مواعظ شافية


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-05

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمّد بن عبد الله وعلى آله الطيّبين وأصحابه المنتجبين.
 
انطلاقاً من قول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ يسعى مركز نون للتأليف والترجمة أن يضع بين يدي أهله وأحبّته بعض المواعظ الأخلاقيّة تذكيراً بأهمّ المشاكل الّتي تواجه المجتمع والفرد والّتي تكون عائقاً عن الوصول إلى رضا الله سبحانه، وتعتبر كلمات أهل البيت عليهم السلام بعد كلام الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم من أهمّ المواعظ والعِبَر الّتي يمكن الاستفادة منها في تهذيب النفس وفي صيانة المجتمع، ونجد في كلام أهل البيت عليهم السلام ما هو شاف لما في الصدور كما يقول أمير الكلام الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام: "فَيَا لَهَا أَمْثَالًا صَائِبَةً، وَمَوَاعِظَ شَافِيَةً، لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زَاكِيَةً، وَأَسْمَاعاً وَاعِيَةً، وَآرَاءً عَازِمَةً، وَأَلْبَاباً حَازِمَةً... فاتّقُوا الله تقيَّةَ ذي لُبٍّ شغل التّفَكُّرُ قلْبَه"1.
 
ولا يبقى على الإنسان إلّا أن ينظر بعين البصيرة ليعمل لآخرته ودنياه بما يرضي الله سبحانه.


1- نهج البلاغة، ج1، ص137.
 
 
 
 
5
 
 

1

المقدمة

وحيث إنّ الحاجات الإنسانيّة كثيرة والمشاكل الّتي يعاني منها الإنسان كذلك، كان لا بدّ من تناول بعض هذه المشاكل بالدراسة والوعظ، فكانت هذه المواعظ المتنوّعة، اخترنا لها من كلام الأمير عليه السلام هذا العنوان "مواعظ شافية" عسى أن ندفع بها المرض عن القلوب وتكون شفاءً لما في الصدور، ونسأل الله سبحانه أن يتقبّلها منّا، ويعيننا للعمل بها، إنّه نعم المولى ونعم المعين.

مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
6

2

الاختبار الإلهيّ

 يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه:

﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾1

 

 1- سورة هود، الآية: 7.
 
 
7
 

 


3

الاختبار الإلهيّ

 تمهيد
عندما خلق الله تعالى الإنسان، قضت المشيئة الإلهيّة أن تكون له حياتان، حياة الدنيا، وحياة الآخرة. ففيما يتعلّق بالحياة الآخرة، شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون هي الحياة الحقيقية، ولذلك أعطاها صفة الخلود، فهي حياة أبدية، لا موت فيها ولا زوال.
 
ولأنّها الحياة الحقيقيّة، السرمديّة والواقعيّة، فإنّ كلّ الحقائق ستظهر فيها ، ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ1 ﴿لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ2.
 
دار الجزاء
جعل الله سبحانه وتعالى العنوان الرئيس للحياة الآخرة "دار الجزاء" بمعنى أنّ كلّ إنسان بدون أيّ استثناء سيلاقي جزاءَ عمله في الحياة الآخرة، يقول تعالى: 
﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾3.
  

1- سورة الطارق، الآية: 9.
2- سورة ق، الآية: 22.
3- سورة آل عمران، الآية: 30.
 
 
8
 

4

الاختبار الإلهيّ

وكلّ ما ذكر في أحداث ما بعد الموت إلى القيامة، هو مقدّمة لحصول الجزاء الأخروي: سؤال منكر ونكير, النفخ في الصور، الحشر، وكتب الأعمال الّتي تُعطى للناس: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ﴾1 ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ2، الميزان: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾3، الشفاعة: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾4. كلّ هذه الأحداث والأسماء هي في الحقيقة مقدّمة للجزاء (أي للثواب والعقاب).
 
ويستقرّ المشهد بعد انتهاء الحساب وسلوك الناس الصراط، فريق في الجنّة وفريق في السعير.
 
دار الفناء
وهي الدنيا والحياة الأولى الّتي تسبق حياة الآخرة، ولكنّها حياة قصيرة ومحدودة مقارنة بها وسُمّيت بالعاجلة في مقابل الآخرة (الآجلة). وقد وجدت لأجل محدّد لسبب دورها الّذي يقترن بالإعداد والتجهّز لعالم الآخرة. وعندما ينتهي أجل المرء فيها تبدأ أحداث الآخرة.
 
إذاً هذا النظام الكوني يتّجه إلى نهاية، لأنّ لعالم الآخرة كوناً مختلفاً ونظاماً جديداً، ومعايير أخرى. أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون الدنيا دار العمل كما أنّ الآخرة دار الجزاء، ومع ذلك لا يعني هذا أنّه لا يوجد جزاء دنيويّ، ولكن حتّى الجزاء الدنيوي هو زائل فانٍ، وليس بشيء أمام الجزاء الحقيقي في الآخرة.


1- سورة الحاقة، الآية: 19.
2- سورة الحاقة، الآية: 25.
3- سورة الأنبياء، الآية: 47.
4- سورة البقرة، الآية: 255.
 
 
 
10

5

الاختبار الإلهيّ

والله سبحانه وتعالى أقام علاقات بين العمل وبين الجزاء، في الدنيا وفي الآخرة. الجزاء هو نتيجة عمل الإنسان وذلك حتّى يحصل الإنسان على جنّته، وعلى نعيمه وكرامته.
 
ولكنَّ ذلك يحتاج إلى جهاد، وعمل، وصبر، وتضحيات. هذه مشيئة الله سبحانه وتعالى، وهذه ميزة الإنسان الّذي أراد الله تعالى له أن يحصل على مقام الخلافة، والأمانة، والكرامة، والقرب من الله عزّ وجلّ.
 
يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ1.
 
ويقول سبحانه: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾2.
 
ويقول عزّ من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾3.
 
الدنيا هي دار العمل، دار الاختبار، هي دار الامتحان، أو هي دار البلاء والابتلاء، وهناك ثلاث آيات كريمة تضيء على هذا الموضوع:
 
يقول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾4. أي ليختبركم في هذه الحياة الدنيا.
 
وقال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾5.
  

1- سورة البقرة، الآية: 30.
2- سورة الأحزاب، الآية: 72.
3- سورة الحجرات، الآية: 13.
4- سورة هود، الآية: 7.
5- سورة الملك، الآية: 2.
 
 
 
11
 

6

الاختبار الإلهيّ

وفي آية ثالثة قال الله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا﴾ لماذا؟ يقول الله: ﴿لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾1. ويقول تعالى: ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾2.
 
بمعنى أنّ كلّ هذه الأرض فانية. وهنا الله تعالى يبلونا ليرى أيّنا أحسن عملاً، لأنّه فيما بعد هناك جزاء وحساب، لنكون أهلاً للثواب بجدارة، أو مستحقّين للعقاب وليس لنا حجّة على الله عندما يُعاقبنا بذنوبنا أو بسوء أعمالنا.
 
البلاء بالخير والشرّ
﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾. 
عنوان البلاء عامّ وهو بمعنى الاختبار والامتحان. والله سبحانه وتعالى يختبر عباده بالنعم، والخير، وأيضاً يختبرهم بالمصائب والمِحن أي "بالنعم والنقم". في التعبير القرآني الخير بلاء والشرّ بلاء. ولكن، نتيجة الفَهم العرفي لكلمة "بلاء" يذهب الذّهن مباشرة إلى المصائب، حيث إنّها من نوع البلاء الظاهر الّذي لا ينكره أحد، أمّا البلاء بالنعم والّذي قد يكون أشدّ مصيبة على الإنسان، بل قد يكون نقمة أكبر عليه فهو البلاء الخفيّ الّذي قد يغترّ فيه الإنسان فيظنّ أنّه في موقع الرضا الإلهيّ والحال: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ3
 
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾4. فهنا مصداق الابتلاء الإلهي بالإكرام والإنعام، ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾5 "قَدَر" أي "ضيّق" وهنا بتضييق العيش وحبس الأرزاق.
  

1- سورة الكهف، الآية: 7.
2- سورة الكهف، الآية: 8.
3- سورة آل عمران، الآية: 178.
4- سورة الفجر، الآية: 15.
5- سورة الفجر، الآية: 16.
 
12
 

7

الاختبار الإلهيّ

 فالنعم والنقم وجهان للبلاء، وعلى الإنسان أن يعرف كيف يشكر النعم، وكيف يصبر على النقم. بل عليه أن يكون فطناً لحاله عارفاً لمآله متأمّلا في علاقته مع ربّه، حذراً عند النعم شكوراً عند المصائب، فقد جاء عن الإمام عليّ عليه السلام: "إذا رأيت ربّك يوالي عليك البلاء فاشكره، وإذا رأيته يتابع عليك النعم فاحذره"1،
 
الاختبار الإلهيّ
في الاختبار الإلهيّ هناك مجموعة أمور عامّة لا بدّ من الالتفات إليها: 
أوّلاً: إنّ هذا الاختبار والامتحان هو قانون إلهيّ شامل لكلّ الناس. كلّ إنسان بلغ سنّ التكليف، هو موضع اختبار وابتلاء، لأنّ هذه إرادة الله في الخلق. حتّى أنبياء الله تعرّضوا للاختبارات والابتلاءات، بل كانوا أشدّ الناس بلاءً، وقد ذكر عند أبي عبد الله الصادق عليه السلام البلاء وما يخصّ الله عزّ وجلّ به المؤمن، فقال: "سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أشدّ الناس بلاءً في الدنيا فقال: النبيّون ثمّ الأمثل فالأمثل، ويبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحُسن أعماله فمنّ صح إيمانه وحَسُن عمله اشتدّ بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قلّ بلاؤه"2. وقد ذكر الله تعالى أصناف اختباراتهم في القرآن الكريم.
 
طبعاً، تختلف أهداف وأنواع الاختبار والابتلاء بين الناس من شخص لآخر، لكن في المبدأ الجميع مبتلى والجميع ممتحن.
 
ثانياً: الاختبار قد يأتي لفرد وقد يأتي لجماعة. 
 
ثالثاً: الله تعالى، في أحيان كثيرة، يمتحن الإنسان في أكثر من شأن من شؤون الحياة. فقد يكون الاختبار الإلهيّ بالفقر، بالمرض،بالموت، وقد يكون بالصحة
  

1- كتاب التمحيص، الإسكافي، ص 6.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 225.
 
 
 
14

8

الاختبار الإلهيّ

 والغنى والمُلك، وقد يشمل الامتحان في وقت واحد شأنين، أو ثلاثة، أو أربعة. 
 
رابعاً: قد تختلف أنواع وحجم الابتلاءات بين شخص وآخر وذلك بحسب إمكانات وطاقات وطموحات وتطلّعات هذا الشخص، وقد تختلف من جماعة إلى جماعة، لذلك فالأنبياء عليهم السلام ابتلاءاتهم مختلفة، الأوصياء والأولياء والمؤمنون بلاءاتهم مختلفة، وهذا كلّه عن حكمة وتقدير أيضاً.
 
خامساً: من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده أنّه عندما يختبرهم ويبتليهم بالنّعم أو بالنّقم، لا يكلّفهم بما لا يقدرون عليه، أو لا يستطيعون تحمّله، فالله تعالى يريد لعباده النجاح حيث إنّهم عباده، ولأنّ الله سبحانه وتعالى لم تقم مشيئته على نحو الإلزام التكويني، وضع لنا شرطاً، وهو أن يكون هذا النجاح بمشيئتنا واختيارنا، بإرادتنا، وجهدنا وعملنا.
 
سادساً: في الاختبار الإلهيّ، قد تتوفّر فرصة التصحيح وقد لا تتوفّر، فلو ابتلي الإنسان بذنب كالغِيبة مثلاً فإنّ بإمكانه تصحيح فشله في الاختبار بالتوبة والاستحلال ممّن اغتابه أمّا ذنب الشرك فإنّه لا يغفر: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ...﴾1.
 
سابعاً: في الاختبار الإلهيّ أيضاً ولكرم الله وعطفه ورحمته علينا زوّدنا بكلّ عناصر النجاح وسخّر لنا كلّ الإمكانات: الأرض، الشمس، الكواكب، النجوم، الأنعام والحيوانات والبحار كلّها مسخّرة للإنسان. أعطانا الله العقل الّذي به نفكّر لنقوم بالعمل الواجب ونبتعد عن الحرام. كذلك، أعطانا القدرات الجسديّة والنفسيّة الّتي تؤهّلنا للنجاح ومنحنا السمع والبصر، والأيدي والأرجل، يقول تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾2 ويكمل ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾3.
  
1- سورة النساء، الآية: 48.
2- سورة الإنسان، الآية: 2.
3- سورة الإنسان، الآية: 3.
 

9

الاختبار الإلهيّ

وإضافة إلى ذلك فقد أرسل الله تعالى لنا الأنبياء والرسل وأنزل الكتب وأقام الحجج والأولياء، فلا تخلو الأرض من حجّة لله على الخلائق، وبذا هدانا سواء السبيل. إذاً الهداية العامّة متحقّقة. أيضاً عرّفنا الأنبياء والأولياء إلى كيفيّة مواجهة البلاء وأعطونا في ذلك إرشادات تفصيليّة.
 
كيفيّة المواجهة
لا بدّ من الالتفات أيضاً إلى أنّ الامتحان الإلهيّ يستلزم من الإنسان عدّة أمور لمواجهته:
أوّلاً: الانتباه والحذر، فلا يغفل الإنسان عن حقيقة الدنيا.
 
ثانياً: أن يعمل الإنسان ويبذل بجدّ ما يستطيع للنجاح في الاختبار.
 
ثالثاً: أن يستفيد من الوقت، فيوم تأتي ساعة الموت يتمنّى الإنسان أن يعود إلى الدنيا ولو بمقدار قليل، ليعمل عملاً صالحاً ينتفع به أمام هول المطّلـــع وســوء العاقبــة ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾1.
 
لـــذا يجــب أن ننتبه لقيمة الزمن وقيمة العمر كباراً وشباباً، ولا يقولنّ أحد إنّي ما زلت شابّاً والعمر أمامي. فإنّ أغلب الّذين يموتون هم من الشباب، يقول الله تعالى: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ2.
 
كذلك يجب أن نضع هدفاً واضحاً ومحدّداً وهو أنّنا يجب أن ننجح ونفوز في الامتحان، لأنّ ذلك يعني الحصول على الحياة الحقيقيّة والنعيم، والسعادة الأبديّة السرمديّة.
  

1- سورة المؤمنون، الآيتان: 99 100.
2- سورة مريم، الآية: 39.
 
 
15
 

 


10

الاختبار الإلهيّ

حتّى لا نُكرّر أخطاء الماضي 
من أعظم الاختبارات الإلهيّة الّتي مرّت على المسلمين والأمة والبشرية كان الاختبار في الأيّام الأولى من سنة 61 للهجرة مع الإمام الحسين عليه السلام.
 
لقد كانت الأمّة أمام واقعين، الأوّل يتمثّل في مقام خلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الّتي يريد أن يتسلّم قيادتها شخص كيزيد بن معاوية مع ما يتّصف به هذا الإنسان من سلوك وصفات سيّئة. وهذا بحدّ ذاته اختبار عظيم وهائل للأمّة.
 
الواقع الآخر الّذي كان أيضاً مورد اختبار وامتحان للأمّة وهو الأكثر أهميّة أنّ الإمام الحسين عليه السلام ، الّذي هو سيّد شباب أهل الجنّة ليس في الأرض غيره ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قام ليواجه هذا التهديد وهذا الخطر على الإسلام والأمّة والخلافة. ماذا سيفعل المسلمون في هكذا موقف؟ كان هذا الامتحان من أصعب ما مرّ في تاريخ المسلمين، كان نوعاً من الامتحانات الحاسمة لكلّ فرد من أفراد المسلمين. 
 
تحليل هذه الوقائع وقراءتها مهمّ جدّاً. اكتشاف نقاط الضعف والقوّة.. لماذا من وقف مع الإمام الحسين عليه السلام وقف معه؟ ولماذا الّذي خرج عليه خرج ليقتله عليه السلام ؟ ولماذا هناك من وقف على الحياد؟ هذا كلّه وبالإحاطة به له قيمة ليس فقط معلوماتية ومعرفية، لكن قيمته أيضاً تتّصل بقيمة حياتنا، لأنّنا نواجه نفس الاختبارات، ونفس الابتلاءات والامتحانات. ولكن، عندما نقرأ تلك التجربة، نستفيد من نقاط ضعفها وقوّتها أين كان الخطأ وأين ضاعت الفرص؟...
 
وذلك.. حتّى لا نُكرّر أخطاء الماضي.
 
 
 
 
16
  


 

11

الاختبار الإلهيّ

للمطالعة

اهربوا من الدنيا
عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام ، قال: "كان عيسى بن مريم عليه السلام ، يقول لأصحابه: يا بني آدم، اهربوا من الدنيا إلى الله، وأخرجوا قلوبكم عنها، فإنّكم لا تصلحون لها ولا تصلح لكم، ولا تبقون فيها ولا تبقى لكم، هي الخدّاعة الفجّاعة، المغرور من اغترّ بها، المغبون من اطمأنّ إليها، الهالك من أحبّها وأرادها، فتوبوا إلى بارئكم، واتّقوا ربّكم، واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا.
 
"أين آباؤكم، أين أمّهاتكم، أين إخوتكم، أين أخواتكم، أين أولادكم؟ دُعوا فأجابوا، واستودعوا الثرى، وجاوروا الموتى، وصاروا في الهلكى، وخرجوا عن الدنيا، وفارقوا الأحبّة، واحتاجوا إلى ما قدّموا، واستغنوا عما خلفوا، فكم توعظون، وكم تزجرون، وأنتم لاهون ساهون! مثلكم في الدنيا مثل البهائم، همّكم بطونكم وفروجكم ، أما تستحيون ممّن خلقكم؟! وقد وعد من عصاه النار ولستم ممّن يقوى على النار، ووعد من أطاعه الجنّة ومجاورته في الفردوس الأعلى، فتنافسوا فيه وكونوا من أهله، وأنصفوا من أنفسكم، وتعطّفوا على ضعفائكم وأهل الحاجة منكم، وتوبوا إلى الله توبةً نصوحاً، وكونوا عبيداً أبرارا، ولا تكونوا ملوكاً جبابرة ولا من العتاة الفراعنة المتمرّدين على من قهرهم بالموت، جبّار الجبابرة ربّ السماوات وربّ الأرضين، وإله الأوّلين والآخرين، مالك يوم الدين، شديد العقاب، أليم العذاب، لا ينجو منه ظالم، ولا يفوته شيء، ولا يعزب عنه شيء، ولا يتوارى منه شيء، أحصى كلّ شيء علمه، وأنزله منزلته في جنّة أو نار. 
 
"ابن آدم الضعيف ، أين تهرب ممّن يطلبك في سواد ليلك وبياض نهارك وفي كلّ حال من حالاتك، قد أبلغ من وعظ، وأفلح من اتعظ"26.
 

26- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 650
 
 
17



 

12

شكر النِّعم

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه:
 
﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾1
  

1- سورة لقمان، الآية: 20.
 
 
 
19
 
 
 

13

شكر النِّعم

 تمهيد
تعتبر النِّعَم من موارد الاختبار الإلهيّ الّتي يتعرّض لها الإنسان في حياته. والنِّعَم لها آداب في كيفيّة التعاطي معها، فكما أنّ الصبر من مستلزمات النجاح في الابتلاء بالمصائب، فكذلك الشكر هو من مستلزمات النجاح في تلقّي النِّعَم الإلهيّة.
 
إنَّ الله تعالى يختبر عباده بالنعمة والمنحة، كما يختبرهم بالمصيبة والنَّقمة والمحنة.
 
يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾1.
 
هذه من الآيات الّتي تتحدّث عن نِعَم الله سبحانه على عباده.
 
في اختبار النِّعم يبتلينا الله بما أنعمَ ليختبرنا كيف سنتصرَّف. وإذا راجعنا الآيات والأحاديث الشريفة، نحصل على مجموعة عناوين حول النّعم الإلهيّة وكيفيّة التصرّف بها، نبدأ بعرضها على النحو التالي:
  

1- سورة لقمان، الآية: 20.
 
 
 
21
 

14

شكر النِّعم

أوّلاً: علينا أنْ نشعر بالنِّعَم الإلهيّة ونعترف بها، فنحن نغفل عن الكثير من نِعَم الله علينا. لذا يجب أن نذكّر أنفسنا بها دائماً.
 
ثانياً: علينا أن نسلِّم، أيضاً، بأنّ هذه النِّعَم هي من الله عزّ وجلّ، فما من فضلٍ أو حسنةٍ إلا هي من عند الله.

أمَّا السبب في ضرورة الالتفات إلى تذكُّر النِّعمة فذلك لأنّنا نغفل عنها لكوننا اعتدنا عليها فلم نعد نراها، إذ تصبح أمراً طبيعيّاً. لقد أنعم الله علينا بالوجود وخلَقنا في أحسن تقويم، وزوَّد أجسادَنا بكلّ ما نحتاج إليه، أعطانا البصر لنرى ونتمتَّع بكلّ شيء في هذا الكون، فالعين وسيلة لاختبار العلم والمعرفة والهداية، وكذلك وهَبنا سبحانه بقيّة الحواسّ، وأعطانا من الطاقات الروحيّة ما يمكّننا من التمتُّع بالنِّعَم المادّيّة والروحيّة، فكما أنّ هناك لذّات مادّيّة، هناك أيضاً لذّات روحيّة. فإحساس الإنسان بكرامته وكرم الله عليه يولّد لديه لذّة روحيّة. أمَّا الشعور بالمعصية والذلّ فهو نقص معنويّ وألم روحيّ.

إنّ التمتُّع بالصحّة وسلامة العقل والروح من نِعَمِ الله علينا، وكذلك وجود الرسل والأنبياء والأولياء الصالحين، من النعم الإلهيّة. يقول تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا1.


ومن نِعَم الله سبحانه دفعُه عنّا بعض المصائب والبلاءات. فإذا كنّا في بلدٍ ليس فيه زلازل أو براكين أو فيضانات، فهذا أيضاً من نِعَم الله.
 
شكرُ المنعم
ثالثاً: بعد معرفة تلك النِّعم ونسبتها إلى الله، يبقى علينا أن نشكره على نِعَمه. والقرآن يذكّرنا في أكثر من سورة قرآنيّة بضرورة الشكر: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ2
  

1- سورة النحل، الآية: 18.
2- سورة البقرة، الآية 52.
 
 
22
 

15

شكر النِّعم

و﴿لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾1. وفي بعض الآيات هناك أمر بالشكر: ﴿وَاشْكُرُواْ لِلّهِ﴾2 وَ﴿وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ﴾3. وقد مدح تعالى بعضَ أنبيائه بالاسم كإبراهيم عليه السلام ونوح عليه السلام من خلال صفة الشكر. كما ندّد بالعباد الّذين لا يشكرون في قوله: ﴿أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾4، وقوله: ﴿وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾5. أمّا السبب في الحضّ على الشكر فلأنّه "بالشكر تدوم النِّعَم"، بل تنمو وتتكاثر. قال تعالى: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ6. ونحن لدينا أدعية الشاكرين، ومناجاة الشاكرين. أن نقول: "الشكر لله"، فهذا من الشكر. 
 
رابعاً: أن نُحدِّثَ بالنعمة؛ فإنّ الشعور بالنعمة ومعرفتها ونسبتها إلى الله تعالى، هذا كلّه شيء داخليّ ويبقى الانطلاق للإظهار. يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾7. فإذا كان الإنسان غنيّاً وراح يتذمَّر ويُنكر، فهذا خلاف شكر النّعَم. جاء في بعض الروايات أنّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنَّ الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده"8.

والتحدُّث عن النعمة لا يعني أن نُخبر الناس بها، بل أن نُظهرها في حياتنا ليرى الله أثر نعمته علينا. وهنا لا بدّ من التوسّع قليلا لأجل تصويب بعض من المفاهيم الخاطئة والشائعة بين الناس. 

إنَّ إظهار النعمة والتحدُّث بها يجب أن يكون ضمن ضوابط الاعتدال، أي بدون بَطَر وإسراف وتضييع. في سُنن أبي داود، عن أبي الأحوص عن أبيه أنّه أتى النبيَّ
  

1- سورة إبراهيم، الآية: 37.
2- سورة البقرة، الآية 172.
3- سورة الأعراف، الآية 144.
4- سورة يس، الآية: 35.
5- سورة النمل، الآية: 40.
6- سورة إبراهيم، الآية: 7.
7- سورة الضحى، الآية: 11.
8- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج70، ص207.
 
 
23
 

16

شكر النِّعم

في ثوب دون (عتيق رثّ غير مناسب) فسأله النبيُّ: "ألَكَ مال؟ قال: نعم. قال صلى الله عليه وآله وسلم: أيُّ مال؟ فقال الرجل: آتاني الله من الإبل والخيل والرقيق. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا آتاك اللهُ مالاً فلْيُرَ أثرُ نعمة الله عليك وكرامته"1.
 
الله جميل يحبّ الجمال
يتحدّث الناس عن الزهد والتديُّن والوَرع، بأن يرتدي الواحد منهم ثياباً رثَّة ممزَّقة، ولا يضع الطِّيب، ويبقى بدون استحمام. ليس هذا ما أراده الله. عن أبي عبد الله عليه السلام: "إنَّ الله عزّ وجلّ يحبّ الجمال والتجمّل، ويُبغض البؤس والتباؤس"2. إنَّ الله يكره أن يُظهر الإنسان نفسه فقيراً، وهو ليس كذلك. 
 
وقد ورد في احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام على عاصم بن زياد الّذي كان من الأغنياء، ولكنّه لبس العباء وترك الملاء3 فشكاه أخوه الربيع بن زياد إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قد غَمَّ أهله وأحْزَنَ ولده بذلك، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: "عليَّ بعاصم بن زياد، فجيء به، فلمّا رآه عبس في وجهه، وقال له: أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى الله أحلّ لك الطيّبات وهو يكره أخذك منها؟ أنت أهون على الله من ذلك، أوليس الله يقول: ﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ* فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَام﴾4؟ وقد قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾5. فقال عاصم: يا أمير المؤمنين فعلى ما اقتصرت في مطعمك على الجشوبة وفي ملبسك على الخشونة؟ فقال: "ويحك إنّ الله عزَّ وجلَّ فرض على
  

1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج4، ص3317.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج6، ص440.
3- العباء بالفتح والمدّ جمع العباءة كذلك وهي كساء واسع من صوف، والملاء بالضمّ والمدّ جمع الملاءة كذلك وهي الإزار وكلّ ثوب ليّن رقيق.
4- سورة الرحمن، الآيتان: 10 11.
5- سورة الضحى، الآية: 11.
 
 
24

17

شكر النِّعم

أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيّغ1 بالفقير فقره، فألقى عاصم بن زياد العباء ولبس الملاء"2.
 
خامساً: الحفاظ على النِّعم وعدم التفريط بها وإهدارها هو من الواجبات تجاه الله عزّ وجلّ. فلا يجوز، مثلاً، أن يقتل الإنسان نفسه أو يُلحق بها الضرر.
 
كذلك عندما نذهب إلى النِّعم العامَّة الّتي تُفيد الناس جميعاً كالبيئة وسلامتها، فعلينا جميعاً أن نحافظ عليها. أمّا تخريب البيئة فهو كُفران بهذه النعمة. لذا لا يجوز إهدار الثروات الطبيعيّة الّتي هي ملكٌ لجميع الناس. والإسراف بالماء وإهداره غير جائز، وقِسْ على ذلك. 
 
كيف نحافظ على النِّعَم؟
سادساً: عدم استخدام النِّعم بالمعاصي: إذا أردت أن تختم آخرتك بخير، فعظِّم آلاء ربِّك، وحافظ على نعمائه، ولا تستبدلها بالمعاصي.
 
في الحديث القدسيّ: "يا بن آدم، تسألني فأمنعك لعلمي بما ينفعك، ثمّ تلحّ عليّ بالمسألة فأعطيك ما سألت فتستعين به على معصيتي، فأهمّ بهتك سترك، فتدعوني فأستر عليك، فكم من جميلٍ أصنع معك وكم من قبيحٍ تصنع معي"3.

علينا أن نحافظ على نعمة الصحّة والعافية، فلا نأكل الحرام. وإنّ من يملك المال لا يجوز له استغلاله في الفتنة والنميمة وقتل الناس. ويجب ألَّا يستخدم الإنسان قوّته وجاهه وماله في معصية الله, فإنّ هذا يسلب النِّعم. 
 
سابعاً: إنّ استعمال النِّعم في طاعة الله وإعمار الدنيا والآخرة، من أعظم مصاديق الشكر، منها: خدمة الناس وقضاء حوائجهم، إغاثة الملهوف، كفالة
  

1- تَبَيَّغَ الدمُ بفلان: ثار به حتى غلبه.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 410.
3- الجواهر السنيّة، الحر العاملي، ص 88.
 
 
25
 

18

شكر النِّعم

اليتيم، الدفاع عن المظلومين والمضطهدين والمعذَّبين، إصلاح ذات البين، توحيد الكلمة ودفع الكيد. روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ لله عباداً خصَّهم بالنِّعم، يُقرُّها فيهم (يجعلها عندهم) ما بذلوها في خدمة الناس، فإذا منعوها عن الناس حوَّلها عنهم إلى غيرهم"1.
 
الدنيا المذمومة
ثامناً: إنّ الله تعالى قال: أنا مَنْ أعطاكم النِّعم، فاشكروها بألسنتكم، واذكروها واحفظوها وحدِّثوا الناس بها، وَلْتَظْهَرْ في وجودكم، وحياتكم، واستخدموها في الطاعات. 
 
والنِّعَم كثيرة كذلك، فإنّ نسبةَ ما حرَّمه الله علينا مقارَنةً بما حلَّله لنا ضئيلةٌ جدّاً لا تُذكَر. فالأصل هو الحلِّيَّة. ولكنَّ الله تعالى يُحذّرنا من أن نتعلَّق روحيّاً وجسديّاً بهذه النِّعم. يجب أن لا نصبح أسارى وعبيداً لها وأن لا نحوّل السلطة والمال إلى إلهٍ يُعبَد.
 
هذا هو المعنى الحقيقي للدنيا الّتي يحذِّرنا منها الله.سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليه السلام. التحذير من الدنيا ليس بمعنى ألّا نملك المال والدار أو أن لا يكون لدينا زوجة وأولاد.. بل كلّ هذا مطلوب وُمستحبّ وفي بعض الأحيان واجب، فإنّه كما قيل في تفسير الزهد: "ليس الزهد أن لا تملك شيئاً، بل الزهد أن لا يملكَكَ شيء".
 
يُكتب على بعض القصور: "لو دامت لغيرك ما وصلَتْ إليك". ومع ذلك فإنّ كثيراً من السلاطين والحكّام يعيشون حياة الخالدين. ولكنَّ السلطة لا تدوم، وكذلك الصحّة والمال.. هذه هي الدنيا المتقلِّبة من حالٍ إلى حال: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾2.
  

1- الرسالة السعديّة، العلّامة الحلّي، ص 163.
2- سورة آل عمران، الآية: 140.
 
 
26
 

19

شكر النِّعم

وبما أنّ هذه الدنيا فانية فلِمَ تربط نفسك ومصيرك بنعَمٍ زائلة؟!. هذه هي مشكلة الناس حتّى أيّام الرسل والأنبياء والأولياء والأئمّة عليه السلام ودعاة الإصلاح. عندما سقط إبليس في الامتحان الأوّل نتيجة العجرفة ورفض السجود لآدم عليه السلام ، وضع هدفاً نصب عينيه، وقد أعطاه الله وقته ليبتليه ويبتلينا به. قال (إبليس) ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾1. فشأن إبليس هو إضلال الناس، وغوايتُهم، وأهم سلاح في يده هو الدنيا بمُغرياتها.
 
وفي الختام نذكّر أنه عندما نشكر الله، اللهُ يشكرنا. وشكرُه لنا بأن يزيد علينا نعمه, أن يزيدنا عزَّةً وكرامةً ومنعةً وتماسكاً وعافيةً في الدين والدنيا والآخرة، إن شاء الله.
 
نسأل الله أن يجعلنا من الشاكرين لأَنعمه، بالقول والفعل والعاطفة واللسان والعمل، وأن يُبقينا عبيداً له وحده، وأن لا يجعلنا،- في يوم من الأيّام- عبيداً لحُطام هذه الدنيا الفانية، وأن نكون مع الحقّ ونصرة الحقِّ، ومع أوليائه نقدِّم الحقّ لتكون لنا عمارةٌ في الدنيا، وعمارةٌ في الآخرة أيضاً.
  

1- سورة الأعراف، الآية: 16.
 
 
 
27



 

20

شكر النِّعم

للمطالعة

دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام في مناجاة الشاكرين
بسم الله الرحمن الرحيم إلهي أذهلني عن إقامة شكرك تتابع طَولك، وأعجزني عن إحصاء ثنائك فيضُ فضلك، وشغلني عن ذكر محامدك ترادف عوائدك، وأعياني عن نشر عوارفك1 توالي أياديك2. وهذا مقام من اعترف بسبوغ النعماء، وقابلها بالتقصير، وشهد على نفسه بالإهمال والتضييع، وأنت الرؤوف الرحيم، البَرّ الكريم، الّذي لا يُخيّب قاصديه، ولا يطرد عن فِنائه آمليه، بساحتك تُحطّ رحال الراجين، وبعرصتك تقف آمال المسترفدين3، فلا تُقابل آمالنا بالتخييب والإياس، ولا تلبسنا سربال4 القنوط والإبلاس5
 
إلهي تصاغر عند تعاظم آلائك شكري، وتضاءل في جنب إكرامك إيّاي ثنائي ونَشري. جلّلَتني نعمك من أنوار الإيمان حُللا، وضَرَبَت عليّ لطائف برّك من العزّ كِللا6 وقلّدتني مننك قلائد لا تُحلّ، وطوّقتني أطواقا لا تُفلّ، فآلاؤك جمّة ضعف لساني عن إحصائها، ونعماؤك كثيرة قصر فهمي عن إدراكها فضلاً عن استقصائها. فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إيّاك يفتقر إلى شكر؟! فكلّما قلت لك الحمد، وجب عليّ لذلك أن أقول لك الحمد. 

إلهي فكما غذّيتنا بلطفك، وربّيتنا بصنعك، فتمّم علينا سوابغ النعم، وادفع عنّا مكاره النقم، وآتنا من حظوظ الدارين أرفعها وأجلها عاجلاً وآجلا. ولك الحمد على حسن بلائك وسبوغ نعمائك، حمداً يوافق رضاك، ويمتري العظيم من برّك ونَداك، يا عظيم يا كريم، برحمتك يا أرحم الراحمين7.


1- عوارفك: إحسانك.
2- أياديك: نعمك. 
3- المسترفدين: طالبي العطاء.
4- السربال: القميص.
5- الابلاس: الحيرة.
6- كللا: أستارا.
7- الصحيفة السجّاديّة، ص409.
 
 
28

21

من الشَّريعة حفظ النِّظام

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه:
﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ1
  

1- سورة المائدة، الآية: 48.
 
 
 
29
 

22

من الشَّريعة حفظ النِّظام

تمهيد
إنّ من يجيل نظره ويعمل فكره في هذا الكون المترامي الأطراف يرى النظام والدقّة والحكمة والعظمة فيه، يقول تعالى: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ* وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾1 ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ﴾2، وفي هذا الخلق تتكشّف لنا صفات الحكمة والعظمة والقوّة والقدرة في الخالق الّذي أبدعها وأنشأها. وعندما خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، سواءً في البعد الجسديّ أم فيما يتعلّق بالروح الإنسانيّة الّتي هي أكثر تعقيداً من الجسد، خلقه على أساس نظام دقيق جداً: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾3.
 
الإنسان يخضع لنظامين
كذلك من الواضح القول إنّ كلّ ما هو خارج إرادة الإنسان وقدرة الإنسان يسير ضمن نظام تكوينيّ قهريّ، وهو خاضع لسُنَن صارمة وقوانين حاسمة وقاطعة، وضعها الله سبحانه وتعالى في هذا الوجود وفي هذا الكون، يقول تعالى: ﴿سُنَّةَ 


1- سورة الغاشية، الآيات: 17 20.
2- سورة آل عمران، الآية: 190.
3- سورة التين، الآية: 4.
 
31


 

23

من الشَّريعة حفظ النِّظام

اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾1.
 
كذلك وضع الله سبحانه وتعالى لحياة الإنسان نظاماً أمره باتّباعه، وهذا النظام نسمّيه الشريعة، يقول تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ2.
 
والفرق بين النظامين أنَّ النظام الأوّل خارج عن إرادتنا واختيارنا ونحن خاضعون لسُنَنِه وقوانينه، لا نقدر على أن نفعل شيئاً، فحركة الشمس والأرض والكواكب خاضعة لقوانين كونيّة لا تقدر على الخروج عليها، يقول تعال: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾3.
 
النظام التشريعي
أمّا النظام الثاني فهو يتعلّق بالقضايا التشريعيّة، الّتي وضعها لنا الله سبحانه وتعالى وهو الأعلم بمصالحنا ومفاسدنا منّا، وقد أراد لنا من خلال الالتزام بها أن نصل إلى السعادة وإلى الحياة الطيّبة وذلك ضمن دائرة الاختيار لا الإجبار. وبأدنى تأمّل نجد أنّ روح التنظيم سارية في كلِّ الشريعة، في البعد العباديّ، والمعاملاتيّ والأخلاقيّ.
 
ولذلك نرى أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في اللحظات الأخيرة من حياته، عندما جمع حوله الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام وبقيّة أولاده وأهله، قال لهم في ما قال من الوصيّة: "أوصيكما وجميع وُلدي وأهلي ومن بلغه كتابي
  

1- سورة الأحزاب، الآية: 62.
2- سورة المائدة، الآية: 48.
3- سورة يس، الآية: 40.
 
 
32


 
 

24

من الشَّريعة حفظ النِّظام

بتقوى الله، ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم، فإنّي سمعت جدّكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام"1. ومن هذه الكلمات نتبيّن أهميّة النظام إذ جاءت في المرتبة الثانية بعد وصيّة الإمام لبنيه بتقوى الله تعالى، هذه الوصيّة الّتي لا تختصّ بأبناء الإمام عليّ عليه السلام بل هي عامّة شاملة لكلّ الأنام، ونحن معنيّون بها. 
 
فتقوى الله تعني اجتناب معصية الله، أو اجتناب الحرام والقيام بالواجبات.

ونظم الأمر يعني أن تكون أمورنا كلّها منظّمة مرتّبة.

وصلاح ذات البين أن لا نتخاصم ونتفرّق بل أن نتعاون ونتماسك. 
 
لا بدّ للناس من أمير
لقد أكّد الإسلام أنّ أيّ شعب أو مجتمع أو جماعة بشريّة، تعيش في مكانٍ ما وفي ظروف مشتركة ومعّينة لا بدّ لها من نظام وحكومة. في أدبيّات الزمان الماضي في صدر الإسلام كانوا يقولون لا بدّ من إمارة، كما عن الإمام عليّ عليه السلام: "لا بدّ للناس من أميرٍ برٍّ أو فاجر"2.
 
وعندما يقول الحديث الشريف: "لا بدّ للناس من أمير برٍّ أو فاجر"، فإنّه لم يعط شرعيَّة لحكومة الفاجر بل وصَّف الحاجة الطبيعيّة للجماعة البشريّة وإلى النظام.
 
يعني جاء الإسلام أوّلاً وتكلّم بالمبدأ، مبدأ الحاجة إلى نظام وإلى حكومة وإلى قانون.
 
حكومة الدولة الإسلاميّة
وكذلك بعدما ثبَّت الإسلام المبدأ جاء ليقول إنّ النظام، أو القانون أو الشريعة الّتي تستطيع أن تحقِّق الآمال والأهداف الّتي يريدها الله للناس، إنَّما هي شريعة
  

1- نهج البلاغة، ج3، ص 76.
2- م.ن، ج1، ص91.
 
 
33
33
 
 

 


25

من الشَّريعة حفظ النِّظام

الحكومة أو الدولة الّتي تحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ1 ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾2. ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾3
 
وقد تحقّقت الدولة والحكومة الإسلاميّة أيّام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة، ثمَّ اتّسعت إلى مكّة وإلى شبه الجزيرة العربية. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رأس هذه الدولة والحكومة وقد حكم بشريعة الله والقانون الإلهيّ المنزل، فهو الّذي لا ينطق عن الهوى، حكم بما ينسجم والتشريع الإلهي لا بما ينسجم مع هواه أو مشاعره أو عواطفه - وإن كنّا نعتقد بأنّ هواه ومشاعره وعواطفه كلّها لله تعالى وأنّه حصل على مرتبته العليا في القرب من الله سبحانه بحيث إنّه لا يمكن أن يفكّر بشيء يخالف الرضا الإلهيّ - كما يحصل في أيّامنا هذه، عند من يضعون القوانين بحيث يجيّرونها لمصالحهم ويبدّلون فيها بحسب أهوائهم وأمزجتهم.
 
يقول سبحانه: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾4. فالنبيّ أو المعصوم أو من ينوب عنهما -حيث لا بدّ للناس من أمير- هو الحاكم والكتاب شرعة الله تعالى لكي يكون القسط ويسود العدل بين الناس، فمنافع الحكم بالشريعة الإلهيّة تعود لعامّة الناس لا لمصالح فئويّة وشخصيّة كما يحصل عندما يضع بعض البشر الأنظمة والقوانين.
 
ومن يتأمّل في طريقة الإسلام في معالجة المشاكل الّتي يتعرّض لها الإنسان والمجتمع في هذه الحياة يجد أنّ الإسلام ينشد الغرض من خلق الإنسان وهو إيصاله عن اختيار إلى الكمال المعنويّ والفوز برضا الله عزّ وجلّ والقرب منه، وذلك لا
  

1- سورة المائدة، الآية: 44.
2- سورة المائدة، الآية: 45.
3- سورة المائدة، الآية: 47.
4- سورة الحديد، الآية: 25.
 
 
 
34

 

 

26

من الشَّريعة حفظ النِّظام

يتحقّق إلّا بتنمية الروح الإنسانيّة المودعة فيه وفطرته السليمة الّتي خلق عليها، وتعديل الغرائز المختلفة الكائنة فيه، ولذلك أرسل الله سبحانه رسله بالبيّنات وأنزل معهم الكتاب والحكمة والميزان لتحقيق هذا الغرض، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"، فجاء صلى الله عليه وآله وسلم بتعاليم أخلاقيّة سامية وعلّم الكتاب والحكمة، ودعا إلى تهذيب النفوس، وأمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وقد نجح - إلى حدّ بعيد - في هذا المجال، فكان في نفس كلّ إنسان مسلم متأدّب بآدابه وازع داخليّ يمنعه من الاقتراب من أموال الآخرين والنيل من أعراضهم والتعدّي على حقوقهم، وهذا غاية المنى من أيّ قانون يطلبه الناس. 
 
فلسفة الأحكام الجزائيّة
إلّا أنّ ذلك لوحده لا يكفي خاصّة مع وجود بشر منحرفين لديهم نزعة الإفساد في الأرض، يعتدون على غيرهم دون وجه حقّ، ولمعالجة هذا الأمر جعلت الأحكام القضائيّة والقوانين الجزائيّة في الشريعة الإسلاميّة لتكون سدّاً أمام من لم ينتفع بالآيات والحِكم ولم تؤثّر فيه المواعظ والآداب، فمال مع غرائزه النفسانيّة الّتي تحمل الإنسان على أن لا يقتنع بحقوقه وتدفعه إلى الظلم والتعدّي على حقوق الآخرين، فجعل "القاضي" لكي يكون مرجعاً للناس لفصل الخصومات وقطع المنازعات، وجعل "الحديد" فيه بأس شديد تستأصل به جذور الفساد وعناصر البغي في المجتمع. 
 
ثمّ يأتي البحث الأساس ليناقش احتمالات أنّه إذا كنّا في بلد ويمكن أن نقيم فيه دولة إسلاميّة، أو أقمنا فيه دولة إسلاميّة فلا مشكلة في مراعاة القوانين، فهي دولة شرعيّة والناس يتعاونون معها ويلتزمون أنظمتها وقوانينها وأحكامها وإجراءاتها، إلى آخره....
 
في ظلّ دولة غير إسلاميّة
لكنّ المسألة أنّه في مثل الزمن الّذي نحن فيه، المسلمون يعيشون في بلدان مختلفة من العالم، أي في بلد مختلط فيه مسلمون ومسيحيّون أو أتباع ديانات
  
 
35
 

27

من الشَّريعة حفظ النِّظام

أخرى حيث لا يكون من المتاح فيه إقامة دولة إسلاميّة، وبالتالي تقوم فيه دولة غير إسلاميّة فكيف يتصرّفون؟ والحال أنّ الحكومة موجودة بأنظمتها وقوانينها، وهذه القوانين الّتي تضعها أحياناً قد تكون متطابقة مع الأحكام الإسلاميّة وأحياناً قد لا تكون متطابقة بل متعارضة مع الأحكام الإسلاميّة. في هذا العصر هذا الابتلاء موجود. فما هو الموقف تجاه هذه القوانين؟
 
التعاطي مع القوانين الوضعيّة
الإسلام قدّم رؤية واقعيّة متقدّمة جدّاً. فهو يرى أنّ الهدف والهمّ الحقيقيّ هو الناس، فالناس في أيّ مجتمع يلزمهم حكومة ونظام لأجل مصالحهم، لأجل أمنهم واستقرارهم، وأيضاً لأجل تطوّرهم، وحتّى يتمكّنوا من حلِّ مشاكلهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة وغيرها. 
 
الإسلام لا يريد أن يتنازعوا، بل أن ينظّموا حياتهم بشكل أو بآخر. إذا توفَّر هذا في دولة إسلاميّة فهذا جيد، لكن إذا لم تكن هناك دولة إسلاميّة، وهناك قوانين لدى هذه الدولة غير الإسلاميّة، قوانين ترعى مصالح الناس، تنظِّم الشؤون الحياتيّة للناس، تؤمّن هذا الهدف بشكل أو بآخر، هنا لا يأتي الإسلام ويقول: لأنَّ هذه القوانين صادرة عن دولة غير إسلاميّة فهذه قوانين غير محترمة ولا يجب مراعاتها، اذهبوا واعملوا الّذي تريدونه؛ أي الفوضى، فإن هذا خلاف الهدف ولا يقبل به الإسلام.
 
جاء الإسلام وقدّم، بحسب اجتهاد فقهائنا ومراجعنا الكبار، قدّم فهماً، يتحدَّث عن شيء اسمه حفظ النظام العام، حفظ المصالح العامّة للناس وللمجتمع، عدم جواز الإخلال بالحياة العامّة والنظام العامّ والقوانين العامَّة الّتي ترعى شؤون الناس وحياتهم ومصالحهم. حتّى لو كان ذلك في ظلّ دولة غير إسلاميّة.
 
فلا ينبغي لنا بعد ذلك كلّه أن نخالف الأمر الّذي دعا إليه الشرع الحنيف، بل ينبغي أن نكون منتظمين خلفه ملتزمين بتوجيهاته، إذ بها ننال خير الدنيا وعافية الآخرة.
 
 
 
36
  

 

28

من الشَّريعة حفظ النِّظام

للمطالعة

الدين والقانون
1
قد آن الأوان أن نعترف بالحقيقة القائلة: بأنّ البشر لا يستطيعون وضع دستور لهم بدون هدى الله. وبدلاً من المضيّ في الجهود الّتي لا تأتي بنتائج مثمرة، علينا أن نعترف بالواقع لّذي يدعونا إليه الدكتور فرويدمان، حين يقول: "يتّضح بعد دراسة هذه الجهود المختلفة أنّه لا بدّ من هداية الدّين لتقييم المعيار الحقيقيّ للعدل. والأساس الّذي يحمله الدّين لإعطاء العدل صورة عمليّة ينفرد هو بها في حقّيته وبساطته"2. إنّنا نجد في الديّن جميع الأسس اللازمة الّتي يبحث عنها المشرّعون لصياغة دستور مثالي، ولكي يتّضح صدق ما نقوله، نأتي بالدراسة الوجيزة التالية في أهمّ مشكلات التشريع الإنسانيّ: 
 
(منها) مصدر التشريع، وأوّل الأسئلة وأهمّها بالنسبة لأيّ تشريع هو البحث عن مصدر هذا التشريع: من الّذي يضعه؟! ومن ذا يعتمده حتّى يصبح نافذ المفعول؟.
 
لم يصل خبراء التشريع إلى إجابة عن هذا السؤال حتّى الآن. ولو أنّنا خوّلنا هذا الامتياز للحاكم، لمجرّد كونه حاكماً، فليس هناك أساس نظريّ وعلميّ يجيز تمتّعه هو أو شركاؤه في الحكم بذلك الامتياز، ثمّ إنّ هذا التحويل من ناحية أخرى لا يجدي نفعا، فإنّ إطلاق أيدي الحكّام ليصدروا أيّ شيء لتنفيذه بوسيلة القوّة؟ أمر لا تُطيقه ولا تحتمله الجماهير.
 
ولو أنّنا خوّلنا سلطة التشريع لرجال المجتمع، فهم أكثر جهالة وحمقاً، لأنّ المجتمع، أيّ مجتمع! إذا نظرنا إليه ككلّ، لا يتمتّع بالعلم والعقل والتجربة، وهي أمور لا بدّ منها عند التشريع. فهذا العمل يتطلّب مهارة فائقة وعلماً وخبرة، وهو 
 

1- راجع: الإسلام يتحدّى، وحيد الدين خان، ص 159 - 161، بتصرّف.
2- Legal The ory , p. 450.
 
 
37
 

 


29

من الشَّريعة حفظ النِّظام

ما لا تستطيع العامّة من الجماهير الحصول عليه، كما أنّها، وإن أرادت، لن تجد الوقت الكافي لدراسة المشكلات القانونيّة وفهمها. وللخروج من هذه المشكلة توصّل رجال القانون إلى حلّ وسط، وهو أن يقوم (البالغون) من أفراد المجتمع بانتخاب ممثّلين لهم، وهؤلاء بدورهم يصدرون التشريعات باسم الشعب. ومن الممكن أن ندرك حماقة هذا الحلّ الوسط، حين نجد أنّ حزباً سياسيّاً لا يتمتّع إلّا بأغلبيّة 51 % من مقاعد البرلمان يحكم على حزب الأقليّة، الّذي يمثّل 49 % من أفراد المجتمع البالغين. والأمر لا يقف عند هذا الحدّ، لأنّ هذا الحلّ يحتوي على فراغ كبير جدّاً تنفذ منه أقليّة لتحكم على أغلبيّة السكان.
 
وهكذا نقف مرة أخرى أمام ظاهرة البحث عن أساس القانون ومصدره. والدّين يستجيب لهذا التحدّي الخطير، الّذي قد يدّمر سعادة البشريّة كلّها.. إنّه يقول: إنّ مصدر التشريع هو الله وحده، خالق الأرض والكون، فالّذي أحكم قوانين الطبيعة هو وحده الّذي يليق أن يضع دستور حضارة الإنسان ومعيشته. وليس هناك من أحد غيره سبحانه، يمكن تخويله هذا الحقّ. 

إنّ هذا الجواب معقول وبسيط لدرجة أنّه يصرخ قائلاً- لو استطعنا أن نسمع نداءه-: هل هناك أحد غير الله سبحانه وتعالى يستطيع أن يسوّي هذه المشكلة المصيريّة؟ 

لقد وصلت بنا هذه الإجابة إلى مكانها الحقيقيّ من التشريع والمشرّع، بعد أن استحال علينا المضيّ خطوة ما في ظلام الضلالة عن الهدى الحقيقيّ. إنّه لا يمكن قبول إنسان حاكماً ومشرّعاً للإنسان، ولا يستمتع بهذا الحقّ إلّا خالق الإنسان، وحاكمه الطبيعي: الله. (وقد يعطي الله سبحانه هذا الحقّ لمن يشاء كالرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، حيث يقول سبحانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا1، نعم، ولكن الرسول الّذي لا ينطق عن الهوى).


1- سورة الحشر، الآية:7.
 
 
 
38

 

30

برّ الوالدين

 يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه:
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا1
  

1- سورة الإسراء، الآيتان: 23 24.
 
 
39
 

31

برّ الوالدين

تمهيد
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في إحدى خُطبه: "فما خُلقتُ ليشغلني أكلُ الطيّبات كالبهيمة المربوطة همُّها علفُها، أو المرسلة شغلها تقمّمها تكترش من أعلافها وتلهو عمَّا يُراد بها"1 وهو الذبح.
 
إنَّ الله تعالى لم يخلق السماوات والأرض عبثاً ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ3، وكذلك الإنسان، بمعنى أنَّ هذا الإنسان غير متروك ليحيا حياته بطريقة عبثيّة، بل هو مسؤول ويُسأل عن أفعاله.
 
يقول تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾4. كلّ الناس مسؤولون عن أفعالهم، نعم، هناك استثناءات كالصبيّ والصبيّة غير المكلَّفين، والمجنون. أمّا الكلام هنا فعمّن تتوفّر فيهم الصفات الّتي حدّدها الإسلام للإنسان المسؤول؛ البالغ العاقل، الّذي وقع عليه قول ربّ العزّة سبحانه وتعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ* عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ5، أي عن عملهم بالتكاليف الإلهيّة، و﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ 
  

1- نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 3، كتاب رقم 45،ص 72.
2- سورة الأنبياء، الآية: 16.
3- سورة الصافات، الآية: 24.
4- سورة الحجر، الآيتان: 92 93.
 
 
41

 

 


32

برّ الوالدين

وُسْعَهَا﴾1 و﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ2
 
وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيَّته"3. فالأمير على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيّته. وربّ الأسرة راعٍ ومسؤول عن أهل بيته. والمرأة راعية أولادها، وهي مسؤولة عنهم، وهكذا كلّ منّا مسؤول بحسب موقعه من هذه الحياة.
 
وفي كلام آخر لأمير المؤمنين عليه السلام: "اتقوا الله في بلاده وعباده، فإنَّكم مسؤولون عن البقاع والبهائم"4. وهذا ما نسمّيه اليوم: الثروات الطبيعيّة والحيوانيّة. 
 
ومسؤوليّة الإنسان متعدّدة الاتجاهات: فهناك مسؤوليّات تجاه نفسه وبدنه وحاجاته الجسديّة، وتجاه روحه وحاجاته الروحيّة والنفسيّة. وهناك مسؤوليّة تجاه عائلته والأقرباء، وأهل قريته ووطنه، ومسؤوليّة تجاه البشريّة. وهناك مسؤوليّة تجاه الدِّين والقيَم.. ويجب أن يتحمّل الإنسان مسؤوليّته بقدر ما يستطيع، لأنّ الله لا يُكلّف نفساً إلّا وسعها، أي لا يأمرها بشيء إلّا دون طاقتها وإمكاناتها وقدرتها على الامتثال، وهذا من لطف الله تعالى على العباد.
 
مسؤلية الإنسان:
1ـ أن يعرف الإنسان تكليفه والمسؤوليّات الملقاة على عاتقه.
2ـ أن يعرف شكل وروح المسؤوليّة ليبادر ويعمل ويتحمَّل ويجاهد في تحمّلها.
3ـ أن يعمل ما تقتضيه هذه المسؤوليّة، حتّى إذا سُئل يوم القيامة تكون أجوبته كفيلة بأن تُدخله الجنّة، يقول سبحانه: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾5.


1- سورة البقرة، الآية: 286.
2- سورة البقرة، الآية: 185.
3- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 72، ص 38.
4- نهج البلاغة، ج 2، خطبة رقم 167، ص 80.
5- سورة آل عمران، الآية: 185.
 
 
42

 

33

برّ الوالدين

المسؤوليّة تجاه العائلة
أمّا موضوع حديثنا فهو المسؤوليّة تجاه العائلة. وهذا الموضوع ينبع من باب الحاجة إلى التوجيه النبويِّ الرساليّ، نتيجة ابتعاد مجتمعاتنا عن القيم الدينيّة والإلهيّة، ونتيجة تطوّر عالم الاتصالات وغزو التقاليد الغربيّة لمجتمعاتنا وتقاليدنا، فالوارد إلينا خطِر ومدمّر، وإن لم نكن على جهوزيّة للتصدّي له أو لم تكن لدينا المناعة المستمدّة من روح الدين والعلاقة مع الله تعالى، فإنّ السقوط في وادي الجهالة والضلالة حتميّ ومؤكّد إلا من رحم ربّي.

تتضمّن العائلة أو الأسرة، الّتي يسمّيها الإسلام بالحلقة الأضيق، الأب والأمّ والزوجة والأولاد. وهناك شبهة عند الناس في هذا الموضوع، فهم يفترضون أنّ الحلقة الأضيق هي الزوجة والأولاد. وبعضهم يفترض أنّهم عندما يستقلّون في حياتهم، فالوالد والوالدة أصبحا خارج الدائرة الأضيق، وهذا فهم خاطئ.
 
نأتي إلى النظرة الإسلاميّة في الموضوع الاجتماعيّ، إن على صعيد الفرد أو على صعيد العائلة، فرؤية الإسلام ترتكز إليهما بلحاظ:
 
1ـ أنّ الفرد هو أصل المجتمع، لذلك نجد كلّ تعاليم الإسلام وتشريعاته، وتعاليم الأنبياء عليهم السلام ، كلّها تركّز على تربيته وتنشئته.
 
2ـ أنّ العائلة هي في نظر رسالات السماء أساس تكوين أيّ مجتمع إنسانيّ، وفي أيّ مدينة أو أيّ وطن، أمّا في حالة أفراد مفكّكين، فيفقد المجتمع البشريّ طبيعته وينتج بدلاً عنه مجتمع منحرف لا يستطيع الاستمرار والبقاء.
 
فالعائلة، ولو في إطارها الضيّق، عندما تكون متعاونة متراحمة، فهي تشكّل خلايا البيئة الاجتماعيّة السويّة، وهذا ينعكس على المجتمع كلّه. 
 
من هنا تأتي التعاليم والرسالات لتؤكِّد على الزواج، الّذي هو مستحبّ، بل واجب في بعض الأحيان. الإسلام يتحدّث عن انتقاء الزوج والزوجة، وتسهيلات الزواج،
 
 
 
43
  
 

34

برّ الوالدين

وتقديمات الزواج، والحفاظ على الأسرة وبقائها، وتوزيع المسؤوليّات داخل الأسرة، كما يذكر تعقيدات موضوع الطلاق.
 
أزمة العائلة في الغرب
ابتلاءاتنا في المجتمع، هي فيما يأتينا من الغرب؛ ففي الغرب هناك مأساة على المستوى النفسيّ، برغم التطوّر العلميّ الهائل، وسنشهد خلال السنوات المقبلة، أزمات حادّة جدّاً في هذه الدول. إنّ ما نقرؤه من تقارير ودراسات حول مجتمعاتهم، والّذي يعكسونه في الأفلام السينمائية الّتي يصدّرونها إلى العالم العربيّ والإسلاميّ، كلّه يتحدّث عن تفكّك الأسرة، وارتفاع هائل في نسبة العزوبيّة. فلا توجد أسرة وعائلة طالما يظنّ الرجل والمرأة أنّهما يستطيعان تلبية حاجاتهما الجسديّة خارج إطار الأسرة، نتيجة الإباحيّة الّتي تنتشر في تلك المجتمعات. وهناك ارتفاع في نسبة الطلاق، ونسبة المولودين خارج الزواج الشرعيّ، حتّى خارج الزواج المدنيّ المتداول عندهم. وهذا ما يؤدّي إلى آثار روحيّة واجتماعيّة وأمنيّة سيّئة جدّاً.
 
هناك، عندما يكبر الوالدان، لا يسأل الأولاد عنهما، وإن سألوا يرمونهما في دور العجزة، وعندما يموتان تتكفّل البلديّة بدفنهما، وهذا ما يُريدون نقله إلى مجتمعنا!
 
وإذا دخلنا إلى الدائرة الأضيق (الأسرة) عندنا، ومن خلال بعض التوجيهات النبويّة والإسلاميّة، يمكن تجزئة هذه الدائرة الصغرى إلى ثلاثة أجزاء:
- الزوج والزوجة. 
- الوالدان. 
- الأولاد. 
 
الوالدان والعناية الإلهيّة
وسيقتصر حديثنا عن الوالدين اللّذين نالا عناية إلهيّة خاصّة؛ يقول الله عزّ
 
 
 
44
  

 

35

برّ الوالدين

وجلّ: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا1.
 
إنّ الله تعالى، انتقل وبشكل مباشر من الدعوة إلى عبادته وحده وعدم الشرك به إلى الأمر بالإحسان للوالدين، وهذا ما نراه متكرّراً قبل وفي كلّ آية ذكر فيها البرّ بالوالدين، وذلك لنرى المرتبة العظيمة لهما، فالبِرّ بالوالدين يرقى إلى مستوى توحيد الله سبحانه، ويضاف إلى هذا الفهم في إدراك أهميّة العلاقة بالوالدين أمور عديدة أيضاً منها:
 
1- الإرشاد والتوجيه الإلهيّ
إنّ الإرشاد والتوجيه الإلهيّ للإحسان بالوالدين، له مساحته الإنسانيّة، فلا يُشترط في الوالدين أن يكونا مسلمَين، حتّى إن كانا مشركَيْن فالمسؤوليّة لا تسقط؛ البِرّ والإحسان فرض واجب على كلّ مؤمن تجاه أبويه مؤمنين كانا أم مشركين من نفس المذهب أم من غيره، ملتزمين أم لا، من نفس الانتماء السياسيّ أو مخالفَين. فلا تجوز مقاطعة الأبوين على أيّ حال، حتّى ولو كانا مرتكبَين لذنب يوجب الخلود في النار ألا وهو الشرك بالله تعالى، يقول سبحانه: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا2
 
روي عن معمّر بن خلاد قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: أدعو لوالدي إذا كانا لا يعرفان الحقّ؟ قال: "ادعُ لهما وتصدّق عنهما، وإن كانا حيّين لا يعرفان الحقّ فدارهما، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنّ الله بعثني بالرحمة لا بالعقوق"3.
  

1- سورة الإسراء، الآيتان: 23 24.
2- سورة لقمان، الآية: 15.
3- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص159.
 
 
 
45

 

36

برّ الوالدين

2- مسؤوليّة حتّى آخر العمر
لا بدّ من التأكيد على المسؤوليّة تجاه الوالدين، وبالأخصّ عندما يعجزان وتنطوي سِنيّ شبابهما. فعندما يكبران في السنِّ تصبح المسؤوليّة أكبر، بل إنّ استمراريّة هذه المسؤوليّة تتأكّد حتّى بعد وفاتهما، من خلال التصدّق عنهما بالمال وإهدائهما ثواب العمل الصالح، أو على الأقلّ بالدعاء لهما بالرحمة، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾1.
 
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: أوصني، يا رسول الله.
 
فمن جملة الوصيّة قال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "ووالديك فأطعهما وبِرَّهما حيَّيْن كانا أو ميتين"2.
 
وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما يمنع الرجل منكم أن يبرَّ والديه حيَّيْن وميتين، يصلّي عنهما، ويتصدّق ويصوم ويحجّ عنهما، فيكون الّذي صنع لهما، وله مثل ذلك فيزيده الله ببرّه وصلته أجراً كثيراً"3. فالأب والأمّ هما نعمة، حيَّيْن أو ميّتيْن.
 
3- حقّ أمّك وحقّ أبيك
لقد أكّد الدِّين الإسلاميّ على مقام الوالدين، خصوصاً الأمّ الّتي أُعطيت مكانة مميّزة. فعن الإمام زين العابدين عليه السلام ، في رسالة الحقوق: "أمّا حقُّ أبيك فأن تعلم أنّه أصلك، وأنّك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ممّا يعجبك، فاعلم أنّ أباك أصلُ النعمة عليك فيه، فاحمد الله واشكره على ذلك، ولا قوّة إلّا بالله". 
 
"أمّا حقّ أُمّك فأن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يُعطي أحد أحداً، ووقتْك بجميع جوارحها ولم تُبالِ أن تجوع
  

1- سورة الإسراء، الآية:24.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 158.
3- م. ن، ص 159.
 
 
46
 

37

برّ الوالدين

وتُطعمك وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحى وتُظللك، وتهجر النوم لأجلك، ووقتك الحرّ والبرد لتكون لها، وأنّك لا تطيق شكرها إلّا بعون الله وتوفيقه"1. وقد روي ما مضمونه أنّ شخصاً حمل والدته على كتفيه وراح يطوف بها الكعبة، وعندما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأله: هل أدَّيت حقَّها، يا رسول الله؟
 
فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا ولا بزفرة واحدة"2، ويقصد بالزفرة الواحدة الوجعة الواحدة، أو الطلقة الواحدة ، الّتي تغشى الأمّ حين الولادة والوضع.
 
ومن الأحاديث المعروفة في حقّ الأمّ: "الجنّة تحت أقدام الأمهات.."3. و "أُمُّك ثمّ أُمُّك، ثمّ أبوك"4.
 
كما ورد أنّه جاء عن النبيّ موسى بن عمران عليه السلام: قال: "يا ربّ، أوصني. قال: أُوصيك بأُمِّك. قال: أوصني. قال: أُوصيك بأُمِّك. قال: أوصني. قال: أُوصيك بأُمِّك. قال: أوصني. قال: أُوصيك بأبيك"5.
 
وسأل أحدهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن حقّ الوالدين على ولدهما فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "هما جنَّتُك ونارُك"6.
 
كيفيّة برّ الوالدين
تأسيساً على هذا الفهم على مستوى الآيات والروايات، نخلص إلى أنَّ ما هو مطلوب من الأبناء تجاه الوالدين أمور عديدة أهمّها:
 
1ـ الحدّ الأدنى عدم إيذائهما وهذا أضعف الإيمان. ﴿َلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾7. ولو
  

1- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 453.
2- شرح رسالة الحقوق، حسن القبانجي، ص 547.
3- جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، ج 21، ص 428.
4- بحار الأنوار، المجلسي، ج 71، ص 49.
5- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 601.
6- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 4، ص 3674.
7- سورة الإسراء، الآية: 23.
 
 
47

 

38

برّ الوالدين

أنَّ الله وجد في الوقائع واللغة، أخفّ من كلمة ﴿أُفٍّ﴾ لاستخدمها في الآية.﴿وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾1: لا ترفع صوتك فوق صوتهما. لا تنظر إليهما نظر ماقت؛ ففي الحديث عن الصادق عليه السلام: "من نظر إلى أبويه نظرة ماقت لهما وهما ظالمان له لم يقبل الله له صلاة"2.
 
2ـ إطاعتهما وعدم معصيتهما في شيء إلا إذا كان تركاً لواجب أو فعلاً لحرام؛ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولو كان هذا المخلوق أمّاً أو أباً. أمّا موضوع الجهاد وهذا موضوع كبير وخطير فالجهاد الواجب لا يحتاج إلى إذن الوالدين، ومع ذلك فللوالدين مكانة عظيمة عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد ورد أنّه قد جاء أحدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: إنّي رجل شابٌ نشيط وأحبّ الجهاد ولي والدةٌ تكره ذلك. فماذا أفعل، يا رسول الله؟

فأجابه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ارجع فكن مع والدتك، فوالّذي بعثني بالحقِّ، لأنسُها بك ليلةً خير من جهادك في سبيل الله سنة"3.

طبعاً هذا بالنسبة للجهاد المستحبّ، ولا يتعلّق بالجهاد الواجب عيناً. 
 
3ـ الشكر والدعاء والاستغفار لهما.
 
4ـ احترامهما والإحسان إليهما: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾4, كتقبيل يَدَيهما إذ هي من العادات الطيّبة. روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "إيّاك وعقوق الوالدين، فإنّ ريح الجنّة توجد من مسيرة ألف عام"5. لكنّ العاقّ لوالديه لا يشمّ هذه الريح الطيّبة، فهو بعيد عن الجنّة مسيرة ألف عام.
 
يقول الحديث الشريف: "برُّوا آباءكم يبرُّكم أبناؤكم"6
  

1- سورة الإسراء، الآية: 23.
2- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 21، ص 501.
3- الكافي، الكليني، ج 2، ص 163.
4- سورة البقرة، الآية: 83.
5- الكافي، الكليني، ج 22.
6- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 364.
 
 
48

 

39

برّ الوالدين

للمطالعة

قصّة بقرة بني إسرائيل
في تفسير العياشي: عن البزنطي قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: "إنّ رجلاً من بني إسرائيل قتل قرابة له ثمّ أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثمّ جاء يطلب بدمه فقالوا لموسى إنّ سبط آل فلان قتلوا فلاناً فأخبرنا من قتله قال: إيتوني ببقرة ﴿قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾1 ولو أنّهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم، ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم ﴿قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ2 يعني لا صغيرة ولا كبيرة، ولو أنّهم عمدوا إلى أيّ بقرة أجزأتهم ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم ﴿قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾3 ولو أنّهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم ﴿قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ* قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾4
 
فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل، فقال: لا أبيع إلا بملء مسك5 ذهباً فجاؤوا إلى موسى عليه السلام ، وقالوا له ذلك، فقال اشتروها فاشتروها، وجاؤوا بها فأمر بذبحها ثمّ أمر أن يضربوا الميت بذنبها، فلمّا فعلوا ذلك حيي المقتول، وقال: يا رسول الله إنّ ابن عمّي قتلني دون من يدّعي عليه قتلي، فعلموا بذلك قاتله فقال لرسول الله موسى بعض أصحابه: إنّ هذه البقرة لها نبأ، فقال موسى: ما هو؟ 
 

1- سورة البقرة، الآية: 67.
2- سورة البقرة، الآية: 68.
3- سورة البقرة، الآية: 69.
4- سورة البقرة، الآيتان: 70 71.
5- المسك: يعني الجلد، ومسك البقرة يعني جلدها.
 
 
 
49

 

 


40

برّ الوالدين

قالوا إنّ فتى من بني إسرائيل كان بارّاً بأبيه، وإنّه اشترى بيعا، فجاؤوا إلى أبيه والأقاليد (مقاليد) تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك البيع، فاستيقظ أبوه، فأخبره، فقال له: أحسنت هذه البقرة هي لك عوض لما فاتك، قال: فقال له رسول الله موسى: "انظر إلى البرّ ما بلغ بأهله"1.
 

1- تفسير الميزان، ج1، ص204
 
 
 
50
 

41

أزواجاً من أنفسكم

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ1
  

1- سورة الروم، الآية: 21.
 
 
51
 

42

أزواجاً من أنفسكم

تمهيد
بعد أن تكلّمنا عن الأسرة، النواة الأولى في تركيب أيّ مجتمع بشريّ، وقلنا إنّ الحلقة الأضيق هي الأب والأمّ، الزوج والزوجة ثمّ الأولاد وتحدّثنا عن المسؤوليّة تجاه الأبوين نتكلّم الآن عن مسؤوليّة الزوجين تجاه بعضهما بعضاً.
 
قال تعالى في كتابه المجيد: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ1
 
إنّ الزواج حاجة فطريّة غريزيّة طبيعيّة عند الإنسان. وهو بحسب النظرة الإسلاميّة له هدف سامٍ، فالإسلام يريد للزواج أن يكون ناجحاً محتفظاً بعناصر الديمومة والبقاء والثبات. ومن أسس نجاح الزواج أن يكون كلٌّ من الزوج والزوجة سكناً للآخر (كما ورد في الآية) وهو ما يحقّق الهدف المنشود من خلال تحصيل الاستقرار النفسيّ والهدوء والطمأنينة بين الزوجين فيكونان عوناً لبعضهما بعضاً على مواجهة تحدّيات الحياة وعوناً على الآخرة.
 
ولقد حثّ الإسلام على أصل موضوع الزواج مقابل فكرة البقاء على العزوبيّة،
  

1- سورة الروم، الآية: 21.
 
 
 
53

 

43

أزواجاً من أنفسكم

وقد روي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما بني بناء في الإسلام أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من التزويج"1.
 
مقوّمات الزواج الناجح
ومن أجل الوصول إلى زواج ناجح نبّه الإسلام إلى عدّة مسائل وأكّد على مراعاتها، ومن هذه المسائل:
 
أوّلاً: أكّد الإسلام على ضرورة تأسيس الزواج على أُسس صالحة صحيحة، من خلال الابتعاد عن الإكراه أو إجبار أحد الطرفين على الزواج من الآخر أو الطرفين معاً، وهو ما يحصل عادة بسبب علاقات القرابة مثلاً أو تجميع الثروات، وهو ما يؤدّي غالباً إلى فشل الزواج. لذلك نجد في الأحكام الشرعيّة نهياً عن إكراه الطرفين الذكر والأنثى، وضرورة الرضا والقبول بالشريك الآخر لأنّ في هذا الزواج حياتُهما وفيه سعادتُهما.
 
وكما أكّد الإسلام على ضرورة اختيار الزوجين لبعضهما بعضاً، قام أيضاً بعمليّة إرشاد واسعة جدّاً من منطلق: الأساس الّذي ينطلق منه الفرد لاختيار شريك حياته، بعيداً عن التقاليد والعادات الجاهليّة, والّتي للأسف ما زلنا نراها في أيّامنا هذه؛ فالأهل يذهبون عادةً باتجاه الغنى أو الوجاهة ويتجنّبون الفقير والفقيرة. وقد يبحثون عن جمال الشكل ومعايير الجسد الخارجيّة. لذلك جاء الإسلام ليؤكّد على صفة الصلاح في الرجل والمرأة، الّتي تعني الدين وحُسن الخُلُق والعفّة؛ لأنّ المال لا يدوم، وكذلك الجمال والجاه.
 
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إذا تزوّج الرجل المرأة لجمالها أو لمالها وكل إلى ذلك، وإذا تزوّجها لدينها رزقه الله المال والجمال"2.
  

1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج14، ص3.
2- م.ن، ج20، ص49.
 
 
54
 
 

44

أزواجاً من أنفسكم

وعن الإمام الرضا، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "النكاح رقّ، فإذا أنكح أحدكم وليدة فقد أرقها، فلينظر أحدكم لمن يرقّ كريمته"1.
 
وقد روي عن الإمام الباقر عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه ، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"2.
 
ثانياً: السعي للوصول إلى سنّ مبكرة للزواج وتسهيل ما قد يعترضه من تعقيدات، إذ يكفي رضا الطرفين ورضا وإذن وليّ الأمر، في شروط معيّنة، ليتمّ عقد الزواج. 
 
وهناك للأسف عادة قديمة ما زالت متّبعة حتّى اليوم وهي غلاء المَهْر، لذا جاء الإسلام ليقول: أفضل نساء أُمّتي من كان مَهْرُها متواضعاً، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل نساء أمّتي أصبحهنّ وجهاً وأقلّهنّ مهرا"3. فمعيار الزواج الناجح ليس مرتبطاً لا بالمهر ولا بالمال، فالمال لا يشكّل ضمانة؛ لأنّ الزوج الّذي لا يملك الخلق والدين قد يضطر المرأة إلى أن تبذل له مهرها وتزيد عليه حتّى يطلّقها.
 
إنّ الزواج المبكر يساعد على الثبات والاستقرار والطمأنينة، وإذا كانت بعض الزيجات المبكّرة فاشلة فليس السبب التبكير في الزواج، بل العجلة والتسرُّع، أي عدم حسن اختيار الزوج أو الزوجة، كما هو الحال أيضاً في الزيجات غير المبكّرة.
 
ثالثاً: لكي يحافظ الإسلام على العائلة عقّد عمليّة الطلاق، ولكنّه لم يسدّ الباب نهائيّاً، كما في بعض المذاهب والديانات الأخرى. فالإسلام فتح باب الطلاق ووضع قواعد له، ومنها أنّه يحتاج إلى شاهدين عَدْلين، ولهذين الشاهدين دور مهمّ في تلطيف الأجواء بين الزوجين المتخاصمين، فقد يعتذر الزوجان عمّا بدر منهما من تسرُّع، ويحلُّ الوفاق محلَّ الطلاق. لقد شرّع الإسلام الطلاق وحلّله على الرغم من
 

1- وسائل الشيعة، ج20، ص76.
2- م.ن، ج20، ص79.
3- الكافي، ج5، ص324.
 
 
55

45

أزواجاً من أنفسكم

أنّه أبغض الحلال، وقد روي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"1، ذلك أنّ بعض الحالات الزوجيّة لا يحلّها إلّا الطّلاق.
 
رابعاً: روح العلاقة الّتي يجب أن تكون بين الزوج والزوجة. وللنظر في هذه العلاقة هناك عنوانان: قانونيّ وفقهيّ. فعندما تُعدَّد حقوق الزوجة وتُعدَّد حقوق الزوج، وتُحدَّد واجبات كلّ منهما تجاه الآخر، فهذا ما يُسمّى بالعنوان القانونيّ أو الحقوقيّ. أمّا العنوان الثاني الفقهيّ فهو أرفع من الأوّل، لأنّه العنوان الروحيّ والأخلاقيّ. العنوان الأوّل ليس هو الأصل ولا نلجأ إليه إلّا عندما يكون هناك مشكلة أو نزاع. أمّا العنوان الثاني فهو الأصل الّذي أراد منّا الإسلام أن نقيم بناءنا الزوجيّ على أساسه، وهو قائم على الحبّ والاحترام والتراحم والتعاون والانسجام بين الزوجين حتّى يصبحا كأنّهما نفس واحدة، كما في تعبير الآية القرآنيّة: ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾2 وقوله سبحانه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾3، وقد روي عن الإمام السجّاد عليه السلام في رسالة الحقوق: "وحقّ الزوجة أن تعلم‏ أن الله عزّ وجلّ جعلها لك سكناً وأنساً".
 
الصبر على الأذى 
أمّا الإيذاء فله قدر من العقاب، والصبر على الأذى له قدر من الثواب. فعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل الله صلاتها ولا حسنةً من عملها حتّى تعينه وترضيه، وإن صامت الدهر..."4.
 
 وفي الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام: "ملعونة ملعونة امرأة تؤذي زوجها وتغمُّه، وسعيدة سعيدة امرأة تكرم
  

1- كشف اللثام، الفاضل الهنديّ، ج8، ص49.
2- سورة النحل، الآية: 72.
3- سورة الروم، الآية:21.
4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج73، ص369.
 
 
56
 

46

أزواجاً من أنفسكم

زوجها ولا تؤذيه وتُطيعه في جميع أحواله"1، طبعاً إلّا في معصية الله لأنّه "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". وفي المقابل، على الرجل مثل ذلك الوِزْر والعذاب إذا كان مؤذياً ظالماً لها، حتّى ولو صام الدهرَ كلَّه.
 
أمّا الصبرَ على سوء الخُلُق، فعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "... ومن صبرَ على سوء خُلُق امرأته واحتسبه أعطاه الله بكلّ مرّة يصبر عليها من الثواب مثل ما أعطى أيوب عليه السلام على بلائه، وكان عليها هي من الوِزر في كلّ يوم وليلة مثل رمل عالج..."2.
 
الزواج يقرّب إلى اللّه عزّ وجلّ
لقد حصَّن الإسلام المرأة ودعا للمحافظة على حقوقها وكرامتها وموقعيّتها الاجتماعية واحترامها كإنسان له حقوق وعليه واجبات. الإسلام يقول: إذا أقمتم البناء الزوجيّ الّذي تنشده فطرة الإنسان وغريزته على أسس صحيحة فهذا يُعينكم في دينكم ودنياكم وآخرتكم، لذلك أكّدت الروايات على أنّ الإنسان المتزوّج قدرته على تجنّب المعاصي أكبر من قدرة العازب. وذلك لطمأنينتُه وسكون نفسه
 
﴿لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾، كما أنّ قيامه وصلاته وصيامه وطاعاته أفضل. والأهمّ من كلّ ما تقدَّم هو تحويل العلاقة الزوجيّة إلى عبادة، وإلى واحدة من المصاديق الّتي تُقرِّب من الله عزّ وجلّ.
 
وأعطى الله تعالى العلاقة بين الزوجين بُعداً أخروياً، وبالتالي فهناك عقاب في حال التخلُّف عن الواجبات الزوجيّة أو التّراخي أو الإيذاء. إذاً، أدخل الله تعالى مؤسَّسة الزّواج في دائرة الثواب والعقاب الأخروي، وفي هذا الموضوع سألت أُمُّ سلمة كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن فضل النساء في خدمة أزواجهنَّ، فقال لها: "أيّما امرأة رفعت من منزل زوجها شيئاً من موضع إلى موضع
  

1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج100، ص253. 
2- م. ن، ج73، ص367.
 
 
57

 

 


47

أزواجاً من أنفسكم

تُريد به صلاحاً نظر الله عزّ وجلّ إليها، ومن نظر الله إليه لم يُعذِّبه"1، وعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "أيُّما امرأة خدمت زوجها سبعة أيّام، غَلَق الله عنها سبعة أبواب من النار، وفتح لها ثمانية أبواب من الجنّة تدخل من أيّها شاءت"2.
 
وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنّ لي زوجة إذا دخلت تلقّتني، وإذا خرجت شيّعتني وإذا رأتني مهموماً قالت: ما يهمّك؟ إن كنت تهتمّ لرزقك فقد تكفّل به غيرك، وإن كنت تهتمّ بأمر آخرتك فزادك الله همّاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بشّرها بالجنّة وقل لها: إنّك عاملة من عمّال الله ولك في كلّ يوم أجر سبعين شهيداً"3.
 
وفي المقابل، عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ الرجل ليؤجر في رفع اللقمة إلى فيّ امرأته"4، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "جلوس المرء عند عياله أحبُّ إلى الله من اعتكاف في مسجدي هذا"5.
 
نسأل الله تعالى أن يجعلنا رحماء فيما بيننا قوّامين بالقسط، منصفين، عطوفين، لا نحيف على أزواجنا ولا نقصّر في الأخذ بأيدي عوائلنا إلى ساحة رضا الله سبحانه، إنّه سميع مجيب.
  

1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 20، ص 172.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 2، ص 1186.
3- مكارم الأخلاق، ص‏215.
4- ميزان الحكمة، ج2، ص1186.
5- م.ن.
 
 
58
 

48

أزواجاً من أنفسكم

للمطالعة

الأسوة في بيت الزوجيّة
روي عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة عليها السلام جالسة عند القدر وأنا أنقّي العدس، قال: يا أبا الحسن، قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: اسمع، وما أقول إلّا ما أمر ربّي، ما من رجل يعين امرأته في بيتها إلّا كان له بكلّ شعرة على بدنه، عبادة سنة؛ صيام نهارها وقيام ليلها، وأعطاه الله من الثواب ما أعطاه الله الصابرين، وداود النبيّ ويعقوب وعيسى عليهم السلام.
 
يا عليّ من كان في خدمة عياله في البيت ولم يأنف، كتب الله اسمه في ديوان الشهداء، وكتب الله له بكلّ يوم وليلة ثواب ألف شهيد، وكتب له بكلّ قدم ثواب حجّة وعمرة، وأعطاه الله تعالى بكلّ عرق في جسده مدينة في الجنّة. يا عليّ، ساعة في خدمة البيت، خير من عبادة ألف سنة، وألف حجّ، وألف عمرة، وخير من عتق ألف رقبة، وألف غزوة، وألف مريض عاده، وألف جمعة، وألف جنازة، وألف جائع يشبعهم، وألف عار يكسوهم، وألف فرس يوجهه في سبيل الله، وخير له من ألف دينار يتصدّق على المساكين، وخير له من أن يقرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ومن ألف أسير اشتراها فأعتقها، وخير له من ألف بُدنة يعطي للمساكين، ولا يخرج من الدنيا حتّى يرى مكانه من الجنّة. 
 
يا عليّ، من لم يأنف من خدمة العيال دخل الجنّة بغير حساب.
 
يا عليّ خدمة العيال كفّارة للكبائر، ويطفى‏ء غضب الربّ، ومهور حور العين، ويزيد في الحسنات والدرجات.
 
يا عليّ، لا يخدم العيال إلّا صدّيق أو شهيد أو رجل يريد الله به خير الدنيا والآخرة"1.


1- مستدرك الوسائل، ج‏13، ص‏42
 
 
 
59
 
 

49

الأبناء محبَّة.. ومسؤوليَّة

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ1
  

1- سورة التحريم، الآية: 6.
 
 
 
61
 

50

الأبناء محبَّة.. ومسؤوليَّة

تمهيد
تحدّثنا في الدرس السابق عن الزواج وأهمّيته وذكرنا مقوّمات الزواج الناجح. وفي السياق ذاته واستكمالاً للحديث عن العائلة نصل للحديث عن الأولاد. لقد شملت الروايات الزوجة والأولاد معاً وتحدّثت عن التقرّب من العيال والذود عنهم وإرضائهم.
 
لقد حثّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم على الزواج والإنجاب لأنّ هذا يشكِّل ضمانةً واستمراريّة للبشريّة. وقد ورد أنّه من سعادة المرء أن يكون له ولد صالح يبقى بعده، يفي عنه الدّين ويقضي عنه الصلاة والحجّ، ويهدي إليه ثواب الأعمال. وقد روي أنّ عيسى ابن مريم عليه السلام مرّ بقبر يُعذَّب صاحبه وكان للمسيح معجزات كثيرة، منها الاطلاع على ما في القبور ثمّ مرّ به بعد عام فإذا هو لا يعذّب، فقال: "يا ربّ، مررت بهذا القبر عام أوّل وكان يُعذَّب صاحبه، ومررتُ به هذا العام، وهو ليس يُعذَّب، فأوحى الله جلّ جلاله إليه: يا روح الله، قد أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً وآوى يتيماً، فغفرتُ له بما عمل ابنه"1.
 
إذاً الولد الصالح هو ضمانة للمرء بعد موته. وبالمقابل، فإنّ الروايات نفسها
  

1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 16، ص 338.
 
 
63
 

 

 


51

الأبناء محبَّة.. ومسؤوليَّة

تقول إنّ "ولد السوء يهدم الشرف ويشين السلف"1. فالمسؤوليّة تجاه الأولاد كبيرة على صعيد الدنيا والآخرة، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ2. فالإنسان مسؤول عن دنيا أولاده وآخرتهم.
 
حبّ الأطفال أفضل الأعمال
لقد أكّد الإسلام على قواميّة الحبّ في العلاقة بين الأهل والأولاد بحيث يبرز الوالدان المودّة والرحمة نحو أبنائهما، إلى حدّ التصابي، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان له صبي فَلْيَتصابَ له"3
 
وفي الحديث: "قال موسى بن عمران عليه السلام: يا ربّ، أيّ الأعمال أفضل عندك؟ فقال: حبّ الأطفال"4. مع أنّ هذا شيء فطريّ لكنّ الله تعالى يصبغه بصبغة دينيّة، ويُعطي عليه أجراً، وهذا من كرم الله عزّ وجلّ.
 
وقد روي أنّه في يوم من الأيّام خرج على الصحابة عثمان بن مظعون ومعه صبيٌّ له يُقبِّله. فرآه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: "ابنك هذا؟ قال: نعم، قال: أتحبّه يا عثمان؟ قال: إي والله يا رسول الله إنّي أحبُّه، قال: أفلا أزيدك له حبّاً؟ قال: بلى، فداك أبي وأمّي. قال: إنّه منْ يُرضي صبيّاً له صغيراً من نسله حتّى يرضى، ترضّاه الله يوم القيامة حتّى يرضى"5. وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله ليرحم العبد لشدّة حبّه لولده"6. وعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "من قبَّل ولده كتب الله تعالى له حسنة، ومن فرَّحه فرَّحه الله يوم القيامة، ومن علَّمه القرآن دُعي بالأبوين فيأتيان
  

1- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 15، ص 215.
2- سورة التحريم، الآية: 6.
3- ميزان الحكمة، ج 4، ص 3670.
4- بحار الأنوار،العلامة المجلسي، ج 101، ص 97.
5- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 4، ص 3669.
6- الكافي، الكليني، ج 6، ص 50.

 
64
 

52

الأبناء محبَّة.. ومسؤوليَّة

بحلَّتين يضيء من نورهما وجوه أهل الجنّة"1
 
وروي أيضاً أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبّل الحسن والحسين عليه السلام ، فاستغرب أحدُ الأشخاص، واسمُه الأقرع بن حبوة، تصرُّف النبيّ قائلاً: إنّ لي عشرة أبناء ما قبَّلتُ واحداً منهم قَطّ. فغضب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتّى التمع (تغيَّر) لونُه، وقال للرجل: "إن كان الله قد نزع الرحمة من قلبك فما أصنع بك؟ من لم يرحم صغيرنا ويعزِّز كبيرنا ليس منّا"2. هذا هو دينُنا دين الرحمة بالصغار، والتكريم وتقدير الكبار.
 
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: دخلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والحسن والحسين عليه السلام على ظهره، وهو يجثو لهما ويقول: "نِعمَ الجملُ جملكما، ونِعمَ العِدلانِ أنتما!"3. وقد تكرّرت هذه الحادثة أمام الصحابة الآخرين، فقال أحد الصحابة: رأيتُ الحسن والحسين عليه السلام على عاتقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقلت: نعمَ الفرس لكما! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ونِعمَ الفارسان هما"4.
 
عدم التمييز بين الأبناء والبنات
كانت فكرة وأد البنات منتشرة قبل الإسلام، وكان وجه الجاهليّ يسودّ إذا بُشِّر بالأنثى، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ5. فأتى الإسلام وحرَّم هذا الأمر، وأظهر حقوقاً للمرأة طالما كانت محرومة منها، ودعا إلى احترامها كأمّ وأخت وبنت، فعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تكْرَهوا البنات، إنَّهنَّ المؤنسات الغاليات"6. والتجربة تقول إنّه عندما يكبر الوالدان غالباً
  

1- الكافي، الكليني، ج6، ص 49.
2- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 43، ص 283.
3- م.ن.
4- م.ن.
5- سورة النحل، الآيتان: 58- 59.
6- ميزان الحكمة، ج4، ص 3672.
 
 
65

 

53

الأبناء محبَّة.. ومسؤوليَّة

ما تكون الفتيات أكثر عطفاً واهتماماً وبِرّاً بهما. وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "من وُلدت له ابنة فلم يؤذها ولم يُهنها ولم يُؤثر ولده عليها أدخله الله بها الجنّة"1. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "نِعمَ الوِلدُ البنات المخدّرات! من كان عنده واحدة جعلها الله له ستراً من النار"2. وعن الإمام الصادق عليه السلام: "البنات حسنات، والبنون نعمة، فالحسنات يُثاب عليها، والنِّعَم مسؤول عنها"3.
 
مسؤوليّة التربية والعناية
ومن الأمور الهامّة مسؤوليّة تربية الأولاد وتعليمهم وإصلاح اعوجاجهم إذا اعوجُّوا، وذلك بمحادثتهم وإقناعهم وليس بالضرب، بل بالإفهام، وكذلك بالقدوة الحسنة؛ أي أن يكون الأب والأُمّ قدوة في البيت، فيتأثّر الولد بسلوك أهله وعاداتهم، وكذلك بأخذ الأولاد إلى المساجد وتعليمهم الصلاة وتعويدهم على الصيام منذ صغرهم، وتعليمهم القرآن واصطحابهم إلى مجالس العزاء؛ فإنّ لهذا كلّه تأثيراً كبيراً في تنشئة الأولاد ومستقبلهم.
 
ثمّ لا بدّ من العناية بالأولاد صحيّاً وجسديّاً، فضلاً عن إطعامهم وإكسائهم، فيوم القيامة سنُسألُ عن هذه الأمور كما نُسألُ عن صلاتنا وصيامنا.
 
اعدلوا بين أولادكم
لا بدّ من العدل بين الأولاد، فلا يجوز تفضيل ولد على ولد في المعاملة، فعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"4. ستُسألون عن التمييز بين أولادكم، وقد يؤدّي ذلك إلى معاصٍ وانحرافات وأحياناً إلى جرائم، ويمكن أن يتحوّل ذلك إلى حسد بين الإخوة فيكيد بعضهم لبعض. فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ساوُوا بين
  

1- م.ن.
2- م.ن.
3- م.ن.
4- جواهر الكلام، الشيخ الجواهري، ج 28، ص 181.

 
66

 


54

الأبناء محبَّة.. ومسؤوليَّة

أولادكم في العطية، فلو كنتُ مفضلاً أحداً لفضَّلت النساء"1. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله تعالى يحبّ أن تعدلوا بين أولادكم حتّى في القُبَل"2.
 
هكذا نتصرّف إذا أردنا أن يكون لنا أولاد صالحون ليكونوا عوناً لنا في الدنيا وذخراً في الآخرة. 
 
وهناك أولاد هم ذُخر لأهلهم في الآخرة حتّى قبل موت الأبوين، وهم الشهداء. فمن المعروف عندنا أنّ الشهداء يُرزقون حقّ الشفاعة، فعندما يُوتَى بالشهيد إلى باب الجنّة يقف ويقول: لا أدخلها إلّا وأبواي معي. فالشهداء في ثقافتنا هم ذُخر لآبائهم يوم القيامة، وعزٌّ وكرامة لهم في الدنيا، فطوبى لرحم حمل بهؤلاء العظماء وهنيئاً لأصل تفرّع منه هذا الغصن المثمر إيماناً وتضحيةً وعزّاً وشفاعة.
 
لماذا هم فتنة؟
يبقى أن نتحدّث عن شبهة موجودة في أذهان الناس، مثلاً هناك آيات وروايات تعبّر عن الأبناء بالفتنة كقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾3، والفتنة تعني أنّ علينا أن نهرب منها. هذا شرح خاطئ. وفي بعض الآيات والروايات أنّ الأزواج والأولاد أعداء لكم. ويأتي أحياناً الشرح ليقول: لا يجوز أن يجتمع في قلبك حُبَّان: حبّ الله وحب آخر. فإذا وُجد في قلبك حبّ لوالديك أو لزوجتك وأولادك فهذا يتنافى مع وحدانيّة حبّ الله.
 
وجواباً عن الشبهة الأولى نقول: الفتنة تعني الاختبار والامتحان. فأموالنا وأولادنا فتنة لنا بمعنى ابتلاء واختبار، فالله تعالى يرى كيف نتصرّف بهذه النِّعَم الّتي أغدقها علينا، هل في الخيرات والطاعات؟ أم في الموبقات؟ وكذلك في شأن الأولاد، هل نربّيهم تربية صالحة؟ أم نهملهم؟
  

1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج4، ص 3673.
2- م.ن.
3- سورة الأنفال، الآية:28.
 
 
67
 
 

55

الأبناء محبَّة.. ومسؤوليَّة

 أمّا الشبهة الثانية - موضوع الحبّ - فإنّه سبحانه أوجب على الإنسان أن يحبّ والديه، فحبّ الوالدين من حبّ الله، وكذلك حبّ الزوجة والأولاد. أمّا عندما يصغي الأبوان لرغبات أولادهما المحرّمة فيعصيان الله تعالى بسبب حبّ الأولاد، فهذا هو الحبّ الّذي ينافي حبّ الله. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وُلد يتيماً، وهو يحبّ أهل بيته حبّاً جمّا، ومع ذلك ففي معركة بدر دفع إلى المعركة أحبّ الناس إليه، ابن عمّه علياً عليه السلام وعمَّه الحمزة عليه السلام ، وصحابة الرسول كانوا يقدّمون أبناءهم أمامهم ليُقتلوا بين يدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك كان أمير المؤمنين عليه السلام يقدّم أولاده إلى المعركة، ولم يبخل بهم. وأصحاب الإمام كذلك، فهذا حجر بن عدي (رض) رفض التبرُّؤ من الإمام عليّ عليه السلام. ولمّا هُدِّد بالقتل قدَّم ابنه أمامه للاستشهاد، لأنّه خشي إن هو قتل أوّلاً أن يضعف قلب ابنه فيتبرَّأ من أمير المؤمنين عليه السلام !
 
وختاماً نسأل الله سبحانه وتعالى ما سأله إبراهيم الخليل عليه السلام:﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾1.
  

1- سورة إبراهيم، الآيتان: 40 41.
 
 
68

 

56

الأبناء محبَّة.. ومسؤوليَّة

للمطالعة

حبّ الأبناء في كربلاء
عندما نتأمل في واقعة كربلاء فإنّنا نرى سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام قدَّم للشهادة أولاده وإخوانه وأصحابه وهم من أحبّ الناس إليه، ولم يبخل بأحد منهم. وأوّل من أذن له في القتال ابنه عليّ الأكبر، هذا الشابّ الّذي كان الحسين عليه السلام وكلّ أهل البيت عليه السلام يحبّونه حبّاً شديداً لأنّه أشبه الناس برسول الله خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً. فعندما استشهد عليّ الأكبر عليه السلام قال الحسين عليه السلام: "على الدنيا بعدك العفا يا بنيّ"1. هذا فلذة كبد الحسين عليه السلام ، ولكنَّ حبّه له لم يمنعه من تقديمه للشهادة إعلاءً لكلمة الله وإعزازاً لدينه. إنّ هذا الحبّ هو عين حبّ الله.
 
في حبّ الله2
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أحبّ الله عبداً من أمّتي قذف في قلوب أصفيائه وأرواح ملائكته وسكّان عرشه محبّته ليحبّوه، فذلك المحبُّ حقّاً. طوبى له ثمّ طوبى له، وله عند الله شفاعةٌ يوم القيامة".
 
عن الإمام الصادق عليه السلام: "حبّ الله نارٌ لا يمرُّ على شيء إلا احترقه ونور الله لا يطلع على شيء إلا أضاء...".
 

1- إقبال الأعمال، ابن طاووس، ج 3، ص 343.
2- مصباح الشريعة، ص192.
 
 
 
69

 

57

الصدقة

 يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه:
﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ1
  

1- سورة التوبة، الآية: 104.
 
 
71

58

الصدقة

 تمهيد
من أهمّ المواصفات أو الصفات الّتي أحبّها الله سبحانه وتعالى وأرادها في عبده المؤمن إلى جانب إقامة الصلاة، الّتي هي - معراج المؤمن - صفة الإنفاق، وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم إمّا بتعابير الإنفاق ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ﴾1، أو بتعابير إيتاء الزكاة: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾2، أو بتعابير الصدقة والتصدّق و﴿الْمُصَّدِّقِينَ3. لكن، حتّى لا نكرّر الكلمات فلنقل التصدّق، لأنّ عنوان الصدقة هو عنوان واسع جدّاً.
 
طريق تزكية النفس
 
التأكيد القرآنيّ والنبويّ على موضوع التصدّق هو تأكيد كبير, والرسالة الإلهيّة السماويّة - من خلال تركيزها على هذه الصفة - تريد أن تحقّق غرضين أو هدفين دفعةً واحدة: 
 
الغرض الأوّل يتعلّق بنفس الإنسان، لأنّ الإنسان الّذي يُنفق ويتصدّق ويُعطي من ماله ويُجاهد بماله - هذا الإنسان - يتطهّر ويتزكّى من خلال هذا الإنفاق. ولذلك،
  

1- سورة البقرة، الآيات: 261 262 265.
2- سورة المائدة: الآية: 55.
3- سورة الحديد، الآية: 18.
 
 
73

 

59

الصدقة

ورد في الآية الكريمة ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا1
 
هناك الكثير من المؤمنين الّذين يهتمّون بالسير والسلوك والأعمال الّتي تقرّب إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن بنفس الوقت يمكن أن يتطرّقوا إلى أعمال قد تكون شاقّة جسديّاً. في حين أنّ الله سبحانه وتعالى وهو الأعلم بالنفس الإنسانيّة دلّنا على طريق للتزكية والتطهّر يحتاج سلوكه إلى كثير من العناء، وهذا الطريق هو طريق الإنفاق في سبيل الله, والّذي ينتج عنه طُهر روحيّ ومعنويّ في الدنيا ومقام عليّ في الآخرة.
 
وعندما ننفق، فنحن المستفيدون في الدنيا قبل الآخرة، فقد يظنّ البعض ممّن لا يؤمن بالغيب أنّه لو أنفق من هذا المال الّذي بحوزته وأعطى منه فقيراً أو محتاجاً فإنّ مقدار هذا المال الموجود لديه سينقص- وذلك طبعاً بحسابات أهل الدنيا-إلا أنّه في الواقع وحقيقة الأمر فإنّ هذا المال يزيد بتزكية الله له وجعل البركة فيه، يقول تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ2، بل ودفع البلاء الّذي قد يكلّفني الكثير من مالي الّذي احتفظت به ولم أنفق بعضاً منه، كأن أمرض مرضاً شديداً، كان بإمكاني دفعه لو أنفقت في سبيل الله، وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "الصدقة تدفع البلاء المبرم فداووا مرضاكم بالصدقة"3.
 
من المسؤول؟
الغرض الثاني هو المساهمة في معالجة المشاكل الاجتماعيّة المعيشيّة المستعصية الّتي يعيشها الناس عموماً منذ بدء الخليقة إلى الآن وإلى يوم تكون لله تعالى فيه مشيئة أخرى. في كلّ مجتمع بشريّ فقراء وأغنياء، مكتفون ومحتاجون، وأناس قادرون على العمل وآخرون عاجزون عن العمل, وإلخ. 
  

1- سورة التوبة، الآية: 103.
2- سورة البقرة، الآية:276.
3- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص433.
 
 
 
74
 
 
 

 

 


60

الصدقة

في الفهم الإسلاميّ، الدولة مسؤولة والمجتمع الّذي يعيش فيه هؤلاء الفقراء والعاجزون والأيتام والمساكين هو أيضاً يتحمّل مسؤوليّة من هذا النوع، وأمّا ثقافة إيتاء الزكاة والتصدّق والإنفاق والجهاد بالمال ورعاية أو تكفّل الأيتام وقضاء حوائج المحتاجين وما شاكل، فهي لتعالج جانباً كبيراً من هذه المشكلة، ولكن بخلفيّة ثقافيّة إيمانيّة أخلاقيّة إنسانيّة، وهذا ما ورد الحثُّ عليه في الكثير من الآيات والروايات.
 
يُربي الصدقات
الله سبحانه وتعالى - من باب الترغيب للمتصدّقين - يقول لهم: أنا الّذي آخذ منكم الصدقات بشكل مباشر، الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير أو المحتاج أو اليتيم: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾1. وقد ورد في الروايات ما يؤكّد هذا المعنى. 
 
ومن باب التشجيع أيضاً، وعد الله سبحانه وتعالى في القرآن المجيد بأنّه هو الّذي يربي الصدقات. عندما يدفع الواحد منّا صدقة، هذه الصدقة تنمو وتنمو إلى أن يحشر يوم القيامة، فيفاجأ يوم القيامة كأنّه تصدق بمثل جبل أحد كما ورد في بعض الروايات، في حين أنّ كلّ ما تصدّق به هو فقط هذا المبلغ المتواضع الّذي خرج منه. لكنّ الله سبحانه وتعالى وعد بأن يربي الصدقات وأن ينمّيها تشجيعاً على الإنفاق لعباده. وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "تصدّقوا ولو بشقّ تمرة، واتقوا النار ولو بشقّ تمرة، فإنّ الله عزّ وجلّ يُربيها لصاحبها كما يُربي أحدكم فصيله حتّى يوفيه إيّاها يوم القيامة، وحتّى يكون أعظم من الجبل العظيم"2
  

1- سورة التوبة، الآية: 104.
2- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج93، ص122.
 
 
 
75

 

61

الصدقة

وفي الحديث القدسيّ، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "قال الله تعالى: إنّ من عبادي من يتصدّق بشقّ تمرة فأربيها له كما يُربي أحدكم فلوَه، حتّى أجعلها مثل جبل أحد"1.
 
من بركات الصدقة
هناك روايات كثيرة تتحدّث عن آثار الصدقة، فقد ورد على سبيل المثال أنّها "تدفع البلاء ويتداوى بها من الأمراض" كما مرّ معنا. وهي "تدفع ميتة السوء"، وحيث إنّ الإنسان سيموت ولا مهرب من الموت. فإنّ هناك أشكالاً للموت، فتارةً هناك الموت الّذي هو قتل في سبيل الله، وموت على الفراش أو بحادث سيارة أو عن طريق الخطأ إلخ... الصدقة تدفع عن الإنسان ميتة السوء. وورد أيضاً أنّ الصدقة "تطيل العمر" وأنّها "مفتاح الرزق"، يقول تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾2. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بعض الذين سُدّت عليهم أبواب الرزق بالتصدّق لينظر الله سبحانه وتعالى إليهم نظرة رحمة ورأفة ويفتح لهم أبواب رزقه.
 
عطاء بلا حساب
وللتشجيع أيضاً على تحقيق الغرض الثاني (أي المساهمة في معالجة المشاكل الاجتماعيّة)، نجد بأنّ الإسلام لم يشجّع فقط المتصدّقين أنفسهم، لأنّ الإسلام يعرف أنّه سيأتي يوم من الأيّام لا يستطيع الواحد منّا أن يقوم بمبادرة فرديّة للتصدّق، وأنّه سيأتي يوم تصبح فيه مؤسّسات ضخمة تعمل في هذا الموضوع. ولذلك نجد بأنّ الأجر والثواب الّذي وعد به المتصدّق وعد به أيضاً من يسعى في
 

1- م. ن.
2- سورة البقرة، الآية: 261.
 
 
76

 

62

الصدقة

 تأمين الصدقة، ومن يحمل الصدقة من المتصدّق إلى اليتيم أو المحتاج أو الفقير. فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "من مشى بصدقة إلى محتاج كان له كأجر صاحبها من غير أن ينقص من أجره شيء"1 ﴿وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. الله سبحانه وتعالى يعطي بلا حساب، وتكفّل للساعي في تأمين الصدقة ويإيصالها للمحتاجين بثواب وأجر المتصدّق نفسه دون أن يُنقصَ شيءٌ من أجر هذا المتصدّق. وورد أيضاً في رواياتنا حول مفهوم الصدقة في الإسلام الكثيرُ من أخلاقيّات وآداب هذا السلوك وهذه الممارسة وهذه الفريضة وهذا العمل المستحبّ، فيما يتحدّث عن صدقة السرّ أو العلن وأولويّة ذوي الأرحام.
 
خيرٌ من الصدقة 
ومن أهمّ الأمور الّتي تعبّر عن هذا البعد الأخلاقيّ والإنسانيّ في التشريع الإسلاميّ هو حرمة إلحاق المنّ والأذى بمن نعينهم أو بمن نساعدهم، وهذا يؤكّد أنّ الغرض في الحقيقة والخلفيّة الأساس هي خلفيّة أخلاقيّة وإنسانيّة. لذلك، قال الله سبحانه وتعالى ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى﴾2
 
نعم، هناك الكثير ممّن يتصدّقون أو يساعدون، أو مثل بعض الدول الّتي تقدّم المساعدات والمعونات لجهة معيّنة، ثمّ فيما بعد يلحق بهم من الأذى والمنّ ما يذهب بماء وجوههم جميعاً. بينما ركّز الإسلام على حفظ ماء وجه اليتيم والمحتاج والفقير الّذي نتصدّق أو ننفق عليه أو نساعده في الحقيقة. ولعلّ هذا أيضاً أحد إيجابيّات أو خلفيّات صدقة السرّ. حتّى أنّه ورد في بعض الروايات في الآداب أنّك عندما تعطي مالك للفقير لا تنظر إلى وجهه، حتّى لا يخجل ولا يستحي منك فحاول الإسلام إلى هذا الحدّ أن يُراعي كرامة أولئك الّذين تمتدّ إليهم اليد لمعونتهم ولمساعدتهم وسدّ حوائجهم.
  

1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج92، ص175.
2- سورة البقرة، الآية: 263.
 
 
 
77


 
 

63

الصدقة

يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ) 1 عندما تتصدّق على إنسان ثمّ تمنّ عليه وتؤذيه فقد أبطلت صدقتك ولم يعد لها أجر ولا ثواب ولا مكان ولا معنى. وهذا يؤكّد أنّ حرص الإسلام على الكرامة الإنسانيّة هو أشدّ بكثير من حرص الإسلام على أن يملأ بطن الجائع. ولذلك، قالت الآية: ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى﴾2. فكرامة الإنسان أهمّ من جوعه أو شبعه، ولذلك، إن كنت تريد أن تشبع بطنه عليك أن تحفظ الأهمّ، وهو كرامة هذا الإنسان. 
 
عندما يصبح في كلّ دكّان وفي كلّ بيت مكان للصدقة، وصندوق للصدقة، وعندما تنتشر ثقافة الصدقة بين الناس، هذه الأموال المتواضعة والبسيطة تتراكم، وعندما تتراكم هذه المبالغ تستطيع أن تحلّ مشكلة عدد كبير من العائلات.
 
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المتصدّقين، ويتقبّل منّا القليل، ويعوّضنا بالكثير، ويعجّل لنا ظهور الدولة الكريمة حتّى لا يبقى موضعٌ للصدقة، حيث يملؤها صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، إنّه سميع مجيب.
  

1- سورة البقرة، الآية: 264.
2- سورة البقرة، الآية: 263.
 
 
 
78
 

64

الصدقة

للمطالعة

في رحاب الصدقة1
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثر من صدقة السرّ فإنّها تطفئ غضب الربّ جلّ جلاله"
 
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "سبعة في ظلّ عرش الله عزّ وجلّ يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: إمام عادل، وشابّ نشأ في عبادة الله عزّ وجلّ، ورجل تصدّق بيمينه فأخفاه عن شماله، ورجل ذكر الله عزّ وجلّ خالياً ففاضت عيناه من خشية الله، ورجل لقي أخاه المؤمن فقال: إنّي لأحبّك في الله عزّ وجلّ، ورجل خرج من المسجد وفي نيّته أن يرجع إليه، ورجل دعته امرأة ذات جمال إلى نفسها فقال: ﴿إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾.
 
روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ صدقة النهار تُميث الخطيئة كما يُميث الماء الملح، وإنّ صدقة الليل تطفئ غضب الربّ جلّ جلاله".
 
وعنه عليه السلام قال: "من تصدّق حين يُصبح بصدقة أذهب الله عنه نحس ذلك اليوم". 
 
وعنه عليه السلام ، عن آبائه عليهم السلام قال: "سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيّ الصدقة أفضل؟ فقال: على ذي الرحم الكاشح2".
 
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من تصدّق في شهر رمضان بصدقة صرف الله عنه سبعين نوعاً من البلاء".
 
وعنه عليه السلام: "الصدقة يوم الجمعة تضاعف أضعافا".
 
عن أبي جعفر عليه السلام عن أمّ سلمة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "صنايع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفيا تطفئ غضب الربّ، وصلة 
 

1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج93، باب الصدقة.
2- الكاشح: الذي يُضمر لك العداوة.
 
 
79

 

65

الصدقة

الرحم زيادة في العمر، وكلّ معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا أهل المنكر في الآخرة، وأوّل من يدخل الجنّة أهل المعروف".
 
 
 
80

66

تحدّيات الشباب

 يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه:
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾1
  

1- سورة الكهف، الآيتان: 103-104.
 
 
81

67

تحدّيات الشباب

تمهيد
من أعظم المشاكل الّتي يواجهها الناس اليوم، وبالأخصّ جيل الشباب، هي حالة الاضطراب النفسيّ، والقلق، والارتباك، الّتي توصل إلى الحيرة أو الضياع، ويحاول البعض منهم أن يعالج هذه الأوضاع النفسيّة بأساليب خاطئة أو ملتوية.‏
 
في يومنا هذا، كلّ ما حول الإنسان يضغط عليه: البيئة، الوضع الاجتماعيّ، الأوضاع المعيشيّة، الفقر، الحاجة، المرض، عدم قدرة الإنسان على تلبية احتياجات العائلة وحتّى الاحتياجات الشخصيّة الّتي باتت في هذا الزمان أكبر وأعظم بكثير من الأزمنة الماضية.
 
هجمة إفساد مبرمجة‏
من الضغوط الكبيرة أيضاً ما يُحيط بنا من هجمة فساد وإفساد لا مثيل لها في تاريخ البشريّة. على مرّ التاريخ عمل شياطين الإنس والجنّ على نشر الفساد ليقطعوا طريق البشر ويمنعوهم من الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، ومن الوصول إلى سعادتهم وكمالهم في الدنيا وفي الآخرة. ومارس كذلك الطواغيت والنماردة والفراعنة الإفساد المبرمج والممنهج ليحموا من خلاله عروشهم. 
 
ولكن، لم يمرّ على الأجيال طوال تاريخ البشريّة ما يواجهه جيل اليوم؛ من هجمة
 
 
 
 
 
83
  


 
 

68

تحدّيات الشباب

إفساد بالصورة وبالصوت وبالمكتوب وغيره، وفي الشارع وفي السيّارة وفي البيت وعلى حوافّ الطرقات وحيثما ذهب، مخاطبة حواسه وعقله وقلبه وبكلّ وسيلة، يقول تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾1
 
هناك هجمة قويّة وشرسة وهي بالتأكيد ليست عفويّة، فيها من يُخطّط ومن يُبرمج ومن يُدير عمليّة الإفساد الواسعة في العالم. هناك من يريد للعالم أن يكون فاسداً، وغير إنسانيّ، بل أن يكون حيوانيّاً. هناك من يريد للناس ألّا يكونوا عقلانيّين بل أن يكونوا شهوانيّين، وهناك من يُناسبه أن يكون الناس على هذه الشاكلة ليتمكّن من أن يحكم العالم، لأنّه حينئذٍ لن يكون أمام بشريّة واعية وعاقلة ذات إرادة وعزم، ولن يكون حينئذٍ أمام أناس تعني لهم الكرامة والحريّة والعزّة والشرف والعِرض والآخرة شيئاً على الإطلاق.
 
حالة ملفتة
في بدايات القرن الماضي، بين النجف وكربلاء المدينتين المقدّستين، كانت هناك منطقة تعيش فيها عشائر يغلب عليها عموماً طابع التديّن والحفاظ على مسائل العِرض والشرف والكرامة والعلاقات الاجتماعيّة المضبوطة والمحترمة، لوحظ في سنوات قليلة أنّ هناك ظاهرة بغاء بدأت تنتشر في هذه المنطقة، وظنّ بعض الناس للوهلة الأولى أنّ هذه نشأت هنا وهناك بالصدفة.. ولكن لأنّ هذه الظاهرة كانت تشكّل صدمة لسكّان تلك المنطقة اهتمّ بعض العلماء وبعض المحقّقين في معرفة الخلفيّات. 
 
وكانت النتيجة أنّ بيتاً في تلك المنطقة له ارتباط بجهة صهيونيّة هو الّذي كان يقف خلف انتشار حالة وظاهرة البغاء في منطقة عشائريّة متديّنة، في منطقة العتبات المقدّسة.
  

1- سورة الروم، الآية:41.
 
 
 
84
 

69

تحدّيات الشباب

هل هذا يحصل بالصدفة؟ هل جاء هذا البيت، تاركاً كلّ بلدان العالم ليسكن بين تلك القرى بالصدفة؟ أم أنّ هذا شيء مخطّط له مسبقاً؟‏

لا تفرّوا من الفساد إلى الفساد
وإذا أخذنا الموضوع المعيشيّ والاجتماعيّ والموضوع السياسيّ والأمنيّ وموضوع الإفساد، كلّ هذا يشكّل ضغطاً على جيل الشباب بالخصوص، لأنّ حاجاتهم تكون في ذروة النشاط وفي ذروة الحيويّة. وبالتالي، البعض يفرّ من الشيطان إلى الشيطان، يفرّ من الفساد إلى الفساد، أي أنّه في نهاية المطاف يستسلم. البعض يحاول أن يواجه هذه الأوضاع بالتهرّب من المسؤوليّة، فيلجأ إلى إدمان المخدّرات والخمر أو القمار وسهر الليالي الطويلة في النوادي الحمراء، فيصبح إنساناً لا مبالياً اتجاه نفسه واتجاه عائلته واتجاه مجتمعه. البعض يقدم على الانتحار. البعض يلجأ إلى الجريمة والقتل والعصابات والمافيات والسرقة واللصوصيّة وما شاكل؛ اللجوء إلى هذا النوع من المعالجات في الحقيقة يزيد في تدمير المجتمع والعائلة، وهو أشبه بمن يرمي على النار وقوداً لتزداد اشتعالاً، بدل من أن يرمي عليها ماءً ليطفئها.‏

في ظلّ هذه الأجواء الّتي نعيشها، يجب أن نواجه هذه الاستحقاقات بمسؤوليّة وبجدّيّة، لأنّ المسألة هنا لا تقف عند النتائج الدنيويّة. إنّ الموضوع في نهاية المطاف لا يقف عند حدود هذه الدنيا الّتي يعيش فيها الناس وتنتهي القصّة، فليقتل من يقتل، ولينتحر من ينتحر، وليتألّم من يتألّم، وليُدمن من يدمن، ولتجتح جيوش شعوباً، ولتعش الأرض ظلماً واستكباراً واستعباداً وطغياناً، ولا مشكلة. بل إنّ هذه الدنيا أصلاً هي دنيا منقضية والمسألة تتعدّى المسؤوليّة في الدنيا إلى الآخرة، إلى يوم الوقوف الطويل بين يدي الله سبحانه وتعالى الّذي سيسأل كلّ واحد منّا، كلّ فرد منّا عن حياته وسلوكه وأقواله وأفعاله وأدائه ومسؤوليّاته في الدنيا. ماذا فعل؟ ماذا قال؟ كيف عاش؟ كيف واجه المسائل والتحدّيات؟ علاقته مع نفسه، مع عائلته، مع
  
 
 
85
 
 

70

تحدّيات الشباب

جيرانه، مع محيطه، في السلم وفي الحرب، في التحدّيات وفي الأخطار. وبالتالي، هناك مسؤوليّة كبيرة. 
 
ليس الحلّ أن تهرب إلى المخدّرات، وإلى الخمر، وإلى الانتحار. بعض المساكين يتصوَّر أنه عندما يلجأ إلى الانتحار يرتاح بهذه الوسيلة. من قال إنّه ارتاح؟ إنّ كلّ ما يمكن أن يعيشه الإنسان من آلام وأحزان في هذه الدنيا لا يقاس ولا يساوي شيئاً أمام عذاب الله وسخطه وغضبه، الّذي يطال العاصين والمنحرفين والخاطئين والمذنبين.
 
قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾1.
 
الحلّ في اللجوء إلى الله تعالى
أهمّ ما في الدِّين هو أنّه يعطينا، حتّى في أشدّ الظروف والأوضاع الصعبة، الطمأنينة وهدوء النفس والاستقرار والسكينة والأمل والرجاء. ولا يوجد شيء في هذا الوجود يمكنه أن يمنح الإنسان هذا المستوى في مواجهة المشاكل و الصعوبات و المآسي والأحزان غير الدين.
 
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ2. أيّاً تكن المأساة والأحزان والمعاناة الّتي تعيشها بسبب ظروف شخصيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة أو أمنيّة أو تهديدات أو جوع أو فقر، وغير ذلك.. عندما تلجأ إلى الله سبحانه وتعالى، عندما تذكر الله سبحانه وتعالى وتعود إلى الله عزّ وجلّ، عندما تجلس بين يدي الله سبحانه وتعالى لمناجاته ولدعائه، يمكنك أن تشكي له كلّ آلامك ومعاناتك وصعوباتك وأحزانك ومآسيك. وهنا، أنت لا تتكلّم مع فقير مثلك، حين تقول له أنا 
  

1- سورة الكهف، الآيتان: 103-104.
2- سورة الرعد، الآية: 28.
 
 
 
86
 

71

تحدّيات الشباب

 فقير، فيجيبك: أنا فقير مثلك،.. أنت لا تشكو إلى مثيل لك ولا حتّى إلى قادر أو غنيّ محدود القدرة ومحدود الغنى، أنت تشكو إلى الله سبحانه وتعالى، وتتحدّث مع الله سبحانه وتعالى، وتلجأ إلى الله سبحانه وتعالى الغنيّ القادر العالم الّذي يعلم ما في أنفسنا، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، والقادر الكريم؛ لأنّه يوجد قادر من الممكن ألّا يساعدك، والغنيّ الجواد؛ لأنّه ممكن أن يكون هناك غنيّ ولا يمدّ لك يد العون.
 
يقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ1.
 
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: لا تعجزوا عن الدعاء، فإنّه لم يهلك مع الدعاء أحد. وليسأل أحدكم ربّه؛ حتّى يسأله شسعَ نعله إذا انقطع. واسألوا الله من فضله فإنّه يحبّ أن يُسأل. وما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحم إلّا أعطاه الله تعالى بها إحدى ثلاث: "إمّا أن يعجّل له دعوته، وإمّا أن يدّخرها له في الآخرة، وإمّا أن يكفّ عنه من الشرّ مثلها، قالوا: يا رسول الله إذن نكثر، قال: الله أكثر"2.
 
أنت تتكلّم مع من بيده ملكوت السماوات والأرض، تناجيه وتلجأ إليه. هذا اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، أولى نتائجه السريعة الهدوء والطمأنينة والسكينة. مهما فتّشتم في علم النفس التربويّ والاجتماعيّ ولدى أطباء النفس وغيرهم فلن تجدوا هذا العلاج عند أحد، ولكنّكم ستجدون العلاج عند محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي آيات الله الّتي أنزلت على قلبه الشريف، وفي الآيات الكريمة: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾3، كيف نواجه هذا النقص وهذا البلاء وهذه المحنة في الأموال، في الأنفس، في الثروات؟!
  

1- سورة البقرة، الآيتان:186.
2- الدعوات، الراوندي، ص19.
3- سورة البقرة، الآية: 155 156.
 
 
 
87

 

72

تحدّيات الشباب

"إنا لله" ليست مجرد كلمة تقال؛ "إنا لله" تعني نحن مُلك له، ونحن عبيده؛ نواصينا بيده، يفعل بنا ما يشاء. "إنا لله وإنا إليه راجعون" فعندما نكون عبيداً له، نرضى بما يرضاه لنا، نرضى ونهدأ ونطلب منه أن يُعيننا، وأن يدفع عنّا البلاء، وأن يرفع عنّا الامتحان، وأن يُعطينا الصبر والثبات والنجاح والنصر والعزّة. "وإنا إليه راجعون" عبارة تقول لنا إنّ هذه الحياة الّتي نعيشها هي حياة محدودة، وبالتالي، لا تستحقّ أن تضيّع آخرتك من أجل بعض المحن وبعض الصعوبات وبعض الأحزان في الدنيا، فترتكب المعاصي والذنوب وتفرّ من الشيطان.‏
 
الدواء في بيوت الله
يقول تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾1.
المساجد، هذه المؤسّسات العباديّة الإيمانيّة التربويّة هي شفاء للناس و هي حاجة روحيّة ونفسيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة، هي حاجة جهاديّة وسياسيّة وأمنيّة أيضاً؛ في بيوت الله عزّ وجلّ، نقرأ القرآن ونستمع إلى الوعظ والإرشاد ونتعرّف على حقائق الوجود، فنفهم معنى الدنيا ومعنى الآخرة، ومعنى الامتحان ومعنى البلاء، ومعنى الصبر ومعنى تحمّل المسؤوليّة. في بيوت الله عزّ وجلّ، نشحذ الهمم والعزائم والإرادات؛ في بيوت الله عزّ وجلّ، نحمل روح الإنسانيّة ونجسِّدها ونعمِّقها في أرواحنا وفي أنفسنا. في بيوت الله عزّ وجلّ، نداوي قلوبنا وجروح أنفسنا الّتي تطالها السهام من كلّ حدب وصوب، وبالدرجة الأولى نحصل على هذا الهدوء وعلى هذه الطمأنينة. في الدِّين وفي بيوت الله يتحصّل لنا الأمل.
 
نعم، الدين والنبيّ وآيات القرآن هي القادرة على أن تمنح هذا الأمل. الإمام الخمينيّ رضوان الله تعالى عليه قبل خمسين سنة أو ستين سنة، كان يقول للشاه: "كلّما عمّرنا في قرية أو في مدينة مسجداً يمكنكم أن تقلّلوا عدد المخافر وعدد
  

1- سورة الأعراف، الآية:31.
 
 
88
 

 

73

تحدّيات الشباب

الدرك وعدد قوى الأمن"، لماذا؟ لأنّه عندما تتربّى الناس على التديّن، سيشكل ذلك حاجزاً ورادعاً ذاتيّاً عن القتل، والسرقة، والغشّ، والظلم، والتجسّس على الآخرين، وإيذاء الآخرين.
 
المسؤوليّة في هذه المرحلة الصعبة والخطرة هي أن نلجأ إلى الله سبحانه وتعالى، أن نتمسّك بديننا وثقافتنا وقيمنا، أن نثق بالله سبحانه وتعالى، أن نعرف أنّ أمامنا آمالاً كبيرة نحن قادرون على تحقيقها، أن نستعين بثقافتنا وتعاليمنا وقيمنا لنكون من أصحاب الأنفس المطمئنة الواثقة الشجاعة المريدة العازمة. ونحن قادرون على تجاوز كلّ هذه الأخطار إذا تحمّلنا المسؤولية وكنّا أصحاب الوعي وأصحاب الأمل، وكنّا أوّلاً وآخراً من اللاجئين إلى الله، مستعيذين به في مواجهة الشيطان، مستعينين به على مواجهة التحدّيات.
 
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾1


 
1- سورة الذاريات، الآية: 50.
 
 
 
 
89
 
 

 

74

تحدّيات الشباب

للمطالعة

نعمة العقل1
عن محمّد بن سليمان الديلمي، عن أبيه قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: فلان من عبادته ودينه وفضله؟ فقال: كيف عقله؟ قلت: لا أدري، فقال: إنّ الثواب على قدر العقل، إنّ رجلا من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر، خضراء نضرة، كثيرة الشجر ظاهرة الماء وإنّ ملكاً من الملائكة مرّ به فقال يا ربّ أرني ثواب عبدك هذا، فأراه الله (تعالى) ذلك، فاستقلّه الملك، فأوحى الله (تعالى) إليه: أن اصحبه فأتاه الملك في صوره إنسيّ فقال له: من أنت؟

قال: أنا رجل عابد بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان فأتيتك لأعبد الله معك، فكان معه يومه ذلك فلمّا أصبح قال له الملك: إنّ مكانك لنزه، وما يصلح إلّا للعبادة، فقال له العابد: إنّ لمكاننا هذا عيباً. فقال له: وما هو؟ قال: ليس لربّنا بهيمة، فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع، فإنّ هذا الحشيش يضيع، فقال له (ذلك) الملك: وما لربّك حمار؟ فقال: لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش، فأوحى الله إلى الملك: إنّما أثيبه على قدر عقله".



1- الكافي، الكليني، ج1، ص12.
 
 
 
90
 
 

 


75

العلم والدين

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه:

﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾1
  

1- سورة فاطر، الآية: 28.
 
 
 
90
 

76

العلم والدين

تمهيد
في الزمن الّذي تشنّ فيه الحملات الإعلاميّة المعادية لتقديم الدِّين والإسلام على وجه الخصوص كدين للتخلّف والجهل والتعصّب والخرافة والرجعيّة وما شاكل، من المحزن أن نحتاج لنتكلّم ونستدلّ وندافع عن أمر واضح وبيِّن لكلّ ذي لبٍّ في معركة يمتلك فيها خصومنا - قوى الاستكبار في العالم- كلّ عناصر الدعاية والإعلام ومراكز الدراسات.
 
اللهُ تعالى مصدرُ العلم 
أنزل الله سبحانه وتعالى الكتب السماويّة، وبعث الأنبياء والرسل - قادة الدين- إلى البشريّة لهدايتها وتوعيتها وإنذارها، يقول تعالى: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾1، ويقول سبحانه: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾2 فالله سبحانه وتعالى هو الّذي علم الإنسان ما لم يعلم، فالدين مصدره الله والعلم مصدره الله. 
  

1- سورة النساء، الآية: 165.
2- سورة العلق، الآيات: 1 5.
 
 
93

 

77

العلم والدين

إلا أنّ هناك من يصرّ على فرضيّة الصراع بين الدِّين والعلم، ويعتبر أنّهما لا يجتمعان بل إنّ هناك تناقضاً بينهما. إلا أنّ الواقع والتاريخ يكذبان هذه الفرضيّة؛ فالأنبياء والرسل عليهم السلام لم يكونوا فقط مبلّغي رسالات الدين، بل كانوا أيضاً معلّمي البشريّة في الكثير من مجالات العلم بل إنّ العلماء الألبّاء عجزوا أمام معارف الأنبياء الموهوبة من الله تعالى وهذا ما نراه جليّاً في أحوال نبيّ الله عيسى بن مريم عليه السلام حيث أحيا بعلمه الإلهيّ الموتى وشفا الأعمى والمرضى: ﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾1
 
أمّا مكانة العلم والعلماء في القرآن والروايات فإنّها ممّا تعجز به كلماتنا عن الإحاطة ببعض من شأنه أو شيء من مقامه ويكفينا قول الله سبحانه: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾2 وبذلك نتبيّن أنّه ما من دين أو عقيدة أو فكر أو حضارة تحدّثت عن العلم والمعرفة ومكانة العلماء وحثّت على طلب العلم وبيّنت قيمة ودرجة وأثر العلم في الدنيا وفي الآخرة كما فعل الإسلام العظيم وخاتم النبيّين محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولم يكن أحدٌ قبل رسول الإسلام قد خطر في باله أن يجعل فداء الأسرى الّذين وقعوا في يد المسلمين في معركة بدر بأن يعلّم كلّ أسير عشرة من المسلمين! حتّى الفدية أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن يوظّفها في خدمة العلم والتعلّم والمعرفة.‏
 
وصيّة الأنبياء والكتب السماويّة
ونحن إذ نؤكّد على هذه الحقيقة الإسلاميّة الراسخة وهذه المكانة العالية للعلم والعلماء والمتعلّمين والمعلمين، لا نتحدّث عن العلوم الدينيّة فقط كما قد يشتبه البعض، بل نتحدّث عن كلّ علم ومعرفة تقرّب الإنسان من الله سبحانه وتعالى،
  

1- سورة آل عمران: الآية:49.
2- سورة المجادلة، الآية:11.
 
 
94

78

العلم والدين

وتجعل الإنسان في خدمة أهله ومجتمعه وأمّته وكلّ البشريّة. كلّ علم نافع من هذا النوع هو العلم الممدوح، هو العلم الّذي يرفع أهله درجات في الدنيا وفي الآخرة، وهو العلم الّذي وصّى به الأنبياء والرسل وكتب الله السماويّة. 
 
نحن كمسلمين نقدّم جواباً واقعيّاً وعمليّاً. نعم، إن كانت هناك بعض التجارب الّتي تنسب نفسها إلى الإسلام قد ارتكبت أخطاءً قاتلة من هذا النوع، فالّذي يتحمّل المسؤوليّة هم أصحاب هذه التجربة، وليس الإسلام ولا نبيّه ولا قرآنه الّذي من أوّل آية فيه إلى آخر آية يمتلئ بالمعرفة والعلم والحديث عن الإنسان -الذكر والأنثى- في هذه الرحلة العظيمة وفي هذا الكدح الطويل إلى الله سبحانه وتعالى.‏ هذا هو الجواب العملي. لا نحتاج إلى التنظير ولا إلى الاستدلال ولا إلى القول بأنّ الإسلام هو ليس كذلك. القرآن يقول هذا والأحاديث تؤكّد هذا المضمون أيضاً.
 
وما أروع هذا الحديث الّذي نختم به هذه الفقرة وبه نتبيّن عظمة العلم ومكانته الحقيقيّة في الإسلام، فعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: يا طالب العلم إنّ العلم ذو فضائل كثيرة: فرأسه التواضع، وعينه البراءة من الحسد، وأذنه الفهم، ولسانه الصدق، وحفظه الفحص، وقلبه حسن النيّة، وعقله معرفة الأشياء والأمور، ويده الرحمة، ورجله زيارة العلماء، وهمّته السلامة، وحكمته الورع، ومستقرّه النجاة، وقائده العافية، ومركبه الوفاء، و سلاحه لين الكلمة، وسيفه الرضا، وقوسه المداراة، وجيشه محاورة العلماء، و ماله الأدب، وذخيرته اجتناب الذنوب، وزاده المعروف، وماؤه الموادعة، ودليله الهدى، ورفيقه محبّة الأخيار"1.
 
ليس للعلم حدود
الإسلام يؤكّد على الحاجة إلى المعرفة والعلم والتعلّم، وليس في مرحلة محدّدة 
  

1- الكافي، الكليني، ج1، ص48.
 
 
 
95
 

 

79

العلم والدين

 من عمر الإنسان بل من المهد إلى اللحد. العلم ليس له حدود وليس له نهاية، وعلى الإنسان أن يبقى عاشقاً للعلم ولا يتعاطى مع العلم فقط كوسيلة للعيش. وهذا من خصوصيّات التوجيه الإسلاميّ. 
 
قد نتعاطى مع العلم كمصدر للعيش وكمصدر للقوّة وكمصدر لمعالجة المشكلات الّتي يعيشها الناس، ولكن علينا أن ننظر إلى العلم والمعرفة كقيمة إيمانيّة ذاتيّة أيضاً ونرتبط معه ارتباطاً عشقيّاً وحبّيّاً روحيّاً. هذا ما أكّدته ورسّخته تعاليم الإسلام.
 
يجب أن لا يكون لطموحاتنا العلميّة ولا لأحلامنا العلميّة حدود، أيّاً تكن الصعوبات الاجتماعيّة والحياتيّة والمعيشيّة الّتي تُحيط بنا، وأيّاً تكن الظروف الّتي عشناها في السابق أو الّتي يمكن أن نواجهها في المستقبل. العلم والمعرفة بالنسبة لنا، هما مسألتان ضروريّتان لازمتان سواء في البعد الإيمانيّ، لأنّه ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾1، أم في البعد الاجتماعيّ الحضاريّ لأنّ الحياة باتت متطلّباتها كبيرة وعظيمة وخطيرة جدّاً، ولأنّ الاستحقاقات المقبلة أيضاً لا مكان فيها للضعفاء. والضعفاء ليسوا فقط من لا يملكون المال ولا يملكون السلاح. أوّل الضعفاء هم الجهلة، هم الّذين يعيشون عالة على حضارات الغير، هم الّذين لا يستطيعون أن يعالجوا مشاكلهم من خلال قدراتهم واختصاصاتهم وخبراتهم الوطنيّة والقوميّة. لذلك، إذا كنّا نؤمن بأنّنا في عالم ينتصر فيه القويّ، ويُحترم فيه القوي ويبقى فيه القوي، فعندها يجب أن نبحث ونسعى للحصول على كلّ عناصر القوّة وفي مقدّمتها العلم في كلّ اختصاصاته الّتي تحتاج إليها أمّتنا.‏
 
في مواجهة التحدّيات
ولا بأس أن، نتحدّث عن مسؤوليّة إنسانيّة ودينيّة وحضاريّة، عن مسؤوليّة تجاه
  

1- سورة فاطر، الآية: 28.
 
 
 
 
96


 
 

80

العلم والدين

أمّة، عن مسؤوليّة في المعركة وليس عن مسؤوليّة في دائرة الحياة الشخصيّة. نؤكّد على المسؤوليّة العامّة لشعوب المنطقة وشعوب عالمنا العربي والإسلاميّ وخصوصاً على الطلّاب الجامعيّين. ليس هناك أيّ مشكلة في أنّ الفرد عندما يتخرّج من الجامعة يعود إلى حياته الشخصيّة ويفكّر ويخطّط كيف يؤمّن فرصة عمل وكيف يهيّئ منزلاً وعائلة، هذا أمر طبيعيّ وفطريّ، هذا أمر مشروع ومستحبّ أيضاً فلا يُشْعِرْه أحد بعقدة تجاه هذا الموضوع أبداً. "الكادُّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله"1. هذا ديننا وهذا إسلامنا.
 
مشكلة الجامعيّين في العالم الإسلاميّ
على الإنسان أن يتحمّل هذه المسؤوليّة، وهذا لا يتنافى على الإطلاق مع المساهمة في التحدّيات والمسؤوليّات الجهاديّة والسياسيّة والثوريّة. الحقيقة أنّ المرض السائد الآن في الأمّة هو أنّ الكثير من طلّاب الجامعات وخرّيجي الجامعات في عالمنا العربيّ والإسلاميّ ينكفئون للاهتمام بحياتهم الشخصيّة، وبالتالي، لا تجدهم في المواجهات العامّة وفي المراحل الخطيرة. عِلماً أنّ الطاقة الحقيقيّة في الأمّة هي في أجيال الشباب، في شبابها بالدرجة الأولى، الشباب الّذين يملكون الصحّة، العنفوان، والطاقة، الشباب الّذين يملكون الأمل، وبالتالي هؤلاء الشباب يتحمّلون مسؤوليّة كبيرة في مواجهة التحدّيات، ونحن بحاجة إلى حضور كبير لأجيال الشباب ولطلّاب الجامعات في ساحات المواجهة والتحدّي. 
 
ولا بدّ من التأكيد على أنّ هذا العلم وهذه المعرفة تبقى مفيدة للإنسانيّة إذا بقيت قائمة على قاعدة الإيمان بالله والتسليم له والاعتقاد بعظمته وقدرته وجبروته، وإلّا فكما قالت الآيات الّتي تتحدّث عن العلم: ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾2 إلى أن تقول 


1- فقه الرضا، ابن بابويه، ص208.
2- سورة العلق، الآية: 5.
 
 
 
 
97
 
 

81

العلم والدين

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى1. إنّ الّذي يتصوّر أنّه وصل إلى مقام من العلم والقوّة ومقام من الغنى لا يُدانيه أحد، مقام يستغني به عن الله عزّ وجلّ، عن خالق الخلق ورازقهم وعن منزّل العلم وحافظ هذا الوجود، يصل إلى مرحلة الطغيان والجبروت وادّعاء الألوهيّة الّتي في لحظة من اللحظات ينكشف عجزها. 
 
خلاصة الكلام
 إنّ العلم يعيش في حضن الإيمان، الإيمان الّذي يعني أنّ: "الله حاضرٌ وحافظٌ ومراقبلهذا الوجود"، وعليه فينبغي للإنسان أن يبقي هذه الفكرة حيّة وقائمة في وجدانه كلّ لحظة. الإيمان إلى جانب هذا العلم يحفظ التواضع ويحفظ القيم الأخلاقيّة ويحفظ روح خدمة البشريّة ويمنع من العتوّ والغلوّ والعلوّ والطغيان والتجبّر والاستكبار والفساد والإفساد.
 
أمّا العلم بعيداً عن هذا الإيمان، فهو من أخطر الأسلحة الّتي هدّدت البشريّة وعرّضت البشريّة للمخاطر. العلم هنا يُصبح من أخطر الأسلحة الّتي تدمّر البشريّة وتسحق الناس في مشارق الأرض ومغاربها. ولذلك، فإنّ عظمة الإسلام تكمن في هذه النقطة أيضاً الّتي تدعو إلى العلم وتحثّ على العلم وترفع من درجة العلماء، ولكنّها تضع العلم بعد الإيمان، وفي حضن الإيمان وفي ظلّه وفي حاكميّته حتّى لا تتفلّت هذه القوى العلميّة الضخمة وتتحوّل إلى مأساة.
 
إنّ قدر هذه الأمّة أن تواجه الأخطار والتحدّيات وليس خيارها. قدر هذه الأمّة أن تقاوم، وقدر هذه الأمّة أن تنتصر، لأنّ الله سبحانه وتعالى وعدها بالنصر، فقط عندما تكون الأمّةَ الحيّةَ العازمةَ المتوكّلةَ الحاضرةَ.‏
 
 
﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ2.
  

1- سورة العلق، الآيتان: 6 7.
2- سورة الحجّ، الآية:40.
 
 
 
98



 

82

العلم والدين

للمطالعة

الإمامة
قال عبد العزيز بن مسلم: كنّا مع الإمام الرضا عليه السلام بمرو فاجتمعنا في المسجد الجامع بها، فأدار الناس بينهم أمر الإمامة، فذكروا كثرة الاختلاف فيها. فدخلت على سيدي ومولاي الرضا عليه السلام فأعلمته بما خاض الناس فيه. فتبسّم عليه السلام. ثمّ قال: "يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن أديانهم، إنّ الله عزّ وجلّ لم يقبض نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم حتّى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كلّ شيء وبيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كاملا، فقال: 
 
﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ1. وأنزل عليه في حجّة الوداع وهي آخر عمره صلى الله عليه وآله وسلم ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾2. وأمر الإمامة من كمال الدين. ولم يمض صلى الله عليه وآله وسلم حتّى بيّن لأمّته معالم دينه وأوضح لهم سبلهم وتركهم على قصد الحقّ، وأقام لهم عليّا عليه السلام علما وإماما، وما ترك شيئاً ممّا تحتاج إليه الأمّة إلّا وقد بيّنه. فمن زعم أنّ الله لم يُكمل دينه فقد ردّ كتاب الله، ومن ردّ كتاب الله فقد كفر.
 
هل يعرفون قدر الإمامة ومحلّها من الأمّة ، فيجوز فيها اختيارهم؟! إنّ الإمامة خصّ الله بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوّة والخلّة مرتبة ثالثة وفضيلة شرّفه بها وأشاد بها ذكره، فقال عزّ وجلّ: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ﴾، قال الخليل سروراً بها: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾. فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة..."3.


1- سورة الأنعام، الآية: 38.
2- سورة المائدة، الآية: 3.
3- تحف العقول، الحرّاني، ص436 437.
 
 
 
99

 

83

سنن التاريخ

 يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه:
﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ﴾1


1- سورة آل عمران: الآية: 137.
 
 
 
101
 

84

سنن التاريخ

ضرورة دراسة سنن التاريخ
من الأمور الّتي أكّد عليها الإسلام السير في الأرض ومتابعة أحوال الماضين وقراءة سنن التاريخ، لكن لا لمجرّد الاطّلاع والمعرفة، بل لفوائد عظيمة تتوقّف على هذه الدراسة.
 
وقد ذكر القرآن الكريم الكثيرَ من أحداث التاريخ والقصص المعبّرة ممّا جرى مع آدم وإبليس وهبوطه عليه السلام إلى الأرض، وتحدّث عن العديد من الأنبياء عليهم السلام وأقوامهم وما جرى عليهم، وما جرى على المؤمنين وأتباع الأنبياء عليهم السلام عبر التاريخ، وصولاً إلى النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من بعثته صلى الله عليه وآله وسلم على مدى 23 عاماً إلى آخر الآيات الّتي نزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قبل وفاته.
 
فلماذا تحدّث القرآن الكريم عن كلّ هذه القصص والحوادث؟ أليس لأجل استخلاص العبر والدروس، علماً أنّ القرآن ليس كتاب تاريخ وإنّما هو كتاب هداية وإرشاد، ولكن لأجل أنّ أحداث التاريخ وما جرى مع الماضين مؤثّرة جدّا في عمليّة التربية الإنسانيّة والهداية البشريّة نحو الكمال نجد ذلك حاضراً بشدّة في القرآن الكريم.
 
ويمكن القول إنّ الهدف من سرد هذه القصص والحوادث التاريخيّة هو الاستفادة
 
 
103

 

85

سنن التاريخ

من تجارب البشر عَبر التاريخ، حيث إنّه لا يصحّ أن يبدأ الإنسان من الصفر، بل من الواجب الاستفادة من الإيجابيّات الّتي تقدّمت من الجماعات البشريّة السابقة عبر التاريخ، وأيضاً يمكن ذكر هدف آخر وهو استخلاص الدروس والعبر وبالتالي الاهتداء إلى سواء السبيل.
 
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ1.
 
الأمر الأول: نحن الموجودون الآن لا نختلف عن من تقدّمنا من الناس إلى بدء الخليقة، أودع الله فينا قوى ماديّة ومعنوية وطموحات وتطلّعات وآمال و.. والّذي يختلف هو المفردات، الأساليب، الأدوات، فالمضمون الإنسانيّ هو واحد ولكن الأساليب تختلف.
 
الأمر الثاني: الحياة البشريّة والمجتمعات محكومة لقوانين ثابتة وسنن لا تتغيّر والعقل البشريّ بدأ باكتشافها، ونتيجة اطّلاع الإنسان على هذه القوانين يجد فرصة أكبر بالسيطرة على الكون، ولولا السنن والقوانين والمعادلات العلميّة لكان كلّ شيء في الحياة فوضى، ولا يمكن بناء شيء على شيء، ولما تطوّرت البشريّة، وكذلك بالنسبة للتاريخ فإنّ فيه سنناً ثابتة يمكن البناء عليها، وأخذ العبر منها، وما علينا إلّا دراسة التاريخ لاستخلاص هذه السنن وأخذ العبر منها.
 
﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ﴾2. فلو لم تكن هذه ثابتة لما كان هناك معنى لأن يقول لنا الله سيروا في الأرض وتأمّلوا في عواقب المكذّبين والّذين من قبلنا، لكنّ الأمر بالتأمّل والتدبّر والنظر فرع وجود سنن قائمة وثابتة يمكن الاستفادة والاتّعاظ وأخذ العبر منها.


1- سورة يوسف، الآية: 111.
2- سورة آل عمران: الآية: 137.
 
 
 
104

 

86

سنن التاريخ

يقول تعالى:
﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾1.

﴿سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً2.
 
سنّة النصر
إنّ من السنن الإلهيّة التاريخيّة الّتي تسالم عليها في القرآن الكريم هي سنّة النصر الإلهيّ، فالأمّة المؤمنة الّتي تستطيع أن تصبر وتطيع قيادتها ستنتصر لا محالة. وفي المقابل الجماعة الّتي تتخاذل وتتنازع فيما بينها ولا تطيع قادتها، ولا تتوحّد على رأي واحد وعمل واحد وتتفرّق أهواؤها وآراؤها، وتتعدد قيادتها، تكون نتيجتها الفشل والهزيمة بشكل طبيعيّ.
 
قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾3.
 
فوحدة كلمة الأمّة واجتماعها على رأي قيادة واحدة، في أيّ بلد كانت، من أسباب الانتصار.
 
وفي المقابل إنّ اختلاف الأمّة وتنافرها وفرقتها، مهما كان دينها ومذهبها وانتماؤها وفي أيّ بلد كانت، كلّها أسباب الفشل والهزيمة. من هنا كان مثال معركة أحد في التاريخ الإسلاميّ، حيث إنّ المسلمين كانوا منتصرين في بداية المعركة، وما ذلك إلّا لاجتماعهم على كلمة قيادة واحدة، وإطاعتهم لنبيّهم والتزامهم لتكليفهم، ولكن بعد أن بدت ملامح الانتصار، وبدأ الجنود بأخذ الغنائم، تخاذل خمسون شخصاً عن أداء تكليفهم في المكوث والبقاء على الجبل الّذي أكّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء عليه مهما كانت الظروف، وعند عدم إطاعتهم للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ونزولهم من مواقعهم استغلّ جيش قريش هذه الثغرة في معسكر المسلمين، والتفّوا عليهم وقلبوا المعركة من
 

1- سورة الأحزاب، الآية: 62.
2- سورة الإسراء، الآية: 77.
3- سورة الأنفال، الآية: 46.
 
 
105

87

سنن التاريخ

 نصر إلى هزيمة، وكسرت في هذه المعركة رباعيّة الرسول (مقدّمة أسنانه)، وأشاع الأعداء مقتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصدّق بعض المسلمين هذه الكذبة الّتي هي إحدى أساليب الحرب النفسيّة، ولولا صمود بعض الخلّص حول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لما استعاد المسلمون آنذاك زمام المبادرة.
 
﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ1.
 
ومن هذه الآية يُفهم بوضوح أنّ طلب الدنيا هي سبب التخلّف عن إرادة الرسول وإطاعته. 
 
سنّة التغيير
يقول تعالى في محكم كتابه: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾2.
 
وهذه سنّة إلهيّة تاريخيّة واضحة، تقول إنّه لا يمكن للأمّة أن تجلس في بيوتها وتشكو لله ما يحصل لها من ظلم وتعدّ واغتصاب للحقوق وإذلال للكرامات و.. ويستجيب الله لها، أبداً، إنّ هناك سنّة وقانونا ثابتاً: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ فلا بدّ للأمّة أن تغيّر حالة الخنوع إلى حالة النهوض والثورة والتضحية والعمل والجدّ والمواجهة، حتّى يستجيب الله سبحانه لها ويدحض عنها الظلم والعنوان، ويبدّل الذلّ عزّاً وكرامة، والهزيمة فوزاً وانتصاراً.


1- سورة آل عمران، الآية: 152.
2- سورة الرعد الآية: 11.
 
 
106
 

88

سنن التاريخ

خلاصة ما تقدّم: إنّ هناك دعوة قرآنيّة لفهم سنن التاريخ للاستفادة منها وأخذ العبر منها، ولكي نستفيد من عناصر القوّة في هذه السنن تماماً كما نستفيد من السنن الطبيعيّة. ومن هنا ننتقل للحديث عن مفصل تاريخيّ مهمّ جدّاً في حياة المسلمين، وهو كربلاء، ومرادنا بالمفصل التاريخيّ هو أنّ بعض الحوادث التاريخيّة كان لها دور كبير في التأريخ، وفي مجريات الأحداث، ، فهجرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة كانت مفصلاً، ووفاته صلى الله عليه وآله وسلم كانت مفصلاً، كذلك كربلاء، وهي أعظم تجربة تاريخيّة في حياة الأمّة إن لم نقل في حياة البشريّة، تعدّ مفصلاً تاريخيّاً حسّاساً لا بدّ من الوقوف عنده ودراسته ضمن دائرة السنن الإلهيّة.
 
فمن وصيّة الإمام عليّ للإمام الحسن عليهما السلام: "أحيِ قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوّه باليقين، ونوّره بالحكمة، وذلّـله بذكر الموت، وقرّره بالفناء، وبصّره فجائع الدنيا، وحذّره صولة الدهر وفحش تقلّب الليالي والأيّام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأوّلين، وسر في ديارهم وآثارهم فانظر فيما فعلوا وعمّا انتقلوا وأين حلّوا ونزلوا، فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة، وحلّوا ديار الغربة، وكأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم. فاصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك. ودع القول فيما لا تعرف والخطاب فيما لم تكلّف"1.
 
"أي بُنيّ، إنّي وإن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتّى عدت كأحدهم. بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدَره، ونفعَه من ضرره، فاستخلصت لك من كلّ أمرٍ نخيله(المختار المصفّى)، وتوخّيت (تخيّرت) لك جميله، وصرفت عنك مجهوله..."2.


1- نهج البلاغة، ج 3، ص 39.
2- م.ن، ج 3، ص 41.
 
 
 
107
 

89

سنن التاريخ

الثبات في طريق الحقّ
الثبات في جبهة الحقّ مع نبيّ الحقّ مع إمام الحقّ، سواء الحقّ في المعتقد الدينيّ أم السياسيّ أم... وتحدّثنا الكتب عن القيادات والنخب والخواصّ من وعّاظ ومفكّرين وقادة عسكريّين، وعن عوامّ الناس أيضاً، أنّه ونتيجة التحدّيات كان هناك من يتزلزل، ومنهم من يتخلّف، ومنهم من يكفر بالحقّ، ومنهم من يصبح مناصراً للباطل ويحمل سيفه على الحقّ، فإنّ المحن تفرز الناس بحسب نتائجها، وهذا معنى قول الإمام عليّ عليه السلام: "والّذي بعثه بالحقّ لتبلبلنّ بلبلة، ولتغربلنّ غربلة، ولتساطنّ سوط القدر، حتّى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقنّ سابقون كانوا قصّروا، وليقصّرنّ سبّاقون كانوا سبقوا"1.
 
تقسيم الناس بعد المحنة
إنّ الناس الّذين هم من أهل الحقّ ومع الحقّ وفي جماعة الحقّ عندما تحلّ المحنة بهم تغربلهم إلى فئات:
1- فهناك أشخاص ينجحون في المحنة ويثبتون مع الحقّ ولا يتزلزلون.
2- وهناك أشخاص يجلسون على التلّ، يعرفون الحقّ ولا ينصرونه.
3- وهناك من يتزلزل إيمانه ويتخلّى عن الحقّ وهو خائف.
4- وهناك من يرتدّ عن الحقّ من الأساس، ويعتقد أنّه كان مخطئاً.
5- وهناك من يرتدّ عن الحقّ ويحمل السيف في وجه الحقّ. 
لماذا ثبت أشخاص وارتدّ آخرون؟ ألسنا جماعة وبشراً مثلهم؟ وقد تحلّ بنا المحن مثلهم بين الفينة والأخرى؟ كيف نكون محصّنين في المحنة، ولأجل أن نأخذ


1- م.ن، ج 1، ص 47.
 
 
 
 
108



 

 


90

سنن التاريخ

العبرة؟ وكيف يكون الإنسان ثابتاً في طريق الحقّ، وكيف يبقى محصّنا؟ وما هي العوامل المساعدة على الثبات في طريق الحقّ وفي جبهة الحقّ؟

هذا ما سنقدّم الأجوبة عليه في الدرس التالي.

للمطالعة
الحوادث المرّة ميدان تربية1
إنّ لمعركة "أحد" وما لحق بالمسلمين فيها من هزيمة نتائج وآثارا، ومن نتائجها وآثارها الطبيعيّة أنّها كشفت عن نقاط الضعف في الجماعة والثغرات الموجودة في كيانها، وهي وسيلة فعّالة ومفيدة لغسل تلك العيوب والتخلّص من تلك النواقص والثغرات، ولهذا قال سبحانه: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾2 أي أنّ الله أراد - في هذه الواقعة - أن يتخلّص المؤمنون من العيوب، ويريهم ما هم مبتلون به من نقاط الضعف. إذ يجب لتحقيق الانتصارات في المستقبل أن يمتحنوا في بوتقة الاختبار، ويزنوا فيها أنفسهم كما قال الإمام عليّ عليه السلام: "في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال". 
 
ولهذا قد يكون لبعض الهزائم والنكسات من الأثر في صياغة المجتمعات الإنسانيّة وتربيتها ما يفوق أثر الانتصارات الظاهريّة. والجدير بالذكر أنّ مؤلف تفسير المنار نقل عن أستاذه مفتي مصر الأكبر الشيخ محمّد عبده أنّه قال: "رأيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الخميس الماضية (غرّة ذي القعدة سنة 1320) في الرؤيا منصرفاً مع أصحابه من أحد وهو يقول: "لو خيّرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة" أي لما في الهزيمة من التأديب الإلهيّ للمؤمنين وتعليمهم أن يأخذوا بالاحتياط ولا يغترّوا بشيء 
 

1- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج 2، ص 712 -714.
2- التمحيص والمحص أصله: تخليص الشيء ممّا فيه من عيب.
 
 
109
 

91

سنن التاريخ

 يشغلهم عن الاستعداد وتسديد النظر1. وأمّا نتيجة هذه التربية والصياغة الّتي يتلقّاها المؤمنون في خضمّ المحن والمصائب وأتون الحوادث المرّة فهو حصول القدرة الكافية لدحر الشرك والكفر دحراً ساحقاً وكاملاً. وإلى هذا أشار بقوله: ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ2. فإنّ المؤمنين بعد أن تخلّصوا - في دوّامة الحوادث - من الشوائب يحصلون على القدرة الكافية للقضاء التدريجي على الشرك والكفر، وتطهير مجتمعهم من هذه الأقذار والشوائب، وهذا يعني أنّه لابدّ أوّلاً من تطهير النفس ثمّ تطهير الغير. أي التطهّر ثمّ التطهير. وفي الحقيقة كما أنّ القمر - مع ما هو عليه من النور والبهاء الخاصّين به - يفقد نوره شيئاً فشيئا أمام وهج الشمس وبياض النهار حتّى يغيب في ظلمة المحاق فلا يعود يرى إلّا عندما تنسحب الشمس من الأفق، كذلك يأفل نجم الشرك وأهله وتتضاءل قوّة الكفر وأشياعه كلّما ازداد صفاء المسلمين المؤمنين، وخلصوا من رواسب الضعف والاعوجاج والانحراف. فهناك علاقة متقابلة بين تمحيص المؤمنين وارتقائهم في مدارج الخلوص والطهر، ومراتب الصفاء والتقوى ، وبين انزياح الكفر والشرك واندثار معالمهما وآثارهما عن ساحة الحياة الاجتماعيّة. هذه هي الحقيقة الكبرى والخالدة الّتي يلخصها القرآن في هاتين الجملتين اللتين تشكل الأولى منها المقدّمة والثانية النتيجة: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾3.


1- المنار: ج 4 ص 46.
2- المحق: النقصان ومنه المحاق لآخر الشهر إذا انمحق الهلال وامتحق وقلّ ضياؤه.
3- سورة آل عمران، الآيتان: 141-142.
 
 
110
 

92

عوامل الثبات والتزلزل

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه:
﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ1


1- سورة هود، الآية: 120.
 
 
111

93

عوامل الثبات والتزلزل

تمهيد
إنّ دراسة عوامل التزلزل عن الحقّ تعرّفنا على عوامل الثبات، وأسباب التزلزل تشير إلى أسبابا الثبات، تماماً كالتعرّف على أسباب المرض حتّى يعرف الإنسان أسباب الصحّة والسلامة.
 
أساليب العدوّ في المحنة
يبدأ الصراع بين الحقّ والباطل، فيتّهم أهلُ الباطل أنصارَ الحقّ بأنّهم مرفوضون من قبل الناس، ومن قبل المجتمع، ثمّ تتطوّر الأساليب فيتّهمونهم بالكذب والسحر والشعوذة والجنون، كما حصل مع النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وصولا إلى الشتائم والأذى الشخصيّ والمقاطعة والتعذيب والحصار، وانتهاء بالقتل والتعذيب والإبادة. ومن هنا ندخل للحديث عن عوامل الثبات والتزلزل:
 
العوامل المؤثّرة في التثبيت
في آخر سورة هود، يقول تعالى: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾1.


1- سورة هود، الآية: 120.
 
 
113

 

94

عوامل الثبات والتزلزل

لقد تعرّضت سورة هود في القرآن الكريم إلى عدد من قصص الأنبياء عليهم السلام، وكلّ هذه القصص المذكورة في هذه السورة على تنوّعها إنّما هي لأجل تثبيت فؤاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقلوب المؤمنين مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فهي موعظة وذكرى للمؤمنين، وهي حقّ ونثبّت بها فؤادك، لأنّ القلب إذا كان ثابتاً وقويّاً شجاعاً وصلباً عندها تثبت سائر الأعضاء.
 
ما هي عوامل التزلزل والثبات من القرآن والسنّة والتاريخ؟
 
1- الخوف من الموت:
في البداية يصمد صاحب الحقّ قليلاً، ولكن عندما تصل مسألة الثبات على الحقّ إلى روحه وعائلته وأحبّائه، وأنّه قد يتعرّض للقتل عندئذٍ قد يتزلزل، وشواهد ذلك من التاريخ كثيرة جدّاً، لكن نذكر شاهداً واحداً من كربلاء فقط، ففي الكوفة الّذين بايعوا الإمام الحسين عليه السلام وبايعوا مسلم بن عقيل سفير الحسين إليهم، عندما هدّدهم عبيد الله بن زياد بالقتل (مع استخدامه لقليل من الحرب النفسيّة حيث بثّ شائعة أنّ جيش يزيد من أهل الشام في الطريق إليهم) تزلزلوا وسقطوا في هذه المحنة وتخلّوا عن مسلم بن عقيل، وخذلوا الإمام الحسين عليه السلام.


وعلاج هذا السبب يتمّ من خلال عدّة أمور، لو اعتقدت النفس بواحد منها لارتفع الخوف من الموت، ولم تعد تتزلزل عن الحقّ في المحنة عندما تواجه الموت، وهذه الأمور هي:

ألف- أن يلقّن الإنسان نفسه حقيقة أنّ جميع الناس غير مخلّدين وكلّهم ميّتون، عندها لم يعد يبالي بالموت، وإنّما تختلف أسباب الموت:
من لم يمت بالسيف مات بغيره                تعدّدت الأسباب والموت واحد

ب- توهّم أنّ في الهروب نجاة:
تتوهّم أنفسنا أنّ التأخّر والهروب من الحرب والمعركة والابتعاد عن خطّ الحقّ 


114

95

عوامل الثبات والتزلزل

سوف يبعدنا عن الموت، والصحيح أنّ الموت له أجل: ﴿الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ1.

﴿......يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾2.

فتوهّم أنّ الهروب من الموت عند التحدّي والمحنة هو حفظ للنفس وإطالة للعمر! توهّم خاطئ وغير صحيح، والأسوأ من ذلك أنّ هذا النوع من الناس يموتون بوقت سريع، فكثير من قيادات وكوادر بل ومقاتلي جيش يزيد لم يلبثوا بعد الإمام الحسين عليه السلام إلّا قليلاً، فهل تستحقّ هذه السنوات القليلة للتزلزل والابتعاد عن الحقّ.
 
2- الخوف على الأموال والرزق:
والصحيح في أنّ الجهاد هو الّذي يجلب الرزق، ومن أراد أن يتأكّد فلينظر ما جرى على أهل المدينة في واقعة الحرَّة، و ما جرى على الأمّة بعد تخلّي الأمّة عن فلسطين. ثمّ لينظر في عاقبة الجهاد في لبنان حيث أعاد إلينا كلّ شيء أهلنا وقرانا وأموالنا وحافظ على أعراضنا..
 
3- ركون الناس إلى الدنيا:
إذ يعتقدون أنّها باقية دائمة، ويغفلون عن كونها زائلة فانية، لم تدم لغيرهم فكيف تدوم لهم؟!
 
انظر إلى الأمم السالفة إلى الفراعنة والعمالقة، إلى الفرس والروم، إلى حضارات كانت وولّت، إلى من شارك في قتل سيّد الشهداء عليه السلام ، من بقي منهم؟


1- سورة آل عمران، الآية: 168.
2- سورة آل عمران، الآية: 154.
 
 
115
 

 


96

عوامل الثبات والتزلزل

وأين هي دورهم وقصورهم؟ أموالهم وكنوزهم؟ عاشوا قليلاً، ورحلوا سريعاً، فلم تبقَ إلا آثارهم.. فهل تستحقّ هذه الدنيا أن نخسر لأجلها الآخرة فضلاً عن الدنيا نفسها؟!

من النافع هنا أن نتذكّر كلام الإمام الحسين عليه السلام لجيش ابن سعد (لعنه الله) حيث فقال: "الحمد لله الّذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقيّ من فتنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها وتخيّب طمع من طمع فيها"1

عمر بن سعد (لع) رضي بقتل الإمام الحسين عليه السلام طمعاً بشيء من حطام الدنيا (ملك الريّ وبعضاً من جرجان)، ولكنّه لم يبق بعد الحسين عليه السلام إلّا سنوات قليلة وقتل على يد المختار الثقفي. فخسر الدنيا والآخرة.

فالسبب الرئيس الّذي يجعل الإنسان ثابتاً على الحقّ هو عدم تعلّقه بالدنيا، وليس الزهد هو لباس الخشن وإنّما هو عدم التعلّق بالدنيا:
- عندما أخيّر بين الحقّ ونفسي أقدّم الحقّ، 
- عندما أخيّر بين الحقّ وولدي أقدّم الحقّ، 
- عندما أخيّر بين الحقّ ومالي أقدّم الحقّ وأنصر الحقّ وأقدّم كلّ شيء من أجل نصرة الحقّ. 
 
4- العلم والمعرفة:
بما أعدّه الله للثّابتين والمضحّين والمجاهدين فيقدّم الله على هواه لجنّة عرضها السماوات والأرض وحياة خالدة ورضوان ودار "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"... وأيّ شخص عاقل يعرف ويدرك أنّ وراء هذه الحياة الدنيا حياة بتلك العظمة ثمّ يتخلّى عنها؟!!


1- بحار الأنوار،العلامة المجلسي، ج45، ص6. 
 
 
 
116
 

97

عوامل الثبات والتزلزل

5- اللجوء إلى الله سبحانه: 
فإنّه ركن قويّ وحرز حريز عند التزلزل وعندما تبدأ النفس والشيطان والناس بالوسوسة وتثبيط العزائم،.. فنلجا إلى الله سبحانه، وعندما نطلب من الله أن يثبّتنا ويعيننا، فإنّ الله يستجيب لنا، وعلى طوال التاريخ كان يفعل المؤمنون ذلك: ﴿وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾1.

﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾2.

يعني هذا ديدن المؤمنين مع الأنبياء عليهم السلام. 
 
6- التأسّي:
بالأنبياء وبرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما تحمّله وصبر عليه من مكائد الدهر والأذى والآلام، وبأهل البيت الّذين تهون عند مصائبهم كلّ مصيبة وبصحابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المرحلة المكّيّة عندما عذّبوا وقتّلوا وشرّدوا: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾3.

﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾4.

أنست رزيّتكم رزايانا الّتي سلفت وهوّنت الرزايا الآتية


1- سورة البقرة، الآية: 250.
2- سورة آل عمران، الآيات: 146 148.
3- سورة الأحزاب، الآية: 21.
4- سورة الممتحنة، الآية: 4.
 
 
117




 

 


98

عوامل الثبات والتزلزل

للمطالعة

بلاء المؤمنين
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "وقد كان قبلكم قوم يقتلون ويحرقون وينشرون بالمناشير وتضيق عليهم الأرض برحبها فما يردّهم عمّا هم عليه شيء ممّا هم فيه من غير تِرة وتروا من فعل ذلك بهم ولا أذى،﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، فاسألوا ربّكم درجاتهم واصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيهم"1.
 
وعن الإمام أبي جعفر عليه السلام قال: "بعث الله نبيّا حبشيّا إلى قومه فقاتلهم، فقتل أصحابه وأسروا وخدّوا لهم أخدودا من نار ثمّ نادوا: من كان من أهل ملّتنا فليعتزل، ومن كان على دين هذا النبيّ فليقتحم النار، فجعلوا يقتحمون، وأقبلت امرأة معها صبيّ لها فهابت النار، فقال لها: اقتحمي، قال: فاقتحمت النار، وهم أصحاب الأخدود"2
 

1- الكافي، ج 8، ص 248.
2- البحار، ج 14، ص 441.
 
 
118
 
 

 

99

حسن العاقبة

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه:
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾1


1- سورة القصص، الآية: 83.
 
 
 
119
 
 
 

100

حسن العاقبة

تمهيد 
من المسائل المهمّة جدّاً في حياتنا وسلوكنا وعلاقتنا مع الآخرين مسألةُ تقييم الأشخاص وكيفيّة التعامل معهم، هل على أساس الماضي فقط؟ أم على أساس الحاضر؟ وما هي الأسس الّتي نبني عليها موقفنا العاطفيّ والعمليّ تجاههم؟ 

فإذا أردنا تقييم إنسانٍ ما، فإنّ من الجَور أن نبني موقفنا على ماضيه فقط، بل يجب الأخذ بعين الاعتبار حاضر هذا الإنسان. أمّا الّذي يختلف ماضيه عن حاضره؛ فإنّ الإسلام يقودنا للتعاطي معه على أساس حاضره، فالمهمّ هو حاضر الإنسان الآن وواقعه الحاليّ.
 
وبناءً على ذلك، فإنّ المعيار الّذي يتعلّق بحسابات وموازين الآخرة في تقييم الأشخاص هو حالهم عند رحيلهم عن هذه الدنيا؛ فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنّة سبعين سنة فيحيف (يظلم) في وصيّته فيختم له بعمل أهل النار، وإنّ الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيّته فيختم له بعمل أهل الجنّة"1.
 
فالرواية تشير إلى أنّ العمل الّذي يختم به الإنسان حياته مؤشرٌ على حاله ووزنه في الآخرة.


1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 100، ص 200.
 
 
 
121

 

101

حسن العاقبة

حسن العاقبة: دعاءُ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام 
إنّ الّذي يجب أن يشغل بال الإنسان حقيقةً ليس الحاضر فقط بل حاله ومآله في المستقبل؛ مستقبل دينه وسلوكه وأخلاقه والتزامه، التزامه الفكريّ والسياسيّ والعمليّ. فهذا الّذي ينبغي أن يشغل حيّزاً كبيراً من تفكيره؛ ولهذا نجد في الأدعية عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام الطلب من الله أن يختم حياتهم بالخير وأن يرزقهم حسن العاقبة وأن يجعل عواقب أمورهم خيراً.

وهنا، علينا أن نفكّر ماذا ينبغي أن نفعل لتكون خاتمتنا طيّبة فتحسن عاقبتنا؟ وما هي الأمور الّتي علينا أن نحذر منها ونبتعد عنها حتّى لا تسوء عاقبتنا؟

عوامل مؤثّرة في العاقبة
إنّ العوامل والأمور المؤثّرة في هذا المقام كثيرة، ولكنّنا سنتعرّض للمهمّ والمؤثّر منها:

1- الأمن من مكر الله سبحانه وتعالى:
ويكون ذلك من خلال اطمئنان الإنسان إلى عمله الماضي واعتبار نفسه متديّناً، مجاهداً ومضحّياً... وقد يصل به ذلك إلى الإعجاب بعمله والاغترار به.

وهذا الأمن من مكر الله سبحانه يؤدّي إلى نتائج سلبيّة على المستوى الروحيّ. ومع الوقت يجد الإنسان نفسه في مكان آخر؛ مع العصاة والظالمين. يقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: "يا ابن آدم إذا رأيت ربّك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره"1.

فانتبه أيّها الإنسان من أن تعتَبر نفسك أهلاً لهذه النّعم. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحذّر من هذا الأمر ويوصي المؤمن بأن يكون خائفاً وقلقاً من سوء العاقبة، فعنه صلى الله عليه وآله وسلم: 
 

1- نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام )، الشريف الرضي، ج 4، ص 7.
 
 
122
 

102

حسن العاقبة

"لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة، لا يتيقّن الوصول إلى رضوان الله حتّى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له..."1. فقلق المؤمن وخوفه ينتهيان عند نزع الروح. فما دام التكليف فعليّاً عليه فهو في حالة خوفٍ وقلقٍ من أن يختم حياته بعملٍ سيّئ فتسوء عاقبته لا سمح الله.
 
2- اليأس من رحمة الله:
عندما يتذكّر الإنسان ماضيه السيّئ ومعاصيه وآثامه وخطاياه اّلتي قد ارتكبها قد ييأس من رحمة الله, ويعتبر أنّ باب التوبة قد أُغلق بوجهه، وهذا يجعله يغرق أكثر في المعصية، وبالتالي تسوء خاتمته وعاقبته.
 
إلا أنّ الجواب الإلهيّ على مثل هذا اليأس قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾2, فالآية تقرّر أنّ باب التوبة والإنابة والرجوع إلى الله مفتوح ولا يجوز للإنسان أن ييأس من رَوح الله مهما كانت ذنوبه ومعاصيه كثيرة. إلّا أنّ هناك أمراً لا بُدّ من الالتفات إليه، وهو أنّ هذا الاستغفار لا علاقة له بما تعلَّق في ذمّة الإنسان من حقوق الناس، كالاعتداء عليهم أو على أموالهم وممتلكاتهم. فلا بُدّ من إرجاع الحقوق إلى أصحابها والاستحلال منهم، فإنّ ذلك شرط لقبول التوبة.

من هذين العاملين نفهم معنى أن يعيش الإنسان المؤمن بين الخوف والرجاء؛ فلا الأمن من مكر الله جائز ولا اليأس من رحمته جائز أيضاً.
 
3- الغفلة عن الله سبحانه وتعالى:
فالإنسان المؤمن بالله سبحانه يمكن أن يغفل عنه وينساه, هذه الغفلة إذا طالت فإنّها تؤدّي إلى قسوة القلب وإلى البعد عن الله، بل الله سبحانه قد ينسانا ﴿نَسُواْ


1- بحار الأنوار، ج 6، ص 176. 
2- سورة الزمر، الآية: 53.
 
 
123
 

 


103

حسن العاقبة

اللّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾1 ويكلنا إلى أنفسنا ويرفع عنّا عنايته وهدايته ولطفه، وبالتالي ستكون عاقبتنا وخاتمتنا سيّئة. وكذلك عندما نأتي لموضوع الغفلة عن الموت وعمّا بعد الموت فإنّ ذلك يؤدّي إلى قسوة القلب والتعلّق بالدنيا والغرق في الشهوات والأطماع والأهواء فتسوء عندئذٍ العاقبة والخاتمة.
 
فالّذي يغفل عن الله ولا ينتبه إلى انغماسه في المعاصي لا يجد ما يردعه عن تلك الأفعال والأقوال, ولكن، بالمقابل، الّذي يبقى يقظاً من خلال حضور الله سبحانه وتعالى في وجدانه لا يغفل ولا ينسى، بل يبقى ذاكراً، وهنا الذكر ليس المراد منه الذكر اللسانيّ، بل الذكر الحقيقيّ الّذي نرى من خلاله حضور الباري عزّ وجلّ في كلّ المواقف، فلا نعصيه خجلاً وحياءً منه، ولا نطيعه تقرّباً وتزلّفاً للناس، بل شوقاً وحبّاً له عزّ وجلّ.
 
هذا التذكُّر لله سبحانه والانتباه إلى حضوره وإلى مراقبته وإلى أنّه سميعٌ وبصير ومحيط، يمنع الإنسان من المعصية ويشجّعه على الطاعة. وفي حديث للإمام الباقر عليه السلام قال: "ثلاثٌ من أشدّ ما عمل العباد: إنصاف المرء من نفسه، ومواساة المرء أخاه، وذكر الله على كلّ حال؛ وهو أن يذكر الله عزّ وجلّ عند المعصية يهمُّ بها فيحُول ذكر الله بينه وبين تلك المعصية، وهو قول الله عــــــزّ وجـــلّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ 3.2

فلنتأمّل، في هذه الأمور الثلاثة الّتي ذكرتها الرواية فإنّها من أشدّ ما فرض الله:


1- سورة التوبة، الآية: 67.
2- سورة الأعراف، الآية: 201.
3- الخصال، الشيخ الصدوق، ص 131.
 
 
 
 
124


 

 


104

حسن العاقبة

الأمر الأوّل: إنصاف الناس من نفسك 
وفي الواقع تحقيق هذا الأمر بحاجة إلى مجاهدة وإلى مرتبة عالية من الإيمان، فأن تحكم بالعدل بين المتخاصمين أمر جيّد ومطلوب، ولكن أن تحكم بالعدل فيما لو كنت أنت نفسك أو أحد أقربائك طرفاً في القضيّة، فهذا بحاجة إلى إخلاص وإلى مرتبة عالية من التقوى والورع والتوفيق الإلهيّ.
 
الأمر الثاني: مواساتك لأخيك 
أن تواسي أخاك في مالك إذا احتاج إليه أو وقع في مشكلة فتعينه وتشدّ أزره. وهنا كلمة الأخ مطلقة يراد منها الأخ في الإيمان وهي أعمّ من الأخ الرحميّ، وإن كان الأخ المؤمن الرحميّ صاحب حاجة فهو أولى من غيره.
 
الأمر الثالث: ذكر الله على كلّ حال
هذا الذكر الّذي يرغّبك في طاعة الله ويقوّي عزيمتك ويدفعك ويحثُّك للاقتراب أكثر في ساحة العبوديّة لله سبحانه وتعالى، كما أنّه يردعك ويمنعك من ارتكاب المعصية.

وفي الواقع، إنّ التجربة تقودنا إلى أن لا نركن إلى أيّة ضمانات وأن لا ندع طول الأمل يدخل ساحتنا، فلا الشباب ولا الصحّة ولا المال يمكن أن تشكّل ضمانة للإنسان لتجنّب سوء العاقبة وسوء الخاتمة. 

وفي هذا السياق نرى أنّ الكثير من التشريعات الإسلاميّة جاءت لتحثَّ الإنسان على التذكّر والتفكّر بالعاقبة والخاتمة، ومن ذلك استحباب إعلام المؤمنين عند موت الإنسان، ومواساة أهله، واستحباب زيارة القبور.. فكلّ هذه الأمور تحيي قلب الإنسان بالموعظة وتجعله ذاكراً، لا يغفل ولا ينسى ربّه.

عن الإمام الباقر عليه السلام: "إيّاك والغفلة، ففيها تكون قساوة القلب"1.


1- بحار الأنوار، ج 75، ص 164.
 
 
125
 

105

حسن العاقبة

4- التقوى والتزكية:
يقول تعالى مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾1، ويقول: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾2.

نستفيد من هاتين الآيتين أنّ العاقبة الحسنة هي نتاج التقوى, والتقوى تعني أن يتّقي الإنسان كلّ ما يُفضي إلى الإثم ويوقعه فيه؛ ولذلك ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "التقوى اجتناب"3، وبمعنى آخر التقوى تعني المراقبة، أي أن يعيش الإنسان حالةً يراقب فيها نفسه وأقواله وأعماله فيردعها عن ارتكاب الذنوب وفعل المعاصي ويشجّعها على فِعل الطّاعات والواجبات.

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصيّته لأبي ذر: "عليك بتقوى الله فإنّها رأس الأمر كلّه"4. فالتقوى هي الأساس والأصل للأمور الثلاثة الّتي تقدّم ذكرها، ومن حصل عليها فقد تمسّك برأس الأمر كلّه.

وعن الإمام عليّ عليه السلام: "أيسرُّكَ أن تكون من حزب الله الغالبين؟ اتّق الله سبحانه وأحسن في كلّ أمورك، فـ ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾5"6. والحديث الأخير في مسألة التقوى هو ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "التقوى حصنٌ حصين..."7. فالمتّقي محصَّن، فلا شياطين الجنّ والإنس ولا الفضائيّات ولا الإنترنت ولا زخارف الدنيا وبهارجها ولا كلّ ما يراه ويسمعه يمكن أن ينالوا من عزمه وإرادته والتزامه واندفاعه وتقواه.


1- سورة طه، الآية: 132.
2- سورة القصص، الآية: 83.
3- عيون الحكم والمواعظ، الليثي الواسطي، ص 60.
4- بحار الأنوار، ج 63، ص 289.
5- سورة النحل، الآية: 128.
6- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 1، ص 600.
7- بحار الأنوار، ج 75، ص 62.
 
 
126

 

106

حسن العاقبة

التزكية ضمانة التقوى
وأمّا التزكية الّتي من خلالها يصل الإنسان إلى مرحلة يسيطر فيها على قواه النفسيّة والجسديّة فتصبح نفسه مطيعةً ومنسجمةً ومقتنعةً وتابعةً لما يريده الله سبحانه، فلا يحتاج بعدها المرء لمعركة مع نفسه الأمّارة حتّى يتخلّى عن الذنب ويتركه، بل يرى أنّه من السهل اجتناب المعاصي والذنوب. هذه التزكية بحاجة إلى تربية وجهد وعناء وصبر وعزيمة وإصرار وتوكّل وإرادة، وبالتالي يصبح عندنا ضمانة للتقوى ولحسن العاقبة ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾1، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾2.

وفي الختام نذكر أنّ هناك أعمالاً خاصّة تساعد على حسن العاقبة، منها قضاء حوائج الإخوان والإحسان إليهم، فعن الإمام الكاظم عليه السلام: "إنّ خواتيم أعمالكم قضاءُ حوائج إخوانكم والإحسان إليهم ما قدرتم، وإلّا لم يقبل منكم عمل، حنّوا على إخوانكم وارحموهم تلحقوا بنا"3

نسأل الله سبحانه وتعالى حُسن العاقبة، وأن يختم لنا بخير، وأن يُعيننا على أنفسنا، وعلى ابتلاءاتنا، وعلى اختباراتنا، وعلى امتحاناتنا؛ لنكون إن شاء الله من أهله ومن أهل جنّته ورضوانه ومن أهل جواره، وهذا ما يحتاج إلى الدعاء والنيّة والعزم والإرادة والجهد.


1- سورة الشمس، الآية: 9.
2- سورة الأعلى، الآية: 14.
3- بحار الأنوار، ج 72، ص 379.
 
 
127

 

107

حسن العاقبة

للمطالعة

العالم المنحرف "بلعم بن باعوراء"
1

﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾2
 
تحكي هذه الكلمات الإلهيّة قصّة رجل كان في البداية في صفّ المؤمنين، وحاملاً للعلوم الإلهيّة والآيات، إلا أنّه انحرف عن هذا النهج، فوسوس له الشيطان، فكانت عاقبة أمره أن انجرّ إلى الضلال والشقاء!
 
نعم، ليس هناك ذكر لاسم أحد بعينه، بل تحدثت الآيتان عن عالم كان يسير في طريق الحقّ ابتداء وبشكل لا يفكّر معه أحد بأنّه سينحرف يوماً، إلّا أنّه نتيجة لاتباعه لهوى النفس وبهارج الدنيا انتهى إلى السقوط في جماعة الضالّين واتّباع الشياطين.
 
غير أنّنا نستفيد من الروايات وأحاديث المفسّرين أنّ هذا الشخص يسمّى (بعلم بن باعوراء) الّذي عاصر النبيّ موسى عليه السلام وكان من مشاهير علماء بني إسرائيل، حتّى أنّ موسى عليه السلام كان يعوّل عليه على أنّه داعية مقتدر، وبلغ أمره أنّ دعاءه كان مستجاباً لدى الباري جلّ وعلا، لكنّه مال نحو فرعون وإغراءاته فانحرف عن الصواب، وفقد مناصبه المعنويّة تلك حتّى صار بعدئذٍ في جبهة أعداء موسى عليه السلام.
 
ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "الأصل من ذلك بلعم، ثمّ ضربه الله مثلا لكلّ مؤثرٍ هواه على هوى الله من أهل القبلة".


1- تفسير الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، ج5، ص297, بتصرّف.
2- سورة الأعراف، الآيتان: 175- 176.
 
 
128
 

108

حسن العاقبة

 ومن هذا يتبيّن أنّ الخطر الأكيد الّذي يهدّد المجتمعات الإنسانيّة هو خطر المثقّفين والعلماء الّذين يسخّرون معارفهم للفراعنة والجبّارين؛ لأجل أهوائهم وميولهم الدنيويّة (والإخلاد إلى الأرض) ويضعون كلّ طاقاتهم الفكريّة في سبيل الطاغوت الّذي يعمل ما في وسعه لاستغلال مثل هذه الشخصيّات لإغفال وإضلال عامّة الناس.
 
ولا يختص الأمر بزمن النبيّ موسى عليه السلام أو غيره من الأنبياء عليهم السلام ، بل حتّى بعد عصر النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا نجد أمثال بلعم بن باعوراء وأبي عامر الراهب وأميّة بن الصلت، يضعون علومهم ومعارفهم ونفوذهم الاجتماعيّ من أجل الدرهم والدينار، أو المقام، أو لأجل الحسد، تحت اختيار المنافقين وأعداء الحقّ والفراعنة أمثال بني أميّة وبني العباس وسائر الطواغيت.
 
ويمكن معرفة أولئك العلماء من خلال أوصاف أشارت إليها الآيات محلّ البحث، فإنّهم ممّن نسي ربّه واتّبع هواه، وهم ذوو نزوات سخّروها للرذيلة بدل التوجّه نحو الله وخدمة خلقه، وبسبب هذا التسافل فقدوا كلّ شيء ووقعوا تحت سلطة الشيطان ووساوسه، فسهل بيعهم وشراؤهم، وهم كالكلاب المسعورة الّتي لا ترتوي أبداً، ولهذه الأمور ترك هؤلاء سبيل الحقيقة وضلّوا عن الطريق حتّى غدوا أئمّة الضلال.
 
ويجب على المؤمنين معرفة مثل هؤلاء الأشخاص والحذر منهم واجتنابهم.

 
129

109
مواعظ شافية