال الله الّذي عندك.فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضحك وأمر له بعطاء4

ومن عظيم عفوه ما تجلّى يوم فتح مكة، فبالرغم من القسوة والوحشية اللّتين عومل بهما جسد عمّه حمزة بن عبد المطلب في معركة أُحُد، لم يلجأ إلى الانتقام
 

 
1- امتاع الاسماع، المقريزي، ج2، ص 188.
2- م.ن، ج2، ص 236.
3- أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج1، ص 222.
4- ميزان الحكمة، الشيخ الريشهري، ج4، ص 3225.
 
 
43

33

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مكارم الأخلاق

من وحشي قاتل حمزة، ولا من هند زوجة أبي سفيان الّتي مثّلت في جسده، مع أنّهما كانا في قبضته وكان يستطيع معاقبتهما والنيل منهما.

كما أنّه صلى الله عليه وآله وسلم عفى عن أهل مكّة يوم الفتح ووقف منهم موقفاً رحيماً بالرغم من كلِّ العذاب والمعاناة والآلام وأنواع الأذى الّذي صبّته قريش عليه وعلى المسلمين قبل الهجرة وبعدها، وبالرغم من مؤامراتها وحروبها وإرهابها فإنّه صلى الله عليه وآله وسلم وقف على باب الكعبة بعد الفتح مخاطباً أهل مكة: "ما ترون أنّي فاعل بكم"؟ قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم. قال: "فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء".

وعندما قال أحد أصحابه: اليوم يوم الملحمة اليوم تُسبى الحرمة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "اليوم يوم المرحمة اليوم تراعى الحرمة"1

بهذه النفس الرحيمة، وبهذا الخلق الرفيع والسلوك الحضاري الّذي لم يعرف التاريخ له نظيراً يعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشدّ الناس عداوة له، بعد أن تمكّن منهم ومن رقابهم، إنّه الخلق النبويّ المحمّدي الأصيل.

سلوكه العائلي
أ- علاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنسائه: 
كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلاً أعلى في شتّى ألوان تعامله وأنماط سلوكه، كان كذلك في علاقاته بأزواجه.

وهذه بعض أساليب تعامله مع أزواجه: 
1- التزام العدل الكامل في معاملتهنّ في: 
النفقة والمسكن والملبس والمبيت والزيارات والوقت، فبالرغم من أنّه‏ صلى الله عليه وآله وسلم كانت في أزواجه الشابّة والجميلة والمسنّة والعاديّة في جمالها، لكن ذلك لا يصرفه بحال عن التزام أعلى درجات الكمال في العدل بينهنّ، فلا تفضيل لواحدة على أُخرى.
 

1- انظر: الأنوار العلوية، الشيخ جعفر النقدي، ص 201.
 
44
  
 

34

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مكارم الأخلاق

لقد خصّص لكلّ واحدة منهنّ ليلة، وكان إذا زار إحداهن زار الجميع بعد ذلك، وإن عزم على سفر من أجل جهاد أو حجّ أقرع بين نسائه، فيصحب من تفوز بقرعته، حتّى لا يؤذي قلوبهن إن اختار واحدة اختياراً من عنده1

2- مداراته لأزواجه ورعايتهنّ بالرفق والحبّ: 
فبالرغم من كثرة مضايقات بعض نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم له، فإنّ ذلك لم يصرفه عن التزام الرفق والشفقة والعدل في معاملتهن، حتّى أنّه لم يضرب واحدة منهن طوال حياته، وإلى هذا أشارت إحدى نسائه بقولها: ما ضرب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم امرأة قطّ، ولا ضرب خادماً2

ومن أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم في إطار بيته أنّه لا يأنف أبداً من مساعدة زوجاته، سواء فيما يتعلّق بالشؤون الخاصّة به، أم ما يتعلّق بهنّ.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ألا خيركم خيركم لنسائه، وأنا خيركم لنسائي".
"خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"3.
"خدمتك زوجتك صدقة"4.

ب- الأب المثالي: 
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعامل أولاده بكلّ عطف ومحبّة ورفق ولين، وكان يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "أولادنا أكبادنا"5. وكان يسعى في تربيتهم وتعليمهم آداب الإسلام.
 
فقد روي: أنّ السيّدة فاطمة عليه السلام كانت إذا دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام لها من مجلسه وقبّل رأسها، وأجلسها في مجلسه، وإذا جاء إليها لقيته، وقبّل كلّ واحد منهما صاحبه وجلسا معاً6
 

 
1- انظر: بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج20، ص310.
2- ميزان الحكمة، الشيخ الريشهري، ج4، ص 3231.
3- مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي، ص 216.
4- كنز العمال، المتقي الهندي، ج16، ص 408.
5- ميزان الحكمة، ج4، ص 3669.
6- انظر: بحار الأنوار، ج43، ص40.
 
 
45
  
 


  

 


35

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مكارم الأخلاق

وكان يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "فاطمة بضعة منّي وهي قلبي وهي روحي الّتي بين جنبي، من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله"1.

وكان الحسن والحسين عليهما السلام وهما صغيران يعلوان ظهر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو ساجد يصلّي فكان يُطيل سجوده حتّى ينزلا عن ظهره، أو ينزلهما برفق2

وروي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قبَّلَ الحسن والحسين عليه السلام فقال الأقرع بن حابس: إنّ لي عشرة من الأولاد ما قبّلت واحداً منهم قطّ!

فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى التمع لونه وقال للرجل: "إن كان الله قد نزع الرحمة من قلبك فماذا أصنع لك"3

وعن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب على المنبر فجاء الحسن والحسين عليه السلام وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ثمّ قال: ﴿أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾4

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطف حتّى على أطفال الآخرين، ويعاملهم بمنتهى الرفق واللين ويمنحهم شخصيّة قويّة ويحتضنهم ويمسح على رؤوسهم، ولا يُحقّر أحداً منهم.

فقد روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يؤتى إليه بالصبيّ الصغير ليدعو له بالبركة أو يسمّيه، فيأخذه فيضعه في حجره إكراماً لأهله، فربّما بال الصبيّ عليه، فيصيح بعض من يراه حين يبوّل فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزرموا بالصبيّ" فيدعه حتّى يقضي بوله، ولا يظهر انزعاجه أمام أهله من بول صبيّهم، فإذا انصرفوا غسل ثوبه5
 

1- انظر: بحار الأنوار، ج43، ص 172.
2- مكاتيب الرسول، احمد الميانجي، ج1، ص 569.
3- انظر: بحار الأنوار، ج101، ص 92.
4- سورة الأنفال، الآية: 28. بحار الأنوار، ج43، ص 284.
5- انظر: مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي، ص 25.
 
46

 

36

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مكارم الأخلاق

وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدم من سفر تلقّاه الصبيان، فيقف لهم ثمّ يأمر بهم فيرفعون إليه فيرفع منهم بين يديه ومن خلفه، ويأمر أصحابه أن يحملوا بعضهم، فربما يتفاخر الصبيان بعد ذلك فيقول بعضهم لبعض: حملني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين يديه وحملك أنت وراءه، ويقول بعضهم: أمر أصحابه أن يحملوك وراءهم1

ومما يبيّن مدى اهتمام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالأطفال ومنحهم الشخصيّة الكاملة واحترامهم، ما رواه الإمام الصادق‏ عليه السلام قال: "عطس غلام لم يبلغ الحلم عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: الحمد لله"، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "بارك الله فيك"2

لن يطفئوا نور محمّد صلى الله عليه وآله وسلم 
ما أحوجنا اليوم إلى تذكّر رسول الله إلى تذكّر خلقه العظيم وصبره وزهده وتواضعه وحلمه وعفوه ومحبّته ورقّته وحنانه ورأفته: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.

رسول الله محمّد الّذي يُحاوَل اليوم تشويه صورته وإطفاء نوره بعد أن رأى الأعداء إقبال كثير من الناس الغربيّين على الإسلام، أرادوا تشويه صورته البهيّة- ليبعدوا الناس عن نور الإسلام ونبيّه - وهذا مخطّط قديم وليس بجديد.

ففي كلام لأحد رجالات إنجلترا المعروفين -"كلودستون" الّذي يُعتبر من السياسيّين المتفوّقين في عصره- قال أمام جمع من الغربيّين: "ما دام اسم النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم يُرفع على المآذن، وما دامت الكعبة باقية وما دام القرآن يهدي ويوجّه المسلمين، فلا يمكن أن تترسّخ قواعد سياسة الإنجليز في الأراضي الإسلامية".

ولكن رغم كيدهم: سيبقى ذكر النبيّ محمّد على ألسنتنا، وسيبقى نوره في قلوبنا، وستبقى أخلاقه في أخلاقنا، وسيبقى اسم النبيّ محمّد مرفوعاً على المآذن: "أشهد أنّ محمّداً رسول الله، أشهد أنّ محمّداً رسول الله".
 

1- انظر: المحجّة البيضاء، الفيض الكاشاني، ج3، ص 366.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 655.
 
 
47

37

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مكارم الأخلاق

نقول للكائدين للإسلام ونبيّه كما قالت السيّدة زينب عليها السلام ليزيد: "فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك، فوالله لن تمحو ذكرنا ولن تميت وحينا وما رأيك إلّا فند وأيّامك إلّا عدد..."1

﴿وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾2
  
مطالعة
ومن تاب معك
لقد جاء في القرآن الكريم في سورة هود: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾3. وجاء في الحديث الشريف أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "شَيَّبَتْنِي سُورَةُ هُود لِمَكَانِ هذِهِ الآيةِ"4.

يقول الشيخ العارف الكامل الشاه آبادي روحي فداه "هذا، على الرغم من أنّ هذه الآية قد جاءت في سورة الشورى أيضاً، ولكن من دون "وَمَنْ تَابَ مَعكَ" إلّا أنّ النبيّ خصّ سورة هود بالذكر، والسبب أنّ الله تعالى طلب منه استقامة الأمة أيضاً، فكان يخشى أن لا يتحقّق ذلك الطلب، وإلّا فإنّه بذاته كان أشدّ ما يكون استقامة، بل لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم مثال العدل والاستقامة".

إذاً، يا أخي، إذا كنتَ تعرف أنّك من أتباع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وتريد أن تحقّق هدفه، فاعمل على أن لا تخجله بقبيح عملك وسوء فعلك. ألا ترى أنّه إذا كان أحد من أولادك والمقرّبين إليك يعمل القبيح وغير المناسب من الأعمال الّتي تتعارض وشأنك، فكم سيكون ذلك مدعاة لخجلك من الناس وسبباً في طأطأة رأسك أمامهم؟ ولا بدّ أن 


1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج45، ص 135.
2- سورة التوبة، الآية: 32.
3- سورة هود، آية 112.
4- تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج5،ص 140.
 
 
48




 

38

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مكارم الأخلاق

 تعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعليّ عليه السلام ، هما أبوا هذه الأمّة بنصّ ما قاله النبيّ الكريم: "أنا وَعَلِيّ أَبَوا هذِهِ الأُمَّة"1. فلو أُحضرنا في حضرة ربّ العالمين يوم الحساب وأمام نبيّنا وأئمّتنا، ولم يكن في كتاب أعمالنا سوى القبيح من الأعمال، فإنّ ذلك سوف يصعب عليهم ولسوف يشعرون بالخجل في حضرة الله والملائكة والأنبياء عليهم السلام. وهذا هو الظلم العظيم الّذي نكون قد ارتكبناه بحقّهم، وإنّها لمصيبة عظمى نبتلى بها، ولا نعلم ما الّذي سيفعله الله بنا؟ فيا أيّها الإنسان الظلوم الجهول، يا من تظلم نفسك! كيف تكافئ أولياءك الّذين بذلوا أموالهم وأرواحهم في سبيل هدايتك، وتحمّلوا أشدّ المصائب، وأفظع القتل، وأقسى السبي لنسائهم وأطفالهم من أجل إرشادك ونجاتك؟ فبدلاً من أن تشكرهم على ما فعلوا وتحفظ لهم أياديهم البيض نحوك، تقوم بظلمهم ظنّاً منك أنّك إنّما تظلم نفسك وحدها! استيقظ من نوم الغفلة، واخجل من نفسك، واتركهم يعانون من الظلم الّذي تحمّلوه من أعداء الدِّين من دون أن تُضيف على ظلامتهم ظلامة أخرى، لأنّ الظلم من المحبّ أشدّ ألماً وأكثر قبحاً!.2
 

1- بحار الأنوار، ج 36، ص 11.
2- الأربعون حديثاً،الإمام الخميني قدس سره، ص192-193.
 
 
49
 

39

ألم يجدك يتيماً فآوى

 يقول الله تعالى في محكم كتابه:

﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾1
  

1- سورة الضحى، الآيات: 1 11.
 
 
 
51
 

40

ألم يجدك يتيماً فآوى

تمهيد
كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوحي بين الفترة والأخرى، يسمعه كلام الله يثبّت به فؤاده، ويؤنسه ويفرحه، ويوصل إليه التعاليم الإلهيّة والإرشادات الربّانية، فكان يجد بذلك رسول الله أنساً لوحشته، وعوناً في تبليغ رسالته، وسكناً يرتاح إليه، وفجأة انقطع عنه الوحي لفترة من الزمن، لحكمة إلهيّة يعلمها الله ورسوله، فأثّر ذلك في قلب رسول الله واستوحش فيها لفقد كلام حبيبه، ومما زاد على قلب رسول الله أن بدأ بعض المنافقين يعيّرونه بذلك، ويؤذونه بأنّ الله قد قلاه وبغضه وودّعه وتركه، فكان أن أرسل الله إليه جبرائيل عليه السلام يسكّن اضطراب قلبه المشتاق، فكانت سورة الضحى.

ففي الرواية عن ابن عباس أنّه قال: احتبس الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسة عشر يوماً، فقال المشركون إنّ محمّداً قد ودّعه ربّه وقلاه، ولو كان أمره من الله تعالى لتتابع عليه، فنزلت السورة وروي أنّه لما نزلت السورة قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لجبرائيل عليه السلام: "ما جئت حتّى اشتقت إليك، فقال جبرائيل عليه السلام: وأنا كنت أشدّ إليك شوقاً ولكنّي عبد مأمور وما نتنزّل إلّا بأمر ربّك"1.


1- الكافي، الشيخ الكليني، ج6،ص492.
 
 
53
 
 

41

ألم يجدك يتيماً فآوى

النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تغمره ألطاف اللّه 
في بداية السورة المباركة يوجد قَسَمان: الأوّل قسم بالنور، والثاني قسم بالظلمة، ويقول سبحانه والضحى وهو قسَم بالنهار - حين تغمر شمسه كلّ مكان. والليل إذا سجى أي إذا عمّت سكينته كلّ مكان. "الضحى" يعني أوائل النهار، أي حين يرتفع قرص الشمس في كبد السماء، ويعمّ نورها الأرض، وهو في الحقيقة أفضل ساعات النهار، لأنّه شباب النهار، وفيه لا يكون الجوّ حارّاً في فصل الصيف، ويكون الدفء قد عمّ في فصل الشتاء وتصبح خلاله روح الإنسان مستعدّة لممارسة النشاط.


﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى1 أي سكن، والليلة الخالية من الرياح تسمّى "ليلة ساجية" أي هادئة2، والبحر حين يستقر ويخلو من الأمواج الصاخبة يسمّى "بحر ساج"3.

والمهمّ في الليل هدؤوه وسكينته ممّا يضفي على روح الإنسان وأعصابه هدوءاً وارتياحاً، ويعدّ الإنسان لممارسة نشاط يوم غد، وهو لذلك نعمة مهمّة استحقّت القسَم بها. وبين القسمين ومحتوى السورة تشابه كبير وارتباط وثيق. النهار مثل نزول نور الوحي على قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، والليل كانقطاع الوحي المؤقت، وهو أيضاً ضروريّ في بعض المقاطع الزمنيّة. وبعد القسمين، يأتي جواب القسم، فيقول سبحانه: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى4. "قلى" من "قلا" - على وزن صدا -، وهو شدّة البغض5.

وفي هذا التعبير سكن لقلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتسلية له، ليعلم أنّ التأخير في نزول الوحي إنّما يحدث لمصلحة يعلمها الله تعالى، وليست - كما يقول أعداء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم 


1- سورة الضحى، الآية: 2.
2- تاج العروس،ج19،ص508.
3- لسان العرب،ج14،ص371.
4- سورة الضحى، الآية: 3.
5- مفردات الراغب،ص412.
 
 
 
54
 
 

42

ألم يجدك يتيماً فآوى

- لترك الله نبيّه أو لسخطه عليه. فهو مشمول دائماً بلطف الله وعنايته الخاصّة، وهو دائماً في كنف حماية الله سبحانه.

والله تبارك وتعالى يتابع خطابه لمحبوبه فيقول له: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى﴾1، فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الدنيا مشمول بألطاف الله تعالى، وفي الآخرة أكثر وأفضل. وهو آمن من غضب الله في الأمد القريب والبعيد.

وباختصار هو عزيز في الدنيا والآخرة، وقيل إنّ "الآخرة" و "الأولى" يشيران إلى بداية عمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ونهايته، أي إنّك ستستقبل في عمرك نصراً ونجاحاً أكثر ممّا استدبرت. 

الهبة الإلهيّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مقام الرضا 
تأتي البشرى للنبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم لتقول له: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾2، وهذا أعظم إكرام وأسمى احترام من ربّ العالمين لعبده المصطفى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. فالعطاء الربّاني سيغدق عليه حتّى يرضى و حتّى ينتصر على الأعداء ويعمّ نور الإسلام الخافقين، كما أنّه سيكون في الآخرة أيضاً مشمولاً بأعظم الهبات الإلهيّة.

والنبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره خاتم الأنبياء عليهم السلام، وقائد البشريّة، لا يمكن أن يتحقّق رضاه في نجاته فحسب، بل إنّه سيكون راضياً حين تقبل منه شفاعته في أمّته. ومن هنا جاءت الروايات لتؤكد أن هذه الآية أكثر آيات القرآن الكريم دلالة على قبول الشفاعة منه عليه وآله أفضل الصلاة والسلام. فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أشفع لأمّتي حتّى يناديني ربّي: أرضيت يا محمّد؟ فأقول: نعم يا ربّ رضيت"3.


1- سورة الضحى، الآية: 4.
2- سورة الضحى، الآية: 5.
3- الميزان للطباطبائي، ج20، ص 308.
 
 
55

43

ألم يجدك يتيماً فآوى

الشكر على كلّ هذه النعم الإلهيّة 
إنّ الهدف من هذه السورة المباركة تسلية قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبيان ألطاف الله الّتي شملته، وهذه الآيات المذكورة أعلاه تجسّد للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث هبات من الهبات الخاصّة الّتي أنعم الله بها على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمّ تأمره بثلاثة أوامر.

﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾1: فقد كنت في رحم أمّك حين توفّي والدك فآويتك إلى كنف جدّك عبد المطلب "سيّد مكّة". وكنت في السادسة حين توفيّت والدتك، فزاد يتمك، لكنّني زدت حبّك في قلب "عبد المطلب". وكنت في الثامنة حين رحل جدّك "عبد المطلب"، فسخّرت لك عمّك "أبا طالب"، وليحافظ عليك كما يحافظ على روحه. نعم، كنت يتيماً فآويتك.

2ـ ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى2: نعم، لم تكن أيّها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على علم بالنبوّة والرسالة، ونحن أنزلنا هذا النور على قلبك لتهدي به الإنسانيّة، وهذا المعنى ورد في قوله تعالى أيضاً: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا3.

﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى4. لقد جعلناك تستأثر باهتمام "خديجة" هذه المرأة المخلصة الوفية لتضع كلّ ثروتها تحت تصرفك ومن أجل تحقيق أهدافك، وبعد ظهور الإسلام رزقك مغانم كثيرة في الحروب ساعدتك في تحقيق أهدافك الرسالية الكبرى. 

وقد ورد عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام في تفسير هذه الآيات قال: 
﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى5، قال: "فرداً لا مثيل (له) في المخلوقين، فآوى


1- سورة الضحى، الآية: 6.
2- سورة الضحى، الآية: 7.
3- سورة الشورى، الآية: 52.
4- سورة الضحى، الآية: 8.
5- سورة الضحى، الآية: 6.
 
 
56
 

44

ألم يجدك يتيماً فآوى

الناس إليك. ووجدك ضالاً أي ضالة في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك. ووجدك عائلاً، تعول أقواماً بالعلم فأغناهم بك"2،1.

إنّ هذه الآيات في الواقع هي بيان ما أغدق الله على نبيّه من ألطاف وإكرام واحترام، حين يتحدّث المحبوب عن ألطافه بحقّ العاشق الواله، فإنّ حديثه هذا هو عين اللطف والمحبّة، وهو دليل على عنايته الخاصّة، والعاشق بسماعه هذه الألفاظ تسري في جسده روح جديدة، وتصفو نفسه ويغمر قلبه سكينة وهدوء.

فقد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأبويه 
لقد شاءت الإرادة الإلهيّة أن يفقد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أباه وهو لا يزال جنيناًً. ثمّ فقد أمّه بعد عودته من بني سعد، وهو في الرابعة من عمره، أو في السادسة، على اختلاف الروايات. وقد استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربّه في زيارة قبر أمّه، فأذن له. فقد روى مسلم في صحيحه، أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "استأذنت ربّي في زيارة أمّي، فأذن لي، فزوروا القبور تذكّركم الموت"3.

﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ4: أي لا تحقّر، وهذا يدلّ على أن هناك مسألة أهمّ من الإطعام والإنفاق بشأن الأيتام، وهي اللطف بهم والعطف عليهم وإزالة إحساسهم بالنقص العاطفي، ولذا جاء في الحديث المعروف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من مسح رأس يتيم، كانت له بكلّ شعرة مرّت عليها يده حسنات"5. كأن الله يخاطب نبيّه قائلاً: لقد كنت يتيماً أيضاً وعانيت من آلام اليتم، والآن عليك أن تهتمّ بالأيتام كلّ اهتمام وأن تروي روحهم الظمأى بحبّك وعطفك.
  

1- بحار الانوار،ج16،ص139.
2- راجع: تفسير الأمثل، ج 20، ص 280 283.
3- كشف الغمة، ج 1، ص 16، عن مسلم، وصحيح مسلم ط سنة 1334،ج 3،ص 65، وتاريخ الخميس، ج،1 ص 335، والحديث موجود في مصادر عديدة كما يظهر من مراجعة كتاب الجنائز في كتب الحديث. 
4- سورة الضحى، الآية: 9.
5- مستدرك الوسائل، ج1، ص 148.
 
 
57
 
 

45

ألم يجدك يتيماً فآوى

وقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم انّه قال: "إذا بكى اليتيم وقعت دموعه في كف الرحمن"1

﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾2. فلا تردّه بخشونة، واعطف عليه وارحمه وأحسن ملقاه. 

﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾3، فقد كان النبيّ يحدّث الناس بنعم الله تعالى عليه قولاًش وفعلاً.

كفالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم 
لقد عاش صلى الله عليه وآله وسلم في كنف جدّه عبد المطلب، الّذي كان يرعاه خير رعاية، ولا يأكل طعاماً إلّا إذا حضر، وكان عارفاً بنبوّته حتّى روي أنّه قال عنه لمن أراد أن ينحّيه عنه، وهو طفل يدرج: "دع ابني فإنّ الملك قد أتاه"4

في السنة الثامنة من عمره صلى الله عليه وآله وسلم توفّي جدّه عبد المطلب، فاختار الله له أبا طالب رحمه الله ليكفله، ويقوم بشؤونه، ويحرص على حياته، رغم أن أبا طالب لم يكن أكبر ولد عبد المطلب سنّاً، ولا أكثرهم مالاً، لأنّ الأسنّ فيهم كان هو الحارث، والأكثر مالاً هو العبّاس. ولكن عذر العبّاس هو أنّه كان حينئذ صغيراً أيضاً، لأنّه كان أسنّ من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بسنتين فقط، كما يقولون.

كما أنّ أبا طالب قد كان شقيق عبد الله والد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأبيه وأمّه، فإنّ أمّهما هي فاطمة المخزومية، وطبيعيّ أن يكون لأجل ذلك أكثر حناناً وعطفاً عليه وحبّاً له. ثمّ إنّ أبا طالب الّذي كان هو وزوجته أم أمير المؤمنين عليه السلام يحملان نور الولاية، قد كانا يحملان من المكارم والفضائل النفسيّة والمعنويّة ومن الطهارة ما يؤهّلهما لأن يكونا كفيلين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبوين لوصيّه، وللأئمّة من ذرّيته. وقد عهد عبد المطلب إلى أبي طالب عليه السلام بمهمّة كفالته صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنّه كان بالإضافة إلى ما تقدّم أنبل إخوته، وأكرمهم،
  

1- تفسير الفخر الرازي، ج 31، ص 219.
2- سورة الضحى، الآية: 10.
3- سورة الضحى، الآية: 11.
4- الكافي،ج 1، ص 372. 
 
 
58
 

46

ألم يجدك يتيماً فآوى

وأعظمهم مكانة في قريش، وأجلّهم قدراً. ولقد قام أبو طالب عليه السلام برعايته صلى الله عليه وآله وسلم خير قيام، ولم يزل يكرمّه ويحبّه غاية الحبّ، وينصره بيده ولسانه طول حياته.

القيادة المنطلقة من المعاناة والآلام 
الآيات الكريمة في هذه السورة، ضمن سردها النعم الإلهيّة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، تعكس أيضاً مسألة يتم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في صباه، وظروفه الماديّة الصعبة الّتي عاناها، والأتعاب والآلام الّتي قاساها، وقد انطلق من بين هذه الآلام، وعلى القائد الإلهيّ الإنسانيّ أن يدرك صعوبة ومرارة العيش، ويتلمّس بنفسه الظروف القاسية، ويشعر بكلّ وجوده الحرمان، كي يستطيع أن يتفهّم صحيح ما تعانيه الفئات المحرومة، ويتحسّس آلام الناس ومعاناتهم في معيشتهم. عليه أن يشعر بآلام الأطفال الأيتام، أن يبقى كي يعيش آلام الجياع، ويتحمّل أتعاب المحرومين والمظلومين، لذلك كانت تغرورق عيناه بالدموع حين يرى يتيماً، وكان يضمّ ذلك اليتيم إلى صدره ويداعبه بكلّ حرارة.
 
والقائد الربانيّ كنبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم كان يتفهّم ما يعانيه مجتمعه من فقر ثقافي، ويعتزّ بكلّ من يأتيه لطلب المعرفة أو العلم، ويستقبله بصدر رحب. 

النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم راعياً للغنم 
في حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: "ما بعث الله نبيّاً قط حتّى يسترعيه الغنم يعلّمه بذلك رعيّة الناس"1.

إنّ في رعي الغنم دروساً في تحمّل الآلام، وفي الصبر أمام موجود ضعيف قليل الشعور، كما أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم استلهام دروس التوحيد والعرفان من خلال حياة الصحراء والعيش في أحضان الطبيعة. وفي رواية أن موسى بن عمران عليه السلام سأل ربّه عن سبب اختياره لمقام النبوّة، فجاءه الجواب: "أتذكر يوماً أنّ حملاً قد فرّ
 

1- مستدرك الوسائل، ج 9، ص 514.
 
 
59
 

47

ألم يجدك يتيماً فآوى

من قطيع غنمك فتبعته حتّى أخذته ثمّ قلت له: لماذا أتعبت نفسك، ثمّ حملته على كتفك، وجئت به إلى القطيع، ولذلك اخترتك راعياً لخلقي"1، وهذا يعني أنّ الله تعالى رأى في النبيّ موسى عليه السلام قدرة فائقة على التحمّل تجاه هذا الحيوان ممّا يدلّ على قوة روحيّة فائقة أهلته لهذه المنزلة الكبيرة.

لماذا الرضاع في البادية؟
كان إرسال الأطفال إلى البادية للرضاع، هو عادة أشراف مكّة، حيث يرون أنّ بذلك ينشأ أطفالهم: أصحّ أبداناً، وأفصح لساناً، وأصفى فكراً وقريحة، وهي نظرة صحيحة وسليمة، وذلك لما يلي: 
أ-أمّا كونهم: أصحّ أبداناً، فلأنّهم يعيشون في الهواء الطلق، ويواجهون مصاعب الطبيعة فتصير لديهم مناعة طبيعيّة تجاه مختلف المتغيّرات، في مختلف الظروف. 

ب- وكونهم أفصح لساناً، من حيث إنّهم يقلّ اختلاطهم بأهل الأقطار الأخرى، من الأمم الأخرى، على العكس من سكّان المدن، ولا سيّما مكّة، الّتي كانت تقيم علاقات تجاريّة بينها وبين سائر الأقطار والأمم. ولها رحلتا الشتاء والصيف، إلى البلاد الّتي تتاخم البلاد الأجنبيّة، الّتي لا يبعد تأثّرها بها - قليلاً كان ذلك أو كثيراً-. 

ج - وأمّا أنّهم أصفى فكراً وقريحة، فهو لأنّ الإنسان يبتعد حينئذ عن هموم المدينة، وعن علاقاتها المعقّدة والمرهقة، حيث لا يواجه في البادية إلّا العيش الساذج والبسيط، والحياة على طبيعتها. ولا يتأثّر فكره وعقله، بالمفاهيم والأفكار الّتي تفرضها تلك الحياة المثقلة بالعلاقات المنحرفة، ثمّ هو يجد الفرصة للتأمّل والتفكير والتعرّف على أسرار الطبيعة والكون، ولو في حدود عالمه الناشئ المحدود، ومداركه الناشئة أيضاً. وليكون من


1- تفسير الامثل،ج20،ص287.

60

 

48

ألم يجدك يتيماً فآوى

ثمّ ذا فكر مبدع خلاّق، وقريحة صافية وغنيّة. ولكن بشرط عدم الاستمرار في هذه الحياة طويلاً، فإنّ الاستمرار في حياة البادية من شأنه أن يجعل الإنسان يعاني من الجمود والانغلاق، ثمّ هو يكون لنفسه مفاهيم وأفكاراً، يحوّلها الزمن إلى حقائق لا تقبل الجدل عنده، ويصير من الصعب عليه قبول أي رأي آخر يسير في غير اتجاه قناعاته وأفكاره، فإنّ تدرّب الإنسان على أن يسمع النقد والمخالفة في الرأي يبعده عن الاستبداد الفكريّ، ويجعله يبحث عن الدليل، والمبرّر لكلّ فكرة لديه. وإلّا، فإنّه يصير على استعداد للتخلّي عنها إلى غيرها ممّا يستطيع أن يدافع عنه ويستدل عليه. وهذا أمر طبيعي يعرفه الإنسان بالمشاهدة، ويستدلّ عليه بالتقصيّ والتجربة.
 
مطالعة
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الأسوة
فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ صلى الله عليه وآله وسلم فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى وعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى وأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ والْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً ولَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً وأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وعَلِمَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ وحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ وصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ ولَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلَّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللهُ ورَسُولُهُ وتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللهُ ورَسُولُهُ لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً لِلهِ ومُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللهِ.
 
وَلَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وآله وسلم يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ ويَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ ويَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ ويَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ ويَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ ويُرْدِفُ خَلْفَهُ ويَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ يَا فُلَانَةُ لِإِحْدَى أَزْوَاجِهِ غَيِّبِيهِ عَنِّي فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وزَخَارِفَهَا.
 
 
61

 

49

ألم يجدك يتيماً فآوى

فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ وأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ وأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً ولَا يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً ولَا يَرْجُوَ فِيهَا مُقَاماً فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ وأَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ وغَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ.

وكَذَلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ وأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ.

ولَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَا يَدُلُّكُ عَلَى مَسَاوِئِ الدُّنْيَا وعُيُوبِهَا إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ وزُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ.
فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ أَكْرَمَ اللهُ مُحَمَّداً بِذَلِكَ أَمْ أَهَانَهُ فَإِنْ قَالَ أَهَانَهُ فَقَدْ كَذَبَ واللهِ الْعَظِيمِ بِالْإِفْكِ الْعَظِيمِ وإِنْ قَالَ أَكْرَمَهُ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ وزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ.
فَتَأَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ واقْتَصَّ أَثَرَهُ ووَلَجَ مَوْلِجَهُ وإِلَّا فَلَا يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ فَإِنَّ اللهَ جَعَلَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم عَلَماً لِلسَّاعَةِ ومُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ ومُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ.

خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً ووَرَدَ الْآخِرَةَ سَلِيماً لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ وأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ وقَائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ1.


1- نهج البلاغة، الخطبة 160.
 
 
 
62
 
 

50

كرامات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 يقول الله تعالى في محكم كتابه:

﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
1
  

1- سورة الأنفال، الآية: 33.
 
 
 
63
 
 

51

كرامات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

تمهيد 
لا شكّ أنّ لكلّ نبيّ من أنبياء الله سبحانه كرامة اختصّه الله سبحانه بها، إلّا أنّ خاتم النبيّين محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم قد اختصّه الله سبحانه وتعالى بكرامات عدّة حال وجوده المقدّس بين الناس، وحتّى بعد وفاته، ونحن ذاكرون في هذا الدرس أبرز كراماته صلى الله عليه وآله وسلم ومسلّطون الضوء عليها مجتمعة بعد أن تقدّمت الإشارة إلى بعضها في طيّات الدروس السابقة.

1ـ الأسوة الحسنة 
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾1.

وهذه من أهمّ الكرامات للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حيث اعتبره الله أسوة وقدوة لجميع الناس إلى يوم القيامة، ووصف الله سبحانه هذه الأسوة بأنّها حسنة، لأنّه كثيراً ما يتّبع الناس بعض القادة والزعماء والملوك ويقتدون بهم، أو بآبائهم، وقد ذمّ الله سبحانه هذا النحو من الاتّباع بقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ2.
  

1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2- سورة البقرة، الآية: 170.
 
 
65

 

52

كرامات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

لكن اتّباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر مطلوب، حيث عدّه الله سبحانه أسوة حسنة واختصّه بمكارم الأخلاق، ففي الرواية عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام: "إنّ الله خصّ رسوله بمكارم الأخلاق، فامتحنوا أنفسكم، فإن كانت فيكم فاحمدوا الله عزّ وجلّ وارغبوا إليه في الزيادة منها، فذكرها عشرة... الحديث"1.

وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّي لأكره للرجل أن يموت وقد بقي خلّة من خلال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتِ بها"2.

وفي حديث مستفيض: "إنّ أحسن السنن سنّة الأنبياء"3.

وفي حديث آخر: "خير السنن سنّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم".

وطريقة فهم هذه الأحاديث تعطي النتيجة التالية: 
إنّ خير السنن هي سنّة الأنبياء وخيرهم سنّة سنّة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى الإنسان أن يتبع ويقتدي بسنّته وسيرته وصفاته وخلاله، وهذه كرامة اختصّه الله بها صلى الله عليه وآله وسلم على سائر العالمين.

2ـ رحمة للعالمين
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ4 فهو صلى الله عليه وآله وسلم ليس رحمة لأهل مكّة أو أهل المدينة فقط وليس رحمة للمسلمين الّذين كانوا معه، ولا للمسلمين عامّة، وإنّما هو بنصّ الآية القرآنية رحمة للعالمين جميعاً، في الدنيا والآخرة.

3ـ أمان من العذاب 
فقد ورد في النهج الشريف أنّه (أي أمير المؤمنين عليه السلام ) قال: "كان في الأرض
 

1- مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي، ص 19.
2- م. ن، ص 39.
3- إرشاد القلوب، الديلمي، ج 1، ص 157.
4- سورة الأنبياء، الآية: 107.
 
 
66
 

 

 


53

كرامات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

أمانان من عذاب الله، وقد رُفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الّذي رفع فهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمّا الأمان الباقي فالاستغفار, قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ1". فهو صلى الله عليه وآله وسلم قد اختُصّ بهذه الكرامة أنّه أمان لأهل الأرض، فرفع الله سبحانه العذاب أي عذاب الاستئصال عن أمّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ببركة وجوده بينما كانت الأمم السابقة مهدّدة ومعذّبة بهذا العذاب.

1- اتّباعه يوجب محبّة الله ومغفرة الذنوب 
﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ2 فالآية القرآنية صريحة بأنّ اتّباع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم له ثمرة عظيمة وكرامة اختصّه الله بها ألا وهي محبّة الله للعبد الّذي يتّبع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، والله إذا أحبّ عبداً قرّبه منه وأدخله الجنّة، ولا يدخل الجنّة مذنب وصاحب ذنوب، لذلك يترتّب على هذه المحبّة أن يغفر الله سبحانه ذنوب العبد أيضاً وهذه كرامة أخرى للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن الطبيعي جدّاً أنّ الحبّ لا بدّ أن يستتبع عملاً "إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع".

6ـ اتّباعه هداية ورشاد 
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ3

إنّ اتّباع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم له ثمرة على صعيد الهداية للإنسان وهو ما يرتبط بحياة الإنسان المتَّبِع للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، حيث يوصله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الاتّباع إلى الهداية وإلى الرشاد.
  

1- سورة الانفال، الآية: 33. نهج البلاغة، ج 4، ص 19.
2- سورة آل عمران، الآية: 31.
3- سورة الأعراف، الآية: 158.
 
 
67
 

54

كرامات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

7ـ واسطة في المغفرة 
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا1. إنّ هذه الآية تشير إلى أنّ الاستغفار بالنسبة إلى المنافقين سواء استغفر لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أم لا لم يكن ليجديهم نفعاً:
﴿سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ2 لأنّ حقيقة الاستغفار هو الاعتذار إلى الله عزّ وجلّ وطلب المغفرة والرضوان منه ليتوب على العاصي ويعفو عن سوء صنيعه، وهذا المعنى يلحق المؤمنين الّذين عملوا السوء بجهالة ثمّ ندموا عن قريب فاعتذروا إلى الله ليتوب عليهم بالمغفرة، فكانت كرامة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه واسطة للمغفرة لهؤلاء المؤمنين المذنبين، فيعطف عليهم تحنّناً وإشفاقاً ويستغفر لهم الله وعندها تظهر كرامة هذا النبيّ العظيم صلى الله عليه وآله وسلم فيغفر الله لهم.

8ـ الوسيلة إلى الله سبحانه 
روى الشيخ الطوسي أنّه يُستحبّ إذا سمع المؤذِّن يؤذّن أن يقول: ".... اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامّة والصلاة القائمة آتِ محمّداً الوسيلة والشفاعة والفضيلة وارزقه المقام المحمود الّذي وعدته...."3.

وفي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "نحن الوسيلة إلى الله والوصلة إلى رضوان الله"4.

وفي هذا المضمون روايات عديدة تشير إلى أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أُختص بكرامة
  

1- سورة النساء، الآية: 64.
2- سورة المنافقون، الآية: 6.
3- المبسوط، الشيخ الطوسي، ج 1، ص 97.
4- مستدرك سفينة البحار، عليّ النمازي الشاهرودي، ص 304.
 
 
 
 
68

 

55

كرامات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

من الله هو وأهل بيته عليهم السلام ألا وهي أنّهم كانوا الوسيلة إليه سبحانه، فهم الهادون إليه والدّالّون عليه والمرشدون إلى سبيله. وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه أن نبتغي الوسيلة إليه بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾1

9ـ طاعتهُ مقرونة بطاعة الله
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ2 وكذلك في سورة التغابن الآية 12، وسورة النساء الآية، 95، وسورة المائدة الآية، 92، وسورة النور، الآية 54.

نلاحظ أنّه سبحانه قرن بين طاعته وطاعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذه كرامة أخرى يُفهم من خلالها أنّ من أراد التقرُّب إلى الله تعالى عليه أن يتقرّب بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولا فرق بين طاعة الله وطاعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فطاعته طاعة الله وغضبه غضب الله، وأذيّته أذى الله، وبذلك تُمثّل هذه الكرامة في وجوده المقدّس أنّه المعيار والميزان في الأرض لمعرفة رضا الله سبحانه.

10ـ حكمه حكم الله 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً3. ومن الواضح أنّ العطف بحرف الواو يفيد كما قال أهل اللغة التشريك في الحكم والمعنى: فردّوه أي النزاع إلى الله والرسول فالله والرسول مشتركان معاً في الحكم، فأيّهما يحكم يكون الحقّ والصواب، وهذا يعني أنّ حكمه هو حكم الله، وقضاءه قضاء الله سبحانه، وهذه من أعظم الكرامات الّتي أختصّه الله بها.


1- سورة المائدة، الآية: 35.
2- سورة محمد، الآية: 33.
3- سورة النساء، الآية: 59.
 
 
 
69
 
 

56

كرامات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

11ـ خطاب الله له
فنلاحظ أنّ الله سبحانه وتعالى كلّما أراد أن يُنادي النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ناداه بخطاب يا أيّها النبيّ أو يا أيّها الرسول ولم يناده باسمه أبداً في القرآن الكريم، بينما نجد هذه الكرامة غير ظاهرة مع سائر الأنبياء حيث ناداهم سبحانه بأسمائهم، يا آدم، يا نوح، يا موسى، يا عيسى، يا إبراهيم..... وهكذا.

﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾1, ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ﴾, ﴿وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾2.

12ـ الشفاعة 
عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي"3.

وفي رواية يُوضّح فيها الإمام الصادق عليه السلام كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر، حيث سأله ابن أبي عمير: يا بن رسول الله كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر والله تعالى يقول: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ4 فقال عليه السلام: "يا أبا أحمد ما من مؤمن يذنب ذنباً إلّا ساءه ذلك وندم عليه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
  

1- سورة البقرة، الآية: 35 37.
2- سورة المائدة، الآية: 116.
3- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 15، ص 334 ح 4.
4- سورة الأنبياء، الآية: 28.
 
 
 
70
 

 

57

كرامات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 كفى بالندم توبة، وقال عليه السلام: "من سرّته حسنته وساءته سيّئته فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب الشفاعة له إلى أن قال: قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا كبير مع الاستغفار ولا صغير مع الإصرار"1.

والشفاعة لهذه الفئة من الناس مختصّة بالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فهي كرامة عظيمة اختصّه الله بها.

ومن الطبيعي جدّاً أنّ لشفاعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام شروطاً لا بدّ من توفّرها في العبد، فلا ينبغي الاعتماد على الشفاعة فقط، وليس المقام للحديث عن هذه الشروط.

وفي الختام 
هذه بعض كرامات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكفى بواحدة فقط أن تخلّد صاحبها في الدنيا والآخرة، وتجعله محترماً مصاناً لدى عامّة الناس، لكن لا يُدرك الناس عظمة هذا النبيّ الكريم، ولا فضله ولا حقيقة واحدة من كراماته. وهو صلى الله عليه وآله وسلم رغم كلّ خصائصه وشمائله وقدرته وولايته وقربه من الله سبحانه يتحمّل الأذى حيّاً وميتاً، فقد قالها وكأنّه "أرواحنا فداه" ما زال يردّدها "ما أوذي نبيّ مثل ما أُوذيت".
 
مطالعة
أبو طالب والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم 
روى أبو سعيد الواعظ في كتاب شرف المصطفى أنّه لمّا حضرت عبد المطلب الوفاة دعا ابنه أبا طالب فقال له: يا بنيّ قد علمت شدّة حبّي لمحمّد ووجدي به أنظر كيف تحفظني فيه؟ قال أبو طالب: يا أبه لا توصني بمحمّد فإنّه ابني وابن 


1- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 15، ص 335، ح 11.
 
 
71

 

58

كرامات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

أخي، فلمّا توفّي عبد المطلب كان أبو طالب يؤثره بالنفقة والكسوة على نفسه وعلى جميع أهله. وعن ابن عباس قال أبو طالب لأخيه: يا عبّاس أخبرك عن محمّد إنّي ضممته فلمّا أفارقه ساعة من ليل أو نهار فلم أأتمن أحداً حتّى نوّمته في فراشي فأمرته أن يخلع ثيابه وينام معي فرأيت في وجهه الكراهية فقال:

يا عمّاه اصرف بوجهك عنّي حتّى أخلع ثيابي وأدخل فراشي، فقلت له: ولم ذاك؟ فقال: لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي فتعجّبت من قوله وصرفت بصري عنه حتّى دخل فراشه فإذا دخلت أنا الفراش إذا بينه وبيني ثوب والله ما أدخلته في فراشي فأمسّه فإذا هو ألين ثوب ثمّ شممته كأنّه غمس في مسك، وكنت إذا أصبحت فقدته فكان هذا دأبي ودأبه، وكنت كثيراً ما أفتقده في فراشي فإذا قمت لأطلبه بادرني من فراشي، ها أنا ذا يا عمّ فارجع إلى مكانك.

وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يأتي زمزم فيشرب منها شربة فربما عرض عليه أبو طالب الغدا فيقول لا أريده أنا شبعان. وكان أبو طالب إذا أراد أن يعشّي أولاده أو يغدّيهم يقول كما أنتم حتّى يحضر ابني، فيأتي رسول الله فيأكل معهم فيبقى الطعام. وروى القاضي المعتمد في تفسيره قال أبو طالب: لقد كنت كثيراً ما أسمع منه إذا ذهب من الليل كلاماً يعجبني وكنّا لا نُسمّي على الطعام ولا على الشراب حتّى سمعته يقول: بسم الله الأحد، ثمّ يأكل فإذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله كثيراً. فتعجّبت منه وكنت ربما أتيت غفلة فأرى من لدن رأسه نوراً ممدوداً قد بلغ السماء ثمّ لم أر منه كذبة قطّ ولا جاهلية قطّ ولا رأيته يضحك في غير موضع الضحك ولا مع الصبيان في لعب ولا التفت إليهم وكانت الوحدة أحبّ إليه1.
 

1- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج 1، ص 35.
 
 
72
 

59

الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

يقول الله تعالى في محكم كتابه:

﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ1
 

1- سورة الفتح، الآيتان: 8 9.
 
 
73
 

60

الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

تمهيد
إنّ الإسلام العظيم دعا في كثير من تعاليمه إلى حسن الأدب والتعامل، مع الله تعالى ومع أنبيائه عليهم السلام - لا سيّما خاتمهم النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم - ومع الناس بشكل عام.

وكلّما ازداد مقام الإنسان وارتفعت درجته عند الله تعالى كلّما ازدادت الآداب ودرجة الاحترام تجاهه. 

ولا شكّ أنّ مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عظيم وجليل، وخدماته العظيمة للإنسانية جمعاء قد اعترف بها كثير من منصفي العالم الغربي،ولا ينكر عظمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلّا كلّ جاهل أومريض قلب يعرف الحقّ وينكره.

وقد دأب الناس على احترام قياداتهم والتأدّب معهم مزيد تأدُّب، لما أدّوه من خدمات وجهد في سبيل مجتمعاتهم. 

ونحن ذاكرون بعض الآداب مع الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قائدنا ومقتدانا الّذي له كلّ الأدب والاحترام والتبجيل.

1- أدب المحبّة
وذلك بمحبّته صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من كلّ متعلّقاتنا وحتّى أكثر من أنفسنا، قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ 
 
 
 
75
  

 

61

الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ1.

وعن رسول الله: "لا يؤمن عبد حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه، ويكون عترتي أحبّ إليه من عترته، ويكون أهلي أحبّ إليه من أهله، ويكون ذاتي أحبّ إليه من ذاته"2.

وهذا الحديث يشير إلى ضرورة حبّ أهل البيت عليهم السلام ، فمن يحبّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلزم عليه أن يحبّ أهل بيته عليهم السلام وإلّا لا يكون محبّاً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

2- أدب الاتّباع
وذلك بتحقيق تعاليم رسول الله عمليّاً فلا يكفي ادّعاء الحبّ القلبي،لأنّ حقيقة الحبّ يعني العمل بتعاليم من تحبّ.

قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾4.

روي عن رسول الله أنّه قال، حرصاً منه على اتّباع أمّته له واستقامتها: "شيّبتني سورة هود"5.

ونقل عن ابن عباس في تفسير الحديث الشريف - آنف الذكر - أنّه ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية كانت أشدّ عليه ولا أشقّ من آية: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾.

كما نُقل عن بعض المفسّرين أنّ أحد العلماء رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فسأله عن سبب ما نُقل عنه من قوله: "شيّبتني سورة هود" أهو ما سلف من الأمم


1- سورة التوبة، الآية: 24.
2- بحار الأنوار، ج 17، ص 14.
3- سورة آل عمران، الآية: 31.
4- نور الثقلين، ج 2، ص 334.
 
 
76
 

62

الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

السابقة وهلاكها؟ فبيّن له صلى الله عليه وآله وسلم أنّ سببه آية: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ1 2.

فرسول الله لا شكّ في استقامته ولكن ما كان يهمّه هو اتّباع أتباعه له واستقامتهم على طريقه.

فلنكن حريصين على قلب رسول الله وعدم أذيّته وذلك باتّباعه والاستقامة في طريق ذات الشوكة.

3- أدب الصلاة عليه
وذلك بالصلاة عليه عند ذكره،قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾3.

ونلاحظ في الآية الكريمة أنّ الله تعالى ابتدأ بالصلاة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ الملائكة وبعد ذلك أمر المؤمنين أن يُصلّوا عليه، وهذا ما يدلّ على أهميّة هذا الأدب وإلى أيّ مستوى رفيع قد وصل، إلى حدّ أنّ الله تعالى بعظمته وعزّته وجلاله والملائكة بمقامهم قاموا بفعل هذا الأدب.

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ قوماً من أصحابه سألوه عند نزول هذه الآية عليه فقالوا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نُسلّم عليك، فكيف نُصلّي عليك؟ فقال: "تقولون: اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد"4

فبيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الصلاة عليه الّتي افترض الله عزّ وجلّ عليهم أن يصلّوها عليه، ملازمة للصلاة على أهل بيته عليه السلام.


1- سورة هود، الآية: 112.
2- روح المعاني، ج 2، ص 206.
3- سورة الأحزاب، الآية: 56.
4- دعائم الإسلام، القاضي النعمان المغربي، ج،1 ص29.
 
 
77
 

63

الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء فقالوا وما الصلاة البتراء؟ قال تقولون:" اللهمّ صلِّ على محمّد "وتمسكون بل قولوا اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد"1.

عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "سمع أبي رجلاً متعلّقاً بالبيت وهو يقول: اللهمّ صلِّ على محمّد، فقال له أبي: يا عبد الله لا تبترها لا تظلمنا حقّنا قل: اللهمّ صلِّ على محمّد وأهل بيته"2

وقد دعانا الإمام عليّ عليه السلام إلى الإكثار من الصلاة على النبيّ وآله: "نحمده بالحمد الّذي ارتضاه من خلقه وأوجب قبوله على نفسه وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، شهادتان ترفعان القول وتضاعفان العمل، خفّ ميزان ترفعان منه وثقل ميزان توضعان فيه وبهما الفوز بالجنّة والنجاة من النار والجواز على الصراط وبالشهادة تدخلون الجنّة وبالصلاة تنالون الرحمة، أكثروا من الصلاة على نبيّكم: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾..."3 4.
 
4-5- أدب الاحترام والدفاع
وذلك باحترام الرسول وتوقيره والدفاع عنه،يقول سبحانه: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾5.

كلمة "تعزّروه" مشتقة من مادة عزر، وهو في الأصل يعني "المنع" ثمّ توسّعوا فيه فأطلق على كلّ دفاع ونصرة وإعانة للشخص في مقابل أعدائه.
 

1- الحدائق الناضرة، المحقق البحراني، ج8، ص465، رواه عن ابن حجر في صواعقه. 
2- الكافي، ج2، ص495.
3- سورة الأحزاب، الآية: 56.
4- م.ن، ج8، ص19. 
5- سورة الفتح، الآيتان: 8 9.
 
 
78
 
 

 


64

الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

وكلمة "توقّروه" مشتقّة من مادّة توقير، وجذورها "الوقر" ومعناها الثقل. فيكون معنى التوقير هنا التعظيم والتكريم والاحترام.

6-7- أدب عدم التقدّم على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وخفض الصوت
وقد نهى الله تعالى عن أفعال فيها عدم احترام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،فقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾1.

ففي الآيات ذكر ثلاثة آداب
أ - عدم التقدُّم على الله ورسوله: والمراد من عدم التقدُّم بين يدي الله ورسوله هو أن لا يُقترح عليهما في الأمور، وترك العجلة والإسراع أمام أمر الله ورسوله.

إنّ مسؤولية انضباط السائرين إزاء القادة وخاصّة إزاء القادة الإلهيين تقتضي ألّا يتقدّموا عليهم في أيّ عمل وقول ولا يعجل أحد عندهم.

ب- عدم رفع الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فقد جعل الله سبحانه رفع الصوت عنده سبباً من أسباب حبط العمل، وينبغي العلم أنّ هذا الأدب يجب التأدُّب به في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبعد مماته ويكون هذا الأدب بعد مماته بألّا يرفع المرء صوته عند زيارة قبره الشريف مثلاً.

ج- عدم الجهر بالقول عند مخاطبته صلى الله عليه وآله وسلم: بل يخفض الصوت عند التّكلم معه احتراماً له.
  

1- سورة الحجرات، الآيات: 1 5.
 
 
 
79
 

 


65

الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 8- أدب المناداة
وقال تعالى تأكيداً على احترام رسول الله: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾1.

فهذا يعني أنّه عندما تدعون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فينبغي أن تدعوه بأدب واحترام يليق بمنزلته، وليس كما تدعون بعضكم بعضاً.

وسبب نزول هذه الآية يكمن في أنّ جماعة من المسلمين لم يتعلّموا - بعد - الآداب الإسلامية في التعامل مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فكانوا ينادونه صلى الله عليه وآله وسلم بعبارة: يا محمّد! وهذا لا يليق بنداء قائد إلهي كبير. 

وتستهدف الآية تعليم الناس أن يدعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعبارات رزينة وبأسلوب مؤدّب، كأن يدعوه رسول الله، أو نبيّ الله أو نبيّ الرحمة أو خاتم النبيّين أو سيّد المرسلين.

فحريّ بالمؤمن إن سمع هذا أن يتأدّب بهذا الأدب فلا يذكر اسم نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم إلّا ومقروناً بكلمة رسول الله أو نبيّ الله وأمثال ذلك. 

اللهمّ زدنا محبّة لرسولك وأهل بيته الأطهار.

اللهم زدنا اتّباعاً لتعاليم رسولك وأهل بيته الأطهار.

اللهم زدنا توقيراً وتعزيراً لرسولك وأهل بيته الأطهار.

اللهمّ صلِّ على محمّد رسولك وعلى آله الأطهار وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
 

1- سورة النور، الآية: 63.
 
 
80
 

66

الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

للمطالعة

ثمرة الجدال بالتي هي أحسن
في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا﴾ نزلت في وفد تميم وهم عطارد بن حاجب بن زرارة في أشراف من بني تميم، منهم الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، وقيس بن عاصم في وفد عظيم، فلمّا دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من وراء الحجرات أن اخرج إلينا يا محمّد، فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فخرج إليهم فقالوا: جئناك لنفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا، قال: أذنت، فقام عطارد بن حاجب وقال: الحمد لله الّذي جعلنا ملوكاً الّذي له الفضل علينا، والّذي وهب لنا أموالاً عظاماً نفعل بها المعروف، وجعلنا أعزّ أهل المشرق، وأكثر عدداً وعدّة، فمن مثلنا في الناس؟فمن فاخرنا فليعد مثل ما عددنا، ولو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكنّا نستحيي من الإكثار.

ثمّ جلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لثابت بن قيس بن شماس: قم فأجبه، فقام فقال: الحمد لله الّذي خلق السماوات والأرض خلقة، وقضى فيه أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يكن شيء قطّ إلّا من فضله، ثمّ كان من فضله، أن جعلنا ملوكاً، واصطفى من خير خلقه رسولا أكرمه نسباً، وأصدقه حديثاً، وأفضله حسباً، فأنزل عليه كتاباً وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله على العالمين، ثمّ دعا الناس إلى الإيمان بالله فآمن به المهاجرون من قومه، وذوو رحمه، أكرم الناس أحساباً، وأحسنهم وجوهاً، فكان أوّل الخلق إجابة، واستجاب لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنحن أنصار رسول الله وردؤه، نقاتل الناس حتّى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن نكث جاهدناه في الله أبداً، وكان قتله علينا يسيراً، أقول: هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم.

81

67

الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ثمّ قام الزبرقان بن بدر ينشد وأجابه حسان بن ثابت، فلما فرغ حسان من قوله قال الأقرع: إنّ هذا الرجل خطيبه أخطب من خطيبنا، وشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا، فلمّا فرغوا أجازهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأحسن جوائزهم وأسلموا1.


1- بحار الانوار،ج17،ص21-22.
 
 
 
82
 
  



 

68

الإساءات المعنويّة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

 يقول الله تعالى في محكم كتابه:

﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾1 


1- سورة الحجر، الآيات: 94 99.
 
 
 
83

 

69

الإساءات المعنويّة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

تمهيد 
الصراع بين الحقّ والباطل أزليّ, وسيستمرّ حتّى يأذن الله تعالى بإظهار أمره: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾1, ﴿وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ2، فلا بدّ من مجيء الحقّ وزهوق الباطل: ﴿وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا3, ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾4.
 
وهذا الصراع المرير اتخذ أشكالاً عدّة على مرّ العصور, واستخدمت شتّى الطرق والوسائل في مواجهة الحقّ؛ فقد أُسيء إلى الأنبياء والرسل والأئمّة عليهم السلام, وأستُهزئ بهم وكُذبوا, بل قُتّلوا وشُرّدوا, قال تعالى: ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون5 وقال تعالى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ 


1- سورة التوبة، الآية: 33.
2- سورة الأنفال، الآية: 7.
3- سورة الإسراء، الآية: 81.
4- سورة الأنبياء، الآية: 18.
5- سورة الزخرف، الآية: 7.
 
 
85
 
 

70

الإساءات المعنويّة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ1 وقال تعالى: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون2.

وأخبر الله تعالى في كتابه كيف أُسيئ إلى أنبيائه ورسله, ولكنّ الله تعالى ينصر رسله على الكافرين, قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ3 وقال تعالى: ﴿وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾4

ونبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نال النصيب الأكبر من الإساءة والاستهزاء, سواء من المشركين والكافرين, أم من أهل الكتاب, أم من المنافقين والمرتدين, بل حتّى من بعض من يدّعي اتباعه صلى الله عليه وآله وسلم والإيمان به, وسواء في حياته أم بعد مماته, حتّى قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت"5.

قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا﴾6، وقال عزّ وجلّ: ﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا﴾7.

فما زالت الإساءات تصدر بحقّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من كلّ حدب وصوب, ولن تنتهي طالما هناك من يُعادي ويحقد على الإسلام ورسوله الأمين صلى الله عليه وآله وسلم وكتابه الكريم، وهذه العداوة قديمة منذ بعثته صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد بيّن الله تعالى في موارد عديدة من كتابه أنواع وأشكال الإساءة والأذيّة له صلى الله عليه وآله وسلم, مع بيان عاقبة من استهزأ به صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنّ الله تعالى وعد رسله عموماً ونبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً بالانتقام والكفاية ممّن استهزأ به، وهذا غير محصور بحياته صلى الله عليه وآله وسلم, بل ماض إلى يوم القيامة،
  

1- سورة البقرة، الآية: 87.
2- سورة يس، الآية: 30.
3- سورة غافر، الآية: 51.
4- سورة الصافات، الآية: 116.
5- بحار الأنوار، العلامة المجلسي, ج39, ص56.
6- سورة الأنبياء، الآية: 36.
7- سورة الفرقان، الآية: 41.
 
 
86

 

71

الإساءات المعنويّة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ1, ولقوله تعالى: ﴿وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾2.

ولا يخفى أنّ الله تعالى لا ينصر نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم بالغيب فقط, بل بتوسّط التكليف بوجوب النصرة, فلا يصحّ التعذّر بالغيب والسلطنة الإلهيّة, لعدم النصرة على قاعدة أنّ للبيت ربّ يحميه, كما يمكن أن يصدر عن بعض ضعاف النفوس والمتخاذلين عن نصرة دين الله تعالى ونبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وكتابه, قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾3.
 
وقال عزّ وجلّ: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾4، وقال تعالى: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ﴾5.

الوسائل الّتي حورب بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم 
نشير إلى بعض الإساءات الّتي صدرت من المشركين والمنافقين في حياته صلى الله عليه وآله وسلم, وكيف أنّ الله تعالى دافع عن نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ، ويمكن تقسيم هذه الإساءات إلى إساءات معنويّة وإلى إساءات ماديّة.

الإساءات المعنوية 
1- الاتهام بالسحر والشعوذة
فمن تلك الإساءات اتهامه بالسحر، قال الله تعالى في مقام الاحتجاج: ﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ﴾6.


1- سورة الحجر، الآية: 95.
2- سورة المائدة، الآية: 67.
3- سورة الحديد، الآية: 25.
4- سورة الفتح، الآية: 9.
5- سورة التوبة، الآية: 40.
6- سورة الطور، الآية 15.
 
 
87
 

 

72

الإساءات المعنويّة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

 فإنّ المشركين أمام قوّة المعجزة رموا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالسحر، كما في قصّة نزول سورة القمر، قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾1.

فعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام: "اجتمعوا أربعة عشر رجلاً أصحاب العقبة ليلة أربعة عشر من ذي الحجّة، فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ما من نبيّ إلّا وله آية فما آيتك في ليلتك هذه؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما الّذي تريدون؟ فقالوا إن يكن لك عند ربّك قدر فآمر القمر أن ينقطع قطعتين، فهبط جبرئيل عليه السلام وقال: يا محمّد إنّ الله يقرؤك السلام ويقول لك: إنّي قد أمرت كلّ شيء بطاعتك، فرفع رأسه فأمر القمر أن ينقطع قطعتين، فانقطع قطعتين فسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شكراً لله وسجد شيعتنا، رفع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رأسه ورفعوا رؤسهم، ثمّ قالوا يعود كما كان فعاد كما كان، ثمّ قالوا ينشق رأسه فأمره فانشقّ فسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شكراً لله وسجد شيعتنا، فقالوا يا محمّد حين تقدم سفارنا من الشام واليمن فنسألهم ما رأوا في هذه الليلة فإنّ يكونوا رأوا مثل ما رأينا علمنا أنّه من ربّك وإن لم يروا مثل ما رأينا علمنا أنّه سحر سحرتنا به، فأنزل الله اقتربت الساعة إلى آخر السورة"2.

وقال تعالى حكاية عن أحد المشركين: ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾3، وهذه الآيات "نزلت في الوليد بن المغيرة وكان شيخاً كبيراً مجرّباً من دهاة العرب، وكان من المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقعد في الحجرة ويقرأ القرآن فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة، فقالوا: يا أبا عبد شمس ما هذا الّذي يقول محمّد أشعر هو أم كهانة أم خطب؟ ! فقال دعوني أسمع كلامه، فدنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمّد أنشدني من شعرك،


1- سورة القمر، الآيتان: 1 و2.
2- تفسير القمي، ج‏2، ص341.
3- سورة المدثر، الآيتان: 24 و 25.
 
 
88
 
 

73

الإساءات المعنويّة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

قال: ما هو شعر ولكنّه كلام الله الّذي ارتضاه لملائكته وأنبيائه، فقال: أتل علىّ منه شيئاً، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حم السجدة فلما بلغ قوله ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا1 - يا محمّد - أعني قريشاً -﴿فَقُلْ﴾ لهم ﴿أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾2، قال: فاقشعرّ الوليد وقامت كلّ شعرة في رأسه ولحيته ومرّ إلى بيته ولم يرجع إلى قريش من ذلك، فمشوا إلى أبي جهل فقالوا: يا أبا الحكم إنّ أبا عبد شمس صبا إلى دين محمّد أما تراه لم يرجع الينا، فغدا أبو جهل فقال له: يا عم نكّست رؤوسنا وفضحتنا وأشمت بنا عدونا وصبوت إلى دين محمّد، فقال: ما صبوت إلى دينه ولكنّي سمعت منه كلاماً صعباً تقشعرّ منه الجلود، فقال له أبو جهل: أخطب هو؟، قال: لا إنّ الخطب كلام متّصل وهذا كلام منثور ولا يشبه بعضه بعضاً قال: أفشعر هو؟، قال: لا، أما إنّي قد سمعت أشعار العرب بسيطها ومديدها ورملها ورجزها وما هو بشعر، قال فما هو؟، قال: دعني أفكّر فيه، فلمّا كان من الغد قالوا يا أبا عبد شمس ما تقول فيما قلناه؟، قال: قولوا هو سحر فإنّه أخذ بقلوب الناس"3

2- الاتهام بالجنون والشعر
قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ * بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ﴾4، قال في الميزان: "رموه صلى الله عليه وآله وسلم بالشعر والجنون وفيه رمي لكتاب الله بكونه شعراً ومن هفوات الجنون، فرد ّعليهم بأنّ ما جاء به حقّ، وفيه تصديق الرسل السابقين فليس بباطل من القول كالشعر وهفوة الجنون وليس ببدع غير مسبوق في معناه"5.


1- سورة فصلت، الآية: 13.
2- سورة فصلت، الآية: 13.
3- بحار الأنوار، ج‏2، ص394.
4- سورة الصافات، الآيتان: 36 37.
5- سورة التكوير، الآية: 22.
 
 
89
 

74

الإساءات المعنويّة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

وقال تعالى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ1، وفي التعبير عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "صاحبكم تكذيب لهم في رميهم له بالجنون وتنزيه لساحته - كما قيل - ففيه إيماء إلى أنّه صاحبكم لبث بينكم معاشراً لكم طول عمره، وأنتم أعرف به قد وجدتّموه على كمال من العقل ورزانة من الرأي وصدق من القول، ومن هذه صفته لا يُرمى بالجنون"2.

وقالوا عن كلام الله تعالى: ﴿بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾2، وقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ* قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾3، فأجابهم الله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ4.

3- الاتهام بالضلال والغواية والنطق عن الهوى 
روي عن أبي عبد الله عليه السلام: "لمّا أوقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين عليه السلام يوم الغدير، افترق الناس ثلاث فرق، فقالت فرقة: ضلّ محمّد، وفرقة قالت: غوى، وفرقة قالت: بهواه يقول في أهل بيته وابن عمّه، فأنزل الله سبحانه: 
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾5"6

4- التعيير بعدم العقب
وممّا عُيّر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم به هو عدم العقب الذكر، ممّا كان يشكّل نقص في العرف
  

1- سورة التكوير، الآية:22.
2- بحار الأنوار، ج‏20، ص218.
3- سورة الأنبياء، الآية: 5.
4- سورة الطور، الآيتان: 30 و31.
5- سورة الحاقة، الآيات: 40 43.
6- سورة النجم، الآيات: 1 4.
7- تفسير البرهان، ج‏5، ص188.
 
 
90
 

75

الإساءات المعنويّة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

الجاهليّ، فقد دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسجد وفيه عمرو بن العاص والحكم بن أبي العاص قال عمرو: "يا أبا الأبتر! وكان الرجل في الجاهليّة إذا لم يكن له ولد سمّي أبتر، ثمّ قال عمرو: إنّي لأشنأ محمّداً أي أبغضه فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ1 أي مبغضك عمرو بن العاص ﴿هُوَ الْأَبْتَرُ2 يعني لا دين له ولا نسب"3

5- التكذيب بالرسالة والنبوّة
يقول تعالى: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾4، وذلك أنّهم كذّبوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته، فتوعّدهم بشتّى ألوان العذاب والخزي.

6- التعيير بالأتباع
فقد عيّر زعماءُ قريش النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأتباعه، كما عيّر فرعون النبيّ موسى عليه السلام بأتباعه، فقال له: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ5، فقال الله تعالى للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾6.

7- إساءة المنافقين
ولعلّ هذا النوع من الإساءة كانت أشدّ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أهل بيته


1- سورة الكوثر، الآيات: 1 3.
2- سورة الكوثر، الآية: 3.
3- تفسير القمّي، ج‏2، ص445.
4- سورة المطففين، الآيات: 10 17.
5- سورة هود، الآية: 27.
6- سورة الأنفال، الآية: 64.
 
 
 
 
91
 

 

76

الإساءات المعنويّة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

والمخلصين من صحابته، لكونها تنخر من داخل البيئة الحاضنة للإسلام، فكانوا يثيرون الفتن وينشرون الشائعات، ويساندون اليهود ويخوّنون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد كشف زيفهم ونفاقهم وأخبر الله عنهم في كتابه في وقائع متعدّدة: 
منها أنّهم كانوا ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ * اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ1، وعن الإمام الكاظم عليه السلام: "فأمّا استهزاء الله تعالى بهم في الدنيا فهو أنّه - مع إجرائه إيّاهم على ظاهر أحكام المسلمين، لإظهارهم ما يظهرونه من السمع والطاعة، والموافقة - يأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتعريض لهم حتّى لا يخفي على المخلصين من المراد بذلك التعريض، ويأمر بلعنهم. 

"وأمّا استهزاؤه بهم في الآخرة فهو أنّ الله عزّ وجلّ إذا أقرّهم في دار اللعنة والهوان وعذّبهم بتلك الألوان العجيبة من العذاب، وأقرّ هؤلاء المؤمنين في الجنان بحضرة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم صفيّ الملك الديّان أطلعهم على هؤلاء المستهزئين الّذين كانوا يستهزؤن بهم في الدنيا، حتّى يروا ما هم فيه من عجائب اللعائن وبدائع النقمات، فتكون لذّتهم وسرورهم بشماتتهم بهم، كما لذّتهم وسرورهم بنعيمهم في جنّات ربّهم"2.

وكانوا يستهزؤون بكلّ ما يأمر به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ﴾3.

﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ﴾
4.
  

1- سورة البقرة، الآيتان: 14 15.
2- تفسير البرهان، ج‏1، ص144.
3- سورة المائدة، الآية: 58.
4- سورة التوبة، الآية: 65.
 
 
 
92

77

الإساءات المعنويّة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

وكانوا ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾1، والقائل هو عبد الله بن أبي بن سلول، وكذا قائل الجملة السابقة: ﴿لَا تُنفِقُوا﴾2 الخ، وإنّما عبّر بصيغة الجمع تشريكاً لأصحابه الراضين بقوله معه. ومراده بـ ﴿الْأَعَزُّ3 نفسه وبـ ﴿الْأَذَلَّ4 رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويريد بهذا القول تهديد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بإخراجه من المدينة بعد المراجعة إليها، وقد ردّ الله عليه وعلى من يشاركه في نفاقه بقوله: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾5، فقصر العزّة في نفسه ورسوله والمؤمنين فلا يبقى لغيرهم إلا الذلّة، ونفى عن المنافقين العلم فلم يبق لهم إلّا الذلّة والجهالة6.

8- التكذيب بالنصّ على الإمام عليّ عليه السلام 
عن الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ7: "أعداؤه ومن كان يهزأ بأمير المؤمنين وهم الّذين قالوا هذا صفيّ محمّد من بين أهله، وكانوا يتغامزون بأمير المؤمنين فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ8"9.
  

1- سورة المنافقون، الآية: 8.
2- سورة المنافقون، الآية: 7.
3- سورة المنافقون، الآية: 8.
4- سورة المنافقون، الآية: 8.
5- سورة المنافقون، الآية: 8.
6- الميزان في تفسير القرآن، ج‏19، ص282.
7- سورة الحجر، الآية: 95.
8- سورة الحجر، الآية: 97.
9- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر أشوب، ج3، ص8.
 
 
93

 

78

الإساءات المعنويّة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

مطالعة
 
تآمر اليهود على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم 
عن الأصبغ بن نباتة، عن الإمام عليّ عليه السلام ، قال: "إنّ اليهود أتت امرأة منهم يقال لها عبدة، فقالوا: يا عبدة، قد علمت أنّ محمّداً قد هدّ ركن بني إسرائيل، وهدم اليهوديّة، وقد غالى الملا من بني إسرائيل بهذا السمّ له، وهم جاعلون لك جعلاً على أن تسمّيه في هذه الشاة، فعمدت عبدة إلى الشاة فشوتها، ثمّ جمعت الرؤساء في بيتها، وأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالت: يا محمّد، قد علمت ما توجب لي (من حقّ الجوار)، وقد حضرني رؤساء اليهود فزيّني بأصحابك. فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الإمام عليّ عليه السلام وأبو دجانة وأبو أيوب وسهل ابن حنيف وجماعة من المهاجرين، فلمّا دخلوا وأخرجت الشاة، سدّت اليهود آنافها بالصوف، وقاموا على أرجلهم وتوكّؤوا على عصيّهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اقعدوا، فقالوا: إنّا إذا زارنا نبيّ لم يقعد منّا أحد وكرهنا أن يصل إليه من أنفاسنا ما يتأذّى به. وكذبت اليهود عليها لعنة الله، إنّما فعلت ذلك مخافة سورة السمّ ودخّانه، فلمّا وضعت الشاة بين يديه تكلّمت كتفها، فقالت: مه يا محمّد، لا تأكلني فإنّي مسمومة. فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبدة، فقال لها: ما حملك على ما صنعت! فقالت: قلت: إن كان نبيّاً لم يضرّه، وإن كان كاذباً أو ساحراً أرحت قومي منه، فهبط جبرئيل عليه السلام فقال: السلام يقرئك السلام، ويقول: قلّ بسم الله الّذي يسمّيه به كلّ مؤمن، وبه عزّ كلّ مؤمن، وبنوره الّذي أضاءت به السماوات والأرض، وبقدرته الّتي خضع لها كلّ جبّار عنيد، وانتكس كلّ شيطان مريد من شرّ السمّ والسحر واللمم، باسم العليّ الملك الفرد الّذي لا إله إلّا هو ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا1. فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، وأمر أصحابه فتكلّموا به، ثمّ قال: كلوا، ثمّ أمرهم أن يحتجموا2.


1- سورة الإسراء، الآية: 82.
2- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 295.
 
 
 
94
 

79

الإساءات الماديّة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

 يقول الله تعالى في محكم كتابه: 

﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾1 
  

1- سورة الإسراء، الآية: 76.
 
 
 
95

 

80

الإساءات الماديّة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

تمهيد
بعد أن تعرّضنا في الدرس السابق لبعض الإساءات المعنويّة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم نتعرّض الآن لبعض الإساءات الماديّة، لنستفيد منها الصبر، وكيف أُوذي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وما قدر الأذيّة الّتي نتعرّض لها في جنب ما تعرّض له صلى الله عليه وآله وسلم.

الإساءات الماديّة 
1- قتل المسلمين
لمّا عجزت قريش عن مواجهة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم تستطع التخلّص منه بسبب حماية أبي طالب عليه السلام له، ولم تستطع الحدّ من عدد المسلمين، عمدت إلى التصفية الجسديّة واستئصالهم ليكونوا عبرةً لغيرهم، فكان أوّل شهيد وشهيدة في الإسلام ياسر وسميّة والدا عمّار الصحابيّ الجليل رضي الله عنهم، ولكنّ الثبات على المبدأ والاستعداد للتضحية في سبيله، أظهر قوّة الإسلام في نفوس المسلمين ممّا جعل المتردّدين يقبلون أكثر نحو هذا الدين الجديد. 

2- الإخراج من مكّة والحصار في شعب أبي طالب عليه السلام 
قال تعالى:
﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ 
 
 
 
 
97
  

 

81

الإساءات الماديّة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾1، فإنّهم عمدوا إلى إخراجه صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من مكّة، ولكن ما لبثوا حتّى قتلوا ببدر2، فإنّ من يلجأ إلى الله في الشدائد لا بدّ أن يأتيه بالفرج.

3- محاولة القتل
قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ3، وذلك عندما شعرت قريش بحجم الخطر فيما لو التحق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه، خاصّة بعدما قدَّرت أنّ المدنيّين سيحمونه وينصرونه بعدما بايعوه، فاتخذت قراراً حاسماً بالتخلُّص من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قبل فوات الأوان، واستطاعت أن تنتزع قراراً بمشاركة كلِّ قبائل قريش في عمليّة الاغتيال، من أجل أن يتفرّق دمه في القبائل كلّها؛ فلا يعود بإمكان بني هاشم أن يثأروا لدمه، ولكنّ الله تعالى أخبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه المؤامرة، وأمره بالخروج ليلاً من مكّة وأن يجعل عليّاً عليه السلام مكانه ليبيت على فراشه من أجل التمويه والإيهام، وليردّ كيدهم عليهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى غار ثور وبات عليّ عليه السلام على فراشه تلك الليلة. وعندما اقتحم المشركون دار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وجدوا أنفسهم أمام عليّ عليه السلام ، ونظراً للتضحية الكبرى الّتي قدّمها الإمام عليّ عليه السلام ، أنزل الله تعالى بحقّه قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾4.

4- الحرب ضدّه
بعد هجرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، أقام نواة دولة، ممّا جعل أمر الإسلام ينتشر بين القبائل العربيّة، بعد أن كان محصوراً في قريش، بسبب التعتيم على الدعوى


1- سورة الإسراء، الآية: 76.
2- تفسير القمّي، ج‏2، ص24.
3- سورة الأنفال، الآية: 30.
4- سورة البقرة، الآية: 207.
 
 
 
98
 

82

الإساءات الماديّة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

الحقّة، فرأى زعماء قريش أن لا مناص إلّا بقمع الإسلام بقوة السلاح والحرب، فصار الصراع عسكريّاً، ولكنّ الله أنزل نصره على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى: 
﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ* قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾1، فحثّ الله المؤمنين على قتال الّذين أخرجوهم والرسول صلى الله عليه وآله وسلم من بيوتهم، وأن لا يخشونهم، بل يخشون الله فإنّه سينصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على أيديهم.

وقال تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ﴾2، فنصرهم الله وأنزل سكينته على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وأنزل الملائكة، فمن ينصر الحقّ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينصره الله ويعذّب الكافرين.

وقال تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾3، فالله هو الّذي قتل وهو الّذي رمى، وهو الّذي أوهن كيد الكافرين.

5- محاولة الاغتيال
من الأحداث المُهمَّة الّتي وقعت مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خلال عودته من تبوك محاولة
  

1- سورة التوبة، الآية: 13.
2- سورة التوبة، الآيتان: 25 26.
3- سورة الأنفال، الآيتان: 17 18.
 
 
 
99
 

83

الإساءات الماديّة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

اغتياله، فقد ذكرت المصادر التاريخيّة أنّه حين وصل الجيش الإسلاميّ إلى العقبة بين المدينة والشام قال صلى الله عليه وآله وسلم: "من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم" فأخذ الناس بطن الوادي وسلك هو طريق العقبة، وكان يقود ناقته عمّار بن ياسر ويسوقها حذيفة بن اليمان، فرأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ضوء القمر فرساناً قد تلثّموا ولحقوا به من ورائه في حركةٍ مُريبة فغضب صلى الله عليه وآله وسلم وصاح بهم وأمر حذيفة أن يضرب وجوه رواحلهم؛ فتملّكهم الرعب وعرفوا بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد علم بما أضمرته نفوسهم بمؤامرتهم، فأسرعوا تاركين العقبة ليُخالِطوا الناس ولا تنكشف هويّتهم.

وطلب حذيفة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث إليهم من يقتلهم بعدما عرفهم من رواحلهم، ولكنّ رسول الرحمة عفا عنهم وأوكل أمرهم إلى الله تعالى1.

هذا سرد مختصر لما تحمّله قلب نبيّنا أرواحنا فداه من أذى وإساءات، ولم نذكر مثلاً أذى اليهود واستهزاءهم بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من التشكيك به ومحاولة تعجيزه، وتحريض المشركين عليه والتجسّس عليه لصالحهم، وإثارة الفتن بين المسلمين، وتآمرهم على حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مراراً، ونقض العهود والمواثيق الّتي أبرموها معه صلى الله عليه وآله وسلم.

ولو أردنا حصرها لاستوعبت مجلّدات، فإنّه حتّى آخر عمره الشريف شهد أقسى الإساءات، من عصيان أمره صلى الله عليه وآله وسلم بتجهيز جيش أسامة، والحيلولة دون كتابة الوصية، والتنازع عنده واتهامه في عقله، وغير ذلك.

الخاتمة 
لقد كشف لنا التاريخ أنّ مخالفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الّذين استهزأوا به وأساءوا إليه، ما كان لهم حجّة بل حجّتهم داحضة، وفي يومنا هذا واستمراراً لإساءات واستهزاء المشركين، يتابع الغربيون هذه المعركة.

فقد عرفوا أنّ الإسلام يملك من قوّة الحجّة، بمعجزته الخالدة القرآن الكريم


1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج21، ص247.
 
 
 
101

 

84

الإساءات الماديّة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

للمطالعة
 
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِين‏
قوله عزّ وجلّ: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ1 فإنّها نزلت بمكّة بعد أن نُبّأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث سنين،‏ وذلك أنّ النبوّة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الإثنين وأسلم عليّ عليه السلام يوم الثلاثاء ثمّ أسلمت خديجة بنت خويلد زوجة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمّ دخل أبو طالب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلّي وعليّ عليه السلام بجنبه، وكان مع أبي طالب صلى الله عليه وآله وسلم جعفر فقال له أبو طالب: صلِّ جناح ابن عمّك فوقف جعفر على يسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بينهما فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي وعليّ وجعفر وزيد بن حارثة و خديجة يأتمّون به فلمّا أتى لذلك ثلاث سنين أنزل الله عليه ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسة الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب (المطلب‏) والأسود بن عبد يغوث والحرث بن طلاطلة الخزاعي.

أمّا الوليد فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا عليه لما كان يبلغه من إيذائه واستهزائه فقال: "اللّهم أعم بصره وأثكله بولده"، فعمي بصره وقتل ولده ببدر (وكذلك دعا على الأسود بن يغوث والحارث بن طلاطلة) فمر الوليد بن المغيرة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و معه جبرئيل عليه السلام فقال جبرئيل: "يا محمّد هذا الوليد بن المغيرة وهو من المستهزءين بك".

قال: "نعم"، وقد كان مرّ برجل من خزاعة وهو يريش نبالاً له فوطأ على بعضها فأصاب عقبه قطعة من ذلك فدميت، فلمّا مرّ بجبرئيل أشار إلى ذلك الموضع فرجع الوليد إلى منزله ونام على سريره وكانت ابنته نائمة أسفل منه فانفجر الموضع الّذي


1- سورة الحجر، الآيتان: 94 و 95.
 
 
 
103

 

85

دفاعٌ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

 يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ1

﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا2


1- سورة آل عمران، الآية: 144.
2- سورة الأحزاب، الآية: 40.
 
 
105
 
 
 

86

دفاعٌ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

 تمهيد 
عندما نتأمّل في العرف القائم بين الناس ومقدّساتهم وفي مختلف المجتمعات نجد بأنّ الجميع يرفضون التدخّل أو المسّ بمقدّساتهم أيّاً كانت هذه المقدّسات عظيمة أو وضيعة بنظر الآخرين، لأنّها تُمثّل الكيان المعنويّ والإيمانيّ لهم، وهذا ما يُبرّر تعظيمها واحترامها والدفاع عنها حتّى الموت وإن كانت شيئاً بسيطاً أو تمثالاً من الخشب أو الحجر أو الخ... 

والقدس والقداسة والتقديس في اللغة والكتاب والاستعمال العرفيّ بمعنى التطهير، والتنزيه عن النقص والعيب، فقد ورد في اللغة العربيّة: 

قَدُسَ قدْساً وقُدُساً طَهُر وتبارك، وتقدّس أي تطهّر، والقداسة الطهارة، يقال: قدّس اللهُ فلاناً: طهّره وبارك عليه، والقدوس من أسماء الله الحسنى، أي المنزّه عن كلّ نقص وعيب..، والتقديس: التطهير الإلهيّ الوارد في قوله تعالى:  ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا1.

وقد ورد في الكتاب العزيز ما يؤكّد هذا المعنى، قال تعالى ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ...... ﴾2.


1- سورة الأحزاب، الآية: 33.
2- سورة المائدة، الآية: 21.
 
 
 
107

 

87

دفاعٌ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

وقال تعالى: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ.... 1، أي نطهّر الأشياء ارتساماً لك، وقيل نقدّسك، أي نصفك بالتقديس2.

المقدّسات في الإسلام والشرائع السماويّة 
وتشترك الشرائع السماويّة في أصولها ومبانيها، وتتّفق على قداسة هذه الأصول وحرمتها ووجوب الدفاع عنها، ولمّا كانت الرسالة الإسلاميّة هي خاتمة الرسالات، والنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم هو سيّد الرسل وخاتمهم، سنكتفي بتحديد المقدّسات من خلال ما جاء في الشريعة الإسلاميّة وينبغي الالتفات إلى أنّ المقدّسات لا تنحصر في الأصول دائماً، بل قد يكون المسُّ ببعض الفروع أحياناً هتكاً للمقدّسات.

ويمكن تصنيف المقدّسات في الإسلام إلى الأصناف التالية: 
1- قداسة الإله (الله تعالى): فيما يتعلّق بذاته وتوحيده سبحانه وصفاته وعدله... الخ.

قال تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ3.

والآيات والروايات والمصنفات كثيرة ومفصّلة في هذا المجال.
2- قداسة الشريعة والدِّين: بمعنى قداسة وخصوصيّة الدِّين الإسلامي بكلّيته وكيانه الكامل، وأنّه دين إلهيّ من عند الله تعالى.

قال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا... ﴾4. وقال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ.....5.


1- سورة البقرة، الآية: 30.
2- انظر: مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني.
3- سورة الحشر،الآية: 23.
4- م.ن، الآية: 3.
5- سورة آل عمران، الآية: 19.

108
 

88

دفاعٌ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

3- قداسة القرآن الكريم وأنّه كلام الله الموحى إلى نبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ1. ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾2. ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾3.

4- قداسة الوحي والرسل والأنبياء والأئمّة عليهم السلام: فالوحي واسطة بين الله ورسله، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ4. ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ5.

والأنبياء والرسل عليهم السلام يُمثّلون النبوّة الّتي هي سفارة بين الله وبين ذوي العقول من عباده وقد بعثهم الله تعالى لهداية البشريّة وتعليمها. قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾6، وقال تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ7.

قدسيّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم 
ونشير فيما يلي إلى بعض نواحي قدسيّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: 

رسول الله خير لنا في حياته ومماته
فقد ورد عن الإمام أبي جعفر عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مقامي بين أظهركم


1- سورة البقرة، الآية: 2.
2- سورة الإسراء، الآية: 9.
3- سورة الحجر، الآية: 87.
4- سورة فصّلت، الآية: 6.
5- سورة الأحقاف، الآية: 9.
6- سورةالحديد،الآية: 25.
7- سورة البقرة، الآية: 213.
 
 
109

 

 


89

دفاعٌ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

 خيرٌ لكم، فإنّ الله يقول: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾1، ومفارقتي إيّاكم خيرٌ لكم. فقالوا يا رسول الله، مقامك بين أظهرنا خيرٌ لنا، فكيف تكون مفارقتك خيراً لنا؟ قال: أمّا أنّ مفارقتي إيّاكم خيرٌ لكم، فإنّ أعمالكم تُعرض عليّ كلّ خميس وإثنين، فما كان من حسنة حمدتُ الله عليها، وما كان من سيّئةٍ استغفرت الله لكم"2.

طهارة مولده صلى الله عليه وآله وسلم 
قال الشيخ الطبرسي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ3: ومعناه وتقلُّبك في أصلاب الموحّدين من نبيّ إلى نبيّ حتّى أخرجك نبيّاً... وهو المرويّ عن الإمام أبي جعفر والإمام أبي عبد الله عليهما السلام قالا: "في أصلاب النبيّين، نبيّ بعد نبيّ حتّى أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم عليه السلام"4

علاقته باللّه تعالى 
1- عبادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 
عن الإمام أبي جعفر عليه السلام قال: "وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم على أطراف أصابع رجليه فأنزل الله سبحانه وتعالى: ﴿طه* مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾5"6.

وقد تجلّت عبوديّته في قوله وسلوكه حتّى قال: "قرّة عيني في الصلاة"7، وكان ينتظر وقت الصلاة ويشتدُّ شوقه للوقوف بين يدي الله تعالى، وكان كثير الدعاء، حتّى قال "الدعاء مخ العبادة"8.


1- سورة الأنفال، الآية: 33.
2- القمّي، ج1، ص 276.
3- سورة الشعراء، الآية: 219.
4- مجمع البيان في تفسير القرآن، ج19، ص189.
5- سورة طه، الآيتان: 1 2.
6- الكافي، ج2، ص95.
7- أمالي الطوسي، الشيخ الطوسي،ج 2، ص 141.
8- المحجّة البيضاء، الفيض الكاشاني، ج2، ص 282.
 
 
 
110

 

90

دفاعٌ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

وعن أبي جعفر عليه السلام: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول الله، لِمَ تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال: يا عائشة ألا أكون عبداً شكوراً"1.

2- خوفه من الله تعالى 
عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما كان شيء أحبّ إلى رسول الله من أن يظلّ خائفاً جائعاً في الله عزّ وجلّ"2

هدف بعثته ورسالته 
الرحمة بالبشر والتزكية والتربية لهم، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾3. وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾4.

الأسوة الحسنة وصاحب الخلق العظيم 
قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾5. ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾6.

خاتم الرسل
قال تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾7. وقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للإمام عليّ عليه السلام: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي".


1- الكافي، ج2، ص 95.
2- الكافي، ج8، ص163ح171.
3- سورة الجمعة، الآية: 2.
4- سورة الأنبياء، الآية: 107.
5- سورة الأحزاب، الآية: 21.
6- سورة القلم، الآية: 4.
7- سورة الأحزاب، الآية: 40.
 
 
 
111
 

91

دفاعٌ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

تخصيصه بالإسراء والمعراج 
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى1.

الأمر الإلهيّ بوجوب طاعته واحترامه 
قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾2

قربه من الله تعالى 
عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "لمّا عُرج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتهى به جبرائيل إلى مكان فخلّى عنه، فقال له: يا جبرائيل تخلّيني على هذه الحالة؟فقال: امضِ، فوالله لقد وطئت مكاناً ما وطئه بشرٌ، وما مشى فيه بشر قبلك"3

قبس من سلوكه وصفاته الشخصيّة 
أ-زهده بالدنيا:
عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعليه دين"4

وفي الخبر عنه عليه السلام: "وإنّ درعه - عند وفاته- مرهونة عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعاً من شعير استلفها نفقة لأهله"5

ب-تواضعه: 
عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل أكل العبد، ويجلس جلسة العبد، ويعلم أنّه عبد"6.
 

1- سورة الإسراء، الآية: 1.
2- سورة الأنفال، الآية: 46.
3- الكافي، ج1، ص442، ح12.
4- بحار الأنوار، ج16، ص 275، ح111.
5- البحار، ج16، ص 219،ح8.
6- انظر: الكافي، ج6، ص 272، ح3.
 
 
112



 

 


92

دفاعٌ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

ورُوي أنّ رجلاً كلّم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأرعد، فقال: "هَوّن عليك فإنّي لستُ بملِك إنّما أنا ابن امرأةٍ من قريش تأكل القديد"1.

ج- علاقته بأصحابه: 
قال تعالى: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾2. وعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُقسّم لحظاته بين أصحابه، فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسويّة؛ وقال: ولم يبسط رسول الله رجليه بين أصحابه قطّ، وإن كان ليصافحه الرّجل فما يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده من يده حتّى يكون هو التارك..."3

د- الجود والحلم: 
قال تعالى ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾4

وقد روي أنّه ما سُئل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً قطّ فقال لا، وأنّه عفا عن قريش الّتي عتت أمر ربّها وحاربته بكلّ ما لديها، وهو في ذروة القدرة قائلاً لهم: "اللّهم اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون... اذهبوا فأنتم الطلقاء"5

و- شجاعته: 
إذا أردنا أن نكوِّن فكرة واضحة عن مدى شجاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلنستمع إلى شهادة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهو يصف شجاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول: "لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشدّ الناس يومئذٍ بأساً"6.


1- كنز العمال، المتّقي الهندي، ج6، ص88
2- سورة التوبة، الآية: 128.
3- الكافي، ج2، ص671.
4- سورة التوبة، الآية: 128.
5- محمّد في القرآن، ص60-65.
6- كنز العمال، ج10، ص397.
 
 
 
113

 

93

دفاعٌ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

وقال عليه السلام أيضاً: "كنّا إذا احمرّ البأس ولقي القوم القوم، إتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه"1.

وروي عن الامام الصادق عليه السلام: "أغار المشركون على سرح المدينة فنادى فيها منادٍ: يا سوء صاحباه! فسمعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجبل فركب في طلب العدو وكان أوّل أصحابه، لحقه أبو قتادة على فرس له وكان تحت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرج دفّتاه ليف ليس فيه أشر ولا بطر، فطلب العدو فلم يلقوا أحداً"2.

ولمّا انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أُحُد، أدركه أبي بن خلف الجمحي وهو يقول: لا نجوت إن نجوت، فقال القوم: يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا؟ فقال: دعوه، حتّى إذا دنا منه، وكان أبّي قبل ذلك يلقى رسول الله‏ صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: عندي رمكة أعلفها كلّ يوم فرق ذرة أقتلك عليها.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بل أنا أقتلك إن شاء الله، فلمّا كان يوم أُحُد ودنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحربة من الحارث بن الصمّه ثمّ استقبله فطعنه في عنقه فخدش خدشة، فتدهده عن فرسه وهو يخور خوار الثور وهو يقول: قتلني محمّد، فاحتمله أصحابه وقالوا: ليس عليك بأس. فقال: بلى. لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلهم، أليس قال لي: أقتلك؟ لو بزق عليّ بعد تلك المقالة لقتلني، فلم يلبث يوماً حتّى مات"3.

وعن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشجع الناس وأحسن الناس وأجود الناس. قال: لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق الناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد سبقهم، وهو يقول: لم تراعوا، وهو على فرس لأبي طلحة وفي عنقه السيف، فجعل يقول للناس: لم تراعوا، وجدناه بحراً أو أنه لبحر"4


1- نهج البلاغة، السيّد الرضيّ، ج4، ص61.
2- بحار الأنوار، ج 19، ص‏171.
3- م.ن، ج20، ص‏26.
4- مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي، ص‏19.
 
 
114

94

دفاعٌ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

ما هو واجب المسلمين تجاه مقدّساتهم 
أجمع فقهاء الإسلام على وجوب الدفاع عن بيضة الإسلام، بل إنّ فلسفة تشريع الجهاد في الشريعة الإسلاميّة قائمة على مبدأ الدفاع عن الشريعة وحفظ مقدّساتها وكيانها من كلّ ما يهدّده بالخطر أو التشويه ونحوه، ولهذا: 

أ- يجب على المسلمين أنفسهم المحافظة على كلّ مقدّساتهم بالقول والعمل الدؤوب والدائم، وعدم الإساءة إليها من خلال عدم الإساءة إلى مقدّسات الآخرين وخصوصيّاتهم، يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ1.

ب- يجب مواجهة كلّ من يمسّ المقدّسات الإسلاميّة أيّاً كان موقعه أو الجهة الّتي ينتمي إليها ضمن الضوابط الشرعيّة.

ج- يجب تنويع وسائل المواجهة والردع، من ثقافيّة، إعلاميّة، سياسيّة، قانونيّة، إداريّة، اقتصاديّة، إلى حدّ الجهاد والشهادة.
د- يجب تربية مجتمعاتنا على احترام المقدّسات، والسعي الدائم لنقل هذه الثقافة إلى الآخرين. 

إنّ المسّ بالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتصويره بالرسوم الكاريكاتوريّة المهينة، فيه إساءة لكلّ الأديان السماويّة والأنبياء والكتب المقدّسة، فضلاً عن الإساءة إلى مليار وأربعمائة مليون مسلم في العالم.


1- سورة الأنعام، الآية: 108.
 
 
115
 

95

دفاعٌ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

مطالعة

خصائص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن الكريم (2)
(تقدّمت الإشارة إلى بعض خصائص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الدّرس الأوّل ص 18)
 
1- عطاؤه مقرون بعطاء الله تعالى. قال سبحانه: ﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ﴾1.

2- ودعوته مقرونة بدعوة الله سبحانه قال تعالى: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾2

3 - و وعده مقرون بوعد الله جلّ جلاله: قال تعالى: ﴿قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ3.

4- وقضاؤه مقرون بقضائه تعالى. قال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾4.

5- وتوقيره مقرون بالإيمان بالله تعالى. قال سبحانه: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾5.

6 - و الحيف منفي عنه و عن الله عزّ و جلّ. قال تعالى: ﴿أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾6.


1- سورة التوبة، الآية: 59.
2- سورة النور، الآية: 48.
3- سورة الأحزاب، الآية: 22.
4- سورة الأحزاب، الآية: 36.
5- سورة الفتح، الآية: 9.
6- سورة النور، الآية: 50.
 
116

 

96

دفاعٌ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

7 - و هو الّذي أرسله الله سبحانه: ﴿بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ1.

8 - و هو صلى الله عليه وآله وسلم أولى بالنبيّ إبراهيم الخليل عليه السلام. قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾2.

9 - و هو الّذي يؤمن بالله سبحانه و كلماته، قال تعالى: ﴿فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ﴾3.

10 - و هو النبيّ الأميّ، كما دلّت عليه نفس الآية الكريمة. و هذا الوصف إمّا بمعنى أنّه من أمّ القرى و هي مكّة المكّرمة. أو بمعنى أنّه لا يعرف القراءة و الكتابة ظاهراً و إن كان يعرفها بعلم النبوّة. و ذلك قطعاً لإرجاف الكفّار والمنافقين في دعوته صلى الله عليه وآله وسلم. أمّا أنّه لم يكتب قبل البعثة حرفاً، فهذا أكيد، و دلّ عليه القرآن الكريم: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾4.

وهي دالة على نفي القراءة أيضاً. 

11 - وهو صلى الله عليه وآله وسلم المرسل بالحق. قال تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾5

12 - و هو صلى الله عليه وآله وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم قال تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ6.

1- سورة الصف، الآية: 9.
2- سورة آل عمران، الآية: 68.
3- سورة الأعراف، الآية: 158.
4- سورة العنكبوت، الآية: 48.
5- سورة البقرة، الآية: 119.
6- سورة الأحزاب، الآية: 6.
 
 
117
 

97

دفاعٌ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

13 - أزواجه أمّهات المؤمنين. قال تعالى: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ1. "

14 - و هو خاتم النبيّين. قال تعالى: ﴿وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾2، وهو بمعنى أنّه صلى الله عليه وآله وسلم خيرهم و أنّه لا نبيّ بعده. كما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم و أمّا بمعنى أنّه المسيطر على الأنبياء جميعاً، كسيطرة الخاتم على الإصبع وإحاطته به. بمعنى أن دعوته صلى الله عليه وآله وسلم شاملة لهم جميعاً.

15 - إنّ الشرائع السابقة و إن اختلفت عن شريعة الإسلام بالتفاصيل، إلَّا أنّها لا تختلف عنها بالمضمون و الجوهر. فشريعة الإسلام، الّتي جاء بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شاملة للبشر أجمعين حتّى قبل البعثة.

قال تعالى: ﴿قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾3.

و قال تعالى: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا﴾4.

و قال سبحانه: ﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ5.

و قال جلّ و علا: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ﴾6: ﴿آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ7.

و كذلك الحال في الجنّ. قال تعالى: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ﴾8.

16- وهذا يدلّ على أنّ شريعته عامّة للأنس و الجنّ معاً.

17- وهو الّذي بشّر به النبيّ عيسى ابن مريم عليه السلام. قال تعالى على لسانه


1- سورة الأحزاب، الآية: 6.
2- سورة الأحزاب، الآية: 40.
3- سورة البقرة، الآية: 133.
4- سورة الحج، الآية: 78.
5- سورة الذاريات، الآية: 36.
6- سورة المائدة، الآية: 111.
7- سورة المائدة، الآية: 111.
8- سورة الجن، الآية: 14.
 
118


 

98

دفاعٌ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ1.

18 - و هو الّذي كان يعلم ببعثته علماء بني إسرائيل. قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾2

19 - و لم يعلمه الله عزّ و جلّ الشعر لما فيه من خلّة و نقص في مقامه. قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ3.

20 - و تدلّنا هذه الآية على أنّه صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله عزّ و جلّ. و هذا من أعظم صفاته ومكرّر في القرآن الكريم. وفي الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله اختار محمّداً عبدا قبل أن يتخذه رسولاً"4.


1- سورة الصف، الآية: 6.
2- سورة الشعراء، الآية: 197.
3- سورة يس، الآية: 69.
4- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج7، ص289.
 
 
119
 
 

99

الغضب الرساليّ

كيانه، ويثقل روحه حزن عميق، وقلق شديد على مستقبل بني إسرائيل، لأنّ التخريب والإفساد أمر سهل، وربما استطاع شخص واحد تخريب كيان عظيم ولكن الإصلاح والتعمير أمر صعب وعسير جدّاً. خاصّة أنّه إذا سرت في شعب جاهل متعنّت نغمة مخالفة شاذّة، وافقت هوى ورغبة، فإنّ محوها لا شكّ لن يكون أمراً ممكناً وسهلاً.

فهنا لا بدّ أن يُظهر موسى عليه السلام غضبه الشديد ويقوم بالحدّ الأعلى من ردّ الفعل والسخط، كي يوقظ الأفكار المخدّرة لدى بني إسرائيل، ويوجد انقلاباً في ذلك المجتمع الّذي انحرف عن الحقّ، إذ العودة إلى الحقّ والصواب عسيرة في غير هذه الصورة1.
 

1- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي،ج 5 ص 227 و228.
 
 
132

100

الغضب الرساليّ

يقول الله تعالى في محكم كتابه:

﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾1


1- سورة ‏الأعراف، الآية:150.
 
 
121
 

101

الغضب الرساليّ

تمهيد 
حالة الغضب الّتي تنتاب الإنسان لأسباب متعدّدة وتظهر أيضاً في بعض الحيوانات، هي قوّة غريزيّة إلهيّة أودعها الله سبحانه وتعالى لأسباب عدّة، منها الدفاع عن النوع البشريّ ومنها الدفاع عن الممتلكات الخاصّة والعامّة والكرامات والأعراض والمعتقدات والدِّين و... ولكن قد يغضب الإنسان لأمورٍ لا ينبغي الغضب لأجلها، وبالعكس أيضاً قد لا يغضب لأمورٍ ينبغي الغضب لها، من هنا كان هناك غضب ممدوح وغضب مذموم، وكان حريّ بالإنسان المؤمن الواعي أن يُميّز بين أنواع الغضب، وأن يغضب في موارد الغضب لا غير. وفي هذا المقام نريد الحديث عن الغضب الرساليّ، والغضب لله في موارد ينبغي الغضب لها ويُمدح ويثاب عليه، بينما نجد الكثير من الناس لا يغضبون لذلك.

الغضب الرساليّ
إنّ الغضب الشخصيّ مرفوض في الخلق الإسلامي.. أمّا الغضب الرساليّ، كالغضب لمحارم الله تعالى إذا انتُهكت، ولدين الله إذ حُرّف، وللمعتقدات إذا أُهينت، ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استُهزأ به، فإنّ كلّ ذلك من الأمور الّتي يُربّي عليه الإسلام العزيز، وهو نتيجة طبيعية للقيم الرسالية في الشخصيّة الإسلامية. وإذا
 
 
123
 

102

الغضب الرساليّ

ما وجدنا أنفسنا أحياناً لا نشعر بالإنكار القلبيّ للمنكَر والغضب عليه، فهذا يعني أنّ علينا أن نشحذ قوانا الانفعالية ونُنشئها على الإسلام من جديد.

في الخبر عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام: "إنّ الله بعث ملكين إلى أهل مدينة ليقلباها على أهلها، فلمّا انتهيا إلى المدينة، وجدا فيها رجلاً يدعو ويتضرّع.. إلى أن قال: فعاد أحدهما إلى الله فقال: يا ربّ إنّي انتهيت إلى المدينة، فوجدت عبدك فلاناً يدعوك، ويتضرّع إليك، فقال امضِ كما أمرتك به فإنّ ذا رجل لم يتمعّر - أي يبدي - وجهه غيظاً لي قطّ"1.

وعن الإمام أبي جعفر عليه السلام أوحى الله إلى شعيب النبيّ عليه السلام: "إنّي معذّب من قومك مئة ألف: أربعين الفاً من شرارهم وستّين ألفاً من خيارهم. فقال: يا ربّ هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: داهنوا أهل المعاصي، ولم يغضبوا لغضبي"2

وعن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام قال: "قال موسى بن عمران: يا ربّ من أولئك الّذين تُظلّهم في ظلّ عرشك يوم لا ظلّ إلّا ظلّك؟ فأوحى الله إليه: الطاهرة قلوبهم والبريّة أيديهم الّذين يذكرون جلالي ذكر آبائهم، إلى أن قال: والّذين يغضبون لمحارمي إذا استُحلّت مثل النمر إذا جُرح"3

غير أنّ هذا الغضب الرسالي يجب أن لا يخرج عمليّاً عن حدود الرسالة نفسها، وكثيراً ما لا يكون التصرّف الغاضب منسجماً مع مقاييس الرسالة وموافقاً لأحكامها، والجهاز الحاكم في الشخصيّة هو العقل والشرع الّلذان يُحدّدان الموقف الّذي يستلزمه المنطق الدِّيني، وليس العواطف والانفعالات.


1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 16، ص 144.
2- م.ن، ج 16، ص 146.
3- م.ن، ج16، ص 147.
 
 
124
 

103

الغضب الرساليّ

متى نغضب؟
يحتاج المؤمن في ميدان العمل أكثر من غيره إلى إرادة حازمة وشخصية مستقلّة عن الأحداث والإثارات، فيجب أن لا يردّ إذا جُهل عليه، ولا يثور إذا استُثير وإنّما يكون حكيماً متعقّلاً باستمرار، وفي كلّ مجال.

قال الإمام أبو جعفر عليه السلام: 
"في حكمة آل داود ينبغي للمسلم أن يكون مالكاً لنفسه مقبلاً على شأنه عارفاً بأهل زمانه، فاتّقوا الله، ولا تذيعوا حديثنا"1

وعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام: 
"كظم الغيظ عن العدوّ في دَولاتهم تقية حزم (الحزم ضبط الأمر والأخذ فيه بالثقة) لمن أَخَذَ به، وتحرّرٌ من التعرّض للبلاء في الدنيا، ومعاندةُ الأعداءِ في دولاتهم ومحاظّتهم في غير تقيّة تركُ أمر الله. فجاملوا الناس يُسمن لكم عندهم، ولا تعادوهم فتحملوهم على رقابكم فتذلّوا"2

وليس كظم الغيظ والغضب عن العدوّ أمامه فقط، وإنّما في كلّ أمر تقتضي فيه مصلحة الرسالة الكفّ وعدم الغضب. 

ذو النون أو صاحب الحوت
لقد سجّل الله تعالى لنبيّه الكريم في القرآن قصّة النبيّ ذي النون يونس عليه السلام: 
﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾3. 
 

1- وسائل الشيعة، م.س، ج16، ص 247.
2- أصول الكافي، الكليني، ج 2، ص 119.
3- سورة الأنبياء، الآيتان: 87 88.
 
 
 
125

 

 


104

الغضب الرساليّ

خلاصة القصّة 
كان عليه السلام - على ما في الروايات - قد سأل ربّه أن يُنزل على قومه العذاب فأجابه تعالى إلى ذلك فأخبرهم به فلمّا أشرف عليهم العذاب بالنزول تابوا إلى ربّهم فرُفع عنهم العذاب، وكان النبيّ يونس عليه السلام قد ترك قومه، وذهب لوجهه حتّى ركب السفينة فاعترضها حوت، فساهمهم في أن يدفعوا الحوت بإلقاء رجل منهم إليه ليلتقمه وينصرف عن الباقين، فخرجت القرعة باسمه فألقي في البحر فالتقمه الحوت فكان يُسبّح الله في بطنه إلى أن أمره الله أن يلقيه إلى ساحل البحر، وقد قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾1

﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾2، ولم يكن ذلك كلّه إلّا لكي يريه الله سبحانه أنّه قادر على أن يقبض عليه ويحبسه حيث شاء، وأن يصنع به ما شاء، فلا مهرب من الله سبحانه إلّا إليه، ولذلك لقّنه الحال الّذي تمثّل له وهو في سجنه من بطن الحوت، أن يقرّ لله بأنّه هو المعبود الّذي لا معبود غيره، ولا مهرب عن عبوديته فقال: ﴿لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ3. ثمّ ذكر ما جرى عليه الحال من تركه قومه إثر عدم إهلاكه تعالى إيّاهم بما أنزل عليهم من العذاب فأثبت الظلم لنفسه ونزّه الله سبحانه عن كلّ ما فيه شائبة الظلم والنقص فقال: ﴿سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ4. ولم يذكر مسألته - وهى الرجوع إلى مقامه العبودي السابق - عدا لنفسه دون لياقة الاستعطاء واستحقاق العطاء استغراقاً في الحياء والخجل، والدليل على مسألته قوله تعالى بعد الآية السابقة: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ5.
 

1- سورة الصافات، الآيتان: 143 144.
2- سورة الأنبياء، الآية: 87.
3- سورة الأنبياء، الآية: 87.
4- سورة الأنبياء، الآية: 87.
5- سورة الأنبياء، الآية: 88.
 
 
126

 

105

الغضب الرساليّ

والدليل على أن مسألته كانت هي الرجوع إلى سابق مقامه قوله تعالى: ﴿فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ1، 2

إنّه من السهل على صاحب الدعوة أن يغضب لأجل أنّ الناس لا يستجيبون لدعوته فيهجر الناس.. إنّه عمل مريح قد يُفتِّر الغضب ويهدّىء الأعصاب، ولكن أين هي الدعوة؟ وما الّذي عاد عليها من هجران المكذّبين المعارضين؟

إنّ الدعوة هي الأصل لا شخص الداعية! فعلى الداعية أن يكظم الغيظ ويمضي في الدعوة. وخير له أن يصبر فلا يضيق صدره بما يقولون.

إنّ الداعية أداة في يد القدرة الإلهية، والله أرعى لدعوته وأحفظ، فليؤدِّ هو واجبه في كلّ ظرف وفي كلّ جوّ، فعليه التكليف لا غير، والثمرة والنتاج والهدى ومتى يكون النجاح فعلى الله سبحانه.

وفي قضية ذي النون درسٌ لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتأمّلوه، وإنّ في رجعة ذي النون إلى ربّه واعترافه بظلمه الّذي هو ترك الأولى والأنسب لعبرة لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتدبّروها، وإنّ في رحمة الله لذي النون واستجابة دعائه المنيب في الظلمات بشرى للمؤمنين: ﴿وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ3.

غضب النبيّ موسى عليه السلام 
أمّا غضب النبيّ موسى عليه السلام فما حكاه الله سبحانه عنه عليه السلام: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ4


1- سورة الصافات، الآيات: 145 - 148.
2- الميزان في تفسير القرآن، العلّامة الطباطبائي، ج6، ص 287 بتصرّف.
3- سورة الأنبياء، الآية: 88.
4- سورة ‏الأعراف، الآية: 150.
 
 
127

106

الغضب الرساليّ

وفي شرح هذه الآية يقول صاحب تفسير الميزان 

فمعنى الآية: ولمّا رجع موسى إلى قومه وهو في حال غضبٍ وأسف لِما أخبره الله تعالى لدى الرجوع بأنّ قومه ضلّوا بعبادة العجل بعده، فوبّخهم وذمّهم بما صنعوا وقال: ﴿بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾1 وطلبتموه قبل بلوغ أجله، وهو أمر (الله سبحانه) من بيده خيركم وصلاحكم، ولا يجري أمراً إلّا على ما يقتضيه حكمته البالغة، ولا يؤثّر فيه عجلة غيره ولا طلبة ولا رضاه إلّا بما شاء. والظاهر أنّ المراد بأمر ربّهم أمره الّذي لأجله واعد موسى عليه السلام لميقاته، وهو نزول التوراة...

وبالجملة اشتدّ غضب موسى عليه السلام لمّا شاهد قومه ووبّخهم وذمّهم بقوله: 
﴿بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾2 وهو استفهام إنكاري -﴿وَأَلْقَى الألْوَاحَ﴾3 وهي ألواح التوراة ﴿وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ4 قابضاً على شعره يجرّه إليه وقد قال له - فيما حكى الله في سورة طه: ﴿يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي5 ﴿ قال هارون﴿ابْنَ أُمَّ﴾6 وإنّما خاطبه بذكر أمّهما دون أن يقول: يا أخي أو يا ابن أبي؛ للترقيق وتهييج الرحمة: ﴿إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي7 لمّا خالفتهم في أمر العجل ومنعتهم عن عبادته: ﴿فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾8 بحسباني كأحدهم في مخالفتك.


1- سورة الأعراف، الآية: 150.
2- سورة الأعراف، الآية: 150.
3- سورة الأعراف، الآية: 150.
4- سورة الأعراف، الآية: 150.
5- سورة طه، الآية: 92-93.
6- سورة الأعراف، الآية: 150.
7- سورة الأعراف، الآية: 150.
8- سورة الأعراف، الآية: 150.
 
 
128
 

 


107

الغضب الرساليّ

وكان ممّا قال له - على ما حكاه الله في سورة طه: ﴿إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾1. وظاهر سياق الآية وكذا ما في سورة طه من آيات القصّة أنّ موسى غضب على هارون كما غضب على بني إسرائيل غير أنّه غضب عليه حسباناً منه أنّه لم يبذل الجهد في مقاومة بني إسرائيل لما زعم أنّ الصلاح في ذلك مع أنّه وصّاه عند المفارقة وصيّة مطلقة بقوله: ﴿وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ2 وهذا المقدار من الاختلاف في السليقة والمشية بين نبيَّين معصومين لا دليل على منعه، وإنّما العصمة فيما يرجع إلى حكم الله سبحانه دون ما يرجع إلى السلائق وطرق الحياة على اختلافها3.

غضب الأنبياء عليهم السلام وتألّمهم
نلاحظ أنّ غضب الأنبياء عليهم السلام كان لأجل الله سبحانه، وحسرة على الناس لضلالهم وكيف لا يرون آيات الله سبحانه ويهتدون إلى سواء السبيل، بل كانوا يعيشون حالة الحسرة والأسف واللوعة والألم الداخلي لأجل عدم رجوع الناس إلى الصراط السويّ، وقد قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيّه محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾4، ويقول في آية ثانية: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ5

هكذا أنبياء الله وأولياؤه، يعيشون أعلى درجات الحسرة على الناس، ولا يغضبون لأنفسهم قطّ، وإنّما غضبهم لله تعالى.


1- سورة طه، الآية: 94.
2- سورة الأعراف، الآية: 142.
3- الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي، ج8، ص250 253.
4- سورة فاطر، الآية: 8
5- سورة الشعراء، الآية: 3.
 
 
130
 

108

الغضب الرساليّ

مطالعة
 
ردة فعل شديدة تجاه عبادة العجل
قال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ1

ولمّا عاد موسى عليه السلام إلى قومه غضبان ممّا صنع قومه من عبادة العجل، قال لهم: ضيّعتم ديني وأسأتم الخلافة ولمّا رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال بئسما خلفتموني من بعدي. إنّ هذه الآية تفيد بوضوح أنّ موسى عند رجوعه إلى قومه من الميقات وقبل أن يلتقي ببني إسرائيل كان غضبان أسفاً، وهذا لأجل أنّ الله تعالى كان قد أخبر موسى عليه السلام بأنّه اختبر قومه من بعده وقد أضلّهم السامري قال: ﴿فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾2

ثمّ إنّ موسى عليه السلام قال لهم: ﴿أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾3. للمفسِّرين كلام كثير في تفسير هذه الجملة، وقد ذكروا احتمالات عديدة مختلفة، إلّا أنّ ظاهر الآيات يفيد أنّ المراد هو أنّكم تعجّلتم في الحكم بالنسبة إلى أمر الله تعالى في قضية تمديد مدّة الميقات من ثلاثين إلى أربعين، فاعتبرتم عدم مجيئي في المدّة المقرّرة - أوّلاً دليلاً على موتي، في حين كان يتعيّن عليكم أن تتريّثوا وتنتظروا قليلاً ريثما تمرّ أيّام ثمّ تتّضح الحقيقة. وفي هذا الوقت بالذّات، أي عندما واجه موسى عليه السلام هذه الأزمة الخطيرة من حياة بني إسرائيل، وكان الغضب الشديد يسري في كلّ


1- سورة الأعراف، الآيتان: 150 151.
2- سورة طه، الآية: 85.
3- سورة الأعراف، الآية: 150.
 
131
 

109

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيته عليهم السلام

 يقول الله تعالى في محكم كتابه:

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا1.


1- سورة الأحزاب، الآية: 33.
 
 
133
 

110

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيته عليهم السلام

تمهيد
إنّ أهل البيت عليهم السلام هم أولو الأمر الّذين أمر الله بطاعتهم، وهم الشهداء على الناس، وهم أبواب الله والسبيل إليه، والأدلاء عليه، وهم عيبة علمه، وتراجمة وحيه، وأركان توحيده، وهم معصومون من الخطأ والزلل، وهم الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وأنّ لهم المعجزات والدلائل، وهم أمان لأهل الأرض، كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء، ومثلهم في هذه الأمّة كمثل سفينة نوح.

وقد ورد أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقي ستّة أشهر بعد نزول هذه الآية ينادي عند مروره من جنب بيت فاطمة عليه السلام وهو ذاهب إلى صلاة الصبح: "الصلاة يا أهل البيت ! إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً"1

فيمن نزلت آية التطهير؟
إنّ هذه الآية بالرغم من أنّها وردت ضمن الآيات المتعلّقة بنساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، إلّا أنّ تغيير سياقها - حيث تبدّل ضمير الجمع المؤنث إلى ضمير الجمع المذكر - دليل على أنّ لهذه الآية معنى ومحتوى مستقلّاً عن تلك الآيات، ولهذا فحتّى أولئك الّذين لم يعتبروا الآية مختصّة بمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليه السلام ، فإنّهم


1- شواهد التنزيل، الحاكم الحسكاني،ج 2، ص11. 
 
135

 

111

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيته عليهم السلام

 اعتقدوا أنّ لها معنى واسعاً يشمل هؤلاء العظام ونساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. ولكنّ الروايات الكثيرة الّتي بين أيدينا تبين أنّ هذه الآية خاصّة بهؤلاء الأجلاء، ولا تدخل الزوجات ضمن الآية، بالرغم من أنهنّ يتمتعن باحترام خاصّ، و من هذه الروايات: 

روي عن أمّ سلمة، أنّها قالت: "نزلت في بيتي وفيه عليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، عليهم السلام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عباءة فجلّلهم بها، ثمّ قال: هؤلاء، أهل بيتي، أذهب الله عنهم الرجس، وطهّرهم تطهيرا، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألست من أهل البيت؟ فقال: إنّك على خير"1.

وعن ابن عباس: "أنّها نزلت في عليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين عليهم السلام".

وقد وردت روايات كثيرة جدّاً بصورة مجملة في شأن حديث الكساء الّذي كان المناسبة لنزول آية التطهير، يستفاد منها جميعاً أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام - أو أنّهم أتوا إليه- فألقى عليهم عباءة وقال: "اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فنزلت الآية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾2

ما هو الهدف من جمعهم تحت الكساء؟ 
إنّ قصّة الكساء لها أبعاد إيمانيّة ولطائف نورانيّة عظيمة، حيث إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جمع أهل بيته عليه السلام تحت كسائه كما يجمع الأب أولاده في حضنه ليقيهم البرد ويشعرهم بالأمان والمحبّة، مشيراً في ذلك إلى عظمة وقدسيّة من هم تحت الكساء، كذلك أراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يحدّد هؤلاء ويعرّفهم تماماً، وليقول: إنّ الآية نزلت في حقّ هؤلاء خاصّة، لئلا يرى أحد أو يظنّ ظانّ أنّ المخاطب في هذه الآية كلّ من تربطه بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قرابة، وكلّ من يعدّ جزءاً من أهله، حتّى جاء في بعض الروايات أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد كرّر هذه


1- بحار الأنوار، م.س، ج25،ص214.
2- شواهد التنزيل، ج 2، ص31 وما بعدها. 
 
 
136
 

112

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيته عليهم السلام

الجملة ثلاث مرّات: "اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً"1

هذا هو مراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من حصرهم تحت الكساء، ومنع حتّى أمّ سلمة من الدخول معهم، كما ورد في روايات كثيرة، قاطعاً بذلك العمل الأبويّ الطريقَ على كلّ ادعاء بشمولها لغيرهم.

هم الخلفاء بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم 
إنّ أهل البيت عليهم السلام الّذين ورثوا علم النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وتحلّوا بأخلاقه، وعاشوا تحت رعايته واهتمامه، وهم الّذين حملوا راية الإسلام واستشهدوا في سبيلها، وهم الّذين نُصّبوا بأمرٍ إلهيٍّ، واختيروا من العليّ الأعلى ليكونوا قادة وسادة أهل الوجود، فمع كلّ هذه الكرامات والشمائل أيُعقل أن لا يكونوا هم الخلفاء والأوصياء بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وهم الأحقّ والأجدر بقيادة الأمّة نحو الله عزّ وجلّ، وهم الامتداد للخطّ النبويّ هذا كما جاء على لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "في كلّ خلف من أمّتي عدل من أهل بيتي ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وأنّ أئمّتكم وقودكم إلى الله عزّ وجلّ فانظروا من توقدون في دينكم"2.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "مثل أهل بيتي، كمثل نجوم السماء، فهم أمان لأهل الأرض، كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت النجوم، طويت السماء، وإذا ذهب أهل بيتي خربت الأرض"3.

وقوله: "يا عليّ الإمامة فيكم، والهداية منكم"4.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ من أهل بيتي اثني عشر نقيباً نجباء، محدّثون، مفهّمون، آخرهم، القائم بالحقّ عليه السلام "5.


1- الدر المنثور، السيوطي، ج5، ص198.
2- بحار الأنوار،ج23،ص30.
3- المعتبر، المحقق الحليّ، ج1، ص24.
4- م.ن، ج1، ص24.
5- الكافي، ج 1، ص 448،ح 18.
 
 
 
137
 

113

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيته عليهم السلام

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله تعالى اختار من الأيّام يوم الجمعة ومن الشهور شهر رمضان ومن الليالي ليلة القدر، واختار من الناس الأنبياء والرسل، واختارني من الرسل واختار منّي عليّاً، واختار من عليّ الحسن والحسين، واختار من الحسين الأوصياء يمنعون عن التنزيل تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأوّل الجاهلين، تاسعهم باطنهم ظاهرهم قائمهم وهو أفضلهم"1.

من هم أهل البيت عليهم السلام 
أهل البيت عليهم السلام هم الّذين جعل الله مودتهم أجر الرسالة، فقال تعالى: ﴿لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى2.

وقد ورد أنّه اجتمع المشركون في مجمع لهم، فقال بعضهم لبعض: أترون محمّداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً؟ فنزلت الآية. فقيل: يا رسول الله! من قرابتك هؤلاء الّذين وجب علينا مودّتهم؟ قال: "عليّ وفاطمة، وابناهما، حرمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي. ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائباً، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكملاً للإيمان، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة. ثمّ منكر ونكير. ألا ومن مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فُتح له بابان في قبره إلى الجنّة، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة.

ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من


1- بحار الأنوار،ج25،ص363.
2- سورة الشورى،الآية: 23.
 
 
 
138

 

 


114

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيته عليهم السلام

رحمة الله، ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافراً، ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة"1

سفينة نوح 
وأمّا السفينة الّتي قدّرها الله تبارك وتعالى لنوح عليه السلام سبباً لنجاة من آمن معه من الماء، فإنّ الله سبحانه وتعالى جعل أهل بيت نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم سفينة لنجاة أمّته من النار فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق"2.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق. وإنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل من دخله غفر له"3.

بيّن صلى الله عليه وآله وسلم بذلك أنّ بهم نجاة أمّته كما كان بها نجاة قوم نوح عليه السلام من الغرق، وهذا دليل قاطع على أنّ الواجب اتباعهم والاقتداء بهم، لأنّ من آمن به واتبعه نجا، ومن لم يؤمن به ولم يركب السفينة هلك، ولمّا جعل نفس أهل بيته السفينة، وأمرهم بركوبها، دلّ على أنّهم المقتدى بهم، وهذا واضح وظاهر من الرواية.

وممّا يأخذ بالأعناق إلى أهل البيت عليهم السلام ، ويضطرّ المؤمن إلى الانقطاع في الدين إليهم، قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف (في الدين) فإذا خالفتها قبيلة من العرب - يعني في أحكام الله عزّ وجلّ - اختلفوا فصاروا حزب إبليس"4.


1- تفسير الكشّاف،ج 2، ص339، كذلك ينظر: أرجح المطالب: ص 320، وفرائد السمطين،ج 2،ص49، ومقام أمير المؤمنين،ص 44 - 45.
2- أخرجه الحاكم بالإسناد إلى أبي ذر ص 151 من الجزء الثالث من صحيحه المستدرك. 
3- أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد وهذا هو الحديث 18 من الأربعين الخامسة والعشرين من الأربعين أربعين للنبهاني ص 216 من كتابه الأربعين أربعين حديثاً.
4- أخرجه الحاكم في ص 149 من الجزء الثالث من المستدرك عن ابن عباس، ثمّ قال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
 
 
 
139
 
 
 

115

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيته عليهم السلام

هذا غاية ما في الوسع من إلزام الأمّة باتباعهم، وردعها عن مخالفتهم. ولا يوجد في لغات البشر كلّها أدلّ من هذا الحديث على ذلك.

غدير خم وحكمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم 
إنّ النجاح النبويّ الساحق يظهر بإبراز من سيخلفه في الوقت نفسه الّذي كان فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركّز على حقيقة وطبيعة المكانة الخاصّة المميّزة الّتي اختارها الله لأهل بيته، فكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يسلّط أضواء ربانيّة خاصّة على الأئمّة من أهل بيت النبوّة، فيقدّمهم من خلال تركيزه الخاصّ عليهم كقادة شرعيّين للأمّة، وقد ساق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخطّين معاً، فعمّم المكانة السامية لأهل بيت النبوّة، وأبرز المكانة الخاصّة للأئمّة الأعلام منهم. فبيّن أنّ أهل بيت النبوّة هم المطهّرون، وهم أولو القربى الّذين فرض الله مودّتهم، وهم الأبناء والنساء والأنفس الّذين عنتهم آية المباهلة، وهم الأبرار الّذين عنتهم آية الإطعام، وهم أولو الأمر الّذين فرض الله طاعتهم، وهم أهل الذكر... إلخ.

ولأنّ منصب من يخلف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو حجر الأساس لنظام الحكم في الإسلام، ولقطع الطريق على أعداء الله السابقين الّذين تستّروا بالإسلام، وحتّى لا تكون لهم حجّة يحتجّون بها أمام الله، فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينصّب ويتوّج عليّاً عليه السلام إماماً من بعده، وأن يكلّف المسلمين بمبايعته فرداً فرداً تحت إشراف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شخصيّاً، فصدع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأمر ربّه بعد أن أكمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون شعائر فريضة الحجّ، ولأنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد أعلن بأنّ حجّته تلك هي حجّة الوداع، وأنّه لن يراهم أبداً بعد هذا العام، فقد تعلّقت به القلوب والأبصار، وأرادوا أن يتزودوا من النظر إليه، وأن يسمعوا كلّ كلمة يقولها. خرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من مكّة متوجّهاً إلى المدينة، وتبعته وفود الحجيج، وفي مكان يِدعى غدير خم، أناخ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ركابه، وأمر بردّ الّذين سبقوه بالسير، وباستعجال الّذين تأخّروا عنه، وأحيط المسلمون علماّ بأنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سيصدر بيانه الأخير، وتلخيصه للموقف، من خلال خطبة
 
 
140

 

116

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيته عليهم السلام

سيلقيها أمام الجموع. واحتشد المسلمون بالفعل في غدير خم وجاوز عددهم بأقل التقديرات مائة ألف مسلم ومسلمة، وبعد قليل ظهر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وإلى جانبه عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، والناس جلوس، والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ في حالة وقوف، في مكان مكشوف ومرئيّ من كلّ الناس. خشعت الأصوات، فلا تسمع همساً، العيون معلّقة بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبعليّ والجميع يتساءلون، لماذا جمع رسول الله الناس؟ ! وأي أمر خطير يريد أن يعلنه؟ حمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الله وأثنى عليه ثمّ قال: "كأنّي قد دعيت فأجبت... أيّها الناس إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب !..". لقد تأكّد المسلمون السامعون من أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سيموت لا محالة، فتابعوا بشغف واهتمام كلّ كلمة كانت تخرج من فم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. ثمّ تابع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خطبته قائلاً: "وإنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله فيه النور والهدى فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به، وعترتي أهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي". وفجأة سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجموع المسلمة المحتشدة أمامه قائلاً: "أيّها الناس من وليّكم؟" فردّت الجموع بصوت واحد: "الله ورسوله"، وهنا أخذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بيد عليّ عليه السلام فأقامه ثمّ قال: "من كان الله ورسوله وليّه فهذا عليّ وليّه، الّلهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه".

ومرّة أخرى سأل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين: "ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقال المسلمون: بلى! وسألهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثانية: ألستم تعلمون أنّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه؟ فقال المسلمون بلى، فرفع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يد عليّ بن أبي طالب" وقال: "من كنت مولاه فعليّ مولاه، الّلهمّ وال من والاه وعاد من عاداه". ثمّ قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "أيّها الناس إنّي وليّكم، قال الناس نعم، فرفع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يد عليّ بن أبي طالب" وقال: "هذا وليّي ويؤدّي عني، وأنا موال من والاه، ومعاد من عاداه". ثمّ أكّد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الحقيقة الّتي اتّفق عليها الجميع فقال: "إنّ الله، مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه،
 
 
141

 

117

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيته عليهم السلام

الّلهمّ وال من والاه وعاد من عاداه".

بعد أن انتهت مراسم تنصيب وتتويج من سيخلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، هبط جبريل ومعه آية الإكمال ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾1 وصار يوم الغدير عيداً.

وفي الختام علينا أن نعلم أنّ الله عزّ وجلّ الّذي جعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نبيّاً هو الّذي جعل علياً إماماً، وأن نصب الإمام وإقامته واختياره إلى الله عزّ وجلّ، وأنّ فضله منه. ويجب أن نعتقد أنّه يلزمنا من طاعة الإمام ما يلزمنا من طاعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنّ كلّ فضل آتاه الله عزّ وجلّ نبيّه فقد آتاه الإمام إلّا النبوّة، ويجب أن نعرف أنّ بهم فتح الله، وبهم يختم.

مطالعة
حديث جابر مع السيّدة الزهراء عليها السلام 
عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أبي عليه السلام لجابر بن عبد الله الأنصاري: إنّ لي إليك حاجة فمتى يخفّ عليك أن أخلو بك فأسألك عنها، فقال له جابر: في أيّ الأوقات شئت، فخلى به أبو جعفر عليه السلام ، قال له: "يا جابر أخبرني عن اللوح الّذي رأيته في يد أمي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما أخبرتك به أنّه في ذلك اللوح مكتوباً، فقال جابر: أشهد بالله أنّي دخلت على أمّك فاطمة عليها السلام في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهنّئها بولادة الحسين عليه السلام فرأيت في يدها لوحاً أخضر ظننت أنّه من زمرّد، ورأيت فيه كتابة بيضاء شبيهة بنور الشمس، فقلت لها: بأبي أنت وأميّ يا بنت رسول الله ما هذا اللوح؟ فقالت: هذا اللوح أهداه الله عزّ وجلّ


1- سورة المائدة، الآية 3.
 
 
142
 

118

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيته عليهم السلام

إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيه اسم أبي واسم بعّلي واسم ابني وأسماء الأوصياء من ولدي، فأعطانيه أبي ليسرّني بذلك.

قال جابر: "فأعطتنيه أمّك فاطمة عليهما السلام فقرأته وانتسخته فقال له أبي عليه السلام: فهل لك يا جابر أن تعرضه عليّ؟ فقال: نعم، فمشى معه أبي عليه السلام حتّى انتهى إلى منزل جابر فأخرج إلى أبي صحيفة من رقّ، فقال: يا جابر انظر أنت في كتابك لأقرأه أنا عليك، فنظر جابر في نسخته فقرأه عليه أبي عليه السلام فوالله ما خالف حرف حرفاً، قال جابر: فإنّي أشهد بالله أنّي هكذا رأيته في اللوح مكتوباً:
 
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لمحمّد نوره وسفيره وحجابه ودليله، نزل به الروح الأمين من عند ربّ العالمين، عظّم يا محمّد أسمائي، واشكر نعمائي، ولا تجحد آلائي، إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا قاصم الجبّارين "ومبير المتكبّرين ومذلّ الظالمين وديّان يوم الدين، إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا فمن رجا غير فضلي، أو خاف غير عدلي عذّبته عذاباً لا أعذّبه أحداً من العالمين، فإيّاي فاعبد وعليّ فتوكّل، إنّي لم أبعث نبيّاً فأكملت أيّامه وانقضت مدّته إلّا جعلت له وصيّاً وإنّي فضلتك على الأنبياء، وفضلت وصيّك على الأوصياء وأكرمتك بشبليك بعده وبسبطيك الحسن والحسين، وجعلت حسناً معدن علمي بعد انقضاء مدّة أبيه، وجعلت حسيناً خازن وحيي، وأكرمته بالشهادة، وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد وأرفع الشهداء درجة، جعلت كلمتي التامّة معه، والحجّة البالغة عنده، بعترته أثيب وأعاقب، أولهم عليّ سيد العابدين، وزين أوليائي الماضين، وابنه سمّي جدّه المحمود، محمّد الباقر لعلمي والمعدن لحكمتي، سيهلك المرتابون في جعفر الراد عليه كالراد عليّ، حقّ القول منّي لأكرمنّ مثوى جعفر، ولأسرّنه في أوليائه وأشياعه وأنصاره وانتحبت بعد موسى فتنة عمياء حندس، لأنّ خيط فرضي لا
 
 
143
 

119

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيته عليهم السلام

ينقطع وحجّتي لا تخفى، وأنّ أوليائي لا يشقون أبداً، ألا ومن جحد واحداً منهم فقد جحد نعمتي، ومن غيّر آية من كتابي فقد افترى عليّ، وويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدّة عبدي موسى وحبيبي وخيرتي، (ألا) إنّ المكذّب بالثامن مكذّب بكلّ أوليائي. وعليّ ولييّ وناصري، ومن أضع عليه أعباء النبوّة وأمتحنه بالاضطلاع، يقتله عفريت مستكبر، يدفن بالمدينة الّتي بناها العبد الصالح ذو القرنين إلى جنب شرّ خلقي، حقّ القول منّي لأقرّن عينه بمحمّد ابنه وخليفته من بعده، فهو وارث علمي ومعدن حكمتي وموضع سرّي وحجتي على خلقي، جعلت الجنّة مثواه وشفعته في سبعين من أهل بيته كلّهم قد استوجبوا النار، وأختم بالسعادة لابنه عليّ وليّي وناصري، والشاهد في خلقي، وأميني على وحيي، أخرج منه الداعي إلى سبيلي والخازن لعلمي الحسن، ثمّ أكمل ذلك بابنه رحمة للعالمين، عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيّوب، ستذلّ أوليائي في زمانه ويتهادون رؤوسهم كما تهادى رؤوس الترك والديلم فيقتلون ويحرقون ويكونون خائفين مرعوبين وجلين، تصبغ الأرض من دمائهم، ويفشو الويل والرنين في نسائهم أولئك أوليائي حقّاً، بهم أدفع كلّ فتنة عمياء حندس، وبهم أكشف الزلازل، وأرفع عنهم الآصار والأغلال، أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون"1.


1- كمال الدين وتمام النعمة،الشيخ الصدوق،ص311.
 
 
144
 

 

120

أهميّة الصلوات

 يقول الله تعالى في محكم كتابه: 

﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾1 


1- سورة الاحزاب، الآية: 56.
 
 
145

121

أهميّة الصلوات

تمهيد
أغلب الأدعية والمناجاة والزيارات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، تبدأ بالصلاة على محمّد وآل محمّد أو تختم بها، فالصلاة على النبيّ وآله من الآداب العامّة الّتي يراعيها الداعي قبل وبعد أيّ دعاء، والصلوات أيضاً قد يتكرّر ذكرها في أثناء المناجاة والأدعية، تماماً كما في كثير من أدعية الصحيفة السجّاديّة الواردة عن الإمام زين العابدين عليه السلام.

وقد بلغت الصلوات درجة من الأهمّيّة حتّى أصبحت جزءاً من التشهّد، وتبطل الصلاة فيما لو تُركت عمداً، وهذا ما أشار له الشافعيّ وهو أحد الأئمّة الأربعة عند أهل السنّة في شعره بمدح أهل البيت عليهم السلام قائلاً: 
كفاكم من عظيم القدر أنّكم                  من لم يصلّ عليكم لا صلاة له1         

فالصلاة الّتي هي علاقة فرديّة وشخصيّة مع الله سبحانه نجد أنّه لا بدّ أن تُذكر الصلوات فيها، وهذا الوجوب في التشهّد ليس حكماً خاصّاً بأتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، وإنّما هو حكم متّفق عليه لدى الفريقين الشيعة والسنة.


1- ينابيع المودّة، ج 3، ص 103.
 
 
147
 


122

أهميّة الصلوات

بعض الملاحظات حول الصلوات 
ولأجل هذه العلاقة الخاصّة ينبغي الإشارة إلى بعض الملاحظات حول الصلوات.

الملاحظة الأولى 
ورد من جملة آداب الدعاء أن تُذكر الصلوات قبل وبعد الدعاء وذلك لأجل استجابة الدعاء، وقد ذكر في بيان هذا الأمر أنّه الدّعاء الّذي تُذكر الصلوات قبله وبعده في الحقيقة هو ثلاثة أدعية، لأنّ معنى الصلوات هو طلب الرحمة الخاصّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام ، وهذه الصلوات وبعبارة ثانية هذان الدعاءان قبل وبعد الدعاء من المؤكّد أنّها محلّ العناية الإلهيّة ومورد القبول والإجابة، وذلك لأنّه لا يُعقل ولا يمكن أن لا يستجيب الله سبحانه أخلصَ الأدعية لأفضل عباده وهم النبيّ وأهل بيته الأطهار، ومِن البعيد عن ساحة الفضل والكرم والجود الإلهيّة أن لا يستجيب الدعاء الّذي هو في الوسط بين الدعاءَين، طبعاً فيما لو كان هذا الدعاء الشخصيّ مستوفياً لكلّ شرائط الإجابة، ولم يكن بصدد طلب معصية أو على خلاف المصلحة الشخصيّة أو خلاف مصالح الآخرين.

وعليه سيكون هذا الدعاء الّذي في الوسط مظنّة الإجابة، ويكون محلّ العناية الإلهيّة والسمع الإلهيّ.

سؤال وجواب 
ما هي حكمة الصلوات في التشهّد؟ علماً أنّ هذه الصلوات ليس قبلها ولا بعدها أيّ دعاء خاصّ، وإنّما هي واقعة بعد ذكر الشهادتين: "أشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد"، وقد ورد بعدها السلام وهو: "السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، وكذلك الأمر بالنسبة للصلوات المذكورة في الآية القرآنية الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ 

 
148


 

123

أهميّة الصلوات

يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾1، حيث لا يوجد أيّ دعاء لنا، ولا أيّ طلب أو حاجة خاصّتَين بنا، فما هي حكمة هذه الصلوات؟

وقبل الإجابة على هذا السؤال لا بدّ من بيان ثلاث مقدّمات: 
1ـ إنّ كلّ إنسان عاقل يضع هدفاً لأيّ عمل يقوم به عن اختيار منه، وعليه فإنّ الداعي لا بدّ أن يكون هادفاً وقاصداً لاستجابة دعائه.

2ـ نحن لا نعلم شيئاً عن الدعاء الّذي ندعو به، هل يصبّ في مصلحتنا أولا، وعليه هل يُقبل أو لا، لكنّنا نعلم علم اليقين أنّ الصلوات يستجيبها الله سبحانه، من هنا فالإنسان العاقل عليه أن يدعو الدعاء الّذي يستجيبه الله تعالى.

3ـ عندما نقوم بالصلوات على رسول الله وأهل بيته عليهم السلام ففي الواقع نحن نطلب الرحمة لهم عليهم السلام ، ويُعتبر ذلك بمثابة الهديّة لهم عليهم السلام وهم خير من تأدّب وتخلّق بالأخلاق الإلهيّة، الّتي منها ما وردت الإشارة إليه في قوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾2.

لذلك فإنّ مقتضى كرم أهل البيت عليهم السلام أن يقوموا بردّ هديّتنا بل ومضاعفتها لنا، ويقومون بالدعاء لنا نحن، ومن المؤكّد أنّ دعاءهم مستجاب إن شاء الله تعالى.

وعليه لو قمنا بالدعاء لأنفسنا فلا نعلم أنّه مستجاب أم لا، ولكن لو قام النبيّ وأهل بيته الأطهار بالدعاء لنا، فإنّ دعاءهم مستجاب بإذن الله تعالى.

إذاً بحكم العقل إن كنّا بصدد طلب المنفعة لأنفسنا، علينا أن نبدأ بالصلوات على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام مع غضّ النظر عن إدراج دعائنا الشخصيّ بين الصلوات في الابتداء والصلوات في ختام الدعاء.


1- سورة الأحزاب، الآية: 23.
2- سورة الرحمن، الآية: 60.
 
 
149

124

أهميّة الصلوات

الملاحظة الثانية 
إنّ الدعاء بالصلوات على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام ترجع مصلحتها للإنسان الداعي، وذلك لأنّ الداعي يقوم بطلب الرحمة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام ووجودهم المقدّس مليء بالرحمة الإلهيّة ولا يحتاج وأيّ إضافة عليه، لذا فإنّ هذه الرحمة عندما تُفاض عليهم سوف ترشح وتفيض منهم عليهم السلام إلى غيرهم ممّن هو متعلّق بهم ويعدّ تابعاً وتحت ولايتهم، ولو أردنا تشبيه هذه الحالة فإنّ أفضل مثال لها هو شخص عنده كوب مليء بالماء، فكلّما سُكب ماء داخل الكوب فإنّه سوف تفيض على الصحن الّذي تحته، والّذي يستفيد من هذا الماء المسكوب هي الموجودات المتعلّقة أو الموجودة بالصحن؛ وعليه فإنّ من يدعو ويصلّي على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته تعود نفع هذه الصلوات إليه، لأنّ وجودهم مليء بالرحمة فتفيض منهم عليهم السلام على الشخص الداعي، ولذلك ورد في الدعاء: "اللهم صلِّ على محمّد وآل محمّد صلاة تغفر بها ذنوبنا، وتصلح بها عيوبنا..."1.

ونتيجة ما تقدّم: إنّ الصلوات على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته عليهم السلام ترجع فائدتها إلى شخص الداعي، هذا بالإضافة إلى أنّ هذه الهدية الّتي يُقدّمها لهم عليهم السلام يقابلونها بالهدية وبالدعاء له ويستفيد أكثر من هذا الدعاء.

الملاحظة الثالثة 
عندما يريد إنسانٌ أن يطلب شيئاً ما من رجل عظيم أو جليل وفي نفس الوقت لا يرى لنفسه أنّه أهل لهذا الطلب، أو يليق بأن يطلب من هذا العظيم، فإنّه ينبغي عليه بناء لما في علم النفس أن يلفت نظر هذا العظيم أوّلاً، ثمّ يقوم بطلب حاجته منه، وعلى سبيل المثال، يبدأ أوّلاً بإظهار المحبّة له، والعلاقة به، والطاعة وغير ذلك، ويسعى قدر الإمكان لتهيئة الظروف شيئاً فشيئاً حتّى تحين الفرصة في طلب حاجته. 
 

1- المراقبات، السيد ابن طاووس، ج 1، ص 76.
 
 
 
 
 
150




 

125

أهميّة الصلوات

ونحن الناس لا نملك اللياقة أن نطلب من الله سبحانه، ولا نستحقّ منه الإجابة؛ وذلك بسبب ما ارتكبناه من ذنوب، وتجرّأنا بالمعاصي، وواجهناه بالسيّئات، وفي نفس الوقت ليس لدينا سبيل غير الطلب منه سبحانه، لذلك لا بدّ من تحصيل هذه اللياقة للطلب، وأفضل وسيلة هي طلب الرحمة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام ، فبطلب الرحمة لهم وإظهار المحبّة لهم نستطيع تحصيل لياقة الطلب من الله سبحانه.

وحقيقة المسألة هي أنّ الصلوات تعطينا الجرأة للحديث مع الله سبحانه وأن نطلب حاجاتنا في محضر العظمة الإلهيّة، وقبل أن نقوم بأيّ طلب لأنفسنا نبتدئ بطلب الرحمة لأحبّائه وأوليائه، وهذا الأسلوب هو المستخدم في ميدان المحبّة والعشق، حيث يستخدم أسلوب الإيثار ولغة المحبّة والرحمة، فكأنّنا نقول لأهل البيت عليهم السلام: "نحن وإن كنّا عين الفقر والحاجة، وغارقين في مستنقع الاحتياج، لكن مع ذلك نطلب من الله سبحانه أن يتفضّل عليكم بالرحمة والخير، وما هذا الدعاء والإيثار الصادر منّا إلّا إبرازاً وتعبيراً لشدّة محبّتنا لكم".

إذاً عندما لم يكن أهل بيت النبوّة عليهم السلام بحاجة لدعائنا وطلبنا لهم من الله، ولكن دعاءنا لهم يشبه تصرّف الفقير المسكين الّذي يقف أمام دار أحد الأغنياء ويقول له: "الله يطيل عمرك ويعطيك الصحة والسلامة، الله يرزقك من ماله..." فإنّ هذا التصرّف من الفقير والطلب من الله سبحانه ليس إلّا للفت نظر الغنيّ، لذلك لا يقول الغنيّ أبداً: "إنّني سالم وصحّتي جيّدة وما عندي من مالٍ يكفيني و..." وذلك لأنّه يعلم أنّ هذا الفقير لا يستطيع عمل شيء غير هذا الدعاء، وهذا النحو من الأدعية لا يمكن تفسيرها وتحليلها بالطرق العقلية، وهي ليست سوى بيان للمحبّة وإبراز للعشق ولفت للانتباه.
 
 
 
151
 


بعض آثار الصلوات
1- كفّارة الذنوب: عن الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قال: "الصلاة على
 

126

أهميّة الصلوات

النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمحق للخطايا من الماء للنار, والسلام على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من عتق رقاب"1

وعن الإمام الرضا عليه السلام: "من لم يقدر على ما يكفّر به ذنوبه فليكثر من الصلاة على محمّد وآل محمد فإنّها تهدم الذنوب هدماً"2

عن الإمام الصادق عليه السلام, عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من صلّى عليّ إيماناً واحتساباً استأنف العمل"3.

2- محبّة الله: عن عبد العظيم الحسني قال: سمعت عليّ بن محمّد العسكري عليه السلام يقول: "إنّما اتّخذ الله عزّ وجلّ إبراهيم خليلاً لكثرة صلاته على محمّد وأهل بيته صلوات الله عليهم"4

3- تعديل الميزان: عن الإمام جعفر بن محمّد, عن أبيه, عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا عند الميزان يوم القيامة, فمن ثقلت سيّئاته على حسناته جئت بالصلاة عليّ حتّى أثقل بها حسناته"5

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "ما في الميزان شيء أثقل من الصلاة على محمّد وآل محمّد, وإنّ الرجل لتوضع أعماله في الميزان فتميل به فيخرج صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة عليه فيضعها في ميزانه فترجح"6.

4- زيادة الحسنات: عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "وجدت في بعض الكتب: من صلّى على محمّد وآل محمّد كتب الله له مائة حسنة, ومن قال:


1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج7، ص194.
2- م.ن، ج7، ص195.
3- م.ن، ج7، ص197.
4- م.ن، ج7، ص194.
5- م.ن،ج7، ص196.
6- م.ن، ج7، ص192.
 
 
152
 

127

أهميّة الصلوات

صلّى الله على محمّد وأهل بيته, كتب الله له ألف حسنة"1

5- تذهب بالنفاق: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الصلاة عليّ وعلى أهل بيتي تذهب بالنفاق"2

وعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام, قال: سمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ارفعوا أصواتكم بالصلاة عليّ فإنّها تذهب بالنفاق"3


1- الوسائل م.س، ج7، ص196
2- م.ن، ج7، ص193.
3- م.ن، ج7، ص193.
 
 
153


 

128

أهميّة الصلوات

مطالعة
قصّة عن الحاج الميرزا عليّ هستيي الأصفهاني
هو ذلك المجتهد الحكيم وأحد الوعّاظ المعروفين ومدرّس كتاب الأسفار. ينقل الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي أنّه كان تحت سنّ العشرين وكان يتردّد أحياناً لسماع درسه في طهران في مسجد الحاج السيد عزيز الله، وقد سأله في أحد الأيّام هذا السؤال وهو أنّه ما هي حاجة أهل البيت عليهم السلام لدعائنا لهم بطلب الرحمة وهم عندهم كلّ أنواع الرحمة؟

لقد لاحظ الميرزا عليّ في ذلك الوقت أنّي شاب حدث السن ولم أبلغ درجة علمية عالية، فلذلك شجّعني على سؤالي هذا، وأجابني على قدر استيعابي آنذاك قائلاً: "لو كان هناك بستانيّ يعمل في بستان لبعض الملّاك والأغنياء، ويقوم بزراعة الورود وتنسيقها ورعايتها، فإذا جاء يوم ما أصحاب الأرض والورود ودخلوا بستانهم ليروا جماله وتنسيقه يقوم هذا البستانيّ بأخذ باقة من الورود وينسّقها ويقدّمها لهم بكلّ أدب واحترام متأهّلاً بهم ومسلّماً عليهم، وهذا التصرّف منه نوع من إظهار الأدب وإبراز الاحترام، وإلّا فإنّ الأرض والورود وكلّ ما في البستان هو ملك لهم، والبستاني، ليس إلّا عاملاً عندهم، ونحن عندما نقوم بذكر الصلوات فإنّما نقطف باقة من حديقة أهل البيت عليهم السلام ونهديها لهم". وهذا الكلام بنفسه يجري في تفسير "وعجّل فرجهم"، لأنّ في فرجهم عليهم السلام فرج أهل الإيمان1.
 

1- شرح المنجاة الشعبانية، الشيخ أحمد تقي مصباح اليزدي.
 
 
154
 
 
 

129
إلا رحمة للعالمين