النصر الإلهي، سنن النصر في القرآن الكريم


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-05

النسخة: 2015


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 

9

المقدمة

11

1- قاموس النصر ومفرداته في القرآن

13

موعظة قرآنية

14

الغلبة في القرآن

15

الغلبة والغلب في اللغة

16

كلمة الفتح في القرآن الكريم

16

كلمة الفتح في اللغة

17

كلمة الفوز في القرآن الكريم

18

كلمة الظفر في القرآن الكريم

19

كلمة ظهر في القرآن الكريم

20

كلمة النصر في القرآن الكريم

25

2- مفهوم النصر في القرآن الكريم

27

موعظة قرآنية

27

معاني النصر في القرآن الكريم

31

المعنى الأساس لكلمة النصر

32

حقيقة النصر وبعض مصاديقه

33

أهداف الحرب والجهاد

35

النصر على المدى البعيد

39

3- موقع النصر في حسابات الجهاد

41

موعظة قرآنية

 

 

5


1

الفهرس

 

42

معنى إحدى الحسنيين في القرآن

42

معان أخرى للآية

44

موقع النصر في القتال والمواجهة المسلّحة

44

موقع النصر في الجهاد

45

موقع النصر في الدفاع

45

شبهة أن الإسلام دين حرب

49

4- فلسفة نسبة النصر إلى الله

51

موعظة قرآنية

52

نسبة بعض النعم إلى الله في القرآن

54

نسبة النصر إلى الله

54

الدعاء بالنصر وطلبه من الله

55

التوحيد الأفعالي ونسبة النصر إلى الله

58

إلهيّة النصر بإلهيّة قيمته

63

5- هل النصر سنّة؟(1) نماذج من السّنن القرآنية

65

موعظة قرآنية

65

تعريف السنّة

67

سنن الله في القرآن الكريم

68

مداليل الآيات الكريمة في السنن

73

6- هل النصر سنّة؟(2) سنن النصر الإلهيّ في القرآن الكريم

75

موعظة قرآنية

75

السنّة بحسب رأي الشهيد الصدر

76

كيف نثبت أنّ النصر سنّة؟

77

آيات النصر في القرآن

77

الآيات العامّة في النصر

79

الآيات المصداقيّة في النصر

81

آيات الدعاء بالنصر

 

 

 

6


2

الفهرس

 

87

7- أسباب النصر(1) الأسباب الماديّة

89

موعظة قرآنية

90

سنّة النصر واختيار الإنسان

91

أسباب النصر ومقدّماته

91

الأسباب الماديّة للنصر

103

8- أسباب النصر(2) الأسباب المعنويّة

105

موعظة قرآنية

501

الإيمان

107

أثر الإيمان في النصر

108

العمل الصالح

110

الصبر والثبات

111

التوكّل

115

9- النصر والمدد الغيبيّ

117

موعظة قرآنية

118

شروط المدد الإلهيّ وأنواعه

118

السكينة

119

قذف الرعب في قلوب الكفّار والأعداء

120

التصرّف بالنفوس

121

تثبيت الأقدام

122

إنزال الملائكة

123

الريح والمطر

124

وصية الأمير عليه السلام حول النصر

127

10- موانع النصر

129

موعظة قرآنية

130

التنازع والفرقة

130

المعصية ومخالفة الأوامر

 

 

7


3

الفهرس

 

131

تولّي غير الله

131

انقلاب الأسرار

132

تسريب الأسرار

133

إلقاء السلاح وترك الحذر

137

11- السنن المرتبطة بالنصر(1) - سنّة التداول

139

موعظة قرآنية

140

النصر مشروط بالمبادرة

140

سنّة التداول

140

التداول في اللغة

141

التداول في القرآن الكريم

142

تحليل آية ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ والعبر المستفادة منها

143

شروط التداول وقيوده

147

12- السنن المرتبطة بالنصر(2) - سنّة الاستبدال

149

موعظة قرآنية

149

الاستبدال في اللغة والاصطلاح القرآنيّ

150

فلسفة الاستبدال الإلهيّ

152

الاستبدال في القرآن الكريم

153

تفسير آية ﴿مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ﴾

155

خاتمة

 

 

8


4

المقدمة

 المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسول الله محمّد وآله الطاهرين.

وبعد فإنّ النصر من المفاهيم التي كثر الحديث عنها في الفكر الإسلاميّ، وورد ذكرها كثيراً في الكتاب والسنّة. وثمّة نقاشات عدّة تدور حول هذا المفهوم وما يرتبط به وعلاقته بالله وكونه هدفًا وغاية أم أنّه وسيلة لتحقيق شيء آخر كائنًا ما كان هذا الشيء، وهل هو نعمة من الله أم هو نتيجة للجهد الإنسانيّ. وبناءً على كونه نعمةً فما هي القوانين التي يخضع لها ويتحقّق على أساسها أو تسرّع في تحقيقه أو تؤخّر بل تحرم الإنسان منه؟. وأخيرًا ما هي الآفات التي يمكن أن تصيب النصر وتبطل أثره؟

هذه الأسئلة وغيرها سوف تكون محور الاهتمام في هذا الكتاب؛ بحثاً وتدقيقاً ومقارنة واستنتاجاً، وذلك بالاعتماد على آيات القرآن الكريم الواردة في موضوع النصر وما يرتبط به من معان ودلالات بشكل رئيس، وبمنهجية علمية تجمع بين العمق العلميّ في المضمون والاستدلال، مع المحافظة على سلاسة التعبير وسهولته ودقّته، وقد تفضّل سماحة الشيخ محمد حسن زراقط، الذي نوجّه له خالص الشكر والثناء على جهده العلمي المميّز، في كتابة هذا الكتاب وتحقيق أفكاره، والذي نسأل الله تعالى أن يكون مقبولًا بين يديه.

والحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة

 
 
 
9

5

قاموس النصر ومفرداته في القرآن

 قاموس النصر

ومفرداته في القرآن

مفاهيم محورية:
- كلمة الغلبة في القرآن الكريم.
- كلمة الفتح في القرآن الكريم.
- كلمة الفوز في القرآن الكريم.
- كلمة الظفر في القرآن الكريم.
- كلمة ظهر في القرآن الكريم.
- كلمة النصر في القرآن الكريم.
 
 
 
11

6

قاموس النصر ومفرداته في القرآن

 موعظة قرآنية

﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾1.
 
مقدّمة
لا تخفى أهميّة الرجوع إلى القرآن الكريم للبحث عن المصطلحات والمفاهيم الدينيّة التي أسّس لها وطرحها. ولو لم يكن لهذا الرجوع منفعة إلّا فهم كتاب الله لكفى مبرّرًا للعودة إليه والبحث بين مفرداته وكلماته للعثور على الألفاظ التي استخدمها الله عزّ وجلّ للحديث عن النصر وما يرتبط به من مفاهيم. وهذه العودة إلى كتاب الله لها ما يبرّرها غير ما ذُكِر أعلاه، وذلك أنّ النصر من المفاهيم المركزيّة التي ترتبط بمفهوم محوريّ في الفكر الإسلاميّ هو مفهوم الجهاد. ويعدّ النصر في بعض النصوص الإسلامية صنوًا للشهادة وعدلًا لها وذلك كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾2، والحسنيان المذكورتان في هذه الآية هما 



1 سورة البقرة, الآية 214. 
2 سورة التوبة، الآية 52.
 
 
 
13

7

قاموس النصر ومفرداته في القرآن

عاقبتان ونتيجتان من نتائج الجهاد والقتال في سبيل الله، وهما كما في قول عددٍ من المفسّرين: إمّا الغلبة بنصر الله عزّ وجلّ، وإمّا الشهادة المؤدّية إلى الجنّة1. وبحسب تعبير مفسّر آخر المقصود من الحسنيين هو: إحدى العاقبتين اللتين كلّ واحدة منهما هي حسنى العواقب، وهما: النصرة والشهادة2. هذا وقد فُسّرت الآية بطريقة أخرى فيها يمكن إدراجها في باب التأويل وتطبيق المفهوم على مصاديقه.
 
الغلبة في القرآن
من الكلمات التي استُخدمت في القرآن الكريم بكثرة في معنى يرتبط بمحلّ كلامنا مادّة "غلب" ومشتقّاتها. ويقرب عدد المرّات التي استخدمت فيها هذه الكلمة في هذا المعنى من ثلاثين مرّة. فقد وردت بصيغة الفعل، ووردت بصيغة الصفة لله تعالى ورسله وحزبه، كما وردت صفة لأشخاص آخرين. ونكتفي باستعراض موارد من استعمال هذه الكلمة هي الموارد الآتية:
قال الله تعالى:
﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾3.
﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ﴾4.
﴿وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾5.
﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾6.
﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾7.



1 الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 5، ص 235. (نسخة مكتبة آل البيت).
2 الشيخ الطبرسي، تفسير جوامع الجامع، ج 1، ص 206.
3 سورة البقرة، الآية 249.
4 سورة آل عمران، الآية 12.
5 سورة النساء، الآية 74.
6 سورة الروم، الآيتان 2 و3.
7 سورة المائدة، الآية 56.

 

 

14


8

قاموس النصر ومفرداته في القرآن

 وقبل الدخول في تحليل هذه الكلمة ودلالاتها اللغويّة نشير إلى أنّها لم ترد في وصف الذين لا يرضى الله عن مواقفهم إلّا في سياق يتمنّون فيه الغلبة لأنفسهم فيعبّر الله تعالى عن ذلك بطريقةٍ تشعر بعدم رضاه بذلك أو تحقيق هذه الأمنية لهم، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾1. وللتعبير بـ"لعلّ" دلالته الواضحة على التشكيك في تحقّق مثل هذا الأمر لهم.

 
الغلبة والغلب في اللغة
ومهما يكن من أمر تلك الإشارة التي تستحقّ التوقّف عندها، فقد توقّف علماء اللغة عند هذه المفردة وشرحوها بما يأتي:
يقول صاحب معجم مقاييس اللغة: "غلب أصل صحيح يدلّ على قوّة وقهر وشدّة..."2. ويقول صاحب كتاب الاشتقاق: "غلب يغلِب فهو غالبٌ" ولا يضيف على ذلك شيئًا يوضّح فيه معنى الكلمة3. ويقول المصطفوي في خلاصة ما ينتهي إليه بعد نقل كلمات من سبقه من علماء اللغة: "والتحقيق أنّ الواحد في المادّة هو التفوّق مع القدرة، أو تفوّق في قدرةٍ. وأمّا القهر والاستيلاء والشدّة والغلظة وغيرها، فهي من لوازم الأصل"4. ثمّ يُتابع قائلًا: "والأغلب من المقام ما يكون متفوّقًا ومتعاليًا وفي قدرة وقوّة في ذاته يعلو على سائر المقامات ويتظاهر عليها: ﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾5 يُراد تفوّقه على جميع الموجودات وعلى ما يأمره ويريده مع وجود القدرة وهذا أعلى مرتبة التفوّق وأسنى مقام القدرة الروحانيّة"6. ولعلّ في هذه الإشارة الأخيرة من مصطفوي ما يوضح سبب عدم نسبة الغلب والغلبة إلى من يقف في خطّ المواجهة مع الله تعالى.



1 سورة فصّلت، الآية 26.
2 أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة: "غلب".
3 انظر: الاشتقاق، مادّة: "غلب".
4 حسن مصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن، ج 7، ص 302.
5 سورة يوسف: الآية 21. وتفيد الآية تفوّق الله وتفرّده في أموره فلا يمكن يتقدّم عليه في أمره شيءٌ أو شخصٌ.
6 التحقيق في كلمات القرآن الكريم. ج7، ص 303.
 
 
 
15

 


9

قاموس النصر ومفرداته في القرآن

 كلمة الفتح في القرآن الكريم

وكلمة "فتح" ومشتقّاتها استُعمِلت أيضًا في القرآن الكريم في سياق ذي صلة بما نحن فيه. ومن الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة، كما في قوله تعالى:
﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ﴾1.
 
﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ﴾2.
 
﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾3.
 
﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا *  لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾4.
 
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾5.
 
كلمة الفتح في اللغة
الفتح في اللغة بحسب أحمد بن فارس: "أصل صحيح يدلّ على خلاف الإغلاق. يُقال: فتحت الباب وغيره فتحًا، ثمّ يُحمل على هذا سائر ما في هذا البناء فالفتح والفُتاحة: الحكم. والله تعالى الفاتح أي الحاكم. والفتح: الماء يخرج من عين أو غيرها. والفتح: النصر والإظفار. واستفتحت: استنصرت"6. ويقول صاحب المصباح المنير: فتحته فانفتح: فرّجته فانفرج... وفتح الحاكم بين الناس: قضى... وفتح السلطان البلاد: غلب عليها وتملّكها قهرًا"7. ويقول الراغب الأصفهاني: الفتح إزالة



1 سورة النساء، الآية 141.
2 سورة المائدة، الآية 52.
3 سورة الشعراء، الآية 118.
4 سورة الفتح، الآيتان 1و2.
5 سورة الفتح، الآية 18.
6 معجم مقاييس اللغة، مادّة: "فتح".
7 الفيومي، المصباح المنير، مادّة: "فتح".
 
 
 
16

10

قاموس النصر ومفرداته في القرآن

 الإغلاق والإشكال. وذلك ضربان: 

أحدهما: يدرَك بالبصر، كفتح القفل. 
والثاني: يدرَك بالبصيرة كفتح الهمّ. وذلك ضروبٌ: أحدها في الأمور الدنيويّة... والثاني فتح المستغلَق من العلوم. 
 
وقوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾، قيل عنى فتح مكّة وقيل فتح ما يُستغلق من العلوم...1 وأخيرًا يقول المصطفوي مستنتجًا من كلمات علماء اللغة والتأمّل في آيات القرآن الكريم: والتحقيق أنّ الأصل الواحد في المادة هو ما يقابل الإغلاق والسدّ والحجب، وهذا المعنى يختلف باختلاف الموارد والموضوعات، مادّيًّا أو معنويًّا... فالفتح المطلق، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾ يراد الفتح المطلق في مسير الرسالة وإجراء وظائف النبوّة وإبلاغ الأحكام الإلهيّة، برفع الموانع الماديّة والمعنويّة وكشف المغلقات وإزالة الأسداد، ثمّ التقوية والنصر... وقد يكون النصر من مقدّمات الفتح في مرتبة الإيجاد لا الإبقاء، كما في: ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾2، و﴿نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾3...4.
 
كلمة الفوز في القرآن الكريم
الفوز وما يُشتقّ من هذه المادّة ممّا استعمله القرآن الكريم في التعبير عن هذا الميدان الذي نحن بصدد الحديث عنه، ومن الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة أو أحد اشتقاقاتها:
ففي سياق الحديث عن بعض المتخلّفين عن الجهاد يقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾5، ويُستفاد من هذه الآية أنّ بعض ما يناله المجاهدون في جهادهم هو فوزٌ عظيم، ولو بحسب توصيف هذا المتخلّف وإقرار القرآن إيّاه على هذا التقييم.



1 الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، مادّة: "فتح".
2 سورة النصر، الآية 1.
3 سورة الصف، الآية 17.
4 التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج 9، ص 15-16.
5 سورة النساء، الآية 73.
 
 
 
 
17

11

قاموس النصر ومفرداته في القرآن

 وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآية هي المورد الوحيد الذي استُخدمت فيه هذه الكلمة في هذا المعنى. وأكثر استخدام القرآن لهذه الكلمة هو في سياق الحديث عن الفوز العظيم الذي هو بحسب القرآن الكريم أمور، منها: دخول الجنّة1، والنجاة من النار2، وطاعة الله ورسوله3.

 
كلمة الظفر في القرآن الكريم
لم ترد هذه الكلمة في القرآن الكريم سوى مرّة واحدة، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾4. وعلى الرغم من قلّة استخدامها في القرآن الكريم إلا أنّ علماء اللغة لم يهملوها، فقد قال الفيومي في تفسيرها: "ظفِر ظفَرًا من باب تعب، وأصله بالفوز والفلاح، وظفرت بالضالة: إذا وجدتها، والفاعل ظافر..."5. ويقول صاحب المفردات: "الظُّفر: يُقال في الإنسان وفي غيره، ويعبّر عن السلاح به، تشبيهًا بظفر الطائر, إذ هو بمنزلة السلاح. والظَّفَر: الفوز وأصله من ظَفَره أي نشب ظُفره فيه"6. وهذه إشارة ذكيّة من الراغب تكشف عن التفاتة جميلة إلى الربط بين المعنيين. وأمّا مصطفوي فيقول: "الأصل الواحد في المادّة: هو الغلبة في طريق الفوز، فالقيدان لازمان في موارد استعمال المادّة. وبهذا يظهر الفرق بينها وبين موادّ الغلبة والقهر والفوز. وأمّا الظُّفر: فهو مأخوذ من الأصل, لأنّه وسيلة الغلبة والفوز، وبهذا السلاح يقهر صاحبه على 



1 وذلك كما في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (سورة الحديد، الآية 12).
2 كما في قوله تعالى: ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (سورة غافر، الآية 9) بناء على تفسير الوقاية من السيّئات بالنجاة من العذاب يوم القيامة. انظر: السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 17، ص 307.
3 وذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ (سورة الأحزاب، الآية 71).
4 سورة الفتح، الآية 24.
5 المصباح المنير، مادّة: "ظفر".
6 المفردات في غريب القرآن، مادّة: "ظفر".
 
 
 
 
18

12

قاموس النصر ومفرداته في القرآن

 عدوّه وما يقابله. ولا يبعد أن تكون هذه الكلمة في الأصل صفة مشبّهةً كالصُّلب، بمعنى ما من شأنه الاتّصاف بالظَّفر، ثمّ غلب استعماله في الظُّفر"1.

 
كلمة ظهر في القرآن الكريم
وردت مشتقّات هذه الكلمة في عدد من آيات القرآن الكريم لا ترتبط كلّها ببحثنا، وما يرتبط بموضوع كلامنا هو بعضها فحسب. ونكتفي بذكر بعض الموارد كأمثلة ونماذج:
قال تعالى: ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾2.

﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾3.


﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾4.
 
وفي شرح هذه الكلمة يقول ابن فارس: "ظهر: أصلٌ صحيحٌ واحد يدلّ على قوّة وبروز، من ذلك ظهر الشيء يظهر ظهورًا، فهو ظاهرٌ، إذا انكشف وبرز, ولذلك سُمِّي وقت الظهر والظهيرة، وهو أظهر أوقات النهار وأضوؤها... والظهور الغلبة"5 وبعد نقله عددًا من كلمات اللغويّين ينتهي صاحب التحقيق إلى أنّ "الأصل الواحد في هذه المادّة: هو مطلق بدوّ في قبال البطون، بأيّ كيفيّة كان... والظهور تختلف خواصّه باختلاف (من أو ما يتّصف به)... فالظهور في دينه تعالى... عبارة عن كون التعبّد والتسليم الخاصّ ظاهرًا بيّنًا لا إبهام فيه... وفي القوى المادّية... يُراد التفوّق بالقهر والغلبة والشدّة، والمظاهرة استمرار تلك القوّة والقدرة..."6.



1 التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج 7، ص 196-197.
2 سورة التوبة، الآية 8.
3 سورة التوبة، الآية 33.
4 سورة الفتح، الآية 28.
5 مهجم مقاييس اللغة، مادّة: "ظهر".
6 التحقيق في كلمات القرآن، ج 7، ص 217-223.
 
 
 
19

13

قاموس النصر ومفرداته في القرآن

 كلمة النصر في القرآن الكريم

وبعد هذا الاستقصاء للمعجم القرآني حول الموضوع نصل إلى الكلمة الأساس وهي مادّة "نصر" التي تستعمل كثيراً للدلالة على موضوع كلامنا في هذا الكتاب. فقد تكرّرت هذه المادّة في القرآن الكريم عشرات المرّات، وفي سياقات مختلفة كالدعاء، والكشف عن المنّ الإلهيّ على المؤمنين وغير ذلك ممّا لا داعي لحصره الآن. ومن النماذج التي وردت فيها هذه الكلمة ما يأتي، قال تعالى:
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾1.
 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾2.
 
﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾3.
 
هذه نماذج من الآيات التي وردت فيها مادّة "نصر" بصيغها المتعدّدة، من اسم الفاعل إلى الفعل بصيغتي المعلوم والمجهول. وقد كان لهذه المادّة نصيبها من اهتمام علماء اللغة. يقول ابن فارس: "نصر: أصل صحيح يدلّ على إتيان خير وإيتائه. ونصر الله المسلمين: آتاهم الظفر على عدوّهم. وانتصر: انتقم، وهو منه... والنصر العطاء"4.
 
 ويقول الفيومي: "نصرته على عدوّه، ونصرته منه نصرًا: أعنته وقوّيته، والفاعل ناصر ونصير، وجمعه أنصار. والنصرة بالضمّ اسم منه. وتناصر القوم: نصر بعضهم بعضاً. وانتصرت من زيد: انتقمت منه. واستنصرته: طلبت نصرته"5.
 
ويقول المصطفوي: "الأصل الواحد في المادّة: هو إعانة في قبال مخالف، كما أنّ الإعانة تقوية شيء في نفسه ومن دون نظرٍ 



1 سورة البقرة، الآية 214.
2 سورة محمد، الآية 7.
3 سورة آل عمران، الآية 126.
4 معجم مقاييس اللغة، مادّة: "نصر".
5 المصباح المنير، مادّة: "نصر".
 
 
 
20

14

قاموس النصر ومفرداته في القرآن

 إلى غيره. وأما مفاهيم... الإعطاء والانتقام والتقوية: إذا لوحظ فيها القيدان المذكوران فتكون من مصاديق الأصل، وإلا فهي من التجوّز بمناسبة مطلق الإعانة بوجهٍ"1. ويتابع قائلًا في مقام التمييز بين استعمالات هذه الكلمة بحسب ما يدخل على ما بعدها من حروف الجرّ: "ثمّ إنّ النصرة إذا استُعمل بحرف على فيدلّ على الاستيلاء والغلبة كما في: ﴿وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾2، وإذا استُعمِل بحرف مِن: فيدلّ على الجانب والجهة كما في قوله: ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾3... وإذا استُعمل مطلقًا وبدون قيدٍ: يدلّ على مطلق النصرة، كما في: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾4"5.

 
يمكن عدّ ما تقدّم تمهيدًا معجميًّا عن المفردات التي استخدمها الله عزّ وجلّ في القرآن الكريم، للتعبير عن هذا المجال الذي نحن بصدد الحديث عنه. ولمّا كان موضوعنا الأساس هو النصر كان لا بدّ من تخصيصه بحديث منفصل غير ما تقدّم لتسليط مزيد من الضوء. ويعود سبب خصّه هذا المفهوم دون غيره بمزيد من الاهتمام إلى أمور عدّة، هي:
كلمة النصر هي تقريبًا المفردة الوحيدة التي تستخدم في المحاورات المعاصرة للتعبير عن هذا المجال.
 
هي الكلمة التي تردّدت في القرآن الكريم أكثر من غيرها من الكلمات والمفردات، وذلك أنّها تكرّرت عشرات المرّات الأمر الذي لا نجده في غيرها من المفردات المشابهة.
 
تنوّع دلالات هذا المفهوم أكثر من غيره من المفاهيم المشابهة، وهو ما سوف يتّضح لاحقًا من المبحث الآتي.



1 التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج 12، ص 155-156.
2 سورة آل عمران، الآية 147.
3 سورة الأنبياء، الآية 77.
4 سورة الأنفال، الآية 74.
5 م.ن، ص 156.
 
 
 
 
21

15

قاموس النصر ومفرداته في القرآن

 وقفة تأمّليّة


البلاء طريق النصر
قد جرت كلمة الله تعالى على اختبار الناس بأنواع المحن والبلايا ليميز الجيد من الردي ويظهر الصابر وغيره كما قال جل شأنه ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾1...، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فإن قلت: حقيقة الاختبار طلب الخبر بالشيء ومعرفته لمن لا يكون عارفاً به والله سبحانه عالم بمضمرات القلوب وخفيّات الغيوب فالمطيع في علمه متميز من العاصي، فما معنى الاختبار في حقّه؟ قلنا: اختباره تعالى ليس إلاّ ليعلم غيره من خلقه طاعة من يطيع وعصيان من يعصي ويتميز ذلك عنده فهو من باب الكناية، لأنّ التميّز من لوازم الاختبار وعوارضه فأطلق الملزوم وأُريد به اللازم كما هو شأن الكناية، أو قلنا: اختباره تعالى استعارة بتشبيه فعله هذا ليثيب المطيع ثواباً جزيلاً ويُعذّب العاصي عذاباً وبيلاً باختبار الإنسان لعبيده ليتميز عنده المطيع والعاصي ليثيب المطيع ويكرمه ويُعذّب العاصي ويُهينه فأطلق على فعله تعالى الاختبار مجازاً.
 
شرح أصول الكافي،
المولى محمد صالح المازندراني، ج6، ص250



1 سورة البقرة، الآية 214.
 
 
 
22

16

قاموس النصر ومفرداته في القرآن

 قاموس النصر ومفرداته في القرآن

 

 

 

23


17

مفهوم النصر في القرآن الكريم

 مفهوم النصر في القرآن الكريم

مفاهيم محورية:
- معاني النصر في القرآن الكريم
1- الحماية والدفاع.
2- الانتقام.
3- العون والمساعدة.
4- الغلبة والظفر.

- المعنى الأساس لكلمة النصر.

- حقيقة النصر وبعض مصاديقه.

- أهداف الحرب والجهاد.
1- الهجوم.
2- الدفاع.

- النصر على المدى البعيد.
 
 
 
25

18

مفهوم النصر في القرآن الكريم

 موعظة قرآنية

﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾1.
 
مقدّمة
تبيّن ممّا تقدّم أنّ النصر من المفاهيم الأساسيّة التي نالت نصيبًا وافرًا من الاهتمام القرآنيّ. وعلى الرغم من تشابه المعاني التي استُخدِمت فيها هذه الكلمة في القرآن الكريم إلا أنّ بينها مستوًى مّا من الاختلاف والتمايز يستدعي التوقّف عندها لأنّ بيان هذه الاختلافات تدبّرٌ في القرآن الكريم من جهة، وعملٌ بقوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾2، ولما لفهم هذه الفوارق من أثرٍ في جلاء موضوع بحثنا.
 
معاني النصر في القرآن الكريم
وأهمّ هذه المعاني التي وردت في القرآن لكلمة نصر ما يأتي:
1- الحماية والدفع: استُخدِمت مادّة نصر في القرآن الكريم في هذا المعنى مرّاتٍ عدة،



1 سورة الحجّ، الآية 15.
2 سورة ص، الآية 29.
 
 
 
27

19

مفهوم النصر في القرآن الكريم

 في أكثر من سياقٍ ربّما كان أكثرها في سياق تهديد الكافرين أو العاصين بعدم قدرةٍ أحدٍ على حمايتهم من عذاب الله إذا نزل بهم. وأمثلة ذلك في القرآن كثير، منها:

أ- نفي الحماية من عذاب الآخرة: ورد هذا المعنى في عدد من آيات القرآن يخبرنا الله فيها عن حتميّة عذاب الآخرة لمستحقّيه، وعجز أيّ قدرة أو جهة عن التدخّل للتخفيف من هذا العذاب أو دفعه عمّن يستحقّه، ولا إمكان تبديله بغيره إن لم يرد الله تعالى ذلك، وهذا كما في قوله عزّ وجلّ في وصف يوم القيامة: ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾1. ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾2.
 
ب- نفي القدرة الذاتيّة على دفع العذاب: ورد في قصّة النبيّ نوح عليه السلام أنّ قومه طلبوا منه إبعاد بعض المقرّبين من المؤمنين به، بحجّة أنّهم أراذل القوم3، فردّ عليهم بمطالبتهم بحمايته من آثار هذا الطرد ودفع العذاب الإلهيّ عنه إن طرد هؤلاء المؤمنين المحيطين: ﴿وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾4. ومعنى هذه الآية هو نفي وبيان عجز أيّ قدرة على حماية النبيّ نوحٍ من عذاب الله ودفعه عنه إن هو خالف إرادة الله واستجاب طلب الكفّار الذين كانوا يأنفون من مجالسة فقراء القوم وضعفائهم، وبعبارة أخرى هو استفهام في معنى النفي5. والموقف النبويّ الحاسم نفسه يتكرّر من النبيّ صالح عليه السلام في الردّ على قومه عندما أعلنوا سأمهم من إصرارهم على دعوته وترغيبه في الميل إلى دينهم6.



1  سورة الدخان، الآية 41.
2 سورة الطور، الآية 46.
3 انظر: سورة هود، الآية 27.
4 سورة هود، الآية 30.
5 للاطلاع على كلام المفسّرين على هذه الآية انظر: السيد محمد حسن الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 10، ص 208, الشيخ الطبرسي، مجمع البيان، ج 5، ص 266.
6 ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ (سورة هود: الآية 63).
 
 
 
 
28

20

مفهوم النصر في القرآن الكريم

 2- الانتقام: استُخدمت مادّة "نصر" في هذا المعنى في آيات عدّة من القرآن الكريم منها قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾1. وقد وردت هذه الآية في سياق الحديث عن الشعراء الذين كانوا يهجون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمفواجههم المسلمون بالسلاح نفسه وانتصروا لرسولهم ولأنفسهم2. ومن أمثلة استعمال هذه المادّة في هذا المعنى أي الانتقام قوله تعالى: ﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾3.

 
3- العون والمساعدة: من المعاني الأساسيّة لمادّة "نصر" العون والمساعدة. وقد نصّ عدد من علماء اللغة على هذا المعنى عندما تعرّضوا لهذه الكلمة في معاجمهم. وقد تقدّم بعض ذلك. ونزيد الأمر وضوحًا هنا، فنشير إلى عدد من أقوال اللغويّين، منهم مثلًا، يقول ابن منظور: "النصر: إعانة المظلوم, نصره على عدوّه ينصره ونصره ينصر نصرًا... والاسم النُّصرة... والأنصار أنصار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم غلبت عليهم الصفة فجرى مجرى الأسماء... وتناصروا: نصر بعضهم بعضًا"4.
 
وتوقّف بعض علماء اللغة عند قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾5 ويجعلها أحد الشواهد على استخدام هذه المادة في هذا المعنى فيقول: "قوله: ﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ﴾ ويعينه في الدنيا والآخرة ويغيظه أن يظفر بمطلوبه..."6. وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم لإحصاء المعاني التي تستخدم فيها هذه المادّة نجد أنّ القسم الأكبر من موارد استخدامها هو استخدامها في هذا المعنى، وهاك بعض النماذج التي تؤيّد هذه الدعوى:



1 سورة الشعراء، الآية 227.
2 انظر: مجمع البيان، ج 7، ص 360.
3 سورة الشورى، الآية 41.
4 لسان العرب، ج 5، ص 210، مادّة: "نصر". ويشبهه قول أبي بكر الرازي، مختصر الصحاح، ص 239.
5 سورة الحجّ، الآية 15.
6 فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، ج 3، ص 494.
 
 
 
29

21

مفهوم النصر في القرآن الكريم

 قال الله تعالى:

﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ﴾1.
 
﴿وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾2.
 
﴿وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ﴾3.
 
﴿جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّه﴾4.
 
وغير هذه الآيات كثير يكشف عن استخدام هذه الكلمة في هذا المعنى أي معنى المساعدة والعون. وفي إحصاء نتجنّب وصفه بالدقيق تبيّن أنّ هذه الكلمة استُخدمت ما يقرب من مئة وخمسين مرّة في القرآن الكريم ربّما كان أكثر من نصفها دالًّا على هذا المعنى الأخير. وفي عدد كبير من الموارد الباقية هو الاحتمال الأرجح. وقبل الانتقال إلى النقطة اللاحقة لا بأس من الإشارة إلى الفرق بين النصر ومشتقّاته وبين العون. ونستند في هذا التمييز إلى ما قاله أبو هلال العسكري: 
الفرق بين النصرة والإعانة: أن النصرة لا تكون إلا على المنازع المغالب والخصم المناوئ المشاغب، والإعانة تكون على ذلك وعلى غيره, تقول أعانه على من غالبه ونازعه ونصره عليه وأعانه على فقره إذا أعطاه ما يعينه وأعانه على الأحمال. ولا يقال نصره على ذلك فالإعانة عامة والنصرة خاصة. والفرق بين النصر والمعونة: "النصر: يختص بالمعونة على الأعداء. والمعونة: عامة في كل شيء. فكل نصر معونة ولا ينعكس..."5.
 
4- الغلبة والظفر: رابع المعاني التي تُستخدم فيها كلمة "نصر" ومشتقّاتها التغلّب على العدوّ والظفر عليه. وهذا المعنى الأخير هو المعنى الذي يتبادر إلى الذهن



1 سورة التوبة، الآية 40.
2 سورة الصافات، الآية 116.
3 سورة الحشر، الآية 12.
4 سورة آل عمران، الآية 81.
5 أبو هلال العسكري، الفروق اللغويّة، ص 540.
 
 
 
30

22

مفهوم النصر في القرآن الكريم

 عندما تُسمع كلمة "نصر" ومشتقّاتها في هذا العصر بين أهل العربية. وربّما يفهم هذا المعنى من بعض الآيات في القرآن الكريم التي وردت فيها كلمة نصر. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ﴾1، ويكشف تتبّع كلمات المفسّرين عن أنّهم يرون أنّ هذه الكلمة تدلّ على هذا المعنى الأخير. يقول السيد الطباطبائي في شرح الآية المشار إليها أعلاه: "بيان انحصار حقيقة النصر فيه تعالى، وأنّه لو كان بكثرة العدد والقوّة والشوكة كانت الدائرة يومئذ للمشركين بما لهم من الكثرة والقوّة على المسلمين على ما بهم من القلّة والضعف"2. ويقول مفسّرٌ آخر: "ولمّا كان ذلك فهمنا أنّ النصر ليس إلا بيده، وأنّ شيئًا من الإمداد أو غيره لا يوجب النصر بذاته"3.

 
المعنى الأساس لكلمة النصر
في ختام الحديث عن المعنى اللغوي لكلمة نصر ثمّة تساؤلٌ يستحقّ أن يطرح مع محاولة الجواب عنه وهو أنّه هل يمكن ردّ بعض هذه المعاني إلى بعضها الآخر؟ وهل يصحّ افتراض أنّ المعنى الأصليّ لمادّة "نصر" هو الإعانة على العدوّ بالحدّ الأدنى؟
 
يبدو من خلال التأمّل في موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن الكريم، بالحدّ الأدنى، أنّ الأصل فيها هو العون لتحقيق هدفٍ والوصول إلى غايةٍ ولو في حالة المغالبة والخصام, فإذا تحقّقت هذه الغاية وأثمرت النصرة والمساعدة ثمرتهما قيل عن هذه الحالة الجديدة التي تترتّب عليهما نصرًا بدل أن يُقال غلبة أو ظفرًا أو ما شابههما من الكلمات التي تفيد هذا المعنى.
 
يميّز بعض علماء اللغة بين مصطلحين هما: المصدر واسم المصدر. فيعرّفون الأوّل بأنّه ما دلّ على الحدث مجرّدًا عن الزمان. وتوضيح ذلك أنّ الفعل يدلّ على



1 سورة الأنفال، الآية 10.
2 الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 21, وانظر أيضًا: المصدر نفسه، ج 4، ص 9.
3 البقاعي، نظم الدرر في تفسير الآيات والسور، نقلًا عن برنامج المكتبة الشاملة الإلكتروني.
 
 
 
31

23

مفهوم النصر في القرآن الكريم

 حصول الحدث في زمنٍ محدّدٍ كالماضي أو الحاضر أو المستقبل. ومثاله في ما نحن فيه: نَصَرَ (ماضٍ)، ينصرُ (حاضر)، انصرْ (مستقبل). هذا بحسب المعنى وأمّا بحسب اللفظ فيشترطون في المصدر أن تتوفّر فيه حروف الفعل ولا يُحذف منها شيءٌ دون التعويض عنه. وأمّا إذا حُذِفت بعض الحروف ودلّت الكلمة على الحديث فتكون اسم مصدرٍ. مثل: توضّأ ووضوء (اسم مصدر).

 
وعلى هذا يتّحد المصدر واسمه في المعنى ويختلفان في عدد الحروف فحسب1. هذا ولكن ثمّة من يميّز بين الأمرين بأنّ المصدر يدلّ على الحدث وأمّا اسم المصدر فإنّه يدلّ على نتيجة الحدث والفعل. وفي ما نحن فيه فإنّ الإعانة والمدد يؤدِّيان إلى نتيجة هي الفوز، فنفس عمليّة الإعانة تُسمّى نصرًا ونصرةً فهي مصدرٌ. وأما النتيجة التي تفضي إليها هذه الإعانة فهي النصر بما هو نتيجة وأثرٌ ويُسمّى اسم مصدرٍ2.
 
حقيقة النصر وبعض مصاديقه
تبيّن ممّا تقدّم أنّ النصر المدد والعون بحسب اللغة ولكن كثُر استعمال هذه الكلمة في النتيجة الإيجابيّة التي يفضي إليها هذا العون. وليكن واضحًا من الآن فصاعدًا أنّ هذا التمييز ليس مهمًّا إلى درجة كبيرة في الإطار الذي نتحدّث فيه، وذلك لأنّ المدد الإلهيّ والعون إذا كان من الله تعالى، بشكلٍ غيبيّ أو بواسطة ماديّة طبيعيّة، فإنّه سوف يحقّق أهدافه عادةً إذا لم يضيّع الإنسان هذا العون ويفرّط فيه.
 
وثمّة سؤال منطقيٌّ ينبغي أن يُطرح في مثل هذه الأبحاث، وهو: متى يتحقّق النصر؟ وليس مركز السؤال هو شروط النصر ومقدّماته, بل السؤال هو ما هي الوضعيّة التي يجب أن تتحقّق حتّى يُقال عن الجهة التي تواجه وتجاهد إنّها انتصرت؟



1 انظر مثلًا: ابن عقيل، شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، ج 2، ص 98.
2 هذا وقد يخالف كثير من علماء النحو واللغة العربية في هذا الأمر. وزيادة التدقيق في هذا المبحث تحتاج إلى بحثٍ تخصّصيّ ليس هذا محلّه. للمزيد انظر: عباس حسن، النحو الوافي، ط 4، دار المعارف، مصر، لا تاريخ، ج 3، ص 208, مصطفى جمال الدين، البحث النحوي عند الأصوليّين، ط 2، دار الهجرة، قم، 1405 هـ.ق.، ص 98-114.
 
 
 
32

24

مفهوم النصر في القرآن الكريم

 أهداف الحرب والجهاد

لكلّ حربٍ أو جهد وجهاد هدفٌ وغاية. وإذا كنّا نتحدّث عن إنسان، أو جماعة إنسانيّة حكيمة وعاقلة فلا بدّ من أن تكون أفعالها وحركاتها وسكناتها هادفةً بعيدة عن العبثيّة واللغو. وبالتالي يمكن اعتماد الهدف والغاية الدافعة إلى الحراك كمعيارٍ للتمييز بين النصر والهزيمة. وتتنوّع أهداف الجهاد في الإسلام بحسب الدوافع التي تدفع إلى امتشاق السيف والسير في سبيل تحقيق الغاية التي ينتهي إليها القتال. وربّما يمكن استقصاء أهمّ أنواع الجهاد بحسب الفكر الإسلامي وبحسب التجارب التي مرّت في تاريخ الأمة بدءًا من رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مرورًا بالنهضات والحركات الصالحة التي خاضها القادة المعصومون عليهم السلام من بعد انتهاءً ببعض التجارب التي عُقِد فيها اللواء لقادة مصلحين مرّوا في تاريخ الأمّة القديم أو الحديث وما بينهما. وأهمّ هذه الأنواع ما يأتي:
1- الهجوم:
خضع مفهوم الجهاد الابتدائيّ لكثير من النقاشات الفقهيّة اللاحقة وأخضِعت بعض حروب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لنقاش طويل لجهة تصنيفها في دائرة الجهاد الابتدائيّ أو الدفاعيّ. وأيًّا يكن الموقف من هذا المفهوم وأيًّا يكن التحليل الذي يبتنّاه الباحث لما خاضه رسول الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ له محلًّا آخر غير ما نحن فيه الآن. وما يعنينا في بحثنا هذا هو أنّ النصر في الجهاد الابتدائيّ يُقاس بمدى تحقّق الأهداف التي ابتغاها وليّ الأمر من هذه المعركة أو تلك. والأهداف المتصوّرة كثيرةٌ لعلّ أهمّها: دفع خطرٍ محدقٍ وهو ما يُعرف بالحروب الاستباقيّة، وفتح الباب في وجه الدعوة، ورفع الظلم عن شعوب ترزح تحت ظلمِ حاكمٍ متعسّف. فإذا تحقّقت هذه الأهداف تجلّى النصر في نهاية المعركة وإلا تكون الهزيمة هي الغاية التي انتهى إليها القتال. وإذا عدنا إلى تاريخ الأمّة الإسلاميّة نجد أنّ عددًا من المعارك التي خاضها المسلمون
 
 
 
 
33

25

مفهوم النصر في القرآن الكريم

 انتهى بالنصر الذي أسّس لانتصارات لاحقةٍ فتحت الأبواب على مصاريعها في وجه الدعوة الإسلاميّة. وربّما تكون معركة بدرٍ هي النموذج الأوضح لمثل هذا النوع من المعارك، بناء على تصنيف معركة بدر في دائرة الجهاد الابتدائيّ.

 
2- الدفاع:
عندما يحيط بالإسلام أو المسلمين خطرٌ داهمٌ لا بدّ لهم من دفعه، مهما بلغ حجم التضحيات. وفي مثل هذه الحالة يتحقّق النصر عندما تستطيع الأمّة إعاقته عن تحقيق أهدافه. وقد عرف تاريخ الإسلام الأوّل مثل هذا النوع من النصر في معركة الخندق عندما حاصر الأحزاب المدينة وأرادوا اقتحامها لإلحاق الهزيمة بالإسلام والمسلمين في دولتهم الفتيّة آنذاك. ويصوّر القرآن الكريم حالة المسلمين بعد حصارهم على يد الأحزاب التي تكتّلت وحشدت قواها من كلّ حدب وصوب للقضاء على الإسلام، فيقول عزّ وجل، كاشفًا عن حالة المسلمين والرعب الذي أصاب الكثيرين منهم: ﴿إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾1. هذا ولكنّ بطولة أمير المؤمنين عليه السلام وغيره من المجاهدين، واقتراحات سلمان الفارسيّ، والمدد الإلهيّ: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا﴾2. كلّ ذلك قلب المعادلات رأسًا على عقب وحوّل نتيجة المعركة لصالح المسلمين. وفي مثل هذه الحالة وعلى الرغم من أنّ المسلمين ولو على المدى المنظور لم يكسبوا شيئًا سوى قدرتهم على الصمود في وجه العدوّ ومنعه من تحقيق أهدافه، فإنّهم انتصروا دون شكّ. ومثل هذا الكلام يُقال في كلّ المعارك التي خاضتها الأمّة الإسلاميّة في مواجهة العدوّ، ومن أبرزها مواجهة المقاومة الإسلاميّة الكيان الغاصب، وقدرتها على منعه من تحقيق أهدافه، وإرغامه على



1 سورة الأحزاب، الآية 10.
2 سورة الأحزاب، الآية 9.
 
 
 
 
34

26

مفهوم النصر في القرآن الكريم

 الفرار السريع من الأرض التي احتلّها قبل أن يستقرّ فيها.

 
النصر على المدى البعيد
من المعلوم أنّ الإسلام ليس دين جغرافيا، فالأرض لا تعني للإسلام إلا من حيث هي محلٌّ لإقامة العدل والعيش بحريّة وكرامة، وبما هي مكان يسمح للمرء أن يعيش فيها بطريقة تنسجم مع منظومة القيم الإلهيّة التي يريدها الله أن تكون منهاجًا للحياة. ومن هنا نجد أنّه عزّ وجلّ لا يقبل عذر من يعتذر بالضغوط التي تؤدّي إلى الاستضعاف: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾1. وبناء على هذه النظرة إلى الأرض والحياة، يكون النصر ولو بعد حينٍ، وعلى المدى البعيد، وذلك عندما يقدر العدوّ على تحقيق بعض أهدافه القريبة أو الماديّة, ولكنّه يعجز عن تحقيق الأهداف البعيدة أو المعنويّة. وفي مثل هذه الحالة يكون النصر من نصيب المواجه ولو انهزم على المدى القريب. وأفضل الأمثلة وأوضحها نهضة الإمام الحسين عليه السلام, إذ ركز يزيد بين السلّة والذلّة، فأبى عليه السلام الخضوع وأعلن موقفه الخالد: "هيهات منّا الذلّة" فاستُشهد ولكنّه بقي حيًّا منارة للأحرار ومشعلًا على مدى التاريخ، وعجز يزيد عن إذلاله، وحقّق هدفه وهو الإصلاح في أمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومن هنا نجده عليه السلام يُعبّر عن هذا النصر بعبارة بالغة وبليغة حيث يقول: "من لحق بي استُشهد، ومن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح"2. ويمكن تفسير هذه العبارة الشريفة بأكثر من معنى أحدها: أنّ الفتح (النصر) سيكون من نصيبنا حتى لو استشهدنا ولن ينال هذا الشرف من تخلّف عنّا.



1 سورة النساء، الآية 97.
2 محمد بن جرير الطبري، دلائل الإمامة، ص 188.
 
 
 
 
35

27

مفهوم النصر في القرآن الكريم

 وقفّة تأمّلية

 
العزم على المواجهة
بعد انتهاء معركة "أحد" عاد المشركون المنتصرون إلى مكة بسرعة، ولكنّهم بدا لهم في أثناء الطريق أن لا يتركوا هذا الانتصار دون أن يكملوه ويجعلوه ساحقاً، أليس من الأحسن أن يعودوا إلى المدينة، وينهبوها ويُلحقوا بالمسلمين مزيداً من الضربات القاضية وأن يقتلوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان لا يزال حيّاً ليتخلّصوا من الإسلام والمسلمين ويطمئن بالهم من ناحيتهم بالمرة. لهذا صدر قرار بالعودة إلى المدينة، ولا ريب أنّه كان أخطر مراحل معركة "أحد" بالنظر إلى ما كان قد لحق بالمسلمين من القتل والجراحة والخسائر، الذي كان قد سلب منهم كل طاقة للدخول في معركة جديدة أو لاستئناف القتال، فيما كان العدوّ في ذروة القوّة والروحية العسكرية التي كانت تُمكّن العدو من تحقيق انتصارات جديدة، وإحراز النتيجة لصالحه، فنهاية هذه العودة ونتيجتها كانت معروفة سلفاً.
 
وقد بلغ خبر العودة هذه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولولا شهامته البالغة، وقدرته المكتسبة من الوحي على الأخذ بزمام المبادرة لانتهى تاريخ الإسلام وحياته عند تلك النقطة. في هذه المرحلة الحسّاسة بالذّات نزلت الآيات الحاضرة: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾1 إلى قوله: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾2  لتقوّي روحية المسلمين وتُصعّد من معنوياتهم، وفي أعقاب ذلك صدر أمر من النبي إلى المسلمين بالتهيّؤ لمقابلة المشركين، فاستعدّ جميع المسلمين حتى المجروحين (ومنهم الإمام علي عليه السلام الذي كان يحمل في جسمه أكثر من ستين جراحة) لمقابلة المشركين، وخرجوا بأجمعهم من المدينة لذلك. فبلغ هذا 



1 سورة آل عمران، الآية 123.
2 سورة آل عمران، الآية 126.
 
 
 
 
36

28

مفهوم النصر في القرآن الكريم

 الخبر مسامع زعماء قريش فأرعبتهم هذه المعنوية العالية التي يتمتّع بها المسلمون وظنّوا أنّ عناصر جديدة التحقت بالمسلمين، وأنّ هذا يمكن أن يُغيّر نتائج المواجهة الجديدة لصالح المسلمين، ولذلك فكّروا في العدول عن قرارهم بمهاجمة المدينة، حفاظاً على قواهم، وهكذا قفلوا راجعين إلى مكة بسرعة، وانتهت القضية عند هذا الحد.

 
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل،
آية الله االعظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج2، ص677.
 
 
 
37
 

29

مفهوم النصر في القرآن الكريم

 النصر في القرآن الكريم

 

 

38


30

موقع النصر في حسابات الجهاد

 موقع النصر في حسابات الجهاد



مفاهيم محورية:
- معنى إحدى الحسنيين في القرآن.
- معان أخرى للآية.
- موقع النصر في الجهاد.
- موقع النصر في الدفاع.
- شبهة أن الإسلام دين حرب.
 
 
 
39

31

موقع النصر في حسابات الجهاد

 موعظة قرآنية

﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾1.
 
مقدّمة
أوضحنا فيما تقدّم مفهوم النصر وأنواعه والحالات التي يمكن لأحد طرفي المعركة أن يدّعي فوزه وقبضه على النصر. وهنا سؤال ينبغي أن يُطرح في سياق الحديث عن النصر وهو: ما موقع النصر في حسابات التفكير في خوض المعركة؟ وهل يجب أن يكون النصر مضمونًا حتّى يتقلّد المسلم أو الأمّة الإسلامية السيف لمواجهة العدوّ أم لا يُشترط ذلك؟
 
في الجواب عن هذا السؤال ربّما يُفهم ممّا تقدّم أنّ النصر ليس شرطًا واجبًا في خوض معركة الدفاع. فالدفاع حربٌ مفروضة يجب على الأمّة خوضها من حيث المبدأ، ويستطيع قائد المسلمين التفكير في الآليّات والسبل التي تساعده على خوض هذه الحرب لضمان النصر فيها، أو التقليل من الخسائر بالحدّ الأدنى. ولمزيد من وضوح الفكرة وطلبًا لتوثيقها نوزّع البحث على حالات الجهاد الآنفة الذكر لنرى موقع النصر منها. ونبدأ أوّلًا بإشارة أوليّة نقارن ونحدّد فيها النظرة الإسلامية إلى النصر.



1 سورة التوبة: الآية 52.
 
 
 
41

32

موقع النصر في حسابات الجهاد

 معنى إحدى الحسنيين في القرآن

يقول الله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾1. وتكشف هذه الآية عن موقع النصر في حسابات أرباح الجهاد وخسائره، بدرجة عالية. ويكاد يتّفق المفسرون على أنّ المراد من الحسنيين في الآية هو إحدى النتيجتين اللتين يمكن أن تنتهي إليهما أيّ معركة يخوضها المسلمون مع عدوّهم. فإمّا أن تنتهي هذه المعركة بالنصر والغلبة، وإما أن تنتهي بالشهادة والفوز بلقاء الله.
 
معان أخرى للآية
ويستفاد من هذه الآية مجموعة معانٍ ذات صلة بما نحن فيه منها:
1- اختلاف المؤمنين عن غيرهم في النظرة إلى الأمور، فبينما يرى المنافق أو الكافر أنّ الفوز ينحصر في الكسب الدنيويّ والسيطرة على العباد والبلاد يرى المؤمن أنّ المهمّ هو أداء الواجب والخروج عن عهدة التكليف. فسواء عنده النصر والهزيمة عندما يكون كلٌّ منهما في طاعة الله. وهذا يذكّرنا بقول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في خطبة المتّقين: "نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ"2. كما يذكّر بالقول المنسوب إلى أكثر من شخص، منهم عمّار بن ياسر عندما دنت منه المنيّة، فطلب شيئًا من الشراب فأُتي به فتذكّر وعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إيّاه بأن آخر نصيبه من الدنيا كأس من اللبن، ثُمَّ قَالَ: "وَاللَّهِ لَوْ هَزَمُونَا حَتَّى يُبْلِغُوا بنَا سَعَفَاتِ هَجَرَ لَعَلِمْنَا أَنَّا عَلَى الحَقٍّ، وَأنّهُمْ عَلَى البَاطِلٍ"3.
 
2- اعتقاد المؤمنين بخضوع الكون وما فيه لإرادة الله تعالى، وأنّه لا يريد لأهل



1 سورة التوبة: الآية 52.
2 الإمام عليّ عليه السلام، نهج البلاغة، خطبة المتّقين.
3 الشيخ المفيد، الاختصاص، ط 2، دار المفيد للطباعة والنشر، بيروت، 1993م، ص 14.
 
 
 
 
42

33

موقع النصر في حسابات الجهاد

 الإيمان إلا الخير والأحسن وليس الحسن فحسب. وبالتالي ما دامت الأمور تجري في سبيل الله فهي الخيار الأحسن كائنًا ما كان هذا الخيار. ولا يهمس المؤمن بالاعتراض على إرادة الله ومشيئته، بل يستعذب أمرّ الخيارات ويراها حلوة ما دامت خاضعةً لإرادة الله عزّ وجلّ. وما أقرب القولين المشهورين اللذين يُنسب أحدهما إلى الإمام الحسين عليه السلام عندما استشهد ابنه الرضيع بين يديه فقال: "هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله"، والآخر المنسوب إلى السيدة زينب عليها السلام عندما هتفت في وجه ابن زياد قائلةً: "ما رأيت إلا جميلًا، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم...". نعم القتل في سبيل الله في عين زينب جميل يشبه لجوء النعسان إلى مضجعه. والشهادة في سبيل الله في مقاييس التقييم الإلهيّ إحدى الحسنيين كالنصر على حدٍّ سواء.

 
3- الدرس الثالث الذي يُستفاد من الآية هو أنّ على المؤمن أن لا يحسب أنّ الدنيا يجب أن تبقى دائمًا طوع يديه ورهن إشارته ينال منها ما يحبّ ولا ينتقل فيها إلا من نصر دنيويّ إلى نصر. بل إنّ على المؤمن أن يتوقّع الصعود والهبوط في حسابات الدنيا، والمقياس الأهمّ في نظره هو عاقبة الأمور ونهاية المطاف، ولو على المدى البعيد، فالنصر الذي قد يناله المنافق في هذه الدنيا مرّ العاقبة، والشهادة التي ينالها المؤمن هي إحدى الحسنيين، عندما يؤخذ المشهد كلّه على هذا الأساس ولو اقتضى الأمر توسيع النظرة إلى عمر البشريّة كلّها. فربّ دمٍ يراق يتحوّل إلى نصر يروي دوحة الأهداف الإلهيّة ولو بعد حينٍ. ومن هنا ورد عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال: "إما موت في طاعة اللّه وإدراك ظهور إمام..."1.
 
وفي هذه الآية دلالات أخرى يطول بنا المقام لو استعرضناها جميعًا. وعلى أيّ حال



1 الكليني، الكافي، ج 8، ص 286، حديث 431.
 
 
 
 
43

34

موقع النصر في حسابات الجهاد

 يمكن الخروج من هذه الآية بنتيجة هي: أنّ النصر ليس هو الشرط الأساس والأول والأخير في خوض المعارك، وخاصّة عندما يكون الحديث عن النصر الآنيّ الدنيويّ.

 
موقع النصر في القتال والمواجهة المسلّحة
يميّز الفقهاء بين مفهومين للقتال في سبيل الله، أحدهما الجهاد والآخر الدفاع. ويختلف أحد هذين المفهومين عن الآخر في المفهوم كما في بعض الأحكام. وهدفنا الأساس هنا هو البحث عن موقع النصر في حسابات الإقدام على حمل السلاح ومواجهة العدوّ، ولكن لا بأس من بيان المفهومين لنبيّن موقع النصر من كلٍّ منهما.
 
موقع النصر في الجهاد
وأمّا الجهاد فهو مصطلح يقصد به عند بعض الفقهاء الشروع في القتال، من دون أن يكون ذلك بالضرورة ردًّا على هجوم العدوّ على بلاد المسلمين وتعرّضه لقتالهم. ويبدو من كلام بعض الفقهاء أنّ هذا النوع من الجهاد هو المقصود عندما يُبحث عن الجهاد في الكتب الفقهيّة. وبالرجوع إلى كتب الفقه الإسلاميّ نجد أنّ فقهاء المسلمين يختلفون فيما بينهم في اشتراط إحراز النصر قبل الشروع في القتال. فمنهم من يرى أنّ إحراز النصر ليس ضروريًّا بل يمكن البدء بالقتال مهما اختلفت موازين القوى بين المسلمين وأعدائهم. ومن هؤلاء الشيخ الطوسي الذي يقول: "وإذا كان في المسلمين قلّة وضعفٌ وفي المشركين كثرةٌ وقوّة، فالأولى أن يؤخّر الجهاد ويتأنّى حتّى يحصل للمسلمين قوّة. فإذا اشتدّت شوكة المسلمين وعلم شوكتهم لا يجوز أن يؤخّر القتال..."1 وتفيد هذه العبارة من الشيخ الطوسي أنّ الحرب ليست هوايةً ومغامرة, بل يجب أن تُخاض من أجل أهداف نبيلة، فإذا كانت النصر غير محرز فلا ينبغي لقائد المسلمين أن يغامر بجنده وأمّته ويدخلهم في حربٍ لا فائدة تُرجى منها.



1 الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، المبسوط، ج 2، ص 2.
 
 
 
 
44

35

موقع النصر في حسابات الجهاد

 موقع النصر في الدفاع

الدفاع في الفقه الإسلاميّ هو: القتال الذي يحصل كردٍّ فعلٍ على هجوم يصدر عن العدوّ على المسلمين أو على بلادهم. ويتنازل الفقهاء في هذا الصنف من الجهاد عن كثير من الشروط التي يذكرونها في الصنف السابق. مثلًا يشترط عدد من الفقهاء حضور الإمام وإذنه في الصنف السابق, ولكنّهم في هذا الصنف يتنازلون عن عدد من هذه الشروط. يقول الشيخ الطوسي في هذا المجال: "والجهاد مع أئمّة الجور... خطأٌ يستحقّ فاعله به الإثم وإن أصاب لم يؤجر عليه، وإن أصيب كان مأثومًا، اللهم إلا أن يدهم المسلمين أمرٌ من قبل العدوّ يُخاف منه على بيضة الإسلام ويُخشى بواره، أو يُخاف على قوم منهم، وجب حينئذٍ أيضًا جهادهم ودفاعهم غير أنّه يقصد المجاهد والحال ما وصفناه الدفاع عن نفسه وعن حوزة الإسلام وعن المؤمنين، ولا يقصد الجهاد مع الإمام الجائر..."1، وتظهر هذه العبارة المنقولة عن الشيخ الطوسي أنّه لا يشترط الوثوق بالنصر في خوض المعارك الدفاعيّة.
 
شبهة أن الإسلام دين حرب
وفي ختام هذا البحث تجدر الإشارة إلى أمر مهمٍّ وهو أنّ المستشرقين يعترضون على الإسلام بأنّه دين حربٍ وقتال، وذلك بالاستناد إلى مفهوم الجهاد الابتدائيّ. وفي الردّ على هذه الشبهة نشير إلى ملاحظات سريعة ونترك التفصيل تجنّبًا للتطويل في غير محلّه.
 
أ- إن قسمًا كبيرًا من المعارك التي خاضها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هي حروب دفاعيّة.
 
ب- الحروب التي ظاهرها أنّها ابتدائيّة هي في واقعها من أجل الدفاع عن حقوق الشعوب التي كان يمنع فيها الناس من الاطلاع على الإسلام، وبالتالي هي معارك تهدف إلى فتح النوافذ على الإسلام وليس إلى فتح البلدان والأراضي.



1 الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، النهاية ونكتها، مع تعليقات العلامة الحليّ، ج 2، ص 3.
 
 
 
 
45

36

موقع النصر في حسابات الجهاد

 ج- إنّ العلاقات الدولية بين الدول والشعوب تغيّرت في هذا العصر وتبدّلت وبالتالي فإنّ عددًا من الأحكام لا يطبق في هذا العصر بالطريقة التي كان يطبّق فيها.


د- إن مفهوم المقاومة في حدّ نفسه يحمل في داخله مفهوم الدفاع، فهذا المفهوم يتضمّن من حيث المعنى معنيين بالحدّ الأدنى: المقاومة لصدّ العدوان، والمقاومة لاستعادة الأرض والتحرير.
 
 
 
 
46

37

موقع النصر في حسابات الجهاد

 وقفّة تأمّلية

إذا أراد الإنسان أن يصل إلى الحقّ، وإذا أراد أن يُطبّق الإسلام الحقّ في بلدٍ ما، فيجب أن يصبر، هكذا كان يصبر أولياء الله سلام الله عليهم في كل المراحل والمصائب والمشاكل. لقد واجه رسول الله كثيراً من المشاكل خلال زمان وجوده الشريف في مكة والمدينة ومن جميع الجهات، فقد كانت المحاصرة الاقتصادية وكانت الهجمات العسكرية التي لم نر نحن مثلها...

إنّكم على علم بأنّ تاريخ الإسلام مشحون بهذه المجاهدات والتضحيات والقتل على أيدي الفجّار، حتى إنّ أئمّتنا عليهم السلام قد ابتلوا بهذه الأمور، ولكن يجب الصبر والتلبُّس بالمناعة والاستقامة فإنّ الله مع الصابرين، وقد تغلّبنا على هذه القوّة الشيطانية الخارقة (الشاه) التي كانت كل القوى تقف وراءها، وليس هذا إلا لأنّ شعبنا كان متّحداً صبوراً وكان يصبر على المشاكل ويحلّها بالصبر وبالاتكال على الله تبارك وتعالى.

الإمام الخميني قدسر سره،
الاستقامة والثبات، ص121.
 
 
 
 
47
 

38

موقع النصر في حسابات الجهاد

 موقع النصر في حسابات الجهاد

 

.

 

48


39

فلسفة نسبة النصر إلى الله

 فلسفة نسبة النصر إلى الله


مفاهيم محورية
نسبة بعض النعم إلى الله تعالى.
1- الرزق.
2- العلم.
3- النعم كلّها.

- نسبة النصر إلى الله تعالى.

- الدعاء بالنصر وطلبه من الله.

- التوحيد الأفعالي ونسبة النصر إلى الله.

- إلهيّة النصر بإلهيّة قيمته.
 
 
 
 
49

40

فلسفة نسبة النصر إلى الله

 موعظة قرآنية

﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾1.
 
مقدّمة
من الأسئلة التي تواجه المسلمين في حروبهم التي يخوضونها، هو أنّهم ينسبون النصر الذي ينالونه إلى الله تعالى. وقد طُرح هذا النقاش بحدّة بعد حرب عام 2006 التي خاضتها المقاومة الإسلاميّة في وجه الكيان الإسرائيليّ الغاصب. وكثُرت التساؤلات والانتقادات عندما وُصف النصر بأنّه نصرٌ إلهيٌّ. وبكلمة عامّة ينبغي القول بوضوح إنّ العقيدة الإسلامية تقتضي ليس نسبة النصر وحده إلى الله بل نسبة كل ما في الوجود الإمكانيّ إليه تعالى. فالرزق والنصر والعلم وغير ذلك من الأمور هي بيد الله تعالى يؤتيها من يشاء من عباده. والأدلّة التي تدعو إلى الإيمان بهذا الأمر كثيرةٌ من القرآن وغيره. وسوف نستعرض فيما يأتي بعض هذه الأمور.



1 سورة آل عمران، الآية 126, وانظر: سورة الأنفال: الآية 10.
 
 
 
 
51

41

فلسفة نسبة النصر إلى الله

 نسبة بعض النعم إلى الله في القرآن

1- الرزق:
الآيات التي تتحدّث عن الرزق في القرآن كثيرة لا مجال لاستعراضها جميعًا، ونكتفي بذكر مجموعة منها، هي:
يقول تعالى مخاطبًا بني إسرائيل: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾1.
 
ويقول عزّ وجلّ مخاطبًا المؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾2.
 
ويقول تعالى مقرّرًا أنّه يرزق من يشاء دون أن يقدر أحدٌ على وضع حدٍّ لرزقه: ﴿وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾3.
 
ويقول تعالى في آية كريمة يدعو فيها إلى طلب الرزق منه تعالى وعدم البحث عنه عند غيره: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾4.
 
2- العلم:
والعلم وهو من أعظم النعم الإلهيّة على الإنسان نسبه الله إلى نفسه في عددٍ من آيات القرآن الكريم، منها:
قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي



1 سورة البقرة، الآية 57.
2 سورة البقرة، الآية 172.
3 سورة البقرة، الآية 212.
4 سورة فاطر، الآية 3.
 
 
 
52

42

فلسفة نسبة النصر إلى الله

 بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾1.

 
ويخبرنا الله تعالى عن بعض العباد الذين منّ عليهم بالعلم من لدنه فيقول: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾2.
 
ويوصي الله عزّ وجلّ نبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بطلب العلم منه عزّ وجلّ، فيقول له: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾3.
 
3- النعم كلّها:
في عدد من آيات القرآن الكريم ينسب الله سبحانه وتعالى بعض النعم التي يرفل بها الإنسان إليه عزّ وجلّ، ومن ذلك: وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾4.
 
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ﴾5.
 
وأخيرًا يقول تعالى في مجال النِّعم: ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾6. ومن نتائج هذا الفعل من الأفعال الإلهيّة سمّي الله عزّ وجل بـ"المنعم".



1 سورة البقرة، الآيتان 31 و 32.
2 سورة الكهف، الآية 65.
3 سورة طه، الآية 114.
4 سورة لقمان، الآية 20.
5 سورة الزمر، الآية 8.
6 سورة الزمر، الآية 49.
 
 
 
 
53

 


43

فلسفة نسبة النصر إلى الله

 نسبة النصر إلى الله

والنصر هو نعمة من النعم الإلهيّة التي يمكن أن تُنسب إلى الله تعالى، بناء على نسبة النعم إليه تعالى, ولكن لأجل خصوصيّة هذه النعمة نستعرض عددًا من الآيات التي تنسب هذه النعمة بخصوصها إلى الله عزّ وجلّ. بل إنّ بعض آيات القرآن الكريم يحصر هذه النعمة به عزّ وجلّ دون غيره من الناس أو المخلوقات.
 
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾1. بناء على أنّ المراد من النصر كما تقدّم هو العون والمدد الذي يمنّ الله به على المؤمنين لتتحقّق لهم النتيجة التي يرجونها منه تعالى.
 
ويقول تعالى في آية يحصر فيها النصر والعون به دون غيره من الوسائل والوسائط: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾2.
 
ويقول عزّ وجلّ أيضًا: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾3.
 
الدعاء بالنصر وطلبه من الله
ولا يقف الأمر عند حدّ الإخبار عن فعل الله في القرآن، بل أدّبنا التراث الدعائي الصادر عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام على طلب النعم كلّها من الله، ومنها النصر. وتكتفي بذكر نصّين، هما:
1- دعاء الافتتاح: هذا الدعاء من الأدعية التي يواظب المسلمون على قراءتها في ليالي شهر رمضان وهو من مفاخر الأدعية الإماميّة. وفيه طلب كثير من النعم 



1 سورة الأحزاب، الآية 9.
2 سورة آل عمران، الآية 126, وانظر: سورة الأنفال: الآية 10.
3 سورة الصف، الآية 13.
 
 
 
 
54

44

فلسفة نسبة النصر إلى الله

 من الله تعالى، ومن هذه النعم النصر الذي تكرّر ذكره بأشكال مختلفة على النحو الآتي في الدعاء للإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه: "اللهمّ أعزّه واعزز به، وانصره وانتصر به، وانصره نصرًا عزيزًا، وافتح له فتحًا يسيرًا، واجعل له من لدنك سلطانًا نصيرًا... وانصرنا به على عدوّك وعدوّنا... وأعنّا على ذلك بفتح تعجّله... ونصرٍ تعزّه وسلطان حقٍّ تظهره...".

 
2- من الصحيفة السجاديّة: وفي الصحيفة السجاديّة الكثير ممّا له صلة بهذا المعنى، وعلى رأس ما يمكن الإشارة إليه من أدعية الصحيفة وممّا له صلة بمفهوم النصر وطلبه من الله، قوله عليه السلام: "وَأَلِّفْ جَمْعَهُمْ، وَدَبِّرْ أَمْرَهُمْ، وَوَاتِرْ بَيْنَ مِيَرِهِمْ، وَتَوَحَّدْ بِكِفَايَةِ مُؤَنِهِمْ، وَاعْضُدْهُمْ بِالنَّصْرِ، وَأَعِنْهُمْ بِالصَّبْرِ، وَالْطُفْ لَهُمْ فِي الْمَكْرِ"1. وليس هذا المورد الوحيد في هذه الصحيفة المباركة, بل ثمّة غيره كثير ممّا يدلّ على النصر من عند الله تعالى، وينبغي أن يُطلب منه.
 
التوحيد الأفعالي ونسبة النصر إلى الله
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اكتب بقلم العقل على صفحة القلب: لا مؤثّر في الوجود سوى الله". كلمة رائعة تصدر عن شخص خبر انحصار التأثير في الوجود بالله سبحانه وتعالى، وعاشه معرفة وتجربة وسلوكًا. وهذه الكلمة الرائعة ليست مجرّد تجربة شخصيّة يعبّر عنها هذا العارف الكبير في لحظة وجدٍ وساعة كشف، بل هي جزء من عقيدة الإمامية في التوحيد. وتوضيح ذلك أنّ التوحيد بحسب الرؤية الإمامية ينقسم إلى أقسام عدّة هي:
1- التوحيد في مقابل التعدّد: ومعنى هذه المرتبة من التوحيد الإيمان بأنّ الله واحدٌ لا شريك له. وهو أدنى مراتب التوحيد. وهذه المرتبة يعبّر عنها بعض العلماء بأنّها توحيد العوامّ, لقدرة جميع الناس على فهمها وإدراكها والاعتقاد بها.



1 الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجاديّة، من دعائه لأهل الثغور.
 
 
 
 
55

45

فلسفة نسبة النصر إلى الله

 2- التوحيد في مقابل التركيب: ومعنى هذه المرتبة نفي تركّب الذات الإلهيّة من أجزاء، كالوجود والماهيّة وغير ذلك. ويستدلّ علماء العقيدة على هذه المرتبة من التوحيد بأنّ المركّب يحتاج إلى إجزائه والله سبحانه غنيّ عن كلّ شيء حتّى عن الأجزاء.

 
3- التوحيد في مقابل زيادة الصفات: والمراد من هذه المرتبة من مراتب التوحيد أنّ صفات الله تعالى ليست زائدة على الذات, لأنّها إن كانت حادثة فهذا يعني أنّ الله لم يكن متّصفًا بها ثمّ صار، وإن كانت قديمة فهذا يعني تعدّد القدماء، الأمر الذي لا ينسجم مع التوحيد بمعناه الأسمى الذي تقرّه العقيدة الإماميّة. وإن كان غير الإمامية يقبلون هذا المعنى ويؤمنون بما يسمّونه "القدماء الثمانية"1.
 
4- التوحيد الأفعاليّ: وحاصله أنّ الله تعالى لا يحتاج إلى أحد ليساعده على نيل ما يريد وتحقيق ما يشاء. وبحسب تعبير الشيخ جعفر سبحاني: التوحيد الأفعالي هو أن نعترف بأنّ العالم بما فيه من العلل والمعاليل، والأسباب والمسبّبات، ما هو إلا فعل الله سبحانه، وأنّ الآثار صادرة عن مؤثّراتها بإرادته ومشيئته. فكما أنّ المخلوقات غير مستقلّة في ذواتها بل هي قائمة به سبحانه فكذا هي غير مستقلّة في تأثيرها وعليّتها وسببيّتها. فيستنتج من ذلك أنّ الله كما لا شريك له في ذاته، كذلك لا شريك له في فاعليّته وسببيّته، وأنّ كلّ سبب وفاعل، بذاتهما وحقيقتهما وبتأثيرهما وفاعليّتهما، قائمٌ به "سبحانه وأنّه لا حول ولا قوّة إلا به"2. وتوجد مرتبة أخرى من التوحيد يحتاج التمييز بينها وبين هذه المرتبة إلى تدقيق ومزيد تفصيل ليس هذا محلّه وهو ما يسمّيه بعض العلماء بـ"التوحيد الاستقلاليّ"3.
 
ويمكن إثبات هذه المرتبة من التوحيد بالاعتماد على العقل والدليل الفلسفيّ،



1 انظر: محمد تقي مصباح اليزدي، دروس في العقيدة الإسلامية، ترجمة هاشم محمد، رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية، قم، 1997م، ص 151 - 153.
2 الشيخ جعفر سبحاني، مفاهيم القرآن، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، قم، ج 1، ص 15.
3 لمزيد من التفصيل، انظر: الشيخ اليزدي، مصدر سابق، ص 155.
 
 
 
56

46

فلسفة نسبة النصر إلى الله

 كما يمكن إثباتها بالرجوع إلى القرآن الكريم. والدليل العقليّ الذي يستند إليه العلماء لإثبات هذه المرتبة من التوحيد يرتكز إلى تفسير طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوقين أو فلنقل بين العلّة الموجدة وبين الموجودات. فوجود الممكن وجود رابط غير مستقلٍّ، وما ليس مستقلًّا في أصل وجوده لا يمكن أن يكون مستقلًّا في تأثيره بل من الضروريّ أن تكون آثاره مرتبطة ومتوقّفة على العلّة الموجدة كأصل وجوده.

 
وأما من القرآن الكريم فتوجد آيات عدّة يمكن أن يُستفاد منها هذا المعنى، ومن هذه الآيات:
أ- قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾1. ففي هذه الآية يبيّن الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ فاعل الرمي هو الله، والنتيجة المترتّبة على الرمي ينبغي أن تُنسب إلى الله، وليس إلى سواعد المجاهدين.
 
ب- كلّ الآيات التي تنسب بعض أفعال الإنسان إلى الله تعالى، كقوله عزّ وجلّ: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾2. ففي هذه الآية ينفي الله عزّ وجلّ الزرع عن الإنسان وينسبه إلى نفسه ولو بصيغة السؤال. وهذا يعني أنّه هو المؤثّر الأوحد في الوجود، على الرغم من اعتقاد الإنسان السطحيّ بأنّه هو الذي يزرع ويسقي الزرع ويرعاه لينمو ويحين وقت حصاده.
 
ج- قوله تعالى: ﴿وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾3. يقول السيد الطباطبائي في تفسير مجموعة الآيات التي وردت هذه الآية في سياقها: وهذه الآيات تعلّل ذلك (أي أنّ الشرك يسوق الإنسان إلى الهلاك) بأنّ ربّ الجميع واحدٌ إليه تدبير الكلّ يجب عليهم أن يدعوه ويشكروا له وتؤكّد توحيد ربّ العالمين من جهتين: إحداهما: أنّه تعالى هو



1 سورة الأنفال: الآية 17.
2 سورة الواقعة، الآيتان 63 و 64.
3 سورة الأعراف، الآية 54.
 
 
 
57

47

فلسفة نسبة النصر إلى الله

 الذي خلق السماوات والأرض جميعًا ثمّ دبّر أمرها بالنظام الأحسن... والثانية: أنّه تعالى هو الذي يهيّئ لهم الأرزاق بإخراج أنواع الثمرات..."1 ثمّ يتابع السيد الطباطبائي شرح مفهوم النظام الواحد الحاكم على الكون كلّه بجميع تفاصيله وجزئيّاته، ويقول أخيرًا: "والباحث عن النظام الكونيّ يجد أن الأمر فيه على هذه الشاكلة، فالحوادث الجزئية تنتهي إلى علل وأسباب جزئية، وتنتهي هي إلى أسباب أخرى كلية حتى تنتهي الجميع إلى الله سبحانه غير أن الله سبحانه مع كلّ شيء وهو محيط بكل شيء"2.

 
إذًا هذه هي الرؤية الإسلامية إلى التوحيد، وعلى ضوء هذه الرؤية وانطلاقًا منها ينسب المسلمون النصر إلى الله كما ينسبون الرزق إليه على حدٍّ سواء. فالأمر بناء على هذه الرؤية ليس من باب التبرّك، ولا من باب المبالغة بل هذه النسبة من مقتضيات العقيدة الدينيّة الإسلامية، وجزء من الرؤية الكونية الإسلاميّة.
 
إلهيّة النصر بإلهيّة قيمته
أخيرًا وقبل الانتقال إلى فكرة أخرى تجدر الإشارة إلى أنّ ما يعطي موجودات عالم الإمكان وأحداثه قيمة مضافةً إلى قيمتها المعهودة، أو فلنقل ما يعطي الأشياء غير المقدّسة قداستها ويضفي عليها قيمة معنويّة أو أخلاقيّة هو بعض الملابسات والخصوصيّات التي تحيط بها فترفعها من مرتبة إلى أخرى. والأمثلة على هذا الترقّي القيميّ للأشياء كثيرة منها مثلًا: الحجر والورق ومساحة محدّدة من الأرض. فالحجر شيء ماديّ لا احترام ولا قداسة له، وأما عندما يدخل في بناء المسجد الحرام فإنّه يكتسب قداسة تفتقدها بقية أنواع الحجارة. والورق يجوز استعماله في إشعال النار أو في غير ذلك، ولكن عندما تكتب عليه أسماء الله أو آيات القرآن 



1 الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 147.
2 (م.ن)، ص 150.
 
 
 
 
58

48

فلسفة نسبة النصر إلى الله

 الكريم ويتحوّل إلى مصحف يكتسب قداسة تحرّم تنجيسه أو إحراقه كما تحرّم مسّه على غير المطهّرين. والأرض يجوز استعمالها في مصالح الإنسان مهما كانت هذه المصالح وضيعة أو رفيعة، وعندما تتحوّل إلى مسجدٍ تتبدّل أحكامها ويحرم دخولها على الإنسان في بعض الحالات كالجنب والحائض، ويحرم تنجيسها، وإذا حصل وتنجّست يجب تطهيرها في أقرب أزمنة الإمكان.

 
والنصر حدثٌ من الأحداث التي تصيب الإنسان، فإذا طلب لأجل الله واستثمر في سبيل الله كان نصرًا إلهيًّا وكانت كلّ قطرة بذلت في سبيل الحصول عليه طاهرة بمقاييس المعنى ومقدّسة ليس فوقها برّ: "فوق كلّ ذي برٍّ برٌّ حتى يقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه برّ"1. ولأجل هذا يُقتل الشهيد كما يعبّر الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾2, نعم يُقتَل ولكنّه لا يموت كما ينبئنا الله سبحانه في آية أخرى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾3. وهذا المعنى يعبّر عنه بأحسن طريقة وأبلغها قوله عزّ وجلّ: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾4. وفي مقابل هذا النصر الذي يقع في صراط الله عزّ وجلّ وفي سبيله، نجد نصرًا وتمكينًا آخر يُستثمر بطريقةٍ أخرى يخبرنا الله عزّ وجلّ عنها بقوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾5. فالتمكين الأوّل إلهيٌّ لأنّه يصبّ في المقاصد التي يريدها الله عزّ وجلّ بخلاف الثاني.



1 الكافي،ج2، ص348.
2 سورة التوبة، الآية 111.
3 سورة آل عمران، الآية 169.
4 سورة الحجّ، الآية 41.
5 سورة الأنعام، الآية 6.
 
 
 
 
59

49

فلسفة نسبة النصر إلى الله

 وقفّة تأمّلية

"لقد استطاع شعب إيران المجاهد أن يتغلّب بالإيمان بالله ووحدة الكلمة على قدرة شيطانية عظيمة تدعمها جميع القوى، وأن يقطع يد جميع القوى العظمى عن بلده".

"إنّ الإيمان بالله وبالمبادئ الإسلامية هو الذي حقّق لكم النصر".

"إنَّ سرَّ انتصارنا هو التوجّه نحو الله تبارك وتعالى والحرص على حراسة الإسلام".

"حافظوا على الأخلاق والسلوك الإسلاميين، فهما اللذان حقّقا لكم النصر".

"إنّ سرّ انتصاركم هو الإيمان ووحدة الكلمة".

"لقد استطاع شعب إيران المجاهد أن يتغلّب بالإيمان بالله ووحدة الكلمة على قدرة شيطانية عظيمة تدعمها جميع القوى، وأن يقطع يد جميع القوى العظمى عن بلده"

"إنّ الإيمان بالله وبالمبادئ الإسلامية هو الذي حقّق لكم النصر".

الإمام الخميني قدس سره، 
الكلمات القصار، ص123.
 
 
 
60
 

50

فلسفة نسبة النصر إلى الله

 فلسفة نسبة النصر إلى الله

 

 

 

61


51

هل النصر سنّة؟(1) نماذج من السّنن القرآنية

 هل النصر سنّة؟ (1) نماذج من السّنن القرآنية



مفاهيم محورية:
- تعريف السنّة.
- سنن الله في القرآن الكريم.
- مداليل الآيات الكريمة في السنن.
1- علاقة الفعل ورد الفعل.
2- المعرفة المسبقة.
3- الدوام والاستمرار.
4- حفظ الاختيار.
 
 
 
63

52

هل النصر سنّة؟(1) نماذج من السّنن القرآنية

 موعظة قرآنية

﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾1.
 
مقدّمة
كلمة سنّة من الكلمات المتداولة في الفكر الإسلاميّ بكثرة، والمعنى الأشهر لها هو: "قول المعصوم وفعله وتقريره". وبهذا المعنى يكون كلّ ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أقوال وأفعال سنّةً، وكذلك كلّ ما ورد عن سكوته على بعض التصرّفات التي قام بها بعض المسلمين في محضره وسكت ولم يعترض عليها. وليس هذا المعنى هو المقصود هنا. بل المراد من كلمة سنّة معنى آخر هو المعنى الذي ورد في القرآن الكريم قبل أن تتحوّل هذه الكلمة إلى مصطلح اشتهرت دلالته على هذا المعنى المشار إليه أعلاه.
 
تعريف السنّة
كلمة سنّة كلمة وردت في اللغة العربية وكان العرب يستعملونها في محاوراتهم وأحاديثهم ثمّ أتى الإسلام ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذت هذه الكلمة معنًى 



1 سورة فاطر، الآيتان 42-43.
 
 
 
 
65

53

هل النصر سنّة؟(1) نماذج من السّنن القرآنية

 جديدًا سوف نبيّنه لاحقًا. ولكن لا بأس من توضيح المعنى الأوّل ليتّضح الانتقال من المعنى القديم إلى المعنى الجديد. وبالمناسبة لا بأس من الإشارة إلى أنّ أحد وجوه الإعجاز في القرآن الكريم هو استعماله لكلمات عربيّةٍ في معان جديدة بطريقة لا يشعر معها القارئ أو المستمع بشيء من الغرابة والاستهجان على الرغم من تبدّل المعاني القديمة واختلافها عن المعاني القديمة. وقد التفت إلى هذا الشكل من أشكال الإعجاز القرآنيّ كثير من العلماء منهم المفكر اليابانيّ توشيهيكو إيزوتسو: 

إنّ الكلمات نفسها كانت مستعملةً في اللغة الدارجة في القرن السابع الميلادي، إن لم يكن في الحدود الضيّقة لمجتمع مكّة التجاري، فعلى الأقل عند بعض الجماعات الدينيّة في الجزيرة العربية. إلا أنّها كانت تنتمي إلى نظام مفهوميّ مختلفٍ. وجاء الإسلام فجمعها معًا وضمّها كلّها في شبكة مفهوميّة جديدة كليًّا، وغير معروفة من قبل وهي كذلك حتّى اليوم. وقد أدّى هذا التحوّل في المفاهيم والتبدّل الجوهري للقيم الأخلاقيّة والدينيّة التي نشأت عنه، إلى إحداث تغيّر أساسيّ كامل في تصور العرب للعالم وللوجود الإنسانيّ. ومن وجهة نظر المختصّ بعلم الدلالة الذي يهتمّ بتاريخ الأفكار، فإنّ هذا، وليس أيّ شيء آخر، هو ما أعطى الرؤية القرآنيّة للكون هذا الطابع المميّز الواضح جدًّا. وإذا تكلّمنا بتعابير أعمّ، فإنّ من المعرفة الشائعة أنّ الكلمات إذا نُزِعت من تراكيبها التقليديّة الثابتة، وأدخلت في سياق جديد مختلف كليًّا، فإنّها تميل إلى التأثّر جوهريًّا بهذا الانتقال بالذات. وهذا ما يعرف بتأثير السياق على معاني الكلمات. وقد يؤدّي هذا التأثير إلى تحوّلات دقيقة في التوكيد، وإلى تغييرات طفيفة في الفارق المعنويّ الذي لا يكاد يدرك، وفي التصوير العاطفيّ الحيّ فحسب، ولكن الغالب هو حدوث تغيّرات عنيفة في بنية معاني الكلمات، ويظلّ هذا صحيحًا حتّى عندما تبقى الكلمة التي نحن بصدد إدخالها في النظام الجديّ محتفظة بمعناها الأساسيّ الذي كان لها في النظام القديم"[1].



1 توشيهيكو إيزوتسو، الله والإنسان في القرآن، ترجمة هلال محمد الجهاد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2007م، ص 35.
 
 
 
66

54

هل النصر سنّة؟(1) نماذج من السّنن القرآنية

 ومن هذه الكلمات التي ينطبق عليها هذا المبدأ كلمة "سنّة"، فهي كانت تدلّ في لغة العرب على الصبّ والجريان وهو المعنى الأصليّ لهذه الكلمة: "سننت الماء على وجهي أسُنّه سنًّا: إذا أرسلته إرسالًا، ثمّ اشتقّ منه رجلٌ مسنون الوجه كأنّ اللحم قدّ سُنّ على وجهه. والحمأ المسنون من ذلك، كأنّه قد صُبّ صبًّا"1. ثمّ تطوّر هذا المعنى وصار يُستعمل في القوانين التي يجري عليها الفعل الإلهيّ في المجتمعات الإنسانيّة سواء كان ذلك في عالم التشريع أو في عالم التكوين. ويشير المصطفوي إلى هذا التحوّل في معنى السنّة من جريان الماء إلى جريان القوانين والأوامر والأحكام الإلهيّة بقوله: جريان أمر منضبط، سواء كان هذا الأمر وجريانه في ظهور صفة أو عمل أو قول، وتختلف باختلاف الموارد... وسُنّة الله تعالى: "جريان من ظهور صفاته على ضوابط مخصوصة، وهذه الضوابط تختلف باختلاف كلّ صفة وبمقتضى خصوصيّاتها"2.

 
سنن الله في القرآن الكريم
وقد وردت كلمة سنّة في القرآن الكريم مرّات عدّة في سياقات مختلفة منها، وربّما أكثرها في معنى المنهج والسيرة التي يجريها الله على بعض المجتمعات الإنسانيّة. ومن أمثلة ذلك الآيات الآتية:
1- قال الله تعالى ﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ﴾3. يقول السيد الطباطبائي في تفسير هذه الآية: والسنّة هي الطريقة والسيرة. أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلّغهم ذلك وفي معناه تطميع وتخويف وحقيقته دعوة إلى ترك القتال والفتنة ليغفر الله بذلك... فإن لم ينتهوا عمّا نهوا عنه فقد مضت سنّة الله في الأولين منهم بالإهلاك والإبادة وخسران السعي"4.



1 معجم مقاييس اللغة، مادّة: سنّ.
2 التحقيق في كلمات القرآن، ج 5، ص 288.
3 سورة الأنفال، الآية 38.
4 الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 75.
 
 
 
 
67

55

هل النصر سنّة؟(1) نماذج من السّنن القرآنية

 2- قال الله تعالى ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾1. وفي هذه الآية يبيّن الله عزّ وجلّ أيضًا طريقته ومنهجه في التعامل مع الذي يحاولون الصدّ عن سبيله بإخراج رسله من ساحة دعوتهم وتبليغهم. وتقضي هذه الطريقة بأنّ المخرِجين سوف يستأصلهم الله من الأرض التي أخرجوا منها رسوله ويفكّك وحدتهم الاجتماعيّة التي كانت تربط بينهم وتدفعهم إلى ما أقدموا عليه من عدوان.

 
3- قال الله تعالى ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾2. وتشبه هاتان الآيتان سابقتهما من حيث المضمون وذلك أنّ الله في هاتين الآيتين يهدّد المستكبرين الذين يقسمون على الاهتداء ولكنّهم بعد ذلك يستكبرون ويمكرون بالمنذرين الذين يأتون إليهم من قبل الله تعالى، يهدّدهم بما تقتضيه الطريقة والسنّة الإلهيّة في التعامل مع الأمم التي سبقتهم، ويلفت نظرهم في الآيتين اللاحقتين لهاتين الآيتين ويدعوهم إلى السير في الأرض والاعتبار بما جرى على الأوّلين وبالقوانين التي طبّقها الله عزّ وجلّ على من سبقهم من الأمم.
 
مداليل الآيات الكريمة في السنن
تفيدنا الآيات المتقدّمة أمورًا عدّة نستعرضها فيما يأتي لنطبّقها بعد ذلك على النصر الذي وعد الله به المؤمنين ونعرف هل هو سنّة من السنن التي يجريها الله تعالى على المؤمنين به أم هو حالة استثنائيّة يخصّ بها بعض الناس أو الجماعات في بعض الحالات دون غيرها.



1 سورة الإسراء، الآيتان 76 و 77.
2 سورة فاطر، الآيتان 42 و 43.
 
 
 
68

56

هل النصر سنّة؟(1) نماذج من السّنن القرآنية

 1- العلاقة بين الفعل ورد الفعل:

السنّة تشبه القانون الذي يحكم العلاقة بين الفعل وردّ الفعل. ففي الآية الأولى يحدّثنا الله عن ملازمة المخاطبين بالآية سيرة الأمم الماضية (الفعل) وعن انطباق سنّة الله على الأمم الماضية عليهم (ردّ الفعل). وفي الآية الثانية يخبرنا عزّ وجلّ عن أنّ إخراج الرسول من ميدان دعوته سوف يؤدّي (الفعل) إلى تفكّك المتمرّدين وفقدانهم وحدتهم الاجتماعيّة (ردّ الفعل). والأمر نفسه يُقال فيما يرتبط بالآية الثالثة.

2- المعرفة المسبقة:
يذكر العلماء أنّ ميزة القوانين التي يقدر العلم على اكتشافها أنّها تسمح للإنسان بالتنبّؤ بالأحداث الآتية في الطبيعة. يؤدّي فهم الإنسان لقانون الجاذبية إلى قدرة المهندسين مثلًا على تنظيم الأبنية وفق قوانين محدّدة تسمح بتماسك البناء وتحول دون انهياره. وكذلك فهم القانون الذي يؤدّي إلى الكسوف أو الخسوف يؤدّي إلى إمكان التنبّؤ بحدوث هاتين الظاهرتين قبل حصولهما وعلى هذين الأمرين يُقاس ما سواهما. وفيما نحن فيه معرفة سنّة الله في الأمم الماضية تهدي الإنسان إلى توقّع النتائج والآثار التي تترتّب على أفعاله. ولا تغفل الآيات المتقدّمة هذه الخصوصيّة في السنّة بل تلفت إليها بطريقة واضحة عندما تدعو إلى الاعتبار الذي هو النظر في مصائر السابقين والآثار التي ترتّبت على أفعالهم لمعرفة الآثار والنتائج التي سوف تترتّب في حال تكرّر الفعل نفسه أو ما يشبهه من الأمّة المدعوّة إلى الاعتبار بمن سبقها من الأمم.

3- الدوام والاستمرار:
الدوام والاستمرار أو فقل الاطراد هو من الخصائص التي تجعل المبدأ قانونًا وسنّة سواء كان ذلك في مجال العلم الطبيعيّ أو في مجال الإنسان والمجتمع. فلا 
 
 
 
69

57

هل النصر سنّة؟(1) نماذج من السّنن القرآنية

 يكون القانون قانونًا إلا إذا انطبق على الجميع بطريقة واحدة. وحتّى الاستثناءات التي يظهر لأوّل وهلة أنّها تخرق القاعدة يجب أن تكون خاضعة لاستثناء قانونيّ ينسجم مع القانون الأصليّ. ومن هنا لا تكون المعجزات خرقًا للقوانين التي تحكم علاقة العلّة بالمعلول1. ومن هنا لا يكون رفع التكليف مثلاً عن بعض الناس خرقًا للقانون التشريعيّ، بل هو قانون يؤدّي إلى الاستثناء بشكلٍ قانونيّ. والآيات المتقدّمة تشير إلى دوام هذا المعنى بوضوح يغنينا عن الشرح والتفصيل.

 
4- حفظ الاختيار:
الخصوصيّة الرابعة من خصوصيّات القوانين الاجتماعيّة أنّها تحفظ للإنسان اختياره ولا تلغي إرادته. بل حتّى في القوانين الطبيعيّة عندما يكتشف الإنسان سرّ القانون ويفهمه حقّ فهمه فإنّه وإن لم يكن قادرًا على تبديله وتغييره: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾2، لكنّه قادرٌ على التكيّف معه والاستفادة منه. فالإنسان لا يقدر على إبطال قانون الجاذبيّة المذكور أعلاه ولكنّه قادرٌ على تكييف حياته معه والاستفادة منه وتوجيهه في خدمة أغراضه ولو في حدود مرسومة لا يمكن تجاوزها. فبدل أن يجري علينا قانون الجاذبية ويسقطنا من أعلى إلى أسفل يمكننا الاستفادة منه في الاستقرار على وجه الأرض. والقوانين الاجتماعيّة أيضًا يمكن التعامل معها بهذه الطريقة فيمكن للإنسان أن يقدم على تحقيق الفعل ليتحقّق ردّ الفعل، أو العكس يمتنع عن الفعل ويستفيد من تجربة الأمم الماضية فلا يجري عليه ما جرى عليهم.



1 إشارة إلى نقاش فلسفيّ يدور حول المعجزات التي يأتي بها الأنبياء وأنّها لا تعدّ خرقًا لقانون العليّة، بل هي مصداق من مصاديق قانون العليّة ولكن النبيّ الذي يأتي بالمعجزة يطّلع على علّة غير العلّة الطبيعيّة التي اعتاد الناس عليها. وتفصيل هذا البحث له محلٌّ آخر. ومن أراد المزيد يمكنه الرجوع إلى كتب علم الكلام والفلسفة وكتب التفسير، ومن ذلك: الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 73.
2 سورة فاطر، الآية 43.
 
 
 
 
70

58

هل النصر سنّة؟(1) نماذج من السّنن القرآنية

 وقفّة تأمّلية

 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ والكلام يقع في ثلاثة مطالب: أحدها: إنّه لا ريب في عدم حاجة القادر المتعال إلى نصرة أحد فإنّه تعالى بوجوب وجوده غني بالذّات، والخلق محتاجون إليه كما قال تعالى شأنه: ﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء﴾1 فالمراد بنصرته كما ذكره المفسِّرون، ودلّت عليه الأخبار: هو نصرة دينه، ونصرة النبي والأئمة الأطهار، والأولياء الأبرار، وبعبارة أخرى كل من يكون في نصرته يكون في رضى الله تعالى، فنصرته نصرة الله، وهذا المطلب من غاية الوضوح بمكان لا يحتاج إلى شاهد وبرهان. الثاني: اعلم أنّ المراد بنصرته هو الإقدام والمساعدة في كلّ أمر عُلِم تعلُّق غرضه بوقوعه، ولهذا تتفاوت كيفية النصرة بحسب تفاوت الأزمان والأحوال والأمكنة، فالنصرة في زمان حضوره تحصل بوجه، وفي زمان غيبته بوجه آخر، فقد تكون النصرة بالتقية وقد تكون بالدعوة إليه وقد تكون بالجهاد بين يديه وقد تكون بالدعاء في تعجيل فرجه، وقد تكون بذكر فضائله، وصفاته، ودلائله، وعلاماته، وقد تكون بنصرة أوليائه وأحبّائه وقد تكون بتأليف الكتب ونشرها، إلى غير ذلك من أصناف النصرة، وهي كثيرة لا تخفى على أهل البصيرة. الثالث: في كيفية النصرة الإلهية، التي جعلها جزاء لنصرة العبد أولياء الله تعالى ودينه ورسله بحسب ما استفدناه من الروايات. فنقول: يمكن أن يكون المراد بهذه النصرة أن ينصر الله تعالى عبده في اليسر والعسر والسرّاء والضرّاء بأن يحفظه ممّا يُبعده عن رحمته من الأشر، والبطر، والطغيان، ونحوها من المهلكات، والموبقات، التي تعرض للعبد في حال الرخاء، ومن الجزع والهلع والكسل والفشل، ونحوها، ممّا يعرض للعبد في حال البلاء. وأمّا النصرة على الأعداء في دار الفناء فهي تابعة للمصالح والحكم الإلهية، فإنّها تتفاوت بحسب المقتضيات والأزمنة، فقد يكون أولياؤه في الدنيا غالبين، وقد يكونون مغلوبين، وذلك لحكم وعلل.
 
مكيال المكارم، 
الميرزا محمد تقي الأصفهاني، ج2، ص207.



1 سورة محمّد، الآية 38.
 
 
 
71

59

هل النصر سنّة؟(1) نماذج من السّنن القرآنية

 هل النصر سُنَة؟

 

 

72


60

هل النصر سنّة؟(2) سنن النصر الإلهيّ في القرآن الكريم

 هل النصر سنّة؟ (2) 

سنن النصر الإلهيّ في القرآن الكريم

مفاهيم محورية:
- السنّة بحسب رأي الشهيد الصدر.
- كيف نثبت أنّ النصر سنّة؟
- آيات النصر في القرآن الكريم.
- الآيات العامّة في النصر.
- الآيات المصداقية في النصر.
- آيات الاعتبار بنصر سابق.
 
 
 
73

61

هل النصر سنّة؟(2) سنن النصر الإلهيّ في القرآن الكريم

 موعظة قرآنية

﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾1.
 
مقدّمة
هل النصر والمدد الإلهيّ سنّة من السنن وقانون كتبه الله على نفسه وألزم نفسه به؟ وما هي الشروط التي يجب على الإنسان توفيرها ليحصل عليه؟ أو فلنقل ما هو الفعل الذي يجب على الإنسان أن يحقّقه لينال ردّ الفعل الإلهيّ وصدى فعله وجزاءه الحسن وهو النصر وتحقيق الأهداف؟
 
وللجواب عن هذا السؤال يحسن بنا الاستعانة بجهود أحد العلماء الذين عالجوا موضوعًا شبيهًا بهذا الموضوع وأبدع في فتح هذا البحث وفيما انتهى إليه من نتائج، وهو الشهيد المرحوم السيد محمد باقر الصدر.
 
السنّة بحسب رأي الشهيد الصدر
يرى الشهيد الصدر أنّ القرآن كشف عن اهتمامه بما يسمّيه بالسنن التاريخيّة بأكثر من طريقة، فمرّة يخبرنا القرآن الكريم عن خضوع التاريخ البشريّ لمجموعة



1 سورة البقرة، الآية 214.
 
 
 
 
75

62

هل النصر سنّة؟(2) سنن النصر الإلهيّ في القرآن الكريم

 من القوانين والسنن على نحوٍ عامٍّ، وثانية يخبرنا عن سننٍ بعينها من خلال ذكر المصاديق والأمثلة لهذه السنن، وثالثة يمزج القرآن بين النظريّة والتطبيق بحيث يبيّن المفهوم الكليّ في إطار المصداق، ورابعة يدعونا إلى النظر في التاريخ والتأمّل في مصائر الأمم الغابرة كي نكتشف القانون ونَعِي السنّة1. ومن أمثلة القسم الأوّل قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾2. ومن أمثلة القسم الثاني قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ﴾3 ومن أمثلة الحثّ على النظر في مصائر الشعوب السابقة قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾4.

 
كيف نثبت أنّ النصر سنّة؟
يمكننا معالجة سؤالنا المطروح في العنوان على ضوء ما تقدّم أعلاه والبحث عن الآيات التي تبيّن أن النصر سنّة من السنن التي كتب الله على نفسه الالتزام بها في أكثر من آية من آيات القرآن الكريم. ومن الشواهد والقرائن العامّة الدالّة على أنّ النصر سنّة تعبير الله عن منحه النصر لبعض الرسل والأمم السابقة بصيغة المضارع. والفعل المضارع كما يقرّ علماء اللغة العربيّة يدلّ على الاستمرار والتكرار. وهاتان السمتان من سمات القانون كما أشرنا آنفًا. ومن الآيات التي وردت بهذه الصيغة قوله تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾5. والتأكيد المضاعف الذي اتّسم به بعض عبارات القرآن التي تتحدّث عن النصر



1 السيد محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنيّة، الطبعة الأولى، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر، قم، 1421 هـ.ق.، ص 54.
2 سورة الأعراف، الآية 34.
3 سورة الأنعام، الآية 34.
4 سورة يوسف، الآية 109. تجدر الإشارة إلى أنّ الأمثلة المذكورة للآيات الشريفة هي من الشهيد الصدر نفسه. انظر: المدرسة القرآنية، مصدر سابق، ص 55-66.
5 سورة الحج، الآية 40.
 
 
 
76

63

هل النصر سنّة؟(2) سنن النصر الإلهيّ في القرآن الكريم

 تكشف عن أنّ النصر سنّة من السنن الإلهيّة التي يجريها الله عزّ وجلّ على من يستحقّها: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾1. ونشير هنا إلى أداتي التوكيد اللام والنون، كما نلفت إلى أن الفعل كتب يدلّ على الجزم: "والكتابة معروفة المعنى ويُكنّى بها عن الفرض والعزيمة والقضاء الحتم"2.
 
آيات النصر في القرآن
سوف نستعرض فيما يأتي الآيات التي تتضمّن الوعد الإلهيّ بالنصر للمؤمنين وفق التقسيم المذكور أعلاه, لنثبت أنّ النصر سنّة إلهيّةٌ عامّة تجري في عروق التاريخ وشرايين المجتمعات الإنسانيّة. وقد لا يُسعفنا التنظيم المنطقيّ للبحث عن استيفاء الأقسام المذكورة، والسبب هو اختلاف محور البحث عندنا عن المحور المعتمد عند الشهيد الصدر. وبيان ذلك أنّ الشهيد الصدر كان بصدد الحديث عن مبدأ خضوع حركة التاريخ البشريّ للقوانين والسنن، وأما نحن فإنّنا نبحث في مرحلة لاحقةٍ وهي مرحلة التسليم بهذا الخضوع والبحث عن سنّة بعينها هي سنّة النصر الإلهيّ. وتجدر الإشارة إلى أنّ ما نبغيه هو ذكر بعض الأمثلة ولسنا نرمي إلى الحصر والاستقصاء.
 
الآيات العامّة في النصر
من الصيغ التي ذكرت لتعبير القرآن عن السنن صيغة التعبير العامّ عن هذه السنّة ولو من باب بيان خضوع المجتمع والتاريخ للسنن والقوانين، وممّا وجدنا أنّه يمكن اندراجه في هذا الصنف الآيات الآتية:
1- قال الله تعالى: ﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ 



1 سورة المجادلة، الآية 21.
2 الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 7.
 
 
 
77

64

هل النصر سنّة؟(2) سنن النصر الإلهيّ في القرآن الكريم

 الْمِهَادُ﴾1. يأمر الله في هذه الآية بإبلاغ الذين كفروا بالقانون الإلهيّ الذي سوف يُطبّق عليهم وهو قانون الغلبة، مهما تطاولت الأيّام. وهذه الآية على الرغم من أنّها لا تتحدّث مباشرة عن نصر المؤمنين وانتصارهم، فإنّها تفيد هذا المعنى بوضوح، فعندما يُغلب الكافرون سوف يكون المنتصر هو الطرف المقابل لهم أي المؤمنون.

 
2- قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾2. وهذه الآية أيضًا تقرّر مبدأً عامًّا هو تحقّق الغلبة الدائمة لحزب الله على غيرهم من الجماعات التي توالي غير الله وتتحزّب له.
 
3- قال الله تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾3. وهذه الآية على الرغم من ورودها في سياق الحديث عن النصر الذي منّ الله به على المسلمين في معركة بدرٍ إلا أنّ ختامها بهذه الطريقة يسمح بتصنيف هذا المقطع من الآية في خانة الآيات العامّة, وذلك لأنّه ختام مشعر بالتعليل، وصيغة النفي والاستثناء تؤكّد هذا المعنى. يقول السيد الطباطبائي في مقام إرجاع النصر والمدد إلى الله تعالى دون غيره من الوسائل حتّى لو كانت الملائكة: "...هو المقام الربوبيّ الذي ينتهي إليه كلّ أمرٍ وحكمٍ ولا يكفي عنه ولا يستقلّ دونه شيء من الأسباب، فالمعنى أنّ الملائكة الممدّين ليس لهم من أمر النصر شيء, بل هم أسباب ظاهريّة يجلبون لكم البشرى وطمأنينة القلب، وإنّما حقيقة النصر من الله سبحانه لا يغني عنه شيء وهو الله الذي ينتهي إليه كلّ أمرٍ، العزيز الذي لا يُغلب الحكيم الذي لا يجهل"4.



1 سورة آل عمران، الآية 12.
2 سورة المائدة، الآية 56.
3 سورة آل عمران، الآية 126.
4 الميزان في تفسير القرآن، ج 4، ص 4.
 
 
 
78

65

هل النصر سنّة؟(2) سنن النصر الإلهيّ في القرآن الكريم

 4- قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾1. ووجه تصنيف هذه الآية في الآيات العامّة أمران أحدهما أنّها تتحدّث عن الرسل الذين أرسلهم الله تعالى قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولا تشير إلى رسول بعينه منهم، وثانيهما أنّها تختم ببيان قاعدة عامّة مفادها أنّ الله جعل للمؤمنين على نفسه حقًّا أن ينصرهم ولا يكلهم إلى أنفسهم، ولا يلقي بهم طعمة للكافرين.

 
5- قال الله تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾2. وهذه الآية التي مرّت سابقًا تدخل في هذه المجموعة من الآيات التي تبيّن أنّ النصر سنّة من السنن الإلهيّة التي ألزم الله نفسه بها. وهي تشبه في لهجتها التعبير القرآنيّ الوارد في قوله تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾3 وفي هذه الآيات غنًى وكفاية تعفي من الإطالة ومتابعة البحث.
 
الآيات المصداقيّة في النصر
- قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾4. هذه واحدةٌ من الآيات التي تخبرنا عن منّ الله بالنصر على المؤمنين. وهي وإن كانت آية خاصّةً بمعركة بدرٍ إلا أنّ لسانها يوحي بإمكان تعميم هذا المبدأ إلى غير هذه الواقعة من الوقائع. والمؤشّرات التي تسمح بمثل هذا التعميم هي: الحديث عن النصر مع الإشارة إلى الضعف وقلّة العدد الذي كان عليه المسلمون في ذلك الزمان، وختام الآية بالدعوة إلى التقوى والشكر الأمر الذي يوحي ولو على نحو الإشعار بالوعد بدوام مثل هذه المنّة إن ثبت المسلمون على



1 سورة الروم، الآية 47.
2 سورة المجادلة، الآية 21.
3 سورة الأنعام، الآية 54.
4 سورة آل عمران، الآية 123.
 
 
 
 
79

66

هل النصر سنّة؟(2) سنن النصر الإلهيّ في القرآن الكريم

 التقوى والشكر. ويتأكّد هذا المعنى بملاحظة سياق الآية اللاحقة لهذه الآية ومن ذلك قوله تعالى في الآية 521 من السورة نفسها: ﴿بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾1.

 
- قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾2، تكمل هذه الآية دلالة الآية السابقة وتوضحها. وتبيّن أنّ نصر الله للمؤمنين في بدرٍ لم يكن استثناءً بل كان هو القاعدة. والهزيمة التي مُنِي بها المسلمون أوّلًا في حنين ناجمة عن الإعجاب بالكثرة وترك التوكّل على الله. وقد ورد في بعض الأخبار المرتبطة بغزوة حنين أنّ أحد المسلمين قال: "لن نغلب اليوم عن قلّة"3. ولكنّ الله يكشف في الآيات اللاحقة عن أنّه لم يترك المسلمين ولم يكلهم إلى أنفسهم بل عاد عليهم بعد أن أدّبهم وألفتهم إلى أنّ الكثرة لا تغني عن المدد الإلهيّ، فأنزل سكينته وأمدّهم بأسباب النصر الغيبيّة4.
 
- قال الله تعالى: ﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾5. وظاهر هذه الآية أنّها نزلت في معركة بدرٍ كما يرى عددٌ من المفسّرين، وذلك أنّ المسلمين كانوا على هذه الحالة من الضعف والخوف وقت بدرٍ6 وبعد هذا النصر تغيّر حال المسلمين، وقويت شوكتهم وقلّ طمع المشركين فيهم.



1 سورة آل عمران، الآية 125.
2 سورة التوبة، الآية 25.
3 ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، النجف، 1956م، ج 1، ص 180.
4 انظر: سورة التوبة، الآية 26. ويمكن أن تكون هذه الآية نموذجًا آخر للآيات التي تتحدّث عن حالات محدّدة من النصر الإلهيّ.
5 سورة الأنفال، الآية 26.
6 الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 53, الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 5، ص 299.
 
 
 
80

 


67

هل النصر سنّة؟(2) سنن النصر الإلهيّ في القرآن الكريم

 - قال الله تعالى: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾1. وهذه الآية وإن كانت خاصّةً بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنّ سياقها يفيد أنّ انتصار النبيّ لا يتوقّف على نصر الناس له فقد نصره الله يوم لم يكن معه سوى رجلٍ واحدٍ. وهذا يدلّ بوضوح على أنّ الله يحقّق ما يريد من انتصار نبيّه وإتمام حجّته وتبليغ رسالته سواء كثر الناس حوله أم قلّوا وبالتالي تريد أن تقول هذه الآية لا يمنّنّ أحدٌ لا على الله ولا على رسوله، فإنّ الله إذا أراد أن ينصر رسوله ينصره ولو كان وحيدًا.

 
آيات الدعاء بالنصر
ورد في القرآن الكريم آياتٌ عدّة تتحدّث عن طلب المؤمنين النصر من الله تعالى. ووجه دلالة هذه المجموعة من الآيات على ما نحن فيه أي على أنّ النصر من عند الله وهو سنّة من سننه تعالى، هو نقل القرآن هذه المجموعة بطريقة تشبه إقرارهم الداعين على دعائهم ما يعني أنّ هؤلاء الداعين يطلبون ما يطلبون من محلّه ولو كان النصر يُطلب من محلٍّ آخر لندبهم الله تعالى إلى طلبه من حيث يجب أن يُطلب. ومن هذه الآيات:
- قال الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾2. ففي هذه الآية يخبرنا الله عزّ وجلّ عن أنّ هذه



1 سورة التوبة، الآية 40.
2 سورة البقرة، الآية 214.
 
 
 
81

68

هل النصر سنّة؟(2) سنن النصر الإلهيّ في القرآن الكريم

 الأمّة سوف يحصل لها ما حصل على الأمم السابقة من امتحان وابتلاء، وسوف يشتدّ عليها البلاء إلى درجة تجعل الرسول يتوجّه إلى الله ويسأل عن وقت النصرة والمدد. وقد توقّف بعض المفسّرين عند إمكان أن يصدر مثل هذا الأمر عن الرسول وقال: "ولا ضير في أن يتفوّه الرسول بمثل هذا الكلام استدعاءً للنصر الذي وعد به الله سبحانه رسله والمؤمنين بهم..."1 وبغضّ النظر عن القائل والداعي الذي يستنزل النصر من الله، فإنّ الله ينقل هذا الدعاء ولا يبيّن للداعي أنّه أخطأ في طلبه النصر من الله، وليس هذا فحسب بل تكمل الآية وتبيّن أنّ نصر الله قريبٌ, إذ يبدو من ظاهر الآية أنّ العبارة الأخيرة هي الجواب الإلهيّ والردّ على دعاء الداعي.

 
قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾2. وهذه آية أخرى تحكي عن جند طالوت إذ برزوا في مواجهة جالوت وجنوده طلبوا من الله أن ينصرهم ويثبّت أقدامهم. ووجه الدلالة فيها ما تقدّم في الآية السابقة فلا نعيد. وتتأكّد دلالة الآية بالنظر إلى الآية اللاحقة التي تكمل فتقول: ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ﴾3، وإذن الله في هذه الآية لا بدّ من أن يُفهم على أنّه إذنٌ تكوينيٌّ وليس إذنًا تشريعيًّا، وذلك أنّه لا شكّ في الإذن التشريعيّ بهزيمتهم وبالتالي لا داعي لذكره، وما يستحقّ الذكر هو الإذن التكوينيّ لدفع توهّم أنّ القوّة الماديّة هي السبب في النصر، فبيّن الله أنّ النصر تحقّق بإذن الله وإرادته وليس بالاعتماد على المادّة والمادّيات.



1 الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 159.
2 سورة البقرة: الآية 250.
3 سورة البقرة: الآية 251.
 
 
 
 
82

69

هل النصر سنّة؟(2) سنن النصر الإلهيّ في القرآن الكريم

 وقفّة تأمّلية

لو نزلتم إلى الميدان في سبيل الله وصمّدتم، فإنّ النصر أمر قطعي: ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ ...﴾1 ، هذا الأمر لا يتعلّق بما جرى في معارك صدر الإسلام فقط ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ هي سنة إلهية.... ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾2  فإنّ الله تعالى سينصر حتماً وقطعاً، ومعنى ﴿وَلَيَنصُرَنَّ﴾، هو هذه القطعية والحتمية، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً﴾3.
 
الإمام الخامنئي دام ظله: كلمته في ذكرى انتقاضة أهالي قم/8/1/2013م.
 
بالطبع، نحن نُخطئ، فلا نُدرك أحياناً هذا التفضّل الإلهي ولا نرى يد العطف الربّانية التي تُظلِّنا في مختلف القضايا. بعض الأحيان، نُخطئ من هذه الجهة حيث نتصوّر أنّنا نحن الذين نقوم بمثل هذه الأمور، في حين أنّنا لسنا كذلك. ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾4.
 
"قلب المؤمن بين إصبعي الرحمن"، فمن الذي يجذب هؤلاء المؤمنين لينزلوا إلى الميادين ويجعلهم متوجّهين إلى الله بهذا الشكل؟ ليست إلا اليد الإلهية والقدرة الربّانية ولا غير, هذه هي الأمور التي تجعلنا متفائلين.
 
لا أُريد الاقتصار على تفصيل الوقائع فنحن جميعاً نُشاهدها تباعاً بل أُريد أن أصل إلى هذه النتيجة: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾5، فالله تعالى يجعل تأييده إلى جانب النّصرة بواسطة المؤمنين, حيث إنّ الأمر هنا بالظاهر هو النّصرة المعنويّة، مثلما ورد: ﴿أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾6 وأمثالها. ﴿هُوَ الَّذِيَ



1 سورة الفتح، الآيتان 22 و23.
2 سورة الحج، الآية 40.
3 سورة النساء، الآية 122.
4 سورة الأنفال، الآية 63.
5 سورة الأنفال، الآية 62.
6 سورة الأنفال، الآية 9.
 
 
 
83

70

هل النصر سنّة؟(2) سنن النصر الإلهيّ في القرآن الكريم

 أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾1 المؤمنون هم الذين يوجبون النّصرة، المؤمنون هم الذين يحفظون النظام ثابتاً، المؤمنون هم الذين يُعبّدون الطريق في الميادين المختلفة حتى يتمكّن النظام الإسلامي من إنجاز الأعمال الكبرى. ونحن لا ينبغي أن نتصوّرها: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾2, لا نتصوّرن أنّنا من يفعل ذلك، بل هي فعل الله.

 
 
الإمام الخامنئي دام ظله، 
كلمته في لقاء مجلس خبراء القيادة/ 08/09/2011م.



1 سورة الأنفال، الآية 62.
2 سورة القصص، الآية 78.
 
 
 
 
84

71

هل النصر سنّة؟(2) سنن النصر الإلهيّ في القرآن الكريم

 هل النصر سُنَة؟

 

 

 

85


72

أسباب النصر(1) الأسباب الماديّة

 أسباب النصر(1)

الأسباب الماديّة


مفاهيم محورية:
- سنّة النصر واختيار الإنسان.
- الأسباب الماديّة للنصر.
1- العدّة: 
أ- العدّة في القرآن.
ب- العدّة في الفقه الإسلاميّ.

2- تجهيز الغازي.

3- العدد: 
أ- الاهتمام بنوعية العديد.
ب- تنظيم العديد.
ج- العديد بين الكمّ والكيف.
 
 
 
 
87

73

أسباب النصر(1) الأسباب الماديّة

 موعظة قرآنية

﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾1.
 
مقدّمة
على الرغم من كون النصر نعمةً وسنّة من السنن الإلهيّة إلا أنّ إرادة الله اقتضت أن لا تجري الأمور بأسبابها سواء كانت هذه الأسباب ضعيفة أو قويّة. وقد قارنّا في محلٍّ سابق بين النصر والرزق، ونعيد هذه المقارنة لنرى أنّ الرزق وإن كان بيد الله حصرًا كما في عدد من الآيات الكريمة ومنها على سبيل المثال لا الحصر، قوله عزّ وجلّ: ﴿وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾2، ولكنّ الله لم يقدّمه دائمًا مجّانًا بل رتّبه على أمور منها السعي في سبيل الرزق كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾3. وفي قصّة السيّدة مريم عليها السلام عبرةٌ إذ أمرَها الله تعالى بهزّ النخلة كي يسقط عليها الرطب الجنيّ،



1 سورة الأنفال، الآية 60.
2 سورة آل عمران، الآية 27.
3 سورة الملك، الآية 15.
 
 
 
 
89

74

أسباب النصر(1) الأسباب الماديّة

 ألم يكن الله الذي رزقها طفلًا دون المقدّمات المتعارفة للحمل والولادة قادرًا على تقديم الطعام إليها دون عناءٍ: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾[1]. ولمّا كان النصر لا يُقدّم مجانًا ودون مقدّمات كان من الطبيعيّ البحث عن الأسباب والمقدّمات التي تؤدّي إلى النصر. وهنا سؤال يطرحه الشهيد الصدر في بحثه عن السنن الاجتماعيّة نعيد طرحه لما له من صلةٍ بمحلِّ بحثنا. ثمّ ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن أسباب النصر ومقدّماته.

 
سنّة النصر واختيار الإنسان
يثير الحديث عن سنن التاريخ والقوانين الإلهيّة التي تحكم المجتمعات التساؤل عن دور الإرادة الإنسانيّة في تحقيق الآثار والنتائج التي تحصل في المجتمعات. فإذا كان التقدّم والتخلّف، والنصر والهزيمة، وغيرهما من الحالات التي تصيب المجتمع أو تحدث فيه، نتائج للسنن الإلهيّة والقوانين التي تحكم هذه المجتمعات، فأين دور الإنسان وأين فاعليّته؟ وهل تشبه النظرة الإسلاميّة هذه النظرة الماركسيّة التي ترى أنّ المجتمعات تسير وفق قوانين تشبه القوانين التي تتحكّم بحركة الطبيعة فلا يد للإنسان فيها إلا القبول والخضوع؟
 
يجيب الشهيد الصدر عن هذا السؤال بالنفي. ويرى أنّ الطريقة التي عرض الله عزّ وجلّ فيها السنن التي تحكم حركة التاريخ تعطي للإنسان دورًا فاعلًا ومؤثّرًا وبالتالي لا تنافي بين إلهيّة السنن وبين تأثير الإرادة الإنسانيّة. فقد توهّم بعض الناس: أنّ هناك تعارضًا وتناقضًا بين حرّيّة الإنسان واختياره وبين سنن التاريخ، فإمّا أن نقول إنّ للتاريخ سننه وقوانينه، وبهذا نتنازل عن إرادة الإنسان واختياره وعن حريّته، وإما أن نسلّم بأنّ الإنسان كائنٌ حرٌّ مريدٌ مختارٌ، وبهذا يجب أن نلغي سنن التاريخ وقوانينه ونقول إنّ هذه الساحة قد أعفيت من القوانين التي لم تعف منها



1 سورة مريم، الآية 25.
 
 
 
 
90

75

أسباب النصر(1) الأسباب الماديّة

 بقية الساحات الكونية... هذا الوهم كان من الضروريّ للقرآن الكريم أن يزيحه وهو يعالج هذه النقطة بالذات. ومن هنا أكّد سبحانه وتعالى على أنّ المحور في تسلسل الأحداث والقضايا إنّما هو إرادة الإنسان..."1. وبعد أن يستشهد ببعض الآيات على ما يريد يعلّق قائلًا: "انظروا كيف أنّ السنن التاريخيّة لا تجري من فوق رأس الإنسان بل تجري من تحت يد الإنسان، فإنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقًا"2.

 
أسباب النصر ومقدّماته
يمكن تقسيم أسباب النصر ومقدّماته بطرقٍ عدّة، ولكنّنا سوف نعتمد خيار التقسيم الثلاثيّ لها وفق هذا المعيار. فهذه المقدمات إما أن تكون ماديّة طبيعيّة، وإمّا أن تكون غيبيّة من جهة الله تعالى، وإمّا أن تكون أخلاقيّة وصفات نفسيّة يتّصف بها الإنسان الذي ينعم الله عليه بالنصر. وسوف نحاول استعراض عددٍ من الآيات التي تتضمّن مثل هذه الأسباب وفق هذا التقسيم. ولا ندّعي أنّه الخيار الوحيد ولا الخيار الأحسن، ولكنّه الخيار الأيسر والأقلّ تعقيدًا بحسب ما يبدو لنا.
 
الأسباب الماديّة للنصر
1- العدّة:
لا شكّ في أنّ العدّة لها دورها في تحقيق النصر والغلبة. وهذا الأمر ممّا اعترف به الإسلام وندب المسلمين إليه بأشكال مختلفة. وقد ورد في القرآن الكريم أكثر من آية تدعو إلى الاستعداد للحرب ومواجهة العدوّ. كما ورد مثل هذا الأمر في السنّة الشريفة بأشكال مختلفة نعرض لها فيما يأتي:



1 المدرسة القرآنية، ص 75.
2 (م.ن)، ص 76.
 
 
 
91

76

أسباب النصر(1) الأسباب الماديّة

 أ- العدّة في القرآن:

قال الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾1. ورد في بعض كتب التفسير أنّ هذه الآية نزلت بعد معركة بدرٍ التي خرج المسلمون إليها دون أن يكونوا قد أعدّوا العدّة الكافية لها، فحذّرهم الله تعالى من العودة إلى ذلك ثانيةً2. والإعداد في الآية هو التهيئة، والقوّة هي كلّ ما يتقوّى به على العدوّ وقيل هي الرمي على وجه الخصوص، والرباط هو الخيل التي تربط في سبيل الله. وفي الآية نكتةٌ تستحقّ الالتفات إليها والتوقّف عندها وهي الفعل ترهبون إذ يُراد منه الخوف الذي يدخل على قلب العدوّ فيزيل طمعه في المسلمين وبالتالي يجعله يتردّد في فتح المعركة وهو ما يُعرف في عصرنا هذا بالردع. وربّما يكون المراد من الفعل هو أنّ العدّة لا تحقّق النصر بل أقصى ما تحقّقه هو إدخال الرهبة في قلوب الأعداء. وأخيرًا لا يخفى أنّ القوّة من العناصر المرنة التي تختلف من زمان إلى آخر تبعًا لتطوّر العلوم وتبدّل أسلحة العدوّ.
 
قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾3. تتحدّث هذه الآية عن بعض المنافقين الذين كانوا يستأذنون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تهرّبًا من القتال فكان النبيّ يأذن لهم كي يخرجهم من معسكره ويريح حشد المسلمين من شرّ وجودهم بينهم. ووجه دلالة الآية على ضرورة الإعداد للحرب والاستعداد لها، أنّ الله يحكم على هؤلاء القوم بأنّهم كاذبون في دعواهم العزم على الخروج للقتال والاستئذان بعد ذلك بالانسحاب، ومستند هذا الحكم عليهم هو عدم ظهور أمارات الاستعداد عليهم.



1 سورة الأنفال، الآية 60.
2 الفخر الرازي، التفسير الكبير، الطبعة 3، مكتبة أهل البيت الإلكترونيّة، ج 15، ص 184.
3 سورة التوبة، الآية 46.
 
 
 
 
92

77

أسباب النصر(1) الأسباب الماديّة

 قال الله تعالى: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِه ِ... وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ﴾1. تتحدّث هاتان الآيتان عن جماعة من المخلصين من المسلمين الذي يريدون الخروج إلى القتال مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولكنّه لا يأذن لهم بالخروج معه لعدم توفّر الراحلة التي يحملهم عليها، وهم من جهتهم غير قادرين على تأمين رواحل تحملهم. والامتناع عن حملهم وفيض عيونهم بالدمع شوقًا إلى الجهاد يدلّ على أنّ المقاتل الذي لا يتوفّر له السلاح ووسيلة النقل لا يؤدّي خدمة مهمّة في ساحات القتال بل قد يتحوّل إلى عبء على المجاهدين الذين قد ينشغلون بالدفاع عنه والتفكير في حمايته وقت الحرب.

 
هذه الآيات الثلاث دليل واضح على اهتمام الإسلام بالعدّة مع التوكّل على الله والاعتماد عليه في تحقيق النصر. ومن التجربة المعاصرة يمكن الإشارة إلى تجربتين استقتا من هذا المنبع هما تجربة المقاومة الإسلاميّة التي راكمت خلال سنين ما أتيح لمجاهديها من قوّة وأسلحة دفاعيّة وهجوميّة حقّقت توازن ردع في مواجهة العدوّ, بحيث صار العدوّ أبعد ما يكون عن التهوّر والجرأة على الإقدام على فتح الحرب ساعة يشاء.
 
والتجربة الثانية والأهمّ على مستوى الإعداد والقوّة العسكريّة هي تجربة الجمهوريّة الإسلاميّة التي جعلت قيادتها الحكيمة في رأس أولويّاتها الاكتفاء الذاتيّ في مجال التصنيع العسكريّ. وقد بدأ مفجّر الثورة الإسلامية التفكير في هذا الأمر مبكّرًا، وقال في إحدى محاضراته في النجف الأشرف: "إنّ قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم ...﴾ يدلّ على وجوب الاستعداد بكل ما تيسّر من وسائل 



1 سورة التوبة، الآيتان 91 و 92.
 
 
 
93

78

أسباب النصر(1) الأسباب الماديّة

 الدفاع والهجوم. ولو أنّ المسلمين عملوا بهذا الحكم وأسّسوا دولة إسلاميّة مجهّزة بأساليب القوّة والاستعداد للتضحية، لما استطاع حفنة من اليهود احتلال بلاد المسلمين والتهديد بتخريب المسجد الأقصى وحرقه..."1. بل كان رحمه الله يفكّر في هذا الأمر قبل خروجه من إيران وذلك كما ورد في كتابه المشهور كشف الأسرار الذي نشر في بداية عهد محمد رضا بهلوي، إذ يقول فيه: إذا كان الدفاع واجبًا على الجميع، فمقدّمات الدفاع واجبة أيضًا. ومن بين مصاديق الإعداد التشكيلات العسكريّة، وتعلّم فنون القتال على القادرين على ذلك"2.

 
ب- العدّة في الفقه الإسلاميّ:
من المعلوم أنّ الفقه الإسلاميّ يحرّم الرهان والمسابقة التي فيها عوض ماليّ يأخذه الرابح. ويعدّ الفقهاء هذا الأمر من القمار. ولكن نجد أنّ الفقهاء الذين حرّموا الرهان واستندوا في تحريمه إلى أدلّة فقهيّة عدّة مرويّة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعن الأئمّة عليهم السلام، نجدهم يجوّزون الرهان في أمرين هما السبق والرماية، ويخصّصان لهاتين اللعبتين بابًا في الفقه الإسلاميّ يتحدّث عن أحكامهما3. ومن الأدلّة التي يستدلّون بها لجواز المسابقة والرماية مجموعة من الروايات عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام منها: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمأجرى الخيل وجعل سبقها أواقي من الفضّة"4. وعن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "لا سبق إلا في خفٍّ أو حافرٍ أو نصل"5. ولا يحتاج تفسير تجويز مثل السبق والرماية إلى جهد كبيرٍ, إذ ارتباط هذين الأمرين بالاستعداد للحرب والقتال من الواضحات.



1 الإمام الخميني، ولايت فقيه، ص 33.
2 در جستجوي راه از كلام امام، دفتر 2، ص 6، نقلا عن: كشف الأسرار (فارسي)، ص 45-46.
3 انظر كنموذج: السيد الخوئي، منهاج الصالحين، ج 2، ص 119.
4 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الطبعة 2، مؤسسة آل البيت، قم، 1414هـ.ق.، ج 11، ص 494.
5 (م.ن).
 
 
 
 
94

79

أسباب النصر(1) الأسباب الماديّة

 2- تجهيز الغازي:

تجهيز الغازي من المفاهيم المعروفة في الأدبيّات الإسلاميّة، وذلك أنّ التسليح في بداية الدولة الإسلاميّة كان أمرًا فرديًّا, ولأجل ذلك ورد أعلاه أنّ بعض المسلمين كانوا يأتون إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وليس معهم ما يتجهّزون به للقتال. ومن هنا ورد الحثّ على تجهيز المقاتلين والإنفاق على التسليح. وقد ورد الحثّ على هذا الأمر في القرآن الكريم, إذ إنّ بعض الآيات التي تدعو إلى الإنفاق في سبيل الله يُراد منها الإنفاق على التسليح أو المجهود الحربيّ بحسب التعبير المتعارف في زماننا، وأوضح منها دلالة على ما نحن فيه الآيات التي تتحدّث عن الجهاد بالأموال إلى جانب الجهاد بالأنفس، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾1. وفي الأخبار الواردة في السنّة الشريفة دعوة واضحة إلى استحباب أو وجوب تجهيز المقاتلين على المقتدرين ماليًّا، ومن ذلك ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من جهّز غازيًا فقد غزا"2.
 
3- العديد:
إلى جانب العدّة لا شكّ في أهميّة العديد وتأثيره في توازن القوى بين المسلمين وبين العدوّ. وهذا ما يفسِّر الأمر الإلهيّ المتكرّر في القرآن الكريم بالنفير للقتال ومواجهة المشركين وغيرهم من الأعداء الذين خاض المسلمون معهم معارك في عصر نزول القرآن الكريم. ولأجل هذا أيضًا وردت إدانات عدّة للذين يتخاذلون عن اللحاق بصفوف المسلمين وهم الذين يُعبّر عنهم في الأدبيّات الإسلاميّة بالقاعدين، أو الخوالف. ومن هذه الآيات ما يأتي:
- قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ 



1 سورة الأنفال، الآية 72.
2 لم نعثر على هذا الحديث بهذه الصيغة في المصادر الحديثيّة الإماميّة ولكنّه ورد في عدد من كتب فقهاء الإماميّة، انظر: الشيخ الطوسي، الخلاف، الطبعة الثانية، قم، 1420هـ.ق.، ج 5، ص 517, العلامة الحلّي، منتهى المطلب، مكتبة أهل البيت الإلكترونيّة، ج 2، ص 900.
 
 
 
 
95

80

أسباب النصر(1) الأسباب الماديّة

 فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾1. وفي هذه الآية دلالة واضحةٌ على ذمّ الذين يتثاقلون عن الخروج إلى القتال مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عندما يدعوهم إلى النفر والخروج.

 
- قال الله تعالى: ﴿انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾2. ودلالة هذه الآية أوضح من سابقتها إذ يأمر الله تعالى فيها بالنفر على كلّ حال ولو من دون توفّر السلاح على الرغم من أهميّته وضرورته كما تقدّم، إلا أنّه عندما تدعو الحاجة إلى النفير العامّ لا ينبغي للمسلم أن يتذرّع بأيّ ذريعة للتهرّب من النفير ولو كانت عدم توفّر ما يكفي من السلاح لأداء الواجب: الخفاف والثقال جمعا خفيف وثقيل، والثقل بقرينة المقام كناية عن وجود الموانع الشاغلة الصارفة للإنسان عن الخروج إلى الجهاد نظير كثرة المشاغل الماليّة وحبّ الأهل والولد والأقرباء والأصدقاء الذي يوجب كراهة مفارقتهم، وفقد الزاد والراحلة والسلاح ونحو ذلك، والخفّة كناية عن خلاف ذلك. فالأمر بالنفر خفافًا وثقالًا وهما حالان متقابلان في معنى الأمر بالخروج على أيّ حال وعدم اتّخاذ شيء من ذلك عذرًا يعتذر به لترك الخروج"3.
 
أ- الاهتمام بنوعيّة العدد:
ولم يهتمّ الإسلام بالعدد وحده بل اهتمّ بنوعيّة هذا العدد. وكان المطلوب إظهار ما توفّر من العدد في أحسن صورة تثير الرعب في قلب العدوّ ولو بالاعتماد على بعض التكتيكات التي تظهر صورة المسلمين على غير واقعها طلبًا لإثارة الرعب في قلوب الأعداء. وممّا يقع في هذا السياق الأمر بالخضاب في السنوات الأولى من عمر الرسالة الإسلاميّة. ويبدو أنّ هذا الأمر إجراء اعتمده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون



1 سورة الأنفال، الآية 72.
2
3 سورة التوبة، الآية 38.
 
 
 
96

81

أسباب النصر(1) الأسباب الماديّة

 لإخفاء الشيب وإظهار عسكر المسلمين وكأنّه يغلب عليه عنصر الشباب دفعًا لطمع العدوّ بهم. ولأجل أنّ هذا التدبير كانت تقتضيه الضرورة ورد في بعض الأخبار أنّ أمير المؤمنين سئل عن الخضاب فخيّر بينه وبين عدمه: "سئل عليّ عليه السلام عن قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: غيّروا الشيب ولا تشبّهوا باليهود، فقال: إنّما قال ذلك والدين قلٌّ، وأما الآن وقد اتّسع نطاقه وضرب بجرانه، فامرؤٌ وما اختار"1. وورد أيضًا أنّه: "قال عليه السلام وقد نظر إلى شيب في لحية رجلٍ: من شاب في الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة، فخضب الرجل بالحنّاء، فلمّا رآه قال: نورٌ وإسلامٌ، فخضب بالسواد، فقال عليه السلام: نور وإسلامٌ ومحبّة إلى نسائكم، ورهبة في قلوب أعدائكم"2. ويدور أمر المرويّ عنه بين أن يكون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأن يكون الإمام الصادق عليه السلام.

 
ب- تنظيم العديد:
وكثرة العدد بحسب ما يقتضيه المنطق مضافًا إلى العلم العسكريّ لا يجدي كثيرًا إن لم يكن منظّمًا، ولم تُستغلّ الطاقات البشريّة المستعدّة للتضحية وبذل النفس. ومن هنا ينقل لنا القرآن الكريم بعض صور التنظيم العسكريّ الذي كان يتولّاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. كما ورد في السنّة والسيرة الشريفة ما له صلة بهذا, الأمر الذي سمح لبعض الباحثين تأليف الكتب في الخطط العسكرية التي كان يعتمدها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
 
من القرآن: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾3. غدوت من الغدوّ وهو الخروج غداة والتبوئة تهيئة المكان للغير أو إسكانه وإيطانه المكان والمقاعد جمع (مقعد)... والمراد بأهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصّته..."4 والآية على أيّ حالٍ ظاهرة الدلالة على تنظيم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صفوف المسلمين وأمرهم باتخاذ مواقع قتاليّة استعدادًا لبدء المعركة.



1 سورة التوبة، الآية 41.
2 الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 277.
3 الحر العاملي، هداية الأمّة إلى أحكام الأئمّة، مجمع البحوث الإسلاميّة، مشهد، 1412هـ.ق.، ج 1، ص 146.
4 (م.ن).
 
 
 
 
97

82

أسباب النصر(1) الأسباب الماديّة

 من السيرة: السيرة النبويّة الشريفة مليئة بالأخبار التي تحكي عن كيفية إدارة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم معاركه وكيفيّة توزيع الصفوف وتنظيمها. ونكتفي بذكر واقعة واحدة تحكي عن شيء من هذا. وذلك ما ورد في أخبار معركة أحد التي انقلب النصر فيها إلى هزيمة، بعد أن ترك الرماة مواقعهم طلبًا للغنيمة فعاد جيش المشركين الذي كان منهزمًا مستغلًّا فرصة انكشاف ظهر المسلمين وانشغال بعضهم بتقسيم الغنائم. وقد تحوّل النصر السابق إلى هزيمة حتّى قال أبو سفيان معبّرًا عن فرحته بالثأر ممّا ناله وحزبه يوم بدر: "يوم بيوم بدر، ألا إنّ الأيام دول، وإنّ الحرب سجال وحنظلة بحنظلة"1]. ولولا ثبات مجموعة من المسلمين على رأسهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام وآخرين ربّما كان يوم أحد هو المعركة الأخيرة التي خاضها المسلمون.

 
ج- العديد بين الكمّ والكيف:
لم يخلُ القرآن الكريم من بيان أهميّة العديد ودور كثرة المقاتلين في تقوية جبهة الإسلام وتحصين معسكره ولكن لفت إلى أنّ الكثرة ليست مطلبًا بحدّ ذاته فربّ كثرة لا تغني بل تفسد. وتخرّب ووردت في هذا المجال أكثر من آية في كتاب الله عزّ وجلّ منها:
- قال الله تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾2. تتحدّث هذه الآية عن المنافقين الذين لا ينبغي الرهان عليهم لا في السلم ولا في الحرب. والخبال هو الفساد واضطراب الرأي. والإيضاع الإسراع في الشر، والخلال البين، والبغي هو الطلب فمعنى يبغونكم الفتنة أي يطلبون لكم أو فيكم الفتنة... وهي المحنة كالفرقة واختلاف الكلمة... وتفرّق الجماعة من قبل هذه الغزوة وهي غزوة تبوك كما في غزوة أحد حين رجع عبد الله بن أبي سلول بثلث القوم وخذل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وقلبوا لك الأمور بدعوة الناس 



1 سورة آل عمران، الآية 121.
2 الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج 2، ص 297.
 
 
 
 
98

83

أسباب النصر(1) الأسباب الماديّة

 إلى الخلاف وتحريضهم على المعصية وخذلانهم عن الجهاد وبعث اليهود والمشركين على قتال المؤمنين والتجسّس وغير ذلك..."1.

 
- قال الله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾2. تقصّ لنا هذه الآية شيئًا من قصّة النبيّ داود عليه السلام وتحكي لنا خبر جنود طالوت الذين كان فيهم من أهل الإيمان الكامل وفيهم غير المؤمنين ومن هم غير كاملي الإيمان، وقد صدر هذا الكلام الحكيم عن الجماعة الأولى الذين وصفهم الله تعالى بأنّهم يظنّون أنّهم ملاقو الله، "والظنّ بلقاء الله إما بمعنى اليقين، وإمّا كناية عن الخشوع"3. وعلى أيّ حال نقل هذا الكلام عن جماعة يصفها الله بهذا الوصف مع عدم إبطاله ونقضه يدلّ على التأييد الإلهيّ له وإقرار أصحابه على صحّته.
 
ويؤيّد واقع الحال المعاصر للمسلمين هذا التقييم القرآنيّ للكثرة والقلّة فربّ كثرة كغثاء السيل، كما ورد في الحديث المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كلّ أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: يا رسول الله: فمن قلّة بنا يومئذٍ؟ قال: لا, ولكنّكم كغثاء السيل يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوّكم لحبّكم الدنيا وكراهتكم الموت"4. وقد شهد تاريخنا الإسلاميّ المعاصر كثرة كغثاء سمحت لشذّاذ الآفاق بالسيطرة على بلاد المسلمين وثرواتهم وتأسيس كيان غريب عن جسم الأمّة في قلبها. وكل المؤشّرات تدلّ على أنّنا نشهد تحوّلًا في تاريخ الأمّة يغيّر حالها بعد أن بدأت تغيّر ما بها. ونسأل الله أن تكون في هذه الأمّة في مستقبلها كثرة كالسيل وليس كغثائه.



1 سورة التوبة، الآية 47.
2 الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 290.
3 سورة البقرة، الآية 249.
4 الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 292.
 
 
 
99

84

أسباب النصر(1) الأسباب الماديّة

 وقفّة تأمّلية

 
الإعداد والاستعداد سبيل النصر
﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾1 أمر عام بتهيئة المؤمنين مبلغ استطاعتهم من القوى الحربية ما يحتاجون إليه قبال ما لهم من الأعداء في الوجود أو في الفرض والاعتبار، فانّ المجتمع الإنساني لا يخلو من التألّف من أفراد أو أقوام مختلفي الطباع ومتضادي الأفكار لا ينعقد بينهم مجتمع على سنة قيمة ينافعهم إلا وهناك مجتمع آخر يضاده في منافعه، ويخالفه في سنته، ولا يعيشان معاً برهة من الدهر إلا وينشب بينهما الخلاف ويؤدّي ذلك إلى التغلّب والقهر.فالحروب المبيدة والاختلافات الداعية إليها ممّا لا مناص عنها في المجتمعات الإنسانية والمجتمعات هي هذه المجتمعات، ويدلّ على ذلك ما نُشاهده من تجهّز الإنسان في خلقه بقوى لا يُستفاد منها إلا للدفاع كالغضب والشدّة في الأبدان، والفكر العامل في القهر والغلبة، فمن الواجب الفطري على المجتمع الإسلامي أن يتجهّز دائماً بإعداد ما استطاع من قوّة ومن رباط الخيل بحسب ما يفترضه من عدو لمجتمعه الصالح. والذي اختاره الله للمجتمع الإسلامي بما أنزل عليهم من الدين الفطري الذي هو الدين القيّم هي الحكومة الإنسانية التي يحفظ فيها حقوق كل فرد من أفراد مجتمعها، ويراعي فيها مصلحة الضعيف والقوي والغني والفقير والحر والعبد والرجل والمرأة والفرد والجماعة والبعض والكل على حدٍّ سواء دون الحكومة الفردية الاستبدادية التي لا تسير إلا على ما تهواه نفس الفرد المتولّي لها الحاكم في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم بما شاء وأراد، ولا الحكومة الأكثرية التي تطابق أهواء الجمهور من الناس وتبطل منافع آخرين وترضى الأكثرين (النصف + واحد) وتضطهد وتسخط الأقلّين (النصف - واحد). ولعلّ هذا هو السرّ في قوله تعالى: 



1 حديث مشهور لم نعثر عليه في المصادر الإماميّة، وهو مرويٌّ في كتب أهل السنّة، انظر: المتّقي الهندي، كنز العمّال، ج 11، ص 132.
 
 
 
100

85

أسباب النصر(1) الأسباب الماديّة

 ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم﴾1 حيث وجّه الخطاب إلى الناس بعد ما كان الخطاب في الآيات السابقة موجّهاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كقوله: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾2 وقوله: ﴿فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء﴾3 وقوله: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ﴾4 وكذا في الآيات التالية كقوله: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾5 إلى غير ذلك. وذلك أنّ الحكومة الإسلامية حكومة إنسانية بمعنى مراعاة حقوق كل فرد وتعظيم إرادة البعض واحترام جانبه أي من كان من غير اختصاص الإرادة المؤثّرة بفرد واحد أو بأكثر الأفراد. فالمنافع التي يُهدّدها عدوّهم هي منافع كل فرد، فعلى كل فرد أن يقوم بالذبّ عنها، ويعد ما استطاع من قوة لحفظها من الضيعة، والإعداد وإن كان منه ما لا يقوم بأمره إلا الحكومات بما لها من الاستطاعة القوية والإمكانات البالغة لكن منها ما يقوم بالأفراد بفرديّتهم كتعلّم العلوم الحربية والتدرُّب بفنونها فالتكليف تكليف الجميع.

 
الميزان في تفسير القرآن،
 السيد محمد حسين الطباطبائي، ج9، ص115.



1 سورة الأنفال، الآية 60.
2 سورة الأنفال، الآية 57.
3 سورة الأنفال، الآية 58.
4 سورة الأنفال، الآية 59.
5  سورة الأنفال، الآية 61.
 
 
 
 
101

86

أسباب النصر(1) الأسباب الماديّة

الأسباب الماديّة للنّصر

 

 

 

102


87

أسباب النصر(2) الأسباب المعنويّة

 أسباب النصر (2)

الأسباب المعنويّة


مفاهيم محورية
الأسباب المعنوية للنصر.
1- الإيمان وأثره في النصر.
2- العمل الصالح.
3- الصبر والثبات.
4- التوكّل.
 
 
 
103

88

أسباب النصر(2) الأسباب المعنويّة

 موعظة قرآنية

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾1.
 
مقدّمة
يبدو أنّه لا نقاش في تأثر الجانب المعنويّ في تحقيق النصر سواء كان ذلك بطريقة غيبيّة لا نعلمها أم كان ذلك بطريقة يمكن تحليلها والاهتداء إلى حقيقتها وكيفية تأثير البعد المعنويّ على الإنسان في حياته الطبيعيّة كالنصر والهزيمة وما شابه من الحالات. وسوف نستعرض فيما يأتي الأسباب المعنويّة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم. وسوف نحاول تحليل ما يسعفنا التحليل في فهمه، ونكتفي فيما سواه بعرضه والتسليم به لشهادة الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
 
الإيمان
الإيمان في اللغة كلمة تتضمّن معاني عدّة هي الوثوق والتصديق والركون. ويبدو أنّ هذه الكلمة على الرغم من تعدّد استعمالاتها وتنوّعها إلا أنّها أصل لغويّ واحد



1 سورة الأنفال، الآية 65.
 
 
 
105
105

89

أسباب النصر(2) الأسباب المعنويّة

 تعددت معانيه بتعدّد استعمالاته. فيُقال: أمن فلانٌ فهو آمن على نفسه، وأمن البلد، وآمن بالله، وأتمنت زيدًا على كذا. يقول المصطفوي في شرح هذه المفردة القرآنية: 

والتحقيق أنّ الأصل الواحد في هذه المادة: هو الأمن والسكون ورفع الخوف والوحشة والاضطراب. يقال أمِن يأمن أمنًا, أي اطمأنّ وزال عنه الخوف... والائتمان هو أخذه أمينًا. والإيمان جعل نفسه أو غيره في الأمن والسكون. والإيمان به حصول السكون والطمأنينة به... ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ﴾1 أي اطمأنّوا وحصل لهم الأمن. وآمن بالله: "حصل له الاطمئنان والسكون بالله المتعال، فهو مؤمن أي مطمئنٌّ"2.
 
وقد ورد في القرآن الكريم أكثر من آية تربط بين النصر وبين الإيمان، ولا يبدو أنّ ثمّة حاجة لاستعراضها جميعًا, ولذلك نكتفي بالإشارة إلى بعضها، ومنها:
- قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾3. من حيث المبدإ لا حقّ لأحدٍ على الله ولا عنده عزّ وجلّ، فكل ما يفيض من الله يفيض على أساس الجود والكرم والتفضّل، ولكنّ الله يكتب على نفسه بعض الأمور، فتتحوّل إلى حقٍّ بالوعد الإلهيّ بالتفضّل. وكفى بالوعد الإلهيّ وثيقة للتحقّق: ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾4.
 
وفي آية أخرى يقول عزّ وجلّ بلسان الوعد: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾5. وفي هذه الآية وعد من الله أيضًا بالنصر ولو بكلمات: الاستخلاف، والأمن، والتمكين، فقد تقدّم أنّ التعبير القرآني عن النصر متعدد الصيغ.



1 سورة النساء، الآية 152.
2 التحقيق في كلمات القرآن، ج 1، ص 164-165.
3 سورة الروم، الآية 47.
4 سورة الزمر، الآية 20.
5 سورة النور، الآية 55.
 
 
 
106

90

أسباب النصر(2) الأسباب المعنويّة

 - قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾1. وهذه الآية أيضًا واضحة الدلالة على أنّ صفة الإيمان التي يتّصف بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي أحد الأسس التي تسقط العدد من الاعتبار وتعطي المؤمنين ميزة تجعل الواحد منهم يعادل عشرة من غيرهم.

 
أثر الإيمان في النصر
والربط بين الإيمان والنصر من الأمور التي يمكن للإنسان أن يدركها. فالمؤمن يستند إلى ركنٍ وثيق هو الله، ويمتاز بدافع قويٍّ للتضحية لا يتوفّر عند غيره من الناس، فهو كما تقول الآية الشريفة: ﴿وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ﴾2. فاختلاف الرجاء والغاية التي يسعى الإنسان من أجلها تؤثّر في الدافع الذي يدفع الإنسان إلى التضحية وبذل النفس من أجله. وخاصّة إذا أخذنا بالاعتبار أنّ المؤمن يطلب إحدى الحسنيين كما تقدّم فإن انتصر فبها ونعمت وإن استشهد فإنّه ينقلب إلى ربٍّ غفور، فهو يعتقد أنّ بين حالين كلاهما حسن، ومن ينظر إلى الأمور بهذه الطريقة لا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلًا. والشرط الأساس في هذه الصفة حتّى تؤثّر أثرها أن تبقى اسمًا ورسمًا وأما إن تحوّلت إلى اسم خالٍ من المضمون فلا ينبغي توقّع تحقّق الوعد الإلهيّ بالنصر، فالنصر المجانيّ غاية لا تدرك وبغية لا تُنال: "والحكم أعني النصر والغلبة حكم اجتماعيّ منوط على العنوان لا غير, أي إنّ الرسل وهم عباد أرسلهم الله والمؤمنون وهو جند الله يعملون بأمره ويجاهدون في سبيله ما داموا على هذا النعت منصورون غالبون، وأما إذا لم يبق من الإيمان إلا اسمه ومن الانتساب إلا حديثه فلا ينبغي أن يرجى



1  سورة الأنفال، الآية 65.
2 سورة النساء، الآية 104.
 
 
 
107

91

أسباب النصر(2) الأسباب المعنويّة

 نصرٌ ولا غلبة"1. وبالتالي قد يهزم المسلمون إذا فقدت أكثريّتهم الاتّصاف بهذه الصفة حتّى لو كان فيهم نبيّ من أنبياء الله تعالى: هناك جانب آخر لعمليّة التغيير التي مارسها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الأطهار، هذه العمليّة حينما تلحظ بوصفها عمليّة متجسّدة في جماعة من الناس وهم النبيّ والصحابة.. وبوصفها عمليّة قد واجهت تيّارات اجتماعية مختلفة من حولها واشتبكت معها في ألوان من الصراع والنزاع العقائديّ والاجتماعيّ والسياسيّ والعسكريّ... حينما تؤخذ العمليّة من هذه الزاوية تكون عمليّة بشريّة، يكون هؤلاء أناسًا كسائر الناس تتحكّم فيهم إلى درجة كبيرة سنن التاريخ التي تتحكّم في بقية الجماعات وفي بقيّة الفئات.. المسلمون انتصروا في بدر حينما كانت الشروط الموضوعيّة للنصر بحسب منطق سنن التاريخ تفرض أن ينتصروا، وخسروا المعركة في أحد حينما كانت الشروط الموضوعيّة في معركة أحد تفرض عليهم أن يخسروا المعركة... "لا تتخيّلوا أن النصر حقٌّ إلهيٌّ لكم، وإنما النصر حقٌّ طبيعيّ لكم بقدر ما يمكن أن توفّروا الشروط الموضوعيّة لهذا النصر بحسب منطق سنن التاريخ التي وضعها الله سبحانه وتعالى كونيًّا لا تشريعيًّا"2.

 
العمل الصالح
العمل الصالح السابق على النصر واللاحق له من العناصر المهمّة في استنزال النصر. وقد بيّن الله هذا الأمر في عددٍ من الآيات. ونكتفي باستعراض أقل عددٍ ممكنٍ من هذه الآيات لأنّ مفهوم الإيمان في القرآن الكريم من المفاهيم المقرونة بالعمل الصالح في كثير من الآيات.

 
- قال الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ 



1 الميزان في تفسير القرآن، ج 17، ص 177.
2 المدرسة القرآنية، ص 50-51.
 
 
 
 
108

92

أسباب النصر(2) الأسباب المعنويّة

 وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾1. نلاحظ في هذه الآية أنّ النصر الذي يعد به الله تعالى مقيّدٌ بصفتين هما الإيمان والعمل الصالح.

 
- قال الله تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾2. تتحدّث الآية السابقة عن العمل الصالح السابق على النصر، وأمّا هاتان الآيتان فإنّهما تتحدّثان عن نصر الله لمن ينصره، ولكنّهما تقيّدان ذلك بما بعد النصر وتشترطان في هؤلاء الذين يدّعون الإيمان ويطلبون من الله النصر والتمكين أن يحافظوا على الصفات التي أهّلتهم لنيل النصر، وإلا فلن ينال النصر من الله من يضيّع ما أمره الله به. ولو فُرِض وحصل مثل هذا الأمر فإنّ الله يهدّد هؤلاء بالاستبدال بمن هو أهلٌ لأن يخصّه الله بنصره وتمكينه3.
 
قال الله تعالى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا﴾4.
 
- قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾5، تشترك هاتان الآيتان في نكتة واحدة هي الوعد بفيض النعم الإلهيّة على بعض الناس لو أنّهم استقاموا على الشريعة التي شرّعها الله لهم، وأقاموا حدود الكتب السماويّة التي أتاهم بها أنبياؤهم. ووجه الربط بين هاتين الآيتين وبين النصر أنّ هذا الأخير نعمة من النعم الإلهيّة، وبناء على قاعدة "حكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد"، يمكن تعميم هذا الحكم من نعمة الأكل والشرب إلى غيرها من النعم كالنصر.



1  سورة النور، الآية 55.
2 سورة الحج، الآيتان 40 و41.
3 انظر: سورة الأنعام، الآية 6. ولنا عودة إلى هذا الأمر لاحقًا.
4 سورة الجنّ، الآية 16.
5 سورة المائدة، الآية 66.
 
 
 
109

93

أسباب النصر(2) الأسباب المعنويّة

 الصبر والثبات

الربط بين الصبر والنصر من الأمور الواضحة التي يدركها الإنسان بالوجدان، فمن لا يصبر على تحمّل التضحيات لا يمكن أن ينال ما يريد. وقد التفت الإنسان بحسّه الفطريّ وتجاربه العاديّة إلى مثل هذا الأمر، وامتلأ الشعر الحكميّ والأدب وكتب الأخلاق على وجه العموم بالحديث عن الصبر وتأثيره في وصول الإنسان إلى ما يبتغيه. يقول الشاعر وإنّ من الشعر لحكمة: "لا بدّ دون الشهد من إبر النحل". ومن الحكم المشهورة في الأدبيات الإسلامية قولهم: "من صبر ظفر فاصبر تظفر". وقد تعرّضت السنّة لهذا الربط وورد في بعض الأخبار والأحاديث ما يكشف عن الربط بين الأمرين، ومن ذلك: ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا يعدم الصبور الظفر، وإن طال به الزمن"1. وقد اشتهر على الألسن نسبة قولٍ إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو: "إنما النصر صبر ساعة". ولكن يبدو بعد البحث والتحقيق أنّ النسبة غير صحيحة, ولكن لا تبعد صحّة المضمون. ومن الآيات التي تؤكّد هذا المعنى وتصدّقه:
 
- قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾2. وجه دلالة الآية على الربط بين الصبر والنصر أنّ الله يعد المؤمنين بالفلاح ويرجّيهم إيّاه إن هم حقّقوا الشرط وهو الصبر والثبات.
 
- قال الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾3. وردت هذه الآية في سياق الحديث عن الجهاد والقتال في سبيل الله، وختمت ببشارة الصابرين. والأقرب في مضمون هذه



1 نهج البلاغة، باب الحكم، ج 4، الحكمة 153.
2 سورة آل عمران، الآية 200.
3 سورة البقرة، الآية 155.
 
 
 
 
110

94

أسباب النصر(2) الأسباب المعنويّة

 البشارة والأكثر انسجامًا مع سياق الآيات الكريمة1 أن يكون النصر والظفر ونيل ما يسعون في سبيل الحصول عليه: أعاد ذكر الصابرين ليبشّرهم... فأمر تعالى نبيّه أوّلًا بتبشيرهم، ولم يذكر متعلّق البشارة لتفخيم أمره فإنّها من الله سبحانه فلا تكون إلا خيرًا وجميلًا. وقد ضمنها ربّ العزّة"2.

 
- قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾3. وهذه الآية كسابقتها تدعو إلى الاستعانة بالصبر لنيل المبتغيات، وهي عامّة ولو شكّك أحدٌ في عمومها فإنّه يكفي للربط بين الصبر والنصر قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ومن كان الله معه ومحيطًا به إحاطة قيوميّة على حدّ تعبير أحد المفسّرين لن يكون إلا منتصرًا.
 
التوكّل
التوكّل على الله تعالى من الفضائل الأخلاقيّة في منظومة القيم الأخلاقيّة الإسلامية. وهذا الأمر لا يخفى على من له أدنى اطّلاع على الأخلاق الإسلاميّة. وما يعنينا هنا هو الكشف عن الصلة بين التوكّل على الله وبين النصر.
 
يقول الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾4. حسبه أي يكفيه ويغنيه عمّا ومن سواه. تقرّر هذه الآية مبدأً عامًّا هو أنّ التوكّل على الله تعالى يجعل الإنسان في غنًى عن سواه. ومن الأمور التي ينبغي التوكّل على الله تعالى فيها وقطع الطمع في غيره الحرب والقتال وخاصّةً عندما يكون القتال في سبيل الله.
 
قال الله تعالى: ﴿إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ 



1 خاصّة أنّ هذه الآيات الخمس (153-157) من سورة البقرة لها سياق واحد كما يرى بعض المفسرين. انظر: الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 343.
2 الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 353.
3 سورة البقرة، الآية 153.
4 سورة الطلاق، الآية 3.
 
 
 
111

95

أسباب النصر(2) الأسباب المعنويّة

 فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ﴾1. ودلالة هاتين الآيتين أوضح من دلالة سابقتهما وذلك أنّ الآية الأولى منهما تتحدّث عن الاقتراب من الفشل وإظهار العجز، ثم تدعو المؤمنين إلى التوكّل على الله. وتشير الآية الثانية إلى النصر الذي أحرزه المسلمون في بدرٍ، ولهذا السياق دلالته على الربط بين التوكّل والصبر.

 
قال الله تعالى: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾2. هذه الآية تقلب المشهد ولكنّها لا تعدم الدلالة على الربط بين الأمرين، فإنّها بدل أن تدعو إلى التوكّل طلبًا للنصر، تدعو إلى التوكّل بالاعتماد على مبدإٍ عامٍّ وحقيقة كونية كبرى هي حقيقة أنّ من ينصره الله فلن يُغلب، ومن يخذله الله فلن يذوق طعم النصر، وتبني على هذه الحقيقة المؤكّدة الدعوة إلى فضيلة التوكّل والاعتماد على الله تعالى.
 
وبكلمة عامّةٍ التوكّل على الله يرفع منسوب الثقة ويشدّ العزيمة فمن يرَ الله ظهيرًا له ومعتمدًا، يكنْ أقدر على اتّخاذ المواقف الحاسمة في الأوقات الصعبة. ومن المعلوم أنّ كثيرًا من الهزائم التاريخيّة سببها ضعف في اتّخاذ القرار في الوقت المناسب، وكثيرًا من الانتصارات سببها ارتفاع منسوب الثقة بالمستند والمعتمد، وأيّ رهانٍ يمكن أن يكون أقوى من الرهان على الله والاستناد إلى ما عنده؟



1 سورة آل عمران، الآيتان 122 و 123.
2 سورة آل عمران، الآية 160.
 
 
 
112

96

أسباب النصر(2) الأسباب المعنويّة

 وقفّة تأمّلية

 
"اصمدوا فإنّ الحقّ معكم والنصر لكم".
كلمة الإمام القائد الخامنئي دام ظله في أهالي قم في شهر محرّم/ 09/01/2010م.
 
عزّزوا ثقتكم بالله الحكيم القدير وآمنوا بقدراتكم وزيدوها. وتيقّنوا من النصر النهائي واعلموا أنّه: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[1].
الإمام الخامنئي دام ظله، نداء بتاريخ01/06/2010
 
"واعلموا أنّ الجهاد في سبيل الله وعد إلهي بالنصر, فعندما تتحرّكون لله وفي سبيل الله ستصلون إلى النصر".
الإمام الخامنئي دام ظله: مع مسؤولي في الجمهورية الإسلامية، 28/03/2011 م.
 
"طبعاً لا يمكن الانتصار من دون جهاد وتحرّك وتقبّل للأخطار. لم يَعِد الله تعالى أحداً بالنصر من دون تحرّك. ولا يكفي لذلك مجرّد أن يكون المرء مؤمناً متديّناً، بل لا بدّ من الجهاد والصبر. ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا﴾[2]، هذا كلام الأنبياء لمعارضيهم... إنّنا نصمد ونقاوم، لقد صمد الأنبياء والرسل عليهم السلام، ومنطق الأنبياء اليوم رغم كل ما تعرّضوا له من القمع هو المنطق الشائع في العالم. لقد انتشر كلام الأنبياء ولم ينتشر منطق الفراعنة. وهذه المسيرة وهذه التوجّهات سوف تزداد يوماً بعد يوم. لا بدّ من الصبر والصمود. لقد أظهر شعبنا من نفسه هذا الصمود والثبات. وأعداؤنا لا يريدون أن يفهموا ويستفيدوا من التجارب الماضية. يجب أن يعلموا أنّ العناد والتكبّر وجنون العظمة مقابل هذا الشعب وتوقّع أمور في غير محلّها منه لن يجدي أيّ نفع. هذا الشعب واقف ثابت وقد عرف الطريق والهدف وعرف نفسه".
 
الإمام الخامنئي دام ظله: كلمته في ذكرى البعثة النبوية/18/6/2012م.



1 سورة الحج، الآية 40.
2 سورة إبراهيم، الآية 12.
 
 
 
 
113

97

أسباب النصر(2) الأسباب المعنويّة

 الأسباب المعنوية للنّصر

 

 

 

114


98

النصر والمدد الغيبيّ

 النصر والمدد الغيبيّ
 
 
مفاهيم محورية
- شروط المدد الإلهيّ وأنواعه.
1- السكينة.
2- قذف الرعب في قلوب الكفّار والأعداء.
3- تثبيت الأقدام.
4- إنزال الملائكة.
5- الريح والمطر.

- وصية الأمير عليه السلام حول النصر.
 
 
 
 
115

99

النصر والمدد الغيبيّ

 موعظة قرآنية

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾1.
 
مقدّمة
إنّ انتصار أهل الحقّ في مواجهتهم للباطل مرهون بالإذن والتسديد والمدد الربّاني. والمدد الإلهيّ عبارة عن مساعدة وواسطة خفيّ في النصر، والتي تعتبر من العوامل الإلهية والغيبية المهمّة في تحقيق النصر للمسلمين. فالنصر الحقيقيّ, أسبابه وحصوله إنّما هو إلهيّ المنشأ أولاً وآخراً. لذلك يجب على المجاهدين أن لا يتوجّهوا بقلوبهم وتعلّقاتهم إلى غير الله تعالى. وهذه النكتة أكّد عليها القرآن الكريم في موارد مختلفة، وكان هذا التأكيد لأجل أن لا ينسى الناس أصل التوحيد، وأن يبقى راسخاً في أذهانهم مبدأ: (لا مؤثّر في الوجود إلّا الله).
 
ففي الحرب لا مؤثّر حقيقيّ غير الذات الإلهية المقدسة، أما الملائكة وغيرها من التسديدات الإلهية فلا يعملون إلا بأمر من الله عزّ وجلّ، ولا استقلال لهم في شيء لا في نصر المسلمين، ولا في أيّ أمر آخر، إذ إنّ كلّ الأمور حقيقة هي بيد الله تعالى، وتسير بأمره تبارك وتعالى.



1 سورة محمد، الآية 7.
 
 
 
 
117

100

النصر والمدد الغيبيّ

 شروط المدد الإلهيّ وأنواعه

وهذه الإمدادات الغيبية والتسديدات الإلهية للمجاهدين أثناء جهادهم ضدّ الأعداء مشروطة بشرطين كليين:
أوّلاً: العمل على الاستفادة من كل قدراتهم المتاحة بين أيديهم في ساحة العمل.
ثانياً: انتظار المدد الغيبيّ الإلهيّ والمساعدة الربّانية، في حال لم تفِ تلك القدرات والطاقات الظاهرية في رفع حاجة المسلمين ومشكلتهم، لأنه في تلك الحالة سوف يضع الله تعالى تلك الطرق والأساليب الغيبية في خدمة المجاهدين, وذلك حسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية والحاجة الفعلية.
 
وهذه النتيجة قد أيّدها القرآن الكريم حيث تحدّث بعض الآيات الشريفة، عن أنّ الإمدادات الغيبية الإلهية ليست مطلقةً بل لها شروطُها وظروفها، ويمكن أن نصنّف المدد الإلهيّ إلى نوعين, معنويّ وماديّ. وفي هذا المقام يُطرح سؤال عن ماهية هذه الإمدادات والتسديدات الإلهية، وطرق تحققها. وللإجابة عن هذا السؤال, سنقوم بالتحقيق في الآيات الواردة في القرآن الكريم حول هذا الموضوع. يمكننا تقسيم الإمدادات الغيبية والتسديدات الإلهية إلى عدّة أنواع:
السكينة
السكينة من صفات النفس الإنسانيّة التي وردت الإشارة إليها مرّاتٍ عدّة في القرآن الكريم، في بعض الأحيان بطريقةٍ مباشرة، وفي بعض الأحيان من خلال الإشارة إلى النعاس الذي يصيب المؤمنين في ساحة الحرب ويجعلهم كأنّهم في فراشهم وتحت سقوف بيوتهم. وتكتمل الصورة عندما تقترن السكينة في قلوب المؤمنين بالخوف الذي يقذفه الله في قلوب جنود العدوّ.
 
- قال الله تعالى: ﴿وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ 
 
 
 
 
118

101

النصر والمدد الغيبيّ

 لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾1. تحدّثنا هاتان الآيتان عن النصر الذي منّ الله به على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ تذكر أمرًا يظهر أنّه بمثابة السبب الذي يؤدّي إلى مضاعفة الإيمان وزيادته وهو السكينة التي نزلت على قلوب المؤمنين فزادت إيمانهم، وسمحت لهم ولقائدهم بالنصر وليس أي نصر بل ذلك النصر الذي يصفه الله بأنّه عزيز، أبهر الأعداء وجعلهم ييأسون من التفكير في طلب ثاراتهم القديمة التي هي الذنوب التي تقدّمت وتأخّرت كما يرى عددٌ من المفسّرين.

 
قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾2. محور هذه الآية الحديث عن المسلمين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية قبل فتح مكّة بقليل من الزمان، ودلالة الآية واضحة على أنّ هذه السكينة التي غمرت قلوب المسلمين المبايعين هي التي ولّدت النصر وجعلته ثوابًا قريبًا لأهل السكينة والاطمئنان إلى خيارات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
قذف الرعب في قلوب الكفّار والأعداء
واحدة من طرق الإمداد الباطنيّ والروحيّ التي ينصر الله تعالى بها أهل الحقّ ويهزم بها أهل الباطل هي: إلقاء الرعب وإيجاد الخوف في قلوب الكفّار والمشركين، بمعنى أن يُسيطر الرعب والخوف على نفوس الكفّار في ميدان المعركة، ما يصيبهم بالاضطراب والقلق بحيث يفقدون القدرة على البقاء في الميدان. وهذا الانهزام النفسيّ يؤدّي إلى عدم الثبات في مواجهة المسلمين, فيُفضّلون الفرار والانهزام على الالتحام مع أهل الحقّ.
 
لقد ذُكر هذا العامل المهمّ والمدد الروحيّ في أربعة موارد من القرآن الكريم بشكلٍ مؤكّدٍ وقاطع.



1 سورة الفتح، الآيتان 3 و 4.
2 سورة الفتح، الآية 18.
 
 
 
 
119

102

النصر والمدد الغيبيّ

 ففي موردين يَعِد الله المسلمين بأنّه سوف يُرعِب قلوب أعدائهم أثناء المعركة لسلب الشجاعة والجرأة منهم على قتال وحرب المسلمين.

 
وفي موردين آخرين تتحدَّث الآيات الشّريفة عن إرعاب وتخويفٍ مُسبَق للأعداء ليكون ذلك عاملاً مساعداً لغلبة المسلمين. ونكتفي هنا بالمرور على الآيات القرآنية مروراً سريعاً:
يقول الله تعالى ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾1.
 
وفي آية أخرى يُبيّن الله تعالى عامل انتصار المسلمين بهذه الصورة، حيث يقول تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾2.
 
التصرّف بالنفوس
هناك طريقٌ آخر من طرق الإمداد الغيبيّ الباطنيّ, وهو عبارة عن التصرّف الإلهيّ في نفوس المؤمنين, فيجعل أعداد الكفار في نظرهم قلّة، وقدراتهم ضعيفة حتّى لا يخاف المؤمنون من مظاهر القوّة والقدرة عند العدوّ فيهابوا ويتراجعوا.
 
ومن جهة أخرى, يتصرف الله في نفوس الكافرين فيجعلهم ينظرون باستخفاف إلى معسكر المسلمين ويعدّون جيش الإسلام قلّة وضعفاء، وهذا الاستخفاف يؤثّر في خطط الأعداء الحربية، من عدم نقل السلاح والتجهيزات الكاملة إلى ساحة المعركة وعدم إحضار كلّ الجيش إلى ميدان الحرب، وهذا ما يُوقعهم في سوء تقديرٍ لعدد الجيش الإسلامي وقدراته الحقيقية ممّا يجرُّهم في النهاية إلى الخسارة والهزيمة.



1 سورة آل عمران، الآية 151.
2 سورة الأنفال، الآية 12.
 
 
 
120

103

النصر والمدد الغيبيّ

 وحول هذا الموضوع يقول الله تعالى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ﴾[1].

 
تثبيت الأقدام
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾[2].
 
هذه الآية الكريمة تحثّ المؤمنين على جهاد أعداء الحقّ، وترغّبهم في ذلك. وليس التأكيد على مسألة "الإيمان" في الآية إلّا إشارة إلى أنّ إحدى علامات الإيمان الحقيقيّ هي جهاد أعداء الحقّ والدين. فعلى المؤمنين أن ينصروا دين الله، وهذا تكليف وواجب ملقى على أعتاقهم. ومع أنّ قدرة اللّه سبحانه غير محدودة، ولا قيمة لقدرة المخلوقات حيال قدرته، غير أنّه يعبّر بنصرة اللّه ليوضح أهميّة الجهاد والدفاع عن دين اللّه. وهو تعالى يعدهم في حال أدّوا تكليفهم فإنه سيكون معهم يؤيّدهم ويسدّدهم وينصرهم، بأن يلقي في قلوبهم نور الإيمان، وفي أرواحهم التقوى، وفي إرادتهم القوّة والتصميم أكثر، وفي أفكارهم الهدوء والاطمئنان. ويرسل الملائكة لمدّهم ونصرتهم، ويغيّر مسار الحوادث لصالحهم، ويجعل أفئدة الناس تهوي إليهم، ويجعل كلماتهم نافذة في القلوب، ويصيّر نشاطاتهم وجهودهم مثمرة وذات فائدة الخ. ولكن من بين كلّ أشكال النصرة يؤكّد تعالى على مسألة تثبيت الأقدام، وذلك لأنّ الثبات أمام العدو يعتبر أهمّ رمز للانتصار، وإنّما يكسب الحرب الذين يصمدون ويستقيمون أكثر. لذا كان دعاء طالوت ومن بقي معه من المؤمنين على قلّتهم عند ملاقاتهم لجيش جالوت القويّ والكبير: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ 



1 سورة الأنفال، الآيتان 43 و 44.
2 سورة محمد، الآية 7.
 
 
 
 
121

104

النصر والمدد الغيبيّ

 عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾1. فأيّدهم الله بالنصر المؤزّر على العدوّ لثبات أقدامهم عند المواجهة.

 
إنزال الملائكة
في معركة الحقّ والباطل يسقط بعض الحدود بين عالم الطبيعة وعالم ما فوقها، وإذا سخّر الإنسان الطبيعيّ نفسه في خدمة الأهداف الإلهيّة العليا، والقيم السامية النبيلة، سخّر الله له مخلوقات ما فوق الطبيعة وجعلها تدافع عنه وتؤيّده. وقد حدّثنا القرآن مرّات عدّة عن تأييد الله المؤمنين في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالملائكة، ومن ذلك هذه الآيات: ﴿بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾2.
 
﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾3.
 
ويقول عزّ وجلّ في آية أخرى في السياق نفسه: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ﴾4. نعم ربّما يكون مستهجنًا الحديث عن الغيب والغيبيّات في عالم العسكر وفي عصر تحوّلت فيها المادّة إلى إله يعبد من دون الله، هذا ولكنّ الفكر الذي يستند إلى الوحي ويجعل منه الركن الأساس إلى جانب العقل أو قبله أو بعده ولكنّه لا يركن إلى الإيمان دون عقلٍ ولا إلى العقل دون إيمان، لا يمكنه أن يستبعد مثل هذه الأمور لا في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا في غير عصره، فالوحي دلّ على مثل هذا التأييد ولم ينفِ حصوله في سائر العصور إذا صدقت النوايا وتشابهت الظروف. والعقل أقصى ما يمكنه فعله هو السكوت وقول لا طاقة لي به، فليس ثمّة دليلٌ عقليٌّ يحكم باستحالة مثل



1 سورة البقرة، الآية 250.
2 سورة آل عمران، الآية 125.
3 سورة الأنفال، الآية 9.
4 سورة الأنفال، الآية 12.
 
 
 
122

105

النصر والمدد الغيبيّ

 هذا التأييد الغيبيّ، إن لم نقل إنّ العقل قد يحكم بضرورة مثل هذا الأمر في بعض الظروف الخاصّة من باب اللطف الذي هو مفهوم كلاميٌّ تقتضيه صفات الله تعالى وحكمته وعدله.

 
الريح والمطر
إذا أراد الله أمرًا سخّر له كلّ ما خلق من مظاهر الطبيعة وما وراءها. وممّا سخّره الله تعالى في خدمة معسكر المؤمنين الرياح والمطر. وقد أشرنا من قبل إلى المطر الذي كان له دور في تثبيت إيمان المسلمين في معركة وقيل في دور المطر إنّه كان لرفع وسوسة الشيطان وتشكيك المسلمين في دينهم وأنّهم يصلّون وهم على جنابة والماء تحت يد المشركين. وقيل إنّ مخيّم المسلمين كان في أرض ذات رمل لا تثبت فيها الأقدام فأنزل الله المطر لترطيب هذه الأرض وتثبيت مواقع أقدامهم. وأيًّا يكن فإنّ الآية المشار إليها تدلّ على تسخير الله تعالى المطر وهو مظهر من مظاهر خلق الله في الطبيعة في خدمة الأهداف والغايات الحربيّة للمسلمين.
 
وأما الريح فهي من جنود الله التي يسخّرها في خدمة كثيرٍ من أغراض، فهي وسيلة العذاب على بعض الأقوام السابقة، وهي من الجنود التي تشارك جنوده المؤمنين في مواجهة أعدائه، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا﴾1.
 
ومن العوامل الطبيعية للمدد الإلهيّ والتي أشير إليها في القرآن الكريم المطر، ففي إحدى الآيات الشريفة تحدث القرآن حول هذا الموضوع قائلاً: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ﴾2.



1 سورة الأحزاب، الآية 9.
2 سورة الأنفال، الآية 11.
 
 
 
123

106

النصر والمدد الغيبيّ

 إنّ هذه الآية تشير إلى أحداث معركة بدر، ففي الليلة التي سبقت المعركة أنزل الله مطر رحمته ما جعل الأرض تحت أقدام جيش الإسلام سهلة رطبة فسهّلت لهم طريقة الحركة والتنقل في الأرض وإجراء المناورات اللازمة في الميدان، إضافة إلى التخلّص من آثار الغبار والتراب التي تعيق الحركة أثناء القتال وتعمي الأعين وتضرّ بالرؤية البصرية.

 
أما في معسكر الكافرين فقد كان المطر شديداً، ما جعل الأرض تحت أقدامهم موحلة غير مستقرة، فأعاق حركتهم ومناورتهم العسكرية، وكان ذلك عاملاً في هزيمتهم.
 
إن هذا المطر كان للمسلمين نوع إمداد غيبيّ ورحمة إلهية، ليصبح المجاهدون أكثر فعالية ونشاطاً وأشدّ حماسة وثباتاً، وكان سبب رحمةٍ خاصة لهم من جهة تحصيل الطهارة والنظافة الظاهرية والروحية وتأمين مياه الشرب وغير ذلك من النعم، وكل ذلك بفضل هذا المدد الإلهيّ.
 
وصية الأمير عليه السلام حول النصر
من حسن الختام نقل كلامِ مَن كلامُه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق أمير المؤمنين عليه السلام، في وصيّة لابنه محمد ابن الحنفيّة عندما أعطاه الراية في إحدى معاركه فأوصاه بمجموعة وصايا جلّها مقتبس من الآيات المشار إليها أعلاه: "تَزُولُ الْجِبالُ وَلا تَزُلْ! عَضَّ عَلَى ناجِذِكَ، أَعِرِ اللهَ جُمْجُمَتَكَ، تِدْ فِي الاْرْضِ قَدَمَكَ، ارْمِ بِبَصَرِك أَقْصَى الْقَوْمِ، وَغُضَّ بَصَرَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللهِ سُبْحانَهُ"1.



1 نهج البلاغة، قسم الخطب، الخطبة 11،
 
 
 
 
124

107

النصر والمدد الغيبيّ

 وقفّة تأمّلية

كما أنّ النصرة الإلهية لكم أنتم الذين تجاهدون وتناضلون لا تختصّ بالآخرة. في هذه الآية... تقول الملائكة: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾1، إذن، ليست المسألة في الآخرة فقط، بل في الدنيا أيضاً تعمل ملائكة الله وقواه المعنويّة على مدّ يد العون للذين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾2.
 
ونحن نُشاهد عونهم في الدنيا بأعيننا. ملائكة الله أعانونا نحن أيضاً في ثمانية أعوام من الدفاع المقدّس. وقد شاهدنا هذا العون بأعيننا. قد لا يُصدّق ذلك الإنسان الغارق في المادّيّات، دعه لا يُصدّق. نحن شاهدنا هذا العون. واليوم أيضاً تُساعدنا ملائكة الله، ونحن واقفون وصامدون بفضل العون الإلهيّ. قوّتنا العسكرية لا تقبل المقارنة بأمريكا. وقدراتنا الاقتصادية وإمكاناتنا المالية والإعلامية وامتداد نشاطنا السياسيّ لا يقبل المقارنة بأمريكا. ومع ذلك فنحن أقوى من أمريكا، مع أنّها أكثر مالاً وسلاحاً وأقوى إعلاماً وإمكانيّاتها المالية والسياسية أكثر، لكنّها أضعف ونحن أقوى. والدليل على قوّتنا هو أنّ أمريكا تراجعت خطوة خطوة في كلّ الميادين التي حصلت فيها مواجهة بيننا وبينها. نحن لا نتراجع بل نتقدّم إلى الأمام. هذا هو الدليل والمؤشّر، وهو ببركة الإسلام وبفضل العون الإلهيّ ومساعدة ملائكة الله.
الإمام الخامنئي دام ظله: كلمته في ملتقى غزة/ طهران/ 27/2/2010م



1 سورة فصلت، الآية 31.
2 سورة فصلت، الآية 30.
 
 
 
 
125

108

النصر والمدد الغيبيّ

 النصر والمدد الغيبي

 

 

 

126


109

موانع النصر

 موانع النصر



مفاهيم محورية
- التنازع والفرقة.
- المعصية ومخالفة الأوامر.
- تولّي غير الله.
- انقلاب القيم.
- تسريب الأسرار.
- إلقاء السلاح وترك الحذر.
 
 
 
 
127

110

موانع النصر

 موعظة قرآنية

﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾[1].
 
مقدّمة
لا تؤثّر العلّة أثرها، ولا ينتج السبب مسبّبه إلّا إذا ارتفعت الموانع. فالبناء لا يعلو بجهد البنّاء وحده بل بكفّ الهادمين عن التخريب والهدم. والدواء لا يشفي إذا لم يقترن بالحمية في الأمراض التي تحتاج إلى حمية. وعلى هذا المنوال تجري أمور كالنصر. فالنصر له أسبابه المتقدّمة المشار إليها آنفًا, ولكن له أيضًا موانعه التي تبطل فاعليّة تلك الأسباب وتحول دون تأثيرها. وسوف نسير في بحثنا عن الموانع سيرتنا في البحث عن الأسباب أي سنحاول الاهتداء بهدي القرآن الكريم لنكتشف موانع النصر ومبطلات تلك الأسباب. ويمكن بكلمة عامّة أن نقول إنّ ضدّ الأسباب المتقدّمة يصبّ في الجهة المعاكسة للهدف الذي يدفع ذلك السبب نحوه. وكي لا نكرّر ما تقدّم نترك ملاحظة هذا الأمر إلى فطنة القارئ الكريم، ونيمّم شطر القرآن الكريم لنكتشف أسباب الهزيمة التي ورد النصّ فيها بشكلٍ مباشر.



1 سورة الحج، الآيتان 40 و41.
 
 
 
129

111

موانع النصر

 التنازع والفرقة

الانسجام بين المجاهدين ووحدة هدفهم من الأمور المساعدة على النصر، والتفرقة وتوجّه بوصلة قلوب المقاتلين إلى جهات شتّى خطوة أولى نحو الهزيمة. وقد ذكر الله تعالى ذلك في أكثر من آية من كتابه عزّ وجلّ:
- قال الله تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾1. والتنازع هو الاختلاف الذي يدبّ بين المجاهدين في سبيل الله لأسباب منها التنافس على المغانم أو المناصب. والملفت أنّ الآية تشير بوجهٍ خفيٍّ إلى أنّ التنازع لا يحصل عادةً في أوقات الشدّة والضعف وإنما يحصل في حالة القوّة والرخاء. ويستفاد هذا المعنى من تعليل النهي عن التنازع بالفشل وذهاب الريح أي القوّة. ويبدو بحسب بعض المفسّرين أنّ هذه الآية نزلت بعد معركة بدرٍ التي غيّرت صورة المسلمين عند أنفسهم وعند العدوّ.
 
المعصية ومخالفة الأوامر
وفي الآية المذكورة أعلاه أمر بطاعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قبل النهي عن التنازع المسبّب للفشل. وقد اهتدت البشريّة إلى مثل هذا الأمر بتجربتها أو ربّما بهدي الله عبر رسله السابقين. ومن هنا اشتهرت القاعدة العسكريّة المعروفة التي تقول للعسكر: "نفّذ ثمّ اعترض". وقد جرّب المسلمون في تاريخهم المعاصر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل هذا الأمر وذاقوا وبال مخالفتهم لأوامر قائدهم وتجرّعوا مرارة الهزيمة ولو إلى حين، وذلك عندما ترك الرماة في معركة أحد مواقعهم وانصرفوا إلى أمور أخرى كالسعي وراء نيل المغنم فكان ما كان ممّا سطّرته كتب السيرة.



1 سورة الأنفال، الآية 46.
 
 
 
 
130

112

موانع النصر

 تولّي غير الله

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾1. تتحدّث هذه الآية عن مجموعة من المسلمين كانت تربطهم ببعض المنافقين علاقات صداقة ومودّة وكانوا يتّخذونهم بطانة أي أصحابًا مقرّبين رغبة في بعض المطامع. فلفت الله عزّ وجلّ نظرهم ونهاهم عن مثل هذا الأمر لأنّ المنافق لا يترك فرصة للوثوب على المؤمنين إلا واستغلّها لإفساد حالهم.
 
قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾2. يناله إلا الخذلان في وقت هو أحوج ما يكون إلى ناصرٍ ومعين، وفي مثل هذه اللحظات يتخلّى عنه جاره ووليّه ويعلن براءته منه بطريقة ساخرة مدّعيًا أنه يخاف الله ربّ العالمين. وما يصدق على الشيطان وتولّيه يصدق على أتباع الشيطان وحزبه.
 
انقلاب القيم
تُبتلى بعض الجماعات البشريّة المخلصة في بعض حالات النصر بانقلاب في المفاهيم والقيم، وتنقلب من جماعات مظلومة إلى جماعات ظالمة، ومن جماعات زاهدة إلى مترفة... وفي مثل هذه الحالات فإنّ أوّل ما تخسره هذه الجماعة التي تُصاب بانقلاب القيم هو فقدانها النصر الذي حصلت عليه نتيجة صلتها بالله. ومن المعلوم أن ليس بين الله وبين أحد قرابة"، فمن أعطى النصر



1 سورة آل عمران، الآية 118.
2 سورة الأنفال، الآية 48.
 
 
 
 
131

113

موانع النصر

 لمن يستحقّه يسلبه عمّن لا يستحقّه. يقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾1. الآية الأولى من هاتين الآيتين فيها وعدٌ بالنصر لمن يخلص النيّة ويشمّر عن ساعد الجدّ في سبيل الله وفي خدمة أهدافه. والقيد الذي يذكره الله عزّ وجلّ في الآية اللاحقة هو قيد عدم الانقلاب والتحوّل إلى جهة أخرى فإنّ الأمّة التي تستحقّ النصر هي الأمّة التي تبقى ثابتةً على الأهداف التي نهضت من أجل تحقيقها. وأمّا الأمّة التي تنقلب على عقبيها فلا تستحقّ دوام اللطف واستمرار الرعاية: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾2.

 
تسريب الأسرار
الحرب خدعة وأسرار. وتسريب الأسرار العسكرية وكشف الخطط تؤدّيان إلى ارتفاع النصر حتى لو يخيّم فوق رأس الجيش المقاتل كائنًا من كان هذا الجيش وتحت أيّ رايةٍ كان يُقاتل، ما لم تُتّخذ التدابير المعاكسة التي تعيد الأمور إلى نصابها. وقد وردت في القرآن توصيات في هذا الشأن منها:
- قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾3. تنهى هذه الآية عن بثّ الشائعات بين المجاهدين إذا كانت تترك آثارًا سلبيّة على روحيتهم سواء كانت تأمينًا لهم حيث لا ينبغي لهم الأمن وترك الحذر، أو كانت تخويفًا حيث ينبغي لهم أن



1 سورة الحج، الآيتان 40 و 41.
2 سورة الأنعام، الآية 6.
3 سورة النساء، الآية 83.
 
 
 
 
132

114

موانع النصر

 يتّصفوا بالسكينة والاطمئنان ليثبتوا في وجه العدوّ. ويوصي القرآن الكريم في مثل هذه الحالات فيما لو وصل خبرٌ مّا إلى أذن أحد المسلمين أن ينقله إلى أهل الخبرة وقادة المعركة ليحسنوا التصرّف معه وتفسيره على النحو المطلوب.

 
إلقاء السلاح وترك الحذر
حالة الحرب هي حالة الحذر الدائم من غدر العدوّ في أيّ لحظة خاصّة مع عدوٍّ لا يلتزم بالمعايير الأخلاقيّة للقتال. وبالتالي لا ينبغي للمسلمين في أيّ معركة أن يقيسوا العدوّ على أنفسهم، ولا أخلاقه على أخلاقهم. ومن هنا كانت التوصية القرآنية الملفتة للمسلمين بأن لا يلقوا أسلحتهم حتّى في حالة الصلاة، وأن لا ينصرفوا إلى الصلاة والاشتغال بها جميعًا ما يعطي للعدوّ فرصة للنيل منهم: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾1. تفيد هذه الآية بتشريعها الصلاة بطريقة خاصّة تسمح للمسلمين بالتناوب في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لا ينبغي للمسلم أن يترك الحذر وأن ينشغل عن عدوّه حتّى بالصلاة وتدعوه كما في الآية اللاحقة إلى تأجيل إقامة الصلاة وأدائها على النحو المتعارف إلى وقتٍ تحصل له الطمأنينة. فإذا كانت الصلاة التي هي شعار المسلمين وعبادتهم الأثيرة تتأخّر أهميّة أدائها على النحو الأكمل لمصلحة أهمّ هي مصلحة مواجهة العدوّ فما بالك بغيرها من المكاسب والمصالح التي ربّما يفكّر المجاهدون في تحصيلها أو حفظها في ساحة القتال؟



1 سورة النساء، الآية 102.
 
 
 
133

115

موانع النصر

 وقفّة تأمّلية

عن مالك بن أعين قال: حرّض أمير المؤمنين عليه السلام الناس بصفّين فقال: "إنّ الله عزّ وجلّ قد دلّكم على تجارة تُنجيكم من عذاب أليم، وتشفى1 بكم على الخير الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله، وجعل ثوابه مغفرة للذنب، ومساكن طيبة في جنّات عدن، وقال جلّ وعزّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾2 فسوّوا صفوفكم كالبنيان المرصوص فقدّموا الدارع3، وأخّروا الحاسر4، وعضّوا على النواجد5، فإنّه أنبى6 للسيوف عن الهام7، والتووا على أطراف الرماح، فإنّه أمور8 للأسنة، وغضّوا الأبصار فإنّه أربط للجأش، وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات فإنّه أطرد للفشل، وأولى بالوقار، ولا تميلوا براياتكم ولا تزيلوها ولا تجعلوها إلا مع شجعانكم فإنّ المانع للذمار9 والصابر عند نزول الحقائق هم أهل الحفاظ، ولا تُمثّلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً، ولا تدخلوا داراً، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تُهيّجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم فإنّهن ناقصات القوى والأنفس والعقول، وقد كنّا نؤمر بالكفّ عنهنّ وهنّ مشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة فيعير بها وعقبه من بعده، واعلموا أنّ أهل الحفاظ هم الذين يحتفون براياتهم ويكتنفونها، ويصيرون حفافيها 



1 أشفى على الشيء: أشرف.
2 سورة الصف، الآية 4.
3 الدارع: لابس الدرع.
4 الحاسر: الذي لا مغفر له ولا درع.
5 النواجد: أقصى الأسنان والضواحك منها.
6 أنبى: أي أبعد وأشدّ دفعاً.
7 الهام: الرأس.
8 أمور: يمور السنان أي يتحرّك عن موضعه.
9 الذِمار: ما يلزم حفظه ورعايته.
 
 
 
 
134

116

موانع النصر

 وورائها وأمامها، ولا يضيّعونها لا يتأخّرون عنها فيسلموها، ولا يتقدّمون عليها فيفردوها، رحم الله امرءاً واسى أخاه بنفسه ولم يكل قرنه إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه فيكتسب بذلك اللائمة، ويأتي بدناءة وكيف لا يكون كذلك وهو يقاتل الاثنين، وهذا ممسك يده قد خلى قرنه على أخيه هارباً منه ينظر إليه وهذا فمن يفعله يمقته الله، فلا تتعرّضوا لمقت الله فإنّ ممرّكم إلى الله، وقد قال الله عزّ وجلّ: ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾1، وأيم الله لئن فررتم من سيوف العاجلة لا تسلمون من سيف الآجلة، فاستعينوا بالصبر والصدق، فإنّما ينزل النصر بعد الصبر فجاهدوا في الله حقّ جهاده، ولا قوّة إلا بالله".

وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج15، ص95.



1 سورة الأحزاب، الآية 16.
 
 
 
135

117

موانع النصر

 موانع النصر

 

 

 

136


118

السنن المرتبطة بالنصر(1) - سنّة التداول

 السنن المرتبطة بالنصر(1) - سنّة التداول

 
 
مفاهيم محورية
- النصر المشروط بالمبادرة.
- سنّة التداول.
- التداول في اللغة.
- التداول في القرآن الكريم.
- تحليل آية ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ والعبر المستفادة منها.
- شروط التداول وقيوده.
 
 
 
137

119

السنن المرتبطة بالنصر(1) - سنّة التداول

 موعظة قرآنية

﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾1.
 
مقدّمة
النصر كما تقدّم نعمة إلهيّة محكومة بمجموعة من الشروط. وهو سنّة وقانون إلهيّ. والحالة المعاكسة للنصر وهي الهزيمة تخضع أيضًا لقوانين تنطبق على من لا يوفِّرون شروط النصر ولا يؤمّنون مقدّماته الضروريّة واللازمة. وإذا لم يتحقّق النصر فلا بدّ أن يتحقّق شيء آخر محلّه وهذا الشيء الآخر بدوره لا يحصل بالصدفة ودون قوانين تحكمه. ففي الكون الذي خلقه الله تعالى لا شيء يحصل صدفة: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾2. ويقول عزّ وجلّ: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾3, إذًا لا محلّ للفوضى والخلل في نظام الوجود الصادر عن الحكيم القادر والمقدّر.



1 سورة آل عمران، الآية 140.
2 سورة الحجر، الآية 21.
3 سورة الفرقان، الآية 2.
 
 
 
 
139

120

السنن المرتبطة بالنصر(1) - سنّة التداول

 النصر مشروط بالمبادرة

وبناء على هذا يضحي من الطبيعيّ أن نطرح السؤال الآتي: إذا لم يستفد الإنسان من سنّة النصر ولم يحقّق الشروط الواجب تحقّقها لنيله النصر وانطباق قوانينه عليه، فما هي السنّة أو السنن الأخرى التي تطلّ برأسها وتنطبق على الإنسان فتخضعه لها؟ وبعبارة أخرى: إحدى الصياغات القانونيّة التي عبّر بها عن النصر هي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾1. وهذه الجملة التي أخبرنا الله بمقتضاها عن النصر تدلّ على أنّ النصر مشروط بالمبادرة وبالنهوض بأعباء المسؤوليّة، فإذا لم يتوفّر الشرط، تصدق القاعدة التي يذكرها علماء الأصول عندما يقولون: "المشروط عدمٌ عند عدم شرطه". ومن هنا ينفتح باب البحث عن السنن والقوانين الأخرى التي تنطبق على الإنسان، ومن هذه السنن سنّتا: التداول، والاستبدال. وهذا ما سوف نبدأ بالحديث عنه فيما يأتي.
 
سنّة التداول
يمكن إثبات وجود مثل هذه السنّة من آيات عدّة من القرآن الكريم. سوف نعرض لها لاحقًا ولكن نبدأ أوّلًا بالحديث عن معنى التداول في اللغة وفي المصطلح القرآنيّ العامّ، ثمّ ندلف إلى البحث عن المعنى الذي تفيده الآية التي تقّرر سنّة التداول.
 
التداول في اللغة
المادّة الأصلية لهذه الكلمة هي الحروف الثلاثة الآتية: الدال والواو واللام. ومنها اشتُقّ عدد من الكلمات تحوي جميعًا هذا المعنى مع زيادات تتفاوت باختلاف الاشتقاق. تداول القومُ الشيءَ تداولًا هو حصوله في يد هذا تارةً وفي يد هذا أخرى... ودالت الأيّام تدول، مثل دارت تدور، وزنًا ومعنًى2. ويقول صاحب مقاييس 



1 سورة محمد، الآية 7.
2 الفيومي، المصباح المنير، مادّة: "دول".
 
 
 
 
140

121

السنن المرتبطة بالنصر(1) - سنّة التداول

 اللغة: دول أصلان، أحدهما يدلّ على تحوّل شيء من مكان إلى آخر، والآخر يدلّ على ضعفٍ واسترخاء. فأمّا الأول فقال أهل اللغة: اندال القوم إذا تحوّلوا من مكان إلى مكان. ومن هذا الباب تداول القوم الشيء بينهم: إذا صار من بعضهم إلى بعض. والدَّولة والدُّولة لغتنان، وإنّما سُمّيا بذلك من قياس الباب, لأنّه أمرٌ يتداولونه فيتحوّل من هذا إلى ذاك ومن ذاك إلى هذا"1. ويقول صاحب المصطفوي: الأصل الواحد في هذه المادّة هو الانتقال مع حصول تحوّل في الحالة والكيفيّة، وهذا الأصل له مصاديق: فمنها انتقال مال من مورد إلى آخر، مع تغيّر فيه من جهة وأقلّه تبدّل مالكه. ومنها انتقال جند من مكان إلى مكان آخر للخصم مع تحوّل من جهة الغالبيّة والمغلوبيّة... ومنها انتقال النبت من مقام النضارة إلى مقام اليبس والجفاف..."2.

 
وبناء على هذا المعنى اللغويّ يمكن تفسير التداول في الساحة الاجتماعيّة، بانتقال الغلبة والتفوّق من جماعة إنسانيّة إلى جماعة أخرى وفق شروط وضوابط يمكن البحث عنها من زوايا عدّة، ووفق منهجيّات علميّة متنوّعة. وما يعنينا فعلًا هو البحث عنها من وجهة نظرٍ دينيّة قرآنيّة وحديثيّة.
 
التداول في القرآن الكريم
في القرآن الكريم آيات عدّة تفيد هذا المعنى بعضها أوضح من بعض وفيما يأتي أهمّ الآيات التي تفيد هذا المعنى:
- قال الله تعالى: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾3.
 
- قال الله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن 



1 مقاييس اللغة، مادّة: "دول".
2 التحقيق في كلمات القرآن، ج 3، ص 302-303.
3 سورة آل عمران، الآية 140.
 
 
 
141

122

السنن المرتبطة بالنصر(1) - سنّة التداول

 تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾1.

 
قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾2.
 
قال الله تعالى: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾3. وغيرها من الآيات التي تتحدّث عن توريث الله الأرض ونقلها من أشخاص إلى آخرين ومن جماعة بشريّة إلى جماعة أخرى. ولنكتفِ بهذا المقدار من الآيات، على أن نتّخذ من الآية الأولى مثالًا نموذجيًّا لتحليله واستفادة الدروس والعبر المحيطة بسنّة التداول منها.
 
تحليل آية ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ والعبر المستفادة منها
تشتمل الآية الكريمة على مجموعة من الدروس والعبر المستفادة يمكن استعراض أهمّها فيما يأتي:
إنّ الله لا يضمن بقاء الأحوال على ما هي عليه لأحدٍ من الناس فالدنيا دار عمل وتضحية وليست دار نعيم مقيم، فالنعيم الدائم والخلود موطنه الآخرة فقط. أمّا الدنيا فهي دار عملٍ وعناءٍ. وبالتالي يتساوى المؤمنون وغيرهم في الخضوع للقوانين التي تحكم حركة المجتمعات الإنسانيّة.
 
- النصر والهزيمة ليس أيٌّ منهما قدرًا لازمًا، فإذا انتصر المسلمون عليهم أن لا يغترّوا بهذا النصر ولا يغفلوا عن قدرة الله على إدالة السلطة منهم إلى



1 سورة آل عمران، الآية 26.
2 سورة الحجّ، الآية 40.
3 سورة الأعراف، الآية 128.
 
 
 
 
142

123

السنن المرتبطة بالنصر(1) - سنّة التداول

 غيرهم. وإذا انهزموا فعليهم أن يسمحوا لليأس بأن يعشّش في قلوبهم فالله قادرٌ على تحويل موازين القوى مرّةً أخرى. وخاصّةً أنّ سنّة التداول تقضي في نهاية المطاف بأن يؤول الأمر إلى انتصار الحقّ على الباطل وإن ربح الباطل جولة من الجولات: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾1. ومن هنا يلفت الله تعالى نظر الناس إلى أنّ الأمر وصل إليهم بعد أن أفلت شمس أممٍ سبقتهم: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾2.

 
يعطي قانون التداول للمسلمين وللحركات الاجتماعيّة التي تنشط في أوساطهم الحق بإعادة النظر في الأدعياء الذين يسقطون في منتصف الطريق عند أوّل امتحان وهو التمحيص الذي تشير إليه الآية. وفي هذا السياق يقع الكلام المنسوب إلى الإمام الحسين عليه السلام حيث يقول: "إنَّ النّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيا وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلى ألسِنَتهم، يَحُوطُونَهُ ما دَرَّت مَعائِشُهُم، فَإذا مُحِّصُوا بِالبَلاءِ قَلَّ الدَّيّانُونَ"3.
 
شروط التداول وقيوده
يذكر القرآن الكريم مجموعة من الشروط لتحقّق سنّة التداول وإصابتها من تصيبه سلبًا وإيجابًا. وأهمّ هذه الشروط:
الظلم والطغيان، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾4. وذلك 



1 سورة القصص، الآية 5.
2 سورة يونس، الآية 14.
3 ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول، الطبعة الثانية، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1404هـ.ق.، ص 245.
4 سورة يونس، الآيتان 13و 14.
 
 
 
143

124

السنن المرتبطة بالنصر(1) - سنّة التداول

 أنّ هذه الآ أنّ هذه الآية الأرض تعاقبت عليها أجيال وأمم، والإهلاك الذي حاق ببعض الأمم ليس بالضرورة أن يكون إهلاك إبادة ماديّة، بمعنى أن يموت أفراد الأمّة كلّهم بعذاب ينزله الله عليهم, بل هو أعمّ من ذلك فقد يكون إهلاكًا للأمّة بمعنى تبديد الوحدة الاجتماعيّة التي تربط بين أفرادها. وقد تقدّمت الإشارة إلى هذا الأمر سابقًا.

 
والمعصية والتمرّد على إرادة الله وشريعته كما يفيد قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾1. تحدّثنا هذه الآية عن تمكين إحدى الجماعات البشريّة وتوفير الله عزّ وجلّ لها كلّ مقومّات البقاء, ولكن لمّا تمرّدت على إرادة الله التشريعيّة وأدارت الظهر للقيم الدينيّة طحنتها سنّة التداول وأنشأ الله قومًا آخرين محلّها.



1 سورة الأنعام، الآية 6.
 
 
 
144

125

السنن المرتبطة بالنصر(1) - سنّة التداول

 وقفّة تأمّلية

 
﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾
﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾1 أي: نصرفها مرّة لفرقة، ومرّة عليها...، وإنّما يصرف الله الأيام بين المسلمين، وبين الكفّار، بتخفيف المحنة عن المسلمين أحياناً، وتشديدها عليهم أحياناً، لا بنصرة الكفّار عليهم، لأنّ الله لا ينصر الكفّار على المسلمين، لأنّ النصرة تدلّ على المحبة، والله تعالى لا يُحبّ الكافرين، وإنّما جعل الله الدنيا متقلّبة، لكيلا يطمئن المسلم إليها، ولتقلّ رغبته فيها، أو حرصه عليها، إذ تفنى لذاتها، ويظعن مقيمها، ويسعى للآخرة التي يدوم نعيمها.
 
وإنّما جعل الدولة مرّة للمؤمنين، ومرّة عليهم، ليدخل الناس في الإيمان على الوجه الذي يجب الدخول فيه كذلك، وهو قيام الحجّة، فإنّه لو كانت الدولة أبداً للمؤمنين، لكان الناس يدخلون في الإيمان على سبيل اليمن والفأل. على أنّ كل موضع حضره النبيصلى الله عليه وآله وسلم لم يخل من ظفر، إمّا في ابتداء الأمر، وإمّا في انتهائه.
تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج2، ص400.



1 سورة آل عمران، الآية 140.
 
 
 
 
145

126

السنن المرتبطة بالنصر(1) - سنّة التداول

سُنَة التداول

 

 

 

146


127

السنن المرتبطة بالنصر(2) - سنّة الاستبدال

 السنن المرتبطة بالنصر(2) - سنّة الاستبدال

 
 
 
مفاهيم محورية
- الاستبدال في اللغة والاصطلاح القرآني.
- فلسفة الاستبدال الإلهي.
- الاستبدال في القرآن الكريم.
- تفسير آية ﴿مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ﴾.
 
 
 
 
147

128

السنن المرتبطة بالنصر(2) - سنّة الاستبدال

 موعظة قرآنية

﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾1.
 
مقدّمة
سنّة الاستبدال من السنن المرتبطة بمفهوم النصر أيضًا. وقد ورد هذا المفهوم أيضًا في القرآن الكريم في سياق الحديث عن النصر والنصرة. ومن هنا فإنّ الربط بينه وبين النصر هو ربط قرآنيّ وليس ربطًا تحليليًّا شخصيًّا. ويُستحسن الحديث أوّلًا عن مفهوم الاستبدال في اللغة والاصطلاح القرآنيّ قبل الدخول في بعض الأبحاث المرتبطة بهذا القانون القرآنيّ الاجتماعيّ.
 
الاستبدال في اللغة والاصطلاح القرآنيّ
المادّة الأصلية لهذا المفهوم هي الحروف الثلاثة الآتية: الباء والدال واللام. وهي تعني في اللغة ترجيح شيء على شيء آخر. وقد ورد هذا المفهوم في أكثر من آية من آيات القرآن الكريم، ومنها ما ورد في سياق الحديث عن بني إسرائيل في 



1 سورة التوبة، الآية 39.
 
 
 
 
149

129

السنن المرتبطة بالنصر(2) - سنّة الاستبدال

 قوله تعالى: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾1. ومعنى هذه الآية كما هو واضحٌ أتتّخذون الذي هو أدنى وأقلّ قيمةً بديلًا عن الذي هو خيرٌ وأحسن قيمة. وهذا المعنى لمادّة بدل هو حاصل ما يتبنّاه أهل اللغة وعلماء التفسير، يقول المصطفوي: "أنّ الأصل في المادّة هو وقوع شيءٍ مقام غيره"2. وقد يوحي هذا التفسير بعدم الفرق بين الاستبدال والتداول, ولكن يكشف التدقيق في الكلمتين عن شيء من الفرق بينهما يتبيّن بعد البحث عن فلسفة الاستبدال.

 
فلسفة الاستبدال الإلهيّ
تستند فكرة الاستبدال إلى أنّ الإنسان خُلِق على هذه الأرض بإرادة الله سبحانه، ولمّا كان الله منزّهًا عن العبث واللغو: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾3، و﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾4. وإذا كان الأمر على هذا النحو فمن البديهيّ السؤال عن السبب وعن الحكمة التي اقتضت أن يخلق الله الإنسان على الأرض، بل أن يخلق له الأرض وغيرها من المخلوقات كما تفيده الآيات الدالّة على تسخير كثيرٍ من الأشياء للإنسان: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾5.
 
وبالرجوع إلى كتاب الله عزّ وجلّ نجد أنّه يبيّن لنا الهدف من خلق الإنسان على الأرض بعبارات عدّة لا ندّعي أنّها تدلّ على معنًى واحدٍ بالضرورة ولكنّها على أيّ حال تفيد أنّ ثمّة هدفًا يريد الله تحقيقه على يد الإنسان، فمرّة يعبّر عن هذا الهدف



1 سورة البقرة، الآية 61.
2 التحقيق في كلمات القرآن، ج 1، ص 251.
3 سورة الأنعام، الآية 73.
4 سورة الأنبياء، الآية 16.
5 سورة لقمان، الآية 20.
 
 
 
 
150

130

السنن المرتبطة بالنصر(2) - سنّة الاستبدال

 باسم الخلافة والاستخلاف، كما في قوله تعالى:

﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾1.
 
وأخرى يعبّر عنه بالعبادة كما في قوله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾2.
 
وثالثةً يعبّر عن هذا المعنى بقوله: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾3.
 
وهذه الآية وغيرها ممّا يمكن العثور عليه بمزيد من البحث تفيد أنّ لله من وراء خلق الإنسان غرضًا وغايةً. وقد أرسل الله رسله تترى إلى البشريّة ليحفظوا مسيرة الإنسانيّة على هذا الخطّ الإلهيّ وكتب على نفسه أن ينصر رسله وأن يحقّق الأهداف التي أرسلهم من أجلها، كما كتب على نفسه أن يحقّق الأهداف التي من أجلها خلق الإنسان نفسه. فإذا أبى جيلٌ من الأجيال أو قرنٌ من القرون بحسب التعبير القرآنيّ عن تحقيق الأهداف التي يريد الله تحقيقها على يديه، جرت عليه سنّة الاستبدال وأحلّ قومًا آخرين محلّ القوم الذين فشلوا في تحقيق ما يراد منهم تحقيقه. وهذا هو الاستبدال أي هو نقل راية الله من يدٍ إلى يدٍ، وقد حصل هذا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرّات عدّة في معاركه. ومن أشهر هذه المرّات إعطاؤه الراية إلى أمير المؤمنين يوم خيبر بعد فشل عدد من أصحابه في فتح الحصن.



1 سورة البقرة، الآية 30.
2 سورة الذاريات، الآية 56.
3 سورة هود، الآية 61.
 
 
 
 
151

131

السنن المرتبطة بالنصر(2) - سنّة الاستبدال

 الاستبدال في القرآن الكريم

ورد في القرآن العديد من الآيات التي تتحدّث عن الاستبدال كفعل منسوبٍ إلى الله تعالى، ومفعوله هو المسلمون في لغةٍ أشبه بالتهديد، وكأنّها دعوة إلى المسلمين أن لا يحسبوا أنّهم القناة الوحيدة لتحقيق إرادة الله تعالى، بل هم إحدى القنوات التي تمرّ من خلالها المشيئة الإلهيّة التي لا بدّ من أن تتحقّق إذا أراد الله لها أن تتحقّق، من هذه الآيات:
- قوله تعالى: ﴿هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾1.
 
- وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾2.
 
ووجه الربط بين هاتين الآيتين وبين بحث النصر واضحٌ, إذ إنّ كلتاهما وردت في سياق التحريض على نصرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وفي سياق حثّ المسلمين على الإمساك براية التوحيد بقوّة.
 
- وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾3.



1 سورة محمد، الآية 38.
2 سورة التوبة، الآية 39.
3 سورة المائدة، الآية 54.
 
 
 
152

132

السنن المرتبطة بالنصر(2) - سنّة الاستبدال

 تفسير آية ﴿مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ﴾

 
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾1.
 
تحذّر الآية الكريمة أنّ كلّ من يرتدّ عن دين الله تعالى والإيمان الصادق به وبتعاليمه وبأنبيائه ورسله، فلا يطيعه في أمره ولا يلتزم بأحكامه ولا يعمل بإرادته، بل يستغني ويتولّى معرضاً عن الدين الحنيف والملّة الحقّة، فسوف يستبدل الله به من هو أحقّ منه بهذه المكرمة, ممّن يحبّون الله ويحبّون أن يعبد في أرضه، ولا يرتدّون عن تعاليم وأحكام دينه، ولا يتخلّفون عن الجهاد والتضحية بكلّ ما يملكون في سبيله، بل يقبلون على الجهاد بصدر رحب وقلب مستبشر بلقاء الله ورضوانه، ولا يخافون من لوم الناس والمنافقين اللائمين لهم عند أدائهم لواجباتهم والدفاع عن الحقّ، لأنّهم على ثقة بالله وبأنّهم على دين الحقّ. وعليه فإنهم لن يضرّوا الله شيئاً بل المتضرّر هم المنافقون والمرتدّون لأنهم حرموا من هذا الفضل العظيم والنعمة الكبرى.
 
تتحدّث الآية الكريمة عن المرتدّين الذين تنبّأ القرآن بارتدادهم عن الدين الإسلاميّ الحنيف. وهذه الآية أتت بقانون عام يحمل إنذاراً لجميع المسلمين، فأكّدت أنّ من يرتد عن دينه فهو لن يضر اللّه بارتداده هذا أبداً، ولن يضرّ الدين ولا المجتمع الإسلاميّ أو تقدّمه السريع، لأنّ اللّه كفيل بإرسال من لديهم الاستعداد لحماية هذا الدين، حيث تقول الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ﴾ ثمّ تتطرق الآية إلى صفات هؤلاء الحماة الذين يتحملون مسؤولية الدفاع العظيمة، وتبيّنها على الوجه التّالي:



1 سورة المائدة، الآية 54.
 
 
 
153

133

السنن المرتبطة بالنصر(2) - سنّة الاستبدال

 1- إنّهم يحبّون اللّه ولا يفكرون بغير رضاه، فاللّه يحبّهم وهم يحبّونه، كما تقول الآية: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾.

 
2 و 3- يبدون التواضع والخضوع والرأفة أمام المؤمنين، بينما هم أشداء أقوياء أمام الأعداء الظالمين حيث تقول الآية: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾.
 
4- إنّ شغلهم الشاغل هو الجهاد في سبيل اللّه، إذ تقول الآية: يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
 
5- وآخر صفة تذكرها الآية لهؤلاء العظام، هي أنّهم لا يخافون لوم اللائمين في طريقهم لتنفيذ أوامر اللّه والدفاع عن الحق، حيث تقول الآية: ﴿وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ﴾، فهؤلاء بالإضافة إلى امتلاكهم القدرة الجسمانية، يمتلكون الجرأة والشّجاعة لمواجهة التقاليد الخاطئة، و الوقوف بوجه الأغلبية المنحرفة التي اعتمدت على كثرتها في الاستهزاء بالمؤمنين.
 
وهناك الكثير من الأفراد المعروفين بصفاتهم الطيبة، لكنّهم لا يبدون الكثير من التحفظ أمام الفوضى السائدة في المجتمع وهجوم الأفكار الخاطئة لدى سواد الناس أو من الأغلبية المنحرفة، ويتملّكهم الخوف والجبن، وسرعان ما يتركون الساحة ويخلونها للمنحرفين، في حين أنّ القائد المصلح ومن معه من الأفراد بحاجة إلى الجرأة والشهامة لتطبيق أفكارهم واصلاحاتهم. وعلى عكس هؤلاء فالذين لا يمتلكون هذه الصفات الروحية الرفيعة، يقفون سدّا وحائلاً دون حصول الإصلاحات المطلوبة.
 
وتؤكّد الآية في الختام على أنّ اكتساب أو نيل مثل هذه الامتيازات السامية (بالإضافة إلى الحاجة لسعي الإنسان نفسه) مرهون بفضل اللّه الذي يهبها لمن يشاء، ولمن يراه كفؤا لها من عباده، حيث تقول الآية في هذا المجال: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ﴾.
 
 
 
 
154

134

السنن المرتبطة بالنصر(2) - سنّة الاستبدال

 وفي النهاية تبيّن الآية أنّ مجال فضل اللّه وكرمه واسع، وهو يعرف الأكفاء والمؤهلين من عباده، كما تقول الآية: ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.

 
خاتمة
في ختام الحديث عن النصر الإلهيّ وشروطه والسنن المرتبطة به، نسأل الله عزّ وجلّ أن يستعملنا في أهدافه وغاياته وأن نكون قنوات تمّر من خلالها مشيئته وإرادته وأن لا يستبدل بنا غيرنا. والمسلمون دائمًا مطالبون أن تكون يدهم على الزناد في المعركة الخارجيّة بينهم وبين العدوّ الذي لا يراعي لهم حرمة إن هو ظفر بهم وتغلّب عليهم، بل هو يتحيّن الفرص لإنشاب أظافره ومخالبه لتخريب كلّ الوجود الماديّ والمعنويّ للإسلام والمسلمين. والحرب مع العدوّ تبقى سهلة على الرغم من كلّ صعوباتها إذا قيست بالجهاد مع النفس التي هي أعدى أعداء الإنسان. ومن استطاع الانتصار على نفسه غلب الدنيا، ومن انهزم أمام نفسه ورغباتها وشهواتها انهزم أمام الدنيا وخسر كلّ الانتصارات التي نالها.
 
 
 
155

135

السنن المرتبطة بالنصر(2) - سنّة الاستبدال

 وقفّة تأمّلية

﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾1.
 
ورد أنّ هذه الآية وما قبلها نزلت في معركة تبوك حين كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عائداً من الطائف إلى المدينة ، وهو يُهيّئ الناس ويعبّؤهم لمواجهة الروم. وقد ورد في الروايات الإسلامية أنّ النبي لم يكن يُبيّن أهدافه وإقدامه على المعارك للمسلمين قبل المعركة لئلّا تقع الأسرار العسكرية بيد أعداء الإسلام، أما في معركة تبوك، لمّا كانت المسألة لها شكل آخر، فقد بيّن كل شيء للمسلمين بصراحة، وأنّهم سيواجهون الروم، لأنّ مواجهة إمبراطورية الروم لم تكن مواجهة بسيطة كمواجهة مشركي مكة أو يهود خيبر، وينبغي على المسلمين أن يكونوا في منتهى الاستعداد وبناء الشخصية، أضف إلى كل ذلك أنّ المسافة بين المدينة وأرض الروم كانت بعيدة غاية البعد ، وكان الوقت صيفاً قائظاً، وهو أوان اقتطاف الثمار وحصد الحبوب والغلّاة. هذه الأمور اجتمعت بعضها إلى بعض فصعب على المسلمين الخروج للقتال. حتى أنّ بعضهم تردّد في استجابته لدعوة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. فالآيتان -محل البحث- نزلتا في هذا الظرف ، وأنذرتا المسلمين بلهجة صارمة لمواجهة هذه المعركة الحاسمة.
 
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج6، ص52.



1 سورة التوبة، الآية 39.
 
 
 
156

136

السنن المرتبطة بالنصر(2) - سنّة الاستبدال

 الإستبدال

 

 

 

 

157


137
النصر الإلهي، سنن النصر في القرآن الكريم