وموعظة للمتقين


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-05

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

 بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة
 
 
بعد أن لاقى كتاب الموعظة الصادر عن مركز نون في جمعية المعارف الإسلاميّة صدى إيجابيّاً لدى العلماء الكرام، سعى المركز لوضع اثنتي عشرة موعظة جديدة لتكون مادّة وعظية بين أيديهم، وهذه المواعظ المختارة مستقاة من حاجة لواقع بعض مجتمعاتنا وبيئاتنا، وممّا قد يعانيه بعض الأخوة الأعزّاء، ولم نتعرّض لصلب المشاكل الاجتماعية الجزئيّة، تاركين ذلك لوعي وخبرة العلماء الكرام، مكتفين بالإشارة؛ لأنّ اللبيب تغنيه الإشارة، وعليه أن يفرّع الأمثلة من البيئة الّتي يعيشها الواعظ الكريم.
 
وحيث إنّ هذه المواعظ لا تُعطى إلّا لأهلها، ولمن يريد تهذيب نفسه والرقيّ بها وبمجتمعه نحو مجتمع أفضل وأسمى، حاولنا قدر الإمكان إغناء هذه المواعظ بالآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، لأنّها المعيار الفاصل في عملية التكامل الإنسانيّ. وقد ارتأينا أن تكون تسمية هذه المواعظ مقتبسةً من الآية القرآنية الكريمة ﴿وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ1.

 

 

1- سورة النور، الآية: 34.
 
 
 
5

 


1

المقدّمة

 نسأل الله سبحانه وتعالى أن يملأ بهذا الكتاب فراغاً في الساحة الاجتماعيّة، ويعالج بعض الظواهر والمشكلات الّتي يسعى لمعالجتها المخلصون، وأن يرزقنا حسن العاقبة والفوز بالجنّة والرضوان مع محمّد وآله صلوات الله عليهم أجمعين.

 

مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
 
 
6

2

عالم الغيب والشهادة

 الدرس الاول: عالم الغيب والشهادة



يقول الله تعالى في محكم كتابه:

 

﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ

 

(سورة البقرة، الآيتان: 2-3)
 
 
 
 
7

3

عالم الغيب والشهادة

 تمهيد:

 
يقول تعالى في كتابه المجيد: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ1، جاعلاً سبحانه أوّل صفة للمتّقين إيمانهم بالغيب، فما هو الغيب؟ وما هي أهميّة الإيمان به؟ وما هي نتائجه؟ هل ما سنتعرّض له في حديثنا هو من باب الترف الفكريّ خاصة أنّه قد يُقال بما أنّنا في عصر العلم والتجربة وبعد إخضاع كلّ شي‏ء للحسّ والمشاهدة، ما معنى البحث عن الغيب والإمداد الغيبيّ وكلّ ما هو وراء عالم الطبيعة؟

 

 
بين العلم والغرور العلميّ‏:
 
والحقّ أنّ هذا الاعتراض ناشيء من الجهل، بل هو أقبح منه، فإنّ الجمود والغرور العلميّ أقبح من الجهل، والعالِم الحقيقيّ هو الّذي يعترف بجهله، يقول تعالى: ﴿...وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً2.

 

 
وفي نفس الوقت لا يقبل أيّ حقيقة ولا يُنكر أيّ دعوى إلا بدليل، وأمّا إذا اكتفى العالِم بما لديه من معلومات وجمد على ما وصل إليه فهو الغرور بعينه وهو أقبح من
 
 

1- سورة البقرة، الآيتان: 2 و 3.
2- سورة الإسراء، الآية: 85.
 
 
 
9

4

عالم الغيب والشهادة

 الجهل بكثير.

 
وحسّ التحقيق أكثر قداسة من العلم نفسه، وإنّما يُعتبر العلم مقدّساً حينما يُلازم روح التحقيق واتّباع الدليل، وهذه الروح لا توجد إلا في العالِم الّذي يعترف بنقصه العلميّ والثقافيّ، وفي الحديث حول تقسيم العلم:
 
"العلم ثلاثة أشبار فمن نال منه شبراً شمخ بأنفه وظنّ أنّه هو، ومن نال منه الثاني صغرت إليه نفسه وعلم أنّه ما ناله، وأمّا الثالث فهيهات لا يناله أحد"1.
 
فالّذي ينال الثاني يتواضع فكيف بالّذي ينال الشبر الثالث؟ والدين الإسلامي لم يكن أبداً ضدّ العلم، بل على العكس كان محفِّزاً للعلم باتّجاه التحقيق باعتراف الكثير من العلماء2، ولذلك نحن علينا أنْ نقبل عالم الغيب والإمدادات الغيبية بالدليل والبرهان.
 
ما هو الغيب؟
 
وردت كلمة الغيب في أكثر من موضع في القرآن الكريم حيث يقول سبحانه وتعالى:
 

 

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ...3.

 

 
ويقول: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ...4.

 

 
وكذلك يقول تعالى: ﴿...عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ...5.

 

 
ويُراد بالغيب الأمور الخفيّة والغائبة عن الحسّ. واصطلح الفلاسفة على
 
 

1- فيض القدير في شرح الجامع الصغير للمناوي ج 4، ص 509.
2- يقول وليم جيمس: "إنّ الدين يشير إلى بعض الأمور والأشياء الّتي لا طريق للعلم والعقل لمعرفتها، ولكنّ هذه المؤشّرات هي التّي حفّزت العلم والعقل على التحقيق وبالتالي توصل الكثير إلى الاكتشافات والاختراعات في مختلف الميادين" نقلاً عن مجموعة الآثار للشهيد مرتضى مطهري ج 3، ص 336.
3- سورة البقرة، الآية: 3.
4- سورة الأنّعام، الآية: 59.
5- سورة الزمر، الآية: 46.
 
 
 
 
10

5

عالم الغيب والشهادة

وصف عالَم الطبيعة(المادّة) بعالَم الشهادة، وعالَم الملكوت (التجرّد من المادّة والجسميّة) بعالَم الغيب1 

 
عالَم الشهادة:
 
هو العالَم الّذي نراه ونلمسه ونسمعه وكلّ ما له علاقة بالحواس، وهذا العالَم لا يحتاج في إثباته والإيمان به إلى دليل غير الحواس الخَمس.
 
عالَم الغيب‏:
 
هو العالَم الّذي يغيب عن الحواس، ولا تكفي الحواس وحدها للكشف والتعرُّف إلى هذا العالَم ومن ثَمَّ الإيمان به، وإنّما المرء بحاجة إلى مساعدة العقل2، وإلى قوّة أكثر خفاء للإيمان بالغيب، وهي إخبار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو الوليّ عليه السلام.
 
فالأنبياء عليهم السلاملم يُبعثوا ويُكلَّفوا بإقناع الناس بوجود عالم الغيب والاعتقاد به، فقط، بل بُعثوا لأجل أنْ يؤمن الناس به وبالإمدادات الغيبيَّة، فكانوا همزة الوصل بين الناس والغيب وما يُفاض عنه وفق الشروط الخاصّة، ومن هنا كان لمسألة الغيب علاقة بالواقع العمليّ للإنسان.
 
ستار الغيب‏:
 
ما هو ستار الغيب الّذي أُسدل بيننا وبين الغيب؟
 
هل هو حجاب وستار مادّيّ أو أنّ التعابير المستعملة كنايات عن معنى ومفهوم خاص؟ فقد استعمل القرآن الكريم تعبير الغطاء، حيث يقول سبحانه:
 

 

﴿كَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ3.

 

 

1- وقد استوحوا ذلك من التعبير القرآني في آية الزمر.
2- يعتبر العقل مرتبة من مراتب الغيب.
3- سورة ق، الآية: 22.
 
 
 
 
11

 


6

عالم الغيب والشهادة

 وكذلك ورد في القول المشهور المنسوب لأمير المؤمنين علي عليه السلام: "لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً"1.

 
ومن المسلّم أنّ هذا الستار ليس ستاراً مادّيّاً محسوساً، وإنّما هو كناية عن حجاب محدوديّة الحواسّ الّتي لا يتسنّى لها إدراك غير الأمور المحسوسة والمحدودة. ولتوضيح هذا الستار بشكل أفضل ندخل في بحث:
 
المحدود واللّامحدود:
 
يُمكن تقسيم الموجود إلى الموجود المحدود والموجود اللّامحدود. ومن خلال معرفة المحدود نعرف اللّامحدود، وهذا ما يصطلح عليه (تعريف للشي‏ء بضدّه أو بنقيضه)، ويُستعمل هذا الأسلوب عندما لا يُمكن للحواس أنْ تتعرّف إلى الشيء.
 
المحدود: كلّ جسم يشغل حيِّزاً مكانيّاً فهو موجود فيه وغير موجود في غيره، وإذا وجد في غيره فهو غير موجود في المكان السابق. 
 
إذاًََ، الجسم محدود بمكان خاصٍّ ولا يُمكن له أنْ يكون في موضعين في نفس الوقت، والكلام نفسه بالنسبة للزمان فهو موجود في هذا الزمان مثلاً وغير موجود في الزمان السابق أو اللاحق.
 
إذاًَ، الجسم محدود بزمان خاصٍّ أيضاً، وجميع الموجودات في عالم الطبيعة الّتي نُدركها بالحواسّ هي من هذا القبيل، أيْ إنّها محدودة بالزمان والمكان. 
 
اللّامحدود: وهو نقيض المحدود، أيْ إنّه الموجود الّذي لا يحدّه الزمان ولا المكان.
 
وبتعبير آخر هو الذي لا يُحدّ بزمان ولا مكان ولا يحتاج في وجوده إليهما، وبتعبير ثالث هو الموجود المحيط بالزمان والمكان.
 

1- منتهى المطلب للعلّامة الحلّي ج‏3، ص‏44، ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج‏1، ص‏317، ومستدرك سفينة البحار للشيخ علي النمازي ج‏5، ص‏163. ومن كلام له عليه السلام بعد تلاوة ألهاكم التكاثر: "... فلو مثّلتهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك وقد ارتسخت بالهوام فاستكّت...." نهج البلاغة من خطب الإمام علي عليه السلام ، ص‏208، تحقيق الشيخ محمّد عبده. (المحرِّر)
 
 
 
 
12

7

عالم الغيب والشهادة

  مثالٌ توضيحيٌّ: عندما نسمع صوت الرعد مثلاً فإنّنا نُلاحظ أنّ هذا الصوت يمتدّ لثوانٍ معدودة ثُمَّ ينقطع، فهذا الصوت لم يكن ثُمَّ كان ثُمَّ انقطع، وحاسّة السمع إنّما تُدرك هذه الأصوات المحدودة زماناً الّتي توجد تارة وتنعدم أخرى، ولكنْ لو فُرض أنّ هناك صوتاً ممتدّاً عبر الزمن كان وما زال ولا يزال مستمرّاً منذ الأزل وإلى الأبد، فإنّ حاسّة السمع لا يُمكن لها سماع هكذا صوت، لأنّه صوت غير محدود ونطاق عمل الحواسّ هو الموجودات المحدودة لا غير.


ونفس الكلام يجري لو فرض موجود غير محدود بمكان فإنّ حاسّة البصر لا يُمكن لها أنْ تراه لأنّ مجال عملها هو الأجسام المحدودة المكانيّة.

تُعرف الأشياء بأضدادها: إنّما نعرف النور لأنّ هناك ظلمة، فالنور قد يوجد وقد لا يوجد فهو محدود بمكان وزمان.

أمّا لو كان غير محدود وكان النور شاسعاً مستمرّاً ولا وجود للظلمة، عندها لا يُمكن لنا إدراك النور، وكان هذا الموجود، الّذي هو أظهر الأشياء وهو الظاهر بنفسه المظهر لغيره من الأشياء، خافياً علينا.
وكذلك الله تعالى اسمه، فالعالَم بأسره فيض من فيوضاته، وهو موجود في كلّ مكان وزمان، ولكنّ شدّة ظهوره كانت سبب خفائه، فهو خفيٌّ لأنّه ليس له غياب فحيثيّة الظهور والخفاء واحدة فيه، وقد ورد في دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة "... أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلُّ عليك؟ ومتى بعُدت حتّى تكون الآثار هي الّتي توصل إليك؟.."

مثال السمكة: السمكة لا تُدرك الماء الّذي يُحيط بها من كلّ جانب فلذلك هي لا تعرف الماء، لكنْ عندما توضع على اليابسة (ضدّ الماء) تُدرك معنى الماء وتشعر بأهمّيّته بالنسبة لها، فلولا اليابسة ما عرفت معنى الماء ولولا الماء ما عرفنا نحن معنى اليابسة.
 
 
 
 
13

8

عالم الغيب والشهادة

 النتيجة

 
إذاً الغيب إنّما هو غيب بالنسبة لنا لقصور قدراتنا الحسّيّة عن التعلُّق باللّامحدود، لا أنّه هناك حائل وحاجب بين قدراتنا الإدراكيّة والحسيّة وبين الغيب. 
 
محدوديّة الحواس‏ّ:
 
تعرّض الشاعر الفارسيّ مولوي قبل قرون لفكرة قصور الحسِّ البشريّ حيث ضرب مثالاً لذلك في أبيات جميلة وعُرف المثال من بعده بمثال الفيل.
 
فقد صوّر أنّ الهنود جاؤوا بفيلٍ لعرضه في بلدٍ لم يرى أهله الفيل من قبل ولكنْ وضعوه في اللّيل في غرفة مظلمة، وعندما تهافت الناس للتعرُّف إلى هذا الموجود الجديد بدؤوا بتحسّسه باللّمس لأنّه لا مجال للبصر في الليل، فمن لمس خرطومه قال إنّه موجود كالميزاب، ومن لمس أذنه قال إنّه كالمروحة اليدويّة، ومن لمس قدمه قال إنّه كالأسطوانة، ومن لمس ظهره قال إنّه كالسرير، ولكن لو حمل كلّ واحد شمعة بيده وأعمل حاسّة بصره لزال الاختلاف من الأساس.
 
إذن، اللّامسة أكثر محدوديّة من الباصرة الّتي تُدرك الحجم الكبير بصورة موجود واحد، ونسبة حدود اللّامسة إلى الباصرة تُشبه حدود الحاسّة المحدودة إلى الحاسة اللّامحدودة (النسبيّ)، ونفس هذه النسبة بين الحواسّ كلّها.
 
أهميّة الإيمان بالغيب:
 
يقول تعالى في صفة المتّقين: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ1.

 

 
الإيمان بالغيب هو بالضبط النقطة الفاصلة الأولى بين المؤمنين بالأديان السماويّة، وبين منكري الخالق والوحي والقيامة.
 
 

1- سورة البقرة، الآية: 3.
 
 
 
 
14

9

عالم الغيب والشهادة

  ومن هنا كان الإيمان بالغيب أوّل سمة ذُكِرت للمتّقين. المؤمنون خرقوا طوق العالَم الماديّ، واجتازوا جدرانه. إنّهم بهذه الرؤية الواسعة مرتبطون بعالَمٍ كبيرٍ لا متناهٍ. بينما يُصرُّ معارضوهم على جعل الإنسان مثل سائر الحيوانات، محصوراً في موقعه من العالَم الماديّ. وهذه الرؤية الماديّة تقمّصت في عصرنا صفات العلميّة والتقدّميّة والتطوّريّة!


لو قارنّا بين فهم الفريقين ورؤيتهما، لعرفنا أنّ "المؤمنين بالغيب" يعتقدون أنّ عالم الوجود أكبر وأوسع بكثير من هذا العالَم المحسوس، وخالق عالم الوجود غير متناه في العلم والقدرة والإدراك، وأنّه أزليٌّ وأبديٌّ، وأنّه صمّم هذا العالَم وفق نظام دقيق متقن. ويعتقدون أنّ الإنسان - بما يحمله من روح إنسانيّة - يسمو بكثير على سائر الحيوانات، وأنّ الموت ليس بمعنى العدم والفناء، بل هو مرحلة تكامليّة في الإنسان، ونافذة تطلُّ على عالمٍ أوسع وأكبر. بينما الإنسان الماديّ يعتقد أنّ عالَم الوجود محدود بما نلمسه ونراه، وأنّ العالم وليد مجموعة من القوانين الطبيعيّة العمياء الخالية من أيِّ هدف أو تخطيط أو عقل أو شعور. والإنسان جزء من الطبيعة ينتهي وجوده بموته، يتلاشى بدنه، وتندمج أجزاؤه مرّة أخرى بالمواد الطبيعيّة. فلا بقاء للإنسان، وليس ثمّة فاصلة كبيرة بينه وبين سائر الحيوانات! 

ما أكبر الهوّة الّتي تفصل بين هاتين الرؤيتين للكون والحياة ! وما أعظم الفرق بين ما تفرزه كلّ رؤية من حياة اجتماعيّة وسلوك ونظام ! 

الرؤية الأولى تُربّي صاحبها على أنْ يُنشد الحقّ والعدل والخير ومساعدة الآخرين، والثانية، لا تُقدِّم لصاحبها أيَّ مبرِّر لممارسة الأمور اللّهمّ إلّا ما عاد عليه بالفائدة في حياته الماديّة. من هنا يسود في حياة المؤمنين الحقيقيّين التفاهم والإخاء والطهر والتعاون، بينما تُهيمن على حياة المادّيين روح الاستعمار والاستغلال وسفك الدماء والنهب والسلب. ولهذا السبب نرى القرآن يتّخذ من "الإيمان بالغيب" نقطة البداية في التقوى.
 
 
 
 
15

10

عالم الغيب والشهادة

 مطالعة 

 
جزاء العفّة
 
عن الإمام عليٍّ بن الحسين عليهما السلام، قال: "إنّ رجلاً ركب البحر بأهله فكسر بهم، فلم ينج ممّن كان في السفينة إلا امرأة الرجل، فإنّها نجت على لوح من ألواح السفينة حتّى ألجأت على جزيرة من جزائر البحر وكان في تلك الجزيرة رجلٌ يقطع الطريق ولم يدع لله حرمة إلا انتهكها فلم يعلم إلا والمرأة قائمة على رأسه، فرفع رأسه إليها فقال: إنسيّة أم جنيّة؟ فقالت: إنسيّة، فلم يُكلِّمها كلمة حتّى جلس منها مجلس الرجل من أهله.
 
فلمّا أن همّ بها اضطربت، فقال لها: ما لك تضطربين؟ فقالت: أفرق (الفَرَق: الخوف) من هذا - وأومأت بيدها إلى السماء - قال: فصنعت من هذا شيئاً؟ قالت: لا وعزّته.
 
قال: فأنت تفرقين منه هذا الفرق ولم تصنعي من هذا شيئاً، وإنّما أستكرهك استكراهاً فأنا والله أولى بهذا الفرق والخوف وأحقّ منك، قال: فقام ولم يُحدث شيئاً ورجع إلى أهله وليست له همّة إلا التوبة والمراجعة.
 
فبينا هو يمشي إذ صادفه راهب يمشي في الطريق، فحميت عليهما الشمس فقال الراهب للشابّ: ادع الله يُظلّنا بغمامة، فقد حميت علينا الشمس، فقال الشابّ: ما أعلم أنّ لي عند ربّي حسنة فأتجاسر على أنْ أسأله شيئاً، قال: فأدعو أنا وتؤمِّن أنت؟ قال: نعم. فأقْبَلَ الراهب يدعو والشابّ يؤمِّن، فما كان بأسرع من أنْ أظلّتهما غمامة، فمشيا تحتها مليّاً من النهار. ثُمَّ تفرّقت الجادّة جادّتين فأخذ الشابّ في واحدة وأخذ الراهب في واحدة فإذا السحابة مع الشابّ، فقال الراهب: أنت خيرٌ منّي، لك استُجيب ولم يُستجب لي، فأخبرني ما قصّتك؟ فأخبره بخبر المرأة فقال: غفر لك ما مضى حيث دخلك الخوف، فانظر كيف تكون فيما تستقبل"1.
 

1- الكافي، الكليني، ج 2، ص 69 - 70.
 
 
 
 
16

11

قيمة العمر

 الدرس الثاني: قيمة العمر



من وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذرّ قال:

"يا أبا ذرّ, نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحّة والفراغ.يا أبا ذرّ, اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك. يا أبا ذر, إيّاك والتسويف (المماطلة) بأملك، فإنّك بيومك ولستَ بما بعده.

يا أبا ذرّ, إذا أصبحت فلا تُحدِّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح، وخذ من صحّتك قبل سقمك، وحياتك قبل موتك، فإنّك لا تدري ما اسمك غداً... يا أبا ذرّ, كن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك".

(بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 74، ص 75)
 
 
 
 
 
17

12

قيمة العمر

 تمهيد:

 
هناك مجموعة من بين أحاديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم باسم الوصايا، يُخاطب بها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم شخصاً معيّناً. وهي عبارة 
عن وصايا أخلاقيّة عامّة تحتوي على مطالب كثيرة، منها وصيّته للإمام عليّ عليه السلام، ومنها وصيّته لعبد الله بن مسعود ومنها وصيّته لأبي ذرّ الغفاريّ . ولعلّ مراد 
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون مسؤوليّة المحافظة على تلك الوصايا الأخلاقيّة على عاتق الشخص المخاطَب، ومن خلاله يوصي سائر الناس ممّن نُقلت له هذه 
الوصية، وعلى الطريقة المعروفة (إيّاكِ أعني واسمعي يا جارة).
 
صنفان يوم القيامة:
 
إنّ هذا المقطع من الوصيّة يُشير إلى أهمّيّة الوقت في حياة الإنسان، ويؤكّد لنا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على ضرورة الاستفادة من النعمة التي نحن فيها قبل فقدها، 
من نعمة العمر والصحّة والفراغ والشباب والغنى، وبشكل عامّ الاستفادة من هذه الحياة كلّها ـ التي هي مزرعة الآخرة ـ قبل الانتقال إلى عالم الآخرة، حيث وقت الحصاد 
والنتيجة والثواب أو العقاب.
 
وقد قسّمت الآيات القرآنية الناس يوم القيامة إلى صنفين رئيسَين، صنف يكون فرحاً مستبشراً، وآخر حزيناً نادماً: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ  *  فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ  * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ1

 

 

1-  سورة الحاقّة، الآيات: من 19 إلى 24.
 
 
 
 
19

13

قيمة العمر

 وأمّا الصنف الآخر الذي لم يستفد من نعم الدنيا للآخرة فهو كما تتابع الآيات الكريمات: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ*وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ* يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ *خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ1

 

 
العمر مدرسة:
 
إنّ دورة العمر بالنسبة لكلّ إنسان عبارة عن مدرسة، فكما أنّ الطالب في المدرسة عليه أن يغتنم اليوم والساعة والدقيقة، ويستفيد من كلِّ المعلِّمين الموجودين، ومن جميع 
الفرص المتاحة له، وكلّ ذلك مسؤول عنه الطالب قبل يوم الامتحان، كذلك الإنسان في الدنيا عليه أن يغتنم كلّ فرصة متاحة له قبل يوم الحساب، بحيث لا تذهب أيّ دقيقة 
هدراً من عمره النفيس والغالي، قبل ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ2.

 

 
لو أنّ شابّاً ورث عن أبيه ثروة ضخمة، ولكنّه كان سفيهاً فأسرف وأنفق كلّ ثروته وبذّرها يمنة ويسرة من دون حساب دقيق، ومن دون رعاية لمصلحته ومصلحة أهله، ألا 
يأسف عليه الناس والعقلاء ويعجبون من تصرّفاته، علماً منهم بما ستؤول إليه أموره في المستقبل جرّاء ما جنته وتجنيه يداه وقد صادفنا جميعاً كثيراً من أمثال هذه الحالة، 
وتأسّفنا لها، إلا أنّنا لا نتأسّف ولا نُعيرُ أيّ أهمّيّة إزاء التبذير والإسراف في ثروةٍ هي أهمّ بكثير من المال، ألا وهي الوقت والعمر. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على 
أنّنا نُعطي أهمّيّة كبيرة للمال ونُقدِّر قيمته، ولا نعطي أهمّيّة ولا نُقدِّر قيمة الوقت والعمر.
 
 

1- سورة الحاقّة، الآيات: من 25 إلى 32.
2- سورة الزمر، الآية: 56.
 
 
 
 
20

14

قيمة العمر

 وقت الناس والعمل:


نُشاهد الكثيرين في حياتنا اليومية ممّن ربَّوا أنفسهم على ألّا يعتدوا على أموال الآخرين، ويتجنّبون أيّ شبهة في أكل أموال الناس، ويخافون الله سبحانه وتعالى في درهم 
يأكلونه بالباطل أو شبهة. وإذا ما حدث أن تضرّر أحدٌ منهم سارعوا لتعويض خسارته وجبرانها من أموالهم الخاصّة حتّى يحصلوا على رضى ذلك المتضرِّر، كلّ ذلك 
مخافةً من الله. ونِعْمَ هذه الصفة الموجودة فيهم. ولكن نفس هؤلاء الأشخاص لا يهتمون بوقت الآخرين، ولا يُعطونه أيّ أهمّيّة ولا أدنى حرمة، فيهدرون أوقات الآخرين 
بأعذارٍٍ شتّى وبأساليب مختلفة، ولا يلتفتون إلى أنّ ما يقومون به ـ من إتلاف وقت الآخرين بلا مبرّر شرعي ـ، مطالبون به يوم القيامة وسيسألون عنه:

فبعضٌ يُعطي الموعد بعد الآخر وهو على علمٍ أنّه سوف لن يفي بالموعد، وعليه، يكون قد وقع في محرّمين اثنين، فهو من جهةٍ وقع في محرّم الكذب ومن جهة أخرى 
أتلف وقت الآخرين وهم ينتظرونه. وقد يعتاد على هذا الأمر حتّى يُفتضح أمره بين الناس ويُصبح ذا سمعة سيّئة بينهم.

وبعضٌ يُقيم عند الآخرين في أوقاتٍ فضيلة، وفي أوقات عملهم فيهدرها سدى، أو يجلس مع أقوام جلسة المساء أو الصباح وهو يهدر وقته ووقت الآخرين على جلسات لا 
يُذكر فيها الله عزّ وجلّ ولا أهل البيت عليهم السلام، ولا تُستغلّ بالعلم والمعرفة أو العمل النافع، وإنّما بالمزاح واللّعب والضحك، هذا إن لم تجرّهم الأحاديث إلى النكات 
الفاضحة وغيبة الناس ومحرّمات أخرى والعياذ بالله. 

وهذا كلّه إن دلّ على شيءٍ فإنّما يدلُّ على أنّنا لم نهضم بعدُ وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تماماً في أنّ قيمة الوقت والعمر أسمى وأرفع وأغلى من قيمة المال، 
لأنّ إتلاف مال الآخرين يُمكن تعويضه من مالنا الخاصّ، بينما إتلاف عمر الآخرين - وهو أهمُّ من المال - لا يُمكن تعويضه من عمرنا الخاصّ!
 
 
 
21

15

قيمة العمر

 يُشير القرآن الكريم إلى أولئك الذين ضيّعوا أعمارهم في هذه الدنيا دون الاستفادة منها بما هو في صلاحهم، ودون الاستفادة منها بما يكون خيراً لهم في آخرتهم، بقوله تعالى 

تعبيراً عن حالة الندم عندهم: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ1.

 

 
ويُشير القرآن الكريم في موضع آخر إلى حالة ندم هذا الشخص عند سكرة الموت: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ2، أعاذنا الله وسائر المؤمنين من ندامة تلك الساعة وأهوال هذا اليوم.

 

 
يقول مولى الموحّدين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في النهج الشريف: (فسابقوا - رحمكم الله - إلى منازلكم التي أُمرتم أن تعمّروها، والتي رُغّبتم فيها ودُعيتم إليها. 
واستتمّوا نِعَم الله عليكم بالصبر على طاعته، والمجانبة لمعصيته فإنّ غداً من اليوم قريب. ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيّام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر)3.
 
طول الأمل:
 
كثيرٌ من الناس من يلتفت إلى تقصيره في عبادته، وأنّه عليه أن يقوم بالدعاء وقراءة القرآن، وبعض المستحبّات وغيرها من الأعمال الصالحة، ومنهم من عليه قضاء 
بعض الصلوات وبعض أيّام الصيام، وبعض الواجبات الأخرى، ولو سألته لمَ لا تبادر لقضاء ما فاتك من هذه الواجبات لتذرّع بضيق الوقت، وعدم الراحة، وانشغال البال، 
وكثرة الهموم، وغير ذلك... ثمّ يختم بأنّه ينوي إن شاء الله القيام 
 
 

1- سورة فاطر، الآية: 37.
2- سورة المؤمنون، الآيتان: 99 و100.
3- نهج البلاغة، ج2، الخطبة 188، ص 128.
 
 
 
 
22

 


16

قيمة العمر

 بكلّ هذه الأعمال. ولو رجع إلى قرارة نفسه وسألها لوجد أن هذه أجوبة يسكت بها الآخرين، ولكنّ نفسه 

اللوّامة لا تقنع بهذه الأجوبة، يقول تعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ *وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ1، فإنّ هذه الأعذار التي يُلقيها ليست إلّا وسوسات شيطانيّة لتبقى النفس مرتاحة من هذه الواجبات، وليبقى إبليس يُسيطر على نفسه يوسوس فيها بالتسويف والتأجيل والتأخير و... فهل سأل هذا الإنسان نفسه أنّه هل سيعيش إلى الغد؟ ومن يضمن له أنّه باقٍ إلى السنوات المقبلة ليتمكّن من كلِّ هذه الأمور قبل أن يُباغته الأجل؟ فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: ما أنزل الموت حقّ منزلته من عدّ غداً من أجله، قال: وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما أطال عبد الأمل إلّا أساء العمل، وكان يقول: لو رأى العبد أجله وسرعته إليه لأبغض العمل من طلب الدنيا"2.

 

 
وكثيرٌ من الناس من يفرح بسنيّ عمره ويحتفل كلّ رأسِ سنةٍ من مولده وهو ما يُعبّر عنه (بعيد الميلاد) ويدعو الناس للاحتفال بيوم مولده ويصرف الأموال والهدايا، وبعض آخر تزيد عنده العادات المستحدثة، كلُّ ذلك وهو غافل عن أنّ عمره قصرَ، وأنّه اقترب أكثر من القبر، وأنّه يستطيع عدّ هذه السنوات والأيّام، ولكن هناك من يعدّ له أنفاسه ويحسبها له، وأنّه سوف يُحاسب على كلِّ نَفَس في هذه الدنيا كيف أطلقه، هل في طاعة الله أم في معصيته، فعن عبد الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: قول الله عزّ وجلّ: ﴿... إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا3؟ قال: "ما هو عندك ؟ قُلت: عدد الأيّام، قال: إنّ الآباء والأمّهات يُحصون ذلك، لا، ولكنّه عدد الأنفاس"4.

 

 
 

1- سورة القيامة، الآيتان: 14و 15.
2- الكافي، الكليني، ج3، ص 259، الحديث 30.
3- سورة مريم، الآية: 84.
4- الكافي، الكليني، ج3، ص 259، الحديث 33.
 
 
 
 
23

17

قيمة العمر

 إلى متى تبقى قوى الشباب؟ 

 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "عندما ينقضي ربيع العمر، ويحلّ خريفه، تذهب القوّة من الأعضاء، وتتعطّل الحاسّة الذائقة، وتتعطّل العين والأذن وحاسّة اللمس وباقي الحواسّ، وتُصبح اللذّات ـ عموماً ـ ناقصة أو تفنى نهائيّاً. وتهجم الأمراض المختلفة، فلا تستطيع أجهزة الهضم والجذب والدفع والتنفُّس أن تؤدّي عملها بشكلٍ صحيح. ولا يبقى للإنسان شيء سوى أنّات التأوّه الباردة والقلب المملوء بالألم والحسرة والندم". 
 
"إذاً, فمدّة استفادة الإنسان من تلك القوى الجسمانيّة لا تتجاوز الثلاثين أو الأربعين عاماً بالنسبة إلى أقوياء البنية والأصحّاء السالمين، وهي فترة ما بعد فهم الإنسان وتمييزه الحسن من القبيح إلى زمن تعطيل القوى أو نقصانها، وهذا يصحّ إذا لم يصطدم بالأمراض والمشاكل الأخرى الّتي نراها يوميّاً ونحن عنها غافلون"1.
 
يقول الأعرابيّ في وصف الشيخوخة: "... إذا قعدت أشعر كأنّي هويت في وادٍ سحيق، وإذ قمت أشعر وكأنّ الأرض قد لصقت بي، تقيّدني الشعرة، وتعثرني البعرة".
 
وفي الختام:
 
حتّامَ نغفل عن وقتنا وعمرنا ونؤجّل العمل لوقت آخر؟ وحتّام نهدر أوقاتنا وأوقات الآخرين ولا ننهض ونُبادر لمعالجة أنفسنا وتهذيبها، والاستعداد للآخرة قبل أن يفاجئنا 
نداء الرحيل؟ يقول الإمام الراحل قدس سره: "أيُّها العزيز, انهض من نومك، وتنبّه من غفلتك، واشدد حيازيم الهمّة، واغتنم الفرصة ما دام هناك مجال، وما دام في العمر بقيّة، وما دامت قواك تحت تصرُّفك، وشبابك موجوداً"2.
 
 

1- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني قدس سره، الحديث الأوّل، فصل في الموازنة.
2- م. ن، فصل في معالجة المفاسد الأخلاقية.
 
 
 
24

 


18

قيمة العمر

 مطالعة 

 
اغتنام العمر
 
قال الإمام الخمينيّ قدس سره: "إذاً، أيُّها الأخ، ما دمت في مقتبل عمرك، وزهرة شبابك، وأوج قوّتك، وحرّيّة إرادتك، سارع لإصلاح نفسك، ولا تلقِ بالاً لهذا الجاه والمقام، وطأ على هذه الاعتبارات بقدميك. إنّك إنسان فأبعد نفسك عن صفات الشيطان، فلعلّ الشيطان يهتمّ بهذه الصفة اهتماماً كبيراً لكونها صفة من صفاته، وهي التي أدّت إلى طرده من حضرة الله، ولذلك فهو يُريد أن يوقع الإنسان، عارفاً أو عامياً عالِماً أو جاهلاً، في مثل هذه الرذيلة، حتّى إذا ما لقيك يوم القيامة شَمَتَ بك قائلاً: "يا ابن آدم، ألم يُخبرك الأنبياء بأنّ التكبُّر على أبيك قد طردني من حضرة الحقّ؟ لقد نزلت عليّ لعنة الله لأنّي احتقرت مقام آدم واستعظمت مقامي، فلماذا أوقعتك نفسك في هذه الرذيلة"؟. 
 
وعندئذ تُصبح، أيُّها المسكين، موضع شماتة أرذل مخلوقات الله وأحطّها، فضلاً عن عذابك وابتلاءاتك وندامتك وحسرتك ممّا يعجز الكلام عن وصفه. إنّ الشيطان لم يكن 
قد تكبّر على الله، بل على آدم، وهو من مخلوقات الحقّ، فقال: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ1. فاستعظم نفسه واستحقر آدم. وأنت تستصغر بني آدم وتستكبر بنفسك عليهم، فأنت أيضاً تعصي أوامر الله. لقد قال لك تعالى: كن متواضعاً مع عباد الله، ولكنّك تتكبّر وتتعالى عليهم. فلماذا تلعن الشيطان وحده؟ أشرك نفسك الخبيثة معه في اللّعن أيضاً، مثلما أنت شريكه في هذه الرذيلة. إنّك من مظاهر الشيطان، بل إنّك تُجسِّد الشيطان. ولربّما كانت صورتك في البرزخ وفي يوم القيامة صورة شيطانيّة، فإنّ المقياس في صورة الإنسان في الآخرة الملكات الحاصلة للنفس. فليس هناك ما يمنع من أن تكون على صورة شيطان، أو على صورة نملة صغيرة. إنّ موازين الآخرة تختلف عن موازين الدنيا"2.

 

 

1- سورة الأعراف، الآية: 12. 
2- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني قدس سره، الحديث الرابع، فصل في بيان معالجة الكبر.
 
 
 
25

19

القدوة ومحاسن الأخلاق

 الدرس الثالث: القدوة ومحاسن الأخلاق

 
 
يقول الله تعالى في كتابه الكريم:
 

 

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا 

 

(سورة الأحزاب، الآية:21)
 

 

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ 

 

(سورة الممتحنة، الآية: 6)
 
 
 
 
27

20

القدوة ومحاسن الأخلاق

  اختيار القدوة

 
إنّ اختيار القدوة في حياة بني البشر لا سيّما الشباب منهم أمرٌ هامّ جدّاً إذ يُعرف من خلاله الطريق الذي يؤدّي إلى خاتمة هذه الحياة، فبعض الناس يختار من يرى فيه صفة كمال وجمال لا يجدها في نفسه، فيجعل هذا المختار نموذجاً يحتذي به حتّى يصل إلى مراده.
 
إلّا أنّ بعض الخيارات تكون خاطئة ما يؤدّي بصاحبها إلى الوقوع في المهالك والعواقب السيّئة. وحيث إنّنا كبشر معرّضون دائماً للخطأ نتيجة غلبة غرائزنا وشهواتنا علينا، فنحن مدعوّون إلى اتّباع من لا يضلّ ولا ينسى وهو الله سبحانه وتعالى، الذي جعل التأسّي بنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم مفتاحاً لرضوانه وطريقاً إلى جنانه، فقال عزّ من قائل: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ1.

 

 
وقال سبحانه: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ2. فاتّباع الرسول واقتفاء أثره والسير على طريقه، يوصل

 

 

1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2-سورة آل عمران، الآية:31.
 
 
 
 
29

21

القدوة ومحاسن الأخلاق

  بالإنسان إلى درجة القرب من الله سبحانه والمحبّة الإلهيّة، هذه الدرجة الّتي ليس فوقها درجة.

 
فمن كان من الناس يبحث عن قدوة وأسوة فأين هو عمّن مدحه الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم قائلاً ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ1؟

 

 
وقد قيل: إنّ سبب نزول هذا الآية أنّه كان صلى الله عليه وآله وسلم قد لبس بُرداً نجرانيّاً ذا حاشية غليظة، فبينما هو يمشي إذ جذبه أعرابيّ من خلفه فحزّت وأثّرت في عنقه، وقال له الأعرابيّ: أعطني عطائي يا محمّد، فالتفت إليه صلوات الله عليه وآله متبسّماً وأمر له بعطائه، فنزل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، فمدحه الله بهذه مدحةً لم يمدح بها أحداً من خلقه2.
 
الأنبياء عليهم السلام قدوة:
 
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ...3.

 

 
في هذه الآية الكريمة يُبيّن سبحانه أهداف الدين الذي أُرسل به الأنبياء عليهم السلام، حيث تمرّ البشريّة بعدّة مراحل:
 
المرحلة الأولى: يكون فيها الإنسان على الفطرة، وهي العبوديّة لله سبحانه، وفي هذه المرحلة الناس متساوون في الاعتقاد وهم أمّة واحدة.
 
المرحلة الثانية: وهي مرحلة النشوء والانخراط في المجتمع والتأثّر بالأجواء المحيطة التي قد يكون بعضها بعيداً عن الله ويؤدّي إلى الانحراف عن ساحة الحقّ عزّ وجلّ.
 
 

1- سورة القلم، الآية: 4.
2- إرشاد القلوب، الديلمي، ج1، ص262.
3- سورة البقرة، الآية: 213.
 
 
 
 
30

22

القدوة ومحاسن الأخلاق

 المرحلة الثالثة: وتقترن ببعثة الأنبياء عليهم السلام حيث يُعتبر وجودهم ضرورة لحفظ المجتمع والحكم بين الناس بالعدل، وتزكيتهم وتهذيبهم بتبشيرهم بالجنّة وإنذارهم من عذاب الله سبحانه.

 
فمن سار على خطّ الأنبياء عليهم السلام كان من الفائزين ومن تخلّف عنهم كان من الهالكين.
 
يقول تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ1.

 

 
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الأسوة:
 
وإلى هذه الهداية يُشير قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ2.

 

 
فلننظر إلى هذه المنّة الإلهيّة علينا وهذا الكرم الفيّاض وهذه النعمة التي لا مثيل لها. ولو أنّنا قضينا أعمارنا في سجدة شكر واحدة لأجلها لما وفّينا.
 
أيّ نعمة هي أعظم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووجوده المبارك. لا شكّ أنّه ما من نعمة تُضاهيها شرفاً وفضلاً، فكيف نتعامل معها؟ هل نحفظها ونؤدّي حقّها ونرعاها؟ أم نتركها ولا نهتمّ بها؟
 
هل عندما نسمع ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعلم من هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ وما مقامه وما فضله وكيف كانت حياته؟ وما هي سجاياه وفعاله؟ وكيف كان يتعامل مع الناس؟ مع أهله وأصحابه؟ هل فعلاً نحن ننتمي إلى مدرسة رسول الله وأهل بيته عليهم السلام، مدرسة الخُلق الرفيع والعبوديّة الخالصة لله عزّ وجلّ والعبور إلى رحمة الله ورضوانه؟
 

1- سورة الأنعام، الآية: 90.
2- سورة آل عمران، الآية: 164.
 
 
 
 
31

23

القدوة ومحاسن الأخلاق

 يقول تعالى لنا: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا1، فهل نحن نطبّق أمر الله أم نحن عنه معرضون؟!

 

 
محاسن الأخلاق:
 
إنّنا بعد اختيارنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كقدوة وأسوة لنا، علينا أن نسعى لامتلاك الصفات والفضائل التي كان يتحلّى بها. وأكثر ما كان يُميّزه صلى الله عليه وآله وسلم محاسن أخلاقه، فعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أدّبني ربّي فأحسن تأديبي"2، وعنه أيضاً: "إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"3.
 
إنّ المرحلة التي سبقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أرض الحجاز وبالتالي سبقت الإسلام تميّزت بكون أرض الحجاز مركزاً للفساد والتقاليد المذمومة، من وأدٍ للبنات، والنهب والسرقة وعبادة الأصنام، وانحراف العقائد وسوء الخلق، ما أدّى إلى موت الضمير الاجتماعيّ الذي ما عاد يُحاسب ولا يؤنّب على الأفعال القبيحة.
 
وعندما بُعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الدِّين الحنيف، وضع أسس أكبر تغيير جذريّ يُبشّر بسعادة البشريّة في الدارين.
 
وقد استطاع الرسول بحكمته وأخلاقه أن يُغيّر وجه العالَم، وأن يجمع حوله ثلّة من البشر الأصفياء التوّاقين إلى الفضائل والذين نشروا هذا الدِّين في أصقاع الأرض.
 
وما كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليجمعهم على كلمة التقوى دون خُلُقه الرفيع، ولذلك قال عزّ من قائل: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ4. فمن أراد من الناس محبّة، فعليه بمداراتهم والإحسان إليهم كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا قال الشاعر:

 

 

1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج16، ص210.
3- م. ن.
4- سورة آل عمران، الآية: 159.
 
 
 
 
32

24

القدوة ومحاسن الأخلاق

 أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ                  فطالما استعبدَ الإحسانُ إنسانا 

 
وينبغي للعاقل المؤمن أن يلزم محابّ الله فإنّه يكون محبوباً لله، وأن يكون مع الله، ومع أوليائه، وأن يختار لنفسه ما اختاره الله لنفسه من التسمية "محسناً"، فمن كان كذلك فقد استحقّ الحياة الطيّبة في الدنيا والآخرة، يقول تعالى ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ1. 

 

 
إنّ المتخلّق بأخلاق الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم هو من خيار المؤمنين، وقد سُئل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: أيّ المؤمنين أفضلهم إيماناً؟ فقال: "أحسنهم خُلقاً"2.
 
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً"3.
 
فالمؤمن الكامل هو المؤمن الخلوق صاحب الصفات الحسنة، الطيّب الصحبة، الذي يألفه جليسه، ويتمنّى المؤمنون لقاءه، ويأنس الناس بحديثه، ولا يأمر الناس بشيء لا يلتزم به، ولا ينهاهم عن شيء لا ينتهي عنه، باع الدنيا بالآخرة، وهمّه رضا الله عزّ وجلّ. 
 
وعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الصبر وحسن الخُلُق والبرّ والحِلم من أخلاق الأنبياء"4. وعن الإمام زين العابدين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة شيء أفضل من حسن الخُلُق"5.
 
آثار حسن الخُلُق
 
إنّ لحسن الخُلُق آثاراً لا تكاد تُحصى، منها ما هو في الدنيا ومنها ما هو في
 
 

1- سورة النحل، الآية: 97.
2- معاني الأخبار، الصدوق، ص333.
3- الكافي، الكليني، ج2، ص99.
4- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج68، ص92.
5- الكافي، الكليني، ج2، ص99.
 
 
 
33

25

القدوة ومحاسن الأخلاق

الآخرة، ومن جملتها:

 
1- إذابة الخطايا: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اعلم أنّ الخُلق الحسن يُذيب السيّئة كما تُذيب الشمس الجليد، وأنّ الخُلق السيّئ يُفسد العمل كما يُفسد الخلّ العسل"1
 
2- تثبيت المودّة: عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ حُسن الخلق يُثبت المودّة، وحُسن البِشْر يذهب بالسخيمة2"3..
 
3- عَظَمة الدرجة: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ حَسنَ الخُلق يَبلغ درجة الصائم القائم"4.
 
4- ثواب المجاهد: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ الله تبارك وتعالى ليُعطي العبد من الثواب على حُسن الخُلق كما يُعطي المجاهد في سبيل الله"5.
 
5- بلوغ مقام الحبّ الإلهيّ: عن أبي حمزة الثمالي: قال عليّ بن الحسين عليه السلام: " إنّ أقربكم من الله أوسعكم خُلقاً"6..
 
6- المدُّ في العمر: عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "من صدق لسانه زكا عمله، ومن حسنت نيّته زيد في رزقه، ومن حسن برّه بأهل بيته مُدّ في عمره"7.
 
ولعلّ قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ8 يُجزي عن ذكر كلّ تلك الآثار وذكر غيرها.

 

 

1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج72، ص321.
2- الحقد في النفس.
3- تحف العقول، الحرّاني، ص45.
4- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج68، ص396.
5- الكافي، الكليني، ج2، ص101.
6- م. ن، ج8، ص68.
7- م. ن، ج2، ص105.
8- سورة التوبة، الآية: 120.
 
 
 
 
34

26

القدوة ومحاسن الأخلاق

 فثواب الله أعظم منها، وقد وعد الله بعدم إضاعته، ومَن أوفى بعهده من الله؟ فمن كان عمله لله فهنيئاً له ثواب الله تعالى، ومن كان عمله للناس فلن يغني عنه الناس من الله شيئاً.

 
بعضٌ من مكارم الأخلاق
 
إنّ مكارم الأخلاق كثيرة، لا بدّ من الاهتمام في تحصيلها والمحافظة عليها. وقد أشارت روايات عديدة إلى هذه المكارم، منها: 
 
صدق الحديث وأداء الأمانة
 
قد نُفاجأ ببعض من تظهر عليهم علامات إحياء الدِّين بالصلاة والصوم والزكاة بأنّ ليس له من هذه العلامات والأفعال نصيب، فآثارها لا تعدو كونها حركات وأفعالاً يقوم بها، لا تنهاه عن منكر ولا تأمره بمعروف ولا تؤثّر في قلبه ولا عمله. فمن وجَدته كذلك فكن منه على حذر.
 
روي عن الصادق عليه السلام: "لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإنّ الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتّى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة"1.
 
وينبغي الإشارة إلى أنّ الناس يُظهرون مكامن نفوسهم عند تعرّضهم لبلاء أو اختبار.
 
روي عن لقمان الحكيم: "ثلاثة لا يُعرفون إلّا في ثلاثة مواضع: لا يُعرف الحليم إلّا عند الغضب، ولا يُعرف الشجاع إلّا في الحرب، ولا تعرف أخاك إلّا عند حاجتك إليه"2.
 
 

1- الكافي، الكليني، ج2، ص104.
2- الاختصاص، المفيد، ص246.
 
 
 
 
35

27

القدوة ومحاسن الأخلاق

 مكارمُ أخرى

 
ومن حُسن الخُلق أنّ العبد لله يُعطي الناس من نفسه ما يُحبّ أن يعطوه من أنفسهم، وهو أيضاً يحتمل ما يقع من جفاء الناس، واحتمالهم من غير ضجر. روي عن النبي موسى عليه السلام في مناجاته: "أسألك يا رب أن لا يقال فيّ ما ليس فيّ، فقال: يا موسى ما فعلت هذا لنفسي فكيف لك؟!"27 .
 
عن الإمام الصادق عليه السلام قال لجرّاح المدائنيّ: "ألا اُحدّثك بمكارم الأخلاق؟ قال: بلى، قال: الصفح عن الناس، ومواساة الرجل أخاه في الله، وذكر الله كثيراً"1.
 
وقال المتوكّل للإمام عليّ الهادي عليه السلام كلاماً يعاتبه ويلومه فيه، فقال له عليه السلام: "لا تطلب الصفو ممّن كدرت عليه، ولا الوفاء ممّن صرفت سوء ظنّك إليه، فإنّما قلب غيرك لك كقلبك له"2.
 
وعن الإمام الرضا عليه السلام: "لا يُكمل المؤمن إيمانه حتّى تكون فيه ثلاث خصال، خصلة من ربّه، وخصلة من نبيّه، وخصلة من إمامه، فأمّا التي من ربّه: فكتمان السرّ فإنّه قال تعالى﴿فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ 3. وأمّا من نبيّه: فمداراة الناس، فإنّه قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ4، وأمّا من إمامه: فالصبر على البأساء والضرّاء فإنّ الله تعالى يقول: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء5"6.

 

 
ومن حُسن الخُلق أن يكون الرجل كثير الحياء، قليل الأذى، صدوق اللسان، قليل المزاح، كثير العمل، قليل الزلل، وقوراً صبوراً، رضيّاً تقيّاً شكوراً، رفيقاً عفيفاً 
 

1- إرشاد القلوب، الديلمي، ج1، ص265.
2- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج66، ص373.
3- م، ن، ص266.
4- سورة الجن، الآيتان: 26-27.
5- سورة الأعراف، الآية: 199.
6- سورة البقرة، الآية:177.
7- صفات الشيعة، الصدوق، ص83.
 
 
 
 
 
36

28

القدوة ومحاسن الأخلاق

 شفيقاً، لا نمّام ولا غيّاب، ولا عجول ولا حسود ولا بخيل. يُحبّ في الله، ويُبغض في الله، ويُعطي في الله، ويمنع في الله، ويرضى في الله، ويسخط في الله. يُحسن ويبكي كما أنّ المنافق يُسيء ويضحك.

 
من وصايا الإمام الخمينيّ قدس سره: "ابذلوا جهدكم في العمل كما في العلم، وفي تهذيب الأخلاق أيضاً، فإنّ العلم لوحده لا فائدة فيه، كما أنّ لا فائدة في تهذيب الأخلاق لوحده وبشكل أعمى أيضاً، فالعلم وتهذيب النفس معاً هما اللذان يصلان بالإنسان إلى مرتبة الكمال الإلهيّ"1.
 
سرّ عظمة الإسلام
 
يقول الإمام زين العابدين عليه السلام في الدعاء الثاني من أدعية الصحيفة السجّاديّة:
 
"الحمد لله الذي مَنّ علينا بمحمّد نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم.. اللّهمّ فصلّ على محمّد أمينك على وحيك، ونجيبك من خلقك، وصفيّك من عبادك، إمام الرحمة، وقائد الخير، ومفتاح البركة، كما نصب لأمرك نفسه.. وعرّض فيك للمكروه بدنه".
 
إنّ هناك سؤالاً يطرح نفسه وهو: لماذا استجابت النفوس لدعوة الإسلام، وتفاعلت معه حتّى انتشر في بقاع الأرض خلال فترة قصيرة؟
 
إنّ الجواب يكمن في عظمة الإسلام، وعظمة القرآن، وعظمة رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو صلى الله عليه وآله وسلم صاحب شخصيّة دانت لها الرقاب طوعاً، ببصيرتها النافذة وحكمتها الرزينة وسموّها على الهوى والفرديّة، ولو جاء بالإسلام غير محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لما كان إسلام وما كانت رسالة.
 
يقول المفكّر ول ديورانت: "إذا حكمنا على العظماء بما كان للعظيم من أثر في الناس، قلنا كان محمّد أعظم العظماء"2.
 

1- التربية والأخلاق في الإسلام، جمعية المعارف، ص 14.
2- قصّة الحضارة، ج3، ص570.
 
 
 
 
37

29

القدوة ومحاسن الأخلاق

 نعم، كيف كان رسول الله أعظم العظماء؟ كان صلى الله عليه وآله وسلم أعظم العظماء بخُلقه، بطيبته، بسموّ طينته، بحسن معاشرته، أحبّ في الله، وأبغض في الله، فانتشرت دعوته وآمن به الناس.

 
وفي الختام، نسأل الله سبحانه أن يُنير قلوبنا بهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحقيقة الأمر أنّ رأسمالنا في هذه الحياة أخلاقُنا ولا شيء غيرها.
 
عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم"1.
 
للمطالعة
 
أقرب الناس إلى الله
 
عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ أقرب الناس إلى الله تعالى يوم القيامة من طال جوعه وعطشه وحزنه في الدنيا، فهم الأتقياء الأنقياء الذين إذا شهدوا لم يُعرفوا، وإذا غابوا لم يُفقدوا، تعرفهم بقاع الأرض، وتحفّ بهم ملائكة السماء، ينعم الناس بالدنيا وتنعّموا بذكر الله.
 
افترش الناس الفرش وافترشوا الجباه والركب، وَسِعُوا الناس بأخلاقهم، تبكي الأرض لفقدهم، ويسخط الله على بلد ليس فيها منهم أحد، لم يتكالبوا على الدنيا تكالب الكلاب على الجيف، شعثاً غبراً تراهم الناس فيظنّون أنّ بهم داءً وقد خولطوا أو ذهبت عقولهم، وما ذهبت بل نظروا إلى أهوال الآخرة فزال حبّ الدنيا عن قلوبهم، عقلوا حيث ذهبت عقول الناس، فكونوا أمثالهم"2.
 

1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج63، ص383.
2- إرشاد القلوب، الديلمي، ج1، ص267.
 
 
 
 
38

30

المساجد

 الدرس الرابع: المساجد

 

 
يقول سبحانه وتعالى في حديث قدسيّ:

"ألا إنّ بيوتي في الأرض المساجد، تُضيء لأهل السماوات، كما تُضيء الكواكب لأهل الأرض.
ألا طوبى لمن كانت المساجد بيوته.
ألا طوبى لمن تطهّر في بيته، ثمّ زارني في بيتي.
ألا إنّ على المزور كرامة الزائر.
ألا بشّر المشّائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة".
 (وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج1، 381)
 
 
 
 
39

31

المساجد

 تمهيد:

 

 

﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ 1.

 

 
إنّ لكلّ ديانة مكاناً للعبادة، تتقرّب به إلى معبودها، توقّره وتحترمه وتقدّسه.والإسلام الحنيف جعل المساجد بيوت عبادة المسلمين. ولشدّة اهتمام الله سبحانه وتعالى بالمسجد، نسبه إليه، فكانت المساجد بيوت الله في الأرض.
 
وللمسجد أهمّيّة بالغة، ودور بارز في بناء الفرد والمجتمع، وله آثار على صفاء القلوب واطمئنان النفوس وتوطيد العلاقة بالله تعالى، هذا على المستوى الفرديّ، وأمّا على المستوى الاجتماعيّ فله آثار في اجتماع الناس وتعارفهم وتلاقيهم، ومعرفة بعضهم بعضاً، وشعورهم بهموم بعضهم بعضاً، وفي نشر العلم والمعرفة، وغيرها من الآثار الجليلة والخطيرة، يتّضح بعضها في طيّات هذا الدرس.
 
لذا قال الإمام الخمينيّ قدس سره "لا تهجروا المساجد فإنّ ذلك تكليفكم".
 

1- سورة التوبة، الآية: 18.
 
 
 
 
41

 


32

المساجد

 البيت الأوّل في الأرض:يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ1. الظاهر من هاتين الآيتين الكريمتين أنّ قواعد البيت العتيق (الكعبة المشرّفة) كانت موجودة وقام النبيّ إبراهيم عليه السلام وولده النبيّ إسماعيل عليه السلام برفع هذه القواعد وعمارة البيت العتيق، ﴿إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ2.

 

 
أوّل مسجد في الإسلام:
 
لمّا قدم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مهاجراً من مكّة، نزل قباء على بني عمرو بن عوف فأقام فيهم أيّام الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وفي هذه الأيّام فيها بنى مسجداً فيها، وهو أوّل من وضع حجراً بيده في قبلته، وهو أوّل مسجد بني في الإسلام3
 
وقد نزلت في مسجد قُباء، وفي أهل هذا المسجد آية قرآنيّة مباركة وهي قوله تعالى: ﴿مَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا4. وعندما نزلت هذه الآية الكريمة مشى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل هذا المسجد فقال: "إنّي رأيت الله يُحسن عليكم الثناء فما بلغ من طهوركم؟ قالوا: نستنجي بالماء بعد الاستجمار"5.

 

 

1- سورة البقرة، الآيتان: 127 و 128.
2- سورة آل عمران، الآية: 96.
3- معجم البلدان، الحموي، ج 5، ص 124.
4- سورة التوبة، الآية: 108.
5- معجم البلدان، ج 5، ص 124.
 
 
 
 
42

 


33

المساجد

 إشارة وتنبيه:
 
بعد ملاحظة أنّ أوّل بيت وُضع للناس كان بيتاً لله سبحانه، وأنّ أوّل بيت بناه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في هجرته إلى المدينة كان مسجداً، نتنبّه إلى أهميّة ومكانة المسجد في الإسلام، وشدّة اهتمامه به، ودعوة الناس إليه، وهذا ما يدعونا لدراسة مختصرة لفوائد المسجد.
 
فوائد المساجد:
 
إنّ لعمارة وإحياء المساجد فوائد جمّة، لعلّنا لا نُدركها كلّها، وإنّما يُمكن أن نُشير إلى أهمّها.
 
1- إصابة إحدى الثمان:
 
فعن أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول: "من اختلف إلى المساجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستظرفاً أو آية محكمة أو رحمة منتظرة أو كلمة تردّه عن ردى أو يسمع كلمة تدلّه على هدى أو يترك ذنباً خشيةً أو حياءً"1
 
2- أخ في الله:
 
ففي الرواية أنّه "لا يرجع صاحب المسجد بأقلّ من إحدى ثلاث:... أخ يستفيده في الله، وما استفاد امرؤ مسلمٌ فائدة بعد فائدة الإسلام مثل أخ يستفيده في الله"2
 
3- تعلّم الصلاة الصحيحة:
 
فإنّ من يدخل المسجد لعلّه يلتقي بإمام مسجد يوجّه صلاته ويُصحِّحها أو بأخ
 

1- الخصال، الشيخ الصدوق، ص 409، الحديث 10.
2- أمالي الطوسي، ج 1، ص 45.
 
 
 
 
43

 


34

المساجد

 مؤمن ناصح يقوم بذلك. ورويَ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل المسجد، فنظر إلى أنس بن مالك يُصلّي وينظر حوله، فقال له: "يا أنس، صلّ صلاة مودّع ترى أنّك لا تصلّي بعدها صلاة أبداً، اضرب ببصرك موضع سجودك، لا تعرف مَن عن يمينك ولا مَن عن شمالك، واعلم أنّك بين يدي من يراك ولا تراه"1.

 
وعن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: "دخل رجل مسجداً فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخفّف سجوده دون ما ينبغي ودون ما يكون من السجود، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نقر كنقر الغراب، لو مات هذا على هذا مات على غير دين محمّد"2.
 
ومن هنا نعرف أنّ أحسن الناس صلاةً هم أهل المساجد.
 
4- تفتقدهم الملائكة:
 
ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّ للمساجد أوتاداً، الملائكة جلساؤهم، إذا غابوا افتقدوهم، وإن مرضوا عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم"3.
 
5- يظلّهم الله بظلّه:
 
فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: ورجل قلبه متعلّق بالمسجد إذا خرج منه حتّى يعود إليه"4
 
6- مهبط الرحمة الإلهيّة:
 
إنّ زائر المسجد تشمله الرحمة الإلهيّة لما روي من "أنّ من أدمن الاختلاف إلى المسجد أصاب رحمة منتظرة"5، فقد تنزل الرحمة الإلهيّة على جميع أهل المسجد ببركة وليّ أو مؤمن صالح بينهم . وحضور المساجد مجلبة للرزق الذي
 

1- دعائم الإسلام، القاضي النعماني المغربي، ج1، ص157.
2- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج4، ص37.
3- بحار الأنوار، المجلسي، ج80، ص373.
4- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج5، ص199.
5- بحار الأنوار، المجلسي، ج80، ص386.
 
 
 
 
44

35

المساجد

  يعدّ من مصاديق الرحمة الإلهيّة. فقد روي عن الإمام الحسين بن علي عليه السلام قال: "...أقوى الأسباب الجالبة للرزق... حضور المسجد قبل الأذان والمداومة على الطهارة"1

 
إضافة إلى ما يشعر به الإنسان داخل المسجد من طمأنينة وسرور وسكينة، وكلّ هذا من مظاهر الرحمة الإلهيّة ومن الفوائد الّتي يجنيها الإنسان بسبب زيارته للمسجد.
 
الإمام الخمينيّ وآداب المسجد:
 
وسنذكر ما أشار له مفجّر الثورة الإسلاميّة الإمام آية الله العظمى روح الله الموسويّ الخمينيّ من كلمات خالدة في هذا المجال: 
 
في تعليقه قدس سره على رواية الإمام الصادق عليه السلام، والّتي فصّل فيها آداب المسجد2، يقول قدس سره: "ومحصّل قوله عليه السلام إنّه إذا وصَلْت إلى باب المسجد فانتبه إلى أيّ باب وصلت، وأيّ جناب قصدت، فاعلم أنّك وصلت إلى جناب السلطان العظيم الشأن الّذي لا يضع أحد قدمه على بساط قربه إلّا إذا طهر وتطهّر من جميع أرجاس عالم الطبيعة والأرجاس الشيطانيّة، ولا يصدر الإذن لمجالسته إلّا للّذين يُقدمون عليه بالصدق والصفاء والخلوص من جميع أنواع الشرك الظاهر والباطن، فاجعل عظمة الموقف والهيبة والعزّة والجلال الإلهيّ نصب عينيك، ثمّ ضع قدمك إلى جناب القدس وبساط الأنس، فإنّك واقع في مخاطرة عظيمة... فإنّك وردت إلى جناب القادر المطلق، يُجري ما يشاء في مملكته.
 
فإذا عرفت الآن عظمة الموقف فاعترف بعجزك وتقصيرك وفقرك. وإذا توجّهت إلى عبادته وقصدت المؤانسة معه ففرّغ قلبك عن الاشتغال بالغير الّذي
 

1- بحار الأنوار، المجلسي، ج73، ص318.
2- راجع م. ن، ج80، ص373.
 
 
 
 
45

36

المساجد

  يحجبك عن جمال الجميل، وهذا الاشتغال بالغير قذارة وشرك، ولا يقبل الحقّ تعالى إلّا القلب الطاهر الخالص. وإذا وجدت في نفسك حلاوة مناجاة الحقّ، وذُقت حلاوة ذكر الله، وشربت من كأس رحمته وكراماته، ورأيت حُسن إقباله وإجابته في نفسك، فاعلم أنّك صرت لائقاً لخدمته المقدّسة، فادخل فإنّك مأذون ومأمون"1.

 
بهذا التوجيه الأخلاقيّ الجميل حبّب الإمام الخمينيّ قدس سره المساجدَ إلى أهل الإيمان، وعرّفهم إلى الآداب المعنويّة للدخول إلى المسجد.
 
القائد الخامنئيّ دام ظله والمسجد: 
 
وكذلك الإمام السيّد عليّ الخامنئيّ دام ظله أكّد في كثير من كلماته وتوجيهاته على ضرورة الحضور في المساجد والحفاظ على الجماعات فيها، فمن توجيهاته دام ظله: 
 
"يجب‎‎ أن تكون المساجد عامرةً، ويجب أن‎ تُقام‎ فيها الصلاة‎‎ جماعة وقت‎ أداء الفريضة،‎ كما يجب‎ أن‎‎ يُسمع‎ صوت‎ الأذان والإقامة"2.
 
وفي خطاب آخر يقول: "على أبناء الشعب لا سيّما الشباب أن يعرفوا قدر قلوبهم النقيّة، وأن يزيدوا من هذه النقاوة عبر إقامة الصلاة في أوّل وقتها على مدار السنة، والحضور في المساجد وتلاوة القرآن الكريم والأنس مع القرآن"3.
 
آداب المسجد4:
 
بعد أن تعرّضنا لكلام علمائنا الأفاضل حول مكانة المسجد وأهمّيّته، كان لا بدّ من الإشارة إلى الآداب المتعلّقة بهذا المكان المقدّس، حيث إنّنا أُمرنا بتعظيم المسجد واحترامه، وذلك لما ورد في كلام أبي عبد الله عليه السلام عندما سُئل عن
 
 

1- الآداب المعنويّة للصلاة، الإمام الخمينيّ، الباب الثالث: في الآداب القلبيّة لمكان المصلّي، الفصل الأوّل، ص 189.
2- من خطاب له في المشـاركيـن‎ فـي‎ المؤتمر السابع‎ عشر للصلاة - 1/11/2008.
3- من خطاب له بتاريخ 2/09/2009.
4- يُراجع في هذا العنوان كتاب فقه المسجد، نشر جمعية المعارف، إعداد مركز نون.
 
 
 
 
46

37

المساجد

 العلّة في تعظيم المسجد، فقال: "إنّما أمر بتعظيم المساجد لأنّها بيوت الله في الأرض"1. وآداب المسجد كثيرة قد تبلغ العشرين أدباً، وكلّ أدب منها مأخوذ من المصادر الشرعيّة كالآيات الكريمة والروايات الشريفة، نقتصر على ذكرها، فمن الآداب، ما هو قبل وعند وبعد زيارة المسجد.

 
الآداب قبل زيارة المسجد:
 
التحلّي بالوقار ولبس أفضل الثياب، قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ 2، وعدم الاستخفاف بها وتنظيف الفم وقراءة الذكر قبل الخروج من المنزل.

 

 
الآداب عند الوصول إلى المسجد:
 
وضع الحذاء في المكان المخصّص له والدخول بالرجل اليمنى وقراءة الذكر حال الدخول وصلاة ركعتين تحيّة للمسجد والانشغال بالعبادة وقراءة القرآن وعدم رفع الصوت وترك القصص والضحك، وترك البيع والشراء ورفع الصوت.
 
الآداب بعد الخروج من المسجد:
 
بعد الخروج من المسجد يجب الالتفات إلى إبقاء المسجد نظيفاً مرتّباً وإضاءته وتعطيره والمحافظة على تجهيزاته وملحقاته.
 
لماذا البعد عن المسجد؟
 
بعد أن تعرّضنا لآداب المسجد وأهميّته نتحدّث الآن عن الأسباب المؤدّية للبعد عنه، ولماذا يغفل الإنسان عن أهميّة المسجد فيهجره، ومن هذه الأسباب:
 
1- عدم المعرفة بأهميّة المسجد وفوائده: 
 
من الأسباب المبعدة عن المسجد عدم المعرفة بأهميّته وفوائده وبركاته الكثيرة،
 
 

1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج5، ص297.21
2- سورة الأعراف، الآية: 31.
 
 
 
 
47

38

المساجد

  فهذه دعوة إلى كلّ المسلمين أن يتعرّفوا إلى أهميّة المساجد وفوائدها وبركاتها الدنيويّة والأخرويّة. فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا نزلت العاهات والآفات، عوفي أهل المساجد"1. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان القرآن دربته، والمسجد بيته، بنى الله تعالى له بيتاً في الجنّة، ودرجة دون الدرجة الوسطى "2.

 
2- وسوسة الشياطين:
 
علينا أن ننتبه إلى الخطر الكبير المتمثِّل بدور الشيطان في إبعاد الناس عن المسجد، فهو يعرف عظمة وقدسيّة هذا المكان وما يُشكّله من بنيان إيمانيّ متماسك، فقد تعهّد بإضلال الناس وصدّهم عن كلّ ما هو خير وصلاح لهم ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ3. فعلينا أن نُخزي الشيطان ونلتزم بأمر الله وتوصيات رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار وعلمائنا الأبرار ونحيي المساجد عبر حضورنا فيها والمداومة على زيارتها.

 

 
3- مكيدة أعداء الدِّين:
 
الذين يضمرون الشرّ للشباب المسلمين ولا يريدون لهم الخير ويحاولون صدّهم عنه لما عرفوه من تأثير المسجد الإيجابيّ على نفسيّة وروحيّة المسلم. وقد لفت الإمام الخمينيّ ]دام ظله الأنظار إلى خطورة الابتعاد عن المسجد، وخطط أعداء الأمّة لإبعادنا عنه، قائلاً: "المسجد هو خندق إسلاميّ، والمحراب هو محلّ الحرب. إنّهم يُريدون أن يأخذوا هذا منكم، بل إنّ ذلك مقدّمة، وإلّا فاذهبوا وصلّوا ما شئتم. إنّهم تضرّروا من المسجد إذ أصبح المسجد مكاناً لتجمّع الناس، وتثوير
 
 

1- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج3، ص 357.
2- م.ن، ج3، ص 357.
3- سورة الأعراف، الآيتان: 16 و17.
 
 
 
 
48

39

المساجد

الجماهير للانتفاضة ضدّ الظلم. إنّهم يُريدون أخذ هذا الخندق منكم"1.

 
وما أجمل قول أحد الشعراء المعاصرين حول هذا المضمون إذ يقول: 
 
مؤامرة تدور على الشباب           ليُعرض عن معانقة الحِرابِ 
مؤامرة تدور بكلّ بيت              لتجعله حطاماً من خرابِ 
 
 
4- الظروف السياسيّة: 
 
لقد كانت عادة المسلمين أن لا يصلّوا صلواتهم إلّا في المسجد، وهذا ما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأمير عليه السلام. فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّ رجلاً أعمى أتى إليه فقال له: يا رسول الله أنا ضرير البصر وربما أسمع النداء ولا أجد من يقودني إلى الجماعة والصلاة معك، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "شدّ من منزلك إلى المسجد حبلاً واحضر الجماعة"1.
 
وعن أبي عبد الله عليه السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام بلغه أنّ قوماً لا يحضرون الصلاة في المسجد، فخطب فقال: "إنّ قوماً لا يحضرون الصلاة معنا في مساجدنا فلا يؤاكلونا ولا يشاربونا ولا يشاورونا ولا يناكحونا ولا يأخذوا من فيئنا شيئاً، أو يحضروا معنا صلاتنا جماعة، وإنّي لأوشك أن آمر لهم بنار تشعل في دورهم فأحرق عليهم أو ينتهون، قال: فامتنع المسلمون عن مؤاكلتهم ومشاربتهم ومناكحتهم حتّى حضروا الجماعة مع المسلمين"3.
 
هذا، وقد مرّ على الشيعة بعض الظروف السياسيّة الصعبة منعتهم من أداء صلاتهم بحريّة تامّة فصاروا يصلّون في بيوتهم خوفاً وتقيّة، لكن بعد زوال أسباب الاضطهاد لا سيّما في عصرنا الحاضر فما الذي يمنع من حضورنا في المساجد؟
 

1- منهجيّة الثورة الإسلاميّة، ص 279.
2- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 8، ص293.
3- م. ن، ج 5، ص 196.
 
 
 
 
49

40

المساجد

  شكوى المساجد:

 
بعد كلّ هذا البيان لأهمّيّة المسجد وفوائده وآثاره وأسباب البعد عنه، تعالوا لنبني علاقة حميمة مع المساجد بإحيائها بذكر الله وطاعته، لا بذكر الدنيا ومغرياتها، كي لا يشكونا المسجد يوم القيامة إلى الله، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون: المصحف، والمسجد، والعترة، يقول المصحف: يا ربّ حرّقوني ومزّقوني، ويقول المسجد: يا ربّ عطَّلوني وضيّعوني، ويقول العترة: يا ربّ قتلونا وطردونا وشرّدونا"1.
 
 

1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج5، ص202.
 
 
 
 
50

41

المساجد

 لمطالعة 

 
الاستخفاف بالصلاة
 
روي عن سيّدة النساء فاطمة ابنة سيّد الأنبياء صلوات الله عليها وعلى أبيها وعلى بعلها وعلى أبنائها الأوصياء، أنّها سألت أباها محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا أبتاه ما لمن تهاون بصلاته من الرجال والنساء؟ قال: يا فاطمة من تهاون بصلاته من الرجال والنساء ابتلاه الله بخمس عشرة خصلة: ستٌّ منها في دار الدنيا، وثلاثٌ عند موته، وثلاثٌ في قبره، وثلاثٌ في القيامة إذا خرج من قبره. فأمّا اللواتي تُصيبه في دار الدنيا: فالأولى يرفع الله البركة من عمره، ويرفع الله البركة من رزقه، ويمحو الله عزّ وجلّ سيماء الصالحين من وجهه، وكلّ عمل يعمله لا يؤجر عليه، ولا يرتفع دعاؤه إلى السماء، والسادسة ليس له حظٌّ في دعاء الصالحين. وأمّا اللّواتي تُصيبه عند موته: فأولاهنّ أنّه يموت ذليلاً، والثانية يموت جايعاً، والثالثة يموت عطشان فلو سُقي من أنهار الدنيا لم يرو عطشه. وأمّا اللّواتي تُصيبه في قبره: فأولاهنّ يوكّل الله به ملكاً يُزعجه في قبره، والثانية يُضيَّق في قبره، والثالثة تكون الظلمة في قبره. وأمّا اللّواتي تُصيبه يوم القيامة إذا خرج من قبره: فأولاهنّ أن يوكّل الله به ملكاً يسحبه على وجهه والخلايق ينظرون إليه، والثانية يُحاسب حساباً شديداً، والثالثة لا ينظر الله إليه ولا يُزكّيه وله عذاب أليم1.
 

1- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج3، ص 24.
 
 
 
 
51

42

عرض الأعمال

 الدرس الخامس:  عرض الأعمال

 


في الرواية عن عبد الله بن أبان الزيّات ـ وكان مكيناً عند الرضا عليه السلام ـ قال:

"قلت للرضا عليه السلام: ادعُ الله لي ولأهل بيتي. قال عليه السلام: أولستُ أفعل؟ والله إنّ أعمالكم لتُعرض عليّ في كلّ يوم وليلة. قال: فاستعظمتُ ذلك.

فقال عليه السلام لي: أما تقرأ كتاب الله عزّ وجلّ: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ قال عليه السلام: هو والله ابن أبي طالب عليه السلام.

 

(الكافي، الكليني، ج 1، ص 219، الحديث 4)
 
 
 
 
53

43

عرض الأعمال

 تمهيد

 
إنّ عرض أعمال العباد على الله ورسوله والمؤمنين من الأمور التي وردت فيها آيات من القرآن الكريم، وروايات من السنّة الشريفة، ولا يأباها العقل السليم.
 
فالآية الكريمة من سورة التوبة: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ1 صريحة بأنّ الله سبحانه وتعالى يرى أعمالنا، وكذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك المؤمنون، لكن أن يراها الله سبحانه في الدنيا قبل الآخرة، فهذا ما لا نشك به، ولكن أن يراها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون فإنّ هذا ما سنبيّنه في هذه الصفحات، كيف يراها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟ ومتى يراها؟ ومن هم المؤمنون في هذه الآية؟ وكيف يرون الأعمال؟ وما الفائدة من عرض الأعمال عليهم؟ نسأل الله سبحانه أن يوفّقنا لعلاج هذه المسألة.

 

 
رؤية الله للأعمال:
 
إنّ الإنسان المؤمن بالله سبحانه وتعالى مؤمن بأنّ الله جلّ وعلا مطّلع عليه في كلّ أحواله، فهو الله الذي وصف نفسه في كتابه الكريم ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ
 

1- سورة التوبة، الآية: 105.
 
 
 
 
55

44

عرض الأعمال

  مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ1. وإذا استطاع الإنسان أن يعيش الرقابة الإلهيّة بشكل دائم فإنّه سوف تتبدّل حاله المعنويّة إلى أفضل حال، لأنّه عندما يُريد أن يهمّ بالمعصية ـ والعياذ بالله ـ سوف تقول له نفسه: كيف تعصي الله وهو يراك، وهو المنعم عليك بنعمة الوجود، وبكل النعم التي تشعر بها، حتى باليد التي تريد أن تعصيه بها أو العين أو اللسان أو غير ذلك من جوارحك...؟ ولكن مع علمنا بأنّ الله دائمُ الرؤية لنا نتصرّف في محضره كأنّه لا يرانا، ومع علمنا بأنّه غفّار الذنوب، وبأنّه رحمن رحيم وبأنّه عفوّ وعطوف ورؤوف وسائر صفات الرحمة والجمال متصف بها، تجعلنا نتعامل معه تعالى على أساس هذه الصفات الجمالية فنتصرف كأنّه لا يرانا، ونهمّ بالمعاصي وكأنّه لا يسجلها علينا, يقول الإمام زين العابدين عليه السلام في الدعاء الذي ينقله عنه أبو حمزة الثمالي: "... ويحملني ويجرّئني على معصيتك حلمك عنّي، ويدعوني إلى قلّة الحياء سترك عليّ، ويسرّعني إلى التوثّب على محارمك معرفتي بسعة رحمتك وعظيم عفوك"2

 

 
رؤية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام:
 
أما رؤية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام لأعمال العباد، فقد ورد في تفسير الآية القرآنية "" " "" عن الإمام الرضا عليه السلام أنّ المراد بالمؤمنين عليه السلام هو الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام. ونُلاحظ في الرواية التي صدّرنا بها الحديث أنّ الإمام عليه السلام قال لعبد الله بن أبان الزيّات: إنّ أعمالكم لتعرض عليّ في كلّ يوم وليلة، ولا فرق بين إمام وإمام لأنّ الأئمّة عليهم السلام كلّهم نور واحد، فما عند أمير المؤمنين عليه السلام من مهام يقوم بها هي عند سائر الأئمّة عليهم السلام حتّى صاحب العصر والزمان أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.
 

1- سورة ق، الآية: 16.
2- دعاء السحر في شهر رمضان المبارك، مصباح المتهجّد، الكفعمي.
 
 
 
 
56

45

عرض الأعمال

 وقد أفرد الشيخ محمّد بن يعقوب الكليني قدس سره في كتابه الشريف الموسوم بالكافي في المجلّد الأوّل باباً خاصّاً يحمل اسم "عرض الأعمال على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام"، نذكر منه رواية سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "سمعته يقول عليه السلام: إنّكم تسوؤون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! فقال رجل: كيف نسوؤه؟ فقال عليه السلام: أما تعلمون أنّ أعمالكم تُعرض عليه، فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك، فلا تسوؤوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسرّوه"1.

 
وعن إبراهيم بن مهزم قال: "خرجت من عند أبي عبد الله عليه السلام ليلة ممسياً فأتيت منزلي بالمدينة وكانت أمّي معي، فوقع بيني وبينها كلام فأغلظت لها، فلمّا أن كان من الغد صلّيت الغداة وأتيت أبا عبد الله عليه السلام فلمّا دخلتُ عليه قال لي مبتدئاً: يا أبا مهزم، ما لك وللوالدة، أغلظت في كلامها البارحة؟ أما علمت أنّ بطنها منزل قد سكنته، وأنّ حِجرها مهد قد غمرته، وثديها وعاء قد شربته؟! قال: قُلت: بلى. قال عليه السلام: فلا تُغلظ لها"2.
 
إنّ الوقوف على هذه الرواية يستدعي الحديث عن الوالدة، ومكانتها في حياة الإنسان، وكيف ينبغي للإنسان التعامل معها حتى في أحلك الظروف، وأنّ عليه أن لا يغلظ لها في الكلام، ولكن هذا يبعدنا عن معنى الحديث، وحديثنا في هذه الرواية كيف ابتدأ الإمامُ إبراهيمَ بن مهزم بنصحه. عمّا جرى معه بالأمس من كلام بينه وبين والدته، وكيف اطلع على غلاظته معها، ممّا يدل بصراحة على عرض الأعمال عليه.
 
شعيتنا مَن يرعى قلبه:
 
في حديث بصائر الدرجات عن مرازم قال: "دخلت المدينة فرأيت جارية في الدار التي نزلتها فعجبتني (...) فلما أصبحتُ دخلتُ على أبي الحسن الرضا
 

1- الكافي، الكليني، ج 1، ص 219، الحديث 3.
2- بصائر الدرجات، محمّد بن الحسن الصفّار، ص 263.
 
 
 
 
57

46

عرض الأعمال

  فقال عليه السلام: يا مرازم ليس من شعيتنا من خلا ثمّ لم يرعَ قلبه"1. والمراجع لهذه الرواية يجد أنّ مرازم قد حاول مراودة الفتاة عن نفسها، وهي قد رفضت، فهو لم يرعَ الله ولم يخشَه، ولم يخفه، وهذا ما قد يحصل مع بعض شباب اليوم، حيث يحاولون بشتى الطرق والأساليب إيقاع الفتيات في مكائدهم وشراكهم. ومنهم من يظنّ أنّه لا يراه أحد، ولا يطّلع عليه أحد، ولكنّه لو علم أنّ صاحب العصر والزمان  عجل الله فرجه الشريف  يطّلع على فعله وصنيعه، لارتدع عن فعلته هذه، فها هو الإمام (أبو الحسن) الرضا عليه السلام يطّلع على صنيعة مرازم، ويبادره بالقول "ليس من شيعتنا من خلا ثمّ لم يرعَ قلبه"، ولا فرق بين إمام وإمام، فإنّ لكلّ زمان إمامه، وإمامنا صاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف مطّلع على أعمالنا، يفرح لفرحنا، ويحزن لحزننا، ويسوؤه ما نقوم به من معاصٍ وسيّئات، فلنحاول أن لا نؤذي قلب إمامنا.

 
الإمام الرضا عليه السلام وجنازة المحبّ:
 
تعالوا نلاحظ الإمام الرضا عليه السلام كيف تعامل مع وليّ من أوليائه وهو جنازة محمول على الأكف، حيث ينقل في مناقب ابن شهر آشوب عن موسى بن سيّار قال: "كنت مع الرضا عليه السلام وقد أشرف على حيطان طوس وسمعت واعية فأتبعتها فإذا نحن بجنازة، فلمّا بصرت بها رأيت سيّدي وقد ثنى رجله عن فرسه، ثمّ أقبل نحو الجنازة فرفعها، ثمّ أقبل يلوذ بهما كما تلوذ السخلة بأمّها، ثمّ أقبل عليّ وقال: يا موسى بن سيّار، من شيّع جنازة وليّ من أوليائنا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه لا ذنب عليه، حتّى إذا وُضع الرجل على شفير قبره رأيت سيّدي قد أقبل فأخرج الناس عن الجنازة حتّى بدا له الميت، فوضع يده على صدره، ثمّ قال: يا فلان بن فلان أبشر بالجنّة فلا خوف عليك بعد هذه الساعة. فقلت: جعلت فداك هل تعرف الرجل؟ فوالله إنّها بقعة لم تطأها قبل يومك هذا. فقال لي: يا موسى بن سيّار أما علمت أنّا معاشر الأئمّة تعرض علينا أعمال شيعتنا صباحاً ومساءً؟ فما
 

1- بصائر الدرجات، محمّد بن الحسن الصفار، ص 267 (بتصرف حذفٍ من وسط الرواية).
 
 
 
 
58

47

عرض الأعمال

  كان من التقصير في أعمالهم سألنا الله تعالى الصفح لصاحبه، وما كان من العلوّ سألنا الله الشكر لصاحبه"1.

 
نعم، إن إمامنا تُعرض عليه الأعمال صباحاً ومساءً، أعمال كل الناس، ولكن للعلاقة بين الإمام وبين أتباعه وأوليائه وشدّة اهتمامه بهم يقول: تعرض أعمال شيعتنا. ومن الطبيعيّ جدّاً أن يهتمّ الإمام بمحبّيه وأوليائه، لأنّهم هم الّذين يوالونه ويحبّونه ويدعون له بتعجيل الفرج، فلماذا ندعو له من جهة ونؤذيه من جهة أخرى؟ لماذا نسوؤه بالمعاصي والذنوب؟ أليس حريّاً بنا أن نسعى جاهدين كي نُفرح قلبه كلّ صباح وكلّ مساء، وندعو له، كي يؤمّن على دعائنا، ويستغفر لنا ونوطّد العلاقة بيننا وبينه؟
 
ختام الكلام:
 
بعد هذا العرض اليسير لعرض الأعمال على الأئمّة عليهم السلام، نذكر أنّ هناك روايات متعدّدة في هذا الصدد. يبقى سؤال صغير أنّه هل يمكننا الاستفادة من هذا المعتقد في حياتنا؟ 
 
الجواب: نعم، إنّ من يوطّن نفسه على هذا المعتقد، وأنّ أعماله سوف تعرض على إمامه، يستطيع أن يبني نفسه بشكل أفضل، لأنّه إن لم يخجل من الله سبحانه وتعالى، فإنّه يخجل من إمامه، لا سيّما أنّه يأمل ويرجو أن يكحل عينيه بالنظر إلى وجه إمامه، إمّا في الدنيا أو في الآخرة، فكيف ينظر إلى وجهه الشريف وهو يعلم أنّ هذا الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف كان يعلم بكلّ حركاته وسكناته؟ ألا يخجل الواحد منّا ـ إن كان من أصحاب المعاصي ـ أن يضع عينيه بعيني الإمام عليه السلام؟ ولكي لا يقع في هذا الخجل والحياء، ولكي يكون له الجرأة بالتشرّف بلقائه سوف يسعى لتحسين سيرته، وتهذيب نفسه، والابتعاد عن المعاصي، لذلك كان للإيمان برؤية المعصوم عليه السلام للأعمال، وعرضها عليه ـ مع غضّ النظر عن فلسفتها الحقيقية من دور الإمام في تنظيم شؤون العباد ـ دور في تهذيب نفوس المحبّين.
 

1- بحار الأنوار، المجلسي، ج 49، ص 99، الحديث 1 
 
 
 
 
59

48

عرض الأعمال

 نسأل الله سبحانه أن يوطّن في نفوسنا هذه الحالة، ويجعلنا من الذين يعيشون حالة مراقبة الله والإمام لنا، ونخلص أعمالنا لله، ويجعلنا من الذين لا يسوؤون إمامهم، بل يُسرّونه ويُفرحونه، ويدعو لنا ويؤمّن لدعائنا. والحمد لله ربّ العالمين.

 
مطالعة
 
لاتؤذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
 
إنّ أعمال الإنسان ـ طبقاً لبعض الآيات واستناداً إلى بعض الأحاديث ـ تُعرض على رسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام، وتمرّ من أمام أنظارهم المباركة. فعندما ينظر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى أعمالكم ويراها مليئة بالأخطاء والذنوب، فكم سيتأثر ويتألم؟ فلا تكونوا ممّن يؤلم رسول الله ويثير تأثّره. لا تكونوا ممّن يثير الحزن والألم في قلب رسول الله.
 
فعندما يرى (صلوات الله عليه وآله) صفحات أعمالكم زاخرة بالغيبة والتهمة والإساءة إلى المسلمين، ويرى كلّ توجّهاتكم وهمومكم منحسرة في الدنيا والمادّيّات، ويشاهد قلوبكم طافحة بالبغضاء والحسد والحقد وإساءة الظنّ بعضكم ببعض, عندما يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلّ هذه، من الممكن أن يستحي أمام الله تبارك وتعالى وملائكته, لأن أمّته وأتباعه لم يشكروا نعم الله تعالى، وخانوا بكلّ وقاحة وجرأة أمانات الله تبارك وتعالى. فالشخص الّذي يرتبط بك ـ ولو كان خادمك ـ يُخجلك إذا ما ارتكب عملاً مشيناً، وأنتم مرتبطون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. إنّكم بمجرّد دخولكم الحوزات العلمية تكونون قد ربطتم أنفسكم بفقه الإسلام وبالرسول الأكرم والقرآن الكريم. فإذا ما ارتكبتم عملاً قبيحاً فسوف يمسّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويسيء إليه، ومن الممكن أن يلعنكم لا سمح الله. فلا تسمحوا لأنفسكم أن تُحزنوا قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقلوب الأئمّة الأطهار، وتكونوا سبباً في آلامهم1.
 

1- الجهاد الأكبر، الإمام الخمينيّ قدس سره.
 
 
 
 
60

49

العبادة

 الدرس السادس: العبادة

 

 
يقول الله تعالى في محكم كتابه:

 

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ 

 

 (سورة الذاريات، الآيات: 56- 58)

 

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً

 

(سورة الملك، الآية: 2)
 
 
.
 
61

 


50

العبادة

 الإنسان حرّ في أصل خلقته

 
إنّ حرية الإرادة أساس خلقة الإنسان، وهي الدعوة التي صدح بها جميع الأنبياء عليهم السلام، وأساس لا يستطيع الإنسان بدونه أن يخطو ولو خطوة واحدة في مسير التكامل "التكامل الإنساني والمعنوي"، ولهذا فقد أكّدت آيات متعدّدة على أنّ الله لو شاء أن يهدي الناس بإجباره لهم جميعاً لفعل، لكنّه لم يشأ. 
 
يقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ1.

 

 
فالله سبحانه وتعالى يُبيّن المنهج ويُعرّف الطريق ويضع العلامات، ويُحذّر ممّا ينبغي الحذر منه، ويأمر بما يُساعد الإنسان على الوصول إلى الهدف، كما ويُعيّن القائد للمسيرة البشريّة والمنهج. يقول تعالى في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى2، كما يقول أيضاً: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ  *  لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ3 ويقول

 

 
 

1-سورة هود، الآيتان: 118 و119. 
2- سورة الليل، الآية: 12. 
3- سورة الغاشية، الآية: 21.
 
 
 
 
63

51

العبادة

سبحانه: "فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا1، ونقرأ أيضاً: "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا2.

 

 
 
فإنّ هذه الآيات تؤكّد على حريّة الإرادة والاختيار، وتدلّ على أنّ الإنسان يحصد ما يزرع في هذه الدنيا، وليست الآخرة إلّا نتيجة أعماله.
 
هدف الوجود البشريّ
 
من أهمّ الأسئلة التي تختلج في خاطر كلّ إنسان هو لمَ خُلقنا ؟ وما الهدف من خلق الناس والمجيء إلى هذه الدنيا؟
 
إنّ في آيات القرآن بيانات متعدّدة تُظهر الهدف من الخلق والإيجاد، وفي الحقيقة يُشير كلّ واحد منها إلى بُعدٍ من أبعاد هذا الهدف، من هذه الآيات قوله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ3 أي ليتكاملوا في العبادة وليبلغوا أعلى مقام للإنسانيّة، وليس ذلك بمعنى أنّ الله عزّ وجلّ يحتاج إلى عبادتنا من صلاة ودعاء وقراءة للقرآن فهو غنيّ عنها، إنّما أُمرنا بهذه الأعمال العباديّة للوصول إلى السعادة الحقيقيّة. 

 

 
فوجودنا في هذا العالم وتفضُّل الله علينا بنعمة الحياة ابتلاء وامتحان حيث نقرأ في آية أخرى: "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً4

 

 
وإنّ الذي يبدو من هذه الآية أنّ الله تعالى خلق الإنسان وأحياه ثمّ أماته لأجل الابتلاء والامتحان، لكنّ الامتحان يكون من خلال الأعمال وأيّ الناس أحسن عملاً.
 

1- سورة الشمس، الآية: 8. 
2- سورة الدهر، الآية: 3.
3- سورة الذاريات، الآيات: 56-58.
4- سورة الملك، الآية: 2.
 
 
 
 
64

52

العبادة

  وأفضل الأعمال المقرّبة إلى الله سبحانه وتعالى العبادة التي أُمرنا بها، فيعود الامتحان إلى العبادة.

 
ففي حديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أنّه لما سُئل ما معنى قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "اعملوا فكلّ ميسّر لما خُلق له. قال عليه السلام: إنّ الله عزّ وجلّ خلق الجنّ والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه وذلك قوله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ1 فيسّر كلّاً لما خُلق له، فويلٌ لمن استحبّ العمى على الهدى". وهذا الحديث يُشير إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الله خلق الناس لهدف تكامليّ هيّأ له وسائله التكوينيّة والتشريعيّة وجعلها في اختياره.

 

 
وهكذا يتّضح أنّنا خُلقنا لعبادة الله الّتي تُربّي الناس وتهديهم وتوصلهم إلى السعادة والكمال، لكن المهمّ أن نعرف ما هي حقيقة هذه العبادة، فهل المراد منها أداء المراسم أو المناسك كالصلاة والصيام والحجّ، أم هي حقيقة أخرى وراء هذه الأمور؟ 
 
حقيقة العبادة
 
وللإجابة عن هذا السؤال علينا أن نعرف أنّ العبوديّة تعني التعلُّق بالمولى وإرادته، فلا نملك في قباله عزّ وجلّ شيئاً وليس لنا أن نُقصِّر في طاعته. وعلينا أن نُظهر منتهى الخضوع للمعبود، ولذلك فالمعبود الوحيد الذي له حقّ العبادة على الآخرين هو الّذي بذل منتهى الإنعام والإكرام، وليس ذلك سوى الله سبحانه!
 
نقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ الإمام الحسين خطب أصحابه فقال: " إنّ الله عزّ وجلّ ما خلق العباد إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه"2.
 

1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج5، ص175.
2- علل الشرائع، الصدوق، ج1، ص9.
 
 
 
 
65

53

العبادة

 فبناءً على هذا إنّ العبوديّة هي قمّة التكامل وأوج بلوغ الإنسان واقترابه من الله! والعبوديّة منتهى التسليم لذاته المقدّسة. فالعبوديّة هي الطاعة بلا قيدٍ ولا شرط، وهي الامتثال للأوامر الإلهيّة في جميع المجالات. وأخيراً فإنّ العبوديّة الكاملة هي أن لا يُفكّر الإنسان بغير معبوده الواقعيّ أي الكمال المطلق، ولا يسير إلّا في منهجه الأحبّ وأن ينسى أيّ أحدٍ سواه حتّى نفسه وشخصه.

 
الدنيا ليست هدفاً
 
يقول تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى1.

 

 
يا أيّها النبيّ: إنّ هذه النعم المتزلزلة الزائلة ما هي إلّا زهرة الحياة الدنيا، تلك الأزهار الّتي تُقطع بسرعة وتذبل وتتناثر على الأرض، ولا تبقى إلّا أيّاماً معدودات. في الوقت الذي أمددناهم فيه بها لنفتنهم، "وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى"، فإنّ الله سبحانه وهب لك مواهب ونعماً متنوّعة، فأعطاك الإيمان والإسلام، والقرآن والآيات الإلهيّة والرزق الحلال الطاهر، ومن ثمّ أنعم عليك بنعم الآخرة الخالدة، هذه الهبات والعطايا المستمرّة الدائمة. 
 
وتقول الآية التالية تلطيفاً لنفس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتقوية لروحه: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لأنّ هذه الصلاة بالنسبة لك ولأهلك أساس العفّة والطهارة وصفاء القلب وسموّ الروح ودوام ذكر الله.
 
فائدة العبادة
 
ثمّ تُضيف إنّه إذا كان قد صدر الأمر لك ولأهلك بالصلاة فإنّ نفعها وبركاتها إنّما تعود عليكم، فإنّا ﴿لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ، فإنّ هذه الصلاة لا تزيد شيئاً
 

1- سورة طه، الآيتان: 131-132.
 
 
 
 
66

54

العبادة

  في عظمة الله، بل هي رأس مال عظيم لتكامل البشر وارتقائهم ودرس تعليميّ وتربويّ عالٍ. إنّ الله سبحانه ليس كباقي الملوك والأمراء الذين يأخذون الضرائب من شعوبهم ليُديروا بها حياتهم وحياة مقرّبيهم، فإنّ الله غنيّ عن الجميع ويحتاجه الجميع ويفتقرون إليه. إنّ هذا التعبير في الحقيقة يُشبه ما ورد في سورة الذاريات: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ1. وعلى هذا، فإنّ نتيجة العبادات ترجع مباشرة إلى نفس العابدين.

 

 
ولذلك فإنّ لعبادة الله سبحانه آثاراً عديدة على الإنسان، نذكر منها:
 
1. يؤتى الحكمة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحسن عبادة الله في شبيبته، لقّاه الله الحكمة عند شيبته، قال الله تعالى ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً  ثمّ قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ2 ""3.

 

 
 
2. يباهي الله به الملائكة: عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله تعالى يُباهي بالشابّ العابد الملائكة، يقول: انظروا إلى عبدي ترك شهوته من أجلي"4.
 
3. الطمأنينة: يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ5.

 

 
4. ينتصر على الشيطان: عن الإمام الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: ألا أُخبركم بشيء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان عنكم كما تباعد المشرق من المغرب؟ قالوا: بلى، قال: الصوم يسوّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبّ في الله والموازرة على العمل الصالح يقطعان دابره،
 

1- سورة الذاريات، الآيات: 56ـ 58.
2- سورة القصص، الآية:14.
3- أعلام الدين في صفات المؤمنين، الديلمي، ص296.
4- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص1401.
5- سورة الرعد، الآية 28.
 
 
 
 
67

 


55

العبادة

  والاستغفار يقطع وتينه.."1. فالملاحظ أنّ لكلّ عبادة أثراً خاصّاً يضرّ بإبليس اللعين الذي يتربّص بالبشر الدوائر، ما يُعين المؤمن أكثر على المحافظة على دينه وتقواه وطاعة مولاه..

 
5. يكون في ظلِّ الله يوم القيامة: عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "سبعة في ظلّ عرش الله عزّ وجلّ يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: إمام عادل، وشابّ نشأ في عبادة الله عزّ وجلّ، ورجلٌ تصدّق بيمينه فأخفاه عن شماله، ورجلٌ ذَكر الله عزّ وجلّ خالياً ففاضت عيناه من خشية الله، ورجل لقي أخاه المؤمن فقال: إني لأحبّك في الله عزّ وجلّ، ورجل خرج من المسجد وفي نيّته أن يرجع إليه، ورجل دعته امرأة ذات جمال إلى نفسها فقال: إنّي أخاف الله ربّ العالمين"2.
 
6. يُثيبه الله تعالى الجنّة: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ثلاثة يُدخلهم الله الجنّة بغير حساب: إمامٌ عادل، وتاجرٌ صدوق، وشيخٌ أفنى عمره في طاعة الله"3.
 
الإخلاص في العبادة
 
لا تتحقّّق هذه الآثار وغيرها ما لم تقترن العبادة بالإخلاص لله تعالى، حيث إنّه عمادها، فإذا كان العمل فيه شيء من الشرك الخفيّ أي الرياء وطلب السمعة، فإنّ الآثار المرجوّة من خلال هذه العبادات لا يُمكن أن تتحقّق، كيف ذاك والله خير شريك؟
 
عن عليّ بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "قال الله عزّ وجلّ: أنا خير شريك، مَن أشرك معي غيري في عمل عمله لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً"4.
 

1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج66، ص380.
2- م. ن، ج 66، ص377.
3- ثواب الأعمال، الصدوق، ص133.
4- الكافي، الكليني، ج2، ص295.
 
 
 
 
68

56

العبادة

 عبادة الأحرار

 
لا شكّ أنّ للعبّاد درجات، كما أنّ للجنّة درجات، يقول تعالى ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأوْفَى1. فلكلّ إنسان سعيه في الدنيا، وبمقدار هذا السعي يكون الجزاء والعطاء الإلهيّ. على أنّ هناك من العبَاد من يرغب في ثواب الله وجنّته، ومنهم من يخاف ناره وعذابه، ومنهم من يعبده حبّاً وشكراً له سبحانه على نعمه وإفضاله. ولا شكّ أنّ مثل هذه العبادة هي أعظم عبادة.

 

 
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "بكى شعيب عليه السلام من حبّ الله عزّ وجلّ حتّى عمي، فردّ الله عزّ وجلّ عليه بصره، ثمّ بكى حتّى عمي فردّ الله عليه بصره، ثمّ بكى حتّى عمي فردّ الله عليه بصره، فلمّا كانت الرابعة أوحى الله إليه: يا شعيب إلى متى يكون هذا أبداً منك؟ إن يكن هذا خوفاً من النار فقد أُجِرت، وإن يكن شوقاً إلى الجنّة فقد أبحتك; فقال: إلهي وسيّدي أنت تعلم أنّي ما بكيت خوفاً من نارك، ولا شوقاً إلى جنّتك، ولكن عقد حبّك على قلبي فلست أصبر أو أراك2، فأوحى الله جلّ جلاله إليه: أما إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا سأُخدمك كليمي موسى بن عمران"3
 
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار"4.
 
وقد ورد عنه عليه السلام أيضاً: "إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في
 

1- سورة النجم، الآيات:39-41.
2- قال الصدوق (رض): يعني بذلك عليه السلام: لا أزال أبكي أو أراك قد قبلتني حبيباً.
3- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج12، ص380.
4- نهج البلاغة، ج4، ص53.
 
 
 
 
 
69

57

العبادة

 جنّتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك"1.

 
فإذا أردنا أن نعبد الله فلتكن عبادتنا عبادة حبّ وشكر لا عبادة رغبة وخوف، عبادة تعلّق وهيام وعشق ننسى فيها أيّ عشق آخر، بل لا مكان في قلوبنا حقيقةً لغير الله تعالى، فإذا أحببنا أمراً أو شيئاً معيّناً أو أحداً ما, كان ذلك عبر حبّ الله ورضا الله وفي حبّ الله ورضاه.
 
وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً وقد أنهك نفسه بالعبادة: أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أفلا أكون عبداً شكورا" 2
 
وفي الختام
 
فيا من يريد إصلاح نفسه والفوز برضا وحبّ ربّه هلّا أقبلت على نفسك قليلاً وعاتبتها، ثمّ بعد ذلك روّضتها، حتّى تنهج منهج الصلحاء وتسلك سبيل الأنبياء والأوصياء، وتتأسّى بسيّد البلغاء العابد الزاهد الذي أخذ يُعاتب نفسه فيقول كما ورد عن مولانا العسكريّ، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام، وذكر مناجاةً طويلة عنه عليه السلام، قال: "ثمّ أقبل أمير المؤمنين عليه السلام على نفسه يُعاتبها ويقول: أيّها المناجي ربّه بأنواع الكلام، والطالب منه مسكناً في دار السلام، والمسوّف بالتوبة عاماً بعد عام، ما أراك منصفاً لنفسك من بين الأنام، فلو دافعت نومك يا غافلاً بالقيام، وقطعت يومك بالصيام، واقتصرت على القليل من لعق الطعام، وأحييت ليلك مجتهداً بالقيام، كنت أحرى أن تنال أشرف المقام.
 
أيّتها النفس اخلطي ليلك ونهارك بالذاكرين، لعلّك أن تسكني رياض الخلد مع المتّقين، وتشبّهي بنفوس قد أقرح السهر رقّة جفونها، ودامت في الخلوات شدّة حنينها، وأبكى المستمعين عولة أنينها، وألان قسوة الضمائر ضجّة رنينها،
 
 

1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج67، ص186.
2- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج11، ص247.
 
 
 
 
 
70

58

العبادة

  فإنّها نفوسٌ قد باعت زينة الدنيا، وآثرت الآخرة على الأولى، أولئك وفدُ الكرامة يوم يخسر فيه المبطلون، ويُحشر إلى ربّهم بالحسنى والسرور المتّقون"1.

 
مطالعة
 
الأنبياء يحاربون العبادات المنحرفة
 
كان الأنبياء العظام من المحاربين، وبكلّ‏ِ حزم وقوّة، للعبادات المنحرفة والجاهلة، وجاهدوا في هذا السبيل مجاهدة عظيمة.
 
وفي نفس الوقت أعطوا الناس الوجهة الصحيحة للعبادة، وهي: عبادة اللَّه، الذي يُمثِّل الكمال المطلق، خالق الكون، ربّ العالمين، بارى‏ء السموات والأرض، الذي إليه يُرجع الأمر كلّه.
 

 

﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ2.

 

 

 

﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ3.

 

 

 

﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ4.

 

 
ولقد حطّم النبي ّ إبراهيم عليه السلام أصنام الكافرين ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ5.

 

 
ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن دخل مكّة منتصراً حطّم الأصنام الموجودة في الكعبة، ودعا إلى عبادة الواحد القهَّار، وقال: "قولوا لا إله إلا الله تُفلحوا"6.
 
وفعلاً عندما قال العرب كلمة التوحيد وأطاعوا الله وخضعوا وانقادوا له، تغيَّر
 

1- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج11، ص253.
2- سورة الأعراف، الآية: 65.
3- سورة الأعراف، الآية: 73.
4- سورة المائدة، الآية: 72.
5- سورة الأنبياء، الآية: 57.
6- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج‏18، ص202.
 
 
 
 
71

59

العبادة

  حالهم رأساً على عقب، من الجهل إلى العلم، من المحكوميَّة إلى الحاكميَّة، من الذلّة إلى العزّة.

 
هذه هي العبادة لله عزّ وجلّ والطاعة له، تُغيِّر الشعوب والأفراد، وتجعلهم سادة أنفسهم أحراراً، وتُخرجهم من عبوديّة الشهوات والهوى والأشخاص والأوهام.
 
يقول ول ديورانت: "إذا حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس، قلنا: إنّ محمداً كان من أعظم عظماء التاريخ، فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحيّ والأخلاقيّ لشعب ألقت به حرارة الجوّ وجدب الصحراء في دياجير الهمجيّة، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحاً لم يُدانه فيه أيّ مصلح آخر في التاريخ كلّه... وكانت بلاد العرب لمّا بدأ الدعوة صحراء جدباء، تسكنها قبائل من عبدة الأوثان، قليل عددها متفرّقة كلمتها، وكانت عند وفاته أمّة موحّدة متماسكة..."1.
 
أرأيتم كيف تجعل العبادة من الفقر غنى؟ هل عرفتم حقّاً معنى الحديث: "يا ابن ادم تفرَّغ لعبادتي أملأ قلبك غنى"2؟ فإذا مُلأ القلب غنى، فبطبيعة الحال، سينتشر الغنى في عقل الإنسان وأخلاقه وسلوكه وروحه، وستكون كلها غنى وإنتاجاً وفعَاليّة ونشاطاً..
 

1- قصة الحضارة, ويل ديورانت، ج‏11، ص‏47.
2- وسائل الشيعة, الحر العاملي, ج1, ص83.
 
 
 
72

60

إدبار القلب وفقد الروحيّة

 الدرس السابع: إدبار القلب وفقد الروحية

 

 

 عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:

" إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً فإذا أقبلت فتنفّلوا وإذا أدبرت فعليكم بالفريضة"
 (الكافي الكليني, ج2, ص454)
 
 
 
 
 
73

61

إدبار القلب وفقد الروحيّة

  تمهيد:

 
يقول عزّ من قائل: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ1.

 

 
لقد فطر الله الإنسان على حبّ الراحة والأمن والاستقرار، ولا راحة ولا قرار والروح تائهة ومهمَلة. ومن منّا لا يسعى إلى الاطمئنان والراحة النفسية؟ فمن لا يمتلك نفساً مطمئنّة، وقلباً سليماً، وروحاً مفعمة بالحياة، لن يرجع إلى المقرّ الأبديّ مطمئنّ النفس وسليم القلب ولن ينال روحاً وريحاناً وجنّة نعيم.
 
كثيراً ما يشكو المؤمنون من فقد ما يسمّونه روحيّة كانت تُلازمهم في عباداتهم وغيرها من زيارة إمام معصوم أو مجلس عزاء أو غير ذلك، بل يشعرون بفتور وقلّة نشاط تجاه أدائها أو تباطؤ أو تأخير أو تثاقل أو كسل. قد يكون هذا آنياً أو في فترة محدودة بسبب مشكلة أو همّ أو غمّ دنيويّ، ولكن قد يطول كثيراً، بل حالة إقبال القلب ونشاطه قد لا تعود أبداً والعياذ بالله.
 
قد يمضي على عمر تكليف بعضنا الأربعون عاماً، من صلاة وصوم ودعاء وزكاة
 

1- سورة الرعد، الآية: 28.
 
 
 
 
75

62

إدبار القلب وفقد الروحيّة

  وزيارة وحضور مساجد ومجالس و... ولكن لا ينعكس من ذلك على قلوبنا شيء إلّا شعور بالتيه والتعب، بل أحياناً اليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والعمر يمضي ولا يمكن تصحيح ما فات، فما منشأ وأسباب هذا الشعور؟ وكيف السبيل للمعالجة؟

 
إدبار القلوب
 
أسئلة تقضّ مضاجعنا وتؤرّقنا كلّنا، وتعصر قلوبنا ألماً وحسرةً وندامة، مع شعور بالعجز والضعف. وليُعلم أنّ اليقظة من نوم الغفلة أو من الإنكار رأساً، هي المنطلق لقلع جذور هذه المفسدة، فما دام الإنسان لا يشعر بالمشكلة أو ينكرها أصلاً، فلا مجال لإصلاح النفس وتصفيتها ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا1. يقول الفيلسوف الإسلاميّ الكبير صدر المتألّهين رحمه الله: "إنّ رأس كلّ شقاوة ومبدأ كلّ ضلالة هو الجهل مع العناد، كما أنّ رأس كلّ سعادة ومبدأ كل هداية هو العقل مع الانقياد"2

 

 
وسنحاول في هذا الدرس أن نذكر ما يُمكن أن يكون أهمّ الأسباب لهذه الرذيلة النفسيّة والحالة القلبيّة المهلكة.
 
1- حبّ الدنيا 
 
إنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، ومبدأ كلّ تعاسة وشقاوة، وهو أغلظ حجاب بين العبد وربّه، فعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "جُعل الخير كلّه في بيت وجُعل مفتاحه الزهد في الدنيا، ثمّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتّى لا يُبالي مَن أَكَلَ الدنيا، ثمّ قال: حرامٌ على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتّى تزهد في الدنيا"3 .
 

1- سورة الكهف، الآيتان: 103-104.
2- شرح أصول الكافي، صدر المتألّهين الشيرازي، ج‏1، ص 412.
3- الكافي، الكليني، ج2، ص128.
 
 
 
 
76

63

إدبار القلب وفقد الروحيّة

 فإذا كان القلب محجوباً والنفس معيوبة، العقل مغلوباً والهوى غالباً، تكون الطاعة قليلة، والمعصية كثيرة، ولا تشمله رحمة ستّار العيوب وكشّاف الكروب.

 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "الانهماك في بحر اللذائذ والمشتهيات يصرف الإنسان إلى حبّ الدنيا من دون اختيار، وحبّ الدنيا يوجب النفور عن غيرها، والإقبال على المادّيات يسبّب الغفلة عن عالم الغيب"1.
 
وعليه يكون العلاج من حبّ الدنيا بالزهد فيها وبغضها، وعدم السعي وراء ذلك.
 
فعن أبي جعفر الإمام الباقر عليه السلام قال: "قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا"2.
 
وفي رواية أّنه سُئل الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام: "أيّ الأعمال أفضل عند الله عزّ وجلّ؟ فقال: ما من عمل بعد معرفة الله عزّ وجلّ ومعرفة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من بغض الدنيا"3.
 
2- إشباع الرغبات
 
من كان جُلّ همّه رغباته وتلبيتها، وكان واقعاً في أسر شهواته، متعلّقاً بالدنيا الفانية وملذّاتها، سوف يُدبر قلبه تدريجيّاً عن العبادة, لأنّه يراها تمنع من تحقيق بعض رغباته، فلا يشتاق إليها بل يشعر بثقلها عليه ما يؤدّي به إلى تأخيرها عن وقتها ومن ثمّ - والعياذ بالله - تركها كلّياً. مثالٌ على ذلك الّذين أدمنوا الانترنت أو مشاهدة الأفلام التلفزيونية، أو ارتياد بعض المقاهي والنوادي الّتي فيها ألعاب وملاهٍ، فإنّهم لا يكادون يؤدّون الواجبات في وقتها فضلاً عن المستحبّات، وإذا بوقتهم الثمين قد ذهب فيما لا ينفع غالباً، وفي الحديث: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك!.
 

1- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، فصل في بيان فلسفة شدّة ابتلاء الأنبياء عليهم السلام، والأوصياء والمؤمنين.
2- الكافي، الكليني، ج2، ص128.
3- م. ن، ج2، ص130.
 
 
 
 
77

64

إدبار القلب وفقد الروحيّة

 عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّما أخاف عليكم اثنتين اتّباع الهوى وطول الأمل، أما اتّباع الهوى فإنّه يصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فيُنسي الآخرة"1.

 
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم فليس شيء أعدى للرجال من اتّباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم"2.
 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم أيّها العزيز، أنّ رغبات النفس وآمالها لا تنتهي ولا تصل إلى حدّ أو غاية، فإذا اتّبعها الإنسان ولو بخطوة واحدة، فسوف يضطّر إلى أن يتبع تلك الخطوة بخطوات، وإذا رضي بهوى واحد من أهوائها، أُجبر على الرضى بالكثير منها. ولئن فتحت باباً واحداً لهوى نفسك، فإنّ عليك أن تفتح أبواباً عديدة له. إنّك بمتابعتك هوى واحداً من أهواء النفس توقعها في عدد من المفاسد، ومن ثمّ سوف تُبتلى بآلاف المهالك، حتّى تنغلق - لا سمح الله - جميع طرق الحقّ بوجهك في آخر لحظات حياتك"3.
 
إذاً، فعلينا أن لا نلهث وراء اشباع الرغبات والميول، بل البحث عمّا أراده الله لنا، ويجب أن نؤثر رضى الله تعالى على أهوائنا، فعن أبي جعفر عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقول الله عزّ وجلّّ: وعزّتي وجلالي وكبريائي ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبدٌ هواه على هواي إلّا شتّتُ عليه أمره، ولبّستُ عليه دنياه، وشغلتُ قلبه بها، ولم آته منها إلّا ما قدّرتُ له.
 
وعزّتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني، لا يُؤثر عبدٌ هواي على هواه إلّا استحفظته ملائكتي، وكفلت السماوات والأرَضين رزقه، وكنتُ له من وراء تجارة كلّ تاجر، وأتته الدنيا وهي راغمة"4.
 

1- الكافي، الكليني، ج2، ص335.
2- م. ن.
3- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، فصل في ذمّ اتّباع الهوى، الحديث العاشر.
4- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج15، ص279.
 
 
 
 
78

65

إدبار القلب وفقد الروحيّة

3- ارتكاب المحرّمات والمعاصي

 
أهمّ سبب لقسوة القلب وإدباره، هو ارتكاب المحرّمات والمعاصي، خصوصاً ما استخفّ صاحبه به، كالنظرة الحرام، والاستماع إلى الغناء ومصافحة الأجنبيّة، والكذب والسباب، والغيبة والنميمة، فهل يتوقّع المرء أن يكون صاحب قلب نيّر أزهر، والحال أنّه لم يَسلَم من لسانه وسوء ظنّه أحد؟ 
عن الإمام جعفر بن محمّد عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من الشقاء جمود العين، وقسوة القلب، وشدّة الحرص في طلب الدنيا، والإصرار على الذنب"1.
 
وعن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "ما جفّت الدموع إلّا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلّا لكثرة الذنوب"2.
 
وعن المسيح عيسى ابن مريم عليهم السلام: "قسوة القلب من جفوة العيون، وجفوة العيون من كثرة الذنوب، وكثرة الذنوب من حب الدنيا، وحب الدنيا رأس كل خطيئة"3.
 
4- حزن الدنيا وغمّها
 
قد يشعر بعض الناس بحالات من الفتور أو التثاقل وعدم وجود ميل قلبيّ نحو النوافل والمستحبّات، بسب الحزن والغمّ والهمّ والمرض، وهذا لا بأس به لو كان مؤقّتاً، فمن منّا لا يُبتلى بالمرض أو بالهموم النفسيّة، ولكن لو دامت هذه الحالة بحيث أصبح حزنه سرمداً، وعمّت الكآبة قلبه فإنّ روح الإيمان يزول من قلبه تلقائيّاً، وقد لا يرجع أبداً. لذلك نجد بعض الناس يعيشون في قلقٍ دائم، وينتهي بهم المطاف إلى تناول الأدوية المهدّئة للأعصاب ومضادّات الكآبة، غافلين عن العلاج الحقيقيّ 
 
 

1- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 16، ص46.
2- م. ن، ص45.
3- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 12، ص 96.
 
 
 
 
79

66

إدبار القلب وفقد الروحيّة

 وهو الذكر لله تعالى, بتسبيحه وتمجيده وذكر أفضاله ونعمه التي لا تكاد تُعدّ أو تُحصى بحيث لا يقف قبالها ولا يحطُّ من شأنها أيُّ بلاء كان. يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ1.

 


 
فعن مرازم قال: "سأل إسماعيل بن جابر أبا عبد الله عليه السلام فقال: أصلحك الله إنّ عليّ نوافل كثيرة فكيف أصنع؟ فقال: اقضها، فقال له: إنّها أكثر من ذلك، قال: اقضها، قلت: لا أحصيها، قال: توخّ، قال مرازم: وكنت مرضت أربعة أشهر لم أتنفّل فيها، قلت: أصلحك الله وجعلت فداك مرضت أربعة أشهر لم أصلّ نافلة، فقال: ليس عليك قضاء. إنّ المريض ليس كالصحيح، كلّما غلب الله عليه، فالله أولى بالعذر فيه"2.
 
5- الكسل والتعب والملل
 
وهذه من أهمّ أسباب فقدان الروحيّة، وذلك نتيجة إنهاك النفس بالعبادة التي تتجاوز طاقتها، لذلك حذّر أهل البيت عليهم السلام من أن يصل المؤمن إلى هذه الحالة خاصّة إن كان في بداية التزامه، فقد ورد عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ، ولَا تُكَرِّهُوا عِبَادَةَ الله إِلَى عِبَادِ اللهِ، فَتَكُونُوا كَالرَّاكِبِ الْمُنْبَتِّ الَّذِي لَا سَفَراً قَطَعَ ولَا ظَهْراً أَبْقَى"3.
 
يعني بأناة وتروٍّ وتدبّر فليس مهمّاً ولا مفيداً أن أصلّي ألف ركعة في اليوم والليلة إن كانت بلا تدبّر ولا تفكّر، فكيف إن أدّت إلى التململ من الدين والعبادة، لا بل تتنافى تمام المنافاة مع حضور القلب، (ففي هذه الحالة يُستحسن عدم الإكثار من العمل العباديّ، بل التوجّه نحو روح العبادة والتفكّر بحقيقتها)، فعن أبي ذرّ (رض) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يا أبا ذرّ ركعتان مقتصدتان في تفكّر خير من قيام ليلة والقلب ساهٍ"4.
 

1- سورة الرعد، الآية: 28.
2- الكافي، الكليني، ج3، ص451.
3- م. ن، ج2، ص86.
4- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج4، ص74.
 
 
 
 
80

67

إدبار القلب وفقد الروحيّة

  وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "قَلِيلٌ تَدُومُ عَلَيْهِ أَرْجَى مِنْ كَثِيرٍ مَمْلُولٍ مِنْهُ"1.

 
كما إنّ للقلوب إدباراً وإقبالاً ينبغي الالتفات إليه
 
قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ القلب يحيا ويموت، فإذا حيي فأدّبه بالتطوّع، وإذا مات فاقصره على الفرائض"2.
 
وقال الإمام الرضا عليه السلام: "إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً ونشاطاً وفتوراً، فإذا أقبلت بصِرت وفهمت، وإذا أدبرت كلّت وملّت، فخذوها عند إقبالها ونشاطها، واتركوها عند إدبارها وفتورها"3.
 
6- الرياء والعجب والغرور
 
كيف يجتمع الرياء والعجب والغرور بالعمل مع روحيّة القلب؟ فإنّ من عمل لغير الله وأُعجب واغترّ بعمله معتبراً نفسه خارجاً عن حدّ التقصير، لم يبقَ في قلبه ذرّة إيمان، فضلاً عن الاطمئنان واليقين، بل غرق في بحر التعاسة والحيرة، وعذاب الفراق والبعد عن الله تعالى، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ أبعد الناس من الله القاسي القلب"4.
 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "تدبّر حال إبليس ولاحظ كيف أنّ ظهور أنانيّته وحبّه لنفسه وإعجابه بها فيه، قد حجب علمه عن أن يتجسّد عمليّاً، وعن أن يهديه إلى طريق السعادة"5.
 
فإنّ من يُصلّي صلاة الليل ويتباهى بها أمام الناس أو في نفسه قد وقع في شراك إبليس وفي الشرك الخفيّ، والشرك لا يُبقي أيّ ذرّة إيمان في القلب،"ثُمَّ قَسَتْ 
 
 

1- نهج البلاغة، حكمة: 278.
2- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج75 ص278.
3- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج3 ص55.
4- م. ن، ج 12، ص 93.
5- جنود العقل والجهل، الإمام الخميني، ص107.
 
 
 
 
 
81

68

إدبار القلب وفقد الروحيّة

قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً1، ويرى نفسه خارجاً عن حدّ التقصير تجاهه تعالى، ويعتقد أنّه يستحقّ على الله الثواب والمديح، وقد تصل معه الأمور إلى أن يمنّ على الله إيمانه وعباداته، ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 2، وهؤلاء أعمالهم يوم القيامة: "كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ"3.

 

 
وكيف كان فإنّ الاتّصاف بالحقائق والوصول إلى المقامات لا يتحقّقان بهذه الادّعاءات الإيمانيّة، فانظر أيّها الإنسان إلى نقصك وفقرك، وتواضع لمن بيده ناصيتك، ولا تعتبر نفسك قد خرجت ببعض العبادات عن العبوديّة والعجز، واسأل الله تعالى أن يُريك عيوبك، وينسيك حسناتك.
 
7- عدم الاعتقاد الحقيقيّ بالغيب
 
ومن أسباب حالة فتور القلب في الأمور الدينيّة هو عدم الإيمان الحقيقيّ بالغيب، وأنّ المرتكزات العقائديّة متزلزلة في قلوبنا، وإيماننا بالوعود الإلهيّة والأنبياء مهتزّ ومتزلزل، ما يُفضي شيئاً فشيئاً إلى الغفلة، فإمّا أن تهيمن هذه الغفلة علينا، وتخرجنا كلّيّاً من هذا التديّن الشكليّ الصوريّ الذي نعتنقه، أو تبعث على الغفلة لدى أهوال نزع الروح وشدائد اللحظات الأخيرة من حياة الإنسان، يقول تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ4.

 

 
وعن أبي جعفر عليه السلام: "إيّاك والغفلة ففيها تكون قساوة القلب"5.
 

1- سورة البقرة، الآية: 74.
2- سورة الحجرات، الآية: 17.
3- سورة النور، الآية: 39.
4- سورة الزُّمر، الآية: 21.
5- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 12، ص 93.
 
 
 
 
82

69

إدبار القلب وفقد الروحيّة

 8- الاعتياد على العبادة

 
إنّ الإنسان إذا أقبل على العبادة من باب العادة بلا استحضار القلب ونيّة التقرّب، فقد تدريجياً الثمار المترتّبة عليها وعلى حضور الأماكن المتوقّع حصول حالات إيمانيّة في القلب، كالمساجد والمشاهد المشرّفة. ولعلّ النهي عن مجاورة البيت الحرام والمشاهد الشريفة - كحرم الإمام الحسين عليه السلام - في بعض الروايات الشريفة فيه إشارة إلى ذلك.
 
منها ما عن أبي عبد الله عليه السلام: "إذا فرغت من نُسكك فارجع, فإنّه أشوق لك إلى الرجوع"1.
وعنه عليه السلام: "إذا قضى أحدكم نُسكه فليركب راحلته وليلحق بأهله، فإنّ المقام بمكّة يقسّي القلب"2.
 
9- توقّع المقامات والكمالات
 
فإنّ من يتوقّع نيل المقامات والمراتب المعنويّة، وحصول المكاشفات والكرامات، من جرّاء أداء بعض الأعمال، التي قرأها أو سمع بها، ثمّ لا يشمّ رائحة شيء من كلّ ذلك، أوشك على الإدبار والنفور واليأس، بل الإنكار والتكذيب بالمقامات الإيمانيّة والمراتب المعنويّة.
 
فينبغي أن يكون الدافع نحو العبادة هو التقرّب إلى الله وطلب رضاه، وليس الثواب والمقامات والكرامات والمكاشفات، فإنّ طلبها يقطع الطريق ويحجب النفس، بل يشوبه شرك خفيّ، لأنَّ الهدف هذه الكرامات والّتي هي حالة دنيويّة وليس الهدف طاعة الله ورضاه.
 

1- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج13، ص234.
2- م. ن.
 
 
 
 
83

70

إدبار القلب وفقد الروحيّة

 11- المراء

 
إنّ المراء والجدال والمناقشات العقيمة ولو في المواضيع الدينيّة لأجل إظهار الغلبة تسلب الإيمان من القلب، فعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: إِيَّاكُمْ والْمِرَاءَ والْخُصُومَةَ فَإِنَّهُمَا يُمْرِضَانِ الْقُلُوبَ عَلَى الْإِخْوَانِ ويَنْبُتُ عَلَيْهِمَا النِّفَاقُ"1.
خاتمة:
 
من وصيّة لأمير المؤمنين عليه السلام للحسن بن عليّ عليه السلام: "أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ وقَوِّهِ بِالْيَقِينِ ونَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ وذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ وبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا وحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ وفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي والْأَيَّامِ واعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ وذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَوَّلِينَ"2.
 
يقول الإمام الخميني قدس سره: "أيّها العزيز, انهض من نومك، وتنبّه من غفلتك، واشدد حيازيم الهمّة، واغتنم الفرصة ما دام هناك مجال، وما دام في العمر بقيّة، وما دامت قواك تحت تصرّفك، وشبابك موجوداً، ولم تتغلّب عليك - بعد - الأخلاق الفاسدة، ولم تتأصّل فيك الملكات الرذيلة، فابحث عن العلاج، أعثر على الدواء لإزالة تلك الأخلاق الفاسدة والقبيحة، وتلمّس سبيلاً لإطفاء نائرة الشهوة والغضب.... 
 
وأفضل علاج لدفع هذه المفاسد الأخلاقية، هو ما ذكره علماء الأخلاق وأهل السلوك، وهو أن تأخذ كلّ واحدة من الملكات القبيحة الّتي تراها في نفسك، وتنهض بعزم على مخالفة النفس إلى أمد، وتعمل عكس ما ترجوه وتطلبه منك تلك الملكة الرذيلة. 
 
 

1- الكافي، الكليني، ج2، ص300.
2- نهج البلاغة، خطبة: 31.
 
 
 
 
84

71

إدبار القلب وفقد الروحيّة

 وعلى أيّ حال, اطلب التوفيق من الله تعالى لإعانتك في هذا الجهاد، ولا شكّ في أنّ هذا الخُلق القبيح سيزول بعد فترة وجيزة، ويفرّ الشيطان وجنوده من هذا الخندق، وتحلّ محلهم الجنود الرحمانيّة"1.

 
مطالعة
 
 لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ
 
عَنْ سَلَّامِ بْنِ الْمُسْتَنِيرِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فَدَخَلَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ بْنُ أَعْيَنَ، وسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ، فَلَمَّا هَمَّ حُمْرَانُ بِالْقِيَامِ قَالَ لِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام: أُخْبِرُكَ - أَطَالَ الله بَقَاءَكَ لَنَا وأَمْتَعَنَا بِكَ - أَنَّا نَأْتِيكَ فَمَا نَخْرُجُ مِنْ عِنْدِكَ حَتَّى تَرِقَّ قُلُوبُنَا، وتَسْلُوَ أَنْفُسُنَا عَنِ الدُّنْيَا، ويَهُونَ عَلَيْنَا مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ نَخْرُجُ مِنْ عِنْدِكَ فَإِذَا صِرْنَا مَعَ النَّاسِ والتُّجَّارِ، أَحْبَبْنَا الدُّنْيَا، قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: إِنَّمَا هِيَ الْقُلُوبُ مَرَّةً تَصْعُبُ وَمَرَّةً تَسْهُلُ، ثُمَّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: أَمَا إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ الله نَخَافُ عَلَيْنَا النِّفَاقَ، قَالَ عليه السلام: فَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: ولِمَ تَخَافُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: إِذَا كُنَّا عِنْدَكَ فَذَكَّرْتَنَا ورَغَّبْتَنَا، وَجِلْنَا ونَسِينَا الدُّنْيَا وزَهِدْنَا، حَتَّى كَأَنَّا نُعَايِنُ الْآخِرَةَ والْجَنَّةَ والنَّارَ ونَحْنُ عِنْدَكَ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ ودَخَلْنَا هَذِهِ الْبُيُوتَ، وشَممْنَا الْأَوْلَادَ ورَأَيْنَا الْعِيَالَ والْأَهْلَ، يَكَادُ أَنْ نُحَوَّلَ عَنِ الْحَالِ الَّتِي كُنَّا عَلَيْهَا عِنْدَكَ، وَحَتَّى كَأَنَّا لَمْ نَكُنْ عَلَى شَيْ‏ءٍ، أَفَتَخَافُ عَلَيْنَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نِفَاقاً؟، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: كَلَّا إِنَّ هَذِهِ خُطُوَاتُ الشَّيْطَانِ فَيُرَغِّبُكُمْ فِي الدُّنْيَا، واللَّهِ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي وَصَفْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِهَا لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَمَشَيْتُمْ عَلَى الْمَاءِ... 2.
 

1- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، فصل في معالجة المفاسد الأخلاقيّة.
2- الكافي، الكليني، ج2، ص 423.
 
 
 
 
 
85

72

الحزن والبكاء لله تعالى

 الدرس الثامن: الحزن والبكاء لله تعالى

 

 
عن الإمام عليّ ابن أبي طالب عليه السلام أنّه قال:

"المؤمن بِشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذلّ شيء نفساً، يكره الرِفعة، ويشنأُ السُمعة، طويل غمّه، بعيد همّه، كثير صمته، مشغول وقته، شكور، صبور، مغمور بفكرته، ضنين بخلّته، سهل الخليقة، ليّن العريكة، نفسه أصلب من الصلد، وهو أذلّ من العبد". 
 
(نهج البلاغة, رقم المحكمة:333)
 
 
 
 
87

73

الحزن والبكاء لله تعالى

 تمهيد:

 
روي أنّ سبعة من فقراء الأنصار جاؤوا إلى الرسولصلى الله عليه وآله وسلم وطلبوا منه تمكينهم من الاشتراك في الجهاد، فاعتذر منهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدم وجدانه لما يحملهم عليه، فتولّوا وأعينهم تفيض من الدمع، فنزل قوله تعالى: ﴿وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ1.

 

 
هذه الآية نزلت بشأنهم، وعُرِفوا بعد ذلك باسم البكّائين2
 
الحزن إن كان لله تعالى فهو آية الإيمان، وعلامة الشوق إلى الله سبحانه وتعالى، الذي يمثّل الكمال والخير المطلق. وقد ذُكر أنّ الحزن يكون بمعنى التوجّع على ما فات ممّا يقبل التدارك بمثل القضاء أو التوبة أو نحو ذلك، وقد يكون بمعنى التأسّف على الممتنع كما في مورد الآية المباركة. ولا يهمّنا كثيراً التعرّض لمناشىء الحزن بقدر ما يهمّنا البحث عن فوائده وكيفيّة الاستفادة منه كنعمة تقرّب من الله سبحانه وتعالى.
 

1-سورة التوبة، الآية: 92.
2- راجع تفسير نمونه ج 8، ص 80.
 
 
 
 
89

74

الحزن والبكاء لله تعالى

 من فوائد الحزن للّه عزّ وجلّ:

 
1 ـ من فوائد الحزن في الموارد التي يمكن فيها تدارك المحزون عليه، أن يهبّ الحزين لطلب ذلك المحزون عليه أو تداركه.
 
2 ـ دفع السرور الزائد الّذي يُميت القلب، ويبعث إلى التميّع وعدم المبالاة في أقلّ تقدير، ويسبّب الأشر والبطر، وذلك من المهلكات، فعن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة المتّقين: "... قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أيّاماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة. تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم. أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها. أمّا الليل فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلاً، يحزّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم..."1
 
ولا يَخفى أنّنا لا نعني بالحزنِ الحزنَ الذي يؤدّي إلى شلل الإنسان عن العمل الاجتماعيّ، وعن الانشراح مع إخوانه المؤمنين، ويوجب انقباضه عن الناس، وانقباض الناس عنه، وإنمّا نعني أنّ حزن الإنسان المؤمن يكون كامناً في قلبه، يمنعه عن الأشر والبطر والبطالة، إلا أنّ بِشره في وجهه، يحبّبه إلى الناس، ويجلب عواطفهم.
 
فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "المؤمن بِشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذلّ شيء نفساً، يكره الرِفعة، ويشنأُ السُمعة، طويل غمّه، بعيد همّه، كثير صمته، مشغول وقته، شكور، صبور، مغمور بفكرته، ضنين بخلّته، سهل الخليقة، ليّن العريكة، نفسه أصلب من الصلد، وهو أذلّ من العبد"2.
 

1- نهج البلاغة، رقم الخطبة: 193.
2- م. ن، رقم الحكمة: 333. 
 
 
 
90

75

الحزن والبكاء لله تعالى

 معنى قوله عليه السلام: "المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه" أنّ هاتين الصفتين تكاسر إحداهما الأُخرى، وترفع الآثار السيّئة عنها، فإنّ الحزن وحده يؤدّي إلى الانكماش عن المجتمع وعن الأعمال الاجتماعيّة، كما أنّ البِشر وحده يؤدّي إلى البطالة والبطر، ولكن متى ما اجتمع الحزن الإلهيّ في القلب مع البِشر المأمور به المؤمن أمام الناس، يتمّ الاعتدال، وتكون كلّ من الصفتين كمالاً محضاً، ونافعةً له ولمجتمعه ولدينه ودنياه وآخرته. 

 
ومعنى قوله عليه السلام: "أوسع شيء صدراً وأذلّ شيء نفساً" أنّه حينما يصبح الإنسان واسع الصدر ـ وسعة الصدر آلة الرئاسة ـ قد يأخذه الغرور بسبب نجاحه في الأمور وقدرته على حلّ المشاكل بسعة الصدر، ولكن يعالج ذلك وصفُهُ الآخر، وهو: أنّه "أذلّ شيء نفساً" فهو دائماً يلحظ نقائص نفسه، ويُذلّ نفسَه أمام قلبه، ويؤنّبها على أخطائها، ويراها دائماً مقصّرة، وهذا يمنع عن بروز تلك الحال، ويؤدّي إلى الاعتدال المطلوب. 
 
وفي قوله عليه السلام: "ضنين بخلّته" يُحتمَل في كلمة (الخلّة) فتح الخاء وضمّها1، فعلى الفتح تكون بمعنى الفقر والحاجة، ويكون المعنى: أنّ المؤمن يبخل بعرض حاجته على الناس، فلا يمدّ يد الحاجة إليهم، وعلى الضمّ يكون معناها: من الإخلاص والصداقة، ومعنى الاحتفاظ بالخُلّة، أي: الصداقة أو الأصدقاء، أن يكون وفيّاً للّذين اتّخذهم أخلاّء في الله حافظاً لهم للغيب بما حفظ الله باذلاً لهم النصح والمعونة. 
 
وفي قوله عليه السلام: "نفسه أصلب من الصلد، وهو أذلّ من العبد" صفتان أيضاً تُصلح إحداهما الأُخرى، فإنّ الصلادة والصلابة وإن كانتا يُقصد بهما الشجاعة في ذات الله والمقاومة للحقّ وصدّ الباطل، ولكن قد توجب هذه الحالة ـ والتي هي
 

1- راجع مجمع البحرين، الطريحي، ج 5، ص 365.
 
 
 
 
91

76

الحزن والبكاء لله تعالى

  نوع اعتماد على النفس ـ الغرور والتكبّر، ولكنّه حينما كان ـ أيضاً ـ متّصفاً بأنّ نفسه أذلّ عنده من العبد تكون الصفتان نافعتين وكمالاً عظيماً للنفس. 

 
البكاء مظهر الحزن:
 
إنّ من مظاهر الحزن الشديد البكاء. والروايات المادحة للبكاء من خشية الله أو من الحزن كثيرة نذكر بعضها: 
 
فعن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حديث المناهي: قال: "ومَنْ ذرفت عيناه من خشية الله كان له بكلّ قطرة قطرت من دموعه قصرٌ في الجنّة، مكلّل بالدرّ والجوهر، فيه ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"1
 
ولا غرابة من عظيم هذا الثواب بحيث يوصف بأنّه لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كيف رُتِّب على مجرّد قطرة من الدمع، لأنّ الدمعة كدمعة قد لا يكون لها أيّ أثر ولكن ما يترتّب على الدمعة هو الّذي له هذا الأجر العظيم: 
 
آثار البكاء من خشية اللّه:
 
1 ـ ما يكشف عنه البكاء:
 
إنّ البكاء يكشف عن التحوّل العظيم في نفس الباكي، والتفاعل الكامل مع الله سبحانه وتعالى ومع أوامره ونواهيه، وتجلّي عظمته تعالى في قلب الباكي وخشوعه له. ومن هنا يكون البكاء ـ أيضاً ـ كاشفاً عن مستوىً عالٍ من الندم على المعاصي، وموجباً لغفران الذنوب، كما ورد في الحديث عن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الرجل ليكون بينه وبين الجنّة أكثر ممّا بين الثرى إلى العرش, لكثرة ذنوبه، فما هو إلاّ أن يبكي من خشية الله عزّ
 

1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج15، ص 223.
 
 
 
 
 
92

77

الحزن والبكاء لله تعالى

  وجلّ ـ ندماً عليها حتّى يصير بينه وبينها أقرب من جفنه إلى مقلته"1

 
ولا يعني ذلك أنّه ينفي سائر شرائط التوبة، بل كأنّه ينظر إلى أنّ البكاء لو كان بكاءً مرتبطاً بالندم ارتباطاً حقيقيّاً فهو يُلازم تحقّق باقي شرائط التوبة. 
 
فعندما تحصل حالة البكاء عند الإنسان عليه استثمارها في سبيل تربية النفس وتزكيتها وتنميتها، وذلك عن طريق أن يفرض الشخص على نفسه في تلك الحالة ما يشاء من ترك المذموم من الخصال أو الأفعال، أو الالتزام بالممدوح من الخصال أو الأفعال، فإنّ النفس تقبل منه هذا التحميل في تلك الساعة التي هي ساعة الصفاء وساعة الانفتاح على العالَم العلويّ، في حين أنّه لو أراد الإنسان أن يأخذ على نفسه التزاماً من هذا القبيل في أيّ ساعة أُخرى ربما لا تُعطيه نفسه ذلك ولا تطاوعه. 
 
2ـ الاقتراب من الله:
 
إنّ ما يترتّب على البكاء من الاقتراب العاطفيّ الكبير من الله جلّت عظمته، وخَرق حُجُب النفس ممّا يؤدّي إلى تركّز التفاعل مع الله في النفس أكثر من ذي قبل, ولذا ينبغي للباكي أن يغتنم فرصة تلك الحالة الذهبيّة الّتي حصلت له في تهذيب نفسه وتزكيتها, فإنّ هذه الفرصة لا تحصل في أيّ وقت شاء. 
 
وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: قال: "ما من شيء إلاّ وله كيل ووزن، إلاّ الدموع, فإنّ القطرة تُطفئ بحاراً من نار، فإذا اغرورقت العين بمائها لم يرهق وجهه قترٌ ولا ذلّة، فإذا فاضت حرّمها الله على النار، ولو أنّ باكياً بكى في أُمّة لرُحموا"2
 
وعن الإمام الرضا عليه السلام في حديث صحيح السند قال: "كان فيما ناجى الله به موسى عليه السلام أنّه ما تقرّب إليّ المتقرّبون بمثل البكاء من خشيتي، وما تعبّد
 
 

1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 15، ص 226 ـ 227، الحديث 10.
2- م. ن، ص227، الحديث 11.
 
 
 
 
93

78

الحزن والبكاء لله تعالى

 لي المتعبّدون بمثل الورع عن محارمي، ولا تزيّن لي المتزيّنون بمثل الزهد في الدنيا عمّا يهمّ الغنى عنه. فقال موسى عليه السلام: يا أكرم الأكرمين: فما أثبتَهم على ذلك؟ فقال: يا موسى، أمّا المتقرّبون لي بالبكاء من خشيتي فهم في الرفيق الأعلى لا يشاركهم فيه أحد، وأمّا المتعبّدون لي بالورع عن محارمي فإنّي أُفتّش الناس عن أعمالهم، ولا أُفتّشهم حياءً منهم، وأمّا المتزيّنون لي بالزهد في الدنيا فإنّي أبيحهم الجنّة بحذافيرها يتبوّؤن منها حيث يشاؤون"1

 
هذا، والبكاء ليس نتيجة الحزن فحسب، بل يكون نتيجة لبعض الصفات والحالات الأُخرى أيضاً كالخوف والخشوع، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً2

 

 
وقال الله سبحانه أيضاً: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوح وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً3.

 

 
آفّات البكاء:
 
ولكنّنا يجب أن ننبّه أخيراً إلى بعض الآفّات الّتي قد تترتّب على البكاء, كي يلتفت إليها الباكي من خشية الله ويحترز منها. وطبعاً إنّ هذه الآفّات لو ترتّبت على البكاء فهي نتيجة ضعف نفس الباكي، وإلّا فليس من المفروض أن يترتّب على البكاء من خشية الله أو من عظمته أو ما إلى ذلك غير الخير والسعادة.
 
1 ـ الزهو والكبرياء:
 
إنّ النفس نتيجة ضعفها قد تُبتلى عقيب طاعاتها وعباداتها بآفّة العُجب وحالة
 
 

1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج15، ص226، الحديث 9.
2- سورة الإسراء، الآيات: 107 ـ 109.
3- سورة مريم، الآية: 58.
 
 
 
 
94

79

الحزن والبكاء لله تعالى

   الزهو والكبرياء والتبختر، وذلك من أعظم الذنوب، فلا بدّ من الالتفات إلى هذه الآفّة والتجنّب عنها، وذلك بالتفات النفس ضمن ما هي عليه من كمال نتيجة طاعتها إلى ما لها من نقائص لا تنتهي مهما بلغت من مرقاة الكمال، وأنّ ما حصلت عليه من كمال إنّما حصلت عليه بفضل الله ورحمته وبحوله وقوّته، وليس قد بلغت ما بلغت من تلقاء نفسها. قال الله تعالى:

 

 

﴿... وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَد أَبَداً...1

 

 
وقد ورد في حديث صحيح السند عن الحذّاء، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله عزّ وجلّ: لا يتّكل العاملون على أعمالهم الّتي يعملون بها لثوابي فإنّهم لو اجتهدوا وأفنوا أعمارهم في عبادتي كانوا مقصّرين غير بالغين في عبادتهم كُنهَ عبادتي فيما يطلبون من كرامتي، والنعيم في جنّاتي ورفيع الدرجات العُلى في جواري، ولكن برحمتي فليثقوا أو فضلي فليرجوا وإلى حسن الظنّ بي فليطمئنّوا فإنّ رحمتي عند ذلك تُدركهم وبمنّي أُبلّغهم رضواني، وألبسهم عفوي فإنّي أنا الله الرحمن الرحيم بذلك تسمّيت"2.
 
وهذه الآفّة لا تختصّ بالبكاء، بل كثيراً ما تعرض على باقي العبادات والطاعات أيضاً.
 
وورد ـ أيضاً ـ بسند صحيح عن الفضل بن يونس، عن أبي الحسن عليه السلام قال: "قال: أكثر من أن تقول: اللّهمّ لا تجعلني من المعارين ولا تُخرجني من التقصير. قلت: أمّا المعارون فقد عرفت أنّ الرجل يعار الدين ثُمّ يخرج منه، فما معنى لا تخرجني من التقصير؟ فقال: كلّ عمل تريد به الله عزّ وجلّ فكن فيه مقصّراً عند نفسك، فإنّ الناس كلّهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصّرون، إلاّ من عصمه الله عزّ وجلّ"3
 
 

1- سورة النور، الآية: 21.
2- الكافي، الكليني، ج2، ص 61
3- م. ن، ج2، ص73.
 
 
 
 
95

80

الحزن والبكاء لله تعالى

 2ـ الارتخاء والغفلة عن الوظائف:


إنّ من تفاعل مع خشيّة ربّه إلى حدّ البكاء قد يتخيّل أنّه قد أدّى الوظيفة، فينسى أو يتناسى وظائفه الّتي تكلّفه بذل المال أو الراحة أو النفس أو ما إلى ذلك في سبيل المبدأ والعقيدة والإسلام والمسلمين، أو يغفل عن الوظائف الاجتماعيّة الّتي يجب أن يقوم بها، ويتقوقع على نفسه وهو مسرور بأنّه قد أدّى ما عليه ما دام قد تفاعل مع طاعة الله تفاعلاً معنويّاً وصل إلى مستوى البكاء، ويكون ذلك وسيلة له للتقاعس عن التضحيات اللازمة من دون الإحساس بوخز الضمير. وهذه الآفّة ـ أيضاً ـ قد تترتّب على العبادات الأُخرى ولو بمستوى أقلّ ممّا تترتّب على البكاء. 

وهذه ـ أيضاً ـ من نتائج ضعف النفس، وإلّا فليس المفروض بالبكاء أو بأيّ عبادة أُخرى أن يترتّب عليه ذلك. 

وليس علاجها بترك البكاء أو ترك الطاعة أو العبادة، فإنّ ذلك إعانةٌ للشيطان على هدفه، بل علاجها يكون بمزيد من الالتفات والتيقّظ، وبمعرفة حرمة ما تصنعه، وكذلك يكون العلاج بتعويد النفس على خلاف هذه الآفّة. 

3 ـ برودة القلب:

إنّ البكاء من طبيعته أنّه يبرّد القلب، وينفّس عن الإنسان، ولهذا قد يُؤمَر المصاب بفقد عزيز من أعزّائه مثلاً بالبكاء على فقيده، وذلك لكي ينفّس عن نفسه ويخفِّف ألم المصيبة. وقد يتّفق أنّ الإنسان المؤمن حينما برّد قلبه بالبكاء يرى نفسه واصلاً إلى مقام القرب من الله، فيضعُف عن أداء وظائفه الاجتماعيّة، ويترك ما عليه من التضحيات أو الاهتمامات التي تحتاج إلى بذل المال تارةً، أو بذل النفس أُخرى، أو بذل الراحة ثالثةً وما إلى ذلك، فيبتعد بذلك عن الله تعالى بدلاً عن الاقتراب إليه سبحانه. 

فهذه الآفّة ـ أيضاً ـ بحاجة إلى مزيد من اليقظة ومراقبة النفس ومحاسبتها, كي
 
 
 
 
 
96

81

الحزن والبكاء لله تعالى

  لا يتورّط الإنسان المؤمن في هذه المصيدة الشيطانيّة. 

 
هذه الآفّة تختصّ بالبكاء، ولا تترتّب على سائر العبادات والطاعات.
 
والواقع: أنّ الشيطان يدخل مع كلّ إنسان المدخلَ المناسب له في إغوائه، فليس يقدر مع كلّ أحد على إغرائه بالخمور أو الفساد الجنسيّ ـ والعياذ بالله ـ أو ما إلى ذلك، لأنّ الشخص ربّما لا تكون هوايته إلّا في العبادة والطاعة، فيدخل معه نفس المدخل، ويُفسد عبادته بالعُجب أو الرياء، أو يجعلها سبباً لانكماشه عن أداء الوظائف الاجتماعيّة، وابتعاده عن خدمة الأهداف الإسلاميّة أو ما إلى ذلك. 
 
فهلمّ إلى التيقّظ الكامل، ومراقبة النفس الدقيقة، ومحاسبتها قبل أن تُحاسَب يوم القيامة من لدن الناقد البصير الذي ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ1.

 

 
 

1- سورة غافر، الآية: 19.
 
 
 
 
97

82

الحزن والبكاء لله تعالى

 مطالعة

 
العابد والفاسق
 
رُوِي أنّ زنديقاً وصدّيقاً قد يدخلان مسجداً، فيخرج الصدّيق زنديقاً, لما يُبتلى به من عُجب وغرور، ويخرج الزنديق صدّيقاً, لما يحظى به من توبة ومن استهانته بنفسه بالقياس إلى الصدّيق. 
 
ورُوي ـ أيضاً ـ: أنّ عيسى ـ عليه وعلى نبيّنا وآله السلام ـ وصل في سيره في الصحراء إلى صومعة أحد الرهبان، وانشغل بالحديث معه، وإذا بشابّ معروف بالفسق والفجور ومشهور بالمعاصي مرّ في ذاك الطريق، فوقع نظره على عيسى عليه السلام مع ذاك العابد، ففترت رجله عن المشي، ووقف مكانه وقال: يا إلهي لو رآني عيسى على ما أنا عليه من الوضع المخجل ماذا أفعل؟ ولو عاتبني على ما صدر عنّي كيف أُعالج الوضع؟ ولمّا وقع نظر العابد على الفاسق رفع رأسه إلى السماء وقال: اللّهمّ لا تحشرني في يوم القيامة مع هذا الفاسق الفاجر، فأوحى الله إلى عيسى عليه السلام: قل لهذا العابد: إنّنا استجبنا دعاءك، ولا نحشرك معه, فإنّه أصبح من أهل الجنّة بتوبته، وأصبحت من أهل النار بغرورك ونخوتك وعجبك1.
 
 

1- خزينة الجواهر، ص 647، نقلاً عن تزكية النفس للسيّد كاظم الحائري، ص 301.
 
 
 
 
98

83

فلسفة الدعاء

الدرس التاسع: فلسفة الدعاء

 

 

يقول الله تعالى في محكم كتابه:


 

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون

 

( سورة البقرة, الآية: 186)

 
 
 
 
99

 


84

فلسفة الدعاء

 تمهيد

 
إنّ الإنسان من خلال الدعاء يستطيع أن ينشئ صلة وصل واتّصال مع خالقه، تكون سبباّ في توفيقه لمراده وحوائجه سواء الدنيويّة أم الأخرويّة، وحيث إنّ هذا الارتباط بالخالق القادر، المجزل بنعمه المتفضّل بكرمه المغرق بإحسانه وعطاياه، أمر مطلوب عند المخلوقين المحتاجين والمفتقرين لحاجتهم وفقرهم إلى الغني المطلق، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ1، كان لا بدّ أن نلحق بحثنا حول العبادة بنوع خاص منها وهو الدعاء.

 

 
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدرّ أرزاقكم ؟ قالوا: بلى، قال: تدعون ربّكم بالليل والنهار، فإنّ سلاح المؤمن الدعاء"2.
 
بل إنّ الدعاء سلاح الأنبياء عليهم السلام، عن الإمام الرضا عليه السلام: "عليكم بسلاح الأنبياء، فقيل: وما سلاح الأنبياء؟ قال: الدعاء"3.
 
وهناك الكثير من الروايات التي توصي الإنسان بالدعاء أيضاً، نذكر كنموذج منها
 

1- سورة فاطر، الآية: 15.
2- الكافي، الكليني، ج2، ص 468.
3- م. ن، ص 469.
 
 
 
 
101

85

فلسفة الدعاء

  الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "عليكم بالدعاء، فإنّكم لا تقربون بمثله"1.

 
الدعاء عبادة
 

 

﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ2. وهذه الآية الكريمة تؤكّد على حقيقة أنّ الدعاء هو من مصاديق عبادة الله سبحانه وتعالى، فهما يشتركان في حقيقة واحدة، هي إظهار الخشوع والخضوع لله تعالى، وهو هدف الخلق وعلته، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ3، وهذا ما تشير إليه الروايات أيضاً، كالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الدعاء مخّ العبادة، ولا يهلك مع الدعاء أحد"4، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الدعاء هو العبادة"5، وفي رواية أخرى أنّ شخصاً سأل الإمام الباقر عليه السلام: أيّ العبادة أفضل؟ فقال عليه السلام: "ما من شيء أفضل عند الله عزّ وجلّ من أن يُسأل ويطلب ممّا عنده"6.

 

 
وإذا كان الدعاء عبادة فهذا يعني أنّه مطلوب ومحبوب عند الله تعالى في جميع الحالات، وأنّه هدف بنفسه، ومصداق لأهمّ الأهداف الإلهيّة، كما هو واضح في الآية التي أشرنا إليها سابقاً ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ .
 
الدعاء غاية في نفسه
 
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله ليتعهّد عبده المؤمن بأنواع البلاء، كما يتعهّد أهل البيت سيّدهم بطُرَف الطعام، قال الله تعالى: "وعزّتي وجلالي وعظمتي وبهائي إنّي لأحمي وليّي أن أعطيه في دار الدنيا شيئاً يشغله عن ذكري حتّى
 

1- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج7، ص 30.
2- سورة غافر، الآية: 60.
3- سورة الذاريات، الآية: 56.
4- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج90، ص 300.
5- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 7، ص 23.
6- م. ن، ص30.
 
 
 
 
102

 


86

فلسفة الدعاء

 يدعوني فأسمع صوته، وإنّي لأعطي الكافر مُنيته حتى لا يدعوني فأسمع صوته بغضاً له"1. وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ المؤمن ليدعو الله عزّ وجلّ في حاجته، فيقول الله عزّ وجلّ: أخّروا إجابته شوقاً إلى صوته ودعائه، فإذا كان يوم القيامة قال الله عزّ وجلّ: عبدي، دعوتني فأخّرت إجابتك، وثوابك كذا وكذا، ودعوتني في كذا وكذا فأخّرت إجابتك وثوابك كذا وكذا، قال: فيتمنّى المؤمن أنّه لم يستجب له دعوة في الدنيا مما يرى من حسن الثواب"2. وعن الإمام الرضا عليه السلام: "إنّ الله يؤخّر إجابة المؤمن شوقاً إلى دعائه، ويقول: صوت أحبّ أن أسمعه..."3. وهذا كلّه يؤكد على أنّ الدعاء نفسه غاية، ولعل بركته في كثير من الأحيان أهمّ من بركة استجابة مضمونه. 

 
الافتقار إلى الله تعالى
 

 

﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا 4. إنّ الدعاء والعبادة يعكسان الإحساس بالخضوع والفقر والرغبة فيما عنده تعالى، هذا الإحساس المتأصّل في وجدان الإنسان، والذي يظهر حتّى عند الغافلين في بعض الظروف الّتي تستثير هذا الإحساس، يقول تعالى ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا5،﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 6، ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ

 

 
 

1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج90، ص 371.
2- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج7، ص62.
3- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 90، ص370.
4- سورة الفرقان، الآية:77.
5- سورة الإسراء، الآية: 67.
6- سورة يونس، الآية:12.
 
 
 
 
103

87

فلسفة الدعاء

  يُشْرِكُونَ1. وهذا كله يشير إلى حقيقة واحدة تشير إليها الآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد2

 


فالإنسان فقير محتاج لفيض الله ورحمته تعالى بشكل دائم ومستمرّ، وفي كلّ الظروف والأحوال. وعلى هذا القلب أن يكون خاشعاً متوجّهاً لله تعالى، شاعراً بهذا الفقر وهذه الحاجة، ملتمساً لذلك الفيض وتلك الرحمة في جميع الظروف والحالات، في الشدة والرخاء، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موصياً الفضل بن العباس: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة"3. وعن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه كان يقول: "ما من أحد ابتُلي وإن عظمت بلواه أحقّ بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء"4. وعن الإمام أبي الحسن عليه السلام: "إنّ أبا جعفر عليه السلام كان يقول: ينبغي للمؤمن أن يكون دعاؤه في الرخاء نحواً من دعائه في الشدّة، ليس إذا أُعطي فتر، فلا تملّ الدعاء، فإنّه من الله عزّ وجلّ بمكان"5.

كيف يكون الدعاء؟

على المشتغل بالدعاء أن يعلم أنّه يقف بين يدي العزيز المقتدر، ويتوجّه بخطابه لجبّار السماوات والأرض، ومالك الملك، ويتوقّع أن يحظى برعاية الله تعالى ورحمته بحيث يستجيب لدعائه، وهذا كلّه يستوجب أن يلتفت إلى الآداب الواردة في الروايات لتعلّمنا كيف نكون على أفضل حال من جهة التأدّب أمام جبّار السماوات والأرض، وكيف نكون أقرب لقبول الدعاء واستجابته. 


1- سورة الروم، الآية:33.
2- سورة فاطر، الآية: 15.
3- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 7، ص42.
4- م. ن.
5- م. ن. ج7، ص61.
 
 
 
104

88

فلسفة الدعاء

 آداب الدعاء

 
إنّ آداب الدعاء كثيرة منها ما هو متعلّق بالقلب والنيّة، ومنها ما هو مرتبط بالعمل والعقل، وكلّ واحد منها له أدلّته الشرعيّة، ورواياته الخاصّة، نذكر منها:
 
أ - الآداب القلبيّة:
 
1- الإقبال القلبيّ: والمراد به التوجّه إلى الله تعالى بكلّ كياننا فلا يشغل فكرنا سواه، ولا يلهينا عنه شيء من حطام الدنيا، روي عن أبي عبد الله عليه السلام: "إنّ الله عزَّ وجلَّ لا يستجيب دعاءً بظهر قلبٍ ساهٍ, فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثمّ استيقن بالإجابة"1.
 
وفي رواية أخرى عنه عليه السلام قال: "إذا دعوت فأقبل بقلبك وظنَّ حاجتك بالباب"2
 
2- الأمل بالله وحده: عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربّه شيئاً إلا أعطاه، فلييأس من الناس كلّهم، ولا يكون له رجاء إلا عند الله، فإذا علم الله عزّ وجلّ ذلك من قبله لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه"3. وروي أنّ الله تعالى أوحى إلى عيسى عليه السلام: "ادعني دعاء الحزين الغريق الذي ليس له مغيث، يا عيسى, سلني ولا تسأل غيري، فيحسن منك الدعاء ومنّي الإجابة"4.
 
3- ترقيق القلب: وينبغي عند الدعاء استشعار رقّة القلب وحالة الخشية، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اغتنموا الدعاء عند الرقّة، فإنّها رحمة"5.
 
 

1- الكافي،الكليني، ­ج 2، ص 473.
2- م. ن.
3- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 16، ص95.
4- م. ن، ج7، ص143.
5- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج90، ص 313.
 
 
 
 
105

89

فلسفة الدعاء

4- البكاء والتضرّع: حيث للبكاء ثواب جزيل عند الله تعالى. وفي الرواية عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "ما من عينٍ إلّا وهي باكيةٌ يوم القيامة إلّا عيناً بكت من خوف الله، وما اغرورقت عينٌ بمائها من خشية الله عزَّ وجلَّ، إلّا حرَّم الله عزَّ وجلَّ سائر جسده على النار، ولا فاضت على خدِّه فرهق ذلك الوجه قترٌ ولا ذِلَّة، ومَا مِن شَيءٍ إلّا وله كَيلٌ ووزنٌ إلا الدَمعَة، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يُطفِئ بِاليَسيرِ مِنهَا البِحارَ مِنَ النارِ، فلو أنَّ عبداً بكى في أمَّةٍ لرحِمَ الله عزَّ وجلَّ تِلك الأمَّةَ بِبُكَاءِ ذلك العَبد"1

 
والبكاء يجعل الدعاء أقرب للإجابة، فقد ورد في الرواية عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "بكاء العيون وخشية القلوب من رحمة الله تعالى ذكره، فإذا وجدتموها فاغتنموا الدعاء، ولو أنّ عبداً بكى في أمّة لرحم الله تعالى ذكره تلك الأمّة لبكاء ذلك العبد"2
 
وإن لم تستطع البكاء فتذكّر الموت وأهل القبور فإنّ ذلك قد يرقّق القلب ويُجري الدمع، فعن إسحاق بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: "أدعو فأشتهي البكاء ولا يجيئني، وربّما ذكرت بعض من مات من أهلي فأرقّ وأبكي، فهل يجوز ذلك؟ فقال عليه السلام: "نعم، فتذكّرهم، فإذا رققت فابك، وادع ربّك تبارك وتعالى"3.
 
5- الإلحاح في المسألة: فلا يتعجّل المؤمن قبول الدعاء وسرعة الإجابة، فقد يؤخّر الله تعالى الإجابة لحكمة لا يعلمها، فإنّ الله تعالى يحبّ الإلحاح من العبد في الطلب منه وسماع طلبه وتضرّعه، ففي الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنَّ الله عزَّ وجلَّ كره إلحاحَ الناس بعضهم على بعضٍ في المسألة
 
 

1- الكافي، الكليني، ­ج 2، ص 482.
2- بحار الأنوار، ج90، ص336.
3- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج7، ص74.
 
 
 
 
106

90

فلسفة الدعاء

وأحبَّ ذلك لنفسه، إنَّ الله عزَّ وجلَّ يحبُّ أن يُسألَ ويُطلب ما عنده"1.

 
وعلى الداعي أن لا يقنط من رحمة الله فيترك الدعاء، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "لا يزال مؤمن بخير ورجاء رحمة من الله عزّ وجلّ ما لم يستعجل فيقنط ويترك الدعاء، قلت: كيف يستعجل؟ قال عليه السلام: يقول قد دعوت منذ كذا وكذا وما أرى الإجابة"2
 
ومن أجمل ما في الباب من التعليل لبطء الإستجابة ما ورد من سؤال أحد أصحاب الإمام الرضا عليه السلام للإمام عن ذلك، ففي الرواية: قلت للرضا عليه السلام: جُعلت فداك إنّي قد سألت الله تبارك وتعالى حاجة منذ كذا وكذا سنة، وقد دخل قلبي من إبطائها شيء، فقال عليه السلام: "يا أحمد إيّاك والشيطان أن يكون له عليك سبيل حتّى يعرضك، إنّ أبا جعفر صلوات الله عليه كان يقول: إنّ المؤمن يسأل الله الحاجة فيؤخّر عنه تعجيل حاجته حبّاً لصوته، واستماع نحيبه، ثمّ قال: والله لمَا أخّر الله عن المؤمنين ممّا يطلبون في هذه الدنيا خيرٌ لهم ممَّا عجَّل لهم منها، وأيّ شيء الدنيا؟ إنّ أبا جعفر كان يقول: ينبغي للمؤمن أنّ يكون دعاؤه في الرخاء نحواً من دعائه في الشِدَّة، ليس إذا ابتُليَ فَتَر، فلا تَمِلَّ الدعاء فإنّه من الله تبارك وتعالى بمكان"3
 
ب- الآداب العمليّة:
 
1- الصدقة والمسجد: روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "كان أبي إذا طلب الحاجة... قدّم شيئاً فتصدّق به، وشمّ شيئاً من طيب، وراح إلى المسجد ودعا في حاجته بما شاء الله"4
 
 

1- الكافي،الكليني، ­ج 2، ص 475.
2- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج7، ص 55.
3- م. ن، ج9، ص 367.
4- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج7، ص 67.
 
 
 
 
 
107

91

فلسفة الدعاء

  2- الطهارة والصلاة: عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "من توضّأ فأحسن الوضوء، ثمّ صلّى ركعتين، فأتمّ ركوعهما وسجودهما، ثمّ سلّم وأثنى على الله عزّ وجلّ وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ سأل حاجته، فقد طلب الخير في مظانّه، ومن طلب الخير في مظانّه لم يخب"1.

 
3- رفع اليدين: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله ليستحي من العبد أن يرفع إليه يديه فيردّهما خائبتين"2. وعن الإمام الحسين عليه السلام: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين"3. وعن محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ""فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ"4؟ فقال عليه السلام: "الاستكانة هي الخضوع، والتضرّع هو رفع اليدين والتضرّع بهما"5.
 
وقد يتبادر السؤال عن سبب رفع اليد عند الدعاء ومعناه، وقد أشارت الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام إلى ذلك عندما سأله أبو قرّة: ما بالكم إذا دعوتم رفعتم أيديكم إلى السماء؟ فقال أبو الحسن الرضا عليه السلام: "إنّ الله استعبد خلقه بضروب من العبادة.. واستعبد خلقه عند الدعاء والطلب والتضرّع ببسط الأيدي ورفعها إلى السماء لحال الاستكانة وعلامة العبوديّة والتذلّل له"6
 
4- الإسرار بالدعاء: ودعوة السرّ أفضل من دعوة العلن وأكثر ثواباً عند الله وأعظم أثراً، يقول تعالى: "ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"7. وفي الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام: "دعوة العبد سرّاً دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة
 
 

1- الكافي، الكليني، ج6، ص 433.
2- مكارم الأخلاق، الطبرسي، ص 276.
3- م. ن، ج 6، ص 433.
4- سورة المؤمنون، الآية:76.
5- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج27، ص 46.
6- م. ن.
7- سورة الأعراف، الآية: 55.
 
 
 
 
 
108

92

فلسفة الدعاء

علانية"1.

 
5- التأنّي وعدم الاستعجال: فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ رجلاً دخل المسجد فصلّى ركعتين، ثمّ سأل الله عزّ وجلّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عجّل العبد ربّه، وجاء آخر فصلّى ركعتين ثمّ أثنى على الله عزّ وجلّ وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سل تُعط"2. وعنه عليه السلام: "إنّ العبد إذا دعا لم يزل الله تبارك وتعالى في حاجته ما لم يستعجل"3.
 
6- التختّم بالعقيق والفيروزج: من الآداب الواردة في الدعاء لبس خاتم من عقيق أو من فيروزج، ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قال الله عزّ وجلّ: إنّي لأستحي من عبد يرفع يده وفيها خاتم فيروزج فأردّها خائبة"4. وعن الإمام الصادق عليه السلام: "ما رُفعت كفّ إلى الله عزّ وجلّ أحبّ إليه من كفّ فيها عقيق"5
 
7- مسح الوجه والرأس باليدين: ومن الآداب المتأخّرة عن الدعاء أن يمسح الداعي وجهه ورأسه بيديه، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما أبرز عبد يده إلى الله العزيز الجبّار إلّا استحيا الله عزّ وجلّ أن يردّها صفراً حتّى يجعل فيها من فضل رحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يردّ يده حتّى يمسح على وجهه ورأسه"6.
 
أكمل الدعاء
 
على الرغم من أنّ الدعاء مطلوب في كلّ زمان ومكان، إلّا أنّ هناك بعض الأزمنة 
 

1- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج7، ص 63.
2- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ص 80.
3- م. ن، ص 55.
4- م، ن، ص144.
5- م.ن، ج 5، ص87.
6- م. ن، ج5، ح7، ص51.
 
 
 
 
109

93

فلسفة الدعاء

 والأمكنة تجعل الدعاء أكثر قابليّة للاستجابة، حيث تكون الحجب أقلّ والتأثّر بالدعاء أكبر.

 
فمن أفضل الأوقات، التهجّد في آخر الليل، والناس نيام، فتستغفر وتصلّي ركعتين وتذكر الله ثمّ تسأل حاجتك، والله يحبّ من المؤمنين ذلك، حيث يقول تعالى بعد ذكره المتّقين: "كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ"1.
 
ففي الوقت الذي تنام فيه عيون العباد، تقوم بين يدي الله تعالى، في وقت الصفاء وقلّة الشاغل الدنيويّ، ففي هذا الوقت يتفرّغ عباد الله المخلصون للدعاء والمناجاة، وعن نوف البكاليّ في حديث قال: رأيت أمير المؤمنين عليه السلام ذات ليلة وقد خرج من فراشه وقال لي: "يا نوف، إنّ داوود عليه السلام قام في مثل هذه الساعة من الليل فقال: إنّها ساعة لا يدعو فيها عبد إلّا استجيب له"2. وعن الإمام الصادق عليه السلام: "كان فيما ناجى الله به موسى بن عمران عليه السلام أن قال له: يا ابن عمران، كذب من زعم أنّه يحبني فإذا جنّه الليل نام عنّي، أليس كل محبّ يحبّ خلوة حبيبه؟ ها أنا يا ابن عمران مطّلع على أحبائي، إذا جنّهم الليل حوّلت أبصارهم في قلوبهم، ومثلت عقوبتي بين أعينهم، يخاطبوني عن المشاهدة، ويكلّموني عن الحضور. يا ابن عمران، هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينيك الدموع، وادعني في ظلم الليل، فإنّك تجدني قريباً مجيباً"3
 
وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام في صفة المتّقين: "أمّا الليل فصافّون أقدامهم... فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم"4
 
ومن أفضل الحالات اجتماع المؤمنين بين يدَي ربّهم في دعائهم وتضرّعهم
 
 

1- سورة الذاريات، الآية: 17.
2- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج7، ص 78.
3- م. ن.
4- نهج البلاغة، خطبة المتقين.
 
 
 
 
 
110

94

فلسفة الدعاء

  إليه، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "ما من رهط أربعين رجلاً اجتمعوا فدعوا الله عزّ وجلّ في أمر إلّا استجاب الله لهم، فإن لم يكونوا أربعين فأربعة يدعون الله عزّ وجلّ عشر مرات إلّا استجاب الله لهم، فإن لم يكونوا أربعة فواحد يدعو الله أربعين مرّة، فيستجيب الله العزيز الجبّار له"1. وعنه عليه السلام: "ما اجتمع أربعة رهط قط على أمر واحد، فدعوا الله عزّ وجلّ، إلّا تفرّقوا عن إجابة"2

 
ومن أفضل الأمكنة مكّة المكرّمة، روي عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: "ما وقف أحد بتلك الجبال إلّا استجيب له، فأمّا المؤمنون فيستجاب لهم في آخرتهم، وأمّا الكفّار فيستجاب لهم في دنياهم"3. وعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام: "لمّا هبط آدم عليه السلام إلى الأرض طاف بالبيت، فلمّا كان عند المستجار، دنا من البيت فرفع يديه إلى السماء، فقال: يا ربّ اغفر لي، فنودي: إنّي قد غفرت لك، قال: يا ربّ، ولولدي، فنودي: يا آدم، من جاءني من ولدك فباء بذنبه بهذا المكان غفرت له"4
 
ومن أفضلها أيضاً تحت قبّة سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام، حيث نقرأ في زيارة الناحية المقدّسة المنسوبة للإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف: "السلام على من الإجابة تحت قبته"5.
 
ثمّ تأتي المساجد بعد ذلك في الأفضليّة حيث ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "عليكم بإتيان المساجد، فإنّها بيوت الله في الأرض... فأكثروا فيها الصلاة والدعاء"6. فالمساجد بشكل عام ّ هي محلّ للإجابة. وهناك مساجد ورد التأكيد عليها بشكل خاصّ كمسجد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنوّرة، حيث ورد عن
 
 

1- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج7، ص 104.
2- م. ن.
3- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج96، ص 261.
4- م. ن، ص 206.
5- م. ن، ج 98، ص 234.
6- م. ن، ج80، ص384.
 
 
 
 
 
111

95

فلسفة الدعاء

الإمام الصادق عليه السلام: "إذا فرغت من الدعاء عند قبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فائت المنبر وسل حاجتك، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنّة، ومنبري على ترعة1 من ترع الجنّة.."2.

كيف ندعو؟ 
 
1- ابدأ بالبسملة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يردّ دعاء أوّله بسم الله الرحمن الرحيم"3.
 
2- صلِّ على النبيّ وآله صلى الله عليه وآله وسلم، في بداية الدعاء وفي ختامه: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كلّ دعاء يُدعى الله عزّ وجلّ به محجوبٌ عن السماء حتّى يصلَّى على محمّد وآل محمّد"4. وفي روايةٍ أخرى عنه عليه السلام قال: "من دعا ولم يذكر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رفرف الدعاء على رأسه، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رُفع الدعاء"5.
 
3- ادعُ بالمأثور وأثنِ على الله وتوسّل بالنبيّ وآله، فإنّ ذلك أدعى للاستجابة، كما أنّ آثار أهل البيت عليهم السلام في هذا المجال كثيرة وحسبك الصحيفة السجّادية المباركة وما ورد فيها من أدعية تمثّل قمّة العرفان بالله والخضوع والخشوع والتذلّل له سبحانه، وفي شتّى الحاجات. 
 
عن عبد الرحيم القصير قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقلت: جعلت فداك إني اخترعت دعاء، قال: دعني من اختراعك. إذا نزل بك أمر فافزع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصلّ ركعتين تهديهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قلت: كيف أصنع؟ قال: تغتسل وتصلّي ركعتين تستفتح بهما افتتاح الفريضة وتشهد تشهّد الفريضة، فإذا فرغت
 
 

1- الترعة: هي الباب الصغير.
2- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص345.
3- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج90 ، ص 313.
4- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 7، ص 92
5- م. ن. ص 93 - 94.
 
 
 
 
 
112

96

فلسفة الدعاء

من التشهّد وسلّمت قلت: "اللهمّ أنت السلام ومنك السلام وإليك يرجع السلام اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وبلّغ روح محمّد منّي السلام وأرواح الأئمّة الصادقين سلامي واردد عليّ منهم السلام والسلام عليهم ورحمة الله وبركاته، اللهمّ إنّ هاتين الركعتين هديّة منّي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأثبني عليهما ما أمّلت ورجوت فيك وفي رسولك يا وليّ المؤمنين..."1.

 
وفي الختام
 
ينبغي لنا أن لا نغفل عن هذا الباب المهمّ الّذي هو من أبواب الرحمة الإلهيّة، حتّى لا نحرم أنفسنا من فيوضات الله التي لا تنفد أبداً، وحتّى نستغني بسؤال الله تعالى الربّ المقتدر عن مسألة عبيده الفقراء، فنكون أعزاء بالله في الدنيا، أغنياء عمّا في أيدي الناس، نجباء في الآخرة، ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ2.

 

 
وعلينا أن لا ننسى إمام زماننا عجل الله تعالى فرجه الشريف في الدعاء له على كلّ حال وفي كلّ وقت، من تعجيل الفرج له فإنّ في ذلك فرج شيعته ومريديه.
 
"اللّهمّ كن لوليّك الحجّة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كلّ ساعة وليّا وحافظاّ وقائداً وناصراً ودليلا وعينا حتّى تسكنه أرضك طوعاً وتمتّعه فيها طويلاً برحمتك يا أرحم الراحمين وصلّ اللهم على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين".
 
 

1- الكافي، الكليني، ج3، ص 476.
2- سورة فصلت، الآية: 35.
 
 
 
 
 
113

97

فلسفة الدعاء

 مطالعة

 
أيّها العزيز
 
إعلم أيّها العزيز أنّه مثلما يكون لهذا الجسد صحّة ومرض، وعلاج ومعالج، فإنّ للنفس الإنسانيّة أيضاً صحّة ومرضاً، وسقماً وسلامة، وعلاجاً ومعالجاً.
 
إنّ صحّة النفس وسلامتها هي الاعتدال في طريق الإنسانيّة، ومرضها وسقمها هو الاعوجاج والانحراف عن طريق الإنسانيّة. وإنّ الأمراض النفسيّة أشدّ فتكاً بآلاف المرّات من الأمراض الجسمية، وذلك لأن هذه الأمراض إنما تصل إلى غايتها بحلول الموت. فما إن يحلّ الموت، وتفارق الروح البدن، حتى تزول جميع الأمراض الجسمية، ولا يبقى أثر للآلام أو الأسقام في الجسد، ولكنّه إذا كان ذا أمراض روحية وأسقام نفسية لا سمح الله فإنّه ما إن تفارق الروح البدن حتى تظهر آلامها وأسقامها.
 
إنّ مثل التوجّه إلى الدنيا والتعلّق بها، كمثل المنحدر الّذي يسلب الإنسان شعوره بنفسه. فعندما يزول ارتباط الروح بدنيا البدن، يرجع إليها الشعور بذاتها، ومن ثمّ الإحساس بالآلام والأسقام الّتي كانت في باطنها...
 
وتلك الآلام إمّا أن تكون ملازمة لها (للروح) ولا تزول عنها أبداً، وإمّا أن تكون قابلة للزوال. وفي هذه الحال يقتضيها أن تبقى آلاف السنين تحت الضغط والعناء والنار والاحتراق قبل أن تزول، إذ إنّ آخر الدواء الكيّ...
 
إنّ منزلة الأنبياء عليهم السلام هي منزلة الأطباء المشفقين، الّذين جاؤوا بكلّ لطف ومحبّة لمعالجة المرضى، بأنواع العلاج المناسب لحالهم، وقاموا بهدايتهم إلى طريق الرشاد... إنّ الأعمال الروحيّة القلبيّة والظاهريّة والبدنيّة هي بمثابة الدواء للمرض، كما أنّ التقوى... بمثابة الوقاية من الأمور المضرّة... ومن دون الحمية لا يمكن أن ينفع العلاج، ولا أن يتبدّل المرض إلى الصحّة.1
 
 

63- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، ص‏201، ط 1991، دار التعارف.
 
 
 
 
 
 
114

98

حبُّ الجاه

 الدرس العاشر: حبّ الجاه

 

 
 
يقول الله تعالى في محكم كتابه:

 

﴿تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ

 

(سورة القصص, الآية:83)
 
 
 
 
 
115
 

99

حبُّ الجاه

 تمهيد


لقد أودع الله سبحانه وتعالى في الإنسان ميولاً ورغبات، وأودع فيه قوى باطنيّة كالشهوة والغضب، لأجل الحفاظ على النوع الإنسانيّ واستمرار البشريّة، ولأجل محافظة الإنسان على نفسه والدفاع عنها. لكن قد يستخدم الإنسان هذه القوى بشكل إفراطيّ، وقد يفرّط بها فيبتعد عن جادّة الحقّ والصواب، وهي الحدّ الوسط الّذي ينبغي للإنسان أن يسير عليه, بحيث لا يغفل عند استخدامه لهذه القوى عن الهدف الذي وجدت لأجله.

فبعض الناس يحبّ المال حبّاً جمّاً، وبعض لا همّ له سوى السعي خلف الجمال، وآخرون يسعون نحو الجاه والمنصب والسمعة، ويطلبون الوجاهة في هذه الدنيا، ويحبّون أن يكونوا موضع احترام الناس وتقديرهم، ومنهم من يريد أن ينحني أمامه الناس ـ كفرعون ـ ولا يحبّ أن تجري الأمور إلّا من خلاله، وعبره، ويطلب الناس حوائجهم منه هو بالذات، فهو يرى أنّه أرفع شأناً من الجميع، يجب أن يكون الكلام له فقط، وصدر المجلس له فقط، حتّى لو كان في الواقع أقلّ الناس فهماً ودراية. هذا الشخص الراغب للوصول إلى أعلى المراتب والمقامات طلباً للرِفعة يُسمَّى بمحبّ الجاه والسلطة.
 
 
 
 
 
117

100

حبُّ الجاه

  خطورة حبّ الجاه


إنّ هذه الرذيلة تُعتبر مصدراً لكثير من المفاسد، فهي من ناحية تبعد صاحبها عن الخالق سبحانه، ومن ناحية أخرى تبعده عن الناس من حيث لا يشعر. وصاحب هذه الرذيلة يتوخّى شتّى الطرق للوصول إلى مراده وتحقيق أهدافه وإشباع ميوله ورغباته، مقتحماً بها المهالك والمخاطر. والأخطر من ذلك كلّه أنّها تظهر لصاحبها بثوبها الجميل، وصورتها الحسنة بحيث لا يلتفت صاحبها إلى أنّه ممقوت من الله والناس، فتظهر له على أنّ عمله هذا الذي يقوم به بدافع الإحساس بالمسؤولية ـ لا حبّ الجاه ـ أو بدافع العزم على أداء الواجبات الاجتماعية ـ لا طلب الرئاسة ـ ولا يظنّ أحدٌ أنّه نقيّ من هذه الرذيلة، وأنّه غير مبتلى بهذه الخصلة السيئة، فإنّ هذا الظنّ نفسه من وسوسات إبليس ليظهر هذه الرذيلة بردائها الجميل لصاحبها.

نعم، هذه الصفة هي عند الصغار والشباب اليافعين قليلة وغير بارزة، لكن كلّما تقدّم الإنسان في السنّ قليلاً كلّما كبرت وازدادت وتأصّلت، وقد ترافق الإنسان طيلة حياته حتّى سكرات الموت، وتتلاشى كلّ قوى الإنسان وتضعف كلّ رغباته وميوله إلّا هذه الرذيلة ـ حبّ الجاه ـ فإنّها تقوى وتشتدّ، فقد اشتهر أنَّ "آخر ما يخرج من قلوب الصدّيقين حبّ الجاه".

السامريّ والعِجل

عندما نقرأ سورة طه في القرآن الكريم نجد قصّة النبيّ موسى عليه السلام. وقد تعرّض القرآن لقصّة هذا النبيّ العظيم عدّة مرّات، ذاكراً ما جرى له مع بني إسرائيل ومع فرعون، وفي مواضع متعدّدة من سُوَرِه، لكن في هذه السورة بالخصوص تعرّض لمقطع مهمّ من فصول ومواقف بني إسرائيل، فبعد أن أنجاهم الله من عدوّهم، وبعد مواعدتهم من جانب الطور الأيمن وإنزال المنّ والسلوى عليهم، ختم بقصّة السامريّ وكيف استطاع هذا الرجل أن يضلّ قوم موسى عليه السلام ليعبدوا العجل بدل الواحد الأحد.
 
 
 
 
118

101

حبُّ الجاه

 تقول الآيات الكريمة: ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ1.

 

 

 

﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً2.

 

 
لمّا وعد الله موسى أن ينزّل عليه التوراة والألواح إلى ثلاثين يوماً، أخبر بني إسرائيل بذلك، وذهب إلى الطور وخلّف أخاه هارون على قومه. فلمّا مضى ثلاثون يوماً ولم يرجع موسى عليه السلام إليهم عصوا وأرادوا أن يقتلوا هارون عليه السلام قائلين: إنّ موسى كذب وهرب منّا، بعد أن جاءهم إبليس في صورة رجل فقال لهم: إنّ موسى قد هرب منكم ولا يرجع إليكم فاجمعوا حليّكم حتّى اتّخذ لكم إلهاً تعبدونه3.
 
وكان السامريّ ـ على بعض الروايات ـ من خيار أصحاب موسى عليه السلام، وقد شاهد جبرائيل يوم أغرق الله عزّ وجلّ فرعون في اليمّ، وأخذ من أثر فرس جبرائيل تراباً احتفظ به.
وبعد أن قدّموا الحليّ الّتي معهم ـ وقيل إنّها من بقايا حليّ آل فرعون وقيل الأقباط ـ صنع لهم السامريّ العجل، ورمى الأثر في جوف العجل فصدر منه الخوار، عندها سجد له بنو إسرائيل4.
 
 

1- سورة طه، الآيات: 85 ـ 88.
2- سورة طه، الآيات: 95 ـ 97.
3- تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، ج2، ص62.
4- م. ن.
 
 
 
 
 
119

102

حبُّ الجاه

 فما الذي دعا السامريّ إلى هذا الفعل؟

 
الجواب: ما قاله السامريّ لنبيّ الله موسى عليه السلام، عندما أخبره بما رأى وبما فعل، إذ ختم كلامه "كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي".
 
عبر من القصّة
 
إنّ في هذه القصّة العديد من العبر، نذكر منها:
 
1ـ أنّ نبيّ الله موسى عليه السلام عندما عاد إلى قومه غضبان ممّا أقدموا عليه، لم تأخذه في الله لومة لائم، ووقف أمامهم وهم آلاف يهدّدهم ويتوعّدهم ويصرخ في وجوههم غضباً لله سبحانه!
 
2ـ لقد بدأ نبيّ الله بأخيه هارون، مشيراً إلى قومه أنّ هذا الأمر الذي قاموا به ارتداد وكفر ولا بدّ من معاقبة الفاعل ﴿قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ5. وعندها بيّن له نبيّ الله هارون عليه السلام أنّ القوم استضعفوه، ولم يسمعوا كلامه وقد تصدّى لهم لكنّهم كادوا يقتلونه.

 

 
3ـ فعلُ السامريّ الّذي سوّلت له نفسه هذا العمل وهذا الأمر، لم يكن إلا من حبّ الجاه والسلطة، ولكي يتزعّم على القوم بعد نبيّ الله موسى عليه السلام. فقد كان يترقّب الفرصة لكي يُظهر ما في نفسه، وأدّت به هذه الرذيلة ليضلّ قوماً بأسرهم إرضاءً لرغبته وميوله.
 
وهكذا تصل هذه الرذيلة بصاحبها إلى أخسّ المواقف ليرتكب أعظم الرذائل إرضاءً لها، وهذا ما حصل مع فرعون ومع قارون من بني إسرائيل.
 
 

1- سورة الأعراف، الآية:150.
 
 
 
 
120

103

حبُّ الجاه

 عاقبة السامريّ

 
يُنقل أنّ السامريّ قد ابتليَ ـ بعد دعاء النبيّ موسى عليه السلام ـ بعرض نفسيّ ووسواس شديد بحيث صار يخاف من جميع الناس، فإذا ما اقترب منه أحد صاح به "لا مساس" ﴿قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ1. فالّذي كان يطمع أن يستحوذ على قلوب الناس والوصول للمنصب والرئاسة كانت عاقبته أن أفرده الله من المجتمع وانزوى عن الناس قاطبة وأصبح يخاف من كلّ واحد منهم.

 

 
نماذج أخرى
 
ونلاحظ في الآيات التي تحدّثت عن قارون في سورة القصص، أنّه كان يحبّ الظهور والبروز والعلوّ في الأرض، وباع كلّ شيء لأجل حبّه للجاه والمقام، فما كانت عاقبة أمره؟ خسف به الله الأرض وجعله عبرة لبني إسرائيل، ولكلّ من فيه هذه الصفة ويريد أن يحذو حذوه. وختمت حياة قارون باللّعن الإلهيّ إلى الأبد ثمّ أنهت الآيات القرآنية هذه القصّة بقوله تعالى ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ2، فإنّ الّذي يُفهم من هذه الآية الكريمة أنّ الذي يريد الجاه والعلوّ في الأرض، ستؤول به الأمور إلى الإفساد في الأرض لكي يصل إلى مآربه وتحقيق رغباته، ولا يقف عند حدّ في تحقيق هذه الرغبات.

 

 
أهل البيت وآية لا يريدون علواً
 
عندما آلت الخلافة إلى أمير المؤمنين عليه السلام، كان يخرج بنفسه إلى السوق، فيرشد الضالّ ويساعد الضعيف، وعند مروره بجانب الباعة والكسبة كان يقرأ عليهم هذه الآية ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ... .
 
 

1- سورة طه، الآية: 97.
2- سورة القصص، الآية: 83.
 
 
 
 
 
121

104

حبُّ الجاه

 وفي حديث آخر أنّ الإمام الصادق عليه السلام بكى عندما تلا هذه الآية، وقال: "ذهبت والله الأماني عند هذه الآية"1.
 
ولعلّ مراد أهل البيت عليهم السلام أنّ الله سبحانه قد جعل الآخرة لمن لا يريدون الزعامة والجاه في هذه الدنيا، وهو أمر صعب للغاية، بسبب الطبيعة البشريّة الميّالة لحبّ الرفعة والظهور بحيث لا يقدر عليها إلّا من اجتباه الله تعالى. وحبّ الجاه آخر ما يخرج من قلوب الصدّيقين، وهذا أمر صعب للغاية ومعناه أن لا تبقى أيّ أمنية لمؤمن في هذه الحياة الدنيا. 
 
حبّ الجاه وإفساده للعقيدة
 
لقد وردت الروايات في هذه الرذيلة تارة بعبارة حبّ الجاه، وأخرى بعبارة حبّ الشرف، وثالثة بحبّ الرئاسة.
 
ففي الحديث عن أبي الحسن عليه السلام: "ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرّق رعاؤها بأضرّ في دين المسلم من الرئاسة"2.
 
وتأسيساً على ذلك، فإنّ حبّ الجاه والثروة وعبادة المقام أمور تمثّل عناصر خطيرة على مستوى تخريب الإيمان في أعماق النفس، تماماً كما هو الحال في علاقة الذئب وزريبة الغنم.
وفي حديث آخر عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "حبّ الجاه والمال يُنبتان النفاق في القلب كما ينبتُ الماءُ البقلَ"3.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم في معرض حديثه عن الجذور الأصليّة للذنوب قال: "أوّل ما عُصيَ الله تبارك وتعالى بستّ خصال: حبّ الدنيا وحبّ الرئاسة وحبّ الطعام وحبّ النساء وحبّ النوم والراحة"4.
 
 

1- تفسير علي بن إبراهيم، ج2، ص146.
2- الكافي، الكليني، ج2، ص297.
3- المحجّة البيضاء، ج 6، ص 112.
4- الخصال، الصدوق، ج 1، ص 330.
 
 
 
 
122

105

حبُّ الجاه

 وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ حبّ الشرف والذِّكر لا يكونان في قلب الخائف الراهب"1.

 
طلب الرئاسة بحقّ
 
قد يخطر على بال بعض الناس من خلال ما سقناه من ذمّ طلب الرئاسة أنّها مذمومة مطلقاً، وهذا ما لا نقصده حيث إنّها قد تكون محمودة إن كان فيها خدمة الناس والدعوة لله تعالى، وهذا ما جرى مع نبيّ الله يوسف عليه السلام إذ قال لحاكم مصر﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ 2، فلو كان طلب الرئاسة مرفوضاً مطلقاً لما صدر مثل هذا الطلب عن نبيّ معصوم. ففي الواقع إنّ الذين يطلبون الرئاسة لأغراض اجتماعية وإنسانية، فيها رضى لله تعالى، يخدمون الأهداف الإلهيّة ومن ضمنها إقامة حكم الله على الأرض ويساهمون في تكامل الإنسانيّة. لذلك نجد الإمام عليّاً عليه السلام لا رغبة له في الحكومة والرئاسة إلّا لأنّها أداء للتكليف الإلهيّ، ولا تساوي عنده عفطة عنز، ولا شسع نعل، إلّا أن يقيم حقّاً ويعين مظلوماً، وهو القائل: "أما والّذي برأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء ألّا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها"3. وقال عليه السلام أيضاً لابن عبّاس حين رآه يصلح نعله: ما قيمة هذه النعل؟ فقال: "لا قيمة لها، قال عليه السلام: والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلّا أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً"4.

 

 
أبرز علامات محبّ الجاه
 
إن حبّ الجاه والمقام يظهر من خلال حركات الإنسان وكلماته وسلوكه، فكلّ ما يقوم به من عملِ خيرٍ فهو يرغب في الإعلان عنه لتكون له المنزلة عند الناس. لذلك
 
 

1- الكافي، الكليني، ج 2، ص 69.
2- سورة يوسف، الآية:55.
3- نهج البلاغة، الخطبة 3.
4- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج32، ص76.
 
 
 
 
123

106

حبُّ الجاه

  نجد محبّ الجاه غالباً ما يتحرّك في سلوكه الأخلاقيّ نحو الرياء لأنّ حبّ الجاه لا يمكن إشباعه إلّا بالرياء، بل قد ينسب الخير إلى نفسه وإن لم يفعل منه شيئاً، ويحبّ أن يُحمد عليه، قال تعالى: ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا1 لأنّ الهدف الشهرة والجاه والسمعة بأيّ طريق.

 

 
ومن يحبّ أن يُمدح بما لا يقوم به فضلاً عما يقوم به، فهو لا يريد التقرّب إلى الله، ولا خدمة الناس والمجتمع، أكثر من خدمة نفسه وإشباع ميوله. وهذا الشخص لا يتقبّل النقد والتوجيه أبداً، وليس مستعدّاً لسماع النصيحة والموعظة، ونموذج فرعون واضح في هذا المراد إذ قال لقومه: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى2 ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلاَ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَ سَبِيلَ الرَّشَادِ.3

 

 
علاج حبّ الجاه
 
فمن وجد في نفسه ـ وهو أعلم بها من غيره ـ حبّ الجاه والظهور لا بدّ له وقبل أن يفوته قطار الكمال الإلهيّ أن يسعى جاهداً لمعالجة هذه الرذيلة بالأمور التالية:
 
1ـ أن يتعرّف إلى سيّئات وعواقب هذه الرذيلة الدنيويّة والأخرويّة، فهذه الرذيلة تُبعد الإنسان عن الله سبحانه، كما وتُبعده عن الناس أيضاً، وهي ستجرّ صاحبها إلى الرياء والكبر والإفساد. وغير ذلك ممّا تحدثنا عنه.
 
2ـ أن يطالع قصص الماضين من الفراعنة وقارون والسامريّ، وبعض الملوك كيف كانت عاقبة أمورهم في الدنيا، وما ستكون في الآخرة، عسى أن يكون في قصصهم عبرة، ورادع عن هذه الرذيلة.
 
3ـ أن يضع الشخص نفسه في حالة يُميت بها (حبّ الجاه)، بأن يجلس في المجالس العامّة ومع الأفراد العادّيين، لا مع الشخصيّات اللّامعة والمرموقة، 
 
 

1- سورة آل عمران، الآية: 188.
2- سورة النازعات، الآية: 24.
3- سورة غافر، الآية: 29.
 
 
 
 
124

 


107

حبُّ الجاه

 وأن يلبس متوسّط الثياب، ويأكل من متوسّط الطعام. وهكذا بالنسبة للسيارة والمنزل وسائر الاحتياجات الشخصيّة والعائليّة. وقد اشتهر هذا البيت من الشعر:


حبّ التناهي شطط     خير الأمور الوسط

وبهذا الطريق الوسط يقرب من الفقراء، ولا يكون هناك فرق شاسع بينه وبينهم، وبذلك يكون قد رحمهم ورحم شعورهم وأحاسيسهم، وفي نفس الوقت يكون قد ابتعد عن الجاه والمنصب الذي يدعوه ميله ورغبته إليه فيميته ويتخلّص منه.

وحذارِ من تصرّفات بعض الصوفية الّتي تكون مخالفة للشرع الحنيف، والقيام ببعض التصرّفات الّتي يؤذي فيها نفسه أو سمعته أو يقوم بأيّ شيء لا يرضى الله به. لذلك العلاج الّذي قدمناه يتناسب مع الشرع، وأيّ شيء خلاف الشرع لا يمكن أن يكون مقرّباً إلى الله تعالى، حيث إنّه لا يطاع الله من حيث يعصى.
 
 
 
 
 
125

108

حبُّ الجاه

 مطالعة

 
وحده لا شريك له:
 
حدّثني يعقوب الأحمر قال: دخلنا على أبي عبد الله عليه السلام نعزّيه بإسماعيل فترحّم عليه ثمّ قال: إنّ الله عزّ وجلّ نعى إلى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم نفسه فقال﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ1 وقال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ2 ثمّ أنشأ يحدّث فقال: إنّه يموت أهل الأرض حتّى لا يبقى أحد ثمّ يموت أهل السماء حتّى لا يبقى أحد إلّا ملك الموت وحملة العرش وجبرئيل وميكائيل عليهم السلام قال: فيجيء، ملك الموت عليه السلام حتّى يقوم بين يدي الله عزّ وجلّ فيقال له (أي للملك): من بقي؟ - وهو أعلم - فيقول: يا ربّ لم يبقَ إلّا ملك الموت وحملة العرش وجبرئيل وميكائيل عليهم السلام فيقال له: قل لجبرئيل وميكائيل فليموتا، فتقول الملائكة عند ذلك: يا ربّ رسوليك وأمينيك، فيقول: إنّي قد قضيت على كلّ نفس فيها الروح الموت، ثمّ يجيئ ملك الموت حتّى يقف بين يديّ الله عزّ وجلّ فيقال له: من بقي؟ - وهو أعلم - فيقول: يا ربّ لم يبق إلّا ملك الموت وحملة العرش، فيقول: قل لحملة العرش فليموتوا، قال: ثمّ يجييء كئيباً حزيناً لا يرفع طرفه فيقال: من بقي؟

 

 
فيقول: يا ربّ لم يبقَ إلّا ملك الموت، فيقال له: مت يا ملك الموت، فيموت، ثمّ يأخذ الأرض بيمينه3 والسماوات بيمينه ويقول: أين الّذين كانوا يدعون معي شريكاً أين الّذين كانوا يجعلون معي إلهاً آخر؟4.
 
 

1 سورة الزمر، الآية: 30.
2 سورة آل عمران، الآية: 185.
3- إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سورة الزمر، الآية: 67.

 

4- الكافي، الكليني، ج3، ص 257، الحديث: 25.
 
 
 
 
126

109

رفاهية العيش

 الدرس الحادي عشر: رفاهية العيش
 
 

من دعاء الإمام زين العابدين (ع):

"اللّهم إنّا نعوذ بك من تناول الإسراف، ومن فقدان الكفاف، ونعوذ بك من شماتة الأعداء، ومن الفقر إلى الأكفّاء ومن معيشة في شدّة، وميتة على غير عدّة، ونعوذ بك من الحسرة العظمى، والمصيبة الكبرى، وأشقى الشقاء، وسوء المآب، وحرمان الثواب، وحلول العقاب، اللّهم صلّ على محمّد وآله، وأعذني من كلّ ذلك برحمتك وجميع المؤمنين والمؤمنات، يا أرحم الراحمين"
الصحيفة السجادية، ص 58
 
 
 
 
 
127

110

رفاهية العيش

 تمهيد:

 
عندما نراجع سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم نجد أنّه عاش حياة الفقر يأكل خبز الشعير ويلبس اللباس المتواضع، وكذلك كان ربيبه أمير المؤمنين عليه السلام، والقرآن يقول: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ1، فإنّ مقتضى هذه الآية المباركة أنّ الناس مدعوّون للتأسّي بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم. ولكن عندما نراجع سيرة الإمام المجتبى أو الإمام الصادق أو الإمام الرضا عليهم السلام نلاحظ أنّهم لم يعيشوا فقراء بل أكلوا الطعام اللّذيذ ولبسوا اللّباس الجيّد وركبوا المراكب المرفّهة واستفادوا من طيّبات الدنيا. وعلى سبيل المثال نرى أنّ أبا الحسن عليه السلام اشترى داراً واسعة وأمر مولى له أن يتحوّل إليها وقال: "إنّ منزلك ضيّق، فقال: قد أحدث هذه الدار أبي، فقال أبو الحسن عليه السلام: إن كان أبوك أحمق ينبغي أن تكون مثله؟"2.

 

 
هذه الأمور الّتي تبدو في ظاهرها متناقضة هي في الحقيقة غاية في الانسجام والتوافق، وهي نقطة قوّة عند أئمّتنا عليهم السلام وفي ديننا، وبيان ذلك أنّ أئمّة الدين قد عاش كلّ منهم في زمان ومحيط كانت له مقتضياته الخاصّة، وكان على كلّ واحد
 
 

1- سورة الأحزاب، الآية 21.
2- الكافي، الكليني، ج6،ص525.
 
 
 
 
129

111

رفاهية العيش

   منهم أن يواكب هذه المقتضيات، أي أنّ الدين مرن ويجعل الناس مرتاحين بالنسبة لمقتضيات الزمان. وقد استطاع أئمّتنا أن يعيشوا حالة الانسجام التامّ مع مجتمعهم وبيئتهم مع قدرتهم على العيش برغد ورفاهيّة عالية والتمتّع بكلّ ملذّات الدنيا، لأنّ كلّ الدنيا وما عليها هو للنبيّ وآله صلى الله عليه وآله وسلم ولكنّهم ساووا أنفسهم بغيرهم ولم يعيشوا فوق مستوى الناس. 

 
والسؤال الّذي يُطرح في يومنا هذا: هل نحن منسجمون مع محيطنا ؟ وهل ما ننفقه على أنفسنا يتناسب مع واقعنا الاجتماعيّ؟ وهل نحن نتأسّى بأهل البيت عليهم السلام ونواسي الناس في معاشهم؟ 
 
بين الدين والدنيا:
 
إنّ القرآن الكريم والروايات الشريفة قد تعرّضا للدنيا بأسلوبين مختلفين فتارةً يتحدّث القرآن عن نعيم الدنيا بلسان الذمّ والتقبيح، يقول تعالى: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ "1، وفي موضع آخر يقول تعالى: "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ2.

 

 
وتارةً يتحدّث عن نعيم الدنيا بلسان المدح والثناء، يقول تعالى: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ3، وفي موضع آخر يقول تعالى: "وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ4.

 

 
 

1- سورة الحديد، الآية: 20.
2- سورة الأنعام، الآية: 32.
3- سورة الأعراف، الآية: 32.
4- سورة القصص، الآية: 77.
 
 
 
 
130

112

رفاهية العيش

  كذلك الروايات الشريفة تحدّثت عن الموضوع، فهذا أمير المؤمنين عليه السلام يوبّخ من ترك الدنيا وملذّاتها وطيّباتها وذلك عندما اشتكى العلاء بن زياد الحارثيّ أخاه عاصماً قائلاً: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال: وما له؟ قال: لبس العباءة وترك الملاءة. قال: عليّ به. فلمّا جاء قال: "يا عُديّ نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك. أترى الله أحلّ لك الطيّبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك"1.

 
وفي ذمّ الدنيا سُئل عليّ بن الحسين عليهما السلام أيّ الأعمال أفضل عند الله عزّ وجلّ؟ فقال: "ما من عمل بعد معرفة الله عزّ وجلّ ومعرفة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من بغض الدنيا"2.
 
حبّ الدنيا أم بغضها؟
 
ما هو المطلوب منا في هذه الحياة، حبّ الدنيا أم بغضها؟
 
وقد أجاب أهل البيت عليهم السلام عن هذا السؤال ومنهم أمير المؤمنين عليه السلام حيث روى جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّه كان مع أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة فلمّا فرغ من قتال من قاتله، أشرف علينا في آخر الليل، فقال: "ما أنتم فيه؟ فقلنا: في ذمّ الدنيا، فقال: علام تذمّ الدنيا يا جابر ؟ ثمّ حمد الله وأثنى عليه، وقال: أمّا بعد فما بال أقوام يذمّون الدنيا ؟ انتحلوا الزهد فيها ؟ الدنيا منزل صدق لمن صدقها، ومسكن عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، فيها مسجد أنبياء الله ومهبط وحيه، ومصلّى ملائكته، ومسكن أحبّائه، ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا منها الجنّة. فمن ذا يذمّ الدنيا يا جابر وقد آذنت ببينها، ونادت بانقطاعها، ونعت نفسها بالزوال، ومثلت ببلائها البلاء، وشوّقت بسرورها إلى
 
 

1- نهج البلاغة،ج2،ص187.
2- الكافي، الكليني، ج2، ص 130.
 
 
 
 
131

113

رفاهية العيش

السرور، راحت بفجيعة وابتكرت بنعمة وعافية، ترهيباً وترغيباً، يذمّها قوم عند الندامة، ويحمدها آخرون عند السلامة، خدمتهم جميعاً فصدقتهم، وذكّرتهم فذكروا، ووعظتهم فاتّعظوا وخوّفتهم فخافوا، وشوّقتهم فاشتاقوا"1.

 
وقال عليه السلام: "الدنيا دار ممرّ إلى دار مقرّ. والناس فيها رجلان: رجل باع فيها نفسه فأوبقها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها"2.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "ليس خيركم من ترك آخرته لدنياه ولا دنياه لآخرته. خيركم من أخذ من هذه لهذه"3.
 
وما نفهمه هو أنّ ما ورد في القرآن والأحاديث عن ذمّ هذه الدنيا، لا يكون عائداً في الحقيقة إلى الدنيا من حيث نوعها أو كثرتها، بل يعود إلى التوجّه نحوها وانشداد القلب إليها ومحبتها. 
 
وعليه يتبيّن من ذلك أنّ أمام الإنسان دنياوان: دنيا ممدوحة ودنيا مذمومة. فالممدوحة هي دار التربية ودار التحصيل ومحلّ التجارة لنيل المقامات واكتساب الكمالات والإعداد لحياة أبديّة سعيدة، ممّا لا يمكن الحصول عليه دون الدخول إلى هذه الدنيا، والمذمومة هي الدنيا التي كره الإسلام التعلّق بها والانكباب عليها بحيث تصبح أكبر همّنا، فتعلّق القلب بالدنيا وحبّها، هو الدنيا المذمومة. وكلّما كان التعلّق بها أشدّ كان الحجاب بين الإنسان ودار الكرامة، والحاجز بين القلب والحقّ سبحانه، أسمك وأغلظ.
 
الإسراف والتقتير:
 
إنّ نعم الله على عباده كثيرة وعظيمة بحيث لا تعدّ ولا تحصى، يقول تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ4. وليس ذلك

 

 

1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج70، ص100.
2- نهج البلاغة، ج4، ص 33.
3- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج17،ص76.
4- سورة ابراهيم، الآية: 34.
 
 
 
 
132

 


114

رفاهية العيش

  إلّا كرماً من الله وفضلاً منه على عباده، ولكن هل أنّ كثرة النعمة تعني أن يكون الإنسان مسرفاً بحيث ينفق ما آتاه الله هنا وهناك دون تدبّر وتعقل، فيشتري ما يحلو له وما تهواه نفسه؟. 

 
كلا، إنّ الله نهانا عن الإسراف ولم يمنعنا من التمتّع بالنعم، يقول تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 1. والله سيسألنا عن هذه النعم والفيوضات وعن كلّ قرشٍ نضعه هنا أو هناك. وما نملكه هو أمانة من الله عندنا استودعنا إيّاها، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت"2

 

 
وكذلك فإنّ التقتير والتباخل وجمع المال دون إنفاقه في سبيل الله ومرضاته والتنعّم به بما يرضي الله ليس من أخلاق الإسلام، وقد حذّر أهل البيت عليهم السلام من خطر البخل والشحّ، فقد ورد أنّ الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه سمع رجلاً يقول: "إنّ الشحيح أغدر من الظالم، فقال له عليه السلام: كذبت إنّ الظالم قد يتوب ويستغفر ويردّ الظلامة على أهلها، والشحيح إذا شحّ منع الزكاة والصدقة وصلة الرحم وقري الضيف والنفقة في سبيل الله وأبواب البرّ ، وحرام على الجنّة أن يدخلها شحيح"3.
 
وقال عليه السلام: "البخل جامع لمساوي العيوب، وهو زمامٌ يقاد به إلى كلّ سوء"4.
 
والمطلوب أن يعيش الإنسان حالة التوازن والمساواة أي لا إفراط ولا تفريط، بحيث لا ينفق على نفسه زيادةً عمّا يحتاج إليه وذلك ليلفت أنظار الناس ويتميّز
 

1- سورة الأعراف، الآية: 31.
2- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج7، ص258.
3- الكافي، الكليني، ج4، ص 44.
4- نهج البلاغة، ج4، ص90.
 
 
 
 
133

115

رفاهية العيش

  به عن مجتمعه وبيئته الّتي يعيش فيها ولو كان مستطيعاً. وهذا ما تعلّمناه من أهل البيت عليهم السلام. وقد رسم الإمام عليّ عليه السلام لنا حدّ الإنفاق حيث نُقل عنه عليه السلام: "فدع الإسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غداً، وأمسك من المال بقدر ضرورتك، وقدّم الفضل ليوم حاجتك، أترجو أن يُعطيك الله أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبّرين؟ وتطمع وأنت متمرّغ في النعيم، تمنعه الضعيف والأرملة، أن يوجب لك ثواب المتصدّقين؟ وإنّما المرء مجزيّ بما أسلف، وقادم على ما قدّم"1.

 
الاقتصاد والرفق:
 
إنّ الاقتصاد والرفق في المعيشة من الأمور الأساس الّتي حضّ عليها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام، وذلك لأنّ هذه الدنيا فانية زائلة والباقيات الصالحات خير وأبقى والله عنده كلّ الخير والبركة والنعيم المقيم. والاقتصاد والرفق في المعيشة له أبعاد معنويّة واجتماعيّة، ومن آثاره المعنويّة عدم التعلّق بالدنيا والانسياق إليها والعمل من أجل الآخرة، ومن الآثار الاجتماعيّة تجنّب الوقوع في الفقر والعوز، ومواساة الفقير بفقره ومراعاة الحالة الاجتماعيّة العامّة للناس والجيران والأقارب والأهل، وبالرفق في الأمور تجرى الحياة بين الناس على نسق مقبول، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أُعطي حظّه من الرفق أُعطي حظّه من خير الدنيا والآخرة، ومن حُرم حظّه من الرفق حُرم حظّه من الدنيا والآخرة"2. وورد عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "أيّما أهل بيت أعطوا حظّهم من الرفق فقد وسّع الله عليهم في الرزق، والرفق في تقدير المعيشة خير من السعة في المال، والرفق لا يعجز عنه شيء والتبذير لا يبقى معه شيء. إنّ الله عزّ وجلّ رفيق يحبّ الرفق"3. وفي القليل كفاية مع القناعة. والكثير لا يُغني مع المسرف. وفي هذا المضمون نُقل عن
 
 

1- نهج البلاغة،ج3،ص13.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد،ج 6، ص 339.
3- الكافي، الكليني،ج2،ص 119.
 
 
 
 
 
134

116

رفاهية العيش

 الإمام الصادق عليه السلام: "ضمنت لمن اقتصد ألّا يفتقر"1.

 
وإنّما يفتقر من يتجاوز الحدود، ويبعثر قواه، فيخسر أشياءه. 
 
العبادة والإنفاق:
 
يكاد أكثر ما جُمع من تعاليم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأبواب الاجتماعيّة والاقتصاديّة، يتّجه بفحواه شطر هذا الوجه من وجوه العبادة. والله تعالى يصف المتّقين في محكم كتابه في أوّل صفحاته بأنّهم: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ2.

 

 
وكلّ نعمة أنعمها الله علينا رزق. يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نعمتان مغبون فيهما أكثر الناس الصحّة والفراغ"3. فهاتان نعمتان يُسأل عنهما الإنسان، وحتّى نكون من المتّقين ومن باب شكر الله على نعمه وفي أوّلها الصّحة والسلامة علينا أن نزكّي هذه النعم، وزكاتها تكون بالإنفاق وفعل المعروف. روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "المعروف زكاة النعم"4. فالمعروف زكاة مطلوبة لمجرّد الفراغ من التبعات والسلامة من المرض فكيف إذا زادنا الله تعالى من المال والغنى والقدرة؟ عندها يكون البذل في موارد المعروف المختلفة كالجهاد ومساعدة المحتاج أوجب.
 
حقيقة الزهد
 
الزهد من المفاهيم الّتي شُوِّهت وتأثّرت بشوائب غير إسلاميّة فنشأت مذاهب ومدارس تدّعي الإسلام وجعلت أهدافها ومعتقدها الأساس "الزهد في الدنيا". والزهد يُطلق على من يترك أمراً له رغبة طبيعيّة فيه، فلا يُطلق مثلاً على المريض الّذي لا رغبة له بالطعام أنّه زاهد بل الزاهد من يكون عنده الميل والرغبة لأكل الطعام مثلاً ومع هذا فإنّه يتركه ولا يتعلّق به.
 
 

1- الكافي، الكليني، ج4، ص 53.
2- سورة البقرة، الآية:3.
3- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج63، ص315.
4- م. ن، ص137.
 
 
 
 
135

117

رفاهية العيش

  هذا المفهوم جاء به الإسلام ليحثّ الإنسان على الترفّع عن الانشداد البهيميّ للأرض وليسخّر هذه الدنيا لتكون زاداً له في الآخرة، ويُصبح الزهد وسيلة للإنسان يرتقي بها إلى الله سبحانه.

 
والإسلام يدعو إلى الزهد في الدنيا بمعنى أن لا يجعل الدنيا غاية بل يجعلها وسيلة، فلا يحسّ بالفشل والانكسار إذا فقد متاعها، ولا يشعر بالغرور إذا ما امتلك شيئاً منها، لأنّه لا يُريد إلّا وجه الله، وهذا ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
 
"الزهد بين حكمتين في القرآن: ﴿ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ..1.

 

 
وبالمقابل فإنّ الإسلام يدعو إلى التمتّع بلذّات الدنيا وطيّباتها، حيث يقول تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ2.

 

 
لكنّ التمتّع بها يكون ضمن الحدود الّتي حدّها الله تعالى، بحيث يرتفع بها عن الانشداد البهيميّ إلى الأرض، وعمّا حرّم الله سبحانه. بل إنّ القرآن يذهب أكثر من ذلك، فيرى أنّ الطيّب هو ما أحلّه الله، والخبيث هو ما حرّمه الله..
 

 

﴿... وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ...3.

 

 
فليس هناك لذّة دنيويّة تحرُم الإنسان من لذّات الآخرة، بل كلّ لذّات الدنيا توصل الإنسان إلى الآخرة، وأمّا المحرّمات فيظنّ مرتكبها أنّها لذّة وما هي كذلك، والفائزون هم المتّقون الّذين استفادوا من لذّات الدنيا ووصلوا إلى نعيم الآخرة. وفي هذا الصدد ورد عن الإمام أمير المؤمنين‏ عليه السلام: "إنّ المتّقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركوا أهل الآخرة في
 
 

1- سورة الحديد، الآية:23.
2- سورة الأعراف، الآية:32.
3- سورة الأعراف، الآية:157.
 
 
 
 
136

118

رفاهية العيش

آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكنت، وأكلوا بأفضل ما أُكل"1.

 
الروح الاجتماعيّة لدى المؤمن:
 
أبرز ما يميّز الإنسان المؤمن روحه الاجتماعيّة الّتي تظهر من خلال المحبّة والمودّة والانسجام وتمنّي الخير والسلامة لسائر المؤمنين، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَثَل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى"2. فالجسم البشريّ يعيش حالة من التضامن والانسجام بين أعضائه، أمّا الجماد أو الميت فلا يعيش مثل هذه الحالة، والمجتمع بدوره يجب أن يعيش نفس هذه الظاهرة فإن كان هناك نوع من التضامن والتكافل بين أفراده كان مجتمعاً حيّاً تنبض في أعماقه الروح الاجتماعيّة بالمحبّة والتآلف والانسجام وإلّا فهو مجتمع ميت.
 
وقد عاش أهل البيت عليهم السلام هذه الحالة من الانسجام والمواساة والمساواة مع بيئتهم ومحيطهم دون أيّ تفاوت أو تميّز مع قدرتهم على ذلك، فهذا إمام الموحّدين والعابدين عليّ عليه السلام يُعبّر عن كامل المواساة والمساواة بينه وبين الناس فيقول: "ولو شئت لاهتديت إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع"3.
 
وقد جاء في حديث معروف أنّ سفيان الثوريّ مرّ في المسجد الحرام فرأى أبا عبد الله الصادق عليه السلام وعليه ثياب فاخرة وجميلة فقال: "والله لآتينّه ولأوبّخنّه، فدنا منه، فقال: يا ابن رسول الله ما لبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل هذا اللّباس ولا عليّ عليه السلام ولا أحد من آبائك. فقال له أبو عبد الله عليه السلام: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
 
 

1- نهج البلاغة، ج‏3، ص‏27.
2- كنز العمال، المتقي الهندي، ج1، ص149.
3- نهج البلاغة، ج3، ص72.
 
 
 
 
137

119

رفاهية العيش

   زمان قتر مقتّر1 وكان يأخذ لقتره واقتداره، وإنّ الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها2 فأحقّ أهلها بها أبرارها، ثمّ تلا " قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ... "3 ونحن أحقّ من أخذ منها ما أعطاه الله، غير أنّي يا ثوريّ ما ترى عليّ من ثوب إنّما ألبسه للناس، ثمّ اجتذب يد سفيان فجرّها إليه ثمّ رفع الثوب الأعلى وأخرج ثوباً تحت ذلك على جلده غليظاً، فقال: هذا ألبسه لنفسي وما رأيته للناس، ثمّ جذب ثوباً على سفيان أعلاه غليظٌ خشن وداخل ذلك ثوب ليّن، فقال: لبست هذا الأعلى للناس ولبستَ هذا لنفسك تسرّها"4.

 
فبيّن الإمام عليه السلام لسفيان أنّه إذا كان الرسو لصلى الله عليه وآله وسلم كذلك في زمانه فلا يجب أن يكون سائر الناس مثله في جميع الأزمنة، لأنّ ذلك ليس جزءاً من قوانين الإسلام، بل يجب أن يكون عندك تدبّر وقوّة نظر بحيث تأخذ ذلك العصر بعين الاعتبار، فإنّ قانون الإسلام هو المواساة والمساواة فلا بدّ أن يلحظ ماذا كان عليه أكثر الناس في ذلك الزمان وكيف كانوا يعيشون. فقانون الإسلام هو العدل والمساواة وسلوك المسلك الملائم حتّى لا تتولّد في روح الفقراء عقدة ولا يتألّم الصاحب أو الجار الّذي يرى أعماله، فلو كانت سعة العيش متوفّرة في زمان النبي ّصلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليعيش كذلك فالناس أحرار في ارتداء هذا اللباس أو ذاك القديم أو الجديد من هذا القماش أو ذاك، وهم أحرار أيضاً في ركوب أفخم السيّارات والسكن في أغلى البيوت ولكن عليهم أن يلتفتوا إلى عدم إيلام الآخرين ومواساتهم خاصّة إذا كانوا يعيشون في بيئة فقيرة.
 
 

1- قتر على عياله تقتيراً أي ضيّق عليهم في المعاش. 
2- العزالى جمع العزلاء مثل الحمراء، وهو فم المزادة فقوله: « أرخت» أي أرسلت يُريد شدّة وقع المطر على التشبيه بنزوله من أفواه المزادة (أي الغيم).
3- سورة الأعراف، الآية: 32.
4- الكافي، الكليني، ج6، ص443.
 
 
 
 
138

120

رفاهية العيش

 مواساة المؤمنين:

 
يروى أنّ المدينة المنوّرة قد أصابها قحط شديد في زمن الإمام الصادق عليه السلام فأرسل الإمام وراء غلام له اسمه "معتب" وقد ازداد السعر بالمدينة، وقال له: "كم عندنا من طعام؟ قال: قلت: عندنا ما يكفينا أشهراً كثيرة، قال: أخرجه وبعه، قال: قلت له: وليس بالمدينة طعام، قال: بعه، فلمّا بعته، قال: اشتر مع الناس يوماً بيوم، وقال: يا معتب اجعل قوت عيالي نصفاً شعيراً ونصفاً حنطة فإنّ الله يعلم أنّي واجد أن أطعمهم الحنطة على وجهها ولكنّي أحبّ أن يراني الله قد أحسنت تقدير المعيشة"1.
 
وما أجمل هذه الروح الإنسانيّة الاجتماعيّة وهذه الأخلاق العظيمة التي جسّدها لنا الأئمّة عليهم السلام الّتي تحيا بها المجتمعات الإنسانيّة، فالإمام يستطيع أن يُبقي ما عنده من طعام ولكن مواساة للناس ومساواة لنفسه بهم أبى إلّا أن يبيع ما عنده ويشتري من السوق طعامه كلّ يوم بيومه كسائر الناس.
 
ونحن كأتباع لهذه المدرسة العظيمة علينا أن نسير وفقاً لهدي معلّميها وهم أهل البيت عليهم السلام، فهم قدوتنا وهم سبيلنا للنجاة، وقد خطّوا لنا الطريق الموصل إلى الله بكل وضوح، وليس علينا إلّا أن نقتدي بهم ونعيش على ما عاشوا عليه ونموت على ما ماتوا عليه.
 
 

1- الكافي، الكليني، ج5، ص166.
 
 
 
 
139

121

رفاهية العيش

 مطالعة

 
تواضع العلماء
 
يحكى أنّ العلّامة الوحيد البهبهاني رحمه الله وفي سنة من السنين خاطت له زوجته جبّة في أيام الشتاء فلبسها طاب ثراه، ولمّا حان وقت المغرب ذهب إلى المسجد، فبادر أحد الأراذل إلى تعرية رأسه ومشى حافياً إلى الشيخ رحمه الله وعرض له حاله وعريه وبرودة الهواء، وطلب منه أن يفكّر له بتغطية رأسه، فسأله الشيخ قدس سره: هل معك سكّين؟ فأجاب: نعم، فأخذ السكّين منه وقصّ أحد كمّيه وأعطاه إيّاه، وقال: خذ هذا الكمّ وضعه على رأسك هذه الليلة كي أجد لك حلّاً غداً، وعند عودته إلى البيت رأت زوجته أنّ جبّته بدون الكمّ، فتأثّرت منه، حيث إنّها قضت مدّة طويلة لتهيئة هذه الجبّة فأنقصها بقطع كمّها. ولعلّ نتيجة هذا النوع من الورع والتقوى والتنزّه عن المادّيّات كان له الأثر في تقويته الروحيّة وتعاليه في الكمالات المعنويّة، بحيث إنّ الميرزا محمّد الأخباريّ عدّه في كتابه "دوائر العلوم" في عداد من حظي بلقيا إمام العصر والزمان أرواحنا فداه1.
 
 

1- قصص العلماء، الميرزا محمّد التنكابني، ص202.
 
 
 
 
140

122

الجهاد استعداد دائم

 الدرس الثاني عشر:الجهاد استعداد دائم

 

 
يقول الله تعالى في محكم كتابه:

 

﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ

 

(سورة البقرة, الآية: 216) 
 
 
 
 
 
141

123

الجهاد استعداد دائم

تمهيد


إنّ الآيات الواردة في الجهاد كثيرة جدّاً، فمنها ما هو ناظر إلى بيان وجوب الجهاد، ومنها ما هو ناظر إلى بيان فضل الجهاد وثواب المجاهدين، ومنها ما هو ناظر إلى عاقبة المتخاذلين عن هذه الفريضة العظيمة.

والآية الكريمة تتحدّث عن وجوب الجهاد على المسلمين كافّة. وننطلق من هذه الآية المباركة ليرى كلّ فرد منّا مدى استعداده وجهوزيّته والتزامه بأداء تكليفه بفريضة الجهاد، وليعرف ما هو موقعه من حالة الصراع الدائم بين الحقّ والباطل وهل هو مستعدّ لتلبية نداء الجهاد في أيّ وقت وهل هو على جهوزيّة تامّة، أم يعيش حالة التسليم للأمر الواقع. إذ إنّ العالم الإسلاميّ اليوم منقسم إلى مجموعتين, الأولى ملتزمة بأوامر الله ومستعدّة للتضحية والجهاد في أيّ وقت وأيّ زمان، والثانية لاهية مستسلمة وغير مستعدّة للفداء، وأقصى همّها الدنيا وما فيها. فأين نحن من هاتين المجموعتين؟ 
 
 
 
 
 
143

124

الجهاد استعداد دائم

  التهديد مستمرّ:

 
إنّ العدوّ يتربّص بنا ويعمل في الليل والنهار لينال من الإسلام وليقضي على دين الله عزّ وجلّ، فهو لا يوفّر أيّ وقت ولا أيّ فرصة حتّى ينقضّ علينا ليحقّق أهدافه الدنيويّة ومشاريعه الشيطانيّة, الّتي تتعارض مع مبادئنا الإسلاميّة، ومع قيمنا الإنسانيّة، وليهدم أركان الإسلام ويبني فوق الركام لنفسه كياناً شيطانيّاً هدّاماً للقيم والمبادئ الأخلاقيّة تحت شعار ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ1.

 

 
وإزاء هذا التهديد الذي يطرق أبوابنا في كلّ لحظة ويزلزل كياننا، حريّ بنا أن نسأل أنفسنا ماذا أعددنا له وكيف سنواجهه؟ وقبل الحديث عن الإعداد وسبل المواجهة لا بدّ من التطرّق إلى أهمّيّة الجهاد وما هي موقعيّته في الشريعة الإسلاميّة.
 
الجهاد وموقعه في الشريعة الإسلاميّة:
 
لقد أولت الشريعة الإسلاميّة الجهاد أهمّيّة كبيرة، وتحدّثت عن أبعاده وآثاره على الإسلام والمسلمين، فالجهاد في الإسلام باب واسع للرحمة الإلهيّة يصل عبره الإنسان إلى جنان الله حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ومن أبرز أثار الجهاد أنّه سبيل الصالحين والأولياء وطريق السعادة الأبدية، وفرصة لتهذيب النفس وصقلها بالمعارف والصفات الأخلاقيّة العالية والتخلّق بأخلاق الله.
 
ومن فضائل الجهاد أنّه:
 
أ- باب لخاصّة الأولياء:
 
عن أمير المؤمنين عليه السلام "الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه"2.
 
 

1- سورة ص، الآية: 82.
2- نهج البلاغة، الخطبة:25.
 
 
 
 
144

125

الجهاد استعداد دائم

 فلا يوفّق للجهاد أيّ شخص كان، بل أيّ مؤمن، لأّنه درجة الأولياء، بل خاصّة الأولياء، ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ1.

 

 
ب- سبيل الفلاح:
 
يقول عزّ من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 2.

 

 
ج- طريق المحبّة الإلهيّة:
 
فالجهاد أسرع الطرق لنيل محبّة الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ 3.

 

 
د- سبب المفاضلة:
 
إنّ الله جعل الجهاد سبباً للمفاضلة بين المؤمنين بحيث ينال المجاهدون ثواباً عظيماً جزاء لهم بما تحمّلوا وقاسوا في سبيل الله يقول تعالى:
 

 

﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا 4.

 

 
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿ وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا5.

 

 
هـ- الخير كلّه: 
 
والجهاد يجمع كلّ الخير فقد حصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخير كلّه تحت ظلّه فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
 

1- سورة فصلت، الآية: 35.
2- سورة المائدة، الآية: 35.
3- سورة الصف، الآية: 4.
4- سورة النساء، الآية:95.
5- سورة النساء، الآية:95.
 
 
 
 
145

126

الجهاد استعداد دائم

"الخير كلّه في السيف وتحت ظلّ السيف"1.

 
و- سياحة أمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
 
والجهاد سياحة أمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورهبانيّتها، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "سياحة أمّتي ورهبانيّتها الجهاد"2. فمن أراد خير الانعزال عن الناس والدنيا، فأين هو عن حياة المجاهدين المتعلّقين بأثواب الرحمة والسالكين سبيل الكمال الأسرع؟
 
ز- أفضل الأعمال:
 
والجهاد أفضل من عبادة كلّ البشر، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ما أعمال العباد كلّهم عند المجاهدين في سبيل الله إلّا كمثل خطّاف أخذ بمنقاره من ماء البحر"3.
 
من هنا فإنّ الحديث عن الجهاد هو اختصار لحقيقة الإسلام وعرض لمنهجه في تربية الإنسان، لذا فإنّ من الضروريّ فهم حقيقة الجهاد وموقعه المتميّز من الشريعة الإسلاميّة. 
 
آثار التكاسل عن الجهاد:
 
إنّ الاندفاع إلى ساحات الجهاد والامتثال لأوامر الله عزّ وجلّ وسدّ الأبواب أمام المتآمرين على الإسلام والمسلمين يفتح لنا باباً لندخل في عداد أولياء الله، ونحصّن أمتنا ومجتمعاتنا أمام كلّ التحدّيات، وتكون العاقبة هي الفوز بجنان الله. وبالمقابل فإنّ التكاسل عن تلبية الدعوة الإلهيّة بوجوب الجهاد على مختلف أنواعه يكون سبباً في هزيمة المجتمع والأمّة ماديّاً ومعنوّياً، حيث إنّ تكاسلنا يُلبسنا ثوب الذلّ والهوان، ويسلّط الله علينا حكام الجور والضلال، وتعمّنا المصائب والبلايا 
 
 

1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج97، ص9.
2- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج16، ص53.
3- كنز العمّال، المتقي الهندي، ح 10680.
 
 
 
 
146

127

الجهاد استعداد دائم

 وتعمى بصائرنا عن الحقّ وسبل الرشاد، وليس ذلك إلّا لتقصيرنا وانشغالنا عن أمر فيه خير الدنيا والآخرة. وهذا ما أشار إليه أمام المجاهدين عليّ عليه السلام حيث قال: "فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذلّ، وشملة البلاء، وديّث بالصغار والقماءة1، وضُرب على قلبه بالأسداد 2، وأديل الحقّ منه بتضييع الجهاد وسيم الخسف3 ومُنع النّصف"4.

 
الاستعداد للحرب:
 
يقول تعالى ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ 5.

 

 
إنّ الاستعداد للحرب على كافّة الأصعدة من المبادئ الإسلاميّة التي حثّ عليها القرآن الكريم والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام. وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "خذوا للحرب أهبّتها. وأعدّوا لها عدّتها. فقد شبّ لظاها وعلا سناها. واستشعروا الصبر فإنّه أدعى إلى النصر"6. فالكفر يتحيّن الفرص للانقضاض علينا والفتك بنا، ومن الواجب أن لا يغفل المسلمون لحظة واحدة عن ذلك، وأن يجهّزوا أنفسهم بكلّ الوسائل التي يحتاجون إليها، فإنّ عنصر المباغتة من أمضى الأسلحة وأخطرها، ومن الخطأ أن ننتظر حتّى نتعرّض للهجوم بمختلف أشكاله ثم من بعده نفكّر كيف سنواجهه، ففي الحديث "من نام لم يُنم عنه" 7، فالمطلوب 
 
 

1- ديّث: مبني للمفعول من ديثه أي ذلله وقمؤ الرجل ككرم قمأة وقماءة أي ذل وصغر.
2- الأسداد: جمع سدّ يريد الحجب الّتي تحول دون بصيرته والرشاد.
3- أديل الحقّ منه: أي صارت الدولة للحقّ بدله، وسيم الخسف أي أولى الخسف وكلفه والخسف الذلّ والمشقّة أيضاً والنصف بالكسر العدل، ومنع مجهول أي حرم العدل بأن يسلّط الله عليه من يغلبه على أمره فيظلمه.
4- نهج البلاغة، ج1، ص 68.
5- سورة الأنفال، الآية:60.
6- نهج البلاغة، ج1، ص 67.
7- شرح نهج البلاغة، ج17، ص 226.
 
 
 
 
147

128

الجهاد استعداد دائم

 الاستعداد على كافّة الميادين، والاستعداد لا يكون فقط على المستوى المادّي بل علينا أن لا ننسى الجانب الأهمّ وهو الجانب المعنويّ والإيمانيّ والروحيّ بتقوية العلاقة مع الله جلّ وعلا.

 
أ- الاستعداد المعنويّ:
 
إنّ الجهاد على صعيد الجانب المعنويّ يعدّ الخطوة الأولى في طريق المواجهة وإعداد النفس، وذلك يبرز من خلال تهذيب النفس وتحليتها بالصفات الحميدة والأخلاق الحسنة، وعبر الاتّكال على الله والاعتماد عليه، وفي هذا الصدد يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "إنّكم أقوى من أعدائكم. إنّنا من حيث المعنويّات أقوى من جميع حشود العدوّ وجموعه، طبعاً هم يمتلكون مالاً أكثر وتقنيّة أرفع وأشياء أخرى كثيرة نحن بحسب الظاهر لا نمتلكها، لكن نحن لدينا شيء هم محرومون منه وهو التوكّل على الله، الله الّذي هو كلّ شيء والّذي هو أقوى من التقنيّة وعلوم البشر وكلّ موجودات العالم قاطبة، فإشارة واحدة منه تقلب الدنيا كلّها رأساً على عقب بأمره وإرادته، إنّ لدينا من ذلك التوكّل ويجب أن نحفظه، إنّه كنز فإذا كنّا نمتلكه بين أيدينا انتفعنا منه وإن نحن فقدناه سنفقد القوّة.
 
إنّنا في مهب عواصف الأحداث وككثير من الدول والشعوب لسنا سوى ريشة ضعيفة، وما يجعلنا مستمرّين ولا ننهزم أبداً هو التوكّل على الله فاحفظوا ذلك بقوة"1.
 
ب- الاستعداد المادّيّ:
 
الاستعداد المادّيّ هو الخطوة الثانية الّتي يجب أن نسلكها في سعينا لإعداد أنفسنا لتلبية نداء الجهاد وردّ كيد الأعداء، فالجانب المعنويّ وحده غير كاف لإعداد عناصر المواجهة، بل المطلوب إلى جانب تهذيب النفس وتطويعها لخدمة الله والإسلام أن
 
 

1- نقلاً عن الجهاد من وجهة نظر الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله.
 
 
 
 
148

129

الجهاد استعداد دائم

  نجهّز كلّ وسائل النصر والثورة، وهو مبدأ قرانيّ يجسده قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ 1، فللجانب المادّيّ دور أساس في تحقيق النصر ولا يكفي الجلوس والدعاء والتهجّد والتوسّل لله لينصرنا بل علينا أن نسعى لكي نصل إلى تحقيق ما نريده.

 

 
أنواع الجهاد:
 
إنّ للجهاد أشكالاً وأبعاداً متعدّدة وليس محصوراً فقط بالجانب العسكريّ. وهذا ما أشار له سماحة السيّد القائد بقوله: وللجهاد ميادينه ومن ميادينه المشاركة في القتال المسلّح. وهناك الميدان السياسيّ وميدان العلم وكذلك الأخلاق، وليس الجهاد مجرّد قتال وتوجّه إلى سوح الحرب فالسعي في ميادين العلم والأخلاق والتعاون السياسيّ والبحث العلميّ يعدّ أيضاً جهاداً، وصنع الثقافة والأفكار السليمة في المجتمع هو أيضاً جهاد. فإذن ليس المعيار الجهاد بالسيف في ساحات القتال وإنّما المعيار هو الكفاح 2.
 
لذلك فللجهاد أشكال متعدّدة نذكر منها:
 
أ- الجهاد الثقافيّ:
 
يقول تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا3.

 

 
لا شكّ أنّ المقصود من الجهاد في هذا الموضع هو الجهاد الفكريّ والثقافيّ والتبليغيّ وليس الجهاد المسلّح، ذلك لأنّ هذه السورة مكيّة، والأمر بالجهاد المسلّح لم يكن قد نزل في مكّة. وعلى قول العلّامة الطبرسي في مجمع البيان: "إنّ هذه
 
 

1- سورة الأنفال، الآية: 60.
2- نقلاً عن الجهاد من وجهة نظر الإمام السيّد علي الخامنئي دام ظله.
3- سورة الفرقان، الآية:52.
 
 
 
 
149

130

الجهاد استعداد دائم

الآية دليل واضح على أن الجهاد الفكريّ والتبليغيّ في مواجهة وساوس المضلّين وأعداء الحقّ من أكبر أنواع الجهاد"1 .

 
وهذه الآية تحمل خطاباً للنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بمجاهدة الكافرين بالقرآن، حيث إنّ القرآن من أبرز مصاديق المواجهة الفكريّة، ويدعوه تعالى إلى مجاهدتهم به جهاداً كبيراً بعظمة رسالته، وبعظمة جهاد كلّ الأنبياء الماضين عليهم السلام، الجهاد الّذي يشمل جميع الأبعاد الروحيّة والفكريّة للناس، ويشمل كلّ الأصعدة الماديّة والمعنويّة.
 
ونحن أتباع النبيّ العظيم محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم علينا اتّباع سبيله في جهاد الكافرين والمنكرين جهاداً ثقافيّاً عمدته وأساسه القرآن الكريم.
 
ب- الجهاد السياسيّ والاقتصاديّ: 
 

 

﴿وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً2.

 

 
إنّ الجهاد السياسيّ والاقتصاديّ هو أحد أوجه التصدّي للعدوّ ومواجهته، لأنّه حينما يفشل العدوّ في الجانب العسكريّ فإنّه لن يتوانى عن محاربتنا سياسيّاً ومحاصرتنا اقتصاديّاً وبتشكيل قوّة ضغط كبيرة قد تلحق بنا الأذيّة والوهن وتشوّه صورتنا، كما يمكن أن نكون شركاء في تقوية اقتصاده عبر الترويج لمنتجاته وشرائها فيتحوّل العدوّ إلى قوّة متسلّطة علينا ويصبح من الصعب إزالتها وهزيمتها، ولذا نجد الإمام الخمينيّ قدس سره ومن موقع مرجعيّته الدينيّة وببصيرته الثاقبة يشير إلى سبل تسلّط العدو على المجتمع الإسلاميّ، ويدعو إلى يقظة الأمّة الإسلاميّة ومشاركتها في الجهاد السياسيّ والاقتصاديّ قبل أن يتمكّن العدوّ من السيطرة علينا، فقد أفتى في هذا المجال بأنّه: "لو خيف على حوزة الإسلام من الاستيلاء السياسيّ والاقتصاديّ الذي يؤدّي إلى أسرهم السياسيّ والاقتصاديّ ووهن 
 
 

1- مجمع البيان، الطبرسي، ج7، ص175.
2- سورة النساء، الآية:141.
 
 
 
 
150

131

الجهاد استعداد دائم

 الإسلام والمسلمين عندها يجب الدفاع بالوسائل عينها، كترك شراء أمتعتهم، وترك استعمالها، وترك المراودة والمعاملة معهم مطلقاً. ولو كان في المراودات التجاريّة وغيرها مخافة على حوزة الإسلام وبلاد المسلمين من استيلاء الأجانب عليها سياسيّاً أو غيرها الموجب لاستعمارهم أو استعمار بلادهم ولو معنويّاً يجب على كافّة المسلمين التجنّب عنها، وتحرم تلك المراودات وكذلك لو كانت الروابط السياسيّة بين الدول الإسلاميّة والأجانب موجبة لاستيلائهم على بلادهم أو نفوسهم أو أموالهم أو موجبة لأسرهم السياسيّ يحرم على رؤساء الدول تلك الروابط والمناسبات، وبطلت عقودها، ويجب على المسلمين إرشادهم وإلزامهم على تركها ولو بالمقاومات المنفية"1.

 
ج- الجهاد الماليّ:
 
يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ2.

 

 
إنّ الجهاد بالمال هو باب من أبواب التصدّي والمواجهة وطريق يسلكه الإنسان للوصول إلى ربّه راضياً مرضيّاً فيحوز المجاهد بماله أجر المجاهدين الماكثين على المحاور، وفي سوح الجهاد والفداء، وثوابه ومكانته لا تقلّ عن ثوابهم ومكانتهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أعان غازياً بدرهم، فله مثل أجر سبعين دُرّاً من درر الجنّة وياقوتها، ليست منها حبّة إلّا وهي أفضل من الدنيا"3.
 
وقد أوصى الإمام عليّ عليه السلام بالبذل والعطاء في سبيل حماية الإسلام والمسلمين فقال عليه السلام: "الله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله،
 
 

1- تحرير الوسيلة، الإمام الخمينيّ، ج1، ص485.
2- سورة التوبة، الآية:20.
3- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج11، ص24
 
 
 
 
 
151

132

الجهاد استعداد دائم

وعليكم بالتواصل والتباذل"1.

 
وإذا استطلعنا الآيات القرآنيّة نجد أنّ هناك عشر آيات في القرآن الكريم ورد فيها ذكر الجهاد بالمال جنباً إلى جنب الجهاد بالنفس، وليس ذلك إلّا إشارة إلى أهميّة وأثر الجهاد بالمال على المسيرة الجهاديّة للأمّة الإسلاميّة ما تلبث أن تظهر آثاره في الدنيا ومن ثمّ في الآخرة حيث الفوز العظيم. 
 
إحدى الحسنيين:
 
ينبغي أن نلتفت إلى أمر مهمّ جدّاً وهو أنّ الله تبارك وتعالى مسدّد لخطى المجاهدين وهو معهم أينما حلّوا ووعدهم بالنصر المحتّم الّذي لا لُبس فيه حيث يقول جلّ اسمه: ﴿كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ2. وعن تسديد المجاهدين يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ3.

 

 
فالمجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ أمام أمرين لا ثالث لهما إمّا النصر وإمّا الشهادة وبالاثنين يحقّق سعادة الدنيا والآخرة.
 
 

1- نهج البلاغة، ج 3، ص 77.
2- سورة الروم، الآية: 47.
3- سورة العنكبوت، الآية:69.
 
 
 
 
 
152

133

الجهاد استعداد دائم

 مطالعة

 
تزكية النفس الجهاد الأكبر
 
جاء الإسلام أساساً لبناء الحياة، ونظره لبناء الإنسان. الجهاد من أجل الحياة حياة الإنسان نفسه، وهو مقدّم على كلّ جهاد. لذا سمّاه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الجهاد الأكبر. فالجهاد عظيمٌ إذن، وكلّ الفضائل تأتي بعده.
 
الجهاد الأكبر هو جهاد الإنسان لنفسه الطاغوتيّة. وعليكم أيّها الشبّان أن تشرعوا من الآن بهذا الجهاد. لا تدعوا قوى شبابكم تتبدّد. فكلّما ذهبت قوى الشباب من الإنسان زادت جذور الأخلاق الفاسدة في الإنسان وتعقّدت، وصعب الجهاد.
 
والشاب يستطيع أن ينتصر في هذا الجهاد سريعاً، ولا يستطيع الشيخ بلوغ هذا النصر بسرعة. لا تَدَعوا إصلاح أحوالكم يتدحرج من الشباب إلى الشيخوخة، فهذا في مكايد النفس التي تكيدها لصاحبها، وهو ما يقترحه الشيطان على الإنسان أن دَع إصلاح نفسك إلى آخر العمر، وتمتّع بشبابك الآن وتُب في آخر العمر. هذا طرح شيطانيّ تقدّمه النفس بتعليم الشيطان الأكبر.
 
فالإنسان يستطيع إصلاح نفسه ما دامت قوى شبابه وروحه اللطيف في منأىً عن جذور الفساد. أمّا إذا ضربت جذور الفساد في نفسه واشتدّتْ، فلا إمكان للإصلاح في ذلك الوقت. أنتم الآن مهيّأون أيّها الشباب لمجاهدة النفس وبنائها، وهذا الجهاد هو الجهاد الأكبر، لأنّه مبذول في بناء أنفسكم وهو مفيد لبلادكم، فكونوا خَدَمها، ويجب أن تبدأوا من هذه السنين بصناعة رجال ينقذون البلاد بكمالهم.
 
إذا صنعتم أنفسكم هكذا، وجذَّرتم الفضائل الإنسانيّة فيها، فإنّكم منتصرون في ذلك الوقت في كلّ المراحل، وتستطيعون أن تُنقذوا بلادكم، وأولئك الذين قادوا بلادنا إلى البَوار، قادوها لأنّ بناء أنفسهم كان مُتداعياً، فقد كانوا ذوي أخلاق فاسدة وعقائد فاسدة وأعمال فاسدة. ولو كانوا قد طهّروا أنفسهم، لَما خانوا الشعب ولا الإسلام .1
 
 

1- صحيفة الإمام (ترجمة عربية)، ج8, ص 237.
 
 
 
 
153

134

الفهرس

 

المقدّمة

5

1- عالم  الغيب والشهادة

7

تمهيد

9

بين العلم والغرور العلميّ‏

9

ما هو الغيب؟

10

عالَم الشهادة

11

عالَم الغيب‏

11

ستار الغيب‏

11

المحدود واللّامحدود

12

النتيجة

14

محدوديّة الحواس‏ّ

14

أهميّة الإيمان بالغيب

14

2- قيمة العمر

17

تمهيد :

19

العمر مدرسة

20

 

 

 

155


135

الفهرس

 

وقت الناس والعمل

21

طول الأمل

22

إلى متى تبقى قوى الشباب؟

24

وفي الختام

24

3- القدوة ومحاسن الأخلاق

27

اختيار القدوة

29

الأنبياء عليهم السلام قدوة

30

الرسول صلى الله عليه وآله  الأسوة

31

محاسن الأخلاق

32

آثار حسن الخُلُق

33

بعضٌ من مكارم الأخلاق

35

سرّ عظمة الإسلام

37

4- المساجد

39

تمهيد

41

البيت الأوّل في الأرض

42

أوّل مسجد في الإسلام

42

فوائد المساجد

43

آداب المسجد

46

الآداب قبل زيارة المسجد

47

 الآداب عند الوصول إلى المسجد

47

الآداب بعد الخروج من المسجد

47

لماذا البعد عن المسجد؟

47

شكوى المساجد

50

 

 

 

156


136

الفهرس

 

5- عرض الأعمال

53

تمهيد

55

رؤية الله للأعمال

55

رؤية النبيّ صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام

56

شعيتنا مَن يرعى قلبه

57

الإمام الرضا عليه السلام وجنازة المحبّ

58

ختام الكلام

59

6- العبادة

61

الإنسان حرّ في أصل خلقته

63

هدف الوجود البشريّ

64

حقيقة العبادة

65

الدنيا ليست هدفاً

66

فائدة العبادة

66

الإخلاص في العبادة

68

عبادة الأحرار

69

وفي الختام

70

7- إدبار القلب وفقد الروحيّة

73

تمهيد

75

إدبار القلوب

76

خاتمة

84

8- الحزن والبكاء لله تعالى

87

تمهيد

89

 

 

 

157


137

الفهرس

 

من فوائد الحزن لله عزّ وجلّ

90

البكاء مظهر الحزن

92

آثار البكاء من خشية الله

92

آفّات البكاء

94

9- فلسفة الدعاء

99

تمهيد

101

الدعاء عبادة

102

الدعاء غاية في نفسه

102

الافتقار إلى الله تعالى

103

كيف يكون الدعاء؟

104

آداب الدعاء

105

أكمل الدعاء

109

وفي الختام

113

10-حبُّ الجاه

115

تمهيد

117

خطورة حبّ الجاه

118

السامريّ والعِجل

118

عبر من القصّة

120

عاقبة السامريّ

121

نماذج أخرى

121

أهل البيت وآية لا يريدون علواً

121

حبّ الجاه وإفساده للعقيدة

122

طلب الرئاسة بحقّ

123

 

 

 

158


138

الفهرس

 

أبرز علامات محبّ الجاه

123

علاج حبّ الجاه

124

11- رفاهية العيش

127

تمهيد

129

بين الدين والدنيا

130

حبّ الدنيا أم بغضها؟

131

الإسراف والتقتير

132

الاقتصاد والرفق

134

العبادة والإنفاق

135

 حقيقة الزهد

135

الروح الاجتماعيّة لدى المؤمن

137

مواساة المؤمنين

139

12- الجهاد استعداد دائم

141

تمهيد

143

التهديد مستمرّ

144

الجهاد وموقعه في الشريعة الإسلاميّة

144

ومن فضائل الجهاد أنّه

144

آثار التكاسل عن الجهاد

146

الاستعداد للحرب

147

أنواع الجهاد

149

إحدى الحسنيين

152

الفهرس

155

 

 

 

159


139
وموعظة للمتقين